موقع كوبون جديد للحصول على اكواد الخصم  آخر رد: الياسمينا    <::>    إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>    دورة البادل، كانت فكرة وبالجهد نجحت  آخر رد: الياسمينا    <::>    لاونج بموقع مميز ودخل ممتاز للتقبيل في جدة حي الخالدية  آخر رد: الياسمينا    <::>    تورست لايجار السيارات والليموزين في مصر  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي تحاضر عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإر...  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #1  
قديم 05-23-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي البقرة 002 - آية 001 - الم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مرحبا بكم معنا في المسجد الأقصى المبارك
سورة 002 - البقرة -آية رقم 001

الم
صدق الله العظيم
السابق التالي
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم

آخر تعديل بواسطة admin ، 12-05-2010 الساعة 10:21 AM
رد مع اقتباس
 
 
  #2  
قديم 11-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق - صفحة 1-10

تفسير جامع البيان في تفسير القرآن/ الطبري (ت 310 هـ) مصنف و مدقق - صفحة 1-10



قال أبو جعفر: اختلفت تراجمة القران فـي تأويـل قول الله تعالـى ذكره: { آلـم } فقال بعضهم: هو اسم من أسماء القران. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله: الـم قال: اسم من أسماء القران.

حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم الآملـي، قال: حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود، قال: حدثنا شبل عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد قال: { الـم } اسم من أسماء القران.

حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين بن داود، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج قال: { آلـم } اسم من أسماء القرآن.

وقال بعضهم: هو فواتـح يفتـح الله بها القرآن. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي هارون بن إدريس الأصم الكوفـي، قال: حدثنا عبد الرحمن ابن مـحمد الـمـحاربـي، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: { الـم } فواتـح يفتـح الله بها القرآن.

حدثنا أحمد بن حازم الغفـاري، قال: حدثنا أبو نعيـم، قال: حدثنا سفـيان، عن مـجاهد، قال: { الـم } فواتـح.

حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن يحيى بن ادم، عن سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح عن مـجاهد، قال: { الـم } و
{ حم } - السجدة
{ حم } - فصلت
{ حم } - الشورى
{ حم } - الزخرف
{ حم } - الدخان
{ حم } - الجاثية
{ حم } - الأحقاف
و
{ الـمص } - الأعراف
و
{ ص } - ص

فواتـح افتتـح الله بها.

حدثنا القاسم بن الـحسن، قال: حدثنا الـحسين، قال: حدثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد مثل حديث هارون بن إدريس.

وقال بعضهم: هو اسم للسورة. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس بن عبد الأعلـى، قال: أنبأنا عبد الله بن وهب، قال: سألت عبد الرحمن بن زيد بن أسلـم، عن قول الله:
{ الـم * ذلك الكتابُ} - البقرة
و
{ الـم *تَنْزِيـلُ } - السجدة
و
{ الـمر *تِلْك } - لقمان

فقال: قال أبـي: إنـما هي أسماء السور.

وقال بعضهم: هو اسم الله الأعظم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت السديّ عن حم وطسم والـم فقال: قال ابن عبـاس: هو اسم الله الأعظم.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: حدثنـي أبو النعمان، قال: حدثنا شعبة عن إسماعيـل السدي، عن مرة الهمدانـي، قال: قال عبد الله فذكر نـحوه.

حدثنـي الـمثنى قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبـيد الله بن موسى، عن إسماعيـل، عن الشعبـي قال: فواتـح السور من أسماء الله.

وقال بعضهم: هو قَسَمٌ أقسم الله به وهو من أسمائه. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يحيى بن عثمان بن صالـح السهمي، قال: حدثنا عبد الله بن صالـح، قال: حدثنـي معاوية بن صالـح، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس، قال: هو قَسَم أقسم الله به وهو من أسماء الله.

حدثنا يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، قال: حدثنا خالد الـحذاء عن عكرمة قال: { آلـم } قسم.

-1-

وقال بعضهم: هو حروف مقطعة من أسماء وأفعال، كل حرف من ذلك لـمعنى غير معنى الـحرف الآخر. ذكر من قال ذلك:


حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، وحدثنا سفـيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن أبـي شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبـي الضحى، عن ابن عبـاس: { الـم } فقال: أنا الله أعلـم.

وحدثت عن أبـي عبـيد قال: حدثنا أبو الـيقظان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبـير، قال قوله: { الـم } قال: أنا الله أعلـم.

حدثنـي موسى بن هارون الهمدانـي، قال: حدثنا عمرو بن حماد القناد، قال: حدثنا أسبـاط ابن نصر، عن إسماعيـل السدي فـي خبر ذكره عن أبـي مالك، وعن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، وعن مرة الهمدانـي، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبـي صلى الله عليه وسلم: { الـم } قال: أما: { الـم } فهو حرف اشتق من حروف هجاء أسماء الله جل ثناؤه.

حدثنا مـحمد بن معمر، قال: حدثنا عبـاس ابن زياد البـاهلـي، قال: حدثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس فـي قوله: { الـم } و
{ حم } - السجدة{ حم } - فصلت
{ حم } - الشورى
{ حم } - الزخرف
{ حم } - الدخان
{ حم } - الجاثية
{ حم } - الأحقاف
و
{ ن } - القلم
قال: اسم مقطع.

وقال بعضهم: هي حروف هجاء موضوع. ذكر من قال ذلك:

حدثت عن منصور بن أبـي نويرة، قال: حدثنا أبو سعيد الـمؤدب، عن خصيف، عن مـجاهد، قال: فواتـح السور كلها
{ ق } - ق
و
{ ص } - ص
و
{ حم } - السجدة
{ حم } - فصلت
{ حم } - الشورى
{ حم } - الزخرف
{ حم } - الدخان
{ حم } - الجاثية
{ حم } - الأحقاف
و
{ طسم } - الشعراء
{ طسم } - القصص
و
{ الر } - يونس
{ الر } - هود
{ الر } - يوسف
{ الر } - إبراهيم
{ الر } - الحجر
وغير ذلك هجاء موضوع.

وقال بعضهم: هي حروف يشتـمل كل حرف منها علـى معان شتـى مختلفة. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـمثنى بن إبراهيـم الطبري، قال: حدثنا إسحاق بن الـحجاج، عن عبد الله بن أبـي جعفر الرازي قال: حدثنـي أبـي، عن الربـيع بن أنس فـي قول الله تعالـى ذكره: { آلـم } قال: هذه الأحرف من التسعة والعشرين حرفـاً، دارت فـيها الألسن كلها، لـيس منها حرف إلا وهو مفتاح اسم من أسمائه، ولـيس منها حرف إلا وهو فـي آلائه وبلائه، ولـيس منها حرف إلا وهو مدة قوم وآجالهم. وقال عيسى ابن مريـم: «وعجيب ينطقون فـي أسمائه، ويعيشون فـي رزقه، فكيف يكفرون»؟ قال: الألف: مفتاح اسمه «الله»، واللام: مفتاح اسمه «لطيف»، والـميـم: مفتاح اسمه «مـجيد» والألف: آلاء الله، واللام: لطفه، والـميـم: مـجده الألف: سنة، واللام ثلاثون سنة، والـميـم: أربعون سنة.

حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن أبـي جعفر، عن الربـيع بنـحوه.

وقال بعضهم: هي حروف من حساب الـجمل، كرهنا ذكر الذي حكي ذلك عنه، إذ كان الذي رواه مـمن لا يُعتـمد علـى روايته ونقله، وقد مضت الرواية بنظير ذلك من القول عن الربـيع بن أنس.

وقال بعضهم: لكل كتاب سرّ، وسرّ القرآن فواتـحه.

وأما أهل العربـية فإنهم اختلفوا فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: هي حروف من حروف الـمعجم استُغنـي بذكر ما ذكر منها فـي أوائل السور عن ذكر بواقـيها التـي هي تتـمة الثمانـية والعشرين حرفـاً، كما استغنَى الـمخبرُ عمن أخبر عنه أنه فـي حروف الـمعجم الثمانـية والعشرين بذكر «أ ب ت ث» عن ذكر بواقـي حروفها التـي هي تتـمة الثمانـية والعشرين، قال: ولذلك رفع ذلك الكتابُ لأن معنى الكلام: الألف واللام والـميـم من الـحروف الـمقطعة ذلك الكتاب الذي أنزلته إلـيك مـجموعاً لا ريب فـيه.


-2-

فإن قال قائل: فإن «ألف با تا ثا» قد صارت كالاسم فـي حروف الهجاء كما صارت الـحمد اسماً لفـاتـحة الكتاب قـيـل له: لـما كان جائزاً أن يقول القائل: ابنـي فـي «ط ظ»، وكان معلوماً بقـيـله ذلك لو قاله إنه يريد الـخبر عن ابنه أنه فـي الـحروف الـمقطعة، علـم بذلك أن «أ ب ت ث» لـيس لها بـاسم، وإن كان ذلك يؤثَرَ فـي الذكر من سائرها. قال: وإنـما خولف بـين ذكر حروف الـمعجم فـي فواتـح السور، فذكرت فـي أوائلها مختلفة، وذِكْرُها إذا ذُكرت بأوائلها التـي هي «أ ب ت ث» مؤتلفة لـيفصل بـين الـخبر عنها، إذا أريد بذكر ما ذكر منها مختلفـاً الدلالة علـى الكلام الـمتصل، وإذا أريد بذكر ما ذكر منها مؤتلفـاً الدلالة علـى الـحروف الـمقطعة بأعيانها. واستشهدوا لإجازة قول القائل: ابنـي فـي «ط ظ»، وما أشبه ذلك من الـخبر عنه أنه فـي حروف الـمعجم، وأن ذلك من قـيـله فـي البـيان يقوم مقام قوله: «ابنـي فـي أ ب ت ث» برجز بعض الرجاز من بنـي أسد:
لَـمَّا رأيْتُ أمْرَها فـي حُطِّيوفَنَكَتْ فـي كَذِبٍ ولَطِّ
أخَذْتُ منْها بِقُرُونٍ شُمْطِفَلَـمْ يَزَلْ ضَرْبـي بها ومَعْطِي
حتـى عَلا الرأسَ دَمٌ يُغَطِّي

فزعم أنه أراد بذلك الـخبر عن الـمرأة أنها فـي «أبـي جاد»، فأقام قوله: «لـما رأيت أمرها فـي حُطي» مقام خبره عنها أنها فـي «أبـي جاد»، إذ كان ذاك من قوله يدل سامعه علـى ما يدله علـيه قوله: لـما رأيت أمرها فـي أبـي جاد.


وقال آخرون: بل ابتدئت بذلك أوائل السور لـيفتـح لاستـماعه أسماع الـمشركين، إذ تواصوا بـالإعراض عن القرآن، حتـى إذا استـمعوا له تُلـي علـيهم الـمؤلف منه.

وقال بعضهم: الـحروف التـي هي فواتـح السور حروف يستفتـح الله بها كلامه.

فإن قـيـل: هل يكون من القرآن ما لـيس له معنى؟ فإن معنى هذا أنه افتتـح بها لـيعلـم أن السورة التـي قبلها قد انقضت، وأنه قد أخذ فـي أخرى، فجعل هذا علامة انقطاع ما بـينهما، وذلك فـي كلام العرب ينشد الرجل منهم الشعر فـيقول:

بل....
وَبَلْدَةٍ ما الإنْسُ مِنْ آهالهَا

ويقول: لا بل...
ما هاجَ أحْزَانا وشَجَوْاً قَدْ شَجا

و«بل» لـيست من البـيت ولا تعدّ فـي وزنه، ولكن يقطع بها كلاماً ويستأنف الآخر.

قال أبو جعفر: ولكل قول من الأقوال التـي قالها الذين وصفنا قولهم فـي ذلك وجه معروف.

-3-

فأما الذين قالوا: { الـم } اسم من أسماء القرآن، فلقولهم ذلك وجهان: أحدهما أن يكونوا أرادوا أن: { الـم } اسم للقرآن كما الفرقان اسم له. وإذا كان معنى قائل ذلك كذلك، كان تأويـل قوله: { الـم }:
{ ذلكَ الكِتابُ } - البقرة
علـى معنى القسم كأنه قال: والقرآن هذا الكتاب لا ريب فـيه. والآخر منهما أن يكونوا أرادوا أنه اسم من أسماء السورة التـي تعرف به كما تعرف سائر الأشياء بأسمائها التـي هي لها أمارات تعرف بها، فـيفهم السامع من القائل يقول: قرأت الـيوم
{ الـمص } - الاعراف
و
{ ن } - القلم
أي السورة التـي قرأها من سور القرآن، كما يفهم عنه إذا قال: لقـيت الـيوم عمراً وزيداً، وهما بزيد وعمر وعارفـان مَنِ الذي لقـي من الناس. وإن أشكل معنى ذلك علـى امرىء فقال: وكيف يجوز أن يكون ذلك كذلك ونظائر { الـم الـمر } فـي القرآن جماعة من السور؟ وإنـما تكون الأسماء أماراتٍ، إذا كانت مـميزة بـين الأشخاص، فأما إذا كانت غير مـميزة فلـيست أمارات. قـيـل: إن الأسماء وإن كانت قد صارت لاشتراك كثـير من الناس فـي الواحد منها غير مـميزة إلا بـمعان أخر معها من ضم نسبة الـمسمى بها إلـيها أو نعته أو صفته بـما يفرق بـينه وبـين غيره من أشكالها، فإنها وضعت ابتداء للتـميـيز لا شك ثم احتـيج عند الاشتراك إلـى الـمعانـي الـمفرّقة بـين الـمسمَّى بها. فكذلك ذلك فـي أسماء السور، جعل كل اسم فـي قول قائل هذه الـمقالة أمارةً للـمسمى به من السور. فلـما شارك الـمسمَّى به فـيه غيره من سور القرآن احتاج الـمخبر عن سورة منها أن يضم إلـى اسمها الـمسمى به من ذلك ما يفرق به للسامع بـين الـخبر عنها وعن غيرها من نعت وصفة أو غير ذلك، فـيقول الـمخبر عن نفسه إنه تلا سورة البقرة إذا سماها بـاسمها الذي هو { آلـم }: قرأت
{ آلـم } - البقرة،
وفـي آل عمران: قرأت
{ الـم } - آل عمران،
و
{ آلـم *ذَلِكَ الكِتابُ } - البقرة
و
{ الـم *اللَّهُ لا إِلٰهَ إِلاَّ هُوَ الـحَيُّ القَـيُّومُ }
كما لو أراد الـخبر عن رجلـين اسم كل واحد منهما عمرو، غير أن أحدهما تـميـميّ والآخر أزدي، للزمه أن يقول لـمن أراد إخبـاره عنهما: لقـيت عمراً التـميـمي وعمراً الأزدي، إذ كان لا فرق بـينهما وبـين غيرهما مـمن يشاركهما فـي أسمائهما إلا بنسبتهما كذلك، فكذلك ذلك فـي قول من تأول فـي الـحروف الـمقطعة أنها أسماء للسور.

وأما الذين قالوا: ذلك فواتـح يفتتـح الله عز وجل بها كلامه، فإنهم وجهوا ذلك إلـى نـحو الـمعنى الذي حكيناه عمن حكينا عنه من أهل العربـية أنه قال: ذلك أدلة علـى انقضاء سورة وابتداء فـي أخرى وعلامة لانقطاع ما بـينهما، كما جعلت «بل» فـي ابتداء قصيدة دلالة علـى ابتداء فـيها وانقضاء أخرى قبلها كما ذكرنا عن العرب إذا أرادوا الابتداء فـي إنشاد قصيدة، قال:

بل.

-4-

ما هاجَ أحْزَانا وشَجْواً قَدْ شَجا

و«بل» لـيست من البـيت ولا داخـلة فـي وزنه، ولكن لـيدل به علـى قطع كلام وابتداء آخر.

وأما الذين قالوا: ذلك حروف مقطعة بعضها من أسماء الله عزّ وجل، وبعضها من صفـاته، ولكل حرف من ذلك معنى غير معنى الـحرف الآخر. فإنهم نـحوا بتأويـلهم ذلك نـحو قول الشاعر:
قُلْنا لَهَا قِـفِـي لنا قالَتْ قافْلا تَـحْسبِـي أنَّا نَسِينا الإيجَافْ

يعنـي بقوله: قالت قاف: قالت قد وقـفت. فدلّت بإظهار القاف من «وقـفت» علـى مرادها من تـمام الكلـمة التـي هي «وقـفت»، فصرفوا قوله: { الـم } وما أشبه ذلك إلـى نـحو هذا الـمعنى، فقال بعضهم: الألف ألف «أنا»، واللام لام «الله»، والـميـم ميـم «أعلـم»، وكل حرف منها دال علـى كلـمة تامة. قالوا: فجملة هذه الـحروف الـمقطعة إذا ظهر مع كل حرف منهن تـمام حروف الكلـمة «أنا الله أعلـم». قالوا: وكذلك سائر جميع ما فـي أوائل سور القرآن من ذلك، فعلـى هذا الـمعنى وبهذا التأويـل. قالوا: ومستفـيض ظاهر فـي كلام العرب أن ينقص الـمتكلـم منهم من الكلـمة الأحرف إذا كان فـيـما بقـي دلالة علـى ما حذف منها، ويزيد فـيها ما لـيس منها إذا لـم تكن الزيادة مُلَبِّسة معناها علـى سامعها كحذفهم فـي النقص فـي الترخيـم من «حارث» «الثاء» فـيقولون: يا حار، ومن «مالك» «الكاف» فـيقولون: يا مال، وأما أشبه ذلك. وكقول راجزهم:
ما للظَّلِـيـمِ عَالٍ كَيْفَ لاَ يايَنْقَدُ عَنْهُ جِلْدُهُ إذَا يا

كأنه أراد أن يقول: إذا يفعل كذا وكذا، فـاكتفـى بـالـياء من «يفعل». وكما قال آخر منهم:
بـالـخَيْرِ خَيْرَاتٌ وَإِنْ شَرًّا فَـا

يريد فشرًّا.
ولا أُرِيدُ الشَّرَّ إِلاَّ أنْ تَا

يريد إلا أن تشاء. فـاكتفـى بـالتاء والفـاء فـي الكلـمتـين جميعاً من سائر حروفهما، وما أشبه ذلك من الشواهد التـي يطول الكتاب بـاستـيعابه. وكما

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: حدثنا ابن علـية، عن أيوب وابن عون، عن مـحمد، قال: لـما مات يزيد بن معاوية، قال لـي عبدة: إنـي لا أراها إلا كائنة فتنة فـافزع من ضيعتك والـحق بأهلك قلت: فما تأمرنـي؟ قال: أحبّ إلـيَّ لك أن تا قال أيوب وابن عون بـيده تـحت خده الأيـمن يصف الاضطجاع حتـى ترى أمرا تعرفه.

قال أبو جعفر: يعنـي ب «تا» تضطجع، فـاجتزأ بـالتاء من تضطجع. وكما قال الآخر فـي الزيادة فـي الكلام علـى النـحو الذي وصفت:
أقولُ إذْ خَرَّتْ علـى الكَلْكالِيا ناقَتِـي ما جُلْتِ مِن مَـجَالِ

يريد الكلكل. وكما قال الآخر:
إِنَّ شَكْلِـي وإِنَّ شَكْلَكِ شَتَّـىفـالزَمِي الـخُصَّ واخْفِضي تَبْـيَضِضِّي

فزاد ضاداً ولـيست فـي الكلـمة.

قالوا: فكذلك ما نقص من تـمام حروف كل كلـمة من هذه الكلـمات التـي ذكرنا أنها تتـمة حروف { الـم } ونظائرها، نظير ما نقص من الكلام الذي حكيناه عن العرب فـي أشعارها وكلامها.

-5-

وأما الذين قالوا: كل حرف من { الـم } ونظائرها دالّ علـى معان شتـى نـحو الذي ذكرنا عن الربـيع بن أنس، فإنهم وجهوا ذلك إلـى مثل الذي وجهه إلـيه من قال هو بتأويـل: «أنا الله أعلـم» فـي أن كل حرف منه بعض حروف كلـمة تامة استُغنـي بدلالته علـى تـمامه عن ذكر تـمامه، وإن كانوا له مخالفـين فـي كل حرف من ذلك، أهو من الكلـمة التـي ادعى أنه منها قائلو القول الأول أم من غيرها؟ فقالوا: بل الألف من { الـم } من كلـمات شتـى هي دالة علـى معانـي جميع ذلك وعلـى تـمامه. قالوا: وإنـما أفرد كل حرف من ذلك وقصر به عن تـمام حروف الكلـمة أن جميع حروف الكلـمة لو أظهرت لـم تدل الكلـمة التـي تظهر بعض هذه الـحروف الـمقطعة بعضٌ لها، إلاّ علـى معنى واحد لا علـى معنـيـين وأكثر منهما. قالوا: وإذا كان لا دلالة فـي ذلك لو أظهر جميعها إلا علـى معناها الذي هو معنى واحد، وكان الله جل ثناؤه قد أراد الدلالة بكل حرف منها علـى معان كثـيرة لشيء واحد، لـم يجز إلا أن يفرد الـحرف الدال علـى تلك الـمعانـي، لـيعلـم الـمخاطبون به أن الله عز وجل لـم يقصد قصد معنى واحد ودلالة علـى شيء واحد بـما خاطبهم به، وأنه إنـما قصد الدلالة به علـى أشياء كثـيرة. قالوا: فـالألف من { الـم } مقتضية معانـي كثـيرة، منها: إتـمام اسم الرب الذي هو الله، وتـمام اسم نعماء الله التـي هي آلاء الله، والدلالة علـى أَجَلِ قوم أنه سنة، إذ كانت الألف فـي حساب الـجُمَّل واحداً. واللام مقتضية تـمام اسم الله الذي هو لطيف، وتـمام اسم فضله الذي هو لطف، والدلالة علـى أجل قوم أنه ثلاثون سنة. والـميـم مقتضية تـمام اسم الله الذي هو مـجيد، وتـمام اسم عظمته التـي هي مـجد، والدلالة علـى أجل قوم أنه أربعون سنة. فكان معنى الكلام فـي تأويـل قائل القول الأول: أن الله جل ثناؤه افتتـح كلامه بوصف نفسه بأنه العالـم الذي لا يخفـى علـيه شيء، وجعل ذلك لعبـاده منهجاً يسلكونه فـي مفتتـح خطبهم ورسائلهم ومهمّ أمورهم، وابتلاء منه لهم لـيستوجبوا به عظيـم الثواب فـي دار الـجزاء، كما افتتـح بـ
{ الـحمد لله رب العالـمين } - الفاتحة
و
{ الـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَـلَقَ السموَاتِ وَالأرْضَ } - الأنعام
وما أشبه ذلك من السور التـي جعل مفـاتـحها الـحمد لنفسه. وكما جعل مفـاتـح بعضها تعظيـم نفسه وإجلالها بـالتسبـيح كما قال جل ثناؤه:
{ سُبْحانَ الَّذِي أسْرَى بعَبْدِهِ لَـيْلاً } - الإسراء
وما أشبه ذلك من سائر سور القرآن التـي جعل مفـاتـح بعضها تـحميد نفسه، ومفـاتـح بعضها تـمـجيدها، ومفـاتـح بعضها تعظيـمها وتنزيهها. فكذلك جعل مفـاتـح السور الأخرى التـي أوائلها بعض حروف الـمعجم مدائح نفسه أحياناً بـالعلـم، وأحياناً بـالعدل والإنصاف، وأحياناً بـالإفضال والإحسان بإيجاز واختصار، ثم اقتصاص الأمور بعد ذلك.

-6-


وعلـى هذا التأويـل يجب أن يكون الألف واللام والـميـم فـي أماكن الرفع مرفوعاً بعضها ببعض دون قوله:
{ ذلكَ الكِتابُ }
ويكون ذلك الكتاب خبر مبتدأ منقطعاً عن معنى { الـم } ، وكذلك «ذلك» فـي تأويـل قول قائل هذا القول الثانـي مرفوعٌ بعضه ببعض، وإن كان مخالفـاً معناه معنى قول قائل القول الأول.

وأما الذين قالوا: هن حروف من حروف حساب الـجُمَّل دون ما خالف ذلك من الـمعانـي، فإنهم قالوا: لا نعرف للـحروف الـمقطعة معنى يفهم سوى حساب الـجمل وسوى تَهَجِّي قول القائل: { الـم }. وقالوا: غير جائز أن يخاطب الله جل ثناؤه عبـادَهُ إلا بـما يفهمونه ويعقلونه عنه. فلـما كان ذلك كذلك وكان قوله: { الـم } لا يعقل لها وجهه تُوجَّه إلـيه إلا أحد الوجهين اللذين ذكرنا، فبطل أحد وجهيه، وهو أن يكون مراداً بها تهجي { الـم } صحّ وثبت أنه مراد به الوجه الثانـي وهو حساب الـجمل لأن قول القائل: { الـم } لا يجوز أن يـلـيه من الكلام ذلك الكتاب لاستـحالة معنى الكلام وخروجه عن الـمعقول إذا ولـي الـم ذلك الكتاب. واحتـجوا لقولهم ذلك أيضا بـما:

حدثنا به مـحمد بن حميد الرازي، قال: حدثنا سلـمة بن الفضل. قال: حدثنـي مـحمد بن إسحاق، قال: حدثنـي الكلبـي، عن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، عن جابر بن عبد الله بن رباب، قال: مرّ أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو فـاتـحة سورة البقرة: { الـم ذَلِكَ الكِتابُ لاَ رَيْبَ فِـيهِ } فأتـى أخاه حيـيّ بن أخطب فـي رجال من يهود فقال: تعلـمون والله لقد سمعت مـحمداً يتلو فـيـما أنزل الله عز وجل علـيه: { الـم ذَلِكَ الكِتابُ } فقالوا: أنت سمعته؟ قال: نعم.قال فمشى حيـيّ بن أخطب فـي أولئك النفر من يهود إلـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا مـحمد ألـم يذكر لنا أنك تتلو فـيـما أنزل علـيك: { الـم ذَلِكَ الكِتابُ }؟ فقالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بَلَـى» فقالوا: أجاءك بهذا جبريـل من عند الله؟ قال: «نَعَمْ» قالوا: لقد بعث الله جل ثناؤه قبلك أنبـياء ما نعلـمه بـين لنبـيّ منهم ما مدة ملكه وما أَجَل أمته غيرك فقال حيـيّ بن أخطب: وأقبل علـى من كان معه، فقال لهم: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والـميـم أربعون، فهذه إحدى وسبعون سنة، قال: فقال لهم: أتدخـلون فـي دين نبـي إنـما مدة ملكه وأجل أمته إحدى وسبعون سنة؟ قال: ثم أقبل علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا مـحمد هل مع هذا غيره؟ قال: «نَعَمْ» قال: ماذا؟ قال: «الـمص» قال: هذه أثقل وأطول: الألف واحدة، واللام ثلاثون، والـميـم أربعون، والصاد تسعون.

-7-


فهذه مائة وإحدى وستون سنة هل مع هذا يا مـحمد غيره؟ قال: «نَعَمْ» قال: ماذا؟ قال: «الر» قال: هذه أثقل وأطول الألف واحدة، واللام ثلاثون، والراء مائتان، فهذه إحدى وثلاثون ومائتا سنة فقال: هل مع هذا غيره يا مـحمد؟ قال: «نَعَمْ الـمر»، قال: فهذه أثقل وأطول: الألف واحدة واللام ثلاثون، والـميـم أربعون، والراء مائتان، فهذه إحدى وسبعون ومائتا سنة. ثم قال: لقد لُبِّس علـينا أمرك يا مـحمد، حتـى ما ندري أقلـيلاً أُعطيتَ أم كثـيراً ثم قاموا عنه، فقال أبو ياسر لأخيه حيـي بن أخطب ولـمن معه من الأحبـار: ما يدريكم لعله قد جمع هذا كله لـمـحمد: إحدى وسبعون، وإحدى وستون ومائة، ومائتان وإحدى وثلاثون، ومائتان وإحدى وسبعون، فذلك سبعمائة سنة وأربع وثلاثون، فقالوا: لقد تشابه علـينا أمره. ويزعمون أن هؤلاء الآيات نزلت فـيهم:


فقالوا: قد صرّح هذا الـخبر بصحة ما قلنا فـي ذلك من التأويـل وفساد ما قاله مخالفونا فـيه.

والصواب من القول عندي فـي تأويـل مفـاتـح السور التـي هي حروف الـمعجم: أن الله جل ثناؤه جعلها حروفـاً مقطعة ولـم يصل بعضها ببعض فـيجعلها كسائر الكلام الـمتصل الـحروف لأنه عز ذكره أراد بلفظه الدلالة بكل حرف منه علـى معان كثـيرة لا علـى معنى واحد، كما قال الربـيع بن أنس، وإن كان الربـيع قد اقتصر به علـى معان ثلاثة دون ما زاد علـيها. والصواب فـي تأويـل ذلك عندي أن كل حرف منه يحوي ما قاله الربـيع وما قاله سائر الـمفسرين غيره فـيه، سوى ما ذكرت من القول عمن ذكرت عنه من أهل العربـية أنه كان يوجّه تأويـل ذلك إلـى أنه حروف هجاء استُغنـي بذكر ما ذكر منه فـي مفـاتـح السور عن ذكر تتـمة الثمانـية والعشرين حرفـاً من حروف الـمعجم بتأويـل: أن هذه الـحروف، ذلك الكتاب، مـجموعةٌ لا ريب فـيه، فإنه قول خطأ فـاسد لـخروجه عن أقوال جميع الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من الـخالفـين من أهل التفسير والتأويـل، فكفـى دلالة علـى خطئه شهادة الـحجة علـيه بـالـخطأ مع إبطال قائل ذلك قوله الذي حكيناه عنه، إذ صار إلـى البـيان عن رفع ذلك الكتاب بقوله مرة إنه مرفوع كل واحد منهما بصاحبه ومرة أخرى أنه مرفوع بـالراجع من ذكره فـي قوله:


ومرة بقوله:


وذلك ترك منه لقوله إن { آلـم } رافعة


وخروج من القول الذي ادّعاه فـي تأويـل { الـم ذَلِكَ الكِتَابُ } وأن تأويـل ذلك: هذه الـحروف ذلك الكتاب.

فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون حرف واحد شاملاً الدلالة علـى معان كثـيرة مختلفة؟ قـيـل: كما جاز أن تكون كلـمة واحدة تشتـمل علـى معان كثـيرة مختلفة كقولهم للـجماعة من الناس: أمة، وللـحين من الزمان: أمة، وللرجل الـمتعبد الـمطيع لله: أمة، وللدين والـملة: أمة.

-8-

وكقولهم للـجزاء والقصاص: دين، وللسلطان والطاعة: دين، وللتذلل: دين، وللـحساب: دين فـي أشبـاه لذلك كثـيرة يطول الكتاب بإحصائها، مـما يكون من الكلام بلفظ واحد، وهو مشتـمل علـى معان كثـيرة. وكذلك قول الله جل ثناؤه: «الـم والـمر»، و«الـمص» وما أشبه ذلك من حروف الـمعجم التـي هي فواتـح أوائل السور، كل حرف منها دالّ علـى معان شتـى، شامل جميعها من أسماء الله عز وجل وصفـاته ما قاله الـمفسرون من الأقوال التـي ذكرناها عنهم وهن مع ذلك فواتـح السور كما قاله من قال ذلك. ولـيس كونُ ذلك من حروف أسماء الله جل ثناؤه وصفـاته بـمانعها أن تكون للسور فواتـح لأن الله جل ثناؤه قد افتتـح كثـيرا من سور القرآن بـالـحمد لنفسه والثناء علـيها، وكثـيراً منها بتـمـجيدها وتعظيـمها، فغير مستـحيـل أن يبتدىء بعض ذلك بـالقسم بها. فـالتـي ابتُدىء أوائلها بحروف الـمعجم أحد معانـي أوائلها أنهنّ فواتـح ما افتتـح بهنّ من سور القرآن، وهنّ مـما أقسم بهن لأن أحد معانـيهن أنهن من حروف أسماء الله تعالـى ذكره وصفـاته علـى ما قدمنا البـيان عنها، ولا شك فـي صحة معنى القسم بـالله وأسمائه وصفـاته، وهن من حروف حساب الـجمل، وهنّ للسور التـي افتتـحت بهن شعار وأسماء. فذلك يحوي معانـي جميع ما وصفنا مـما بـينا من وجوهه، لأن الله جل ثناؤه لو أراد بذلك أو بشيء منه الدلالة علـى معنى واحد مـما يحتـمله ذلك دون سائر الـمعانـي غيره، لأبـان ذلك لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إبـانة غير مشكلة، إذ كان جل ثناؤه إنـما أنزل كتابه علـى رسوله صلى الله عليه وسلم لـيبـين لهم ما اختلفوا فـيه. وفـي تركه صلى الله عليه وسلم إبـانة ذلك أنه مراد به من وجوه تأويـله البعض دون البعض أوضح الدلـيـل علـى أنه مراد به جميع وجوهه التـي هو لها مـحتـمل، إذ لـم يكن مستـحيلاً فـي العقل وجهٌ منها أن يكون من تأويـله ومعناه كما كان غير مستـحيـل اجتـماع الـمعانـي الكثـيرة للكلـمة الواحدة بـاللفظ الواحد فـي كلام واحد.

ومن أبى ما قلناه فـي ذلك سئل الفرق بـين ذلك وبـين سائر الـحروف التـي تأتـي بلفظ واحد مع اشتـمالها علـى الـمعانـي الكثـيرة الـمختلفة كالأمة والدين وما أشبه ذلك من الأسماء والأفعال. فلن يقول فـي أحد ذلك قولاً إلا أُلزم فـي الآخر مثله. وكذلك يُسأل كل من تأوّل شيئاً من ذلك علـى وجه دون الأوجه الأخر التـي وصفنا عن البرهان علـى دعواه من الوجه الذي يجب التسلـيـم له ثم يعارض بقوله يخالفه فـي ذلك، ويسأل الفرق بـينه وبـينه: من أصْلٍ، أو مـما يدل علـيه أصلٌ، فلن يقول فـي أحدهما قولاً إلا ألزم فـي الآخر مثله.

-9-

وأما الذي زعم من النـحويـين أن ذلك نظير، «بل» فـي قول الـمنشد شعراً:

بل...
ما هاجَ أحْزَانا وَشَجْواً قَدْ شَجا

وأنه لا معنى له، وإنـما هو زيادة فـي الكلام معناه الطرح فإنه أخطأ من وجوه شتـى:

أحدها: أنه وصف الله تعالـى ذكره بأنه خاطب العرب بغير ما هو من لغتها وغير ما هو فـي لغة أحد من الآدميـين، إذ كانت العرب وإن كانت قد كانت تفتتـح أوائل إنشادها ما أنشدت من الشعر ب«بل»، فإنه معلوم منها أنها لـم تكن تبتدىء شيئا من الكلام ب«الـم» و«الر» و«الـمص» بـمعنى ابتدائها ذلك ب«بل». وإذ كان ذلك لـيس من ابتدائها، وكان الله جل ثناؤه إنـما خاطبهم بـما خاطبهم من القرآن بـما يعرفون من لغاتهم ويستعملون بـينهم من منطقهم فـي جميع آيهِ، فلا شك أن سبـيـل ما وصفنا من حروف الـمعجم التـي افتتـحت بها أوائل السور التـي هن لها فواتـح سبـيـل سائر القرآن فـي أنه لـم يعدل بها عن لغاتهم التـي كانوا بها عارفـين ولها بـينهم فـي منطقهم مستعملـين لأن ذلك لو كان معدولاً به عن سبـيـل لغاتهم ومنطقهم كان خارجاً عن معنى الإبـانة التـي وصف الله عز وجل بها القرآن، فقال تعالـى ذكره:


وأنّى يكون مبـيناً ما لا يعقله ولا يفقهه أحد من العالـمين فـي قول قائل هذه الـمقالة، ولا يعرف فـي منطق أحد من الـمخـلوقـين فـي قوله؟ وفـي إخبـار الله جل ثناؤه عنه أنه عربـيّ مبـين ما يكذّب هذه الـمقالة، وينبىء عنه أن العرب كانوا به عالـمين وهو لها مستبـين. فذلك أحد أوجه خطئه.

والوجه الثانـي من خطئه فـي ذلك: إضافته إلـى الله جل ثناؤه أنه خاطب عبـاده بـما لا فـائدة لهم فـيه ولا معنى له من الكلام الذي سواء الـخطاب به وترك الـخطاب به، وذلك إضافة العبث الذي هو منفـي فـي قول جميع الـموحدين عن الله، إلـى الله تعالـى ذكره.

والوجه الثالث من خطئة: أن «بل» فـي كلام العرب مفهوم تأويـلها ومعناها، وأنها تدخـلها فـي كلامها رجوعا عن كلام لها قد تقضى كقولهم: مَا جاءنـي أخوك بل أبوك وما رأيت عمراً بل عبد الله، وما أشبه ذلك من الكلام، كما قال أعشى بنـي ثعلبة:
وَءَلاشْرَبَنَّ ثَمَانِـياً وثَمَانِـياًوَثَلاثَ عَشْرَةَ وَاثْنَتَـيْنَ وَأرْبَعاً

ومضى فـي كلـمته حتـى بلغ قوله:
بـالـجُلَّسانِ وَطَيِّبٌ أرْدَانُهُبـالوَنِّ يَضْرِبُ لـي يَكُد أُلاصْبُعا

ثم قال:
بَلْ عُدَّ هَذَا فـي قَرِيضِ غَيْرِهِوَاذْكُرْ فَتًـى سَمْـحَ الـخَـلِـيقَةِ أرْوَعا

فكأنه قال: دع هذا وخذ فـي قريض غيره. ف«بل» إنـما يأتـي فـي كلام العرب علـى هذا النـحو من الكلام. فأما افتتاحاً لكلامها مبتدأ بـمعنى التطويـل والـحذف من غير أن يدل علـى معنى، فذلك مـما لا نعلـم أحداً ادعاه من أهل الـمعرفة بلسان العرب ومنطقها، سوى الذي ذكرت قوله، فـيكون ذلك أصلاً يشبَّه به حروف الـمعجم التـي هي فواتـح سور القرآن التـي افتتـحت بها لو كانت له مشبهة، فكيف وهي من الشبه به بعيدة؟

-10-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم

آخر تعديل بواسطة admin ، 12-02-2010 الساعة 01:56 PM
رد مع اقتباس
 
 
  #3  
قديم 12-02-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ) مصنف و مدقق 1-7

تفسير الكشاف/ الزمخشري (ت 538 هـ) مصنف و مدقق 1-7

«الۤمۤ» إعلم أنّ الألفاظ التي يتهجى بها أسماء، مسمياتها الحروف المبسوطة التي منها ركبت الكلم، فقولك ـ ضاد ـ اسم سمي به «ضه» من ضرب إذا تهجيته، وكذلك: را، با: اسمان لقولك: ره، به؛ وقد روعيت في هذه التسمية لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف وحدان والأسامي عدد حروفها مرتق إلى الثلاثة، اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في التسمية على المسمى فلم يغفلوها، وجعلوا المسمى صدر كل اسم منها كما ترى، إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها؛ لأنه لا يكون إلا ساكناً. ومما يضاهيها في إيداع اللفظ دلالة على المعنى: التهليل، والحوقلة، والحيعلة، والبسملة؛ وحكمها ـ ما لم تلها العوامل ـ أن تكون ساكنة الأعجاز موقوفة كأسماء الأعداد، فيقال: ألف لام ميم، كما يقال: واحد اثنان ثلاثة؛ فإذا وليتها العوامل أدركها الإعراب. تقول: هذه ألف، وكتبت ألفاً، ونظرت إلى ألف؛ وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية ذاته فحسب، قبل أن يحدث فيه بدخول العوامل شيء من تأثيراتها، فحقك أن تلفظ به موقوفاً. ألا ترى أنك إذا أردت أن تلقى على الحاسب أجناساً مختلفة ليرفع حسبانها، كيف تصنع وكيف تلقيها أغفالاً من سمة الإعراب؟ فتقول: دار، غلام، جارية، ثوب، بساط. ولو أعربت ركبت شططاً. فإن قلت: لم قضيت لهذه الألفاظ بالإسمية؟ وهلا زعمت أنها حروف كما وقع في عبارات المتقدّمين؟ قلت: قد استوضحت بالبرهان النير أنها أسماء غير حروف، فعلمت أن قولهم خليق بأن يصرف إلى التسامح، وقد وجدناهم متسامحين في تسمية كثير من الأسماء التي لا يقدح إشكال في اسميتها كالظروف وغيرها بالحروف، مستعملين الحرف في معنى الكلمة، وذلك أن قولك: «ألف» دلالته على أوسط حروف «قال، وقام» دلالة «فرس» على الحيوان المخصوص، لا فضل فيما يرجع إلى التسمية بين الدلالتين. ألا ترى أنّ الحرف: ما دلّ على معنى في غيره، وهذا كما ترى دال على معنى في نفسه؛ ولأنها متصرف فيها بالإمالة كقولك: با، تا. وبالتفخيم كقولك: يا، ها. وبالتعريف، والتنكير، والجمع والتصغير، والوصف، والإسناد، والإضافة، وجميع ما للأسماء المتصرفة. ثم إني عثرت من جانب الخليل على نص في ذلك. قال سيبويه: قال الخليل يوماً ـ وسأل أصحابه ـ: كيف تقولون إذا أردتم أن تلفظوا بالكاف التي في لك، والباء التي في ضرب؟ فقيل: نقول: باء، كاف؛ فقال: إنما جئتم بالإسم، ولم تلفظوا بالحرف، وقال: أقول: كه، به. وذكر أبو علي في كتاب الحجة في (يسۤ): وإمالة يا، أنهم قالوا: يا زيد، في النداء؛ فأمالوا وإن كان حرفاً، قال: فإذا كانوا قد أمالوا ما لا يمال من الحروف من أجل الياء، فلأن يميلوا الاسم الذي هو يسۤ أجدر.


-1-

ألا ترى أنّ هذه الحروف أسماء لما يلفظ بها؟ فإن قلت: من أي قبيل هي من الأسماء، أمعربة أم مبنية؟ قلت: بل هي أسماء معربة، وإنما سكنت سكون زيد وعمرو وغيرهما من الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد مقتضيه وموجبه. والدليل على أنّ سكونها وقف وليس ببناء: أنها لو بنيت لحذى بها حذو: كيف، وأين، وهؤلاء. ولم يقل: ص، ق، ن مجموعاً فيها بين الساكنين. فإن قلت فلم لفظ المتهجي بما آخره ألف منها مقصوراً، فلما أعرب مدّ فقال هذه باء، وياء، وهاء؛ وذلك يخيل أن وزانها وزان قولك «لا» مقصورة؛ فإذا جعلتها إسماً مددت فقلت: كتبت لاء؟ قلت: هذا التخيل يضمحل بما لخصته من الدليل؛ والسبب في أن قصرت متهجاة، ومدّت حين مسها الإعراب: أنّ حال التهجي خليقة بالأخف الأوجز، واستعمالها فيه أكثر. فإن قلت: قد تبين أنها أسماء لحروف المعجم، وأنها من قبيل المعربة، وأن سكون أعجازها عند الهجاء لأجل الوقف، فما وجه وقوعها على هذه الصورة فواتح للسور؟ قلت: فيه أوجه: أحدها وعليه إطباق الأكثر: أنها أسماء السور. وقد ترجم صاحب الكتاب الباب الذي كسره على ذكرها في حد ما لا ينصرف بـ«باب أسماء السور» وهي في ذلك على ضربين: أحدهما ما لا يتأتى فيه إعراب، نحو:كهيعص ،والمر. والثاني: ما يتأتى فيه الإعراب، وهو إما أن يكون اسماً فرداً كص، وق، ون، أو أسماء عدّة مجموعها على زنة مفرد كـ«حم وطس ويس»؛ فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وكذلك طسم يتأتى فيها أن تفتح نونها، وتصير ميم مضمومة إلى طس فيجعلا اسما واحد؛ كدارا بحرد؛ فالنوع الأول محكى ليس إلاّ؛ وأما النوع الثاني فسائغ فيه الأمران: الإعراب، والحكاية؛ قال قاتل محمد بن طلحة السجاد وهو شريح بن أوفى العبسي.

يُذَكِّرُنِي حَامِيمَ وَالرُّمْحُ شَاجِرٌفَهَلاَّ تَلاَ حَامِيمَ قَبْلَ التَّقَدُّمِ


فأعرب حاميم ومنعها الصرف، وهكذا كل ما أعرب من أخواتها؛ لاجتماع سببي منع الصرف فيها، وهما: العلمية، والتأنيث. والحكاية أن تجيء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى. كقولك: دعني من تمرتان، (وبدأت بالحمد لله)، وقرأت:

{ سُورَةٌ أَنزَلْنَـٰهَا } [النور24: 1]

قال:

وَجَدْنا في كِتَابِ بَني تَمِيمأَحَقُّ الْخَيّلِ بالرَّكْضِ المُعَارُ


وقال ذو الرمّة:

سَمِعْتُ النَّاسَ يَنْتَجِعُونَ غَيثاًفَقُلْتُ لِصَيْدَح انْتَجِعي بِلاَلاَ


وقال آخر:

تَنَادَوْا بالرَّحِيلِ غَداًوَفي تَرْحَالِهمْ نَفْسِي


وروى منصوباً ومجروراً. ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول: رأيت زيداً، من زيداً؟ وقال سيبويه: سمعت من العرب: لا من أين يا فتى. فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: ص، وق، ون مفتوحات؟ قلت: الأوجه أن يقال: ذاك نصب وليس بفتح، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف على ما ذكرت.

-2-

وانتصابها بفعل مضمر. نحو: اذكر؛ وقد أجاز سيبويه مثل ذلك في: حم، وطس، ويس لو قرىء به. وحكى أبو سعيد السيرافي أنّ بعضهم قرأ: يس. ويجوز أن يقال: حرّكت لالتقاء الساكنين، كما قرأ من قرأ: «ولا الضالين». فإن قلت: هلا زعمت أنها مقسم بها؟ وأنها نصبت قولهم: نعم الله لأفعلن، وأي الله لأفعلن، على حذف حرف الجر وإعمال فعل القسم؟ وقال ذو الرمة:

أَلاَ رُبَّ مَنْ قَلْبي لَهُ للَّهَ نَاصِح


وقال آخر:

فَذَاكَ أَمَانَةُ اللَّهِ الثَّرِيدُ


قلت: إنّ القرآن والقلم بعد هذه الفواتح محلوف بهما، فلو زعمت ذلك لجمعت بين قسمين على مقسم واحد وقد استكرهوا ذلك. قال الخليل في قوله عزّ وجلّ:

{ وٱلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَق ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنْثَىٰۤ } [الليل02: 1-3]

الواوان الأخريان ليستا لمنزلة الأولى، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك: مررت بزيد وعمرو، والأولى بمنزلة الباء والتاء، قال سيبويه: قلت للخليل: فلم لا تكون الأخريان بمنزلة الأولى؟ فقال: إنما أقسم بهذه الأشياء على شيء، ولو كان انقضى قسمه بالأوّل على شيء لجاز أن يستعمل كلاماً آخر، فيكون كقولك بالله لأفعلنّ، بالله لأخرجنّ اليوم، ولا يقوى أن تقول: وحقك وحق زيد لأفعلنّ. والواو الأخيرة واو قسم لا يجوز إلا مستكرهاً قال: وتقول وحياتي ثم حياتك لأفعلنّ؛ فثم هٰهنا بمنزلة الواو. هذا ولا سبيل فيما نحن بصدده إلى أن تجعل الواو للعطف؛ لمخالفة الثاني الأول في الإعراب. فإن قلت: فقدّرها مجرورة بإضمار الباء القسمية لا بحذفها، فقد جاء عنهم: الله لأفعلن مجروراً، ونظيره قولهم: لاه أبوك؛ غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، واجعل الواو للعطف حتى يستتب لك المصير إلى نحو ما أشرت إليه. قلت: هذا لا يبعد عن الصواب، ويعضده ما رووا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أقسم الله بهذه الحروف.


فإن قلت: فما وجه قراءة بعضهم ص وق بالكسر؟ قلت: وجهها ما ذكرت من التحريك لالتقاء الساكنين، والذي يبسط من عذر المحرّك: أن الوقف لما استمرّ بهذه الأسامي، شاكلت لذلك ما اجتمع في آخره ساكنان من المبينات، فعوملت تارة معاملة «الآن» وأخرى معاملة «هؤلاء». فإن قلت: هل تسوغ لي في المحكية مثل ما سوّغت لي في المعربة من إرادة معنى القسم؟ قلت: لا عليك في ذلك، وأن تقدّر حرف القسم مضمراً في نحو قوله عز وجل:

{ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الدخان44: 1-2]،

كأنه قيل: أقسم بهذه السورة، وبالكتاب المبين: إنا جعلناه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم:


(9) " حم لا ينصرون " فيصلح أن يقضى له بالجرّ والنصب جميعاً على حذف الجار وإضماره. فإن قلت: فما معنى تسمية السور بهذه الألفاظ خاصة؟ قلت: كأن المعنى في ذلك الإشعار بأن الفرقان ليس إلا كلما عربية معروفة التركيب من مسميات هذه الألفاظ، كما قال عز من قائل:

-3-

{ قرآناً عَرَبِيّاً } [يوسف12: 2].

فإن قلت: فما بالها مكتوبة في المصحف على صور الحروف أنفسها، لا على صور أساميها؟ قلت: لأنّ الكلم لما كانت مركبة من ذوات الحروف، واستمرّت العادة متى تهجيت ومتى قيل للكاتب: اكتب كيت وكيت أن يلفظ بالأسماء وتقع في الكتابة الحروف أنفسها، عمل على تلك الشاكلة المألوفة في كتابة هذه الفواتح. وأيضاً فإن شهرة أمرها، وإقامة ألسن الأسود والأحمر لها، وأنّ اللافظ بها غير متهجاة لا يحلى بطائل منها ،وأنّ بعضها مفرد لا يخطر ببال غير ما هو عليه من مورده: أمنت وقوع اللبس فيها، وقد اتفقت في خط المصحف أشياء خارجة عن القياسات التي بني عليها علم الخط والهجاء؛ ثم ما عاد ذلك بضير ولا نقصان؛ لاستقامة اللفظ وبقاء الحفظ، وكان أتباع خط المصحف سنة لا تخالف. قال عبد الله بن درستويه في كتابه: المترجم بكتاب الكتاب المتمم: في الخط والهجاء خطان لا يقاسان: خط المصحف، لأنه سنة، وخط العروض؛ لأنه يثبت فيه ما أثبته اللفظ ويسقط عنه ما أسقطه. الوجه الثاني: أن يكون ورود هذه الأسماء هكذا مسرودة على نمط التعديد كالإيقاظ وقرع العصا لمن تحدّى بالقرآن وبغرابة نظمه؛ وكالتحريك للنظر في أن هذا المتلو عليهم وقد عجزوا عنه عن آخرهم كلام منظوم من عين ما ينظمون منه كلامهم ليؤديهم النظر إلى أن يستيقنوا أن لم تتساقط مقدرتهم دونه، ولم تظهر معجزتهم عن أن يأتوا بمثله بعد المراجعات المتطاولة، وهم أمراء الكلام وزعماء الحوار، وهم الحرّاص على التساجل في اقتضاب الخطب، والمتهالكون على الافتنان في القصيد والرجز، ولم يبلغ من الجزالة وحسن النظم المبالغ التي بزت بلاغة كل ناطق، وشقت غبار كل سابق، ولم يتجاوز الحدّ الخارج من قوى الفصحاء، ولم يقع وراء مطامح أعين البصراء؛ إلا لأنه ليس بكلام البشر، وأنه كلام خالق القوى والقدر. وهذا القول من القوة والخلاقة بالقبول بمنزل، ولناصره على الأوّل أن يقول: إن القرآن إنما نزل بلسان العرب مصبوباً في أساليبهم واستعمالاتهم، والعرب لم تتجاوز ما سموا به مجموع اسمين، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، والقول بأنها أسماء السور حقيقة: يخرج إلى ما ليس في لغة العرب، ويؤدّي أيضاً إلى صيرورة الاسم والمسمى واحداً. فإن اعترضت عليه بأنه قول مقول على وجه الدهر وأنه لا سبيل إلى ردّه، أجابك بأن له محملاً سوى ما يذهب إليه، وأنه نظير قول الناس: فلان يروي: قفا نبك، وعفت الديار. ويقول الرجل لصاحبه: ما قرأت؟ فيقول: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } و

{ بَرَاءةٌ مّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [التوبة9: 1] و

{ يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِى أَوْلَـٰدِكُمْ } [النساء4: 11]


-4-
و

{ الِلَّهِ نُورُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأَرْضِ } [النور24: 35].


وليست هذه الجمل بأسامي هذه القصائد وهذه السور والآي، وإنما تعني رواية القصيدة التي ذاك استهلالها، وتلاوة السورة أو الآية التي تلك فاتحتها. فلما جرى الكلام على أسلوب من يقصد التسمية، واستفيد منها ما يستفاد من التسمية، قالوا ذلك على سبيل المجاز دون الحقيقة. وللمجيب عن الاعتراضين على الوجه الأول أن يقول: التسمية بثلاثة أسماء فصاعداً مستنكرة لعمري وخروج عن كلام العرب، ولكن إذا جعلت إسماً واحداً على طريقة حضرموت، فأما غير مركبة منثورة نثر أسماء العدد فلا استنكار فيها؛ لأنها من باب التسمية بما حقه أن يحكى حكاية، كما سموا: بتأبط شراً، وبرق نحره، وشاب قرناها. وكما لو سمي: بزيد منطلق، أو بيت شعر. وناهيك بتسوية سيبويه بين التسمية بالجملة والبيت من الشعر، وبين التسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم، دلالة قاطعة على صحة ذلك. وأما تسمية السورة كلها بفاتحتها، فليست بتصيير الاسم والمسمى واحداً، لأنها تسمية مؤلف بمفرده، والمؤلف غير المفرد. ألا ترى أنهم جعلوا اسم الحرف مؤلفاً منه ومن حرفين مضمومين إليه، كقولهم: صاد، فلم يكن من جعل الاسم والمسمى واحداً حيث كان الاسم مؤلفاً والمسمى مفرداً. الوجه الثالث: أن ترد السور مصدّرَةً بذلك ليكون أوّل ما يقرع الأسماع مستقلاً بوجه من الإعراب، وتقدمة من دلائل الإعجاز. وذلك أنّ النطق بالحروف أنفسها كانت العرب فيه مستوية الأقدام: الأميون منهم وأهل الكتاب، بخلاف النطق بأسامي الحروف. فإنه كان مختصاً بمن خط وقرأ وخالط أهل الكتاب وتعلم منهم، وكان مستغرباً مستبعداً من الأمي التكلم بها استبعاد الخط والتلاوة، كما قال عز وجل:

{ وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَـٰبٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَـٰبَ ٱلْمُبْطِلُونَ } [العنكبوت: 48].

فكان حكم النطق بذلك ـ مع اشتهار أنه لم يكن ممن اقتبس شيئاً من أهله ـ حكم الأقاصيص المذكورة في القرآن، التي لم تكن قريش ومن دان بدينها في شيء من الإحاطة بها، في أن ذلك حاصل له من جهة الوحي، وشاهد بصحة نبوته، وبمنزلة أن يتكلم بالرطانة من غير أن يسمعها من أحد. واعلم أنك إذا تأملت ما أورده الله عز سلطانه في الفواتح من هذه الأسماء. وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر سواء، وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون ـ في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف، بيان ذلك أن فيها من المهموسة نصفها: الصاد، والكاف، والهاء، والسين، والحاء. ومن المجهورة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والعين، والطاء، والقاف، والياء، والنون. ومن الشديدة نصفها: الألف، والكاف، والطاء، والقاف. ومن الرخوة نصفها: اللام، والميم، والراء، والصاد، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والياء، والنون.


-5-

ومن المطبقة نصفها: الصاد، والطاء. ومن المنفتحة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والسين، والحاء، والقاف، والياء، والنون. ومن المستعلية نصفها: القاف، والصاد، والطاء. ومن المنخفضة نصفها: الألف، واللام، والميم، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين، والسين، والحاء، والنون. ومن حروف القلقلة نصفها: القاف، والطاء. ثم إذا استقريت الكلم وتراكيبها، رأيت الحروف التي ألغى الله ذكرها من هذه الأجناس المعدودة مكثورة بالمذكورة منها، فسبحان الذي دقت في كل شيء حكمته. وقد علمت أن معظم الشيء وجله ينزل منزلة كله، وهو المطابق للطائف التنزيل واختصاراته، فكأن الله عز اسمه عدّد على العرب الألفاظ التي منها تراكيب كلامهم، إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم وإلزام الحجة إياهم. ومما يدل على أنه تغمد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعاً في تراكيب الكلم، أن الألف واللام لما تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين. وهي: فواتح سورة البقرة، وآل عمران، والروم، والعنكبوت، ولقمان، والسجدة، والأعراف، والرعد، ويونس، وإبراهيم، وهود، ويوسف، والحجر. فإن قلت: فهلا عدّدت بأجمعها في أوّل القرآن؟ وما لها جاءت مفرقة على السور؟ قلت: لأنّ إعادة التنبيه على أنّ المتحدّى به مؤلف منها لا غير، وتجديده في غير موضع واحد أوصل إلى الغرض وأقرّ له في الأسماع والقلوب من أن يفرد ذكره مرة، وكذلك مذهب كل تكرير جاء في القرآن فمطلوب به تمكين المكرر في النفوس وتقريره. فإن قلت: فهلا جاءت على وتيرة واحدة؟ ولم اختلفت أعداد حروفها فوردت ص و ق و ن على حرف، وطه و طس و يس و حم على حرفين، والم والر وطسم على ثلاثة أحرف، والمص والمر على أربعة أحرف، وكهيعص وحم عسق على خمسة أحرف؟ قلت: هذا على إعادة افتنانهم في أساليب الكلام، وتصرفهم فيه على طرق شتى ومذاهب متنوّعة. وكما أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف لم تتجاوز ذلك، سلك بهذه الفواتح ذلك المسلك. فإن قلت: فما وجه اختصاص كل سورة بالفاتحة التي اختصت بها؟ قلت: إذا كان الغرض هو التنبيه ـ والمبادىء كلها في تأدية هذا الغرض سواء لا مفاضلة ـ كان تطلب وجه الاختصاص ساقطاً، كما إذا سمى الرجل بعض أولاده زيداً والآخر عمراً، لم يقل له: لم خصصت ولدك هذا بزيد وذاك بعمرو؟ لأنّ الغرض هو التمييز وهو حاصل أية سلك؛ ولذلك لا يقال: لم سمي هذا الجنس بالرجل وذاك بالفرس؟ ولم قيل للاعتماد الضرب؟ وللانتصاب القيام؟ ولنقيضه القعود؟ فإن قلت: ما بالهم عدّوا بعض هذه الفواتح آية دون بعض؟ قلت: هذا علم توقيفي لا مجال للقياس فيه كمعرفة السور. أمّا الم فآية حيث وقعت من السور المفتتحة بها.

-6-

وهي ست. وكذلك المص آية، والمر لم تعدّ آية، والر ليست بآية في سورها الخمس، وطسم آية في سورتيها، وطه ويس آيتان، وطس ليست بآية، وحم آية في سورها كلها، و حم عسق آيتان، وكهيعص آية واحدة، وص و ق و ن ثلاثتها لم تعدّ آية. هذا مذهب الكوفيين ومن عداهم، لم يعدّوا شيئاً منها آية. فإن قلت: فكيف عدّ ما هو في حكم كلمة واحدة آية؟ قلت: كما عدّ الرحمٰن وحده ومدهامّتان وحدها آيتين على طريق التوقيف. فإن قلت: ما حكمها في باب الوقف؟ قلت: يوقف على جميعها وقف التمام إذا حملت على معنى مستقل غير محتاج إلى ما بعده، وذلك إذا لم تجعل أسماء للسور ونعق بها كما ينعق بالأصوات أو جعلت وحدها أخبار ابتداء محذوف كقوله عز قائلاً: (الم الله) أي هذه الم ثم ابتدأ فقال:

{ الم * ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران3: 1-2].

فإن قلت: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب؟ قلت: نعم لها محل فيمن جعلها أسماء للسور لأنها عنده كسائر الأسماء الأعلام. فإن قلت: ما محلها؟ قلت: يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع: فعلى الابتداء، وأما النصب والجرّ، فلما مرّ من صحة القسم بها وكونها بمنزلة: الله والله على اللغتين. ومن لم يجعلها أسماء للسور، لم يتصوّر أن يكون لها محل في مذهبه، كما لا محل للجمل المبتدأ وللمفردات المعدّدة.



-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #4  
قديم 02-12-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) مصنف و مدقق 1-3

تفسير مجمع البيان في تفسير القرآن/ الطبرسي (ت 548 هـ) مصنف و مدقق 1-3

{ الۤـمۤ }


كوفيّ: اختلف العلماء في الحروف المعجمة المفتتحة بها السور فذهب بعضهم إلى أنها من المتشابهات التي استأثر الله تعالى ولا يعلم تأويلها إلا هو؛ هذا هو المروي عن أئمتنا عليهم السلام وروت العامة عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال إنّ لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وعن الشعبي قال: لله في كل كتاب سرٌّ وسره في القرآن سائر حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور وفسرها الآخرون على وجوه:

أحدها: إنها أسماء السور ومفاتحها عن الحسن وزيد بن أسلم.

وثانيها: أن المراد بها الدلالة على أسماء الله تعالى فقولـه تعالى: { الم } معناه أنا الله أعلم و { المر } معناه: أنا الله أعلم وأرى و { المص } معناه أنا الله أعلم وأفصل والكاف في كهيعص من كاف والهاء من هادٍ والياء من حكيم والعين من عليم والصاد من صادق عن ابن عباس. وعنه أيضاً: إن الم الألف منه تدل على اسم الله واللام تدل على اسم جبرائيل والميم تدل على اسم محمد صلى الله عليه وسلم وروى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره مسنداً إلى علي بن موسى الرضا عليه السلام قال: سئل جعفر بن محمد الصادق عن قولـه الم فقال في الألف ست صفات من صفات الله تعالى: (الابتداء) فإِن الله ابتدأ جميع الخلق والألف ابتداء الحروف و(الإستواء) فهو عادل غير جائر والألف مستو في ذاته و(الانفراد) فالله فرد والألف فرد و(اتصال الخلق بالله) والله لا يتصل بالخلق وكلهم محتاجون إلى الله والله غني عنهم وكذلك الألف لا يتصل بالحروف والحروف متصلة به وهو منقطع من غيره والله عز وجل باين بجميع صفاته من خلقه ومعناه من الألفة فكما أن الله عز وجل سبب إلفة الخلق فكذلك الألف عليه تألفت الحروف وهو سبب ألفتها.

وثالثها: أنها أسماء الله تعالى منقطعة لو أحسن الناس تأليفها لعلموا اسم الله الأعظم تقول: الر وحم ون فيكون الرحمن وكذلك سائرها إلا أنا لا نقدر على وصلها والجمع بينها عن سعيد بن جبير.

ورابعها: أنها أسماء القرآن عن قتادة.

وخامسها: أنها أقسام أقسم الله تعالى بها وهي من أسمائه عن ابن عباس وعكرمة. قال الأخفش: وإنما أقسم الله تعالى بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة وأسمائه الحسنى وصفاته العليا وأصول كلام الأمم كلها بها يتعارفون ويذكرون الله عز اسمه ويوحدونه فكأنه هو أقسم بهذه الحروف أن القرآن كتابه وكلامه.

وسادسها: أن كل حرف منها مفتاح اسم من أسماء الله تعالى وليس فيها حرف إلا وهو في آلائه وبلائه وليس فيها حرف إلا وهو في مدة قوم وآجال آخرين, عن أبي العالية.
-1-

وقد ورد أيضاً مثل ذلك في أخبارنا.

وسابعها: أن المراد بها مدة بقاء هذه الامة. عن مقاتل بن سليمان قال مقاتل: حسبنا هذه الحروف التي في أوائل السور باسقاط المكرر فبلغت سبعمائة وأربعاً وأربعين سنة وهي بقية مدة هذه الامة. قال علي بن فضال المجاشعي النحوي: وحسبت هذه الحروف التي ذكرها مقاتل فبلغت ثلاثة آلاف وخمسة وستين فحذفت المكررات فبقي ستمائة وثلاث وتسعون والله أعلم بما فيها. وأقول قد حسبتها أنا أيضاً فوجدتها كذلك. ويروى أن اليهود لما سمعوا الم قالوا مدة ملك محمد صلى الله عليه وسلم قصيرة إنما تبلغ إحدى وسبعين سنة فلما نزلت الر والمر والمص وكهيعص اتسع عليهم الأمر هذه أقوال أهل التفسير.

وثامنها: أن المراد بها حروف المعجم استغنى بذكر ما منها في أوائل السور عن ذكر بواقيها التي هي تمام الثمانية والعشرين حرفاً كما يستغنى بذكر قِفانَبَكِ عن ذكر باقي القصيدة وكما يقال اب في أبجد وفي أ ب ت ث ولم يذكروا باقي الحروف قال الراجز:

لَمَّا رَأيْتُ أنَّها في حُطِّيأَخَذَت مِنْها بقُرُونٍ شُمْطِ


وإِنما أراد الخبر عن المراءة بأنها في أبجد فأقام قولـه حطي مقامه لدلالة الكلام عليه.

وتاسعها: أنها تسكيت للكفار لأن المشركين كانوا تواصوا فيما بينهم أن لا يستمعوا لهذا القرآن وأن يلغوا فيه كما ورد به التنزيل من قولـه:

{ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ } [فصلت41: 26]

فربما صفروا وربما صفقوا وربما لغطوا ليُغلِّطوا النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الحروف حتى إذا سمعوا شيئاً غريباً استمعوا إليه وتفكروا واشتغلوا عن تغليطه فيقع القرآن في مسامعهم ويكون ذلك سبباً موصلاً لهم إلى درك منافعهم.


وعاشرها: أن المراد بها أن هذا القرآن الذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف التي تتحاورون بها في خطبكم وكلامكم فإِذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنه من عند الله لأن العادة لم تجر بأن الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم وإنما كررت في مواضع استظهاراً في الحجة وهو المحكي عن قطرب واختاره أبو مسلم محمد ابن بحر الأصفهاني.

اللغة: أجود هذه الأقوال القول الأول المحكي عن الحسن لأن أسماء الأعلام منقولة إلى التسمية عن أصولها للتفرقة بين المسميات فتكون حروف المعجم منقولة إلى التسمية ولهذا في أسماء العرب نظير قالوا أوس بن حارثة بن لام الطائي ولا خلاف بين النحويين أنه لا يجوز أن يسمى بحروف المعجم كما يجوز أن يسمى بالجمل نحو تأبط شراً وبرق نحره وكل كلمة لم تكن على معنى الأصل فهي منقولة إلى التسمية للفرق نحو جعفر إذا لم يرد به معنى النهر لم يكن إلا منقولاً إلى العلمية وكذلك اشباهه ولو سميت بألم لحكيت جميع ذلك وأما قول ابن عباس أنه اختصار من أسماء يعلم النبي صلى الله عليه وسلم تمامها فنحوه قول الشاعر:
-2-

نَادَوهُمُ أنْ أَلْجِمُوا ألاَتاقَالُوا جَمِيعاً كُلُّهُمْ ألافَا


يريد ألا تركبون قالوا ألا فاركبوا وقول الآخر:

قُلْنَا لَهَا قفِي قَالَتْ قَافْلا تَحْسَبِي أَنَّا نَسِينَا الايجَافْ


يريد: قالت أنا واقفة.

الإعراب: أما موضع الم من الإعراب فمختلف على حسب اختلاف هذه المذاهب إما على مذهب الحسن فموضعها رفع على اضمار مبتدأ محذوف كأنه قال هذه الم وأجاز الرماني أن يكون الم مبتدأ وذلك الكتاب خبره وتقديره حروف المعجم ذلك الكتاب وهذا فيه بعد لأن حكم المبتدأ أن يكون هو الخبر في المعنى ولم يكن الكتاب هو حروف المعجم ويجوز أن يكون ألم في موضع نصب على اضمار فعل تقديره اتلُ الم وأما على مذهب من جعلها قسماً فموضعها نصب بإضمار فعل لأن حرف القسم إذا حذف يصل الفعل إلى المقسم به فينصبه فإِن معنى قولك بالله: أقسم بالله ثم حذفت أقسم فبقي بالله فلو حذفت الباء لقلت الله لأفعلنَّ وأما على مذهب من جعل هذه الحروف اختصاراً من كلام أو حروفاً مقطعة فلا موضع لها من الإعراب لأنها بمنزلة قولك زيد قائم في أن موضعه لاحظ له في الاعراب وإِنما يكون للجملة موضع إذا وقعت موقع الفرد كقولك زيد أبوه قائم وإن زيداً أبوه قائم لأنه بمنزلة قولك زيد قائم وأن زيداً قائم, وهذه الحروف موقوفة على الحكاية كما يفعل بحروف التهجي لأنها مبنية على السكت كما أن العدد مبني على السكت يدل على ذلك جمعك بين ساكنين في قولك لام ميم وتقول في العدد واحد اثنان ثلاثة أربعة فتقطع ألف اثنين وألف اثنين ألف وصل وتذكر الهاء في ثلاثة وأربعة ولولا أنك تقدر السكت لقلت ثلاثة بالتاء ويدل عليه قول الشاعر:

أَقْبَلْتُ مِنْ عِنْدِ زِيادٍ كالخَرفِ
تَخُطُّ رِجْلاي بِخَطٍّ مُخْتَلِفِ
تُكتِبانِ في الطَّريقِ لامَ الفِ


كأنه قال لام ألف ولكنه ألقى حركة همزة الألف على الميم ففتحها وإِذا أخبرت عن حروف الهجاء أو أسماء الأعداد أعربتها لأنك أدخلتها بالأخبار عنها في جملة الأسماء المتمكنة وأخرجتها بذلك من حيّز الأصوات كما قال الشاعر:

كما بُيِّنت كافٌ تلوح وميمُها


وقال آخر:

إذا اجْتَمَعُوا عَلَى ألِفٍ وبَاءٍوَواوٍ هَاجَ بَينَهُمُ جِدالُ


وتقول هذا كاف حسن وهذه كاف حسنة من ذكَّره فعلى معنى الحرف ومن أنَّثه فعلى معنى الكلمة.
-3-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #5  
قديم 02-12-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 1-12

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 1-12

{ الۤـمۤ }


تفسير آلم حروف الهجاء:

{ الم } فيه مسألتان: المسألة الأولى: ـ

اعلم أن الألفاظ التي يتهجى بها أسماء مسمياتها الحروف المبسوطة، لأن الضاد مثلاً لفظة مفردة دالة بالتواطؤ على معنى مستقل بنفسه من غير دلالة على الزمان المعين لذلك المعنى، وذلك المعنى هو الحرف الأول من «ضرب» فثبت أنها أسماء ولأنها يتصرف فيها بالأمالة والتفخيم والتعريف والتنكير والجمع والتصغير والوصف والإسناد والإضافة، فكانت لا محالة أسماء. فإن قيل قد روى أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قرأ حرفاً من كتاب الله تعالى فله حسنة، والحسنة بعشر أمثالها لا أقول آلم حرف، لكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف " الحديث، والاستدلال به يناقض ما ذكرتم قلنا: سماه حرفاً مجازاً لكونه اسماً للحرف، وإطلاق اسم أحد المتلازمين على الآخر مجاز مشهور.

معاني تسمية حروفها:

فروع: الأول: أنهم راعوا هذه التسمية لمعان لطيفة، وهي أن المسميات لما كانت ألفاظاً كأساميها وهي حروف مفردة والأسامي ترتقي عدد حروفها إلى الثلاثة اتجه لهم طريق إلى أن يدلوا في الاسم على المسمى، فجعلوا المسمى صدر كل اسم منها إلا الألف فإنهم استعاروا الهمزة مكان مسماها لأنه لا يكون إلا ساكناً.

حكمها ما لم تلها العوامل:

الثاني: حكمها ما لم تلها العوامل أن تكون ساكنة الأعجاز كأسماء الأعداد فيقال ألف لام ميم، كما تقول واحد اثنان ثلاثة فإذا وليتها العوامل أدركها الأعراب كقولك هذه ألف وكتبت ألفاً ونظرت إلى ألف، وهكذا كل اسم عمدت إلى تأدية مسماه فحسب، لأن جوهر اللفظ موضوع لجوهر المعنى، وحركات اللفظ دالة على أحوال المعنى، فإذا أريد إفادة جوهر المعنى وجب إخلاء اللفظ عن الحركات.

كونها معربة:

الثالث: هذه الأسماء معربة وإنما سكنت سكون سائر الأسماء حيث لا يمسها إعراب لفقد موجبه، والدليل على أن سكونها وقف لا بناء أنها لو بنيت لحذي بها حذو كيف وأين وهؤلاء ولم يقل صاد قاف نون مجموع فيها بين الساكنين.

معاني آلم:

المسألة الثانية: للناس في قوله تعالى: { الم } وما يجري مجراه من الفواتح قولان: أحدهما: أن هذا علم مستور وسر محجوب استأثر الله تبارك وتعالى به. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لله في كل كتاب سر وسره في القرآن أوائل السور، وقال علي رضي الله عنه: إن لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي. وقال بعض العارفين: العلم بمنزلة البحر فأجرى منه وادٍ ثم أجرى من الوادي نهر. ثم أجرى من النهر جدول، ثم أجرى من الجدول ساقية، فلو أجرى إلى الجدول ذلك الوادي لغرقه وأفسده، ولو سال البحر إلى الوادي لأفسده، وهو المراد من قوله تعالى
-1-

{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } [الرعد13: 17]

فبحور العلم عند الله تعالى، فأعطي الرسل منها أودية، ثم أعطت الرسل من أوديتهم أنهاراً إلى العلماء، ثم أعطت العلماء إلى العامة جداول صغاراً على قدر طاقتهم، ثم أجرت العامة سواقي إلى أهاليهم بقدر طاقتهم. وعلى هذا ما روي في الخبر «للعلماء سر، وللخلفاء سر. وللأنبياء سر، وللملائكة سر، ولله من بعد ذلك كله سر، فلو اطلع الجهال على سر العلماء لأبادوهم، ولو اطلع العلماء على سر الخلفاء لنابذوهم، ولو اطلع الخلفاء على سر الأنبياء لخالفوهم، ولو اطلع الأنبياء على سرالملائكة لاتهموهم، ولو اطلع الملائكة على سر الله تعالى لطاحوا حائرين، وبادوا بائرين». والسبب في ذلك أن العقول الضعيفة لا تحتمل الأسرار القوية، كما لا يحتمل نور الشمس أبصار الخفافيش، فلما زيدت الأنبياء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار النبوة، ولما زيدت العلماء في عقولهم قدروا على احتمال أسرار ما عجزت العامة عنه، وكذلك علماء الباطن، وهم الحكماء زيد في عقولهم فقدروا على احتمال ما عجزت عنه علماء الظاهر. وسئل الشعبي عن هذه الحروف فقال: سر الله فلا تطلبوه، وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: عجزت العلماء عن إدراكها، وقال الحسين بن الفضل: هو من المتشابه.

واعلم أن المتكلمين أنكروا هذا القول هذا القول، وقالوا لا يجوز أن يرد في كتاب الله تعالى ما لا يكون مفهوماً للخلق، واحتجوا عليه بالآيات والأخبار والمعقول.

حجج المتكلمين بالآيات:

أما الآيات فأربعة عشر. أحدها: قوله تعالى:

{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } [محمد47: 24]

أمرهم بالتدبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرهم بالتدبر فيه وثانيها: قوله:

{ أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ ٱلْقُرْءانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱلَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلَـٰفاً كَثِيراً } [النساء4: 82]

فكيف يأمرهم بالتدبر فيه لمعرفة نفي التناقض والاختلاف مع أنه غير مفهوم للخلق؟ وثالثها: قوله:

{ وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ *نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ *عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ ٱلْمُنْذِرِينَ *بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ } [الشعراء26: 192 ـ 195]

فلو لم يكن مفهوماً بطل كون الرسول صلى الله عليه وسلم منذراً به، وأيضاً قوله: { بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مُّبِينٍ } يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون مفهوماً. ورابعها: قوله:

{ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء4: 83]

والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه وخامسها: قوله

{ تِبْيَانًا لّكُلّ شَىْء } [النحل16: 89] وقوله
{ مَّا فَرَّطْنَا فِى ٱلكِتَـٰبِ مِن شَىْء } [الأنعام6: 38]

وسادسها: قوله:

{ هُدًى لّلنَّاسِ } [البقرة2: 185]،
{ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ } [البقرة2: 2]

وغير المعلوم لا يكون هدى وسابعها: قوله:

{ حِكْمَةٌ بَـٰلِغَةٌ } [القمر54: 5] وقوله:
{ وَشِفَاء لِمَا فِى ٱلصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ } [يونس10: 57]

وكل هذه الصفات لا تحصل في غير المعلوم وثامنها: قوله:

-2-

وتاسعها: قوله:

{ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ إِنَّ فِى ذٰلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [العنكبوت29: 51]


وكيف يكون الكتاب كافياً وكيف يكون ذكرى مع أنه غير مفهوم؟ وعاشرها: قوله تعالى: { هَـٰذَا بَلَـٰغٌ لّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } فكيف يكون بلاغاً، وكيف يقع الإنذار به مع أنه غير معلوم؟ وقال في آخر الآية

{ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَـٰبِ } [إبراهيم14: 52]

وإنما يكون كذلك لو كان معلوماً الحادي عشر: قوله:

{ قَدْ جَاءكُمْ بُرْهَانٌ مّن رَّبّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } [النساء4: 174]

فكيف يكون برهان ونوراً مبيناً مع أنه غير معلوم؟ الثاني عشر: قوله:

{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [الإسراء17: 9]

فكيف يكون هادياً مع أنه غير معلوم؟ الرابع عشر: قوله تعالى:


الاحتجاج بالأخبار:

وأما الأخبار: فقوله عليه السلام: " إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنّتي " فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟ وعن علي رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: " عليكم بكتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم والصراط المستقيم، هو الذي لاتزيغ به الأهواء، ولا تشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم "

الاحتجاج بالمعقول:

أما المعقول فمن وجوه: أحدها: أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم به لكانت المخاطبة به تجري مجرى مخاطبة العربي باللغة الزنجية، ولما لم يجز ذاك فكذا هذا وثانيها: أن المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوماً لكانت المخاطبة به عبثاً وسفهاً، وأنه لا يليق بالحكيم وثالثها: أن التحدي وقع بالقرآن وما لا يكون معلوماً لا يجوز وقوع التحدي به، فهذا مجموع كلام المتكلمين، واحتج مخالفوهم بالآية، والخبر، والمعقول.

احتجاج مخالفي المتكلمين بالآيات:

أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن وأنه غير معلوم، لقوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ } والوقف ههنا واجب لوجوه. أحدها: أن قوله تعالى

{ وَٱلرٰسِخُونَ فِى ٱلْعِلْمِ } [آل عمران3: 7]

لو كان معطوفاً على قوله: { إِلاَّ ٱللَّهُ } لبقي { يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ } منقطعاً عنه وأنه غير جائز لأنه وحده لا يفيد، لا يقال أنه حال، لأنا نقول حينئذٍ يرجع إلى كل ما تقدم، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلاً { كل من عند ربنا } وهذا كفر.

-3-

وثانيها: أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه، فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح وثالثها: أن تأويلها لو كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذماً، لكن قد جعله الله تعالى ذماً حيث قال:

{ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاء ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاء تَأْوِيلِه } [آل عمران3: 7].


احتجاجهم بالخبر:

وأما الخبر فقد روينا في أول هذه المسألة خبراً يدل على قولنا، وروي أنه عليه السلام قال: " إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله، فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله " ولأن القول بأن هذه الفواتح غير معلومة مروي عن أكابر الصحابة فوجب أن يكون حقاً، لقوله عليه السلام " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "

احتجاجهم بالمعقول:

وأما المعقول فهو أن الأفعال التي كلفنا بها قسمان. منها ما نعرف وجه الحكمة فيها على الجملة بعقولنا: كالصلاة والزكاة والصوم؛ فإن الصلاة تواضع محض وتضرع للخالق، والزكاة سعي في دفع حاجة الفقير، والصوم سعي في كسر الشهوة. ومنها ما لا نعرف وجه الحكمة فيه: كأفعال الحج فإننا لا نعرف بعقولنا وجه الحكمة في رمي الجمرات والسعي بين الصفا والمروة، والرمل، والاضطباع، ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله تعالى أن يأمر عباده بالنوع الأول فكذا يحسن الأمر منه بالنوع الثاني، لأن الطاعة في النوع الأول لا تدل على كمال الانقياد لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وجه المصلحة فيه، أما الطاعة في النوع الثاني فإنه يدل على كمال الانقياد ونهاية التسليم، لأنه لما لم يعرف فيه وجه مصلحة البتة لم يكن إتيانه به إلا لمحض الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال فلم لا يجوز أيضاً أن يكون الأمر كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمرنا الله تعالى تارة أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارة بما لا نقف على معناه، ويكون المقصود من ذلك ظهور الانقياد والتسليم من المأمور للآمر، بل فيه فائدة أخرى، وهي أن الإنسان إذا وقف على المعنى وأحاط به سقط وقعه عن القلب، وإذا لم يقف على المقصود مع قطعه بأن المتكلم بذلك أحكم الحاكمين فإنه يبقى قلبه متلفتاً إليه أبداً، ومتفكراً فيه أبداً، ولباب التكليف إشغال السر بذكر الله تعالى والتفكر في كلامه، فلا يبعد أن يعلم الله تعالى أن في بقاء العبد ملتفت الذهن مشتغل الخاطر بذلك أبداً مصلحة عظيمة له، فيتعبده بذلك تحصيلاً لهذه المصلحة، فهذا ملخص كلام الفريقين في هذا الباب.
-4-

هل المراد من الفواتح معلوم:

القول الثاني: قول من زعم أن المراد من هذه الفواتح معلوم، ثم اختلفوا فيه وذكروا وجوهاً. الأول: أنها أسماء السور، وهو قول أكثر المتكلمين واختيار الخليل وسيبويه وقال القفال: وقد سمت العرب بهذه الحروف أشياء، فسموا بلام والد حارثة بن لام الطائي، وكقولهم للنحاس: صاد، وللنقد عين، وللسحاب غين، وقالوا: جبل قاف، وسموا الحوت نوناً، الثاني: أنها أسماء لله تعالى، روي عن علي عليه السلام أنه كان يقول: «يا كهۤيعص، يا حۤم عۤسق» الثالث: أنها أبعاض أسماء الله تعالى، قال سعيد بن جبير: قوله (آلر، حۤم، نۤ) مجموعها هو اسم الرحمن، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البواقي، الرابع: أنها أسماء القرآن، وهو قول الكلبي والسدي وقتادة الخامس: أن كل واحد منها دال على اسم من أسماء الله تعالى وصفة من صفاته، قال ابن عباس رضي الله عنهما في (آلم): الألف إشارة إلى أنه تعالى أحد، أول، آخر، أزلي، أبدي، واللام إشارة إلى أنه لطيف، والميم إشارة إلى أنه ملك مجيد منان، وقال في: { كهيعص } إنه ثناء من الله تعالى على نفسه، والكاف يدل على كونه كافياً، والهاء يدل على كونه هادياً، والعين يدل على العالم، والصاد يدل على الصادق وذكر ابن جرير عن ابن عباس أنه حمل الكاف على الكبير والكريم، والياء على أنه يجير، والعين على العزيز والعدل. والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصص كل واحد من هذه الحروف باسم معين، وفي الثاني ليس كذلك، السادس: بعضها يدل على أسماء الذات، وبعضها على أسماء الصفات. قال ابن عباس في { ألم } أنا الله أعلم، وفي { المص } أنا الله أفصل، وفي { الر } أنا الله أرى، وهذا رواية أبي صالح وسعيد بن جبير عنه. السابع: كل واحد منها يدل على صفات الأفعال، فالألف آلاؤه، واللام لطفه، والميم مجده. قاله محمد بن كعب القرظي. وقال الربيع بن أنس: ما منها حرف إلا في ذكر آلائه ونعمائه. الثامن: بعضها يدل على أسماء الله تعالى وبعضها يدل على أسماء غير الله، فقال الضحاك: الألف من الله، واللام من جبريل، والميم من محمد، أي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، التاسع: كل واحد من هذه الحروف يدل على فعل من الأفعال، فالألف معناه ألف الله محمداً فبعثه نبياً، واللام أي لامه الجاحدون، والميم أي ميم الكافرون غيظوا وكبتوا بظهور الحق. وقال بعض الصوفية: الألف معناه أنا، واللام معناه لي، والميم معناه مني، العاشر: ما قاله المبرد واختاره جمع عظيم من المحققين ـ إن الله تعالى إنما ذكرها احتجاجاً على الكفار، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تحداهم أن يأتوا بمثل القرآن، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة فعجزوا عنه أنزلت هذه الحروف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلا من هذه الحروف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفصاحة، فكان يجب أن تأتوا بمثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دل ذلك على أنه من عند الله لا من البشر، الحادي عشر: قال عبد العزيز بن يحيـى: إن الله تعالى إنما ذكرها لأن في التقدير كأنه تعالى قال: اسمعوها مقطعة حتى إذا وردت عليكم مؤلفة كنتم قد عرفتموها قبل ذلك، كما أن الصبيان يتعلمون هذه الحروف أولاً مفردة ثم يتعلمون المركبات، الثاني عشر: قول ابن روق وقطرب: إن الكفار لما قالوا:
-5-

{ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُم تَغْلِبُونَ } [فصلت41: 26]

وتواصلوا بالإعراض عنه أراد الله تعالى لما أحب من صلاحهم ونفعهم أن يورد عليهم ما لا يعرفونه ليكون ذلك سبباً لإسكاتهم واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن؛ فأنزل الله تعالى عليهم هذه الحروف فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عليه السلام، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم وطريقاً إلى انتفاعهم، الثالث عشر: قول أبي العالية إن كل حرف منها في مدة أقوام، وآجال آخرين، قال ابن عباس رضي الله عنه: مر أبو ياسر بن أخطب برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يتلو سورة البقرة

{ ألم *ذٰلِكَ ٱلْكِتَابُ } [البقرة2: 1، 2]

ثم أتى أخوه حيـي بن أخطب وكعب بن الأشرف فسألوه عن ألم وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحق أنها أتتك من السماء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " نعم كذلك نزلت " ، فقال حيـى إن كنت صادقاً إني لأَعلم أجل هذه الأمة من السنين، ثم قال كيف ندخل في دين رجل دلت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أجل أمته إحدى وسبعون سنة، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم فقال حيـى فهل غير هذا؟ فقال: نعم { المص } ، فقال حيـي: هذا أكثر من الأول هذا مائة وإحدى وستون سنة، فهل غير هذا، قال: نعم { الر } ، فقال حيـى هذا أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنة، فهل غير هذا؟ فقال: نعم { المر } ، قال حيـي: فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون ولا ندري بأي أقوالك نأخذ. فقال أبو ياسر: أما أنا فاشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عن ملك هذه الأمة ولم يبينوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود، وقالوا اشتبه علينا أمرك كله، فلا ندري أبالقليل نأخذ أم بالكثير؟ فذلك قوله تعالى:

-6-

{ هُوَ ٱلَّذِى أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَـٰبَ } [آل عمران3: 7]

الرابع عشر: هذه الحروف تدل على انقطاع كلام واستئناف كلام آخر، قال أحمد بن يحيـى بن ثعلب: إن العرب إذا استأنفت كلاماً فمن شأنهم أن يأتوا بشيء غير الكلام الذي يريدون استئنافه، فيجعلونه تنبيهاً للمخاطبين على قطع الكلام الأول واستئناف الكلام الجديد. الخامس عشر: روى ابن الجوزي عن ابن عباس أن هذه الحروف ثناء أثنى الله عزّ وجلّ به على نفسه، السادس عشر: قال الأخفش: إن الله تعالى أقسم بالحروف المعجمة لشرفها وفضلها ولأنها مباني كتبه المنزلة بالألسنة المختلفة، ومباني أسماء الله الحسنى وصفاته العليا، وأصول كلام الأمم، بها يتعارفون ويذكرون الله ويوحدونه ثم إنه تعالى اقتصر على ذكر البعض وإن كان المراد، هو الكل، كما تقول قرأت الحمد، وتريد السورة بالكلية، فكأنه تعالى قال: أقسم بهذه الحروف إن هذا الكتاب هو ذلك الكتاب المثبت في اللوح المحفوظ، السابع عشر: أن التكلم بهذه الحروف، وإن كان معتاداً لكل أحد، إلا أن كونها مسماة بهذه الأسماء لا يعرفه إلا من اشتغل بالتعلم والاستفادة، فلما أخبر الرسول عليه السلام عنها من غير سبق تعلم واستفادة كان ذلك إخباراً عن الغيب؛ فلهذا السبب قدم الله تعالى ذكرها ليكون أول ما يسمع من هذه السورة معجزة دالة على صدقه. الثامن عشر: قال أبو بكر التبريزي: إن الله تعالى علم أن طائفة من هذه الأمة تقول بقدم القرآن فذكر هذه الحروف تنبيهاً على أن كلامه مؤلف من هذه الحروف، فيجب أن لا يكون قديماً. التاسع عشر: قال القاضي الماوردي: المراد من «ألم» أنه ألم بكم ذلك الكتاب. أي نزل عليكم، والإلمام الزيارة، وإنما قال تعالى ذلك لأن جبريل عليه السلام نزل به نزول الزائر العشرون: الألف إشارة إلى ما لا بدّ منه من الاستقامة في أول الأمر، وهو رعاية الشريعة، قال تعالى:

{ إِن ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَـٰمُواْ } [فصلت41: 30]

واللام إشارة إلى الانحناء الحاصل عند المجاهدات، وهو رعاية الطريقة، قال الله تعالى:

{ وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت29: 69]

والميم إشارة إلى أن يصير العبد في مقام المحبة، كالدائرة التي يكون نهايتها عين بدايتها وبدايتها عين نهايتها، وذلك إنما يكون بالفناء في الله تعالى بالكلية، وهو مقام الحقيقة، قال تعالى:

{ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [الأنعام6: 91]

الحادي والعشرون: الألف من أقصى الحلق، وهو أول مخارج الحروف، واللام من طرف اللسان، وهو وسط المخارج، والميم من الشفة، وهو آخر المخارج، فهذه إشارة إلى أنه لا بدّ وأن يكون أول ذكر العبد ووسطه وآخره ليس إلا الله تعالى، على ما قال:

{ فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ } [الذاريات51: 50].


كون فواتح السور أسماءها:

والمختار عند أكثر المحققين من هذه الأقوال أنها أسماء السور، والدليل عليه أن هذه الألفاظ إما أن لا تكون مفهومة، أو تكون مفهومة، والأول باطل، أما أولاً فلأنه لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج، وأما ثانياً فلأنه تعالى وصف القرآن أجمع بأنه هدى وذلك ينافي كونه غير معلوم.
-7-

وأما القسم الثاني فنقول: إما أن يكون مراد الله تعالى منها جعلها أسماء الألقاب، أو أسماء المعاني، والثاني باطل؛ لأن هذه الألفاظ غير موضوعة في لغة العرب لهذه المعاني التي ذكرها المفسرون، فيمتنع حملها عليها؛ لأن القرآن نزل بلغة العرب، فلا يجوز حملها على ما لا يكون حاصلاً في لغة العرب؛ ولأن المفسرين ذكروا وجوهاً مختلفة، وليست دلالة هذه الألفاظ على بعض ما ذكروه أولى من دلالتها على الباقي فأما أن يعمل على الكل، وهو معتذر بالإجماع؛ لأن كل واحد من المفسرين إنما حمل هذه الألفاظ على معنى واحد من هذه المعاني المذكورة، وليس فيهم من حملها على الكل، أو لا يحمل على شيء منها، وهو الباقي، ولما بطل هذا القسم وجب الحكم بأنها من أسماء الألقاب.

جعلها أسماء ألقاب أو معاني:

فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: هذه الألفاظ غير معلومة، قوله: «لو جاز ذلك لجاز التكلم مع العربي بلغة الزنج» قلنا: ولم لا يجوز ذلك؟ وبيانه أن الله تعالى تكلم بالمشكاة وهو بلسان الحبشة، والسجيل والاستبرق فارسيان، قوله: «وصف القرآن أجمع بأنه هدى وبيان» قلنا: لا نزاع في اشتمال القرآن على المجملات والمتشابهات، فإذا لم يقدح ذلك في كونه هدى وبياناً فكذا ههنا، سلمنا أنها مفهومة، لكن قولك: «إنها إما أن تكون من أسماء الألقاب أو من أسماء المعاني» إنما يصح لو ثبت كونها موضوعة لإفادة أمر ما وذلك ممنوع، ولعل الله تعالى تكلم بها لحكمة أخرى، مثل ما قال قطرب من أنهم لما تواضعوا في الابتداء على أن لا يلتفتوا إلى القرآن أمر الله تعالى رسوله بأن يتكلم بهذه الأحرف في الابتداء حتى يتعجبوا عند سماعها فيسكتوا، فحينئذٍ يهجم القرآن على أسماعهم، سلمنا أنها موضوعة لأمر ما، فلم لا يجوز أن يقال: إنها من أسماء المعاني؟ قوله: «إنها في اللغة غير موضوعه لشيء البتة» قلنا لا نزاع في أنها وحدها غير موضوعة لشيء، ولكن لم لا يجوز أن يقال: إنها مع القرينة المخصوصة تفيد معنى معيناً؟ وبيانه من وجوه: أحدها: أنه عليه السلام كان يتحداهم بالقرآن مرة بعد أخرى فلما ذكر هذه الحروف دلت قرينة الحال على أن مراده تعالى من ذكرها أن يقول لهم: إن هذا القرآن إنما تركب من هذه الحروف التي أنتم قادرون عليها، فلو كان هذا من فعل البشر لوجب أن تقدروا على الإتيان بمثله، وثانيها: أن حمل هذه الحروف على حساب الجمل عادة معلومة عند الناس، وثالثها: أن هذه الحروف لما كانت أصول الكلام كانت شريفة عزيزة، فالله تعالى أقسم بها كما أقسم بسائر الأشياء، ورابعها: أن الاكتفاء من الاسم الواحد بحرف واحد من حروفه عادة معلومة عند العرب، فذكر الله تعالى هذه الحروف تنبيهاً على أسمائه تعالى.
-8-

سلمنا دليلكم لكنه معارض بوجوه: أحدها: أنا وجدنا السور الكثيرة اتفقت في { الم } و { حـم } فالاشتباه حاصل فيها، والمقصود من اسم العلم إزالة الاشتباه.

فإن قيل: يشكل هذا بجماعة كثيرين يسمون بمحمد؛ فإن الاشتراك فيه لا ينافي العلمية. قلنا: قولنا { ألم } لا يفيد معنى ألبتة، فلو جعلناه علماً لم يكن فيه فائدة سوى التعيين وإزالة الاشتباه فإذا لم يحصل هذا الغرض امتنع جعله علماً، بخلاف التسمية بمحمد، فإن في التسمية به مقاصد أخرى سوى التعيين، وهو التبرك به لكونه إسماً للرسول، ولكونه دالاً على صفة من صفات الشرف، فجاز أن يقصد التسمية به لغرض آخر من هذه الأغراض سوى التعيين، بخلاف قولنا: { ألم } فإنه لا فائدة فيه سوى التعيين، فإذا لم يفد هذه الفائدة كانت التسمية به عبثاً محضاً. وثانيها: لو كانت هذه الألفاظ أسماء للسور لوجب أن يعلم ذلك بالتواتر؛ لأن هذه الأسماء ليست على قوانين أسماء العرب، والأمور العجيبة تتوفر الدواعي على نقلها لا سيما فيما لا يتعلق بإخفائه رغبة أو رهبة، ولو توفرت الدواعي على نقلها لصار ذلك معلوماً بالتواتر وارتفع الخلاف فيه، فلما لم يكن الأمر كذلك علمنا أنها ليست من أسماء السور، وثالثها: أن القرآن نزل بلسان العرب، وهم ما تجاوزوا ما سموا به مجموع اسمين نحو معد يكرب وبعلبك، ولم يسم أحد منهم بمجموع ثلاثة أسماء وأربعة وخمسة، فالقول بأنها أسماء السور خروج عن لغة العرب، وأنه غير جائز، ورابعها: أنها لو كانت أسماء هذه السور لوجب اشتهار هذه السور بها لا بسائر الأسماء، لكنها إنما اشتهرت بسائر الأسماء، كقولهم سورة البقرة وسورة آل عمران، وخامسها: هذه الألفاظ داخلة في السورة وجزء منها، وجزء الشيء مقدم على الشيء بالرتبة، واسم الشيء متأخر عن الشيء بالرتبة، فلو جعلناها اسماً للسورة لزم التقدم والتأخر معاً، وهو محال، فإن قيل: مجموع قولنا: «صاد» اسم للحرف الأول منه، فإذا جاز أن يكون المركب اسماً لبعض مفرداته فلم لا يجوز أن تكون بعض مفردات ذلك المركب اسماً لذلك المركب؟ قلنا: الفرق ظاهر؛ لأن المركب يتأخر عن المفرد، والاسم يتأخر عن المسمى، فلو جعلنا المركب اسماً للمفرد لم يلزم إلا تأخر ذلك المركب عن ذلك المفرد من وجهين، وذلك غير مستحيل، أما لو جعلنا المفرد اسماً للمركب لزم من حيث أنه مفرد كونه متقدماً ومن حيث أنه اسم كونه متأخراً، وذلك محال، وسادسها: لو كان كذلك لوجب أن لا تخلو سورة من سور القرآن من اسم على هذا الوجه، ومعلوم أنه غير حاصل.
-9-

الجواب: «قوله المشكاة والسجيل ليستا من لغة العرب» قلنا: عنه جوابان: أحدهما: أن كل ذلك عربي، لكنه موافق لسائر اللغات، وقد يتفق مثل ذلك في اللغتين: الثاني: أن المسمى بهذه الأسماء لم يوجد أولاً في بلاد العرب، فلما عرفوه عرفوا منها أسماءها، فتكلموا بتلك الأسماء، فصارت تلك الألفاظ عربية أيضاً.

قوله: «وجد أن المجمل في كتاب الله لا يقدح في كونه بياناً» قلنا: كل مجمل وجد في كتاب الله تعالى قد وجد في العقل، أو في الكتاب، أو في السنة بيانه، وحينئذٍ يخرج عن كونه غير مفيد، إنما البيان فيما لا يمكن معرفة مراد الله منه.

وقوله: «لم لا يجوز أن يكون المقصود من ذكر هذه الألفاظ إسكاتهم عن الشغب؟» قلنا: لو جاز ذكر هذه الألفاظ لهذاالغرض فليجز ذكر سائر الهذيانات لمثل هذا الغرض، وهو بالإجماع باطل.

وأما سائر الوجوه التي ذكروها فقد بينا أن قولنا: «ألم» غير موضوع في لغة العرب لإفادة تلك المعاني، فلا يجوز استعمالها فيه، لأن القرآن إنما نزل بلغة العرب، ولأنها متعارضة، فليس حمل اللفظ على بعضها أولى من البعض؛ ولأنا لو فتحنا هذا الباب لانفتحت أبواب تأويلات الباطنية وسائر الهذيانات، وذلك مما لا سبيل إليه.

أما الجواب عن المعارضة الأولى: فهو أن لا يبعد أن يكون في تسمية السور الكثيرة باسم واحد ـ ثم يميز كل واحد منها عن الآخر بعلامة أخرى ـ حكمة خفية.

وعن الثاني: أن تسمية السورة بلفظة معينة ليست من الأمور العظام، فجاز أن لا يبلغ في الشهرة إلى حد التواتر.

وعن الثالث: أن التسمية بثلاثة أسماء خروج عن كلام العرب إذا جعلت اسماً واحداً على طريقة «حضرموت» فأما غير مركبة بل صورة نثر أسماء الأعداد فذاك جائز؛ فإن سيبويه نص على جواز التسمية بالجملة، والبيت من الشعر، والتسمية بطائفة من أسماء حروف المعجم.

وعن الرابع: أنه لا يبعد أن يصير اللقب أكثر شهرة من الاسم الأصلي فكذا ههنا.

وعن الخامس: أن الاسم لفظ دال على أمر مستقل بنفسه من غير دلالة على زمانه المعين، ولفظ الاسم كذلك، فيكون الاسم اسماً لنفسه، فإذا جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون جزء الشيء اسماً له.

وعن السادس: أن وضع الاسم إنما يكون بحسب الحكمة، ولا يبعد أن تقتضي الحكمة وضع الاسم لبعض السور دون البعض. على أن القول الحق: أنه تعالى يفعل ما يشاء، فهذا منتهى الكلام في نصرة هذه الطريقة.

واعلم أن بعد هذا المذهب الذي نصرناه بالأقوال التي حكيناها قول قطرب: من أن المشركين قال بعضهم لبعض:

{ لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْا فِيهِ } [فصلت41: 26]

-10-

فكان إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول هذه السورة بهذه الألفاظ ما فهموا منها شيئاً، والإنسان حريص على ما منع، فكانوا يصغون إلى القرآن ويتفكرون ويتدبرون في مقاطعه ومطالعه؛ رجاء أنه ربما جاء كلام يفسر ذلك المبهم، ويوضح ذلك المشكل. فصار ذلك وسيلة إلى أن يصيروا مستمعين للقرآن ومتدبرين في مطالعه ومقاطعه. والذي يؤكد هذا المذهب أمران: أحدهما: أن هذه الحروف ما جاءت إلا في أوائل السور، وذلك يوهم أن الغرض ما ذكرنا والثاني: إن العلماء قالوا: أن الحكمة في إنزال المتشابهات هي أن المعلل لما علم اشتمال القرآن على المتشابهات فإنه يتأمل القرآن ويجتهد في التفكر فيه على رجاء أنه ربما وجد شيئاً يقوي قوله وينصر مذهبه، فيصير ذلك سبباً لوقوفه على المحكمات المخلصة له عن الضلالات، فإذا جاز إنزال المتشابهات التي توهم الضلالات لمثل هذا الغرض فلأن يجوز إنزال هذه الحروف التي لا توهم شيئاً من الخطأ والضلال لمثل هذا الغرض كان أولى. أقصى ما في الباب أن يقال: لو جاز ذلك فليجز أن يتكلم بالزنجية مع العربي. وأن يتكلم بالهذيان لهذا الغرض، وأيضاً فهذا يقدح في كون القرآن هدى وبياناً، لكنا نقول: لم لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى إذا تكلم بالزنجية مع العربي ـ وكان ذلك متضمناً لمثل هذه المصلحة ـ فإن ذلك يكون جائزاً؟ وتحقيقه أن الكلام فعل من الأفعال، والداعي إليه قد يكون هو الإفادة، وقد يكون غيرها، قوله: «أنه يكون هذياناً» قلنا: إن عنيت بالهذيان الفعل الخالي عن المصلحة بالكلية فليس الأمر كذلك، وإن عنيت به الألفاظ الخالية عن الإفادة فلم قلت إن ذلك يقدح في الحكمة إذا كان فيها وجوه أخر من المصلحة سوى هذا الوجه؟ وأما وصف القرآن بكونه هدى وبياناً فذلك لا ينافي ما قلناه؛ لأنه إذا كان الغرض ما ذكرناه كان استماعها من أعظم وجوه البيان والهدى والله أعلم.

القول بأنها أسماء السور:

فروع على القول بأنها أسماء السور: الأول: هذه الأسماء على ضربين: أحدهما: يتأتى فيه الإعراب، وهو إما أن يكون اسماً مفرداً «كصاد، وقاف، ونون» أو أسماء عدة مجموعها على زنة مفرد كحم، وطس ويس؛ فإنها موازنة لقابيل وهابيل، وأما طسم فهو وإن كان مركباً من ثلاثة أسماء فهو( كدر ابجرد)، وهو من باب ما لا ينصرف، لاجتماع سببين فيها وهما العلمية والتأنيث. والثاني: ما لا يتأتى فيه الإعراب، نحو كهۤيعص، والۤمر، إذا عرفت هذا فنقول: أما المفردة ففيها قراءتان: إحداهما: قراءة من قرأ صاد وقاف ونون بالفتح، وهذه الحركة يحتمل أن تكون هي النصب بفعل مضمر نحو: اذكر، وإنما لم يصحبه التنوين لامتناع الصرف كما تقدم بيانه وأجاز سيبويه مثله في حمۤ وطۤس ويۤس لو قرىء به، وحكى السيرافي أن بعضهم قرأ «يۤس» بفتح النون؛ وأن يكون الفتح جراً، وذلك بأن يقدرها مجرورة بإضمار الباء القسمية، فقد جاء عنهم: «الله لأفعلن» غير أنها فتحت في موضع الجر لكونها غير مصروفة، ويتأكد هذا بما روينا عن بعضهم «أن الله تعالى أقسم بهذه الحروف»، وثانيتهما: قراءة بعضهم صاد بالكسر.
-11-

وسببه التحريك لالتقاء الساكنين. أما القسم الثاني ـ وهو ما لا يتأتى الإعراب فيه ـ فهو يجب أن يكون محكياً، ومعناه أن يجاء بالقول بعد نقله على استبقاء صورته الأولى كقولك: «دعني من تمرتان».

الثاني: أن الله تعالى أورد في هذه الفواتح نصف أسامي حروف المعجم: أربعة عشر سواء، وهي: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والياء، والعين والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والنون في تسع وعشرين سورة.

الثالث: هذه الفواتح جاءت مختلفة الأعداد، فوردت «ص ق ن» على حرف، و «طٰه وطۤس ويۤس وحۤم» على حرفين، و «ألم والۤر وطۤسم» على ثلاثة أحرف، والمۤص والۤمر على أربعة أحرف، و «كهۤعيص وحمۤ عۤسق» على خمسة أحرف، والسبب فيه أن أبنية كلماتهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف فقط فكذا ههنا.

الرابع: هل لهذه الفواتح محل من الإعراب أم لا؟ فنقول: إن جعلناها أسماء للسور فنعم، ثم يحتمل الأوجه الثلاثة، أما الرفع فعلى الابتداء، وأما النصب والجر فلما مر من صحة القسم بها، ومن لم يجعلها أسماء للسور لم يتصور أن يكون لها محل على قوله، كما لا محل للجمل المبتدأة وللمفردات المعدودة.

الإشارة في «ذلك الكتاب»:
-12-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع
ابحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 11:35 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.