إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>    دورة البادل، كانت فكرة وبالجهد نجحت  آخر رد: الياسمينا    <::>    لاونج بموقع مميز ودخل ممتاز للتقبيل في جدة حي الخالدية  آخر رد: الياسمينا    <::>    تورست لايجار السيارات والليموزين في مصر  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي تحاضر عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإر...  آخر رد: الياسمينا    <::>    مساعدة عائلة محاصرة في قطاع غزة يواجهون مخاطر الموت  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #21  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ) مصنف و مدقق 1-4

تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ) مصنف و مدقق 1-4

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }


{ الحمد لله } لامه للعهد اى الحمد الكامل وهو حمد الله لله أو حمد الرسل او كمل اهل الولاء او للعموم والاستغراق اى جميع المحامد والاثنية للمحمود اصلا والممدوح عدلا والمعبود حقا عينية كانت تلك المحامد او عرضية من الملك او من البشر او من غيرهما كما قال تعالى


والحمد عنه الصوفية اظهار كمال المحمود وكماله تعالى صفاته وافعاله وآثاره.

قال الشيخ داود القيصرى الحمد قولى وفعلى وحالى اما القولى فحمد اللسان وثناؤه عليه بما اثنى به الحق على نفسه على لسان انبيائه عليهم السلام واما الفعلى فهو الاتيان بالاعمال البدنية من العبادات والخيرات ابتغاء لوجه الله تعالى وتوجها الى جنابه الكريم لان الحمد كما يجب على الانسان باللسان كذلك يجب عليه بحسب كل عضو بل على كل عضو كالشكر وعند كل حال من الاحوال كما قال النبى عليه السلام " الحمد لله على كل حال "

وذلك لا يمكن الا باستعمال كل عضو فيما خلق لاجله على الوجه المشروع عبادة للحق تعالى وانقيادا لامره لا طلبا لحظوظ النفس ومرضاتها واما الحالى فهو الذي يكون بحسب الروح والقلب كالاتصاف بالكمالات العلمية والعملية والتخلق بالاخلاق الآلهية لان الناس مأمورون بالتخلق باخلاق الله تعالى بلسان الانبياء عليهم السلام لتصير الكمالات ملكة نفوسهم وذواتهم وفى الحقيقة هذا حمد الحق ايضا نفسه فى مقامه التفصيلي المسمى بالمظاهر من حيث عدم مغايرتها له واما حمده ذاته فى مقامه الجمعى الالهى قولا فهو ما نطق به فى كتبه وصحفه من تعريفاته نفسه بالصفات الكمالية وفعلا فهو اظهار كمالاته الجمالية والجلالية من غيبه الى شهادته ومن باطنه الى ظاهره ومن علمه الى عينه فى مجالى صفاته ومحال ولاية اسمائه وحال فهو تجلياته فى ذاته بالفيض القدس الاولى وظهور النور الازلى فهو الحامد والمحمود جمعا وتفصيلا كما قيل

لقد كنت دهرا قبل ان يكشف الغطااخالك انى ذاكر لك شاكر
فلما اضاء الليل اصبحت شاهدابانك مذكور وذكر وذاكر


وكل حامد بالحمد القولى يعرف محموده باسناد صفات الكمال اليه فهو يستلزم التعريف انتهى كلامه والحمد شامل للثناء والشكر والمدح ولذلك صدر كتابه بان حمد نفسه بالثناء فى لله والشكر فى رب العالمين والمدح فى الرحمن الرحيم مالك يوم الدين ثم ليس للعبد ان يحمده بهذه الوجوه الثلاثة حقيقة بل تقليدا ومجازا اما الاول فلان الثناء والمدح بوجه يليق بذاته او بصفاته فرع معرفة كنههما وقد قال الله تعالى


واما الثانى فكما ان النبي عليه السلام لما خوطب ليلة المعراج بان أثن على قال
-1-

" لا احصى ثناء عليك "

وعلم ان لا بد من امتثال الامر واظهار العبودية فقال " انت كما اثنيت على نفسك

. " فهو ثناء بالتقليد وقد امرنا ايضا ان نحمد بالتقليد بقوله


كما قال


كذا فى التأويلات النجمية: قال السعدى قدس سره

عطا ييست هر موى ازو برتنمجه كونه بهر موى شكرى كنم


وذكر الشيخ الامام حجة الاسلام الغزالى رحمه الله فى منهاج العابدين ان الحمد والشكر آخر العقبات السبع التى لا بد للسالك من عبورها ليظفر بمبتغاه فاول ما يتحرك العبد لسلوك طريق العبادة يكون بخطرة سماوية وتوفيق خاص الهى وهو الذى اشار اليه صاحب الشرع صلى الله عليه وسلم بقوله " ان النور اذا دخل قلب العبد انفتح وانشرح فقيل يا رسول الله هل لذلك من علامة يعرف بها فقال التجافى عن دار الغرور والانابة الى دار الخلود والاستعداد للموت قبل نزوله ".

فاذا خطر بقلب العبد اول كل شئ ان له منعما بضروب من النعم وقال انه يطالبنى بشكره وخدمته فلعله ان غفلت يزيل نعمته ويذيقنى نقمته وقد بعث الى رسولا بالمعجزات واخبرنى بان لى ربا عالما قادرا على ان يثيب بطاعته ويعاقب بمعصيته وقد امر ونهى فيخاف على نفسه عنده فلم يجد فى طريق الخلاص من هذا النزاع سبيلا سوى الاستدلال بالصنعة على الصانع فيحصل له اليقين بوجود ربه الموصوف بما ذكر فهذه عقبة العلم والمعرفة استقبله فى اول الطريق ليكون فى قطعها على بصيرة بالتعلم والسؤال من علماء الآخرة فاذا حصل له اليقين بوجود ربه بعثته المعرفة على التشمر للخدمة ولكنه لا يدرى كيف يعبده فيتعلم ما يلزمه من الفرائض الشرعية ظاهرا وباطنا فلما استكمل العلم والمعرفة بالفرائض انبعث للعبادة فنظر فاذا هو صاحب ذنوب كما هو حال اكثر الناس فيقول كيف اقبل على الطاعة وانا مصر متلطخ بالمعاصى فيجب ان اتوب اليه ليخلصنى من اسرها واتطهر من اقذارها فاصلح للخدمة فيستقبله ههنا عقبة التوبة فلما حصلت له اقامة التوبة الصادقة بحقوقها وشرائطها نظر للسلوك فاذا حوله عوائق من العبادة محدقة به فتأمل فاذا هى اربع الدنيا والخلق والشيطان والنفس فاستقبلته عقبة العوائق فيحتاج الى قطعها باربعة امور التجرد عن الدنيا والتفرد عن الخلق والمحاربة مع الشيطان والنفس وهى اشدها اذ لا يمكنه التجرد عنها ولا ان يقهرها بمرة كالشيطان اذهى المطية والآلة ولا مطمع ايضا فى موافقتها على الاقبال على العبادة اذهى مجبولة على ضد الخير كالهوى واتباعها له

نمى تازد اين نفس سركش جنانكه عقلش تواندكرفتن عنان
كه بانفس وشيطان برآيد بزورمصاف بلنكان نيايد زمور

-2-

فاحتاج الى ان يلجمها بلجام التقوى لتنقاد فيستعملها فى المراشد ويمنعها عن المفاسد فلما فرع من قطعها وجد عوارض تعترضه وتشغله عن الاقبال على العبادة فنظر فاذا هى اربعة رزق تطلبه النفس ولا بد واخطار من كل شئ يخافه او يرجوه او يريده او يكرهه ولا يدرى اصلاحه فى ذلك ام فساده والثالث الشدائد والمصائب تنصب عليه من كل جانب لا سيما وقد انتصب لمخالفة الخلق ومحاربة الشيطان ومضارة النفس والرابع انواع القضاء فاستقبله ههنا عقبة العوارض الأربعة فاحتاج الى قطعها باربعة بالتوكل على الله فى الرزق والتفويض اليه فى موضع الخطر والصبر عند الشدائد والرضى بالقضاء فاذا قطعها نظر فاذا النفس فاترة كسلى لا تنشط ولا تنبعث لخير كما يحق وينبغى وانما ميلها الى غفلة ودعة وبطالة بل الى سرف وفضول فاحتاج الى سائق يسوقها الى الطاعة وزاجراً بزجرها عند المعصية وهما الرجاء والخوف فالرجاء في حسن ما وعد من الكرامات والخوف من صعوبة ما وعد من العقوبات والاهانات فهذه عقبة البواعث استقبلته فاحتاج الى قطعها بهذين المذكورين فلما فرغ منها لم ير عائقا ولا شاغلا ووجد باعثا وداعيا معانق العبادة بلزام الشوق فنظر فاذا تبدو بعد كل ذلك آفتان عظيمتان هما الرياء والعجب فتارة يرائى بطاعته الناس وتارة يستعظم ذلك ويكرم نفسه فاستقبلته ههنا عقبة القوادح فاحتاج الى قطعها بالاخلاص وذكر المنة فاذا قطعها بحسن عصمة الجبار وتأييده حصلت العبادة له كما يحق وينبغى ولكنه نظر فاذا هو غريق فى بحور نعم الله من امداد التوفيق والعصمة فخاف ان يكون منه إغفال للشكر فيقع فى الكفران وينحط عن تلك المرتبة الرفيعة التى هى مرتبة اغذية الخالصين فاستقبلته ههنا عقبة الحمد والشكر فقطعها بتكثيرهما فلما فرغ منها فاذا هو بمقصوده ومبتغاه فيتنعم فى طيب هذه الحالة بقية عمره بشخص فى الدنيا وقلب فى العقبى ينتظر البريد يوما ويستقذر الدنيا فاستكمل الشوق الى الملأ الاعلى فاذا هو برسول رب العالمين يبشره بالرضوان من عند رب غير غضبان فينقلونه فى طيبة النفس وتمام البشر والانس من هذه الدنيا الفانية الى الحضرة الالهية ومستقر رياض الجنة فيرى لنفسه الفقيرة نعيماً وملكا عظيما: قال الشيخ سعدى قدس سره

عروسى يود نوبت ما تمتكرت نيك روزى بودخاتمت


قال خسرو عند وفاته

زدنيا ميرود خسر وبزيرلب همى كويددلم بكرفت ازغربت تمناى وطن دارم


{ رب العالمين } لما نبه على استحقاقه الذاتى بجميع المحامد بمقابلة الحمد باسم الذات اردفه باسماء الصفات جمعا بين الاستحاققين وهو أى رب العالمين كالبرهان على استحقاقه جميع المحامد الذاتى والصفاتي والدنيوى والأخروي. والرب بمعنى التربية والاصلاح اما في حق العالمين فيربيهم باغذيتهم وسائر اسباب بقاء وجودهم وفى حق الانسان فيربى الظواهر بالنعمة وهى النفس ويربى البواطن بالرحمة وهى القلوب ويربى نفوس العابدين باحكام الشريعة ويربى قلوب المشتاقين بآداب الطريقة ويربى اسرار المحبين بانوار الحقيقة ويربى الانسان تارة باطواره وفيض قوى انواره فى اعضائه فسبحان من اسمع بعظم وبصر بشحم وانطق بلحم واخرى بترتيب غذائه فى النبات بحبوبه وثماره وفى الحيوان بلحومه وشحومه وفى الاراضى باشجاره وانهاره وفى الافلاك بكواكبه وانواره وفى الزمان بسكونك وتسكين الحشرات والحركات المؤذية فى الليالى وحفظك وتمكينك من ابتغاء فضله بالنهار فيا هذا يربيك كانه ليس له عبد سواك وانت لا تخدمه او تخدمه كأن لك ربا غيره.
-3-

والعالمين جمع عالم والالم جمع لا واحد له من لفظه. قال وهب لله ثمانية عشر الف عالم الدنيا عالم منها وما العمران في الخراب الا كفسطاط فى صحراء. وقال الضحاك ثلاثمائة وستون ثلاثمائة منهم حفاة عراه لا يعرفون خالقهم وهم حشو جهنم وستون عالما يلبسون الثياب مر بهم ذو القرنين وكلمهم وقال كعب الاحبار لا يحصى لقوله تعالى

{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } [المدثر74: 31].


وعن ابى هريرة رضى الله عنه ان الله تعالى خلق الخلق اربعة اصناف الملائكة والشياطين والجن والانس ثم جعل هؤلاء عشرة اجزاء تسعة منهم الملائكة وواحد الثلاثة الباقي ثم جعل هذه الثلاثة عشرة اجزاء تسعة منهم الشياطين وجزء واحد الجن والانس ثم جعلهما عشرة اجزاء فتسعة منهم الجن وواحد الانس ثم جعل الانس مائة وخمسة وعشرين جزأ فجعل مائة جزء فى بلاد الهند منهم ساطوح وهم اناس رؤسهم مثل رؤس الكلاب ومالوخ وهم اناس اعينهم على صدورهم وماسوخ وهم اناس آذانهم كآذان الفيلة ومالوف وهم اناس لا يطاوعهم ارجلهم يسمون دوال ياى ومصير كلهم الى النار وجعل اثنى عشر جزأ منهم فى بلاد الروم النسطورية والملكانية والاسرائيلية كل من الثلاث اربع طوائف ومصيرهم الى النار جميعا وجعل ستة اجزاء منهم فى المشرق يأجوج ومأجوج وترك وخاقان وترك حد خلخ وترك خزر وترك جرجير وجعل ستة اجزاء فى المغرب الزنج والزط والحبشة والنوبة وبربر وسائر كفار العرب ومصيرهم الى النار وبقى من الانس من اهل التوحيد جزء واحد فجز أهم ثلاثا وسبعين فرقة اثنتان وسبعون على خطر وهم أهل البدع والضِلالات وفرقة ناجية وهم اهل اسنة والجماعة وحسابهم على الله تعالى يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وفى الحديث " ان بنى اسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين فرقة وتفرق امتى على ثلاث وسبعين فرقة كلهم فى النار الا فرقة واحدة " قالوا من هى يا رسول الله قال " من هم على ما انا عليه واصحابى "

يعنى ما انا عليه واصحابى من الاعتقاد والفعل والقول فهو حق وطريق موصل الى الجنة والفوز والفلاح وما عداه باطل وطريق الى النار ان كانوا اباحيين فهم خلود والا فلا.
-4-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #22  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق

تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق


آية. مخفوضان لانهما نعت لله وقد مضى معناهما.

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #23  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق 1-2

تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق 1-2


{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } قرأ القرّاء بضمّ الدّال وكسر الّلام وقرء فى الشواذّ بفتح الدّال وكسر الّلام وقرء ايضاً بكسر الدّال والّلام لاتباع الدّال لّلام ولام الحمد لتعريف الجنس او الاستغراق وعلى اىّ تقدير فالكلام للحصر وهو على تقدير الاستغراق واضح وعلى تقدير الجنسيّة فالحصر يستفاد من لام لله لانّه للاختصاص والحمد امّا بمعنى ما يحمد عليه وصحّ الحصر حينئذٍ مع ما يترائى من صفات الكمال لغيره تعالى لانّ ما للغير من صفات الكمال انّما هى له تعالى حقيقة واتّصاف الغير بها باعتبار مظهريّته لها لا باعتبار انّها من نفسه او بمعناه المصدرىّ وفاعله الله واصله حمدا لله حمداً ثمّ حذف الفعل ونقل المصدر الى الرّفع وادخل عليه لامّ التعريف وجعل الله خبره بتوسط الّلام للدلالة على الثّبات والاستغراق والحصر وحصر الحمد بهذا المعنى فى الله مع تعدّد الحامدين وكثرتهم لما سيأتى فى سورة البقرة عند قوله

{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } [البقرة2: 253]

من انّه تعالى فاعل كلّ فعل ظاهر من كلّ فاعل وانّه لا فاعل فى الوجود الاّ الله ولا حول ولا قوّة الاّ بالله ولانّ كلّ مادح اذا كان مدحه حمداً يعنى ثناء على جميل واقعىّ اختيارىّ لا يكون مادحاً الاّ اذا صار عقلانيّاً ناظراً بنظر العقل ومتكلّماً بلسان العقل لا بنظر الجهل ونظر نفسه ولا بلسان الجهل ولسانه، ونظر العقل ولسانه نظر الله ولسانه فحمده يكون حينئذٍ حمدا لله لا حمد غير الله، او بمعناه المصدرىّ والله مفعوله والاصل حمدت الله حمداً فحذف الفعل واقيم المصدر مقامه وادخل عليه الّلام وعدل به الى الرّفع وجعل مفعوله بتوسط الّلام خبراً له هذا باعتبار الحدوث والصدور للمعنى المصدرىّ ويجوز ان يعتبر المصدر مبنيّاً للفاعل او المفعول بمعنى اعتبار ثبوت الحدث للفاعل او المفعول واتّصافه به من غير اعتبار الحدوث والصدور فيه، ويكون المعنى الحامديّة لله او المحموديّة لله.


اعلم انّ ما يحمد عليه من صفاته الجماليّة عين ما يسبّح تعالى به من صفاته الجلاليّة لانّ اصل جميع صفاته الثّبوتيّة الجماليّة الّتى يحمد تعالى عليها هو سعة وجوده واحاطته لكلّ وجود وعدم وكلّ موجود ومعدوم لانّ العدم ثابت له نفسه الّتى هى عدم النفسيّة بالوجود والمعدوم محكوم عليه بالعدم بسبب الوجود وسعة وجوده ليست الاّ سعة جملة صفاته واصل جميع صفاته السلبيّة الجلاليّة الّتى يسبّح تعالى بها هو سلب الحدود عنه تعالى وسلب الحدود راجع الى سلب السّلوب ومصداق سلب السّلوب ليس الاّ الوجود وهذا بخلاف الممكنات المحدودات فانّ السّلوب الرّاجعة اليها هى سلوب الوجودات الّتى هى منتزعة من حدود وجوداتها لا من نفس وجوداتها فسبحان من لا يحمد الاّ على ما يسبّح به ولا يسبّح الاّ بما يحمد عليه ولذلك كان قلمّا ينفكّ ذكر التّسبيح عن صريح الحمد او معناه فى الكتاب والسنّة والمراد انشاء الحمد بهذه الكلمة او الاخبار بمحموديّته تعالى ولمّا كان الله اسماً للذّات باعتبار ظهوره والذّات متّحدة مع جميع الصّفات الحقيقيّة وظهور الذّات ظهور لتلك الصّفات كان الكلام فى قوّة ان يقال: الحمد للذّات الجامعة لجميع صفات الكمال لجمعها جميع صفات الكمال.
-1-

{ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قرء بكسر الباء وفتحها من ربّه بمعنى ملكه او جمعه او ربّاه او اصلحه او صاحبه او لزمه والكلّ مناسب، والربّ صفة مشبّهة او اسم فاعل مخفّف رابّ او مصدر اقيم مقام اسم الفاعل، والعالم من العلم او من العلامة مثل الخاتم بمعنى ما يعلم به ويطلق على ما سوى الله جملة وعلى كلّ مرتبة من مراتب ما سوى الله، وعلى كلّ نوع من انواع الموجودات، وعلى كلّ فرد من افراد الانسان كأنّه اعتبر فى اطلاقه اجتماع امور مع نحو اتّحاد بينها وجمعه بالواو والنّون على خلاف القياس وربوبيّته تعالى ليست كربوبيّة المّلاك للاملاك ولا كربوبيّة الاباء للاولاد، ولا كربوبيّة النّفس للاعضاء، بل كربوبيّة النّفس للقوى من حيث انّها تكون محصّلة للقوى ومقوّمة لها وحافظة ومبلّغة لها الى كمالاتها الاوّليّة والثّانويّة فانّ الله تعالى مفيض الوجود على العالمين وحافظ ومقوّم لها ومبلّغ لها الى كمالاتها الاوّليّة والثّانويّة ولذلك عقّبها بقوله { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }.

-2-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #24  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير الأعقم/ الأعقم (ت القرن 9 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تفسير الأعقم/ الأعقم (ت القرن 9 هـ) مصنف و مدقق

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }


الكلام: في التفسير للحمد: { الحمد } والمدح اخوان وهو الثناء الحسن على الجميل من نعمه وغيرها، تقول: حمدت الرجل على انعامه، وحمدته على حسبَه وشجاعَته، وأما الشكر فهو على النعمة خاصة وهو بالقلب واللسان والجوارح، قال:


افادتكم النعماء مني ثلاثةيدي ولساني والضمير المحجبا


{ رب } الرب السيد المَالك، وقيل: سيّد الخلق ومالكهم، وقيل: منشئهم ومربيهم. { العالمين } هم الجن والانس والملائكة. وروي عن زَيد بن علي (عليه السلام) أنه قال: " لله تعالى أربعة عشر ألف عالم: الجن والإنس منها عالم واحد " وعن وهب: " لله تعالى ثمانية عشر ألف عالم: الدنيا منها عالم واحد " وقيل: كل ذي روح لأن لفظ الرب يدل عليه، وقيل: الخلق جميعهم، وقيل: أهل كل زمان.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #25  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق



{ الحَمْدُ لِلَّهِ } إخبار بأن الله مالك لجميع الحمد من الخلق، أو مستحق لأن يحمدوه، ومن ذكر الجملة وأراد بها الثناء على الفعل الجميل الاختيار تعظيماً كان محصلا للحمد، ولو لم يقصد الإِنشاء، ولا يجوز قصد الإِنشاء على أن الآية نزلت إخبارا إلا لمن أراد غير الآية، وإلا أن يقال، المعنى قولوا هذه السورة، فحينئذ يجوز لقارئها التصرف في الحمد بالإخبار والإنشاء، لكن الإنشاء بالجملة الاسمية قليل. ومختلف فيه، ولا يحمد الله على صفاته، بل على أفعاله، وقيل بالجواز على إسقاط لفظ الاختيارى من الحد، أو على أن المراد به نفى الضرورة، وصفاته ليست ضرورية، كما أنها ليست اختيارية، لا إله إلا الله، سبحان الله، ولفظ الجلالة لا يدل على فعل ولا صفة، بل على الذات، فهو جامد، وقيل: أصله الاشتقاق من لفظ يدل على معنى العبادة، أو العلو، أو الطرب. أو التحيّر، أو الاحتجاب، أو نحو ذلك، بمعنى خلقه احتجبوا عن رؤيته، بأن حجبهم عنها ومنعهم، وليس هو بمحتجب، وفزعوا إليه واضطربوا وتحيروا، { رَبِّ } سيد { الْعَٰلَمِينَ } أو مالكهم، الناس عاَلم، والملائكة عالم، والجن عالم، والفرس عالم، والجبال عالم، والنبات عالم، والفعل عالم، والاعتقاد عالم، وهكذا كل صنف عالم، الجميع عالمون، جمع تغليبا للعاقل جع قلة. إيذانا بقلتهم بالنسبة إلى قدرته تعالى على خلقه، أصنافا غير الموجودة، وسميت لأن فيها علامة الحدوث. كالتركيب والحلول، وعلامة وجود الله.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #26  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 1-7

تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 1-7

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }


الحمد والمدح ينتظمهما الاشتقاق الكبير، وهو اتحاد الحروف مع اختلاف ترتيبها ، فالحاء والميم والدّال الموجودة في الحمد هى نفسها حروف " المدح " ولكن بترتيب آخر، والزمخشري يقول بتآخيهما، واختلف الذين عُنوا بشرح كلامه، هل قصده بالتآخي: اتحاد معناهما أو اتحاد حروفهما مع ما ينتظم الكلمات المتنوعة التي تلتقي بالاشتقاق من معنى لطيف قد يظهر مع التأمل الخاطف، وقد يخفي إلا مع التأمل الطويل؟ فالحمد والمدح كالجذب والجبذ في اتحاد الحروف، ووجود معنى يجمع بينهما، والذين فرقوا بين الحمد والمدح راعوا أن الحمد يكون على الأمور التي للمحمود اختيار فيها، بخلاف المدح، فقد يكون في الأمور الطبيعية كمدح الوجه بالحسن، والقامة بالاعتدال، والدرة بالصفاء، ولا يسمى شيء من ذلك حمدا، وعرّفوا الحمد أنه الثناء باللسان على الجميل وقيده بعضهم بكونه اختياريا، ومنهم من زاد على ذلك سواء تعلق بالفضائل أم بالفواضل على أن بعض العلماء يرى أن المدح أيضا لا يكون إلا في الأمور الاختيارية، وإن ورد على غيرها عُدّ من باب المجاز، وتقييد الثناء بكونه على الجميل يخرج الذم فإن الثناء قد يصدق عليه في نحو قولهم (أثنى عليه شرّا) وتقييد الجميل بكونه اختياريا يخرج المحاسن الاضطرارية كالتي أشرنا إليها وهي التي تُمدح - على رأي بعض - ولا تُحمد، وقول بعضهم سواء تعلق بالفضائل أو بالفواضل يقتضي دخول الصفات التي تكون ذات أثر في الغير فيما يُحمد عليه فإن الفضائل جمع فضيلة وهي صفة تقوم بنفس الموصوف لا تتعداه إلى غيره، والفواضل جمع فاضلة وهي ما ينتقل أثره إلى الغير، فسجية الكرم فضيلة، والكرم طبيعة قائمة بنفس الكريم لا تنتقل عنه وإنما ينتقل عنه أثرها وهو الإِحسان إلى الغير ويُعَبر عنه بالفاضلة، والشجاعة طبيعة في نفس الشجاع لا تتعداه إلى غيره وإنما يتعدى أثرها عندما تبعث صاحبها على نصرة المظلومين وإغاثة الملهوفين، ويُعبر عن هذا الأثر بالفاضلة كذلك، واستشكل هذا التعريف بأنه يمنع دخول صفات الله فيما يحمد عليه وهي من أجل المحامد، وسبب المنع هو قيد الاختياري، وأجاب القطب رحمه الله في (التيسير) بأن هذا القيد يراد به إخراج المحاسن الاضطرارية، فلا يمنع من دخول صفات الله تعالى لأنها وإن لم يجز لنا أن نصفها بأنها اختيارية لما يُفهمه هذا الوصف من إمكان تخلي الله تعالى عنها فإنه لا يجوز لنا أيضا أن نقول عنها إنها اضطرارية لما يقتضي ذلك من كون الله سبحانه مضطرا إليها - تعالى الله عن ذلك - ورأي القطب في (الهيميان) أن يستبدل قيد الاختياري بغير الاضطراري لئلا يكون مانعا من دخول صفات الله، ويرى السيد الجرجاني في حاشيته على الكشاف أن كون الصفات مبدأ للاختيارات يزيح المانع من دخولها وتابعه المفسر الشهير أبو السعود حيث قال عن الجميل اختياريا كان أو مبدأ له، وحاصل ذلك أنه لما كانت صفات الله تعالى الذاتية كالحياة والعلم والقدرة والمشيئة سببا لحصول أفعاله الاختيارية كالخلق والإِنعام جاز حمده عليها بل وجب ذلك.
-1-

واختلف في الحمد والشكر هل هما متحدان؟ أم مختلفان؟ فذهب ابن جرير الطبري وأبو العباس المبرد إلى أنهما بمعنى واحد ونسبه ابن جرير إلى ابن عباس رضي الله عنهما، وحكاه أبو عبد الرحمن السلمي في كتاب " الحقائق " عن جعفر الصادق وابن عطاء قال القرطبي: وليس بمرضي، واستدل له ابن جرير بصحة قولك: الحمد لله شكرا، وتعقبه ابن عطيه بأنه دليل على خلاف ما ذهب إليه لأن قولك شكراً إنما خصصت به الحمد لأنه على نعمة من النعم، وأنكر ابن كثير على سلفه ابن جرير جعل الحمد والشكر بمعنى مستندا في هذا الإِنكار على التفرقة التي أوردها المتأخرون بينهما، وتعقبه الشوكاني في (فتح القدير) بأن كلام المتأخرين ليس بحجة على استعمال الكلمات العربية ولا سيما أن ابن جرير قد عضد رأيه بما رواه عن بعض السلف كما عضده بجواز مجيء الشكر مصدرًا للحمد، وفي السنه ما يدل على أن الحمد قد يسد مسد الشكر، فقد أخرج ابن جرير عن الحكم بن عمير - وكانت له صحبة - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا قلت الحمد لله رب العالمين، فقد شكرت الله فزادك " وأخرج عبد الرزاق في " المصنف " والحكيم الترمذي في " نوادر الأصول " والخطابي في " الغريب " والبيهقي في " الأدب " والديلمي في " مسند الفردوس " عن عبد الله بن عمرو ابن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لم يحمده " وفيه انقطاع إلى أن الألوسي ذكر أنّ له شاهدا يتقوى به، وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الحلبى قال: الصلاة شكر والصيام وكل خير تفعله شكر وأفضل الشكر الحمد، وأخرج الطبراني في " الأوسط " بسند ضعيف عن النواس بن سمعان قال: سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " لئن ردها الله عليَّ لأشكرن ربي " فرجعت فلما رآها قال: " الحمد لله " فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوما أو صلاة فظنوا أنه نسى، فقالوا يا رسول الله قد كنت قلت: " لئن ردها الله عليّ لأشكرن ربي " قال: " ألم أقل الحمد لله " وإنما كان الحمد رأس الشكر وأفضله لأنه إعلان باللسان عن إنعام المنعم، واللسان أقوى دلالة من غيره، وفيما أوردناه ما يؤكد ما قاله ابن عطية من أن الشكر أعم من الحمد فهو يشمل القول والعمل ويدل لذلك قول الله تعالى:
-2-

{ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [سبأ34: 13] وقوله سبحانه:
{ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان31: 14]


إذ ليس المطلوب من شكر الله، وشكر الوالدين مجرد الاعتراف بالإِحسان وإنما المطلوب القيام بحقوق عبادة الله كما أمر، ومعاملة الوالدين بالإِحسان وهو واضح في قوله سبحانه:

{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَو كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [الإسراء17: 23]

وعرف بعض العلماء الشكر لغة بأنه فعل ينبيء عن تعظيم المنعم من حيث إنه منعم على الشاكر سواء كان قولا باللسان أم اعتقادا ومحبة بالجنان، أم عملا وخدمة بالأركان، واستُدُل بذلك بقول الشاعر:

أفادتكم النعماء مني ثلاثةيدي ولساني والضمير المحجبا


فإن مراده من هذا أن النعماء سخرت لهم يده يخدمهم بها، ولسانه يثني عليهم به، والضمير المحجب يواليهم به، وإذا القينا نظرة على هذا التعريف وجدنا بين الحمد والشكر عموما وجيها، فكل واحد منهما أخص من وجه وأعم من آخر، أما الحمد فهو أخص موردا وأعم متعلقا لأن مورده اللسان وحده ومتعلقه النعمة وغيرها، وأما الشكر فهو بعكس ذلك لأن مورده اللسان والقلب والجوارح ومتعلقه النعمة وحدها، وهذا كما ذكرنا أن الحمد يكون على الفضائل كالشجاعة والكرم وغيرهما، وبعض العلماء جعل تعريف الشكر المذكور نفسه تعريفا للحمد العرفي فيكون بين الحمدين اللغوي والعرفي كالذي بين الحمد والشكر اللغويين من العموم الوجهي، ولست أدري ما هي حجة هؤلاء في جعل الحمد العرفي أعم موردا من الحمد اللغوي بحيث يكون باللسان وغيره، وهؤلاء يرون أن الشكر العرفي هو صرف العبد جميع ما أنعم الله به عليه لما خُلق لأجله، وهو سائغ نظرا إلى أن جميع آلاء الله تعالى تستدعي طاعته والقيام بحسن عبادته، ويؤكد ذلك قوله تعالى:

{ إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [الإنسان76: 3]

وقوله على لسان سليمان عليه السلام:

{ لِيَبْلُوَنِيۤ أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ } [النمل27: 40]

على أن بعض العلماء يرى أن الحمد لا يتصور أن يكون عملا لسانيا لا يشامله عمل القلب والجوارح لأن حمد المحمود باللسان وحده من غير استشعار معناه بالقلب ولا تصديق له بالجوارح يعد سخرية واستخفافا، وأُجيب بأن استشعار معني الحمد بالقلب وتصديقه بعمل الجوارح شرطان له وليسا من جوهره ومما يستغرب منه دعوى القرطبي: إن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان، وهو مردود بالأحاديث الصحيحة التي أوردها القرطبي نفسه في تفسيره منها ما رواه مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليرضي عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، أو يشرب الشربة فيحمده عليها "

-3-

وروى ابن ماجه عن أنس أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما أنعم الله على عبد نعمة فقال: الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أخذ " ، وفي الكتاب العزيز ما يدل على أن الحمد يكون في مقابل الإِحسان فالله تعالى يقول تعليما لعباده كيف يحمدونه:\


وعلى هذا الحد قال علماؤنا الحمد أعم من الشكر لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر، والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أولاك معروفا فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر، فإن هذا الذي ذكره أخيرا يهدم ما بناه أولا حيث اشترط في الحمد أن يكون من غير سبق إحسان، اللهم إلا أن يكون مراده أن الحمد يأتي تارة في مقابل نعمة وتارة بدونها كما صرح به ابن عطية وكما يفيده تعريف الحمد الذي ذكرناه، وإذا كان هذا هو مراد القرطبي فهو معنى صحيح ولكن عبارته لم تف بمطلوبه.

و " ال " في الحمد قيل هي للاستغراق وعليه أبو حيان في (البحر) والقرطبي في تفسيره والألوسي " مع بعض تردد " والفخر الرازي في (مفاتيح الغيب) والشوكاني في (فتح القدير) وقطب الأئمة في (الهيميان) ونور الدين السالمي في (طلعة الشمس).

وقيل هي للجنس وعليه الزمخشري وكثير من الذين تأثروا برأيه، ووهّم الزمخشري أصحاب الرأي الأول، وحمل خصوم الزمخشري هذا التوهيم على أنه أراد به الانتصار لمذهبه الفاسد في خلق الأفعال فإنه إذا جعلت جميع صنوف المحامد محصورة في الله عز وجل كما يستلزمه القول بالاستغراق فات الزمخشري مطلوبه من جعل العباد الصالحين مستحقين لشيء من الحمد على خلقهم الأفعال الحسنة كما هي عقيدة المعتزلة في أن الإِنسان يستقل بخلق أفعاله استقلالا تاما، وللإِمام نور الدين السالمي رحمه الله في أول " طلعة الشمس " بحث نفيس في هذه المسألة أطال فيه مناقشة الزمخشري في رأيه، غير أن السيد الجرجاني انتصر للزمخشري في حاشيته على " الكشاف " بإيضاح لا يدع مجالاً للشك في أن الزمخشري لم يرد برأيه هذا نصرة مذهبه في خلق الأفعال، فإن اختصاص الجنس يستلزم اختصاص أفراده أيضا، إذ لو وُجِدَ فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه وإنما اختار الزمخشري الجنس على الاستغراق لأنه يُسْتَفَاد من جوهر الكلام، ويستلزم اختصاص جميع الأفراد، فلا حاجة في تأدية المقصود من إثبات الحمد له تعالى وانتفائه عن غيره إلى أن يلاحظ بمعونة الأمور الخارجية، بل يكون على ما اختاره اختصاص الأفراد بطريق برهاني فيكون أقوى من إثباته ابتداء.
-4-

وإذا كان إفراد الحمد على كلا القولين مختصة بالله سبحانه فإن في ذلك ما يفيد أن جميع النعم لا تصدر إلا عنه

{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل16: 53]

وفي تذكير الإِنسان بذلك تحرير لرقبته من الذل لغير الله تعالى، ورفع للرؤوس حتى لا تتطأطأ لغير عزته وكبريائه، ورفع من معنوية الإِنسان فلا يتعلق قلبه بغير الله سبحانه.


وجملة " الحمد لله " قيل إنها خبرية يراد بها الإِخبار عن كون جميع المحامد لله سبحانه وقيل هي خبرية لفظا، إنشائية معنى، والظاهر أن معناها يحتمل الخبر والإِنشاء بحسب قصد المتكلم بها، وأما لفظها فخبري قطعا.

" الرب " مأخوذ من ربه يربه بمعنى نماه أو أصلحه أو مَلَكه، ويقال أيضا ربّبَه وربّته ورباه، ويُطلق الرب على الملك كقول النابغة: -

تخب إلى النعمان حتى تنالهفذلك من ربٍّ تليدي وطارفي


ومنه قول الآخر: -

وكنت امرأ أفضت إليك ربابتيوقبلك ربتني فضعت ربوب


ويطلق على المالك، واستشهد له بقصة صفوان بن أمية مع أبي سفيان صخر بن حرب عندما نمى إلى أهل مكة بعد فتحها أن المسلمين هُزموا في حربهم مع هوازن وكان أبو سفيان لا تزال الجاهلية مترسبة في نفسه، وكان صفوان لا يزال على شركه فسُرّ أبو سفيان بما سمع، وأخذت الحمية القرشية صفوان فغضب عليه وقال له " في فيك الكثكث لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن " يعني لأن يملكني رجل من قريش - يقصد به رسول الله صلى الله عليه وسلم - أحب إلى من أن يملكني رجل من هوازن، ويُطلق الرب على السيد والمصلح والمدبِّر، وهذه المعاني قريب بعضها من بعض، والله تعالى يربي عباده بالآلاء الظاهرة والباطنة التي يسبغها عليهم وهو مالك أمرهم ومدبره، وجابر كسرهم، ومصلح شأنهم.

" العالمين " جمع عالم وفي العالم خلاف! هل هو مأخوذ من العلم أو العلامة؟

فعلى الأول يطلق على ما من شأنه العلم، فيقال عالم البشر وعالم الملائكة وعالم الجن وعالم الشياطين، وعلى الثاني يطلق على كل ما كان علامة على وجود الله سبحانه فيشمل الكائنات كلها، فإن كل ذرة في الوجود هي حجة قاطعة على وجوده سبحانه، ودليل ساطع على صفاته اللائقة بجلاله، ومن ثمَّ يقول الإِمام ابن أبي نبهان رحمهما الله: " إن كل ذرة في الوجود هي كلمة من كلمات الله سبحانه، دالة على معرفته، ناطقة بتوحيده، وما عداها فهو كالشرح لتلك الكلمة " ونظرا إلى الاختلاف في اشتقاقه كلمة " العالم " وما توحيه القرائن اختلف المفسرون في المراد بالعالمين هنا، فقيل يراد به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما رواه ابن جرير عن حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنهما وروى عنه أن المراد بالعالمين الإِنس والجن وهو محكي عن سعيد بن جبير ومجاهد واستدل له بقوله تعالى

-5-

{ تَبَارَكَ ٱلَّذِي نَزَّلَ ٱلْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان25: 1]

وقال الفراء وأبو عبيدة: يراد به العقلاء وهم أربعة أمم الإِنس والجن والملائكة والشياطين، ونسبه صاحب المنار إلى الإِمام جعفر الصادق، وأصح هذه الأقوال القول الأول لأن أحسن ما فسر به القرآن القرآن نفسه، والله تعالى يقول:

{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ *قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ.. } [الشعراء26: 23- 24]

وكل ذرة في الكون هي بحاجة إلى الرعاية والإِصلاح والتنمية من قبل الله تعالى إذ لو تخلى الله سبحانه عن أي كائن في هذا الوجود في أقل من لحظة لما قر له قرار، وتربية الله سبحانه تغمر كل كائن دقيقا كان أو جليلا وما من شيء إلا وهو ناطق بلسان حاله معلنا افتقاره إلى الله ذي الجلال، ومن هنا ساغ أن يجمع العالم - مع صدقه على ما يعقل وما لا يعقل - فيقال العالمون إذ لا فرق بين العاقل وغيره في دلالة حاله على احتياجه إلى واجب الوجود لذاته، ويرى الإمام محمد عبده تغليب العاقل على غيره لنكتة لاحظتها العرب وهي أن لفظ العالم لا يطلق على كل كائن وموجود فيقال عالم الحجر وعالم التراب وإنما يطلق على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه وإن لم تكن منه فيقال عالَم الإِنسان وعالَم الحيوان وعالَم النبات ثم قال ونحن نرى أن هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذى يعطيه لفظ رب لأن فيها مبدأها وهو الحياة والتغذي والتولد، وهذا ظاهر في الحيوان ثم حكى عن أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني أن الحيوان شجرة قطعت رجلها من الأرض فهي تمشي والشجرة حيوان ساخت رجلاه في الأرض فهو قائم في مكانه يأكل ويشرب وإن كان لا ينام ولا يغفل.


ويتضح لك مما ذكرناه سابقا أن التربية تظهر في كل شيء وليس ظهورها محصورا في الأصناف التي ذكرها الأستاذ الإِمام، وللعلماء أقوال في جمع العالَم مع أن العالَم اسم جنس يستغرق جميع أفراده من غير أن يجمع وأحسن ما يقال أنه أريد بالجمع إدخال جميع أجناس العالَم المختلفة في مدلول هذه الكلمة بينما يحصل استغراق أفراد هذه الأجناس بالتعريف إذ لو قيل رب العالَم لربما توهم أن المراد به جنس من أجناس العالَم كالبشر أو الملائكة أو الجن، أما بهذه الصيغة فلا يبقى مجال لتوهم ذلك.
-6-

وتربية الله للعالمين تنقسم إلى قسمين: تكوينية وتشريعية. فالتكوينية ظاهرة على كل شيء ولنأخذ الإِنسان مثلاً لذلك فإن الله أوجده من خلية مهينة حقيرة إذا نظرت بالمجهر لم تكد تبصر لدقتها المتناهية ولكن لم تلبث أن تطورت بأطوار تربية الله المختلفة حتى خرج منها بشر سوي سميع بصير يفكر ويقدر ويدبر ويعلم ويريد، يتميز بقدرات معنوية مع ما أوتيه من قوة حسية، أهلُّه كل ذلك للخلافة في الأرض والاضطلاع بأمانة ثقلت على السماوات والأرض والجبال فأبينَ أن يحملنها وأشفقن منها، وكل ما يسره الله سبحانه للإِنسان من قوام جسده داخل في حدود تربيته التكوينية.

وأما التربية التشريعية فالإِنسان هو المستهدف بها وإن عم أثرها غيره وهى تتمثل في رسالات الله التي بعث بها رسله المصطفين لإِخراج الناس من الظلمات إلى النور وجمع شتاتهم وتوجيه عقولهم وأفكارهم وتصفية فطرهم وطبائعهم وكما أن الخلق لا يكون إلا من الله والبشر مهما أوتوا من قوة لن يخلقوا ذبابا، فإن التشريع الصالح للإِنسانية لا يكون إلا منه سبحانه وتعالى أما التشريعات البشرية فما هي إلا مصدر شقاء الإِنسانية وبلائها إذ لا يمكن أن تؤلف بين الأجناس المختلفة في العادات والظروف ولا أن تجمع بين الرغبات المتباينة، ولا يصح أن تعتبر من التربية في شيء، وكل من تسول له نفسه فيشرع من الأحكام ما لم يأذن به الله كمن تسول له نفسه بأن يستطيع أن يشارك الله تعالى في خلقه تعالى الله عن ذلك.
-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #27  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-7 من 14

تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-7 من 14

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }


{ الْحَمْدُ للَّهِ }.

الشأن في الخطاب بأمر مهم لم يسِبق للمخاطب به خطابٌ من نوعه أنْ يُسْتأنَس له قبل إلقاء المقصود وأن يهيَّأَ لتلقيه، وأن يشوق إلى سماع ذلك وتُراضَ نفسه على الاهتمام بالعمل به ليستعد للتلقي بالتخلي عن كل ما شأنُه أن يكون عائقاً عن الانتفاع بالهدى من عناد ومكابرة أو امتلاء العقل بالأوهام الضالة، فإن النفس لا تكاد تنتفع بالعِظات والنذُر، ولا تُشرق فيها الحكمة وصحة النظر ما بقي يخالجها العناد والبهتان، وتخامر رشدها نزغات الشيطان، فلما أراد الله أن تكون هذه السورة أُولى سور الكتاب المجيد بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم آنفاً نبه الله تعالى قُراء كتابه وفاتحي مصحفه إلى أصول هذه التزكية النفسية بما لقنهم أن يبتدئوا بالمناجاة التي تضمنتها سورة الفاتحة من قوله: { إياك نعبد } إلى آخر السورة، فإنها تضمنت أصولاً عظيمة: أولها التخلية عن التعطيل والشرك بما تضمنه { إياك نعبد }. الثاني التخلي عن خواطر الاستغناء عنه بالتبرىء من الحول والقوة تجاه عظمته بما تضمنه { وإياك نستعين }. الثالث الرغبة في التحَلي بالرشد والاهتداء بما تضمنه { اهدنا الصراط المستقيم }. الرابع الرغبة في التحلي بالأسوة الحسنة بما تضمنه { صراط الذين أنعمت عليهم }. الخامس التهمم بالسلامة من الضلال الصريح بما تضمنه { غير المغضوب عليهم }. السادس التهمم بسلامة تفكيرهم من الاختلاط بشبهات الباطل المموَّه بصورة الحق وهو المسمى بالضلال لأن الضلال خطأ الطريق المقصود بما تضمنه { ولا الضالين }.

وأنت إذا افتقدت أصول نجاح المرشِد في إرشاده والمسترشد في تلقيه على كثرتها وتفاريعها وجدتها عاكفة حول هذه الأركان الستة فكن في استقصائها لبيباً. وعسى أن أزيدك من تفصيلها قريباً. وإن الذي لقن أهل القرآن ما فيه جماع طرائق الرشد بوجه لا يحيط به غير علام الغيوب لم يهمل إرشادهم إلى التحلي بزينة الفضائل وهي أن يقدروا النعمة حق قدرها بشكر المنعم بها فأراهم كيف يُتَوِّجُون مناجاتَهم بحمد واهب العقل ومانح التوفيق، ولذلك كان افتتاح كل كلام مهم بالتحميد سنة الكتاب المجيد. فسورة الفاتحة بما تقرر مُنَزَّلَةٌ من القرآن مَنْزلَة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، وهذا الأسلوب له شأن عظيم في صناعة الأدب العربي وهو أعون للفهم وأدعى للوعي.

وقد رسم أسلوب الفاتحة للمنشئين ثلاث قواعد للمقدمة: القاعدة الأولى إيجاز المقدمة لئلا تمل نفوس السامعين بطول انتظار المقصود وهو ظاهر في الفاتحة، وليكون سنة للخطباء فلا يطيلوا المقدمة كي لا ينسَبوا إلى العِي فإنه بمقدار ما تطال المقدمة يقصر الغرض، ومن هذا يظهر وجه وضعها قبل السور الطوال مع أنها سورة قصيرة. الثانية أن تشير إلى الغرض المقصود وهو ما يسمى براعة الاستهلال لأن ذلك يهيىء السامعين لسماع تفصيل ما سيرد عليهم فيتأهبوا لتلقيه إن كانوا من أهل التلقي فحسب، أو لنقده وإكماله إن كانوا في تلك الدرجة، ولأن ذلك يدل على تمكن الخطيب من الغرض وثقته بسداد رأيه فيه بحيث ينبه السامعين لوعيه، وفيه سنة للخطباء ليحيطوا بأغراض كلامهم.
-1-

وقد تقدم بيان اشتمال الفاتحة على هذا عند الكلام على وجه تسميتها أم القرآن. الثالثة أن تكون المقدمة من جوامع الكلم وقد بين ذلك علماء البيان عند ذكرهم المواضع التي ينبغي للمتكلم أن يتأنق فيها. الرابع أن تفتتح بحمد الله.

إن القرآن هدى للناس وتبياناً للأحكام التي بها إصلاح الناس في عاجلهم وآجلهم ومعاشهم ومعادهم ولما لم يكن لنفوس الأمة اعتياد بذلك لزم أن يُهَيَّأَ المخاطبون بها إلى تلقيها ويعرف تهيؤهم بإظهارهم استعداد النفوس بالتخلي عن كل ما من شأنه أن يعوق عن الانتفاع بهاته التعاليم النافعة وذلك بأن يجردوا نفوسهم عن العناد والمكابرة وعن خلط معارفهم بالأغلاط الفاقرة، فلا مناص لها قبل استقبال تلك الحكمة والنظر من الاتسام بميسم الفضيلة والتخلية عن السفاسف الرذيلة.

فالفاتحة تضمنت مناجاة للخالق جامعة التنزه عن التعطيل والإلحاد والدهرية بما تضمنه قوله: { مالك يوم الدين } ، وعن الإشراك بما تضمنه { إياك نعبد وإياك نستعين } ، وعن المكابرة والعناد بما تضمنه { اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم } فإن طلب الهداية اعتراف بالاحتياج إلى العلم، ووصف الصراط بالمستقيم اعتراف بأن من العلم ما هو حق ومنه ما هو مشوب بشُبه وغلط، ومَن اعترف بهذين الأمرين فقد أعد نفسه لاتباع أحسنهما، وعن الضلالات التي تعتري العلوم الصحيحة والشرائع الحقة فتذهب بفائدتها وتنزل صاحبها إلى دَركةٍ أقل مما وقف عنده الجاهل البسيط، وذلك بما تضمنه قوله: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } كما أجملناه قريباً، ولأجل هذا سميت هاته السورة أم القرآن كما تقدم.

ولما لُقِّن المؤمنون هاته المناجاة البديعة التي لا يهتدي إلى الإحاطة بها في كلامه غير علام الغيوب سبحانه قدم الحمد عليها ليضعه المناجون كذلك في مناجاتهم جرياً على طريقة بلغاء العرب عند مخاطبة العظماء أن يفتتحوا خطابهم إياهم وطلبتهم بالثناء والذكر الجميل. قال أمية ابن أبي الصلت يمدح عبد الله بن جُدْعان:

أَأَذْكُرُ حاجتي أَم قَدْ كفانيحَيَاؤُكَ إِنَّ شيمتَك الحَياء
إذا أَثنى عليك المرءُ يوماًكفاه عن تَعَرُّضِه الثَّناءُ


فكان افتتاح الكلام بالتحميد سنة الكتاب المجيد لكل بليغ مُجيد، فلم يزل المسلمون من يومئذٍ يُلقِّبُون كل كلام نفيس لم يشتمل في طالعه على الحمد بالأبتر أخذاً من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " كلُّ أَمْرٍ ذِي بال لا يُبْدَأ فيه بالحمدُ لله أو بالحمد فهو أقطع " وقد لُقبت خطبة زياد ابن أبي سفيان التي خطبها بالبصرة بالبتراء لأنه لم يفتتحها بالحمد، وكانت سورة الفاتحة لذلك منزَّلة من القرآن منزلة الديباجة للكتاب أو المقدمة للخطبة، ولذلك شأن مهم في صناعة الإنشاء فإن تقديم المقدمة بين يدي المقصود أعون للأَفهام وأدعى لوعيها.
-2-

و(الحمد) هو الثناء على الجميل أي الوصف الجميل الاختياري فِعْلاً كان كالكرم وإغاثة الملهوف أم غيره كالشجاعة. وقد جعلوا الثناء جنساً للحمد فهو أعم منه ولا يكون ضده. فالثناء الذكر بخير مطلقاً وشذ من قال يستعمل الثناء في الذكر مطلقاً ولو بَشرَ، ونسبا إلى ابن القطاع وغرَّه في ذلك ما ورد في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم " من أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شراً وجبت له النار " وإنما هو مجاز دعت إليه المشاكلة اللفظية والتعريض بأن من كان متكلماً في مسلم فليتكلم بثناء أو ليدَعْ، فسمَّى ذكرهم بالشر ثناء تنبيهاً على ذلك. وأما الذي يستعمل في الخير والشر فهو النثاء بتقديم النون وهو في الشر أكثر كما قيل.

وأما المدح فقد اختلف فيه فذهب الجمهور إلى أن المدح أعم من الحمد فإنه يكون على الوصف الاختياري وغيره. وقال صاحب «الكشاف» الحمد والمدح أخوان فقيل أراد أخوان في الاشتقاق الكبير نحوجَبذ وجَذب، وإن ذلك اصطلاح له في «الكشاف» في معنى أُخوة اللفظين لئلا يلزم من ظاهر كلامه أن المدح يطلق على الثناء على الجميل الاختياري، لكن هذا فهم غير مستقيم والذي عليه المحققون من شراح «الكشاف» أنه أراد من الأخوة هنا الترادف لأنه ظاهر كلامه؛ ولأنه صريح قوله في «الفائق»: «الحمد هو المدح والوصف بالجميل» ولأنه ذكر الذم نقيضاً للحمد إذ قال في «الكشاف»: «والحمد نقيضه الذم» مع شيوع كون الذم نقيضاً للمدح، وعُرفُ علماء اللغة أن يريدوا من النقيض المقابل لا ما يساوي النقيض حتى يجاب بأنه أراد من النقيض ما لا يجامع المعنى والذم لا يجامع الحمد وإن لم يكن معناه رفع معنى الحمد بل رفع معنى المدح إلا أن نفي الأعم وهو المدح يستلزم نفي الأخص وهو الحمد لأن هذا لا يقصده علماء اللغة، يعني وإن اغتفر مثله في استعمال العرب كقول زهير:

ومن يجعل المَعْروف في غير أهلهيَكُنْ حمده ذمّاً عليه ويندم


لأن كلام العلماء مبني على الضبط والتدقيق.

ثم اختلف في مراد صاحب «الكشاف» من ترادفهما هل هما مترادفان في تقييدهما بالثناء على الجميل الاختياري؟ أو مترادفان في عدم التقييد بالاختياري، وعلى الأول حمله السيد الشريف وهو ظاهر كلام سعد الدين. واستدل السيد بأنه صرح بذلك في قوله تعالى:

{ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ } [الحجرات49: 7]

إذ قال: «فإن قلت فإن العرب تمدح بالجمال وحسن الوجوه وهو مدح مقبول عند الناس، قلت الذي سوغ ذلك أنهم رأوا حسن الرواء ووسامة المنظر في الغالب يسفر عن مخبر مرضٍ وأخلاق محمودة على أن من محققة الثقات وعلماء المعاني من دفع صحة ذلك وخطأ المادح به وقصر المدح على النعت بأمهات الخير وهي كالفصاحة والشجاعة والعدل والعفة وما يتشعب عنها» ا هـ.

-3-

وعلى المحمل الثاني وهو أن يكون قُصد من الترادف إلغاء قيد الاختياري في كليهما حمله المحقق عبد الحكيم السلكوتي في «حواشي التفسير» فرضاً أو نقلاً لا ترجيحاً بناء على أنه ظاهر كلامه في «الكشاف» و«الفائق» إذ ألغى قيد الاختياري في تفسير المدح بالثناء على الجميل وجعلهما مع ذلك مترادفين.

وبهذا يندفع الإشكال عن حمدنا الله تعالى على صفاته الذاتية كالعلم والقدرة دون صفات الأفعال وإن كان اندفاعه على اختيار الجمهور أيضاً ظاهراً؛ فإن ما ورد عليهم من أن مذهبهم يستلزم أن لا يحمد الله تعالى على صفاته لأنها ذاتية فلا توصف بالاختيار إذ الاختيار يستلزم إمكان الاتصاف، وقد أجابوا عنه إما بأن تلك الصفات العلية نزلت منزلة الاختيارية لاستقلال موصوفها، وإما بأن ترتب الآثار الاختيارية عليها يجعلها كالاختيارية، وإما بأن المراد بالاختيارية أن يكون المحمود فاعلاً بالاختيار وإن لم يكن المحمود عليه اختيارياً.

وعندي أن الجواب أن نقول إن شرط الاختياري في حقيقة الحمد عند مثبته لإخراج الصفات غير الاختيارية لأن غير الاختياري فينا ليس من صفات الكمال إذ لا تترتب عليها الآثار الموجبة للحمد، فكان شرط الاختيار في حمدنا زيادة في تحقق كمال المحمود، أما عدم الاختيار المختص بالصفات الذاتية الإلٰهية فإنه ليس عبارة عن نقص في صفاته ولكنه كمال نشأ من وجوب الصفة للذات لقدم الصفة فعدم الاختيار في صفات الله تعالى زيادةٌ في الكمال لأن أمثال تلك الصفات فينا لا تكون واجبة للذات ملازمة لها فكان عدم الاختيار في صفات الله تعالى دليلاً على زيادة الكمال وفينا دليلاً على النقص، وما كان نقصاً فينا باعتبار مّا قد يكون كمالاً لله تعالى باعتبار آخر مثل عدم الولد، فلا حاجة إلى الأجوبة المبنية على التنزيل إما باعتبار الصفة أو باعتبار الموصوف، على أن توجيه الثناء إلى الله تعالى بمادة (حمد) هو أقصى ما تسمى به اللغة الموضوعة لأداء المعاني المتعارفة لدى أهل تلك اللغة، فلما طرأت عليهم المدارك المتعلقة بالحقائق العالية عبر لهم عنها بأقصى ما يقربها من كلامهم.

(الحمد) مرفوع بالابتداء في جميع القراءات المروية وقوله (لله) خبره فلام (لله) متعلق بالكون والاستقرار العام كسائر المجرورات المخبر بها وهو هنا من المصادر التي أتت بدلاً عن أفعالها في معنى الإخبار، فأصله النصب على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فعله وتقدير الكلام نحمد حمداً لله، فلذلك التزموا حذف أفعالها معها. قال سيبويه هذا باب ما ينصب من المصادر على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره وذلك قولك سقياً ورعياً وخيبةً وبؤساً، والحذرَ بدلاً عن احذر فلا يحتاج إلى متعلق وأما قولهم سقياً لك نحو:

-4-

سقْياً وَرعْياً لذاك العاتبِ الزَّارِي


فإنما هو ليبينوا المعنيَّ بالدعاء. ثم قال بعد أبواب: هذا باب ما ينتصب على إضمار الفعل المتروك إظهاره من المصادر في غير الدعاء، من ذلك قولك حمداً وشُكراً لا كفراً وعَجباً، فإنما ينتصب هذا على إضمار الفعل كأنك قلت أحمد الله حمداً وإنما اختُزِل الفعل هٰهنا لأنهم جعلوا هذا بدلاً من اللفظ بالفعل كما فعلوا ذلك في باب الدعاء وقد جاء بعض هذا رفعاً يُبتدأ به ثم يبنى عليه (أي يخبر عنه) ثم قال بعد باب آخر: هذا باب يختار فيه أن تكون المصادر مبتدأة مبنياً عليها ما بعدَها، وذلك قولك { الحمد لله } ، والعجبُ لك، والويل له، وإنما استحبوا الرفع فيه لأنه صار معرفة وهو خبر (أي غير إنشاء) فقوي في الابتداء (أي إنه لما كان خبراً لا دعاء وكان معرفة بأَلْ تهيأت فيه أسباب الابتداء لأن كونه في معنى الإخبار يهّيىء جانب المعنى للخبرية وكونه معرفة يصحح أن يكون مبتدأ) بمنزلة عبد الله، والرجل، والذي تَعْلم (من المعارف) لأن الابتداء إنما هو خبر وأحسنه إذا اجتمع معرفة ونكرة أن تبدأ بالأعرف وهو أصل الكلام. وليس كل حرف (أي تركيب) يصنع به ذاك، كما أنه ليس كل حرف (أي كلمة من هذه المصادر) يدخل فيه الألف واللام، فلو قلت السقي لك والرعي لك لم يجز (يعني يقتصر فيه على السماع). واعلم أن { الحمدُ لله } وإن ابتدأْتَه ففيه معنى المنصوب وهو بدل من اللفظ بقولك أحمد الله. وسمعنا ناساً من العرب كثيراً يقولون: الترابَ لك والعجبَ لك، فتفسير نصب هذا كتفسيره حيث كان نكرة، كأنك قلت حمداً وعجباً، ثم جئت (بِلَك) لتبين من تعني ولم تجعله مبنياً عليه فتبتدئه». انتهى كلام سيبويه باختصار. وإنما جلبناه هنا لأنه أفصح كلام عن أطوار هذا المصدر في كلام العرب واستعمالهم، وهو الذي أشار له صاحب «الكشاف» بقوله: «وأصله النصب بإضمار فعله على أنه من المصادر التي ينصبها العرب بأفعال مضمرة في معنى الإخبار كقولهم شكراً، وكفراً، وعجباً، ينزلونها منزلة أفعالها ويسدون بها مسدها، ولذلك لا يستعملونها معها والعدول بها عن النصب إلى الرفع على الابتداء للدلالة على ثبات المعنى» الخ.

ومن شأن بلغاء العرب أنهم لا يعدلون عن الأصل إلا وهم يرمون إلى غرض عدلوا لأجله، والعدول عن النصب هنا إلى الرفع ليتأتى لهم الدلالةُ على الدوام والثبات بمصير الجملة اسمية؛ والدلالةُ على العموم المستفاد في المقام من أل الجنسية، والدلالةُ على الاهتمام المستفاد من التقديم. وليس واحد من هذه الثلاثة بممكن الاستفادة لو بقي المصدر منصوباً إذ النصب يدل على الفعل المقدر والمقدر كالملفوظ فلا تكون الجملة اسمية إذ الاسم فيها نائب عن الفعل فهو ينادي على تقدير الفعل فلا يحصل الدوام.
-5-

ولأنه لا يصح معه اعتبار التقديم فلا يحصل الاهتمام. ولأنه وإن صح اجتماع الألف واللام مع النصب كما قرىء بذلك وهي لغة تميم كما قال سيبويه فالتعريف حينئذٍ لا يكون دالاً على عموم المحامد لأنه إن قدر الفعل أَحمدُ بهمزة المتكلم فلا يعم إلا تحميدات المتكلم دون تحميدات جميع الناس، وإن قدر الفعل نحمد وأريد بالنون جميع المؤمنين بقرينة { اهدنا الصراط المستقيم } وبقرينة { إياك نعبد } فإنما يعم محامد المؤمنين أو محامد الموحدين كلهم، كيف وقد حمد أهل الكتاب الله تعالى وحمده العرب في الجاهلية. قال أمية بن أبي الصلت:

الحمد لله حمداً لا انقطاعَ لهفليس إحسانُه عنا بمقطوع


أما إذا صار الحمد غير جار على فعل فإنه يصير الإخبار عن جنس الحمد بأنه ثابت لله فيعم كل حمد كما سيأتي. فهذا معنى ما نُقل عن سيبويه أنه قال: إن الذي يَرْفع الحمدَ يُخبرُ أنَّ الحمدَ منه ومن جميع الخلق والذي ينصب يُخبرُ أن الحمد منه وحدَه لله تعالى.

واعلم أن قراءة النصب وإن كانت شاذة إلا أنها مجدية هنا لأنها دلت على اعتبار عربي في تطور هذا التركيب المشهور، وأَن بعض العرب نطقوا به في حال التعريف ولم ينسوا أصل المفعولية المطلقة. فقد بان أن قوله { الحمد لله } أبلغ من { الحمدَ لله } بالنصب، وأنَّ { الحمدَ لله } بالنصب والتعريف أبلغ من حمداً لله بالتنكير. وإنما كان { الحمد لله } بالرفع أبلغ لأنه دال على الدوام والثبات. قال في «الكشاف»: «إن العدول عن النصب إلى الرفع للدلالة على ثبات المعنى واستقراره ومنه قوله تعالى:

{ فَقَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ } [الذاريات51: 25]

رفع السلام الثاني للدلالة على أن إبراهيم عليه السلام حيّاهم بتحيّة أحسنَ من تحيّتهم» ا هـ.


فإن قلت وقع الاهتمام بالحمد مع أن ذكر اسم الله تعالى أهم فكان الشأن تقديم اسم الله تعالى وإبقاء الحمد غير مهتم به حتى لا يلجأ إلى تغييره عن النصب إلى الرفع لأجل هذا الاهتمام، قلت: قدم الحمد لأن المقام هنا مقام الحمد إذ هو ابتداء أَوْلى النعم بالحمد وهي نعمة تنزيل القرآن الذي فيه نجاح الدارين، فتلك المنة من أكبر ما يحمد الله عليه من جلائل صفات الكمال لا سيما وقد اشتمل القرآن على كمال المعنى واللفظ والغاية فكان خطوره عند ابتداء سماع إنزاله وابتداء تلاوته مذكراً بما لمنزِّله تعالى من الصفات الجميلة، وذلك يذكِّر بوجوب حمده وأن لا يُغفل عنه فكان المقام مقام الحمد لا محالة، فلذلك قدم وأزيل عنه ما يؤذن بتأخره لمنافاته الاهتمام، ثم إن ذلك الاهتمام تأتَّى به اعتبار الاهتمام بتقديمه أيضاً على ذكر الله تعالى اعتداداً بأهمية الحمد العارضةِ في المقام وإن كان ذكر الله أهمَّ في نفسه لأن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لأنها أمر يقتضيه المقام والحال والآخر يقتضيه الواقع، والبلاغة هي المطابقة لمقتضى الحال والمقامِ، ولأن ما كان الاهتمام به لعارض هو المحتاج للتنبيه على عارضه إذ قد يخفى، بخلاف الأمر المعروف المقرر فلا فائدة في التنبيه عليه بل ولا يفيته التنبيه على غيره.
-6-

فإن قلت كيف يصح كون تقديم الحمد وهو مبتدأ مؤذناً بالاهتمام مع أنه الأصل، وشأن التقديم المفيد للاهتمام هو تقديم ما حقه التأخير؟

قلت لو سلم ذلك فإن معنى تقديمه هو قصد المتكلم للإتيان به مقدماً مع إمكان الإتيان به مؤخراً؛ لأن للبلغاء صيغتين متعارفتين في حمد الله تعالى إحداهما { الحمدُ الله } كما في الفاتحة والأخرى

{ فَلِلَّهِ الْحَمْدُ } كما في سورة (الجاثية45: 36).


وأما قصد العموم فسيتضح عند بيان معنى التعريف فيه.

والتعريف فيه بالألف واللام تعريف الجنس لأن المصدر هنا في الأصل عوض عن الفعل فلا جرم أن يكون الدال على الفعل والساد مسده دالاً على الجنس فإذا دخل عليه اللام فهو لتعريف مدلوله لأن اللام تدل على التعريف للمسمى فإذا كان المسمى جنساً فاللام تدل على تعريفه. ومعنى تعريف الجنس أن هذا الجنس هو معروف عند السامع فإذا قلت: الحمد لله أو العجب لك فكأنك تريد أن هذا الجنس معروف لديك ولدى مخاطبك لا يلتبس بغيره كما أنك إذا قلت الرجل وأردت معيناً في تعريف العهد النحوي فإنك تريد أن هذا الواحد من الناس معروف بينك وبين مخاطبك فهو في المعنى كالنكرة من حيث إن تعريف الجنس ليس معه كبير معنى إذ تعين الجنس من بين بقية الأجناس حاصل بذكر لفظه الدال عليه لغة وهو كاف في عدم الدلالة على غيره، إذ ليس غيره من الأجناس بمشارك له في اللفظ ولا متوهم دخوله معه في ذهن المخاطب بخلاف تعريف العهد الخارجي فإنه يدل على واحد معين بينك وبين مخاطبك من بين بقية أفراد الجنس التي يشملها اللفظ، فلا يفيد هذا التعريف أعني تعريف الجنس إلا توكيد اللفظ وتقريره وإيضاحه للسامع؛ لأنك لما جعلته معهوداً فقد دللت على أنه واضح ظاهر، وهذا يقتضي الاعتناء بالجنس وتقريبه من المعروف المشهور، وهذا معنى قول صاحب «الكشاف»: «وهو نحو التعريف في أُرسلَها العِراكَ ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد من أن الحمد ما هو والعراك ما هو من بين أجناس الأفعال» وهو مأخوذ من كلام سيبويه.

وليست لام التعريف هنا للاستغراق لما علمت أنها لام الجنس ولذلك قال صاحب «الكشاف»: «والاستغراق الذي توهمه كثير من الناس وهم منهم» غير أن معنى الاستغراق حاصل هنا بالمثال لأن الحكم باختصاص جنس الحمد به تعالى لوجود لام تعريف الجنس في قوله: { الحمد } ولام الاختصاص في قوله: { لله } يستلزم انحصار أفراد الحمد في التعلق باسم الله تعالى لأنه إذا اختص الجنسُ اختصت الأفراد؛ إذ لو تحقق فرد من أفراد الحمد لغير الله تعالى لتحقق الجنس في ضمنه فلا يتم معنى اختصاص الجنس المستفاد من لام الاختصاص الداخلة على اسم الجلالة، ثم هذا الاختصاص اختصاص ادعائي فهو بمنزلة القصر الادعائي للمبالغة.
-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #28  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 8-14 من 14

تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 8-14 من 14

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

واللام في قوله تعالى: { للَّه } يجوز أن يكون للاختصاص على أنه اختصاص ادعائي كما مر، ويجوز أن يكون لام التقوية قوت تعلق العامل بالمفعول لضعف العامل بالفرعية وزاده التعريف باللام ضعفاً لأنه أبعدَ شبهه بالأفعال، ولا يفوت معنى الاختصاص لأنه قد استفيد من تعريف الجزأين.

هذا وقد اختلف في أن جملة (الحمد) هل هي خبر أو إنشاء؟ فإن لذلك مزيد تعلق بالتفسير لرجوعه إلى المعنى بقول القائل: (الحمد لله).

وجماع القول في ذلك أن الإنشاء قد يحصل بنقل المركب من الخبرية إلى الإنشاء وذلك كصيغ العقود مثل بعت واشتريت، وكذلك أفعال المدح والذم والرجاء كعسى ونعم وبئس وهذا الأخير قسمان منه ما استعمل في الإنشاء مع بقاء استعماله في الخبر ومنه ما خص بالإنشاء فالأول كصيغ العقود فإنها تستعمل أخباراً تقول بعت الدار لزيد التي أخبرتك بأنه ساومني إياها فهذا خبر، وتقول بعت الدار لزيد أو بعتك الدار بكذا فهذا إنشاء بقرينة أنه جاء للإشهاد أو بقرينة إسناد الخبر للمخاطب مع أن المخبر عنه حال من أحواله، والثاني كنعم وعسى.

فإذا تقرر هذا فقد اختلف العلماء في أن جملة { الحمد لله } هل هي إخبار عن ثبوت { الحمد لله } أو هي إنشاء ثناء عليه إلى مذهبين، فذهب فريق إلى أنها خبر، وهؤلاء فريقان منهم من زعم أنها خبر باق على الخبرية ولا إشعار فيه بالإنشائية، وأورد عليه أن المتكلم بها لا يكون حامداً لله تعالى مع أن القصد أنه يثني ويحْمد الله تعالى، وأجيب بأن الخبر بثبوت الحمد له تعالى اعتراف بأنه موصوف بالجميل إذ الحمد هو عين الوصف بالجميل، ويكفي أن يحصل هذا الوصف من الناس وينقله المتكلم. ويمكن أن يجاب أيضاً بأن المخبر داخل في عموم خبره عند الجمهور من أهل أصول الفقه. وأجيب أيضاً بأن كون المتكلم حامداً قد يحصل بالالتزام من الخبر يريدون أنه لازم عرفي لأن شأن الأمر الذي تضافر عليه الناس قديماً أن يقتدي بهم فيه غيرهم من كل من علمه، فإخبار المتكلم بأنه علم ذلك يدل عرفاً على أنه مقتد بهم في ذلك هذا وجه اللزوم، وقد خفي على كثير أي فيكون مثل حصول لازم الفائدة من الخبر المقررة في علم المعاني، مثل قولك: سهرتَ الليلة وأنت تريد أنك علمتَ بسهره، فلا يلزم أن يكون ذلك إنشاء لأن التقدير على هذا القول أن المتكلم يخبر عن كونه حامداً كما يخبر عن كون جميع الناس حامدين فهي خبر لا إنشاء والمستفاد منها بطريق اللزوم معنى إخباري أيضاً.

-8-

ويرد على هذا التقدير أيضاً أن حمد المتكلم يصير غير مقصود لذاته بل حاصلاً بالتبع مع أن المقام مقام حمد المتكلم لا حمد غيره من الناس، وأجيب بأن المعنى المطابقي قد يؤتى به لأجل المعنى الالتزامي لأنه وسيلة له، ونظيره قولهم طويل النجاد والمرادُ طول القامة فإن طول النجاد أتى به ليدل على معنى طول القامة.

وذهب فريق ثان إلى أن جملة { الحمد لله } هي خبر لا محالة إلا أنه أريد منه الإنشاء مع اعتبار الخبرية كما يراد من الخبر إنشاء التحسر والتحزن في نحو:

{ إني وضعتُها أنثى } [آل عمران3: 36]

وقول جعفر بن عُلْبة الحارثي:

هوايَ مع الركْبِ اليمانين مُصِعدُ


فيكون المقصد الأصلي هو الإنشاء ولكن العدولَ إلى الإخبار لما يتأتى بواسطة الإخبار من الدلالة على الاستغراق والاختصاص والدوام والثبات ووجه التلازم بين الإخبار عن حمد الناس وبين إنشاء الحمد واضح مما علمته في وجه التلازم على التقرير الأول، بل هو هنا أظهر لأن المخبر عن حمد الناس لله تعالى لا جَرَم أنه منشىء ثناء عليه بذلك، وكونُ المعنى الالتزامي في الكناية هو المقصود دون المعنى المطابقي أظهر منه في اعتبار الخبرية المحضة لما عهد في الكناية من أنها لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة الأصل معه، فدل على أن المعنى الأصلي إما غير مراد أو مراد تبعاً لأن (مع) تدخل على المتبوع.

المذهب الثاني أن جملة { الحمد لله } إنشاء محض لا إشعار له بالخبرية، على أنها من الصيغ التي نقلتْها العرب من الإخبار إلى إنشاء الثناء كما نقلتْ صيغَ العقود وأفعالَ المدح والذم أي نقلاً مع عدم إماتة المعنى الخبري في الاستعمال، فإنك قد تقول الحمد لله جواباً لمن قال: لمن الحمدُ؟ أو من أَحمد؟ ولكنَّ تعهد المعنى الأصلي ضعيف فيحتاج إلى القرينة. والحق الذي لا محيد عنه أن الحمد لله خبر مستعمل في الإنشاء فالقصد هو الإنشائية لا محالة، وعدل إلى الخبرية لتحمل جملة الحمد من الخصوصيات ما يناسب جلالة المحمود بها من الدلالة على الدوام والثبات والاستغراق والاختصاص والاهتمام، وشيءٌ من ذلك لا يمكن حصوله بصيغةِ إنشاءٍ نحو حمداً لله أو أحمد الله حمداً ومما يدل على اعتبار العرب إياها إنشاء لا خبراً قول ذي الرمة:

ولما جَرَتْ في الجزل جرياً كأنَّهسنا الفجر أَحْدَثْنا لخالقها شكرا


فعبر عن ذكر لفظ الحمد أو الشكر بالإحداث، والإحداث يرادف الإنشاء لغة فقوله أحدثنا خبر حكى به ما عبر عنه بالإحداث وهو حَمْده الواقع حين التهابها في الحطب.

-9-

والله هو اسم الذاتِ الواجبِ الوجود المستحق لجميع المحامد. وأصل هذا الاسم الإلٰه بالتعريف وهو تعريف إلاه الذي هو اسم جنس للمعبود مشتق من أَلَهَ بفتح اللام بمعنى عبد، أو من ألِه بكسر اللام بمعنى تحير أو سكن أو فزع أو ولع مما يرجع إلى معنى هو ملزوم للخضوع والتعظيم فهو فِعال بكسر الفاء بمعنى مفعول مثل كتاب، أطلقه العرب على كل معبود من أصنامهم لأنهم يرونها حقيقةً بالعبادة ولذلك جمعوه على آلهة بوزن أَفعلة مع تخفيف الهمزة الثانية مَدَّةً، وأحسب أن اسمه تعالى تقرر في لغة العرب قبل دخول الإشراك فيهم فكان أصل وضعه دالاً على انفراده بالألوهية إذ لا إلٰه غيره فلذلك صار علماً عليه، وليس ذلك من قبيل العلمَ بالغلبة بل من قبيل العلم بالانحصار مثل الشمس والقمر فلا بدع في اجتماع كونه اسمَ جنس وكونه علماً، ولذلك أرادوا به المعبود بحق رداً على أهل الشرك قبل دخول الشرك في العرب وإننا لم نقف على أن العرب أطلقوا الإلٰه معرَّفاً باللام مفرداً على أحد أصنامهم وإنما يضيفون فيقولون إلاه بني فلان والأكثر أن يقولوا: رَب بني فلان أو يجمعون كما قالوا لعبد المطلب: أَرْضِ الآلهةَ، وفي حديث فتح مكة: «وجد رسول الله البيتَ فيه الآلهة». فلما اختص الإلٰه بالإلٰه الواحد واجبِ الوجود اشتقوا له من اسم الجنس علماً زيادة في الدلالة على أنه الحقيق بهذا الاسم ليصير الاسم خاصاً به غير جائز الإطلاق على غيره سَنن الأعلام الشخصية، وأَراهم أبدعوا وأَعجبوا إذ جعلوا علم ذاته تعالى مشتقاً من اسم الجنس المؤذن بمفهوم الألوهية تنبيهاً على أن ذاته تعالى لا تستحضر عند واضع العَلَم وهو الناطق الأول بهذا الاسم من أهل اللسان إلا بوصف الألوهية وتنبيهاً على أنه تعالى أَوْلى من يُؤَلَّه ويُعبد لأنه خالق الجميع فحذفوا الهمزة من الإلٰه لكثرة استعمال هذا اللفظ عند الدلالة عليه تعالى كما حذفوا همزة الأناس فقالوا: النَّاس؛ ولذلك أظهروها في بعض الكلام. قال البَعِيث بن حُرَيث.

معَاذَ الإلٰهِ أَنْ تكون كظبيةٍولا دُميةٍ ولا عقيلةِ رَبْرَب


كما أظهروا همزة الأناس في قول عَبيد بن الأبرص الأسدي:

إن المنَايَا ليطَّلِعْــنَ على الأناس الآمِنِينَ


ونُزِّل هذا اللفظ في طوره الثالث منزلة الأعلام الشخصية فتصرفوا فيه هذا التصرف لينتقلوا به إلى طَور جديد فيجعلُوه مثل علم جديد، وهذه الطريقة مسلوكة في بعض الأعلام. قال أبو الفتح بن جني في شرح قول تأبط شرا في النشيد الثالث عشر من «الحماسة»:

إِني لمُهْدٍ من ثَنائي فقَاصِدٌبه لابن عم الصدق شُمْسِ بن مَالك


شُمس بضم الشين وأصله شَمس بفتحها كما قالوا حُجْر وسُلْمَى فيكون مما غُير عن نظائره لأجْل العلمية ا هـ.

-10-

وفي «الكشاف» في تفسير سورة أبي لهب بعد أن ذكر أن من القراء من قرأ (أبي لهْبٍ) بسكون الهاء ما نصه وهي من تغيير الأعلام كقولهم شُمْس بن مالك بالضم ا هـ. وقال قبله: «ولفُلَيْتَه بن قاسم أمير مكة ابنان أحدهما عبدِ الله بالجر، والآخر عبدَ الله بالنصب، وكان بمكة رجل يقال له عبدِ الله لا يعرف إلا هكذا» ا هـ. يعني بكسر دال عبد في جميع أحوال إعرابه، فهو بهذا الإيماء نوع مخصوص من العَلَم، وهو أنه أقوى من العلم بالغلَبة لأن له لفظاً جديداً بعد اللفظ المغلَّب. وهذه الطريقة في العلمية التي عرضت لاسم الجلالة لا نظير لها في الأعلام فكان اسمه تعالى غيرَ مشابه لأسماء الحوادث كما أن مسمى ذلك الاسمِ غير مماثل لمسميات أسماء الحوادث. وقد دلوا على تناسيهم ما في الألف واللام من التعريف وأنهم جعلوهما جزءاً من الكلمة بتجويزهم ندَاء اسم الجلالة مع إبقاء الألف واللام إذ يقولون يا الله مع أنهم يمنعون نداء مدخول الألف واللام.

وقد احتج صاحب «الكشاف» على كون أصله الإلٰه ببيت البعيث المقدم، ولم يقررْ ناظروه وجه احتجاجه به، وهو احتجاج وجيه لأن مَعَاذ من المصادر التي لم ترد في استعمالهم مضافة لغير اسم الجلالة، مثل سبحان فأجريت مُجرى الأمثال في لزومها لهاته الإضافة، إذ تقول معاذالله فلما قال الشاعر معاذ الإلٰه وهو من فصحاء أهل اللسان علمنا أنهم يعتبرون الإلٰه أصلاً للفظ الله، ولذلك لم يكن هذا التصرف تغييراً إلا أنه تصرف في حروف اللفظ الواحد كاختلافِ وجوه الأداء مع كون اللفظ واحداً، ألا ترى أنهم احتجوا على أن لاَه مخفف الله بقول ذي الأَصبع العَدْواني:

لاَه ابنُ عمِّكَ لا أُفْضِلْتَ في حَسَبٍعنّى ولا أنتَ ديَّانِي فتَخْزُوني


وبقولهم لاَه أبوكَ لأن هذا مما لزم حالة واحدة، إذ يقولون لله أبوك ولله ابن عمك ولله أنتَ.

وقد ذُكِرتْ وجوه أخر في أصل اسم الجلالة: منها أن أصله لاَهٌ مصدر لاه يليه ليهاً إذا احتجب سمي به الله تعالى، ثم أدخلت عليه الألف واللام للمح الأصل كالفضل والمَجد اسمين، وهذا الوجه ذكر الجوهري عن سيبويه أنه جوزه. ومنها أن أصله وِلاَهٌ بالواو فِعال بمعنى مفعول من وله إذا تحيَّر، ثم قلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها، كما قلبت في إعاء وإشاح، أي وِعاء ووشاح، ثم عرف بالألف واللام وحذفت الهمزة. ومنها أن أصله (لاَها) بالسريانية علم له تعالى فعرب بحذف الألف وإدخال اللام عليه. ومنها أنه علم وضع لاسم الجلالة بالقصد الأوَّلِي من غير أخذ من أَلِهَ وتصييرِه الإلٰه فتكون مقاربته في الصورة لقولنا الإلٰه مقاربةً اتفاقيةً غير مقصودة، وقد قال بهذا جمع منهم الزجاج ونسب إلى الخليل وسيبويه، ووجَّهه بعض العلماء بأن العرب لم تهمل شيئاً حتى وضعت له لفظاً فكيف يتأتى منهم إهمال اسم له تعالى لتجري عليه صفاته.
-11-

وقد التُزم في لفظ الجلالة تفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبل لفظه وحاول بعض الكاتبين توجيه ذلك بما لا يسلَم من المنع، ولذلك أبَى صاحب «الكشاف» التعريج عليه فقال: «وعلى ذلك (أي التفخيم) العرب كلهم، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابراً عن كابر».

وإنما لم يقدم المسند المجرور وهو متضمن لاسم الجلالة على المسند إليه فيقال: لله الحمد، لأن المسند إليه حَمْد على تنزيل القرآن والتشرف بالإسلام وهما منة من الله تعالى فحمده عليهما عند ابتداء تلاوة الكتاب الذي به صلاح الناس في الدارين فكان المقام للاهتمام به اعتباراً لأهمية الحمد العارضة، وإن كان ذكر الله أهم أصالة فإن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لاقتضاء المقام والحالِ، والبلاغة هي المطالبة لمقتضى الحال، على أن الحمد لما تعلق باسم الله تعالى كان في الاهتمام به اهتمام بشؤون الله تعالى.

ومن أعجب الآراء ما ذكره صاحب «المنهل الأصفى في شرح الشفاء» التلمساني عن جمع من العلماء القول بأن اسم الجلالة يمسك عن الكلام في معناه تعظيماً وإجلالاً ولتوقف الكلام فيه على إذن الشارع.

{ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }.

وصف لاسم الجلالة فإنه بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيهاً على الاستحقاق الذاتي، عقبَ بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقاً به أيضاً لأن وصف المتعلَّق متعلَّق أيضاً، فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال:

{ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [المطففين83: 6]

ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضاً للحمد كما استحقه بذاته.


وقد أجرى عليه أربعة أوصاف هي: رب العالمين، الرحمٰن، الرحيم، مالك يوم الدين، للإيذان بالاستحقاق الوصفي فإن ذكر هذه الأسماء المشعرة بالصفات يؤذن بقصد ملاحظة معانيها الأصلية، وهذا من المستفادات من الكلام بطريق الاستتباع لأنه لما كان في ذكر الوصف غنية عن ذكر الموصوف لا سيما إذا كان الوصف منزلاً منزلة الاسم كأوصافه تعالى وكان في ذكر لفظ الموصوف أيضاً غُنية في التنبيه على استحقاق الحمد المقصود من الجملة عَلمنا أن المتكلم ما جمع بينهما إلا وهو يشير إلى أن كِلاَ مَدلُولَيْ الموصوف والصفة جدير بتعلق الحمد له مع ما في ذكر أوصافه المختصة به من التذكير بما يُميزه عن الآلٰهة المزعومة عند الأمم من الأصنام والأوثان والعناصر كما سيأتي عند قوله تعالى: { مالك يوم الدين }.

والرب إما مصدر وإما صفة مشبهة على وزن فَعْل مِنْ رَبَّه يَرُبُّه بمعنى رباه وهو رَب بمعنى مُرَبَ وسائس. والتربية تبليغ الشيء إلى كماله تدريجاً، ويجوز أن يكون من ربه بمعنى ملَكَه، فإن كان مصدراً على الوجهين فالوصف به للمبالغة، وهو ظاهر، وإن كان صفة مشبهة على الوجهين فهي واردة على القليل في أوزان الصفة المشبهة فإنها لا تكون على فَعْل من فعَل يفعُل إلا قليلاً، من ذلك قولهم نمّ الحديث ينُمُّه فهو نَمٌّ للحديث.
-12-

والأظهر أنه مشتق من ربَّه بمعنى رباه وساسه، لا من ربه بمعنى ملكه لأن الأول الأنسب بالمقام هنا إذ المراد أنه مدبر الخلائق وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها، ولأنه لو حمل على معنى المالك لكان قوله تعالى بعد ذلك { مالك يوم الدين } كالتأكيد والتأكيد خلاف الأصل ولا داعي إِليه هنا، إلا أن يجاب بأن العالمين لا يشمل إلا عوالم الدنيا، فيحتاج إلى بيان أنه ملك الآخرة كما أنه ملك الدنيا، وإن كان الأكثر في كلام العرب ورود الرب بمعنى الملك والسيد وذلك الذي دعا صاحب «الكشاف» إلى الاقتصار على معنى السيد والملك وجوز فيه وجهي المصدرية والصفة، إلا أن قرينة المقام قد تصرف عن حمل اللفظ على أكثر موارده إلى حمله على ما دونه فإن كلا الاستعمالين شهير حقيقي أو مجازي والتبادر العارض من المقام المخصوص لا يقضي بتبادر استعماله في ذلك المعنى في جميع المواقع كما لا يخفي. والعرب لم تكن تخص لفظ الرب به تعالى لا مطلقاً ولا مقيداً لما علمت من وزنه واشتقاقه. قال الحرث بن حلزة:

وهُوَ الرب والشهيدُ على يوم الحِيارَيْن والبلاء بلاء


يعني عَمْرو بن هند. وقال النابغة في النعمان بن الحارث:

تخُبُّ إلى النعمان حتى تنالهفِدًى لك من ربٍّ طرِيفي وتالدي


قال في النعمان بن المنذر حين مرض:

ورَبٌّ عليه الله أحسن صنعهوكان له على البرية ناصرا


وقال صاحب «الكشاف» ومن تابعه: إنه لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً أو لم يأتوا على ذلك بسند وقد رأيتَ أن الاستعمال بخلافه، أما إطلاقه على كل من آلهتهم فلا مرية فيه كما قال غاوي بن ظالم أو عباس بن مرداس:

أَرَبٌّ يبولُ الثُّعْلُبَانُ برأْسِهلقد هان من بالت عليه الثعالبُ


وسموا العزى الرَّبة. وجمْعه على أرباب أدل دليل على إطلاقه على متعدد فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى؟ وأما إطلاقه مضافاً أو متعلقاً بخاص فظاهر وروده بكثرة نحو رب الدار ورب الفرس ورب بني فلان.

وقد ورد الإطلاق في الإسلام أيضاً حين حكى عن يوسف عليه السلام قوله:

{ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [يوسف12: 23]

إذا كان الضمير راجعاً إلى العزيز وكذا قوله:

{ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ } [يوسف12: 39]

فهذا إطلاق للرب مضافاً وغير مضاف على غير الله تعالى في الإسلام لأن اللفظ عربي أطلق في الإسلام، وليس يوسفُ أطلَقَ هذا اللفظ بل أطلق مرادفه فلو لم يصح التعبير بهذا اللفظ عن المعنى الذي عبر به يوسف لكان في غيره من ألفاظ العربية مَعْدَل، إنما ورد في الحديث النهي عن أن يقول أحد لسيده ربي وليقل سيدي، وهو نهي كراهة للتأديب ولذلك خص النهي بما إذا كان المضاف إليه ممن يعبد عرفاً كأسماء الناس لدفع تهمة الإشراك وقطع دابره وجوزوا أن يقول رب الدابة ورب الدار، وأما بالإطلاق فالكراهة أشد فلا يقل أحد للملك ونحوه هذا رب.

-13-

و(العالمين) جمع عالم قالوا ولم يجمع فاعَلٌ هذا الجمع إلا في لفظين عالَم وياسم، اسم للزهر المعروف بالياسمين، قيل جمعوه على يَاسَمُون وياسَمِين قال الأعشى:

وقابَلَنَا الجُلُّ والياسمــونَ والمُسْمِعات وقَصَّابها


والعالم الجنس من أجناس الموجودات، وقد بنته العرب على وزن فاعل بفتح العين مشتقاً من العِلْم أو من العلامة لأن كل جنس له تميز عن غيره فهو له علامة، أو هو سببُ العلم به فلا يختلط بغيره. وهذا البناء مختص بالدلالة على الآلة غالباً كخاتم وقالب وطابع فجعلوا العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصانع، أو العلم بالحقائق. ولقد أبدع العرب في هذه اللطيفة إذ بنوا اسم جنس الحوادث على وزن فاعل لهذه النكتة، ولقد أبدعوا إذ جمعوه جمع العقلاء مع أن منه ما ليس بعاقل تغليباً للعاقل.

وقد قال التفتزاني في «شرح الكشاف»: «العالم اسم لذوي العلم ولكل جنس يعلم به الخالق، يقال عالم الملك، عالم الإنسان، عالم النبات يريد أنه لا يطلق بالإفراد إلا مضافاً لنوع يخصصه يقال عالم الإنس عالم الحيوان، عالم النبات وليس اسماً لمجموع ما سواه تعالى بحيث لا يكون له إجراء فيمتنع جمعه» وهذا هو تحقيق اللغة فإنه لا يوجد في كلام العرب إطلاق عالم على مجموع ما سوى الله تعالى، وإنما أطلقه على هذا علماء الكلام في قولهم العالم حادث فهو من المصطلحات.

والتعريف فيه للاستغراق بقرينة المقام الخطابي فإنه إذا لم يكن عهد خارجي ولم يكن معنى للحمل على الحقيقة ولا على المعهود الذهني تمحض التعريف للاستغراق لجميع الأفراد دفعاً للتحكم فاستغراقه استغراق الأجناس الصادق هو عليها لا محالة وهو معنى قول صاحب «الكشاف»: «ليشمل كل جنس مما سُمِّي به» إلا أن استغراق الأجناس يستلزم استغراق أفرادها استلزاماً واضحاً إذ الأجناس لا تقصد لذاتها لا سيما في مقام الحكم بالمربوبية عليها فإنه لا معنى لمربوبية الحقائق.

وإنما جمع العالم ولم يُؤت به مفرداً لأن الجمع قرينة على الاستغراق، لأنه لو أُفرد لتوهم أن المراد من التعريف العهد أو الجنس فكان الجمع تنصيصاً على الاستغراق، وهذه سنة الجموع مع (ال) الاستغراقية على التحقيق، ولما صارت الجمعية قرينة على الاستغراق بطل منها معنى الجماعات فكان استغراق الجموع مساوياً لاستغراق المفردات أو أشمل منه. وبطل ما شاع عند متابعي السكاكي من قولهم استغراق المفرد أشْمَل كما سنبينه عند قوله تعالى:

{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } [البقرة2: 31].
-14-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #29  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق

تفسير أضواء البيان في تفسير القرآن/ الشنقيطي (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق



{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }


قوله تعالى: { الْحَمْدُ للهِ }.

لم يذكر لحمده هنا ظرفاً مكانياً ولا زمانياً. وذكر في سورة الروم أن من ظروفه المكانية: السماوات والأرض في قوله:

{ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الروم30: 18] الآية -

وذكر في سورة القصص أن من ظروفه الزمانية: الدنيا والآخرة في قوله:

{ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } [سبأ34: 1]

والألف واللام في { الْحَمْدُ } لاستغراق جميع المحامد. وهو ثناء أثنى به تعالى على نفسه وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه به.


وقوله تعالى: { رَبِّ الْعَالَمِينَ }.

لم يبين هنا ما العالمون، وبين ذلك في موضع آخر بقوله:


قال بعض العلماء: اشتقاق العالم من العلامة، لأن وجود العالم علامة لا شك فيها على وجود خالقه متصفاً بصفات الكمال والجلال. قال تعالى
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #30  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-5

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-5

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }


قوله جل اسمه:

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ }

قيل: الحمْد والمدح والشكر ألفاظ متقاربة المعنى. كما انّ مقابلاتها وهي الذمّ والهجاء والكُفران كذلك. وقيل: الأولان مترادفان. وقيل: بل الحمدُ أخصّ منه لأنّه مختصٌّ بالإختياري. وقيل: الأخيران مترادفان. فيقال: الحمد لله شكراً. فنصبه على المصدريّة يقتضي وضع أحدهما موضع الثاني، فإذا كان الحمد يقع موقع الشكر، فالشكر هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم. والحقّ انّ بين الحمْد والشكْر تعاكساً في العموم والخصوص بحسب المورد والمتعلّق، فانّ مورد الحمد هو اللسان، سواء كان بازاء النعمة الواصلة أم لا. وأما الشكر فهو على النعمة خاصّة، ومورده يعمّ الجنان واللسان والأركان كما قال:

أفادتكم النعماء منّي ثلاثةيدي ولساني والضمير المحجّبا


فالحمْد إحدى شعَب الشكْر بوجه، وانّما جعل رأس الشكر والعمدة فيه، كما في قوله (صلى الله عليه وآله): الحمْدُ رأسُ الشكرِ. وقوله (عليه السلام): مَا شكَر الله منْ لم يحمده، لكونه أشيع للنعمة، وأدلّ على مكانها، وأنطق للإفصاح عن بعض خفيّاتها في عالَم الحسّ، لخفاء عمل القلب وعقائده، ولما في آداب الجوارح من الإحتمال.

ولما كان الحمد من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة لا يكاد يستعمل معها، فأصله النصْب، والجملة فعليّة، وإنّما عدل به إلى الرفع بالابتدائية، والظرف خبره، والجملة إسميّة للدلالة على ثبات الحمد ودوامه دون تجدّده وحدوثه، ومنه قوله تعالى:

{ قَالُوا سَلَاماً قَالَ سَلَامٌ } [هود11: 69]

للدلالة على أن إبراهيم (عليه السلام) حيّاهم تحيّة أحسن من تحيّتهم، لكون الإسمية دالّة على معنى الثبات دون الفعلية.


وقرأ الحسَن: الحمدِ لله باتباع الدال اللام، وابن عيلة بالعكس، والباعث لهما تنزيل الكلمتين المستعملتين معاً منزلة كلمة واحدة.
فصل

[حقيقة العمد]

ما مرّ من تخصيص الحمد باللسان، وكون الثناء باللسان عمدة أفراد الشكر، إنّما هو في نظر الحسّ - كما أومأنا إليه - وبحسب ما هو المتعارف عند المحجوبين، وأما في عرْف المكاشفين، فالحمد نوع من الكلام، وقد مرّ انّ الكلام غير مختصّ الوقوع باللسان، ولهذا حمد الله واثنى على ذاته بما هو أهله ومستحقّه، كما قال النبي (عليه وآله السلام): لا أحصي ثناءً عليك، أنتَ كما أثنيتَ على نفسك.

وكذا يحمده ويسبحه كل شيء، كما في قوله تعالى:

{ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [الإسراء17: 44].

فحقيقة الحمد عند العارفين المحقّقين، اظهار الصفات الكماليّة، وذلك قد يكون بالقول كما هو المشهو رعند الجمهور، وقد يكون بالفعل، وهو كحمد الله ذاته، وحمد جميع الأشياء له، وهذا القسم أقوى، لأنّ دلالة اللفظ من حيث هو لفظ دلالة وضعية قد يتخلّف عنها مدلولها، ودلالة الفعل - كدلالة آثار الشجاعة على الشجاعة، وآثار السخاوة على السخاوة - عقليّة قطعيّة لا يتصوّر فيها تخلّف، فحمد الله ذاته، وهو أجلّ مراتب الحمد، هو ايجاده كلّ موجود من الموجودات، فالله جل ثناؤه حيث بسط بساط الوجود على ممكنات لا تعدّ ولا تحصى، ووضع عليه موائدَ كرمه التي لا تتناهى، فقد كشفَ عن صفات كماله ونعوت جلاله، وأظهرَها بدلالات عقليّة تفصيليّة غير متناهية.

-1-

فإنّ كلّ ذرّة من ذرّات الوجود تدل عليها، ولا يتصور في العبارة مثل هذه الدلالات، كما وقع التنبيه عليه في الحديث المنقول سابقاً.

فايجاده تعالى كلَ موجود، هو الحمْد بالمعنى المصدري، بمنزلة التكلّم بالكلام الدالّ على الجميل، ونفس ذلك الموجود هو الحمْد بالمعنى الحاصل بالمصدر؛ فإطلاق الحمْدِ على كلّ موجود، صحيح بهذا المعنى، وكما ان كل موجود حمد، فهو حامد أيضاً لاشتماله على مقوّم عقليّ وجوهر نطقيّ، كأرباب الأنواع وملائكة الطباع وغيرهم، كما تقرّر في موضعه، ولذلك عبّر في القرآن عن تلك الدلالة العقليّة منه بالنطق في قوله تعالى:


وكذلك جميع الموجودات من حيث نظامه الجملي حمد واحد وحامد واحد، لما قد ثبت انّ الجميع بمنزلة إنسان واحد كبير له حقيقة واحدة وصورة واحدة وعقل واحد، وهو العقل الأول الذي هو صورة العالَم وحقيقته، وهو الحقيقة التمامية المحمديّة، فأجلّ مراتب الحمْد وأعظمها هي المرتبة الختميّة المحمديّة القائمة بوجود الخاتم (ص) من حيث وصوله إلى المقام المحمود الموعود في قوله:

{ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [الإسراء17: 79].

فذاته المقدّسة أقصى مراتب الحمد التي حمد الله بها ذاته، ولذلك خُصّ بلواءِ الحمْد، وسمّي بالحمّاد والأحمد والمحمود من مشتقّات الحمد كما قيل.


ولا يخفى عليك، أنّ القول بأنّ حقيقته (صلّى الله عليه وآله) أقصى مراتب الحمد، لا ينافي كونه بحسب وجوده العنصري أحد أجزاء العالَم الكبير، من حيث انّ دلالة جميع الموجودات على جميل صفات الله تعالى أقوى من دلالة موجود واحد هو جزء العالَم عليه، وذلك لأنّ الإنسان الكامل له أطوار متفاوتة ونشآت متنوّعة، فله (صلّى الله عليه وآله) جميع المقامات والنشآت، ففي وقت ومقام له أن يقول:

{ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [الكهف18: 110].

وفي وقت ومقام له أن يقول: لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملَكٌ مقرّب ولا نبي مرسَل. وقوله: من أطاعني فقد أطاع الله ومَن أبغضني فقد أبغض الله.


وكونه أقصى مراتب الحمد إنّما يتحقّق في مقامه الجمعي الأخروي الذي هو المقام المحمود، ولهذا قال - كما روي عنه (صلّى الله عليه وآله) - فيلهمني الله محامَد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد.
مكاشفة


لمّا تقرّر انّ جميع مراتب الموجودات روحاً وجسماً عقلاً وحسّاً بجميع الألسنةِ قولاً وفِعلاً وحالاً، يحمدونه تعالى، ويسبّحونه ويمجّدونه في الدنيا والآخرة بحسب الفطرة الأصليّة، ومقتضى الداعية الذاتيّة، ولا شكّ انّ لكلّ فعلٍ غريزيّ غايةً ذاتيةً وباعثاً أصليّاً، وقد تقرّر انّ ذاته تعالى غاية الغايات ونهاية الرغبات، فعلى هذا قوله: الحَمْدُ لله، يمكن أن يكون إشارة إلى مبدأ الوجود وغايته، سواء كانت اللام في " الله " للغاية أو للاختصاص، فمعناه على الأول: أنّ حقيقة الوجود وجنسه، إذا كان التعريف في الحمد للجنس، أو الوجود كلّه، إذا كان للاستغراق - كما قيل - لأجل استكمالها بمعرفته تعالى ووصولها إليه.
-2-

ومعناه على الثاني: ان حقيقة الوجود، أو جميع أفراده لله تعالى، وإذا كانت هي له تعالى كان هو تعالى لها أيضاً، لقوله (صلّى الله عليه وآله): من كان لله كان الله له، فذاته تعالى علّة تماميّة كلّ شيءٍ، وغايةُ كمال كلّ موجود، إمّا بلا واسطة، كما للحقيقة المحمديّة التي هي صورة نظام العالَم وأصله ومنشأه، وإمّا بواسطة فيضه الأقدس، ووجوده المقدّس، كما لسائر الموجودات. وفيه سرّ الشفاعة ولواء الحمد.

قوله جل اسمه:

{ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

الربّ: إمّا صفة، وإمّا مصدر وُصف به مبالغةً كالعدْل. سمّي به السيّد المطاع كقول لَبيد: وأهلكنَ يوما رَبَّ كِندَة وابنَه. أي سيّد كِندة. والمالك كقوله (صلّى الله عليه وآله) لرجل: أربَّ غَنَمٍ أنتَ أم ربّ إبل؟ فقال: من كل ما آتاني الله فأكثر وأطيب، والصاحب كقول أبي ذؤيب:

قَد نَالَه ربُّ الكلاب بِكفّهبِيضُ رِهاب ريشهن مُقَرَّعُ


أي صاحب الكلاب. وغير ذلك.

واشتقاقُه من " التربية " وهي: تبليغ الشيء إلى كمالِه تدريجاً ولا يطلق على غيره تعالى إلاّ مقيداً، كقولهم: ربّ الدار، وربّ الناقة. وقول الإشراقيين للصورة المفارقة للطبائع الجسمانيّة ربُّ النوع. وقوله تعالى:


وقرأ زيد بن علي (عليه السلام) بالنصب، على المدح، أو النداء، أو بفعل مضمر دلّ عليه الحمْْد.

والعالمون: جمع عالَم وهو جمع لا واحد له من جنسه كالنفر والرَّهْط.

واشتقاقه: إمّا من العلامة، فهو اسم لما يُعلَم به كالخاتَم لما يختَم به، والقالِب لما يُقلب به، غلب فيما يُعلم به صانعُه، وإمّا من العلَم لأنّه يقع على ما يعلم وهو في عرف اللغة عبارة عن جماعة من العلماء من الملائكة والثقلين، وإنّما جُمع ليشمل كلّ جنس من مسمّاه. وغلب العقلاء فيهم، فجمع لمعنى وصفهم فيه بالواو والنون، وقيل: العالَم، لنوع ما يعقل، وهم الملائكة والجنّ والإنس. وقيل هم العقلاء خاصّة لقوله تعالى:

{ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان25: 1].

وقيل: هم الإنس لقوله:


وفي المتعارف بين الناس، هو عبارة عن جميع المخلوقات من الجواهر والأعراض وقد دلّت عليه الآية

{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ *قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } [الشعراء26: 23 - 24].


وفي تفسير البيضاوي: وقيل عنَى به الناس ها هنا، فإنّ كل واحد منهم عالَم من حيث إنّه يشتمل على نظائر ما في العالَم الكبير من الجواهر والأعراض يعلم بها الصانع، كما يعلم بما أبدعه في العالَم الكبير، ولذلك سوّى بين النظر فيهما، وقال تعالى:
-3-

{ وَفِيۤ أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات51: 21] انتهى.

أقول: كون كلّ واحدٍ من أفراد الناس أو أكثرهم مشتملاً على نظائر ما في العالَم الكبير كلاً أو جلاً، محل نظر، فربّ إنسان لم يتجاوز عن حدود البهيمية إلى درجة العقل، واشتماله على بعض نظائره غير مختصّ بالإنسان. ويمكن أن يراد بالعالمين ههنا العلماءِ من الإنسان، أما على عرف أصل اللغة فظاهر، وأمّا على المعارف بين الناس، فلأنّ كلُّ عالِم - بالكسر - عالَم - بالفتح - امّا باعتبار انّ فيه من كلّ ما في العالَم الكبير شيء، لأنّ نشاته الكاملة مظهر جميع الأسماء والصفات الإلهيّة ومجمع كلّ الحقائق الكونيّة، كما يعرفه متتبّعوا آيات الآفاق والأنفس، فيكون أنموذجاً لجميع ما في العالَم، فهو بهذا الاعتبار عالَم صغير، ولذلك سمّي بالعالَم الصغير، فكأنّه كتاب مختصر منتخَب من جميع العالَم، لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها، كما انّ القرآن مع وجازته مشتمل على جميع ما في الكتب السماويّة، وإما باعتبار انّه إذا برز باطنُه إلى عالَم الآخرة وحشر إلى ربّه، يصير علمه عيناً، وغيبه شهادةً، فكلّ ما يخطر بباله من الأفلاك والعناصر والجنّات والأنهار والحور والقصور وغير ذلك، يكون موجوداً في الخارج من غير مضايقة ومزاحمة فله من كلّ ما يريده ويشتهيه، ولو كان أعظم من هذا العالَم بكثير، فهو بهذا الاعتبار عالَم كبير برأسه، ليس جزءاً من أجزاء هذا العالَم، ولهذا سمّي بالعالم الكبير، بل بالعالَم الأكبر أيضاً نظراً إلى هذا.

وتسميته بالعالَم الصغير، إنّما وقع نظراً الى الاعتبار الأوّل، فعلى ما بيّنا زال الإشكال الذي ورد ها هنا من أن الإنسان من العالَم، فكيف يزيد على الكلّ.

وقد تكلّف بعض أهل النظر، ممّن يريد أن يطير مع الطيور السماويّة بأجنحة عمليّة صنعَها بيديه وألصقها بجنبيْه في دفع هذا الإشكال بهذا المقال وهو: أنّ أهل الذوق يجعلونَه من حيث الوجود الخارجي وما يشتمل عليه من الأجزاء والأحوال، جزءاً من العالَم حتّى يكونَ العالَم الصغير الذي يكون الإنسان كبيراً بالنسبة إليه هو الموجودات الخارجيّة، والعالَم الكبير هو الإنسان بجميع ما يشتمل عليه من الموجودات الخارجيّة والذهنيّة، فيزيد على العالَم بالموجودات الذهنية، ثم اعترض على نفسه اعتراضاً وارداً لا مدفع له بقوله:

فإن قلت: العالَم الكبير أيضاً يشتمل على الموجودات الذهنيّة، إذ العقولُ والنفوس الفلكيةُ ناطقة مدرِكة للأشياء كما هو المشهور بين الفلاسفة. فأجابَ عنه بقوله: قلتُ: أما العقولُ فلا احساس لها مطلقاً. وأما النفوس الفلكيةُ فلا احساس لها بالحواسُ الظاهرة. انتهى.

أقول: ولا يخفى ما فيه من الركاكة، فإنّه على تقدير صحّته، لا يثبت إلاّ كونه كبيراً بالنسبة إلى العقول والنفوس، لا بالنسبة إلى مجموع العالَم المشتمل على العقول والنفوس الكلية المدركة للكليّات، وعلى النفوس الجزئية الحيوانيّة المدركة للجزئيات، فالحقّ ما ذكرنا، من أنّ الإنسان الكامل عند خروج روحه عن مشيمة هذه العالَم، ونشر صحيفة ذاته، يكون كما أشار إليه أبو يزيد البسطامي بقوله: لو أنّ العرشَ وما حواه ألف مرّة وقع في زاوية قلب العارف لما ملأه، وقد أشار بعض أكابر العارفين في نظمه إلى هذا المعنى حيث قال:
-4-

يا خالقَ الأشياءِ في نفسِهانتَ لِما تخلقُه جامعُ
تخلقُ ما لا ينتهي كونُهفيكَ فأنتَ الضيّقُ الواسعُ
من وسعَ الحقَّ فما ضاقَ عنخلْق فكيفَ الأمرُ يا سامعُ


فقوله: من وسع الحقّ، إشارة الى الحديث القدسيّ المشهور، أعني " قوله سبحانه: ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن ".
تنبيه


[في ان العالم دائم الحدوث]

ذكر البيضاوي أنّ فيه دليلاً على أنّ الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدِث حالَ حدوثها، فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقاءِها، بناءً على ما ذكر سابقاً من انّ معنى التربية تبليغ الشيء إلى كماله شيئاً فشيئاً.

وأقول: ليس فيه دليل على ذلك، إذ الشيء التدريجي لمّا كان حصوله على هذا الوجه، فجميع زمان وجوده هو بعينه زمان حدوثه، فالنامي مثلاً، زمان نموّه من أول نشوّه إلى منتهى كماله المقداري هو زمان حدوث مقداره الحاصل له شيئاً فشيئاً، وكفعل الصلاة فإن زمانه من لدن أول تكبيرة الافتتاح، إلى آخر تسليمة الاختتام، كلّه وقت الحدوث لا وقت البقاء. نعمْ، فيه دليل على أن العالَم تدريجيّ الحصول، متدرج في التكوّن.

ونحن قد أثبتنا في العلوم البرهانيّة حدوثَ العالَم، بإقامة البراهين القطعيّة على أنّ جواهر هذا العالَم، والصور الطبيعية للأجرام السماويّة والاسطقسيّة، كلها تدريجيّة الكون، سيّالة الحصول، غير قارّة الوجود، كالحركة المتّصلة ومقدارها من الزمان، وهذا التحقيق من المطالب الشريفة، اختصّ بدركها القلوبُ المنوّرة بنور الايمان والتابعيّة، دون النفوس المقتصرة على الأنظار الكلاميّة والآراء الفلسفيّة، وبه يظهر السرّ وينكشف الأمر، في أن خلق السموات والأرض وما بينهما، لماذا كان في ستّة أيام، كما سيجيء بيانه في موضعه.
-5-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع
ابحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:25 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.