إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>    دورة البادل، كانت فكرة وبالجهد نجحت  آخر رد: الياسمينا    <::>    لاونج بموقع مميز ودخل ممتاز للتقبيل في جدة حي الخالدية  آخر رد: الياسمينا    <::>    تورست لايجار السيارات والليموزين في مصر  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي تحاضر عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإر...  آخر رد: الياسمينا    <::>    مساعدة عائلة محاصرة في قطاع غزة يواجهون مخاطر الموت  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #31  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-7

تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-7


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


إذا أتم الحامِدُ حَمْد ربه يأخذ في التوجه إليه بإظهار الإخلاص له انتقالاً من الإفصاح عن حق الرب إلى إظهار مراعاة ما يقتضيه حقه تعالى على عبده من إفراده بالعبادة والاستعانة. فهذا الكلام استئناف ابتدائي.

ومُفَاتَحَة العظماء بالتمجيد عند التوجه إليهم قَبْلَ أن يخاطَبوا طريقة عربية. روى أبو الفرج الأصفهاني عن حسان بن ثابت قال: كنتُ عند النعمان فَنادَمْتُه وأَكَلْتُ معه فبينَا أنا على ذلك معه في قُبَّة إذَا رجلٌ يَرْتجز حولَها:

أَصمَّ أمْ يَسمع ربُّ القبهيا أَوْهَبَ النَّاسِ لِعيسٍ صُلْبَه
ضَرَّابَةٍ بالمِشْغَرِ الأَذِبَّهْذَاتِ هِبابٍ في يَدَيْها خُلْبَهْ
في لاَحب كأنَّه الأَطِبَّهْ


فقال النعمان: أليس بأبي أُمَامَة؟ (كنية النابغة) قالوا: بلى، قال: فأْذَنوا له فدخل.

والانتقال من أسلوب الحديث بطريق الغائب المبتدإِ من قوله: { الحمد لله } إلى قوله: { ملك يوم الدين } ، إلى أسلوب طريق الخطاب ابتداءً من قوله { إياك نعبد } إلى آخر السورة، فن بديع من فنون نظم الكلام البليغ عند العرب، وهو المسمى في علم الأدب العربي والبلاغة التفاتاً. وفي ضابط أسلوب الالتفات رأيان لأئمة علم البلاغة: أحدهما رأي مَن عدا السكاكي من أئمة البلاغة وهو أن المتكلم بعد أن يعبِّر عن ذات بأحد طرق ثلاثة من تكلم أو غيبة أو خطاب ينتقل في كلامه ذلك فيعبر عن تلك الذات بطريق آخر من تلك الثلاثة، وخالفهم السكاكي فجعل مسمى الالتفات أن يعبِّر عن ذات بطريق من طرق التكلم أو الخطاب أو الغيبة عادلاً عن أحدهما الذي هو الحقيق بالتعبير في ذلك الكلام إلى طريق آخر منها.

ويظهر أثر الخلاف بين الجمهور والسكاكي في المحسِّن الذي يسمى بالتجريد في علم البديع مثل قول علقمة بن عبده في طالع قصيدته:

طَحَا بكَ قلبٌ في الحسان طروب


مخاطباً نفسه على طريقة التجريد، فهذا ليس بالتفات عند الجمهور وهو معدود من الالتفات عند السكاكي، فتسمية الالتفات التفاتاً على رأي الجمهور باعتبار أن عدول المتكلم عن الطريق الذي سلكه إلى طريق آخر يشبه حالة الناظر إلى شيء ثم يلتفت عنه، وأما تسميته التفاتاً على رأي السكاكي فتجري على اعتبار الغالب من صور الالتفات دون صورة التجريد، ولعل السكاكي التزم هذه التسمية لأنها تقررت من قبله فتابع هو الجمهور في هذا الاسم. ومما يجب التنبه له أن الاسم الظاهر معتبر من قبيل الغائب على كلا الرأيين، ولذلك كان قوله تعالى: { إياك نعبد } التفاتاً على كلا الرأيين لأن ما سبق من أول السورة إلى قوله { إياك نعبد } تعْبير بالاسم الظاهر وهو اسم الجلالة وصفاته.

ولأهل البلاغة عناية بالالتفات لأن فيه تجديدَ أسلوب التعْبير عن المعنى بعينه تحاشياً من تكرر الأسلوب الواحد عدة مرار فيحصل بتجديد الأسلوب تجديد نشاط السامع كي لا يمل من إعادة أسلوب بعينه.
-1-

قال السكاكي في «المفتاح» بعد أن ذكر أن العرب يستكثرون من الالتفات: «أَفتراهم يحسنون قِرى الأشباح فيخالفون بين لون ولون وطَعْم وطَعْم ولا يحسنون قِرى الأرواح فيخالفون بين أسلوب وأسلوب». فهذه فائدة مطردة في الالتفات. ثم إن البلغاء لا يقتصرون عليها غالباً بل يراعون للالتفات لطائف ومناسبات ولم يزل أهل النقد والأدب يستخرجون ذلك من مغاصه.

وما هنا التفاتٌ بديع فإن الحامد لما حمد الله تعالى ووصفه بعظيم الصفات بلغت به الفكرة منتهاهَا فتخيل نفسه في حضرة الربوبية فخاطب ربه بالإقبال، كعكس هذا الالتفاتِ في قول محمد بن بشير الخارجي (نسبَة إلى بني خارجة قبيلة):

ذُممتَ ولم تُحمد وأدركتُ حاجةًتولَّى سواكم أَجرَها واصطناعها
أَبى لك كَسْبَ الحمدِ رأيٌ مقصِّرُونفسٌ أضاق اللَّهُ بالخير باعها
إذا هي حثتْه على الخير مرةعصاها وإنْ هَمَّت بشرٍّ أطاعها


فخاطبه ابتداء ثم ذكر قصور رأيه وعدم انطباع نفسه على الخير فالتفت من خطابه إلى التعبير عنه بضمير الغيبة فقال: إذا هي حثته فكأنه تخيله قد تضاءل حتى غاب عنه، وبعكس ذلك قوله تعالى:

{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِأَيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِن رَحْمَتِي } [العنكبوت29: 23]

لاعتبار تشنيع كفر المتحدَّث عنهم بأنهم كفروا بآيات صاحب ذلك الاسم الجليل، وبعد تقرر ذلك انتقل إلى أسلوب ضمير المتكلم إذ هو الأصل في التعبير عن الأشياء المضافة إلى ذات المتكلم. ومما يزيد الالتفات وقعاً في الآية أنه تخلص من الثناء إلى الدعاء ولا شك أن الدعاء يقتضي الخطاب فكان قوله: { إياك نعبد } تخلصاً يجىء بعده: { اهدنا الصراط } ونظيره في ذلك قول النابغة في رثاء النعمان الغساني:

أبى غفلتي أَني إذا ما ذكرتهتحرك داء في فُؤَادِيَ داخل
وأن تِلاَدِي إنْ نظرتُ وشكَّتِيومُهري وما ضَمَّت إليَّ الأنامل
حِباؤُك والعيسُ العتاقُ كأنهاهِجان المَهى تُزْجى عليها الرحائل


وأبو الفتح ابن جني يسمى الالتفات «شَجاعة العربية» كأنه عنى أنه دليل على حدة ذهن البليغ وتمكنه من تصريف أساليب كلامه كيف شاء كما يتصرف الشجاع في مجال الوغي بالكر والفر.

و(إياك) ضمير خطاب في حالة النصب. والأظهر أن كلمة إيا جعلت ليَعْتَمِد عليها الضمير عند انفصاله ولذلك لزمتها الضمائر نحو: إياي تعني، وإيَّاك أعني، وإيَّاهم أرجو. ومن هنالك التزم في التحذير لأن الضمير انفصل عند التزام حذف العامل. ومن النحاة من جعل (إيَّا) ضميراً منفصلاً ملازماً حالة واحدة وجعل الضمائر التي معه أضيفت إليه للتأكيد. ومنهم من جعل (إيَّا) هو الضمير وجعل ما بعده حروفاً لبيان الضمير. ومنهم من جعل (إيَّا) اعتماداً للضمير كما كانت أيٌّ اعتماداً للمنادى الذي فيه ال. ومنهم من جعل (إيَّا) اسماً ظاهراً مضافاً للمضمَرات.

والعبادة فعل يدل على الخضوع أو التعظيم الزائدين على المتعارف بين الناس. وأما إطلاقها على الطاعة فهو مجاز.
-2-

والعبادة في الشرع أخص فتُعرَّف بأنها فعل ما يرضي الرب من خضوع وامتثال واجتناب، أو هي فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيماً لربه، وقال الرازي في تفسير قوله تعالى:

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات51: 56]

((العبادة تعظيم أمر الله والشفقة على الخلق، وهذا المعنى هو الذي اتفقت عليه الشرائع وإن اختلفوا في الوضع والهيئة والقلة والكثرة)) ا هـ فهي بهذا التفسير تشمل الامتثال لأحكام الشريعة كلها.


وقد فسر الصوفية العبادة بأنها فعل ما يرضي الرب، والعبودية بالرضا بما يفعل الرب. فهي أقوى. وقال بعضهم: العبودية الوفاء بالعهود، وحفظ الحدود، والرضا بالموجود. والصبر على المفقود. وهذه اصطلاحات لا مشاحة فيها.

قال الفخر: ((مراتب العبادة ثلاث: الأولى أن يعبد الله طمعاً في الثواب وخوفاً من العقاب وهي العبادة، وهي درجة نازلة ساقطة لأنه جعل الحق وسيلة لنيل المطلوب. الثانية أن يعبد الله لأجل أن يتشرف بعبادته والانتساب إليه بقبول تكاليفه وهي أعلى من الأولى إلا أنها ليست كاملة لأن المقصود بالذات غير الله. الثالثة أن يعبد الله لكونه إلٰهاً خالقاً مستحقاً للعبادة وكونه هو عبداً له، وهذه أعلى المقامات وهو المسمى بالعبودية)) ا هـ.

قلت ولم يسم الإمام المرتبة الثانية باسم والظاهر أنها ملحقة في الاسم بالمرتبة الثالثة أعني العبودية لأن الشيخ ابن سينا قال في «الإشارات»: ((العارف يريد الحق لا لشيء غيره ولا يُؤْثِر شيئاً على عرفانه وتعبُّدُه له فقط ولأنه مستحق للعبادة ولأنها نسبة شريفة إليه لا لرغبة أو رهبة)) ا هـ فجعلهما حالة واحدة.

وما ادعاه الفخر في سقوط الدرجة الأولى ونزول مرتبتها قد غلب عليه فيه اصطلاح غلاة الصوفية وإلا فإن العبادة للطمع والخوف هي التي دعا إليها الإسلام في سائر إرشاده، وهي التي عليها جمهور المؤمنين وهي غاية التكليف، كيف وقد قال تعالى:

{ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ الْعُلَمَاؤُا } [فاطر35: 28]

فإن بلغ المكلف إلى المرتبتين الأخريين فذلك فضل عظيم وقليل ما هم، على أنه لا يخلو من ملاحظة الخوف والطمع في أحوال كثيرة، نعم إن أفاضل الأمة متفاوتون في الاحتياج إلى التخويف والإطماع بمقدار تفاوتهم في العلم بأسرار التكليف ومصالحه وتفاوتهم في التمكن من مغالبة نفوسهم، ومع ذلك لا محيص لهم عن الرجوع إلى الخوف في أحوال كثيرة والطمع في أحوال أكثر. وأعظم دليل على ما قلنا أن الله تعالى مدح في كتابه المتقين في مواضع جمة ودعا إلى التقوى، وهل التقوى إلا كاسمهما بمعنى الخوف والاتقاء من غضب الله قال تعالى:

{ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } [الإسراء17: 57].

والمرتبة الثالثة هي التي أشار لها قوله صلى الله عليه وسلم ـــ لمن قال له كيف تُجهد نفسك في العبادة وقد غَفَر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال: ـــ

-3-

" أفلا أكون عبداً شكوراً " لأن من الظاهر أن الشكر هنا على نعمة قد حصلت فليس فيه حظ للنفس بالطمع في المزيد لأن الغفران العام قد حصل له فصار الشكر لأجل المشكور لا غير وتمحض أنه لا لخوف ولا طمع.

واعلم أن من أهم المباحث البحثَ عن سر العبادة وتأثيرها وسر مشروعيتها لنا وذلك أن الله تعالى خلق هذا العالم ليكون مظهراً لكمال صفاته تعالى: الوجود، والعلم، والقدرة. وجعل قبول الإنسان للكمالات التي بمقياسها يَعلم نسبة مبلغ علمه وقدرته من علم الله تعالى وقدرته، وأودع فيه الروح والعقل اللذين بهما يزداد التدرج في الكمال ليكون غير قانع بما بلغه من المراتب في أوج الكمال والمعرفة، وأرشده وهداه إلى ما يستعين به على مرامه ليحصل له بالارتقاء العاجل رُقيّ آجل لا يضمحل، وجعل استعداده لقبول الخيرات كلها عاجلها وآجلها متوقفاً على التلقين من السَّفَرَة الموحَى إليهم بأصول الفضائل. ولما توقف ذلك على مراقبة النفس في نَفَرَاتها وشَرَدَاتها وكانت تلك المراقبة تحتاج إلى تذكر المُجازي بالخير وضده، شُرعت العبادة لِتَذَكُّرِ ذلك المُجازي لأن عدم حضور ذاته واحتجابَه بسُبحات الجلال يُسَرِّب نسيانَه إلى النفوس، كما أنه جعل نظامه في هذا العالم متصلَ الارتباط بين أفراده فأمرهم بلزوم آداب المعاشرة والمعاملة لئلا يفسُد النظام، ولمراقبة الدوام على ذلك أيضاً شُرعت العبادة لتذكِّرَ به، على أن في ذلك التذكر دوامَ الفكر في الخالق وشؤونه وفي ذلك تخلق بالكمالات تدريجاً فظهر أن العبادة هي طريق الكمال الذاتي والاجتماعي مَبدأً ونهايةً، وبه يتضح معنى قوله تعالى:

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات51: 56]

فالعبادة على الجملة لا تخرج عن كونها محقِّقة للمقصد من الخلق، ولما كان سرُّ الخلق والغايةُ منه خفيةَ الإدراكِ عَرَّفنا الله تعالى إياها بمظهرها وما يحققها جمعاً لعظيم المعاني في جملة واحدة وهي جملة: { إلا ليعبدون } ، وقريب من هذا التقرير الذي نحوناه وأقل منه قول الشيخ ابن سينا في «الإشارات»: ((لما لم يكن الإنسان بحيث يستقل وحده بأمر نفسه إلا بمشاركة آخر من بني جنسه وبمعاوضة ومعارضة تجريان بينهما يُفرغ كل واحد منهما لصاحبه عن مهم لو تولاه بنفسه لازدحم على الواحد كثير وكانَ مما يتعسر إنْ أمكن، وجب أن يكون بين الناس معاملة وعدل يحفَظه شرعٌ يَفرِضه شارع متميزٌ باستحقاق الطاعة ووجب أن يكون للمحسن والمسيء جزاء من عند القدير الخبير، فوجب معرفة المُجازي والشارع وأن يكون مع المعرفة سبب حافظ للمعرفة ففُرِضت عليهم العبادة المذكِّرة للمعبود، وكررت عليهم ليُسْتَحْفَظ التذكيرُ بالتكرير)) ا هـ.


لا شك أن داعي العبادة التعظيم والإجلال وهو إما عن محبة أو عن خوف مجرد، وأهمه ما كان عن محبة لأنه يرضي نفس فاعله قال:
-4-

أهابكِ إجلالاً وما بكِ قدرةٌعليّ ولكن ملء عين حبيبها


وهي تستلزم الخوف من غضب المحبوب قال محمود الوراق أو منصور الفقيه:

تَعصي الإلٰهَ وأنتَ تُظهر حبَّههذا لعمري في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأَطَعْتَهإن المحبَّ لمن يُحِب مطيع


ولذلك قال تعالى:

{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران3: 31]

فذلك يشعر بأن اتباع الشريعة يوجب محبة الله وأن المحب يود أن يحبه حبيبه كما قال المتنبي:

أنت الحبيب ولكني أعوذ بهمن أن أكون مُحباً غير محبوب


وإلى هذا النوع ترجع عبادة أكثر الأمم، ومنها العبادة المشروعة في جميع الشرائع لأنها مبنية على حب الله تعالى، وكذلك عبادة المشركين أصنامهم قال تعالى:

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُم كَحُبِّ اللَّهِ } [البقرة2: 165].

ومن الأمم من عبدت عن خوف دون محبة وإنما هو لاتقاء شر كما عبدت بعض الأمم الشياطين وعبدت المانوية من المجوس المعبود (أهْرُمُنْ) وهو عندهم رب الشر والضر ويرمزون إليه بعنصر الظُلمة وأنه تولد من خاطر سوء خطر للرب (يَزْدَان) إلٰه الخير، قال المعري:

فَكَّرَ يَزْدَانُ على غِرةفَصِيغَ من تفكيره أَهْرُمُنْ


والحصر المستفاد من تقديم المعمول في قوله تعالى: { إياك نعبد } حصر حقيقي لأن المؤمنين الملقَّنين لهذا الحمد لا يعبدون إلا الله. وزعم ابن الحاجب في «إيضاح المفصل» في شرح ديباجة «المفصل» عند قول الزمخشري «اللهَ أحمد» أن التقديم لا يفيد إلا الاهتمام دون حصر وأن قوله تعالى: { إياك نعبد } تقديم المفعول للاهتمام دون قصر وأن تمسكهم بقوله:

{ بل الله فاعْبُد } [الزمر39: 66] ضعيف لورود:
{ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ } [الزمر39: 2]

وإبطال رأيه مقرر في كتب علم المعاني.


وأنا أرى استدلاله بورود قوله تعالى: { فاعبد الله } لا يليق بمقامه العلمي إذ لا يظن أن محامل الكلام متماثلة في كل مقام، { وإياك نستعين } جملة معطوفة على جملة { إياك نعبد } وإنما لم تفصل عن جملة { إياك نعبد } بطريقة تعداد الجمل مقام التضرع ونحوه من مقامات التعداد والتكرير كلاً أو بعضاً للإشارة إلى خطور الفعلين جميعاً في إرادة المتكلمين بهذا التخصيص، أي نخصك بالاستعانة أيضاً مع تخصيصك بالعبادة.

والاستعانةُ طلب العون. والعون والإعانة تسهيل فعلِ شيء يشُق ويعسُر على المستعين وحدَه، فهي تحصل بإعداد طريق تحصيله من إعارة آلة، أو مشاركة بعمل البدن كالحمل والقَوْد، أو بقول كالإرشاد والتعليم، أو برأي كالنصيحة. قال الحريري في المقامة: «وخُلُقي نعم العون»، أو بمال كدفع المغرم، بحيث يحصل الأمر بعسير من جهود المستعين والمعين.

وأما الاستعانة بالله فهي طلب المعونة على ما لا قِبل للبشر بالإعانة عليه ولا قبل للمستعين بتحصيله بمفرده، ولذلك فهي مشعرة بأن المستعين يصرف مقدرته لتحصيل الفعل ويطلب من الله العون عليه بتيسير ما لا قِبل لقدرة المستعين على تحصيله بمفرده، فهذه هي المعونة شرعاً.
-5-

وقد فسرها العلماء بأنها هي خَلْق ما به تمامُ الفعل أو تيسيرُه، فتنقسم قسمين ضرورية أي ما يتوقف الفعل عليها فلا يحصل بدونها أي لا يحصل بدون توفر متعلقها وهي إعطاء الاقتدار للفاعل وتصوره للفعل وحصول المادة والآلة، ومجموع هاته الأربعة يعبر عنه بالاستطاعة، ويعبر عنها بسلامة الأسباب والآلات وبها يصح تكليف المستطيع.

القسم الثاني المعونة غير الضرورية وينبغي أن تخص باسم الإعانة وهي إيجاد المُعين ما يتيسر به الفعل للمُعان حتى يسهل عليه ويقرب منه كإعداد الراحلة في السفر للقادر على المشي. وبانضمام هذا المعنى للمعنى الأول تتم حقيقة التوفيق المعرف عندهم بأنه خلق القدرة والداعية إلى الطاعة، وسمى الراغب هذا القسم الثاني بالتوفيق ولا تعارض بين كلامه وبين تعريفهم إياه لما علمت من أنه لا يحصل إلا بعد حصول المعونة بالمعنى الأول فتم التوفيق؛ والمقصود هنا الاستعانة على الأفعال المهمة كلها التي أعلاها تلقي الدين وكلِّ ما يعسر على المرء تذليله من توجهات النفوس إلى الخير وما يستتبع ذلك من تحصيل الفضائل. وقرينة هذا المقصود رسمه في فاتحة الكتاب ووقوعُ تخصيص الإعانة عقب التخصيص بالعبادة. ولذلك حذف متعلِّق { نستعين } الذي حقه أن يذكر مجروراً بعلى، وقد أفاد هذا الحذفُ الهامُّ عموم الاستعانة المقصورة على الطلب من الله تأدباً معه تعالى، ومن توابع ذلك وأسبابه وهي المعارف والإرشادات والشرائع وأصول العلوم فكلها من الإعانة المطلوبة وكلها من الله تعالى فهو الذي ألهمنا مبادىء العلوم وكلفنا الشرائع ولقننا النطق، قال:

{أَلَم نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ *وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ *وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ }
[البلد90: 8 ـــ 10]

ــــ فالأول إيماء إلى طريق المعارف وأصلُها المحسوسات وأعلاها المبصرات، والثاني إيماء إلى النطق والبيان للتعليم، والثالث إلى الشرائع.


والحصر المستفاد من التقديم في قوله: { وإياك نستعين } حصر ادعائي للمبالغة لعدم الاعتداد بالاستعانات المتعارفة بين الناس بعضهم ببعض في شؤونهم، ومعنى الحصر هنا لا نستعين على عظائم الأمور التي لا يستعان فيها بالناس إلا بالله تعالى. ويفيد هذا القصر فيهما التعريض بالمشركين الذين يعبدون غير الله ويستعينون بغيره لأنهم كانوا فريقين منهم من عبد غير الله على قصد التشريك إلا أَن وَلَعه واستهتاره بغير الله تعالى أنساه عبادة الله تعالى كما عبدت سَبأ الشمسَ وعبد الفُرس النورَ والظلمة، وعبدَ القِبط العِجل وألَّهوا الفراعنة، وعبدت أمم السودان الحيوانات كالثعابين. ومن المشركين من أشرك مع عبادة الله عبادة غيره وهذا حال معظم العرب ممن عبد الأصنام أو عبد الكواكب، فقد عبدت ضبة وتَيْم وعُكْل الشمسَ، وعبدت كنانةُ القمَر، وعبدت لخم وخزاعةُ وبعض قريش الشِّعْرى، وعبدت تميم الدبَران، وعبدت طيىء الثُريا، وهؤلاء كلهم جعلوا الآلٰهة بزعمهم وسيلة يتقربون بها إلى الله تعالى، فهؤلاء جمعوا العبادة والاستعانة بهم لأنَّ جَعْلَهم وسيلة إلى الله ضربٌ من الاستعانة، وإنما قلنا إن استفادة الرد على المشركين ونحوهم بطريق التعريض أي بطريق عُرض الكلام لأن القصر الحقيقي لا يصلح أن يكون لرد الاعتقاد إلا تعريضاً لأن معناه حاصل على الحقيقة كما أشار إليه السلكوتي في «حاشية التفسير».
-6-

فإن قلت كيف أمرنا بأن لا نعبد إلا الله ولا نستعين إلا به حسبما تشير إليه هذه الآية، وقد ورد في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما علَّم عبد الله بن عباس قال له " إذا سَأَلْتَ فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله " فلم يأت بصيغة قصر. قلت: قد ذكر الشيخ الجد قدس الله روحه في تعليقه على هذا الحديث أن ترك طريقة القصر إيماء إلى أن المَقام لا يقبل الشركة وأن من حق السؤال أن لا يكون إلا لله القادر العليم، وقد قال علماء البلاغة إذا كان الفعل مقصوراً في نفسه فارتكاب طريق القصر لغو من الكلام ا هـ.

وأقول تقفيةً على أثره إن مقام الحديث غير مقام الآية فمقام الحديث مقام تعليم خاص لمن نشأ وشب وترجل في الإسلام فتقرُّرُ قصر الحكم لديه على طَرَف الثمام ولذلك استغنى عنه وأما مقام هذه الآية فمقام مفتَتح الوحي والتشريع واستهلال الوعظ والتقريع، فناسب تأكيد الحكم بالقصر مع التعريض بحال الشرك الشنيع على أن تعليق الأمر بهما في جواب الشرط على حصول أيّ سؤال وأية استعانة يفيد مفاد القصر تعريضاً بالمشركين وبراءة من صنيعهم فقد كانوا يستعينون بآلهتهم. ومن ذلك الاستقسام بالأزلام الموضوعة عند الآلهة والأصنام.

وضميرا { نعبد ونَستعين } يعودَان إلى تالي السورة ذاكراً معه جماعة المؤمنين. وفي العدول عن ضمير الواحد إلى الإتيان بضمير المتكلم المشارَك الدلالة على أن هذه المحامد صادرة من جماعات، ففيه إغاظة للمشركين إذ يعلمون أن المسلمين صاروا في عِزة ومَنَعة، ولأنه أبلغ في الثناء من أعبد وأستعين لئلا تخلو المناجاة عن ثناء أيضاً بأن المحمود المعبود المستعان قد شهد له الجماعات وعرفوا فضله، وقريب من هذا قول النابغة في رثاء النعمان بن الحارث الغساني:

قعودا له غسان يرجون أوْبَةوتُركٌ ورهطُ الأعجمين وكابُل


إذ قصد من تعداد أصناف من الأمم الكناية عن عظمة النعمان وكثرة رعيته. فكَأَنَّ الحامد لما انتقل من الحمد إلى المناجاة لم يغادر فرصة يقتنص منها الثناء إلا انتهزها.

ووجه تقديم قوله { إياك نعبد } على قوله: { وإياك نستعين } أن العبادة تقرُّب للخالق تعالى فهي أجدر بالتقديم في المناجاة، وأما الاستعانة فهي لنفع المخلوق للتيسير عليه فناسب أن يقدِّم المناجي ما هو من عزمه وصنعه على ما يسأله مما يعين على ذلك، ولأن الاستعانة بالله تتركب على كونه معبوداً للمستعين به ولأن من جملة ما تطلب الإعانة عليه العبادة فكانت متقدمة على الاستعانة في التعقل. وقد حصل من ذلك التقديم أيضاً إيفاء حق فواصل السورة المبنية على الحرف الساكن المتماثل أو القريب في مخرج اللسان.

وأعيد لفظ { إياك } في الاستعانة دون أن يعطف فعل { نستعين } على { نعبد } مع أنهما مقصودان جميعاً كما أنبأ عنه عطف الجملة على الجملة لأن بين الحصرين فرقاً، فالحصر في { إياك نعبد } حقيقي والقصر في { إياك نستعين } ادعائي فإن المسلم قد يستعين غير الله تعالى كيف وقد قال تعالى:

{ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } [المائدة5: 2]

ولكنه لا يستعين في عظائم الأمور إلا بالله ولا يعد الاستعانة حقيقة إلا الاستعانة بالله تعالى.

-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #32  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق

تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }.

أشار في هذه الآية الكريمة إلى تحقيق معنى لا إله إلا الله: لأن معناها مركب من أمرين: نفي وإثبات. فالنفي: خلع جميع المعبودات غير الله تعالى في جميع أنواع العبادات، والإثبات: إفراد رب السموات والأرض وحده بجميع أنواع العبادات على الوجه المشروع. وقد أشار إلى النفي من لا إله إلا الله بتقديم المعمول الذي هو { إِيَّاكَ }. وقد تقرر في الأصول، في مبحث دليل الخطاب الذي هو مفهوم المخالفة. وفي المعاني في مبحث القصر: أن تقديم المعمول من صيغ الحصر. وأشار إلى الإثبات منها بقوله: { نَعْبُدُ }. وقد بين معناها المشار إليه هنا مفصلاً في آيات أخر كقوله:

{ يَٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ } [البقرة2: 21] الآية

- فصرح بالإثبات منها بقوله: { ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ } وصرح بالنفي منها في آخر الآية الكريمة بقوله:

{ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } [البقرة2: 22] وكقوله:
{ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } [النحل16: 36]

فصرح بالإثبات بقوله: { أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ } وبالنفي بقوله: { وَٱجْتَنِبُواْ ٱلْطَّاغُوتَ } وكقوله:

{ فَمَن يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ } [البقرة2: 256] وبالإثبات بقوله:
{ وَيُؤْمِن بِٱللَّهِ } [البقرة2: 256] وكقوله:
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ *إِلاَّ ٱلَّذِي فَطَرَنِي } [الزخرف43: 26-27] الآية - وكقوله:
{ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِيۤ إِلَيْهِ أَنَّهُ لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنَاْ فَٱعْبُدُونِ } [الأنبياء21: 25] وقوله:
{ وَسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ ٱلرَّحْمَـٰنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [الزخرف43: 45]

إلى غير ذلك من الآيات.


قوله تعالى: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.

أي لا نطلب العون إلا منك وحدك. لأن الأمر كله بيدك وحدك لا يملك أحد منه معك مثقال ذرة. وإتيانه بقوله: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بعد قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، فيه إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتوكل إلا على من يستحق العبادة. لأن غيره ليس بيده الأمر. وهذا المعنى المشار إليه هنا جاء مبيناً واضحاً في آيات أخر كقوله:


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #33  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-7

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-7

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


قوله جل اسمه:

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

إيّا ضمير منفصل للمنصوب، والروادف التي بعده من الحروف لبيان الخطاب والغيبية والتكلّم، وليس لها محل من الإعراب، إذ ليست هي بأسماء مضمرة عند المحقّقين. وأما قول بعض العرب: " إذا بلغ الرجل الستّين فإيّاه وإيّا الشوابّ " فشاذ، وتقديم المفعول للدلالة على الاختصاص. فقولك للرجل: إيّاك أعني، معناه لا أعني غيرك: ولا شكّ في أنه أبلغ من أن يقول: أعنيك، كما في قوله تعالى:

{ قُلْ أَغَيْرَ ٱللَّهِ أَبْغِي رَبّاً } [الأنعام6: 164].

والمعنى: نخصّك بالعبادة ونخصّك بالاستعانة. وقرئ إياك بتخفيف الياء، وأيّاك بفتح الهمزة والتشديد، وهيّاك بقلب الهمزة هاء وقرئ بكسر النون فيهما، وهي لغة بني تميم فإنّهم يكسرون حروف المضارعة غير الياء إذا لم ينضم ما بعدها. والعبادة ضربٌ من الشكر وغايةٌ فيه، لأنها الخضوع والتذلّل، تدل على أعلى مراتب التعظيم ولا يستحقّها أحد إلاّ باعطاء أصول النعم الذي هو خلْق الحياة والقُدرة والحسّ والشهوة. و لا يقدر عليه أحدٌ إلاّ الله، فلذلك اختص سبحانه بأن يُعبد، ولا تجوز العبادة لغيره، بخلاف الطاعة، فإنّها قد تحسن لغيره، كطاعة الأب والمولى والسلطان والزوج، فمن قال: إنّ العبادة هي الطاعة، فقد أخطأ، لأنها غاية التذلّل دون الطاعة، فإنّها مجرد موافقة الأمر، ألا ترى أنّ العبدَ يطيعُ مولاه ولا يكون عابداً له؟ والكفّار يعبدون الأصنام ولا يكونون مطيعين لهم؟ إذ لا يتصور من جهتهم الأمر.

فائدة

إنّ في تقديم إيّاك على نَعبدُ وجوهاً:

منها: أنّ في هذا التقديم تنبيهاً منه للعابد على أنّ المنظور إليه في العبادة هو المعبود نفسه، لا شيء آخر، من طلب ثواب أو دفع عقاب.

ومنها: أنّه قدم نفسه لتنبيه العابد من أول الأمر على أن المعبود هو الله الحقّ، فلا يلتفت يميناً وشمالاً، ولا يتكاسل في الطاعات، ولا يثقل عليه تحمّل العبادات من الركوع والسجود، فإنّه إذا ذكر قوله: إيّاك، يحضر في قلبه معرفة الربّ تعالى، فبعده سهلت عليه تلك الطاعات، وهانت عليه مشقّة العبادات، ومثاله: من أراد حمل جسم ثقيلٍ، يتناول قبل ذلك ما يزيده قوّة وشدّة. فالعبدُ لمّا أراد حمل التكاليف الشاقّة، يتناول أولاً معجون معرفة الربوبيّة من قوله ايّاكَ حتّى يقوى على حمل ثقل العبوديّة.

ومنها: أنّك إذا قلت: نعبدُك، بتقديم ذكر العبادة منك، فقبل أن تذكر أنّها لمن هي، فيحتمل أنّ الشيطان يقول: إنّها للاصنام، أو للأجسام كالشمس والقمر: أما إذا غيّرت هذا الترتيب وقلت أولاً: إياك، ثمّ قلت ثانياً: نعبدُ. فلم يبق مجال لهذا الاحتمال، وكان أبلغ في التوحيد، وأبعد عن احتمال الإشراك.

ومنها: أنّ المعبود متقدّم في الوجود والشرف على الممكن، وكان ينبغي أن يكون ذكره متقدّماً على ذكر غيره.
-1-

فائدة اخرى

[سر الالتفات من الغيبة الى الخطاب]

اعلم أن الدنيا لمّا كانت دار التعب والكلال، والسآمة والملال، فمن عادة فصحاء العرب التفنن في الكلام، والعدول من طرز إلى طرز، تنشيطاً للسامع، وتنبيهاً لذهنه عند العدول من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب الى التكلم، وبالعكس. وهذا أحسن من الجري على نسَق واحد، واللزوم لمسلك متكرر ومع ذلك، قد تختصّ مواقع الالتفات بزوائد فوائد من النكات، لا تحصل بدونه. وها هنا من هذا القبيل، إذ قد تقرّر في العلوم الإلهيّة، ان شدّة الإدراك، وتأكّد الصورة العلمية في الوضوح والانارة، وقوّة الشوق الى المدرَك ورسوخه، يوجبان حضور المعلوم، ولهذا قيل: المعرفة بذر المشاهدة والرؤية ثمرة اليقين.

فلما ذكر الله تعالى، وأُجرِيَت عليه صفات كمالية ونعوت إلهية من كونه حقيقاً بالحمد، ربّ العالمين، موجِداً للكلّ، منعِماً عليهم بالنعم كلّها، جليلها ودقيقها، دنيويّها وأخرويّها، محسوسها ومعقولها، مالكاً لامورهم يوم الجزاء واللقاء، تميّزت بها ذاته عن سائر الذوات، وتنوّر القلب بأنوار معرفة هذه الصفات، وفتحت البصيرة بكشف هذه الآيات، وتعلّق العلم بمعلوم معيّن حاضر حضوراً إشراقياً، فخوطب بالكلام: يا من هو بالحمد حقيق، وبهذه الصفات الكمالية يليق، نخصّك بالعبادة والاستعانة. ليكون الخطاب أدلّ على هذا الاختصاص، ولاستجلاب مزيد قرْب بعد قرب في هذا التذلّل والانكسار، وطلب معونة من قربه على قربه، لأنّ ذاته غير متناه في شدة الوجود وقوّة البهاء والعظمة، لا يمكن الاكتناه بنور وجوده، فكلّما كوشف للسالك، كان المستور منه بستر الجلال وسرادق الكبرياء أعظم بما لا نسبة بينهما، إذ المنال والمشهود هناك بقدر قوّة نظر الطالب ونور بصيرته، لا بحسب المطلوب نفسه، وكلما ازداد في القرب ازداد في الاشتياق، ويكون أحوج إلى طلب المعونة لزيادة المشاهدة وكسب الإشراق، فكان أول الكلام مبنيّاً على ما هو بداية أمر السالك من الأذكار والأفكار، والتأمّل في الأسماء والنظر في الآلاء والنعماء، طلباً للاستبصار، وتقرّباً الى مشاهدة نور الأنوار، واستدلالاً من صنائعه على أسمائه وصفاته، ومن أسمائه وصفاته على انوار جماله وأسرار جلاله ثمّ صار مؤدّياً إلى منتهى سيره وغاية سفره إلى الحقّ، وهو كونه ممّن يخوض لجّة الوصول، ويصير من أهل المشاهدة، فيراه عياناً، ويشاهده كفاحاً، ويشافهه شفاهاً، كما أشار إليه صاحب الإشارات، المرتقي بصفاء ضميره عن درجة أهل العبادات، الواصل الى مقامات العارفين ودرجات المكاشفين، كما يفصح عنه قوله: " وهناك " أي عند الخوض في لجّة الوصول والسفر في بحر الحقيقة بعد العبور على منازل العقول " درجات ليست أقل ممّا قبلها " بحسب كثرة العجائب، وفنون الغرائب، وتمادي الأسفار، وتباعُد المراحل، وتفاوت المنازل، لأن كل حقيقة من الحقائق الكونية، وكلّ صورة من الصور الكمالية الوجودية، التي هي ثابتة للموجود بما هو موجود في شيء من العوالِم، فهي هناك بالفعل على وجه أعلى وأشرف وأتمّ، من غير لزوم تكثّر، وتطرّق تغيّر في الحضرة الأحدية، فالذات الأحدية أرض كل الحقائق، وسماء أنوار الهويّات، يقع فيه سير المسافرين، ويدور عليه أنوار السائرين، من الله مشرقها، وإلى الله مغربها، إذ ما شأنه أن يعاين بحق اليقين وعينه، فكيف يمكن أن يدرك بعلم اليقين أو دونه؟

إلا انّ البيان قاصر عن وصفه، واللسان يكلّ عن نعته، ولهذا قال صاحب المقامات - اعتذاراً عن بيان أحوال هذا المشهد-: " آثرنا الاختصار فإنها لا يفهمها الحديث ولا تشرحها العبارة ولا يكشف عنها المقال غير الخيال، من أحبّ أن يتعرّفها فليتدرّج إلى أن يصير من أهل المشاهدة دون المشافهة، ومن الواصلين إلى العين دون السامعين للاثر " انتهى كلامه.
-2-

ونحن أيضاً قد آثرنا الاختصار في مقامٍ خرست فيه السُن الفصحاء، واتّبعنا قول سيّدنا ونبيّنا (عليه وآله الصلاة والدعاء): إذا بلغ الكلام إلى الله فامسكوا.

بصيرة

[سر تقدم اياك نعبد على اياك نستعين]

اعلم إن الانسان مركّب من جسد كالمركَب وروح كالراكب، وهو منذ خلَقه الله في سفر الآخرة، وغاية سفره لقاء الله، لهذا خُلق وعليه فُطر وجُبل، وهو المقصود من الروح، والمقصود من الجسد اكتساب المنافع واقتناء الخيرات والتخلّص عن الشرور والآفات. وهو المعني بالعبادة والخدمة.

فلا جرم كان أفضل أحوال الجسد أن يكون آتياً بالأعمال المقرّبة للروح إلى الله، تعظيماً للمعبود وخدمة له، وهو أول درجات السعادة للإنسان، وهو المراد بقوله تعالى: { إيّاك نَعبُدُ }.

وأفضل أحوال الروح أن يكون مرتبطاً بالحقّ، متعلقاً به، منقطعاً عن غيره، متجرّداً عن الدنيا وما فيها، فإذا واظَب على تحصيل هذه المرتبة، وداوَم على تجريد ذاته وتخليصها عن العلائق الماديّة والغواشي الدنيوية، فعند ذلك يظهر له شيء من أنوار القدس ولوامع الغيب، فإذا تنورت ذاته بنور المعرفة والعبادة، يعلم أنّ مبدء شوقه إلى عالم الملكوت، ومحرك ذاته لطلب التقرّب إليه تعالى، لم يكن ولا يكون إلا الله مقلّب القلوب ومحرّك النفوس، وأنّه بنفسه لا يستقل بالإتيان بهذه العبادات والتدرّج على هذه الدرجات، ولا يمكنه الإتيان بتحصيل شيءٍ من الكمالات العلمية والعمليّة إلا بتوفيق الله وعنايته وعصمته، وهو المراد من قوله تعالى: واياكَ نستَعينُ.

وفيه ايضاً حجّة لأهل التوحيد الأفعالي، قال بعض العرفاء الموحّدين: ولولا أنّ العبد ادّعى الاستطاعة في الأفعال والاستقلال بها، لما أنزل الله عليه تكليفاً قطّ، ولا شريعة، ولهذا جعل حظّ المؤمن من هذه الدعوى أن يقول: ايّاكَ نَستعينُ، وحظّ العفراء المكاشفين ممن وقع عنهم التبرّي من الأفعال الظاهرة وجودها منهم أن يقولوا: لاَ حَولَ وَلاَ قوَةَ الاَ بالله العليّ العَظيم، فهذا القول لا يصدر على وجه الصدق إلاّ عن اولئك الكاملين العارفين بها التوحيد الأفعالي، فهو لهم خاصّة دون غيرهم، فكم بين الحالين من التبرّي والدعوى.
-3-

فالمدعي مطالَب بالبرهان على دعواه، والمتبري غير مطالَب بذلك. ولا تقل: إنّ التبري أيضاً دعوى، فإنّ التبري لا يبقي شيئاً، وعلى ذلك ينطلق إسم المتبري - انتهى كلامه.

وبالجملة فالمراد من قوله: ايّاكَ نَسْتَعين، طلَبُ الهداية لأقرب المناهج وأقوم الطرق إلى الله، كما وقع الافصاح عنه بعد هذه الآية بما يتلوها.

بصيرة اخرى

[الإشارة إلى السفر الثالث من الأسفار الأربعة]

الضميران المستكنّان في هذين الفعلين، إما للنبي (صلّى الله عليه وآله) وأمته أو للإمام وحاضري صلاة الجماعة معه. أو للقاري ومن معه من الحفظة أو له ولسائر الموحدين. أدرج عبادته في تضاعيف عباداتهم، وخلَط حاجتَه بحاجاتهم، لعلها تُقبل ببركاتها وتجاب إليها؛ كادراج البائع غيرَ الرائج في جملة الرائج في بيع الصفقة، ومن ها هنا يُعلم سرّ شريعة الجماعات.

ولتقديم ضمير المعبود والمستعان به وجوه أخرى غير ما ذكر، كالتعظيم، وتقديم ما هو مقدم في الوجود، وللاشارة إلى أن نظر العابد والتفاته ينبغي أن يكون مقصوراً على ذات المعبود أولاً وبالذات، ثم إلى العبادة، لأنها وسيلة ووصلة بينه وبين الحق، فمن كان غرضه من المعرفة والعبادة نفسه أو نفس شيء منهما، فهو ليس من الموحدين ولا من العابدين، لأنه يعبد غير الله، وهذه حال المتبجح بزينة ذاته، وإن كان بمعرفة الحق، وأما من عبَد الله وغاب عن ذاته وعن عبادته، فهو مستغرق في العبودية لله بما هي عبودية له، وانتساب إليه، نسبة الفقر والحاجة التي هي من أشرف النِسَب. فإن قُصارى مجهود العابدين تصحيح هذه النسبة ومَن كانت هذه حالته في العبادة فهو من الواصلين لا محالة. اذ ملاحظة النسبة بما هي نسبة عين ملاحظة المنسوب إليه، فهو بالحقيقة مستغرق في ملاحظة جناب القدس وغائب عن ما سواه، حتى أنه لا يلاحظ نفسه، ولا حالاً من أحوال نفسه إلا من حيث إنها ملاحظة له ومفتقرة إليه. ولهذا رجّح قول حبيب الله:

{ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا } [التوبة9: 40]. على قول كليمه:
{ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [الشعراء26: 62].


وبالجملة، أشرف منازل السالكين مقامُ الفقر ومنزل العبودية. والسبب العقلي فيه: ان جميع الموجودات قابلة للرحمة الإلهية، والكمال الوجودي بحسب فطرتها الإمكانية، وإنما المانع منها عن قبول الفيض الأتمّ والجود الأشمل، هو تقيّده بقيد خاص وتصوره بصورة وجوديّة مخصوصة تضاد قيداً آخر وصورة وجودية أخرى، فبقدر تخلّصه عن قيده الجزئي، وانخلاعه عن صورته المخصوصة، يستحقّ لكمال أتمّ وأعمّ، وصورة جوديّة اشمل وأكمل، فإذا تجرّد عن كل ما سوى الله، وغابَ عن كل اسم ورسم وحلية وصفة وحول وقوة، كان الله له بدلاً عن جميع ذلك، فصار الحقّ حولَه وقوّتَه وسمعَه وبصرَه ويدَه ورِجْله وجميع قواه وجوارحَه - كما ورد في الحديث القدسي - من غير تغير وتكثّر في ذاته وصفاته تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
-4-

ولهذا أمثلة كثيرة:

منها: أن الهيولى الأولى للاجسام، لمّا كانت في ذاتها عارية عن كلّ صورة حسّية وصفة جسمانيّة، قبلتها كلّها، بخلاف الموادّ الثانوية لها، فإنّها من حيث استعدادها الخاصّ لا تقبل إلا صورة واحدة، فكذلك النفس الإنسانيّة التي هي هيولى العقليّات، من شأنها أن تقبل سائر الصور العقلية والكمالات الملكوتية والأخلاق الحسَنة كلّها، إلاّ انّ تقيّدها ببعض الصفات، واحتجابها بحجب بعض الملكات يمنعها عن الاتّصال بما فوقها.

ومنها: أنّ العناصر إذا امتزجت وتفاعلَت وانفعَل كل منها عن صاحبه، انكسرت كيفيّاتها، وكادتْ تخلَع عنها صوَرها المتضادّة الجزئية، فعند انكسارها وشدّة افتقارها إلى ما يحفظها عن الفساد، فاض عليها المبدأ الجواد بصورة كماليّة جامعة لكمالات تلك الصوَر المتعددة بوحدتها الجمعيّة، وقس عليها حال النفوس المتعدّدة عند اجتماعها في بيوت العبادة ومجالس العلم والذكْر، وتركها شواغلها الدنيويّة، كيف تُفاض عليها بركة الهيئة الجمعيّة، وتنكشف عليها صورة المسالة العلميّة التي هي أشرف من تلك الشواغل.

ومنها: أنّ الجسم الملوّن الكثيف، إذا زال بالتصقيل لونُ سطحه وضوؤه، قَبِل بعد ذلك لون كل ما يقابله وضوءَه وما ذلك إلاّ لأنّ الجسم الصقيل لا لون له ولا ضوء له بالفعل، مع أنّه من شأنه أن يكون ذا لون وضوء لكونه كثيفاً.

ومنها: أنّ الجسم المشف من شأنه قبول الألوان كلّها، وإذا اتّصف بلون خاصّ يمتنع عليه قبول غيره، يماثله أو يضادّه، وأما أنّ الملوّن بغير السواد، يقبل لون السواد، فلأنّ غير السواد من الألوان بالقياس إلى السواد كاللاّلون بالقياس إلى اللون، وها هنا موضعُ تأمل.

ومنها: أنّ كلاً من مواضع الشعور الخمسة خالية عن الكيفيّات المحسوسة بتلك الآلة، فإنّ آلة البصر - وهي الجليديّة - شفّافة، وآلة الطعْم - وهي الرطوبة اللعابيّة - عديمة الطعم، وآلة الشمّ عديمة الرائحة، وآلة السمْع عديمة الصوت، وكذلك حكم آلة اللَمسَ، فإنّها وإن لم تكن خالية عن أوائل الكيفيات إلاّ انّها متوسّطة بينها، وقد تقرّر إنّ التوسط بين الأضداد بمنزلة الخلوّ عنها، أو لا ترى أنّك تقول للماء الفاتِر: لا حار ولا بارد؟.

ولأجل خلوّ مادة كل من هذه القوى الحسّاسة عن جميع أفراد الصوَر التي هي واقعة تحت جنس محسوساتها، صارت قابلة للجميع من غير تأبٍّ وتعصٍّ عن قبول شيء منها، ما لم يعرض لها فساد أو مرض.

ثمّ إنّ مادّة كلّ منها، وإن لم تكن مقيّدة بصورة الكيفية التي يقع الإحساس بها من تلك الحاسّة، ولكنّها مقيّدة بصوَر وكيفيات أخر من أجناس سائر المحسوسات، ولهذا اقتصر إدراكها على ما يخصّها ولا يتجاوز عنه إلى المحسوسات الأربع الباقية، ولخلوص القوّة المتخيّلة عن هذه الكيفيّات المحسوسة كلّها، أدركت الجميع وأحضرتها، لأنّ جوهر النفس الخياليّة غير مبصَرة ولا مسموعة ولا مشمومة ولا مذوقة ولا ملموسة، ولها قوّة قبول هذه الأشياء كلّها، فلا جَرَم تقبلها كلّها.
-5-

ومنها: أنّ ملكة العدالة النفسانية - التي هي عبارة عن توسّط النفس الإنسانيّة في الشهوة بين الفجور والخمود، وفي الغضب بين الجُبن والتهوّر، وفي القوّة الإدراكيّة بين الجَربزة والبلاهة - لمّا كانت بمنزلة كون النفس خالية عن الإتّصاف بهذه الصفات الستّة، التي كلّ منها هيئة نفسانيّة شاغلة إيّاها إذا كانت راسخةً عن طلب الحقّ وسلوك الآخرة، صارت بسببها مستعدّة للكمال العلمي، لأنّها عند انكسار هذه القُوى وانقهارها عن طلب مشتهياتها ومقتضياتها، تخلص عن انقيادها وطاعتها، فتقع لها بقوّة عقلها الهيولاني، هيئة استعلائيّة عليها، وقوّة نوريّة استعداديّة لطاعةِ الحقِّ وانقياده، وقبولِ أنوار المعارف الإلهيّة وأسرارِ المقاصدِ الربوبيّة، فيصير عقلُه المنفعل علاّمةً بالحق، مطيعاً لله تعالى.

فإذا علِمتَ حال هذه الأمثلة، فقسْ عليها حالَ السالك العارِف بالله عند عدم التفاته بما سواه، وعند كونه غير مشغول السرّ بغير الله، وغير متبجح بزينة ذاته من حيث هي ذاته، وإن كانت بصورة المعرفة وهيئة العبوديّة، بل مع غيبته عن ذاته، وغيبته عن غيبة ذاته، وفنائه عن فنائه، وحينئذ يكون باقياً ببقاء الله فوق ما كان باقياً بابقاء الله، كما كان قبل الوصول، وهذا هو مقام الفناء في التوحيد والمحو، وإليه الإشارة بقوله: { إيَّاك نَعبُدُ }.

فإذا بقي في هذا المحو ولم يرجع إلى الصحو، كان مستغرقاً في الحقِّ محجوباً بالحقّ عن الخلق، كما كان قبل ذلك محجوباً بالخلق عن الحقّ، لضيق وعائه الوجودي وامتناع قبوله التجلّي الذاتي الشهودي فكذلك الموجود في مقام هذا التجلّى والشهود احتجب التفصيل عن شهوده واضمحلّت الكثرة في وجوده، ما زاغ بصرُه عن مشاهدة جمالِه وسَبَحاتِ نور جلاله، لاستغراقه في بحر التوحيد، فلا ينظر إلى ما سواه ولا يستعين إلاّ إيّاه، فيقول عند ذلك: إيّاكَ نَستَعينُ. أي في مشاهدة آلائكَ بمشاهدة ذاتِكَ وصفاتِك فحينئذ يرجع من الحقّ بالحقّ إلى الخلق، وهذا هو السفر الثالث من الأسفار الأربعة الواقعة من الكاملين المكملين.

فإذا رجع بالوجود الحقّاني الموهوب إلى حالة الصَحْو بعد المَحْو، وانشرَح صدرُه ووسع الحقَّ والخَلْقَ، صار منتصباً في مقام الاستقامة كما أمر الله به الرسول - صلّى الله عليه وآله - في قوله:

{ فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ } [هود11: 112]،

متوسّطا في صراط الحقّ بين التشبيه والتعطيل، ناظراً بعين الجمع إلى التفصيل، وإليه الإشارة بقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }.


وذلك هو الفوز العظيم، والمنُّ الجسيم، فقوله: ايَّاكَ نَعْبُدُ، إشارة إلى مقام السلوك إلى الله والتقرّب إليه بالعبوديّة التامّة له، وهي مرتبة الولاية المشارُ إليها في قوله: لا يزالُ يتقرّبُ العبدُ إليَّ النوافِل حتّى أحْببتُه.
-6-

وقوله: وَايَّاكَ نَستَعينُ، إشارة إلى مقام الصحْو بعد المحْو، وهي مرتبة النبوة، المشار إليها في قوله تعالى: فإِذَا أحبَبتُه كُنْتُ سمعَه وبصرَه ويدَه ورِجْلَه - الحديث.

بصيرة

[سر تقديم العبادة على الاستعانة]

قيل: قدّمت العبادة على الاستعانة، لتتوافق رؤوس الآي. وقيل: إنّ العبادة وسيلة لطلب الحاجة، وتقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة وأسرع للقبول.

وأقول: لمّا علمتَ أنّ أشرف مراتب الإنسان - بما هو إنسان - وأجلُّ مقاماته، تحصيل نسبة الإمكان والافتقار إليه سبحانه بالعبادة والعبوديّة، ولهذا قدّم ذكر العبوديّة على ذكر الرسالة في قولك: أشهدُ أنّ محمداً عبدُه ورسوله، وذلك لأن الأولى عبارة عن نسبة العبد إليه تعالى، والثانية عبارة عن نسبته إلى الخلق، فالأولى تكون أقدم من الثانية بالشرف، وإن كان الرسول أفضل من الوليّ، لكونه جامعاً للمنزلتين جميعاً، فكذلك الكلام ها هنا، فإنّ العبادة لكونها وسيلة إلى الحقّ، أشرفُ من الاستعانة لكونها وسيلةً إلى الخلق.

واعلم أنّ في تقديم العبوديّة على الرسالة في التشهّد وجهاً آخر، وهو: أن لكلّ من الولاية والنبوّة حدوثاً وبقاءً، فالولاية أقدم حدوثاً وأدوم بقاءً من الرسالة، فناسب التقدم الوضعي للتقديم الزماني.

وجه آخر

قيل: لما نسبَ المتكلمُ العبادة إلى نفسه، كأنّه أوهَم ذلك تبجحاً بزينة ذاته من جهة نسبةِ العبادة، واعتداداً منه بما يصدر عنه، فعقّبه بقوله: إيَّاكَ نَستَعينُ، ليدل على أن العبادة أيضاً مما لا يتمّ ولا يستتبّ إلاّ بمعونة منه وتوفيق. وقيل: الواو للحال.
-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #34  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير أيسر التفاسير/ أبو بكر الجزائري (مـ1921م- ) مصنف و لم يتم تدقيقه بعد

تفسير أيسر التفاسير/ أبو بكر الجزائري (مـ1921م- ) مصنف و لم يتم تدقيقه بعد



{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


{ إياك نعبد وإياك نستعين }

شرح الكلمات:

{ إياك }:ضمير نصب يخاطب به الواحد.

{ نعبـد }:نطيع ما غاية الذل لك والتعظيم والحب

{ نستعين }: نطلب عونك لنا على طاعتك

معنى الآية:

علَّمنا الله تعالى كيف نتوسل إليه فى قبولدعائنا فقال احمدا الله واثنوا عليه ومجدوه، والتزموا له بأن تعبدوه وحده ولا تشركوا به وتستعينوه ولا تستعينوا بغيره.

هداية الآية:

من هداية هذه الآية ما يلي:

1- آداب الدعاء حيث يقدم السائل بين يدى دعائه حمد الله والثناء عليه وتمجيده. وزادت السنة الصلاة على النبىّ [صلى الله عليه وسلم]، ثم يسأل حاجته فإنه يستجاب له.

2- أن لا يعبد غير ربه. وأن لا يستعينه إلاّ هو سبحانه وتعالى.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #35  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير أيسر التفاسير/ أسعد حومد مصنف و مدقق

تفسير أيسر التفاسير/ أسعد حومد مصنف و مدقق


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


(5) - وَلاَ نَعبُدُ إلاَّ إِيَّاكَ، يَا رَّبنا، وَلاَ نَطْلُبُ العَوْنَ والخَيْرَ إلاَّ مِنْكَ.

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #36  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق 1-3

تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق 1-3


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


" إياك " مفعولٌ مُقدَّمٌ على " نَعْبُدُ " ، قُدِّم للاختصاصِ، وهو واجبُ الانفصالِ. واختلفوا فيه: هل هو من قَبيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرةِ؟ فالجمهورُ على أنه مضمرٌ، وقال الزجاج: " هو اسم ظاهر " ، وترجيحُ القولين مذكورٌ في كتب النحو.

والقائلونَ بأنه ضميرٌ اختلفوا فيه على أربعةِ أقوال، أحدُها: أنه كلَّه ضميرٌ. والثاني: أن: " إيَّا " وحدَه ضميرٌ وما بعده اسمٌ مضافٌ إليه يُبَيِّنُ ما يُراد به من تكلمٍ وغَيْبَةٍ وخطاب، وثالثُها: أن " إيَّا " وحدَه ضميرٌ وما بعدَه حروفُ تُبَيِّنُ ما يُراد به. ورابعها: أنَّ " إيَّا " عمادٌ وما بعده هو الضمير، وشَذَّت إضافتُه إلى الظاهرِ في قولهم: " إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيَّا الشَوابِّ " بإضافة " إيا " إلى الشَوابِّ، وهذا يؤيِّد قولَ مَنْ جَعَلَ الكافَ والهاءَ والياءَ في محل جرٍّ إذا قلت: إياك إياه إياي.

وقد أَبْعَدَ بعضُ النحويين فَجَعَل له اشتقاقاً، ثم قال: هل هو مشتقٌ من " أَوّ " كقول الشاعر:

59ـ فَأَوِّ لذِكْراها إذا ما ذَكَرْتُها................................


أو من " آية " كقوله:

60ـ لم يُبْقِ هذا الدهرُ من آيائِهِ......................................


وهل وزنه إفْعَل أو فَعيل أو فَعُول ثم صَيَّره التصريف إلى صيغة إيَّا؟ وهذا الذي ذكره هذا القائل لا يُجْدِي فائدةً، مع أنَّ التصريف والاشتقاق لا يَدْخلان في المتوغِّل في البناء.

وفيه لغاتٌ: أشهرُها كسرُ الهمزةِ وتشديدُ الياءِ، ومنها فتحُ الهمزةِ وإبدالُها هاءً مع تشديدِ الياء وتخفيفها. قال الشاعر:

61ـ فَهِيَّاك والأمرَ الذي إنْ توسَّعَتْمَواردُه ضاقَتْ عليك مصادِرُهْ


[وقال بعضهم: إياك بالتخفيف مرغوبٌ عنه]، لأنه يصير " شمسَك نعبد، فإنَّ إياةَ الشمس ضَوْءُها بكسر الهمزة، وقد تُفتح، وقيل: هي لها بمنزلة الهالة للقمر، فإذا حَذَفْتَ التاءَ مَدَدْتَ، قال:

62ـ سَقَتْه إياةُ الشمسِ إلاَّ لِثاتِهأُسِفَّ فلم تَكْدِمْ عليه بإثْمِدِ


وقد قُرئ ببعضها شاذاً، وللضمائر بابٌ طويلٌ وتقسيمٌ متسع لا يحتمله هذا الكتابُ، وإنما يأتي في غضونِه ما يليقُ به.

ونعبُدُ: فعلٌ مضارع مرفوع لتجرده من الناصب والجازم، وقيل: لوقوعِه موقعَ الاسم، وهذا رأيُ البصريين، ومعنى المضارعِ المشابِهُ، يعني أنه أشْبَه الاسمَ في حركاتِهِ وسَكَناتِهِ وعددِ حروفِهِ، ألا ترى أنَّ ضارباً بزنة يَضْرب فيما ذَكَرْتُ لك وأنه يَشِيع ويختصُّ في الأزمان، كما يشيعُ الاسمُ ويختصُّ في الأشخاصِ، وفاعلُه مستترٌ وجوباً لِما مرَّ في الاستعاذة.

والعِبادة غاية التذلل، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غايةُ الإِفضالِ وهو الباري تعالى، فهي أبلغُ من العبودية، لأنَّ العبوديةَ إظهارُ التذلل، ويقال: طريق مُعَبَّد، أي مذلَّل بالوطء، قال طرفة:

63ـ تباري عِتاقاً ناجِياتٍ وَأَتْبَعَتْوَظِيفاً وظيفاً فوقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ


ومنه: العبدُ لذلَّته، وبعيرٌ مُعَبَّد: أي مُذَلَّل بالقَطِران.
-1-

وقيل: العبادةُ التجرُّدُ، ويُقال: عَبَدْت الله بالتخفيف فقط، وعَبَّدْتُ الرجلَ بالتشديد فقط: أي ذَلَّلته أو اتخذتُه عبداً.

وفي قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } التفاتٌ من الغَيْبة إلى الخطاب، إذ لو جَرَى الكلامُ على أصلِه لقيل: الحمد الله، ثم قيل: إياه نعبدُ، والالتفاتُ: نوع من البلاغة. ومن الالتفات - إلا أنه عَكْسُ هذا - قولُه تعالى:

{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس10: 22]،

ولم يقل: بكم. وقد التفت امرؤ القيس ثلاثةَ التفاتات في قوله:

64ـ تطاوَلَ ليلُكَ بالإِثمِدِوبات الخَليُّ ولم تَرْقُدِ

وباتَ وباتَتْ له ليلَةٌكليلة ذي العائِرِ الأرْمَدِ

وذلك من نبأٍ جاءنيوخُبِّرْتُه عن أَبِي الأسودِ


وقد خَطَّأ بعضُهم الزمخشري في جَعْلِه هذا ثلاثة التفاتات، وقال: بل هما التفاتان، أحدهما خروجٌ من الخطابِ المفتتحِ به في قوله: " ليلُك " إلى الغيبة في قوله: " وباتَتْ له ليلةٌ " ، والثاني: الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلم في قوله: " من نبأٍ جاءني وخُبِّرْتُه ". والجواب أن قوله أولاً: " تطاول ليلُك " فيه التفاتٌ، لأنه كان أصلُ الكلامِ أن يقولَ: تطاول ليلي، لأنه هو المقصودُ، فالتفت من مَقام التكلمِ إلى مقامِ الخطابِ، ثم من الخطابِ إلى الغَيْبَةِ، ثم من الغَيْبة إلى التكلمِ الذي هُوَ الأصلُ.

وقُرئ شاذاً: " إِيَّاكَ يُعْبَدُ " على بنائِه للمفعول الغائبِ، ووجهُها على إشكالها: أنَّ فيها استعارةً والتفاتاً، أمّا الاستعارةُ فإنه استُعير فيها ضميرُ النصب لضمير الرفع، والأصل: أنت تُعْبَدُ، وهو شائعٌ كقولهم: عساك وعساه وعساني في أحد الأقوال، وقول الآخر:

65ـ يابنَ الزُّبير طالما عَصَيْكاوطالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيكا


فالكاف في " عَصَيْكا " نائِبةٌ عن التاء، والأصل: عَصَيْتَ. وأمَّا الالتفاتُ فكان من حقِّ هذا القارئ أن يقرأ: إياك تُعْبَدُ بالخطابِ، ولكنه التفتَ من الخطاب في " إيَّاك " إلى الغيبة في " يُعْبَدُ " ، إلا أنَّ هذا التفاتٌ غريب، لكونه في جملة واحدةٍ/ بخلاف الالتفاتِ المتقدم. ونظيرُ هذا الالتفات قوله:

66ـ أأنتَ الهلاليُّ الذي كنتَ مرةًسَمِعْنا به والأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ


فقال: " به " بعد قوله: " أنت وكنت ".

و " إيَّاك " واجبُ التقديمِ على عاملهِ، لأنَّ القاعدةَ أن المفعولَ به إذا كان ضميراً -لو تأخَّر عن عاملهِ وَجَبَ اتصالُه - وَجَب تقديمُه، وتحرَّزوا بقولهم: " لو تأخَّر عنه وَجَبَ اتصالَهُ " من نحو: " الدرهمَ إياه أعطيتُك " ـ لأنك لو أَخَّرْتَ الضميرَ هنا فقلت: " الدرهمَ أعطيتُك إياه " لم يلزمِ الاتصالُ لِما سيأتي، بل يجوز: أعطيتُكه.

والكلام في " إياك نَسْتعين " كالكلام في " إياك نعبدُ " والواو عاطفة، وهي من المُشَرِّكة في الإِعراب والمعنى، ولا تقتضي ترتيباً على قول الجمهور، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيين. ولها أحكامٌ تختصُّ بها تأتي إن شاء الله تعالى.
-2-

وأصل نَسْتعين: نَسْتَعْوِنُ مثل نَسْتَخْرِجُ في الصحيحِ، لأنه من العَوْنِ، فاستُثْقِلت الكسرةُ على الواو، فنُقِلَت إلى الساكن قبلها، فَسَكَنت الواوُ بعد النقلِ وانكسر ما قبلها فَقُلِبَتْ ياءً. وهذه قاعدةٌ مطردَة، نحو: ميزان ومِيقات وهما من الوَزْن والوَقْت.

والسينُ فيه معناها الطلبُ، أي: نطلب منك العَوْنَ على العبادة، وهو أحدُ المعاني التي لـ استفعل، وله معانٍ أُخَرُ: الاتخاذُ نحو: استعْبَدَه أي: اتخذه عبداً، والتحول نحو: استحْجَرَ الطين أي: صار حَجَراً، ومنه قوله: " إن البُغاثَ بأرضِنا تَسْتَنْسِر " ، أي: تتحوَّل إلى صفة النسور، ووجودُ الشيء بمعنى ما صِيغ منه، نحو: استعظَمه أي وجدَه عظيماً، وعدُّ الشيء كذلك وإن لم يكنْ، نحو: استحسنه، ومطاوعةُ أَفْعَل نحو: أَشْلاه فاستشلى، وموافقتُه له أيضاً نحو: أَبَلَّ المريضُ واستبلَّ، وموافقةُ تفعَّل، نجو: استكبرَ بمعنى تكبَّر، وموافقةُ افتَعَلَ نحو: استعصمَ بمعنى اعتصم، والإِغناءُ عن المجردِ نحو: استكفَّ واستحيى، لم يُلْفَظْ لهما بمجردٍ استغناءً بهما عنه، وللإِغناءِ بِهِ عن فَعَل أي المجردِ الملفوظِ به نحو: استرجع واستعانَ، أي: رَجَع وحَلَق عانَتَه.

وقرئ " نِسْتعين " بكسر حرفِ المضارعةِ، وهي لغةٌ مطردةٌ في حروف المضارعة، وذلك بشرطِ ألاَّ يكونَ حرفُ المضارعة ياء، لثقلِ ذلك. على أن بعضهم قال: يِيجَل مضارع وَجِلَ، وكأنه قصدَ إلى تخفيفِ الواو إلى الياء فَكَسر ما قبلها لتنقلبَ، وقد قرئ:

{ َإِنَّهُم يَأْلَمُونَ } [النساء4: 104]،

وهي هادمةٌ لهذا الاستثناء، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، وأن يكونَ المضارعُ من ماضٍ مكسورِ العينِ نحو: تِعْلم من عَلِمَ، أو في أوله همزة وصل نحو: نِسْتعين من استعان أو تاء مطاوعة نحو: نِتَعلَّم من تَعَلَّم، فلا يجوز في يَضْرِبُ ويَقْتُل كسرُ حرفِ المضارعة لعدمِ الشروط المذكورة. ومن طريف ما يُحْكى أن ليلى الأخيلية من أهل هذه اللغة فدخلت ذات يومٍ على الحجَّاج وعنده النابغة الجعدي فذكرتْ شِدَّة البرد في بلادِها، فقال لها النابغة الجعدي وَعَرَفَ أنها تقع فيما أراد: فكيف تصنعون؟ ألا تَكْتَنُون في شدة البرد، فقالت: بلى، نِكْتَني، وكَسَرتِ النونَ، فقال: لو فَعْلْتُ ذلك لاغتسلْتُ، فضحك الحجاج وَخَجِلت ليلى.


والاستعانة: طلبُ العَوْن، وهو المظاهَرَةُ والنُّصْرَةُ، وقَدَّم العبادةَ على الاستعانة لأنها وَصْلَةٌ لطلب الحاجة، وأطلق كُلاًّ من فِعْلي العبادة والاستعانة فلم يَذْكر لهما مفعولاً ليتناولا كلَّ معبودٍ به وكلَّ مستعانٍ، عليه، أو يكونُ المراد وقوع الفعل من غير نظرٍ إلى مفعولٍ نحو:

{ كُلوا واشربوا } [البقرة2: 60]،

أي أَوْقِعوا هذين الفعلينِ.

-3-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #37  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق

تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


العبادةُ في اللغة: مأخوذة من الذلة، يقال: طريقٌ معبّد، وبعيرٌ معبَّد أي مذلّل.

وفي الشرع: هي ما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، وقدّم المفعول وكرّر للإهتمام والحصر، أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين، فالأول تبرؤ من الشرك، والثاني تبرءٌ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عزّ وجلّ، وهذا المعنى في غير آيةٍ من القرآن:

{ فَٱعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [هود11: 123]
{ قُلْ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [الملك67: 29].

وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى فلهذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بكاف الخطاب، وفي هذا دليلٌ على أن أول السورة خبرٌ من الله تعالى بالثناء على نفسه بجميل صفاته الحسنى، وإرشادٌ لعباده بأن يثنوا عليه بذلك.


وإنما قدّم { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } على { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لإن العبادة له هي المقصودة، والاستعانة وسيلة إليها، والأصل أن يقدم ما هو الأهم فالأهم، فإن قيل: فما معنى النون في { نَعْبُدُ } و { نَسْتَعِينُ } فإن كانت للجمع فالداعي واحد، وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام؟ وقد أجيب: بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد، والمصلي فردٌ منهم ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خُلقوا لأجلها وتوسَّط لهم بخير، و { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ألطفُ في التواضع من (إيَّاك عبدنا)، لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعل نفسه وحده أهلاً لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته، ولا يثني عليه كما يليق به، والعبادة مقام عظيم يَشْرُف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى كما قال بعضهم:

لا تدعني إلا بيا عبدهافإنه أشرف أسمائي


وقد سمّى رسوله صلى الله عليه وسلم بعبده في أشرف مقاماته فقال:



__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #38  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق

تفسير التفسير الكبير / للإمام الطبراني (ت 360 هـ) مصنف و مدقق



{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


قوله عَزَّ وَجَلَّ: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }. لا يُحسن إدخال { إِيَّاكَ } في غيرِ الْمُضْمَرَاتِ. وحُكي عن الخليلِ: (إذَا بَلَغَ الرَّجُلُ السِّتِّيْنَ فَإيَّاهُ؛ وَإيَّا الشَّوَاب). فأضافَهُ إلَى ظاهرٍ؛ وهو قبيحٌ مع جوازهِ ولا يكونُ إلاَّ إذا تقدَّم، فإنْ تأخَّرَ؛ قُلْتَ: نَعْبُدُ؛ ولا يجوز: نَعْبُدُ إياكَ. فإنْ قِيْلَ: لِمَ قدَّم { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وهلاَّ قالَ: نعبدُكَ؟ قيل: إنَّ العربَ إذا ذكرَتْ شَيئين قدَّمت الأهَمَّ فالأهَمَّ؛ ذِكْرُ المعبودِ في هذه الآية أهمُّ من ذكرِ العبادة فقدَّمَهُ عليها.

والكافُ من { إِيَّاكَ } في موضعِ خفض بمنْزلة عَصَاكَ؛ وأجازَ الفرَّاء: أن تكون في موضعِ نصبٍ؛ فكأنه جعلَ { إِيَّاكَ } بكمالهِ ضميرَ المنصوب. فإن قيلَ: لِمَ عدلَ عن المغايبةِ إلى المخاطبة؟ قُلْنَا: مِثْلُهُ كثيرٌ في القُرْآنِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى:

{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ } [يونس10: 22].



__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #39  
قديم 12-25-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى 1-2

تفسير تفسير الهدايه إلى بلوغ النهايه/ مكي بن أبي طالب (ت 437 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى 1-2


{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }


اختلف النحويون في " إياك وإياه وإياي "؛ فللبصريين فيها قولان:

- أحدهما: أن " إيا " اسم مضمر أضيف إلى ما بعده للبيان لا للتعريف. ولا يعرف في كلام العرب اسم مضمر مضاف إلى ما بعده غير هذا.

وحكى الخليل عن العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشواب ". فأضاف " إيا " إلى الشواب للبيان.

- والقول الثاني: مروي عن المبرد قال: " إن " إيا " اسم مبهم أضيف للتخصيص لا للتعريف، ولا يعرف في كلام العرب اسم مبهم أضيف إلى ما بعده غير هذا ".

وللكوفيين في هذا أيضاً ثلاثة أقوال.

- حكى ابن كيسان وغيره. عنهم أن " إياك " بكماله اسم مضمر، ولا يعرف اسم مضمر يتغير آخره غيره، فتقول: " إياه وإياك وإياي ".

- والقول الثاني: إن الكاف والهاء والياء، هن الاسم المضمر في " إياك وإياه وإياي " ، لكنه اسم لا يقوم بنفسه ولا ينفرد ولا يكون إلا متصلاً بما قبله من الأفعال، فلما تقدم على الفعل لم يقم بنفسه فجعل " إيا " عماداً له ليتصل به، ولو أخرت لا تصل المضمر بالفعل واستغنيت عن " إيا " فقلت: " نعبده " و " نعبدك ". وهو اختيار ابن كيسان.

- والقول الثالث: حكاه أيضاً ابن كيسان؛ وهو أن " إيا " اسم مبهم يكنى به / عن المنصوب وزيدت إليه الكاف والهاء والياء في: إياك وإياه وإياي ". " ليعلم المخاطب / من الغائب من المُخْبِر عن نفسه ولا موضع للكاف والهاء والياء من الإعراب، فهي كالكاف في " ذلك " وأرأيتك زيداً ما صنع ". ذكر معنى جميع ذلك ابن كيسان في كتابه في تفسير القرآن وإعرابه ومعانيه.

والعبادة في اللغة التذلل بالطاعة والخضوع.

فمعنى { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }: نذل لك ونخضع بالعبادة لك ونستعين بك على ذلك.

وإنما قدم { نَعْبُدُ } على { نَسْتَعِينُ } وقد علم أن الاستعانة قبل العبادة، والعمل لا يقوم إلا بعون الله، لأن العبادة لا سبيل إليها إلا بالمعونة، والمعان على العبادة لا يكون إلا عابداً. فكل واحد مرتبط بالآخر: لا عمل إلا بمعونة ولا معونة إلا تتبعها عبادة، فلم يكن أحدهما أولى بالتقديم من الآخر، وأيضاً فإن الواو لا توجب ترتيباً عند أكثر النحويين.

وأما علة تكرير { إِيَّاكَ } فمن أجل اختلاف الفعلين إذ أحدهما عبادة والآخر استعانة.

/ وقيل: كرر للتأكيد كما تقول: " المال بين زيد وعمرو، بين زيد وبين عمرو " ، فتعيد " بين " للتأكيد.
-1-

قوله: { نَسْتَعِينُ }.

أصله " نَسْتَعْوِنُ " على وزن " نَسْتَفْعِلُ " من العون. والمصدر منه استعانة، وأصله استعواناً، فقلبت حركة الواو على العين، فلما انفتح ما قبل الواو - وهي في نية حركة - انقلبت ألفاً، فالتقى ألفان، فحذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. فقيل: المحذوفة الثانية لأنها زائدة، والأولى أصلية. وقيل: بل المحذوفة الأولى لأن الثانية تدل على معنى ولزمته الهاء عوضاً من الألف المحذوفة.

والنون الأولى في { نَسْتَعِينُ } يجوز فيها الكسر لغة مشهورة وكذلك التاء والهمزة في قولك: " أنْتَ تَسْتَعِين وأنا أسْتَعينُ ". وإنما ذلك في كل فعل سمي فاعله فيه زوائد أو مما يأتي من الثلاثي على " فَعِلَ، يَفْعَلُ " بفتح العين في المستقبل، وكسرها في الماضي نحو: " أنت تعلم وأنا أعلم ".
-2-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع
ابحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 02:33 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.