مناقشة وترجيح رأى الجمهور والحق أن أدلة الجمهور أدلة صحيحة صريحة، لا مطعن في ثبوتها ولا دلالاتها، وأن الحنفية لم يستطيعوا أن يعارضوا هذه الأدلة بشيء يكفي ويشفي، وأن إعفاء مسلم من زكاة زرعه وثمره -بسبب وجوب الخراج عليه- شيء مستبعد، كيف والزكاة قنطرة الإسلام، وثالثة دعائمه، وإحدى شعائره الكبرى؟ ولذا قال ابن المبارك بعد أن قرأ قوله تعالى: (ومما أخرجنا لكم من الأرض): فنترك قول القرآن لأبى حنيفة؟! (المغنى: 2/726).
وأما ما استند إليه الحنفية من المنقول والمعقول فقد رد عليه الجمهور وبينوا ضعفه مفصلاً:
1-فأما حديث:" لا يجتمع عُشر وخراج " فهو كما قال النووي، حديث باطل مجمع على ضعفه، انفرد به يحيى بن عنبسة عن أبى حنيفة عن حماد عن إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال البيهقي: هذا المذكور إنما يرويه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم من قوله، فرواه يحيى بن عنبسة هكذا مرفوعًا ويحيى بن عنبسة مكشوف الأمر بالضعف لروايته عن الثقات الموضوعات (المجموع: 5/550 - 553) وذكر السيوطى في اللآلئ عن ابن حبان وابن عدى أنهما قالا في هذا الأثر: باطل لم يروه إلا يحيى وهو دجال (اللآلئ المصنوعة للسيوطي: 2/70 - طبع التجارية).
2-وأما حديث أبى هريرة "منعت العراق" الخ، فقال النووي: فيه تأويلان مشهوران في كتب العلماء المتقدمين والمتأخرين، أحدهما: أنهم سيسلمون وتسقط عنهم الجزية ..والثاني: أنه إشارة إلى الفتن الكائنة في آخر الزمان، حتى يمنعوا الحقوق الواجبة عليهم، من زكاة وجزية وغيرها، ولو كان معنى الحديث ما زعموا، للزم ألا تجب زكاة الدراهم والدنانير والتجارة وهذا لا يقول به أحد (المجموع: 5/554 - 558، وانظر أيضًا الأموال لأبى عبيد ص 87، 88).
3-وأما قصة الدهقانة فمعناها: أن يؤخذ منها الخراج، لأنه أجرة فلا يسقط بإسلامها ولا يلزم من ذلك سقوط العُشر وإنما ذكر الخراج، لأنهم ربما توهموا سقوطه بالإسلام كالجزية، وأما العُشر فمعلوم لهم وجوبه على كل حر مسلم، فلم يحتج إلى ذكره، كما أنه لم يذكر أخذ زكاة الماشية منها، وكذا زكاة النقود وغيرها (لمجموع: المرجع السابق).
وأجاب بعضهم بأن خطاب عمر يحتمل أن يكون للقائم على أمر الخراج خاصة، وليس له ولاية على العُشور، أو أنه لم يكن وقت أخذ العُشر، أو أنها لم يكن لها ما يجب فيه العُشر (المجموع: المرجع السابق).
4-وأما استدلالهم بأن عمل الأئمة والولاة استمر على عدم الجمع بين العُشر والخراج وصار إجماعًا عمليًا، فمنقوض بما صح عن الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز أنه أخذ العُشر والخراج معًا.
روى يحيى بن آدم عن عمرو بن ميمون بن مهران قال: سألت عمر بن عبد العزيز عن المسلم يكون له أرض خراج؟ ..قال خذ الخراج من ههنا -وأشار بيده إلى الأرض- وخذ الزكاة من ههنا - وأشار بيده إلى الزرع.
قال شريك: لعل عمر لا يكون قال هذا، حتى سأل عنه، أو بلغه فيه، فإنه كان ممن يُقتدى به (الخراج ليحيى بن آدم ص165).
وأما القول بأن عمر والصحابة رضى الله عنهم لم يأخذوا العُشر مع الخراج، فلأن أرض الخراج في عصرهم كانت في أيدي الكفار، فإن ادعى أنهم لم يأخذوا العُشر ممن أسلم فهذه دعوى لا دليل عليها (انظر المحلى: 2/247).
5-وأما قولهم: إن سبب العُشر والخراج واحد، فليس كذلك، لأن العُشر يجب في نفس الزرع والخراج يجب عن الأرض، سواء زرعها أم أهملها وبعبارة أخرى: سبب الخراج التمكن من الانتفاع، وسبب العُشر وجود المال نفسه (المجموع: 5/558 - 559).
6-وأما قولهم إن الخراج وجب عقوبة بسبب الكفر، فليس كذلك أيضًا؛ لأنه إنما وجب أجرة للأرض سواء أكانت في يد مسلم أم كافر ولو كان الخراج عقوبة ما وجب على مسلم كالجزية (المغنى: 2/726) ومما يشهد لذلك أن الدول الحديثة تفرض على مواطنيها ضريبة تسمى " ضريبة الأملاك العقارية " وهى قطعًا لا تقصد بذلك عقوبتهم بل إسهامهم في نفقات الدولة وإذن لا صحة للقول بأن سبيليهما متنافيان؛ فإن الخراج أجرة الأرض والعُشر زكاة الزرع ولا تنافى بينهما، كما لو استأجر أرضًا فزرعها.