إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>    دورة البادل، كانت فكرة وبالجهد نجحت  آخر رد: الياسمينا    <::>    لاونج بموقع مميز ودخل ممتاز للتقبيل في جدة حي الخالدية  آخر رد: الياسمينا    <::>    تورست لايجار السيارات والليموزين في مصر  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي تحاضر عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإر...  آخر رد: الياسمينا    <::>    مساعدة عائلة محاصرة في قطاع غزة يواجهون مخاطر الموت  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #11  
قديم 12-27-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 51-60 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 51-60 من 259




{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِى عَنكَ شَيْئاً } [مريم19: 42]

فبتقدير أن لا يكون الإله عالماً بكل المعلومات قادراً على جميع المقدورات كان سؤاله سؤالاً لمن لا يسمع ولا يبصر، وكان داخلاً تحت ما جعله إبراهيم عليه السلام عيباً على أبيه، وأما علم العبد بحال نفسه فلا بدّ وأن يعلم عجزه وقصوره عن رعاية مصالح نفسه على سبيل التمام، وأن يعلم أيضاً أنه بتقدير أن يعلم تلك المصالح بحسب الكيفية والكمية لكنه لا يمكنه تحصيلها عند عدمها ولا إبقاؤها عند وجودها، إذا عرفت هذا فنقول: إنه إذا حصلت هذه العلوم في قلب العبد وصار مشاهداً لها متيقناً فيها وجب أن يحصل في قلبه تلك الجالة المسماة بالانكسار والخضوع، وحينئذٍ يحصل في قلبه الطلب، وفي لسانه اللفظ الدال على ذلك الطلب، وذلك هو قوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) والذي يدل على كون الإنسان عاجزاً عن تحصيل مصالح نفسه في الدنيا والآخرة أن الصادر عن الإنسان إما العمل وإما العلم، وهو في كلا البابين في الحقيقة في غاية العجز، أما العلم فما أشد الحاجة في تحصيله إلى الاستعاذة بالله، وفي الاحتراز عن حصول ضده إلى الاستعاذة بالله ويدل عليه وجوه: ـ

الحجة الأولى: أنا كم رأينا من الأكياس المحققين بقوا في شبهة واحدة طول عمرهم، ولم يعرفوا الجواب عنها، بل أصروا عليها وظنوها علماً يقينياً وبرهاناً جلياً، ثم بعد انقضاء أعمارهم جاء بعدهم من تنبه لوجه الغلط فيها وأظهر للناس وجه فسادها، وإذا جاز ذلك على بعض الناس جاز على الكل مثله، ولولا هذا السبب لما وقع بين أهل العلم اختلاف في الأديان والمذاهب، وإذا كان الأمر كذلك فلولا إعانة الله وفضله وإرشاده وإلا فمن ذا الذي يتخلص بسفينة فكره من أمواج الضلالات ودياجي الظلمات؟.

-51-

الحجة الثانية: أن كل أحد إنما يقصد أن يحصل له الدين الحق والاعتقاد الصحيح، وإن أحداً لا يرضى لنفسه بالجهل والكفر، فلو كان الأمر بحسب سعيه وإرادته لوجب كون الكل محقين صادقين، وحيث لم يكن الأمر كذلك بل نجد المحقين في جنب المبطلين كالشعرة البيضاء في جلد ثور أسود علمنا أنه لا خلاص من ظلمات الضلالات إلا بإعانة إله الأرض والسموات.

الحجة الثالثة: أن القضية التي توقف الإنسان في صحتها وفسادها فإنه لا سبيل له إلى الجزم بها إلا إذا دخل فيما بينهما الحد الأوسط فنقول: ذلك الحد الأوسط إن كان حاضراً في عقله كان القياس منعقداً والنتيجة لازمة. فحينئذٍ لا يكون العقل متوقفاً في تلك القضية بل يكون جازماً بها، وقد فرضناه متوقفاً فيها، هذا خلف، وأما إن قلنا إن ذلك الحد الأوسط غير حاضر في عقله فهل يمكنه طلبه؟ أو لا يمكنه طلبه، والأول باطل، لأنه إن كان لا يعرفه بعينه فكيف يطلبه؟ لأن طلب الشيء بعينه إنما يمكن بعد الشعور به، وإن كان يعرفه بعينه فالعلم به حاضر في ذهنه فكيف يطلب تحصيل الحاصل؟ وأما إن كان لا يمكنه طلبه فحينئذٍ يكون عاجزاً عن تحصيل الطريق الذي يتخلص به من ذلك التوقف ويخرج من ظلمة تلك الحيرة، وهذا يدل على كون العبد في غاية الحيرة والدهشة.

الحجة الرابعة: أنه تعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام:

{ وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ } [المؤمنون23: 97]

فهذه الاستعاذة مطلقة غير مقيدة بحالة مخصوصة، فهذا بيان كمال عجز العبد عن تحصيل العقائد والعلوم، وأما عجز العبد عن الأعمال الظاهرة التي يجر بها النفع إلى نفسه ويدفع بها الضرر عن نفسه فهذا أيضاً كذلك ويدل عليه وجوه: الأول: أنه قد انكشف لأرباب البصائر أن هذا البدن يشبه الجحيم وانكشف لهم أنه جلس على باب هذا الجحيم تسعة عشر نوعاً من الزبانية، وهي الحواس الخمس الظاهرة والحواس الخمس الباطنة، والشهوة، والغضب، والقوى الطبيعية السبع، وكل واحد من هذه التسعة عشر فهو واحد بحسب الجنس، إلا أنه يدخل تحت كل واحد منها أعداد لا نهاية لها بحسب الشخص والعدد، واعتبر ذلك بالقوة الباصرة، فإن الأشياء التي تقوي القوة الباصرة على إدراكها أمور غير متناهية، ويحصل من إبصار كل واحد منها أثر خاص في القلب، وذلك الأثر يجر القلب من أوج عالم الروحانيات إلى حضيض عالم الجسمانيات، وإذا عرفت هذا ظهر أن مع كثرة هذه العوائق والعلائق أنه لا خلاص للقلب من هذه الظلمات إلا بإعانة الله تعالى وإغاثته، ولما ثبت أنه لا نهاية لجهات نقصانات العبد ولا نهاية لكمال رحمة الله وقدرته وحكمته ثبت أن الاستعاذة بالله واجبة في كل الأوقات فلهذا السبب يجب علينا في أول كل قول وعمل ومبدأ كل لفظة ولحظة أن نقول (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).


-52-

الحجة الخامسة: أن اللذات الحاصلة في هذه الحياة العاجلة قسمان: أحدهما: اللذات الحسية. والثاني: اللذات الخيالية. وهي لذة الرياسة، وفي كل واحد من هذين القسمين الإنسان إذا لم يمكن يمارس تحصيل تلك اللذات ولم يزاولها لم يكن له شعور بها، وإذ كان عديم الشعور بها كان قليل الرغبة فيها، ثم إذا مارسها ووقف عليها التذ بها، وإذا حصل الألتذاذ بها قويت رغبته فيها، وكلما اجتهد الإنسان حتى وصل إلى مقام آخر في تحصيل اللذات والطيبات وصل في شدة الرغبة وقوة الحرص إلى مقام آخر أعلى مما كان قبل ذلك، فالحاصل أن الإنسان كلما كان أكثر فوزاً بالمطالب كان أعظم حرصاً وأشد رغبة في تحصيل الزائد عليها، وإذا كان لا نهاية لمراتب الكمالات فكذلك لا نهاية لدرجات الحرص، وكما أنه لا يمكن تحصيل الكمالات التي لا نهاية لها فكذلك لا يمكن إزالة ألم الشوق والحرص عن القلب، فثبت أن هذا مرض لا قدرة للعبد على علاجه، ووجب الرجوع فيه إلى الرحيم الكريم الناصر لعباده فيقال: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

الحجة السادسة: في تقرير ما ذكرناه قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وقوله:

{ وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَوٰةِ } [البقرة2: 45]

وقول موسى لقومه

{ ٱسْتَعِينُواْ بِٱللَّهِ وَٱصْبِرُواْ إِنَّ ٱلارْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَٱلْعَـٰقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف7: 128]

وفي بعض الكتب الآلهية إن الله تعالى يقول: «وعزتي وجلالي، لأقطعن أمل كل مؤمل غيري باليأس، ولألبسنه ثوب المذلة عند الناس، ولأخيبنه من قربي، ولأبعدنه من وصلي، ولأجعلنه متفكراً حيران يؤمل غيري في الشدائد والشدائد بيدي، وأنا الحي القيوم، ويرجو غيري ويطرق بالفكر أبواب غيري وبيدي مفاتيح الأبواب وهي مغلقة وبابي مفتوح لمن دعاني».


مذهب الجبرية في الاستعاذة:

المسألة الثالثة: في أن الاستعاذة كيف تصح على مذهب أهل الجبر ومذهب القدرية قالت المعتزلة: قوله: (أعوذ بالله) يبطل القول بالجبر من وجوه: ـ

الأول: أن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بكون العبد فاعلاً لتلك الاستعاذة، ولو كان خالق الأعمال هو الله تعالى لامتنع كون العبد فاعلاً لأن تحصيل الحاصل محال، وأيضاً فإذا خلقه الله في العبد امتنع دفعه، وإذا لم يخلقه الله فيه امتنع تحصيله. فثبت أن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بكون العبد موجداً لأفعال نفسه.

والثاني: أن الاستعاذة إنما تحسن من الله تعالى إذا لم يكن الله تعالى خالقاً للأمور التي منها يستعاذ.

-53-

أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى امتنع أن يستعاذ بالله منها لأن على هذا التقدير يصير كأن العبد استعاذ بالله من الله في عين ما يفعله الله.

والثالث: أن الاستعاذة بالله من المعاصي، تدل على أن العبد غير راضٍ بها، ولو كانت المعاصي تحصل بتخليق الله تعالى وقضائه وحكمه وجب على العبد كونه راضياً بها؛ لما ثبت بالإجماع / أن الرضا بقضاء الله واجب.

والرابع: أن الاستعاذة بالله من الشيطان إنما تعقل وتحسن لو كانت تلك الوسوسة فعلاً للشيطان، أما إذا كانت فعلاً لله ولم يكن للشيطان في وجودها أثر البتة فكيف يستعاذ من شر الشيطان، بل الواجب أن يستعاذ على هذا التقدير من شر الله تعالى، لأنه لا شر إلا من قبله.

الخامس: أن الشيطان يقول إذا كنت ما فعلت شيئاً أصلاً وأنت يا إله الخلق علمت صدور الوسوسة عني ولا قدرة لي على مخالفة قدرتك وحكمت بها عليّ ولا قدر لي على مخالفة حكمك ثم قلت:

{ لاَ يُكَلّفُ ٱللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا } [البقرة2: 286] وقلت:
{ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [البقرة2: 185] وقلت:
{ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِى ٱلدّينِ مِنْ حَرَجٍ } [الحج22: 78]

فمع هذه الأعذار الظاهرة والأسباب القوية كيف يجوز في حكمتك ورحمتك أن تذمني وتلعنني؟.


السادس: جعلتني مرجوماً ملعوناً بسبب جرم صدر مني أو لا بسبب جرم صدر مني؟ فإن كان الأول فقد بطل الجبر، وإن كان الثاني فهذا محض الظلم، وأنت قلت:

{ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ } [غافر40: 31]

فكيف يليق هذا بك؟.


فإن قال قائل: هذه لإشكالات إنما تلزم على قول من يقول بالجبر، وأنا لا أقول بالجبر، ولا بالقدر، بل أقول: الحق حالة متوسطة بين الجبر والقدر، وهو الكسب.

فنقول: هذا ضعيف، لأنه إما أن يكون لقدرة العبد أثر في الفعل على سبيل الاستقلال أو لا يكون، فإن كان الأول فهو تمام القول بالاعتزال، وإن كان الثاني فهو الجبر المحض، والسؤالات المذكورة واردة على هذا القول، فكيف يعقل حصول الواسطة.

قال أهل السنّة والجماعة أما الإشكالات التي ألزمتموها علينا فهي بأسرها واردة عليكم من وجهين: ـ

الأول: أن قدرة العبد إما أن تكون معينة لأحد الطرفين، أو كانت صالحة للطرفين معاً، فإن كان الأول فالجبر لازم، وإن كان الثاني فرجحان أحد الطرفين على الآخر إما أن يتوقف على المرجح، أو لا يتوقف فإن كان الأول ففاعل ذلك المرجح إن كان هو العبد عاد التقسيم الأول فيه، وإن كان هو الله تعالى فعندما يفعل ذلك المرجح يصير الفعل واجب الوقوع، وعندما لا يفعله يصير الفعل ممتنع الوقوع، وحينئذٍ يلزمكم كل ما ذكرتموه، وأما الثاني: وهو أن يقال: إن رجحان أحد الطرفين على الآخر لا يتوقف على مرجح فهذا باطل لوجهين: الأول: أنه لو جاز ذلك لبطل الاستدلال بترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر على وجود المرجح، والثاني: أن على هذا التقدير يكون ذلك الرجحان واقعاً على سبيل الاتفاق، ولا يكون صادراً عن العبد، وإذا كان الأمر كذلك فقد عاد الجبر المحض، فثبت بهذا البيان أن كل ما أوردتموه علينا فهو وارد عليكم.

-54-

الوجه الثاني في السؤال: أنكم سلمتم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات، ووقوع الشي على خلاف علمه يقتضي انقلاب علمه جهلاً، وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال، فكان كل ما أوردتموه علينا في القضاء والقدر لازماً عليكم في العلم لزوماً لا جواب عنه.

الاستعاذة تبطل قول القدرية:

ثم قال أهل السنّة والجماعة قوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) يبطل القول بالقدر من وجوه: ـ

الأول: أن المطلوب من قولك: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) إما أن يكون هو أن يمنع الله الشيطان من عمل الوسوسة منعاً بالنهي والتحذير، أو على سبيل القهر والجبر، أما الأول فقد فعله، ولما فعله كان طلبه من الله محالاً، لأن تحصيل الحاصل محال، وأما الثاني فهو غير جائز لأن الإلجاء ينافي كون الشياطين مكلفين، وقد ثبت كونهم مكلفين، أجابت المعتزلة عنه فقالوا: المطلوب بالاستعاذة فعل الألطاف التي تدعو المكلف إلى فعل الحسن وترك القبيح، لا يقال: فتلك الألطاف فعل الله بأسرها فما الفائدة في الطلب، لأنا نقول: إن من الألطاف ما لا يحسن فعله إلا عند هذا الدعاء، فلو لم يتقدم هذا الدعاء لم يحسن فعله. أجاب أهل السنّة عن هذا السؤال بأن فعل تلك الألطاف إما أن يكون له أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، أو لا أثر فيه، فإن كان الأول فعند حصول الترجيح يصير الفعل واجب الوقوع، والدليل عليه أن عند حصول رجحان جانب الوجود لو حصل العدم فحينئذٍ يلزم أن يحصل عند رجحان جانب الوجود رجحان جانب العدم، وهو جمع بين النقيضين، وهو محال، فثبت أن عند حصول الرجحان يحصل الوجوب. وذلك يبطل القول بالاعتزال، وأما أن لم يحصل بحسب فعل تلك الألطاف رجحان طرف الوجود لم يكن لفعلها ألبتة أثر، فيكون فعلها عبثاً محضاً. وذلك في حق الله تعالى محال.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الله تعالى إما أن يكون مريداً لصلاح حال العبد، أو لا يكون، فإن كان الحق هو الأول فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد، أو لا يتوقع، فإن توقع منه إفساد العبد مع أن الله تعالى مريد إصلاح حال العبد فلم خلقه ولم سلطه على العبد؟ وأما إن كان لا يتوقع من الشيطان إفساد العبد فأي حاجة للعبد إلى الاستعاذة منه؟ وأما إذا قيل: إن الله تعالى لا يريد ما هو صلاح حال العبد فالاستعاذة بالله كيف تفيد الاعتصام من شر الشيطان.

-55-

الوجه الثالث: أن الشيطان إما أن يكون مجبوراً على فعل الشر، أو يكون قادراً على فعل الشر والخير معاً، فإن كان الأول فقد أجبره الله على الشر، وذلك يقدح في قولهم: إنه تعالى لا يريد إلا الصلاح والخير، وإن كان الثاني ـ وهو أنه قادر على فعل الشر والخير ـ فهنا يمتنع أن يترجح فعل الخير على فعل الشر إلا بمرجح، وذلك المرجح يكون من الله تعالى، وإذا كان كذلك فأي فائدة في الاستعاذة.

الوجه الرابع: هب أن البشر إنما وقعوا في المعاصي بسبب وسوسة الشيطان، فالشيطان كيف وقع في المعاصي؟ فإن قلنا إنه وقع فيها بوسوسة شيطان آخر لزم التسلسل، وإن قلنا وقع الشيطان في المعاصي لا لأجل شيطان آخر فلم لا يجوز مثله في البشر؟ وعلى هذا التقدير فلا فائدة في الاستعاذة من الشيطان، وإن قلنا إنه تعالى سلط الشيطان على البشر ولم يسلط على الشيطان شيطاناً آخر فهذا حيف على البشر، وتخصيص له بمزيد الثقل والأَضرار وذلك ينافي كون الإله رحيماً ناصر لعباده.

الوجه الخامس: أن الفعل المستعاذ منه إن كان معلوم الوقوع فهو واجب الوقوع، فلا فائدة في الاستعاذة منه. وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع، فلا فائدة في الاستعاذة منه.

واعلم أن هذه المناظرة تدل على أنه لا حقيقة لقوله: (أعوذ بالله) إلا أن ينكشف للعبد أن الكل من الله وبالله، وحاصل الكلام فيه ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم: " أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من غضبك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك "

المستعاذ به:

الركن الثاني المستعاذ به: واعلم أن هذا ورد في القرآن والأخبار على وجهين: أحدهما: أن يقال: (أعوذ بالله) والثاني: أن يقال: (أعوذ بكلمات الله) أما قوله أعوذ بالله فبيانه إنما يتم بالبحث عن لفظة الله وسيأتي ذلك في تفسير بسم الله وأما قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) فاعلم أن المراد بكلمات الله هو قوله تعالى:

{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل16: 40]

والمراد من قوله «كن» نفاذ قدرته في الممكنات، وسريان مشيئته في الكائنات، بحيث يمتنع أن يعرض له عائق ومانع، ولا شك أنه لا تحسن الاستعاذة بالله إلا لكونه موصوفاً بتلك القدرة القاهرة والمشيئة النافذة، وأيضاً فالجسمانيات لا يكون حدوثها إلا على سبيل الحركة، والخروج من القوة إلى الفعل يسيراً يسيراً، وأما الروحانيات فإنما يحصل تكونها وخروجها إلى الفعل دفعة، ومتى كان الأمر كذلك كان حدوثها شبيهاً بحدوث الحرف الذي لا يوجد إلا في الآن الذي لا ينقسم، فلهذه المشابهة سميت نفاذ قدرته بالكلمة، وأيضاً ثبت في علم المعقولات أن عالم الأرواح مستولٍ على عالم الأجسام، وإنما هي المدبرات لأمور هذا العالم كما قال تعالى:


-56-

{ فَٱلْمُدَبّرٰتِ أَمْراً } [النازعات79: 5]

فقوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) استعاذة من الأرواح البشرية بالأرواح العالية المقدسة الطاهرة الطيبة في دفع شرور الأرواح الخبيثة الظلمانية الكدرة، فالمراد بكلمات الله التامات تلك الأرواح العالية الطاهرة.

ثم ههنا دقيقة، وهي أن قوله: (أعوذ بكلمات الله التامات) إنما يحسن ذكره إذا كان قد بقي في نظره التفات إلى غير الله، وأما إذا تغلغل في بحر التوحيد، وتوغل في قعر الحقائق وصار بحيث لا يرى في الوجود أحداً إلا الله تعالى؛ لم يستعذ إلا بالله، ولم يلتجىء إلا إلى الله، ولم يعول إلا على الله، فلا جرم يقول: (أعوذ بالله) و (أعوذ من الله بالله) كما قال عليه السلام " وأعوذ بك منك " واعلم أن في هذا المقام يكون العبد مشتغلاً أيضاً بغير الله لأن الاستعاذة لا بدّ وأن تكون لطلب أو لهرب، وذلك اشتغال بغير الله تعالى، فإذا ترقى العبد عن هذا المقام وفني عن نفسه وفني أيضاً عن فنائه عن نفسه فههنا يترقى عن مقام قوله أعوذ بالله ويصير مستغرقاً في نور قوله: (بسم الله) ألا ترى أنه عليه السلام لما قال: " وأعوذ بك منك " ترقى عن هذا المقام فقال: " أنت كما أثنيت على نفسك "

المستعيذ:

الركن الثالث من أركان هذا الباب: المستعيذ: واعلم أن قوله (أعوذ بالله) أمر منه لعباده أن يقولوا ذلك، وهذا غير مختص بشخص معين، فهو أمر على سبيل العموم؛ لأنه تعالى حكى ذلك عن الأنبياء والأولياء، وذلك يدل على أن كل مخلوق يجب أن يكون مستعيذاً بالله، فالأول: أنه تعالى حكى عن نوح عليه السلام أنه قال:

{ رَبّ إِنّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِى بِهِ عِلْمٌ } [هود11: 47]

فعند هذا أعطاه الله خلعتين، والسلام والبركات، وهو قوله تعالى:

{ قِيلَ يٰنُوحُ ٱهْبِطْ بِسَلَـٰمٍ مّنَّا وَبَركَـٰتٍ عَلَيْكَ } [هود11: 48]

والثاني: حكي عن يوسف عليه السلام أن المرأة لما راودته قال:

{ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبّى أَحْسَنَ مَثْوَاىَّ } [يوسف12: 23]

فأعطاه الله تعالى خلعتين صرف السوء والفحشاء حيث قال:

{ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوء وَٱلْفَحْشَاء } [يوسف12: 24] والثالث: قيل له:
{ خُذِ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } [يوسف12: 78] فقال:
{ مَعَاذَ ٱللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَـٰعَنَا عِندَهُ } [يوسف12: 79] فأكرمه الله تعالى بقوله:
{ وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى ٱلْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَا } [يوسف12: 100]

الرابع: حكى الله عن موسى عليه السلام أنه لما أمر قومه بذبح البقرة / قال قومه:

{ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ } [البقرة2: 67]

-57-

فأعطاه الله خلعتين إزالة التهمة وإحياء القتيل فقال:

{ فَقُلْنَا ٱضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذٰلِكَ يُحْىِ ٱللَّهُ ٱلْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَـٰتِهِ } [البقرة2: 73]

الخامس: أن القوم لما خوفوه بالقتل قال:
{ وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } [الدخان44: 20] وقال في آية أخرى:
{ إِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُـمْ مّن كُلّ مُتَكَبّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ ٱلْحِسَابِ } [غافر40: 27]

فأعطاه الله تعالى مراده فأفنى عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم، والسادس: أن أم مريم قالت:

{ وِإِنّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ } [آل عمران3: 36]

فوجدت الخلعة والقبول وهو قوله:

{ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا } [آل عمران3: 37]

والسابع: أن مريم عليها السلام لما رأت جبريل في صورة بشر يقصدها في الخلوة قالت:

{ إِنّى أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } [مريم19: 18]

فوجدت نعمتين ولداً من غير أب وتنزيه الله إياها بلسان ذلك الولد عن السوء وهو قوله:

{ إِنّى عَبْدُ ٱللَّهِ } [مريم19: 30]

الثامن: أن الله تعالى أمر محمداً عليه الصلاة والسلام بالاستعاذة مرة بعد أخرى فقال:

{ وَقُلْ رَّبّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّيـٰطِينِ *وَأَعُوذُ بِكَ رَبّ أَن يَحْضُرُونِ } [المؤمنون23: 97، 98] وقال:
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلْفَلَقِ } [الفلق113: 1] و
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبّ ٱلنَّاسِ } [الناس114: 1]

والتاسع: قال في سورة الأعراف

{ خُذِ ٱلْعَفْوَ وَأْمُرْ بِٱلْعُرف وَأَعْرِض عَنِ ٱلْجَـٰهِلِينَ *وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ من ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [الأعراف7: 199، 200] وقال في حۤم السجدة:
{ ٱدْفَعْ بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ } [فصلت41: 34] إلى أن قال:
{ وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ } [فصلت41: 36]

فهذه الآيات دالة على أن الأنبياء عليهم السلام كانوا أبداً في الاستعاذة من شر شياطين الإنس والجن.


وأما الأخبار فكثيرة: الخبر الأول: عن معاذ بن جبل قال: استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم وأغرقا فيه: فقال عليه السلام: " إني لأعلم كلمة لو قالاها لذهب عنهما ذلك، وهي قوله: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " وأقول هذا المعنى مقرر في العقل من وجوه: الأول: أن الإنسان يعلم أن علمه بمصالح هذا العالم ومفاسده قليل جداً، وأنه إنما يمكنه أن يعرف ذلك القليل بمدد العقل، وعند الغضب يزول العقل، فكل ما يفعله ويقوله لم يكن على القانون الجيد، فإذا استحضر في عقله هذا صار هذا المعنى مانعاً له عن الإقدام على تلك الأفعال وتلك الأقوال، وحاملاً له على أن يرجع إلى الله تعالى في تحصيل الخيرات ودفع الآفات، فلا جرم يقول أعوذ بالله. الثاني: أن الإنسان غير عالم قطعاً بأن الحق من جانبه ولا من جانب بخصمه، فإذا علم ذلك يقول: أفوض هذه الواقعة إلى الله تعالى، فإذا كان الحق من جانبي فالله يستوفيه من خصمي، وإن كان الحق من جانب خصمي فالأولى أن لا أظلمه» وعند هذا يفوض تلك الحكومة إلى الله ويقول أعوذ بالله.

-58-

الثالث: أن الإنسان إنما يغضب إذا أحس من نفسه بفرط قوة وشدة بواسطتها يقوى على قهر الخصم، فإذا استحضر في عقله أن إله العالم أقوى وأقدر مني ثم إني عصيته مرات وكرات وأنه بفضله تجاوز عني فالأولى لي أن أتجاوز عن هذا المغضوب عليه، فإذا أحضر في عقله هذا المعنى ترك الخصومة والمنازعة وقال: أعوذ بالله، وكل هذه المعاني مستنبطة من قوله تعالى:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } [الأعراف7: 201]

والمعنى أنه إذا تذكر هذه الأسرار والمعاني أبصر طريق الرشد فترك النزاع والدفاع ورضي بقضاء الله تعالى.


والخبر الثاني: وروى معقل بن يسار رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر؛ وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي، فإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة "

قلت: وتقريره من جانب العقل أن قوله: (أعوذ بالله) مشاهدة لكمال عجز النفس وغاية قصورها، والآيات الثلاث من آخر سورة الحشر مشاهدة لكمال الله وجلاله وعظمته، وكمال الحال في مقام العبودية لا يحصل إلا بهذين المقامين.

الخبر الثالث: روى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من استعاذ في اليوم عشر مرات وكل الله تعالى به ملكاً يذود عنه الشيطان "

قلت: والسبب فيه أنه لما قال: (أعوذ بالله) وعرف معناه عرف منه نقصان قدرته ونقصان علمه، وإذا عرف ذلك من نفسه لم يلتفت إلى ما تأمره به النفس، ولم يقدم على الأعمال التي تدعوه نفسه إليها، والشيطان الأكبر هو النفس، فثبت أن قراءة هذه الكلمة تذود الشيطان عن الإنسان.

والخبر الرابع: عن خولة بنت حكيم عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: " من نزل منزلاً فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرتحل من ذلك المنزل "

قلت: والسبب فيه أنه ثبت في العلوم العقلية أن كثرة الأشخاص الروحانية فوق كثرة الأشخاص الجسمانية، وأن السموات مملوءة من الأرواح الطاهرة، كما قال عليه الصلاة والسلام " أطت السماء، وحق لها أن تئط، ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك قائم أو قاعد " وكذلك الأثير والهواء مملوءة من الأرواح، وبعضها طاهرة مشرقة خيرة، وبعضها كدرة مؤذية شريرة، فإذا قال الرجل: (أعوذ بكلمات الله التامات) فقد استعاذ بتلك الأرواح الطاهرة من شر تلك الأرواح الخبيثة، وأيضاً كلمات الله هي قوله: «كن» وهي عبارة عن القدرة النافذة ومن استعاذ بقدرة الله لم يضره شيء.

-59-

والخبر الخامس: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا فزع أحدكم من النوم فليقل أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده ومن شر همزات الشياطين وأن يحضرون فإنها لا تضر " وكان عبد الله بن عمر يعلمها من بلغ من عبيده، ومن لم يبلغ كتبها في صك ثم علقها في عنقه.

والخبر السادس: عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يعوذ الحسن والحسين رضي الله عنهما، ويقول: " أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة " ويقول: " كان أبي إبراهيم عليه السلام يعوذ بها إسمعيل وإسحق عليهما السلام "

الخبر السابع: أنه عليه الصلاة والسلام كان يعظم أمر الاستعاذة حتى أنه لما تزوج امرأة ودخل بها فقالت: أعوذ بالله منك فقال عليه الصلاة والسلام: عذت بمعاذ فالحقي بأهلك.

واعلم أن الرجل المستبصر بنور الله لا التفات له إلى القائل، وإنما التفاته إلى القول، فلما ذكرت تلك المرأة كلمة أعوذ بالله بقي قلب الرسول صلى الله عليه وسلم مشتغلاً بتلك الكلمة، ولم يلتفت إلى أنها قالت تلك الكلمة عن قصد أم لا.

والخبر الثامن: روى الحسن قال: بينما رجل يضرب مملوكاً له فجعل المملوك يقول: (أعوذ بالله) إذ جاء نبي الله فقال: أعوذ برسول الله، فأمسك عنه فقال عليه السلام: عائذ الله أحق أن يمسك عنه، فقال: فإني أشهدك يا رسول الله أنه حر لوجه الله، فقال عليه الصلاة والسلام: " أما والذي نفسي بيده لو لم تقلها لدافع وجهك سفع النار "

والخبر التاسع: قال سويد: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه يقول على المنبر: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فلا أحب أن أترك ذلك ما بقيت.

والخبر العاشر: قوله عليه الصلاة والسلام: " أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من غضبك، وأعوذ بك منك "

المستعاذ منه:

الركن الرابع من أركان هذا الباب الكلام؛ في المستعاذ منه وهو الشيطان، والمقصود من الاستعاذة دفع شر الشيطان، واعلم أن شر الشيطان إما أن يكون بالوسوسة أو بغيرهما، كما ذكره في قول الله تعالى:

{ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ } [البقرة2: 275]

وفي هذا الباب مسائل غامضة دقيقة من العقليات، ومن علوم المكاشفات.


الاختلاف في وجود الجن:

المسألة الأولى: اختلف الناس في وجود الجن والشياطين فمن الناس من أنكر الجن والشياطين، واعلم أنه لا بدّ أولاً من البحث عن ماهية الجن والشياطين فنقول: أطبق الكل على أنه ليس الجن والشياطين عبارة عن أشخاص جسمانية كثيفة تجيء وتذهب مثل الناس والبهائم، بل القول المحصل فيه قولان: الأول: أنها أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة، ولها عقول وأفهام وقدرة على أعمال صعبة شاقة.

-60-


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #12  
قديم 12-27-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 61-70 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 61-70 من 259





{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


والقول الثاني: أن كثيراً من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في المتحيز، وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية، ثم هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام بالكلية، وهي الملائكة المقربون، كما قال الله تعالى:

{ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } [الأنبياء21: 19]

ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام، وأشرفها حملة العرش، كما قال تعالى:

{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَـٰنِيَةٌ } [الحاقة: 17]

والمرتبة الثانية: الحافون حول العرش، كما قال تعالى:

{ وَتَرَى ٱلْمَلَـٰئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ } [الزمر: 75]

والمرتبة الثالثة: ملائكة الكرسي، والمرتبة الرابعة: ملائكة السموات طبقة طبقة، والمرتبة الخامسة: ملائكة كرة الأثير، والمرتبة السادسة: ملائكة كرة الهواء الذي هو في طبع النسيم، والمرتبة السابعة: ملائكة كرة الزمهرير، والمرتبة الثامنة: مرتبة الأرواح المتعلقة بالبحار، والمرتبة التاسعة: مرتبة الأرواح المتعلقة بالجبال، والمرتبة العاشرة: مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذاالعالم.


واعلم أنه على كلا القولين فهذه الأرواح قد تكون مشرقة إلهية خيرة سعيدة، وهي المسماة بالصالحين من الجن، وقد تكون كدرة سفلية شرير شقية، وهي المسماة بالشياطين.

واحتج المنكرون لوجود الجن والشياطين بوجوه: الحجة الأولى: إن الشيطان لو كان موجوداً لكان إما أن يكون جسماً كثيفاً أو لطيفاً، والقسمان بطلان فيبطل القول بوجوده وإنما قلنا أنه يمتنع أن يكون جسماً كثيفاً لأنه لو كان كذلك لوجب أن يراه كل من كان سليم الحس، إذ لو جاز أن يكون بحضرتنا أجسام كثيفة ونحن لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة ورعود وبروق مع أنا لا نشاهد شيئاً منها، ومن جوز ذلك كان خارجاً عن العقل، وإنما قلنا إنه لا يجوز كونها أجساماً لطيفة وذلك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تتمزق أو تتفرق عند هبوب الرياح العاصفة القوية، وأيضاً يلزم أن لا يكون لها قوة وقدرة على الأعمال الشاقة، ومثبتو الجن ينسبون إليها الأعمال الشاقة، ولما بطل القسمان ثبت فساد القول بالجن.

الحجة الثانية: أن هذه الأشخاص المسماة بالجن إذا كانوا حاضرين في هذا العالم مخالطين للبشر فالظاهر الغالب أن يحصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة وإما عداوة، فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة، وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضار بسبب تلك العداوة، إلا أنا لا نرى أثراً لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة وهؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثراً من هذا الجن، وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء وسمعت واحداً ممن تاب عن تلك الصنعة قال إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم إني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثراً ولا خبراً.

-61-

الحجة الثالثة: أن الطريق إلى معرفة الأشياء إما الحس، وإما الخبر، وإما الدليل: أما الحس فلم يدل على وجود هذه الأشياء؛ لأن وجودها إما بالصورة أو الصوت فإذا كنا لا نرى صورة ولا سمعنا صوتاً فكيف يمكننا أن ندعي الإحساس بها، والذين يقولون أنا أبصرناها أو سمعنا أصواتها فهم طائفتان: المجانين الذين يتخيلون أشياء بسبب خلل أمزجتهم فيظنون أنهم رأوها، والكذابون المخرفون، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة أخبار الأنبياء والرسل فباطل لأن هذه الأشياء لو ثبتت لبطلت نبوة الأنبياء فإن على تقدير ثبوتها يجوز أن يقال إن كل ما تأتي به الأنبياء من المعجزات إنما حصل بإعانة الجن والشياطين، وكل فرع أدى إلى إبطال الأصل كان باطلاً، مثاله إذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال: إن حنين الجذع إنما كان لأجل أن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين ولم لا يجوز أن يقال إن الناقة إنما تكلمت مع الرسول عليه السلام لأن الشيطان دخل في بطنها وتكلم، ولم لا يجوز أن يقال إن الشجرة إنما انقلعت من أصلها لأن الشيطان اقتلعها، فثبت أن القول بإثبات الجن والشياطين يوجب القول ببطلان نبوة الأنبياء عليهم السلام، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة الدليل والنظر فهو متعذر، لأنا لا نعرف دليلاً عقلياً يدل على وجود الجن والشياطين، فثبت أنه لا سبيل لنا إلى العلم بوجود هذه الأشياء، فوجب أن يكون القول بوجود هذه الأشياء باطلاً، فهذه جملة شبه منكري الجن والشياطين.

والجواب عن الأولى: بأنا نقول: إن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسماً، فلم لا يجوز أن يقال إنه جوهر مجرد عن الجسمية والجواب عن الأولى بأنا نقول: أن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسماً فلم لا يجوز أن يقال: إنه جوهر مجرد عن الجسمية.

واعلم أن القائلين بهذا القول فِرَق: الأولى الذين قالوا: النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد تكون خيرة، وقد تكون شريرة، فإن كانت خيرة فهي الملائكة الأرضية، وإن كانت شريرة فهي الشياطين الأرضية، ثم إذا حدث بدن شديد المشابهة ببدن تلك النفوس المفارقة وتعلق بذلك البدن نفس شديدة المشابهة لتلك النفس المفارقة فحينئذٍ يحدث لتلك النفس المفارقة ضرب تعلق بهذا البدن الحادث، وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن على الأعمال اللائقة بها، فإن كانت النفسان من النفوس الطاهرة المشرقة الخيرة كانت تلك المعاونة والمعاضدة إلهاماً، وإن كانتا من النفوس الخبيثة الشريرة كانت تلك المعاونة والمناصرة وسوسة، فهذا هو الكلام في الإلهام والوسوسة على قول هؤلاء.

-62-

الفريق الثاني الذين قالوا: الجن والشياطين جواهر مجردة عن الجسمية وعلائقها، وجنسها مخالف لجنس النفوس الناطقة البشرية، ثم إن ذلك الجنس يندرج فيه أنواع أيضاً، فإن كانت طاهرة نورانية فهي الملائكة الأرضية، وهم المسمون بصالحي الجن، وإن كانت خبيثة شريرة فهي الشياطين المؤذية، إذا عرفت هذا فنقول: الجنسية علة الضم، فالنفوس البشرية الطاهرة النورانية تنضم إليها تلك الأرواح الطاهرة النورانية وتعينها على أعمالها التي هي من أبواب الخير والبر والتقوى، والنفوس البشرية الخبيثة الكدرة تنضم إليها تلك الأرواح الخبيثة الشريرة وتعينها على أعمالها التي هي من باب الشر والإثم والعدوان.

الفريق الثالث، وهم الذين ينكرون وجود الأرواح السفلية، ولكنهم أثبتوا وجود الأرواح المجردة الفلكية، وزعموا أن تلك الأرواح أرواح عالية قاهرة قوية، وهي مختلفة بجواهرها وماهياتها، فكما أن لكل روح من الأرواح البشرية بدنا معيناً فكذلك لكل روح من الأرواح الفلكية بدن معين، وهو ذلك الفلك المعين، وكما أن الروح البشرية تتعلق أولاً بالقلب ثم بواسطته يتعدى أثر ذلك الروح إلى كل البدن، فكذلك الروح الفلكي يتعلق أولاً بالكواكب ثم بواسطة ذلك التعلق يتعدى أثر ذلك الروح إلى كلية ذلك الفلك وإلى كلية العالم، وكما أنه يتولد في القلب والدماغ أرواح لطيفة وتلك الأرواح تتأدى في الشرايين والأعصاب إلى أجزاء البدن ويصل بهذا الطريق قوة الحياة والحس والحركة إلى كل جزء من أجزاء الأعضاء، فكذلك ينبعث من جرم الكواكب خطوط شعاعية تتصل بجوانب العالم وتتأدى قوة تلك الكواكب بواسطة تلك الخطوط الشعاعية إلى أجزاء هذا العالم وكما أن بواسطة الأرواح الفائضة من القلب والدماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كل جزء من أجزاء ذلك البدن قوى مختلفة وهي الغاذية والنامية والمولدة والحساسة ـ فتكون هذه القوى كالنتائج والأولاد لجوهر النفس المدبرة لكلية البدن، فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعية المنبثة من الكواكب الواصلة إلى أجزاء هذا العالم تحدث في تلك الأجزاء نفوس مخصوصة مثل نفس زيد ونفس عمرو، وهذه النفوس كالأولاد لتلك النفوس الفلكية، ولما كانت النفوس الفلكية مختلفة في جواهرها وماهياتها، فكذلك النفوس المتولدة من نفس فلك زحل مثلاً طائفة، والنفوس المتولدة من نفس فلك المشتري طائفة أخرى، فتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل متجانسة متشاركة، ويحصل بينها محبة ومودة، وتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل مخالفة بالطبع والماهية للنفوس المنتسبة إلى روح المشتري، وإذا عرفت هذا فنقول: قالوا: إن العلة تكون أقوى من المعلول، فكل طائفة من النفوس البشرية طبيعة خاصة، وهي تكون معلولة لروح من تلك الأرواح الفلكية وتلك الطبيعة تكون في الروح الفلكي أقوى وأعلى بكثير منها في هذه الأرواح البشرية، وتلك الأرواح الفلكية بالنسبة إلى تلك الطائفة من الأرواح البشرية كالأب المشفق والسلطان الرحيم، فلهذا السبب تلك الأرواح الفلكية تعين أولادها على مصالحها وتهديها تارة في النوم على سبيل الرؤيا، وأخرى في اليقظة في سبيل الإلهام، ثم إذا اتفق لبعض هذه النفوس البشرية قوة قوية من جنس تلك الخاصية وقوى اتصاله بالروح الفلكي الذي هو أصله ومعدنه ظهرت عليه أفعال عجيبة وأعمال خارقة للعادات، فهذا تفصيل مذاهب من يثبت الجن والشياطين، ويزعم أنها موجودات ليست أجساماً ولا جسمانية.

-63-

واعلم أن قوماً من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب، وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات، والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية.

واعلم أن هذا باطل لوجهين: الأول: أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس، والقاضي على الشيئين لا بدّ وأن يحضره المقضي عليهما، فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي، وهو النفس، فيلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس. الثاني: هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء، لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية، فلم لا يجوز أن يقال: إن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير، ثم إنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان، فهذا تمام الكلام في شرح هذا المذاهب.

وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا: الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار، وهذان المعنيان أعراض، فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض، والأشياء المختلفة بالماهية لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم، فلم لا يجوز أن يقال: الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة، وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار؟ وإذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يقال: أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها، قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها، وهي غير قابلة للتفرق والتمزق؟ وإذا كان الأمر كذلك فتلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة، ثم إن الرياح العاصفة لا تمزقها، والأجسام الكثيفة لا تفرقها، أليس أن الفلاسفة قالوا: إن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد، وتخرج من الجانب الآخر؟ فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها، وأنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة، والدليل لم يقم على إبطالها، فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها.

-64-

وأما الجواب عن الشبهة الثانية: أنه لا يجب حصول تلك الصداقة والعداوة مع كل واحد وكل واحد لا يعرف إلا حال نفسه، أما حال غيره فإنه لا يعلمها، فبقي هذا الأمر في حيز الاحتمال.

وأما الجواب عن الشبهة الثالثة فهو أنا نقول: لا نسلم أن القول بوجود الجن والملائكة يوجب الطعن في نبوة الأنبياء عليهم السلام، وسيظهر الجواب عن الأجوبة التي ذكرتموها فيما بعد ذلك، فهذا آخر الكلام في الجواب عن الشبهات.

دليل وجود الجن من القرآن:

المسألة الثانية: اعلم أن القرآن والأخبار يدلان على وجود الجن والشياطين: أما القرآن فآيات: الآية الأولى قوله تعالى:

{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ *قَالُواْ يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } [الأحقاف: 29، 30]

وهذا نص على وجودهم وعلى أنهم سمعوا القرآن، وعلى أنهم أنذروا قومهم، والآية الثانية قوله تعالى:

{ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } [البقرة2: 102]

والآية الثالثة قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام:

{ يَعملونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَـٰرِيبَ وَتَمَـٰثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ راسِيَـٰتٍ ٱعْمَلُواْ } [سبأ34: 13] وقال تعالى:
{ وَٱلشَّيَـٰطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ *وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ٱلأَصْفَادِ } [صۤ38: 37، 38] وقال تعالى:
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [سبأ34: 12] والآية الرابعة قوله تعالى:
{ يَمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُم أَن تَنفُذُوا مِن أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الرحمن55: 33] والآية الخامسة قوله تعالى:
{ إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوٰكِبِ *وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَـٰنٍ مَّارِدٍ } [الصافات38: 6، 7]

وأما الأخبار فكثيرة: ـ


الخبر الأول: روى مالك في «الموطأ»، عن صيفي بن أفلح، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، قال: فسمعت تحريكاً تحت سريره في بيته، فإذا هي حية، فقمت لأقتلها، فأشار أبو سعيد أن إجلس، فلما انصرف من صلاته أشار إلى بيت في الدار فقال: ترى هذا البيت؟ فقلت نعم، فقال: إنه كان فيه فتى حديث عهد بعرس، وساق الحديث إلى أن قال: فرأى امرأته واقفة بين الناس، فأدركته غيرة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها بسبب الغيرة فقالت: لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك، فدخل فإذا هو بحية مطوقة على فراشه فركز فيها رمحه فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتاً، فما ندري أيهما كان أسرع موتاً: الفتى أم الحية، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فمن بدا لكم منهم فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان.

-65-

الخبر الثاني: روى مالك في «الموطأ» عن يحيـى بن سعيد قال: لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عفريتاً من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه، فقال جبريل عليه السلام: ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه، قل: أعوذ بوجه الله الكريم، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما نزل إلى الأرض، وشر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن.

والخبر الثالث: روى مالك أيضاً في «الموطأ» أن كعب الأخبار كان يقول: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسمائه كلها ما قد علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وذرأ وبرأ.

والخبر الرابع: روى أيضاً مالك أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله، إني أروع في منامي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون.

والخبر الخامس: ما اشتهر وبلغ مبلغ التواتر من خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وقراءته عليهم، ودعوته إياهم إلى الإسلام.

والخبر السادس: روى القاضي أبو بكر في «الهداية» أن عيسى بن مريم عليهما السلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم، فأراه ذلك فإذا رأسه مثل رأس الحية واضع رأسه على قلبه، فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا لم يذكره وضع رأسه على حبة قلبه.

والخبر السابع: قوله عليه السلام: " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم " وقال: " ما منكم أحد إلا وله شيطان " قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم " والأحاديث في ذلك كثيرة، والقدر الذي ذكرناه كاف.

خلق الجن من النار:

المسأل الثالثة: في بيان أن الجن مخلوق من النار: والدليل عليه قوله تعالى:

{ وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَـٰهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [الحجر15: 27]

وقال تعالى حاكياً عن إبليس لعنه الله أنه قال:

{ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف7: 12]

واعلم أن حصول الحياة في النار غير مستبعد، ألا ترى أن الأطباء قالوا: المتعلق الأول للنفس هو القلب والروح، وهما في غاية السخونة، وقال جالينوس: إني بقرت مرة بطن قرد فأدخلت يدي في بطنه، وأدخلت أصبعي في قلبه فوجدته في غاية السخونة بل تزيد، ونقول: أطبق الأطباء على أن الحياة لا تحصل إلا بسبب الحرارة الغريزية، وقال بعضهم: الأغلب على الظن أن كرة النار تكون مملوءة من الروحانيات.


-66-

سبب تسمية الجن جنا:

المسألة الرابعة: ذكروا قولين في أنهم لم سموا بالجن، الأول: أن لفظ الجن مأخوذ من الاستتار، ومنه الجنة لاستتار أرضها بالأشجار، ومنه الجنة لكونها ساترة للإنسان، ومنه الجن لاستتارهم عن العيون، ومنه المجنون لاستتار عقله، ومنه الجنين لاستتاره في البطن ومنه قوله تعالى:

{ ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً } [المجادلة58: 16]
{ ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً } [المنافقون63: 2]

أي وقاية وستراً، واعلم أن هذا القول يلزم أن تكون الملائكة من الجن لاستتارهم عن العيون، إلا أن يقال: إن هذا من باب تقييد المطلق بسبب العرف. والقول الثاني: أنهم سموا بهذا الاسم لأنهم كانوا في أول أمرهم خزان الجنة والقول الأول أقوى.


طوائف المكلفين:

المسألة الخامسة: اعلم أن طوائف المكلفين أربعة: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين، واختلفوا في الجن والشياطين فقيل: الشياطين جنس والجن جنس آخر، كما أن الإنسان جنس والفرس جنس آخر، وقيل: الجن منهم أخيار ومنهم أشرار والشياطين اسم لأَشرار الجن.

تسلط الجن على الإنس:

المسألة السادسة: المشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك، أما المثبتون فقد احتجوا بوجوه: الأول: أنه إن كان الجن عبارة عن موجود ليس بجسم ولا جسماني فحينئذٍ يكون معنى كونه قادراً على النفوذ في باطنه أنه يقدر على التصرف في باطنه، وذلك غير مستبعد، وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه كان نفاذه في باطن بني آدم أيضاً غير ممتنع قياساً على النفس وغيره. الثاني: قوله تعالى:

{ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ } [البقرة2: 275]

الثالث: قوله عليه السلام: " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم "


أما المنكرون فقد احتجوا بأمور: الأول: قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله

{ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى } [إبراهيم14: 22]

صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان إلا من الوجه الواحد، وهو إلقاء الوسوسة والدعوة إلى الباطل. الثاني: لا شك أن الأنبياء والعلماء المحققين يدعون الناس إلى لعن الشيطان والبراءة منه، فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم أعظم أنواع العداوة، فلو كانوا قادرين على النفوذ في بواطن البشر وعلى إيصال البلاء والشر إليهم لوجب أن يكون تضرر الأنبياء والعلماء منهم أشد من تضرر كل أحد، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه باطل.


صفة الملائكة:

المسألة السابعة: اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأما الجن والشياطين فإنهم يأكلون وشربون، قال عليه السلام في الروث والعظم: " إنه زاد إخوانكم من الجن "

-67-

وأيضاً فإنهم يتوالدون قال تعالى:

{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى } [الكهف18: 50].


وسوسة الشيطان:

المسألة الثامنة في كيفية الوسوسة بناءً على ما ورد في الآثار: ذكروا أنه يغوص في باطن الإنسان، ويضع رأسه على حبة قلبه، ويلقي إليه الوسوسة واحتجوا عليه بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، ألا فضيقوا مجاريه بالجوع " وقال عليه السلام: " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات "

ومن الناس من قال: هذه الأخبار لا بد، من تأويلها، لأنه يمتنع حملها على ظواهرها، واحتج عليه بوجوه: الأول: أن نفوذ الشياطين في بواطن الناس محال؛ لأنه يلزم إما اتساع تلك المجاري أو تداخل تلك الأجسام. الثاني: ما ذكرنا أن العداوة الشديدة حاصلة بينه وبين أهل الدين، فلو قدر على هذا النفوذ فلم لا يخصهم بمزيد الضرر؟ الثالث: أن الشيطان مخلوق من النار، فلو دخل في داخل البدن لصار كأنه نفذ النار في داخل البدن، ومعلوم أنه لا يحس بذلك. الرابع: أن الشياطين يحبون المعاصي وأنواع الكفر والفسق، ثم إنا نتضرع بأعظم الوجوه إليهم ليظهروا أنواع الفسق فلا نجد منه أثراً ولا فائدة، وبالجملة فلا نرى لا من عداوتهم ضرراً ولا من صداقتهم نفعاً.

وأجاب مثبتو الشياطين عن السؤال الأول: بأن على القول بأنها نفوس مجردة فالسؤال زائل، وعلى القول بأنها أجسام لطيفة كالضوء والهواء فالسؤال أيضاً زائل، وعن الثاني: لا يبعد أن يقال: إن الله وملائكته يمنعونهم عن إيذاء علماء البشر، وعن الثالث: أنه لما جاز أن يقول الله تعالى لنار إبراهيم

{ يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } [الأنبياء21: 69]

فلم لا يجوز مثله ههنا، وعن الرابع: أن الشياطين مختارون، ولعلهم يفعلون بعض القبائح دون بعض.


تحقيق الكلام في الوسوسة:

المسألة التاسعة، في تحقيق الكلام في الوسوسة على الوجه الذي قرره الشيخ الغزالي في كتاب «الإحياء»، قال: القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب، أو مثل هدف ترمى إليه السهام من كل جانب، أو مثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص، فتتراءى فيها صورة بعد صورة، أو مثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة واعلم أن مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب ساعة فساعة إما من الظاهر كالحواس الخمس، وإما من البواطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة في مزاج الإنسان، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب، وكذا إذا هاجت الشهوة أو الغضب حصل من تلك الأحوال آثار في القلب، وأما إذا منع الإنسان عن الإدراكات الظاهرة فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى، وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال، فالقلب دائماً في التغير والتأثر من هذه الأسباب، وأخص الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر، وأعني بالخواطر ما يعرض فيه من الأفكار والأذكار، وأعني بها إدراكات وعلوماً إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر، وإنما تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بالخيال بعد أن كان القلب غافلاً عنها، فالخواطر هي المحركات للإرادات، والإرادات محركة للأعضاء، ثم هذه الخواطر المحركة لهذه الإرادات تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة ـ وإلى ما ينفع ـ أعني ما ينفع في العاقبة ـ فهما خاطران مختلفان، فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً، والمذموم يسمى وسواساً، ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر أحوال حادثة فلا بدّ لها من سبب، والتسلسل محال، فلا بدّ من انتهاء الكل إلى واجب الوجود، وهذا ملخص كلام الشيخ الغزالي بعد حذف التطويلات منه.

-68-

تحقيق كلام الغزالي:

المسألة العاشرة: في تحقيق الكلام فيما ذكره الغزالي: اعلم أن هذا الرجل دار حول المقصود إلا أنه لا يحصل الغرض إلا من بعد مزيد التنقيح، فنقول: لا بدّ قبل الخوض في المقصود من تقديم مقدمات.

المقدمة الأولى: لا شك أن ههنا مطلوباً ومهروباً. وكل مطلوب فأما أن يكون مطلوباً لذاته أو لغيره، ولا يجوز أن يكون كل مطلوب مطلوباً لغيره. وأن يكون كل مهروب مهروباً عنه لغيره: وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل، وهما محالان، فثبت أنه لا بدّ من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوباً لذاه، وبوجود شيء يكون مهروباً عنه لذاته.

المقدمة الثانية: إن الاستقراء دل على أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور، والمطلوب بالتبع ما يكون وسيلة إليهما، والمهروب عنه بالذات هو الألم والحزن، والمهروب عنه بالتبع ما يكون وسيلة إليهما.

المقدمة الثالثة: إن اللذيذ عند كل قوة من القوى النفسانية شيء آخر، فاللذيذ عند القوة الباصرة شيء، واللذيذ عند القوة السامعة شيء آخر، واللذيذ عند القوة الشهوانية شيء ثالث، واللذيذ عند القوة الغضبية شيء رابع، واللذيذ عند القوة العاقلة شيء خامس.

المقدمة الرابعة: إن القوة الباصرة إذا أدركت موجوداً في الخارج لزم من حصول ذلك الإدراك البصري وقوف الذهن على ماهية ذلك المرئي، وعند الوقوف عليه يحصل العلم بكونه لذيذاً أو مؤلماً أو خالياً عنهما، فإن حصل العلم بكونه لذيذا ترتب على حصول هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى تحصيله، وإن حصل العلم بكونه مؤلماً ترتب على هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى البعد عنه والفرار منه، فإن لم يحصل العلم بكونه مؤلماً ولا بكونه لذيذاً لم يحصل في القلب لا رغبة إلى الفرار عنه ولا رغبة إلى تحصيله.

-69-

المقدمة الخامسة: إن العلم بكونه لذيذاً إنما يوجب حصول الميل والرغبة في تحصيله إذا حصل ذلك العلم خالياً عن المعارض والمعاوق، فأما إذا حصل هذا المعارض لم يحصل ذلك الاقتضاء، مثاله إذا رأينا طعاماً لذيذاً فعلمنا بكونه لذيذاً، إنما يؤثر في الإقدام على تناوله إذا لم نعتقد أنه حصل فيه ضرر زائد، أما إذا اعتقدنا أنه حصل فيه ضرر زائد فعند هذا يعتبر العقل كيفية المعارضة والترجيح، فأيهما غلب على ظنه أنه أرجح عمل بمقتضى ذلك الرجحان، ومثال آخر لهذا المعنى: إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يلقي نفسه من السطح العالي، إلا أنه إنما يقدم على هذا العمل إذا اعتقد أنه بسبب تحمل ذلك العمل المؤلم يتخلص عن مؤلم آخر أعظم منه، أو يتوصل به إلى تحصيل منفعة أعلى حالاً منها، فثبت بما ذكرنا أن اعتقاد كونه لذيذاً أو مؤلماً إنما يوجب الرغبة والنفرة إذا خلا ذلك الاعتقاد عن المعارض.

المقدمة السادسة: في بيان أن التقرير الذي بيناه يدل على أن الأفعال الحيوانية لها مراتب مرتبة ترتيباً ذاتياً لزومياً عقلياً، وذلك لأن هذه الأفعال مصدرها القريب هو القوى الموجودة في العضلات، إلا أن هذه القوى صالحة للفعل وللترك، فامتنع صيرورتها مصدراً للفعل بدلاً عن الترك، وللترك بدلاً عن الفعل، إلا بضميمة تنضم إليها، وهي الإرادات ثم إن تلك الإرادات إنما توجد وتحدث لأجل العلم بكونها لذيذة أو مؤلمة، ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه، ولزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان، وإما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جوهر النفس من الأسباب الخارجة، وهي إما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم أو السبب الحقيقي وهو أن الله تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب، فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان.

إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا: ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار، فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليها، وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذاً أو مؤلماً، وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بدّ وأن يكون يخلق الله تعالى ابتداء أو بواسطة مراتب شأن كل واحد منها في استلزام ما بعده على الوجه الذي قررناه، وثبت أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله أم لازم لزوماً ذاتياً واجباً، فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائماً مال طبعه إليه، وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب، فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة، فلو قدرنا شيطاناً من الخارج وفرضنا أنه حصلت له وسوسة كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر؛ لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة حصل الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، وءن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل، بل الحق أن نقول: إن اتفق حصول هذه المراتب في الطرف النافع سميناها بالإلهام، وإن اتفق حصولها في الطرف الضار سميناها بالوسوسة، هذا تمام الكلام في تقرير الإشكال.

-70-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #13  
قديم 12-27-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 71-80 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 71-80 من 259


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


والجواب: أن كل ما ذكرتموه حق وصدق، إلا أنه لا يبعد أن يكون الإنسان غافلاً عن الشيء فإذا ذكره الشيطان ذلك الشيء تذكره، ثم عند التذكر يترتب الميل عليه، ويترتب الفعل على حصول ذلك الميل، فالذي أتى به الشيطان الخارجي ليس إلا ذلك التذكر، وإليه الإشارة بقوله تعالى حاكياً عن إبليس أنه قال:

{ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى } [إبراهيم14: 22]

إلا أنه بقي لقائل أن يقول: فالإنسان إنما قدم على المعصية بتذكير الشيطان، فالشيطان إن كان إقدامه على المعصية بتذكير شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين، وإن كان عمل ذلك الشيطان ليس لأجل شيطان آخر ثبت أن ذلك الشيطان الأول إنما أقدم على ما أقدم عليه لحصول ذلك الاعتقاد في قلبه، ولا بدّ لذلك الاعتقاد الحادث من سبب، وماذاك إلا الله سبحانه وتعالى، وعند هذا يظهر أن الكل من الله تعالى، فهذا غاية الكلام في هذا البحث الدقيق العميق، وصار حاصل الكلام ما قاله سيد الرسل عليه الصلاة والسلام وهو قوله: " أعوذ بك منك " والله أعلم.


الخواطر والاختلاف فيها:

المسألة الحادية عشرة: اعلم أن الإنسان إذا جلس في الخلوة وتواترت الخواطر في قلبه فربما صار بحيث كأنه يسمع في دخل قلبه ودماغه أصواتاً خفية وحروفاً خفية، فكأن متكلماً يتكلم معه، ومخاطباً يخاطبه، فهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه، ثم اختلف الناس في تلك الخواطر فقالت الفلاسفة إن تلك الأشياء ليست حروفاً ولا أصواتاً، وإنما هي تخيلات الحروف والأصوات، وتخيل الشيء عبارة عن حضور رسمه ومثاله في الخيال، وهذا كما أنا إذا تخيلنا صور الجبال والبحار والأشخاص، فأعيان تلك الأشياء غير موجودة في العقل والقلب، بل الموجود في العقل والقلب صورها وأمثلتها ورسومها، وهي على سبيل التمثيل جارية مجرى الصورة المرتسمة في المرآة، فإنا إذا أحسسنا في المرآة صورة الفلك والشمس والقمر فليس ذلك لأجل أنه حضرت ذوات هذه الأشياء في المرآة فإن ذلك محال، وإنما الحاصل في المرآة رسوم هذه الأشياء وأمثلتها وصورتها، وإذا عرفت هذا في تخيل المبصرات فاعلم أن الحال في تخيل الحروف والكلمات المسموعة كذلك، فهذا قول جمهور الفلاسفة، ولقائل أن يقول: هذا الذي سميته بتخيل الحروف والكلمات هل هو مساوٍ للحرف والكلمة في الماهية أو لا؟ فإن حصلت المساواة فقد عاد الكلام إلى أن الحاصل في الخيال حقائق الحروف والأصوات، وإلى أن الحاصل في الخيال عند تخيل البحر والسماء حقيقة البحر والسماء، وإن كان الحق هو الثاني ـ وهو أن الحاصل في الخيال شيء آخر مخالف للمبصرات والمسموعات ـ فحينئذٍ يعود السؤال وهو: أنا كيف نجد من أنفسنا صور هذه المرئيات، وكيف نجد من أنفسنا هذه الكلمة والعبارات وجداناً لا نشك أنها حروف متوالية على العقل وألفاظ متعاقبة عل الذهن، فهذا منتهى الكلام في كلام الفلاسفة، أما الجمهور الأعظم من أهل العلم فإنهم سلموا أن هذه الخواطر المتوالية المتعاقبة حروف وأصوات حقيقة.

-71-

واعلم أن القائلين بهذا القول قالوا: فاعل هذه الحروف والأصوات إما ذلك الإنسان أو إنسان آخر، وإما شيء آخر روحاني مباين يمكنه إلقاء هذه الحروف والأصوات إلى هذا الإنسان، سواء قيل إن ذلك المتكلم هو الجن والشياطين أو الملك، وإما أن يقال: خالق تلك الحروف والأصوات هو الله تعالى: أما القسم الأول ـ وهو أن فاعل هذه الحروف والأصوات هو ذلك الإنسان ـ فهذا قول باطل، لأن الذي يحصل باختيار الإنسان يكون قادراً على تركه، فلو كان حصول هذه الخواطر بفعل الإنسان لكان الإنسان إذا أراد دفعها أو تركها لقدر عليه، ومعلوم أنه لا يقدر على دفعها، فإنه سواء حاول فعلها أو حاول تركها فتلك الخواطر تتوارد على طبعه وتتعاقب على ذهنه بغير اختياره، وأما القسم الثاني ـ وهو أنها حصلت بفعل إنسان آخر ـ فهو ظاهر الفساد، ولما بطل هذان القسمان بقي الثالث ـ وهي أنها من فعل الجن أو الملك أو من فعل الله تعالى.

أما الذين قالوا إن الله تعالى لا يجوز أن يفعل القبائح فاللائق بمذهبهم أن يقولوا أن هذه الخواطر الخبيثة ليست من فعل الله تعالى، فبقي أنها من أحاديث الجن والشياطين، وأما الذين قالوا أنه لا يقبح من الله شيء فليس في مذهبهم مانع يمنعهم من إسناد هذه الخواطر إلى الله تعالى.

واعلم أن الثنوية يقولون: للعالم إلهان: أحدهما: خير وعسكره الملائكة، والثاني: شرير وعسكره الشياطين، وهما يتنازعان أبداً كل شيء في هذا العالم، فلكل واحد منهما تعلق به، والخواطر الداعية إلى أعمال الخير إنما حصلت من عساكر الله، والخواطر الداعية إلى أعمال الشر إنما حصلت من عساكر الشيطان، واعلم أن القول بإثبات الإلهين قول باطل فاسد، على ما ثبت فساده بالدلائل، فهذا منتهى القول في هذا الباب.

المسألة الثانية عشرة: من الناس من أثبت لهذه الشياطين قدرة على الإحياء، وعلى الإماتة وعلى خلق الأجسام، وعلى تغيير الأشخاص عن صورتها الأصلية وخلقتها الأولية، ومنهم من أنكر هذه الأحوال، وقال: إنه لا قدرة لها على شيء من هذه الأحوال.

-72-

أما أصحابنا فقد أقاموا الدلالة على أن القدرة على الإيجاد والتكوين والأحداث ليست إلا لله، فبطلت هذه المذاهب بالكلية.

وأما المعتزلة فقد سلموا أن الإنسان قادر على إيجاد بعض الحوادث، فلا جرم صاروا محتاجين إلى بيان أن هذه الشياطين لا قدرة لها على خلق الأجسام والحياة، ودليلهم أن قالوا الشيطان جسم، وكل جسم فإنه قادر بالقدرة، والقدرة لا تصلح لإيجاد الأجسام، فهذه مقدمات ثلاث: المقدمة الأولى: أن الشيطان جسم، وقد بنوا هذه المقدمة على أن ما سوى الله تعالى إما متحيز وإما حال في المتحيز، وليس لهم في إثبات هذه المقدمة شبهة فضلاً عن حجة. وأما المقدمة الثانية ـ وهي قولهم الجسم إنما يكون قادراً بالقدرة ـ فقد بنوا هذا على أن الأجسام مما تستلزم مماثلة، فلو كان شيء منها قادراً لذاته لكان الكل قادراً لذاته، وبناء هذه المقدمة على تماثل الأجسام، وأما المقدمة الثالثة ـ وهي قولهم هذه القدرة التي لنا لا تصلح لخلق الأجسام فوجب أن لا تصلح القدرة الحادثة لخلق الأجسام ـ وهذا أيضاً ضعيف، لأنه يقال لهم لم لا يجوز حصول قدرة مخالفة لهذه القدرة الحاصلة لنا وتكون تلك القدرة صالحة لخلق الأجسام فإنه لا يلزم من عدم وجود الشيء في الحال امتناع وجوده، فهذا إتمام الكلام في هذه المسألة.

هل يعلم الجن الغيب:

المسألة الثالثة عشرة: اختلفوا في أن الجن هل يعلمون الغيب؟ وقد بين الله تعالى في كتابه أنهم بقوا في قيد سليمان عليه السلام وفي حبسه بعد موته مدة وهم ما كانوا يعلمون موته، وذلك يدل على أنهم لا يعلمون الغيب، ومن الناس من يقول أنهم يعلمون الغيب، ثم اختلفوا فقال بعضهم إن فيهم من يصعد إلى السموات أو يقرب منها ويخبر ببعض الغيوب على ألسنة الملائكة، ومنهم من قال: لهم طرق أخرى في معرفة الغيوب لا يعلمها إلا الله، واعلم أن فتح الباب في أمثال هذه المباحث لا يفيد إلا الظنون والحسبانات والعالم بحقائقها هو الله تعالى.

أسباب الاستعاذة وأنواعها:

الركن الخامس من أركان مباحث الاستعاذة. المطالب التي لأجلها يستعاذ.

إعلم أنا قد بينا أن حاجات العبد غير متناهية، فلا خير من الخيرات إلا وهو محتاج إلى تحصيله، ولا شر من الشرور إلا وهو محتاج إلى دفعه وإبطاله، فقوله: (أعوذ بالله) يتناول دفع جميع الشرور الروحانية والجسمانية، وكلها أمور غير متناهية، ونحن ننبه على معاقدها فنقول: الشرور إما أن تكون من باب الاعتقادات الحاصلة في القلوب، وإما أن تكون من باب الأعمال الموجودة في الأبدن، أما القسم الأول فيدخل فيه جميع العقائد الباطلة.

-73-

واعلم أن أقسام المعلومات غير متناهية كل واحد منها يمكن أن يعتقد اعتقاداً صواباً صحيحاً ويمكن أن يعتقد اعتقاداً فاسداً خطأ، ويدخل في هذه الجملة مذاهب فرق الضلال في العالم، وهي اثنتان وسبعون فرقة من هذه الأمة، وسبعمائة وأكثر خارج عن هذه الأمة، فقوله: (أعوذ بالله) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها.

وأما ما يتعلق بالأعمال البدنية فهي على قسمين: منها ما يفيد المضار الدينية، ومنها ما يفيد المضار الدنيوية، فأما المضار الدينية فكل ما نهى الله عنه في جميع أقسام التكاليف، وضبطها كالمعتذر، وقوله: (أعوذ بالله) يتناول كلها، وأما ما يتعلق بالمضار الدنيوية فهو جميع الآلام والأسقام والحرق والغرق والفقر والزمانة والعمى، وأنواعها تقرب أن تكون غير متناهية، فقوله: (أعوذ بالله) يتناول الاستعاذة من كل واحد منها.

والحاصل أن قوله: (أعوذ بالله) يتناول ثلاثة أقسام، وكل واحد منهما يجري مجرى ما لا نهاية له أولها: الجهل؛ ولما كانت أقسام المعلومات غير متناهية كانت أنواع الجهالات غير متناهية، فالعبد يستعذ بالله منها، ويدخل في هذه الجملة مذاهب أهل الكفر، وأهل البدعة على كثرتها، وثانيها: الفسق، ولما كانت أنواع التكاليف كثيرة جداً وكتب الأحلام محتوية عليها كان قوله: (أعوذ بالله) متناولاً لكلها، وثالثها: المكروهات والآفات والمخافات، ولما كانت أقسامها وأنواعها غير متناهية كان قوله: (أعوذ بالله) متناولاً لكلها، ومن أراد أن يحيط بها فليطالع «كتب الطب» حتى يعرف في ذلك لكل واحد من الأعضاء أنواعاً من الآلام والأسقام، ويجب على العاقل أنه إذا أراد أن يقولأعوذ بالله) فإنه يستحضر في ذهنه هذه الأجناس الثلاثة وتقسيم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواعها وأنواع أنواعها، ويبالغ في ذلك التقسيم والتفصيل. ثم إذا استحضر تلك الأنواع التي لا حد لها ولا عد لها في خياله ثم عرف أن قدرة جميع الخلائق لا تفي بدفع هذه الأقسام على كثرتها فحينئذٍ يحمله طبعه وعقله على أن يلتجىء إلى القادر على دفع ما لا نهاية له من المقدورات فيقول عند ذلك: (أعوذ بالله القادر على كل المقدورات من جميع أقسام الآفات والمخافات) ولنقتصر على هذا القدر من المباحث في هذا الباب والله الهادي.

الباب الثالث

في اللطائف المستنبطة من قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

النكتة الأولى: في قوله: (أعوذ بالله) عروج من الخلق إلى الخالق، ومن الممكن إلى الواجب: وهذا هو الطريق المتعين في أول الأمر، لأن في أول الأمر لا طريق إلى معرفته إلا بأن يستدل باحتياج الخلق على وجود الحق الغني القادر، فقوله: (أعوذ) إشارة إلى الحاجة التامة، فإنه لولا الاحتياج لما كان في الاستعاذة فائدة، وقوله: (بالله) إشارة إلى الغني التام للحق، فقول العبد (أعوذ) إقرار على نفسه بالفقر والحاجة، وقوله: (بالله) إقرار بأمرين: أحدهما: بأن الحق قادر على تحصيل كل الخيرات ودفع كل الآفات، والثاني: أن غيره غير موصوف بهذه الصفة فلا دافع للحاجات إلا هو، ولا معطي للخيرات إلا هو، فعند مشاهدة هذه الحالة يفر العبد من نفسه ومن كل شيء سوى الحق فيشاهد في هذاالفرار سر قوله:

-74-

{ فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ } [الذاريات51: 50]

وهذه الحالة تحصل عند قوله: (أعوذ) ثم إذا وصل إلى غيبة الحق وصار غريقاً في نور جلال الحق شاهد قوله:

{ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُم } [الأنعام5: 91]

فعند ذلك يقول: (أعوذ بالله).


النكتة الثانية: أن قوله: (أعوذ بالله) اعتراف بعجز النفس وبقدرة الرب، وهذا يدل على أنه لا وسيلة إلى القرب من حضرة الله إلا بالعجز والانكسار، ثم من الكلمات النبوية قوله عليه الصلاة والسلام: " من عرف نفسه فقد عرف ربه " والمعنى من عرف نفسه بالضعف والقصور عرف ربه بأنه هو القادر على كل مقدور، ومن عرف نفسه بالجهل عرف ربه بالفضل والعدل، ومن عرف نفسه باختلال الحال عرف ربه بالكمال والجلال.

النكتة الثالثة: أن الإقدام على الطاعات لا يتيسر إلا بعد الفرار من الشيطان، وذلك هو الاستعاذة بالله، إلا أن هذه الاستعاذة نوع من أنواع الطاعة، فإن كان الإقدام على الطاعة يوجب تقديم الاستعاذة عليها افتقرت الاستعاذة إلى تقديم استعاذة أخرى ولزم التسلسل، وإن كان الإقدام على الطاعة لا يحوج إلى تقديم الاستعاذة عليها لم يكن في الاستعاذة فائدة فكأنه قيل له: الإقدام على الطاعة لا يتم إلا بتقديم الاستعاذة عليها، وذلك يوجب الإتيان بما لا نهاية له، وذلك ليس في وسعك، إلا أنك إذا عرفت هذه الحالة فقد شاهدت عجزك واعترفت بقصورك فأنا أعينك على الطاعة وأعلمك كيفية الخوض فيها فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

النكتة الرابعة: أن سر الاستعاذة هو الالتجاء إلى قادر يدفع الآفات عنك، ثم أن أجل الأمور التي يلقي الشيطان وسوسته فيها قراءة القرآن، لأن من قرأ القرآن ونوى به عبادة الرحمن وتفكر في وعده ووعيده وآياته وبيناته ازدادت رغبته في الطاعات ورهبته عن المحرمات؛ فلهذا السبب صارت قراءة القرآن من أعظم الطاعات، فلا جرم كان سعى الشيطان في الصد عنه أبلغ، وكان احتياج العبد إلى من يصونه عن شر الشيطان أشد، فلهذه الحكمة اختصت قراءة القرآن بالاستعاذة.

النكتة الخامسة: الشيطان عدو الإنسان كما قال تعالى:

{ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } [فاطر35: 6]

والرحمن مولى الإنسان وخالقه ومصلح مهماته ثم إن الإنسان عند شروعه في الطاعات والعبادات خاف العدو فاجتهد في أن يتحرى مرضاة مالكه ليخلصه من زحمة ذلك العدو، فلما وصل الحضرة وشاهد أنواع البهجة والكرامة نسي العدو وأقبل بالكلية على خدمة الحبيب، فالمقام الأول: هو الفرار وهو قوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) والمقام الثاني: وهو الاستقرار في حضرة الملك الجبار فهو قوله: (بسم الله الرحمن الرحيم).


-75-

النكتة السادسة: قال تعالى:

{ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ ٱلْمُطَهَّرُونَ } [الواقعة56: 79]

فالقلب لما تعلق بغير الله واللسان لما جرى بذكر غير الله حصل فيه نوع من اللوث، فلا بدّ من استعمال الطهور، فلما قال: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } حصل الطهور، فعند ذلك يستعد للصلاة الحقيقية وهي ذكر الله تعالى فقال: { بِسْمِ اللَّهِ }.


النكتبة السابعة: قال أرباب الإشارات: لك عدوان أحدهما ظاهر والآخر باطن، وأنت مأمور بمحاربتهما قال تعالى في العدو الظاهر:

{ قَـٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [التوبة9: 29]

وقال في العدو الباطن:

{ إِنَّ ٱلشَّيْطَـٰنَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } [فاطر35: 6]

فكأنه تعالى قال: إذا حاربت عدوك الظاهر كان مددك الملك، كما قال تعالى:

{ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالافٍ مّنَ ٱلْمَلَـئِكَةِ مُسَوّمِينَ } [آل عمران3: 125]

وإذا حاربت عدوك الباطن كان مددك الملك كما قال تعالى:

{ إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلِيهم سُلْطَـٰنٍ } [الحجر15: 42]

وأيضاً فمحاربة العدو الباطن أولى من محاربة العدو الظاهر؛ لأن العدو الظاهر إن وجد فرصة ففي متاع الدنيا، والعدو الباطن إن وجد فرصة ففي الدين واليقين، وأيضاً فالعدو الظاهر إن غلبنا كنا مأجورين، والعدو الباطن إن غلبنا كنا مفتونين، وأيضاً فمن قتله العدو الظاهر كان شهيداً، ومن قتله العدو الباطن كان طريداً، فكان الاحتراز عن شر العدو الباطن أولى، وذلك لا يكون إلا بأن يقول الرجل بقلبه ولسانه (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).


النكتة الثامنة: إن قلب المؤمن أشرف البقاع، فلا تجد دياراً طيبة ولا بساتين عامرة ولا رياضاً ناضرة إلا وقلب المؤمن أشرف منها، بل قلب المؤمن كالمرآة في الصفاء، بل فوق المرآة، لأن المرآة إن عرض عليها حجاب لم يرَ فيها شيء وقلب المؤمن لا يحجبه السموات السبع والكرسي والعرش كما قال تعالى:

{ إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّـٰلِحُ يَرْفَعُهُ } [فاطر35: 10]

بل القلب مع جميع هذه الحجب يطالع جلال الربوبية ويحيط علماً بالصفات الصمدية، ومما يدل على أن القلب أشرف البقاع وجوه: الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: " القبر روضة من رياض الجنة " وما ذاك إلا أنه صار مكان عبد صالح ميت، فإذا كان القلب سريراً لمعرفة الله وعرشاً لآلهيته وجب أن يكون القلب أشرف البقاع، الثاني: كأن الله تعالى يقول: يا عبدي قلبك بستاني وجنتي بستانك فلما لم تبخل علي ببستانك بل أنزلت معرفتي فيه فكيف أبخل ببستاني عليك وكيف أمنعك منه؟ الثالث: أنه تعالى حكى كيفية نزول العبد في بستان الجنة فقال:

{ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [القمر54: 55]

ولم يقل عند المليك فقط، كأنه قال: أنا في ذلك اليوم أكون مليكاً مقتدراً وعبيدي يكونون ملوكاً، إلا أنهم يكونون تحت قدرتي، إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: كأنه تعالى يقول: يا عبدي، إني جعلت جنتي لك، وأنت جعلت جنتك لي، لكنك ما أنصفتني، فهل رأيت جنتي الآن وهل دخلتها؟ فيقول العبد: لا يا رب، فيقول تعالى: وهل دخلت جنتك؟ فلا بدّ وأن يقول العبد: نعم يا رب، فيقول تعالى: إنك بعد ما دخلت جنتي، ولكن لما قرب دخولك أخرجت الشيطان من جنتي لأجل نزولك، وقلت له أخرج منها مذؤماً مدحوراً، فأخرجت عدوك قبل نزولك، وأما أنت فبعد نزولي في بستانك سبعين سنة كيف يليق بك أن لا تخرج عدوي ولا تطرده، فعند ذلك يجيب العبد ويقول: إلهي أنت قادر على إخراجه من جنتك وأما أنا فعاجز ضعيف ولا أقدر على إخراجه، فيقول الله تعالى: العاجز إذا دخل في حماية الملك القاهر صار قوياً فادخل في حمايتي حتى تقدر على إخراج العدو من جنة قلبك، فقلأعوذ بالله من الشيطان الرجيم).


-76-

فإن قيل: فإذا كان القلب بستان الله فلماذا لا يخرج الشيطان منه؟ (قلنا) قال أهل الإشارة: كأنه تعالى يقول للعبد: أنت الذي أنزلت سلطان المعرفة في حجرة قلبك، ومن أراد أن ينزل سلطاناً في حجرة نفسه وجب عليه أن يكنس تلك الحجرة وأن ينظفها، ولا يجب على السلطان تلك الأعمال، فنظف أنت حجرة قلبك من لوث الوسوسة فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

النكتة التاسعة: كأنه تعالى يقول يا عبدي، ما أنصفتني أتدري لأي شيء تكدر ما بيني وبين الشيطان؛ إنه كان يعبدني مثل عبادة الملائكة، وكان في الظاهر مقراً بإلهيتي وإنما تكدر ما بيني وبينه لأني أمرته بالسجود لأبيك آدم فامتنع، فلما تكبر نفيته عن خدمتي، وهو في الحقيقة ما عادى أباك، إنما امتنع من خدمتي، ثم إنه يعاديك منذ سبعين سنة وأنت تحبه، وهو يخالفك في كل الخيرات وأنت توافقه في كل المرادات، فأترك هذه الطريقة المذمومة وأظهر عداوته فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

النكتة العاشرة: أما إن نظرت إلى قصة أبيك فإنه أقسم بأنه له من النا صحين، ثم كان عاقبة ذلك الأمر أنه سعى في إخراجه من الجنة، وأما في حقك فإنه أقسم بأنه يضلك ويغويك فقال:

{فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُم أَجْمَعِينَ *إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ } [ص: 82، 83]

فإذا كانت هذه معاملته مع من أقسم أنه ناصحه فكيف تكون معاملته مع من أقسم أنه يضله ويغويه.


النكتة الحادية عشرة: إنما قال: (أعوذ بالله) ولم يذكر اسماً آخر، بل ذكر قوله (الله) لأن هذا الاسم أبلغ في كونه زاجراً عن المعاصي من سائر الأسماء والصفات لأن الإله هو المستحق للعبادة، ولا يكون كذلك إلا إذا كان قادراً عليماً حكيماً فقوله: (أعوذ بالله) جار مجرى أن يقول أعوذ بالقادر العليم الحكيم، وهذه الصفات هي النهاية في الزجر، وذلك لأن السارق يعلم قدرة السلطان وقد يسرق ماله، لأن السارق عالم بأن ذلك السلطان وإن كان قادراً إلا أنه غير عالم، فالقدرة وحدها غير كافية في الزجر، بل لا بدّ معها من العلم، وأيضاً فالقدرة والعلم لا يكفيان في حصول الزجر، لأن الملك إذا رأى منكراً إلا أنه لا ينهى عن المنكر لم يكن حضوره مانعاً منه، أما إذا حصلت القدرة وحصل العلم وحصلت الحكمة المانعة من القبائح فههنا يحصل الزجر الكامل؛ فإذا قال العبد (أعوذ بالله) فكأنه قال: أعوذ بالقادر العليم الحكيم الذي لا يرضى بشيء من المنكرات فلا جرم يحصل الزجر التام.

-77-

النكتة الثانية عشرة: لما قال العبد (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) دل ذلك على أنه لا يرضى بأن يجاور الشيطان، وإنما لم يرض بذلك لأن الشيطان عاصٍ، وعصيانه لا يضر هذا المسلم في الحقيقة، فإذا كان العبد لا يرضى بجوار العاصي فبأن لا يرضى بجوار عين المعصية أولى.

النكتة الثالثة عشرة: الشيطان اسم، والرجيم صفة، ثم إنه تعالى لم يقتصر على الاسم بل ذكر الصفة فكأنه تعالى يقول إن هذا الشيطان بقي في الخدمة ألوفاً من السنين فهل سمعت أنه ضرنا أو فعل ما يسوءنا؟ ثم إنا مع ذلك رجمناه حتى طردناه، وأما أنت فلو جلس هذا الشيطان معك لحظة واحدة لألقاك في النار الخالدة فكيف لا تشتغل بطرده ولعنه فقل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم).

النكتة الرابعة عشرة: لقائل أن يقول: لم لم يقل: «أعوذ بالملائكة» مع أن أدون ملك من الملائكة يكفي في دفع الشيطان؟ فما السبب في أن جعل ذكر هذا الكلب في مقابلة ذكر الله تعالى؟ وجوابه كأنه تعالى يقول: عبدي إنه يراك وأنت لا تراه، بدليل قوله تعالى:

{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } [الأعراف7: 27]

وإنما نفذ كيده فيكم لأنه يراكم وأنتم لا ترونه، فتمسكوا بمن يرى الشيطان ولا يراه الشيطان، وهو الله سبحانه وتعالى فقولوا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.


النكتة الخامسة عشرة: أدخل الألف واللام في الشيطان ليكون تعريفاً للجنس؛ لأن الشياطين كثيرة مرئية وغير مرئية، بل المرئي ربما كان أشد، حكي عن بعض المذكرين أنه قال في مجلسه: إن الرجل إذا أراد أن يتصدق فإنه يأتيه سبعون شيطاناً فيتعلقون بيديه ورجليه وقلبه ويمنعونه من الصدقة، فلما سمع بعض القوم ذلك فقال: إني أقاتل هؤلاء السبعين، وخرج من المسجد وأتى المنزل وملأ ذيله من الحنطة وأراد أن يخرج ويتصدق به فوثبت زوجته وجعلت تنازعه وتحاربه حتى أخرجت ذلك من ذيله، فرجع الرجل خائباً إلى المسجد فقال المذكر: ماذا عملت؟ فقال: هزمت السبعين فجاءت أمهم فهزمتني، وأما إن جعلنا الألف واللام للعهد فهو أيضاً جائز لأن جميع المعاصي برضى هذا الشيطان، والراضي يجري مجرى الفاعل له، وإذا استبعدت ذلك فأعرفه بالمسألة الشرعية، فإن عند أبي حنيفة قراءة الإمام قراءة للمقتدى من حيث رضي بها وسكت خلفه.

-78-

النكتة السادسة عشرة: الشيطان مأخوذ من «شطن» إذا بعد فحكم عليه بكونه بعيداً، وأما المطيع فقريب قال الله تعالى:

{ وَٱسْجُدْ وَٱقْتَرِب } [العلق96: 19]

والله قريب منك قال الله تعالى:

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ } [البقرة2: 186]

وأما الرجيم فهو المرجوم بمعنى كونه مرمياً بسهم اللعن والشقاوة وأما أنت فموصول بحبل السعادة قال الله تعالى:

{ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } [الفتح48: 26]

فدل هذا على أنه جعل الشيطان بعيداً مرجوماً، وجعلك قريباً موصولاً، ثم إنه تعالى أخبر أنه لا يجعل الشيطان الذي هو بعيد قريباً لأنه تعالى قال:

{ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } [فاطر35: 43]

فاعرف أنه لما جعلك قريباً فإنه لا يطردك ولا يبعدك عن فضله ورحمته.


النكتة السابعة عشرة: قال جعفر الصادق: إنه لا بدّ قبل القراءة من التعوذ، وأما سائر الطاعات فإنه لا يتعوذ فيها، والحكمة فيه أن العبد قد ينجس لسانه بالكذب والغيبة والنميمة فأمر الله تعالى العبد بالتعوذ ليصير لسانه طاهراً فيقرأ بلسان طاهر كلاماً أنزل من رب طيب طاهر.

النكتة الثامنة عشرة: كأنه تعالى يقول: إنه شيطان رجيم، وأنا رحمن رحيم، فابعد عن الشيطان الرجيم لتصل إلى الرحمن الرحيم.

النكتة التاسعة عشرة: الشيطان عدوك، وأنت عنه غافل غائب، قال تعالى:

{ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ } [الأعراف7: 27].


فعلى هذا لك عدو غائب ولك حبيب غالب، لقوله تعالى:

{ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ } [يوسف12: 21]

فإذا قصدك العدو الغائب فافزع إلى الحبيب الغالب، والله سبحانه وتعالى أعلم بمراده.


الباب السابع

في المسائل الملتحقة بقوله: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)

المسألة الأولى: فرق بين أن يقال: «أعوذ بالله» وبين أن يقال: (بالله أعوذ) فإن الأول لا يفيد الحصر، والثاني: يفيده، فلم ورد الأمر بالأول دون الثاني مع أنا بينا أن الثاني أكمل وأيضاً جاء قوله: «الحمد لله» وجاء قوله: «لله الحمد» وأما هنا فقد جاء «أعوذ بالله» وما جاء قوله «بالله أعوذ» فما الفرق؟.

المسألة الثانية: قوله: (أعوذ بالله) لفظه الخبر ومعناه الدعاء، والتقدير: اللهم أعذني، ألا ترى أنه قال: { وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم } كقوله: «أستغفر الله» أي اللهم أغفر لي، والدليل عليه أن قوله: { أعوذ بالله } أخبار عن فعله، وهذا القدر لا فائدة فيه إنما الفائدة في أن يعيذه الله، فما السبب في أنه قال: «أعوذ بالله» ولم يقل أعذني؟ والجواب أن بين الرب وبين العبد عهداً كما قال تعالى:

-79-

{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَـٰهَدتُّمْ } [النحل16: 91] وقال:
{ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [البقرة2: 40]


فكان العبد يقول أنا مع لؤم الإنسانية ونقص البشرية وفيت بعهد عبوديتي حيث قلت: «أعوذ بالله» فأنت مع نهاية الكرم وغاية الفضل والرحمة أولى بأن تفي بعهد الربوبية فتقول: إني أعيذك من الشيطان الرجيم.

المسألة ج: أعوذ فعل مضارع، وهو يصلح للحال والاستقبال، فهل هو حقيقة فيهما؟ والحق أنه حقيقة في الحال مجاز في الاستقبال، وإنما يختص به بحرف السين وسوف.

(د) لم وقع الاشتراك بين الحاضر والمستقبل، ولم يقع بين الحاضر والماضي؟.

(هـ) كيف المشابهة بين المضارع وبين الاسم.

(و) كيف العامل فيه، ولا شك أنه معمول فما هو.

(ز) قولهأعوذ) يدل على أن العبد مستعيذ في الحال وفي كل المستقبل، وهو الكمال، فهل يدل على أن هذه الاستعاذة باقية في الجنة.

(ح) قوله: (أعوذ) حكاية عن النفس، ولا بدّ من الأربعة المذكورة في قوله: (أتين).

أما المباحث العقلية المتعلقة بالباء في قوله أعوذ بالله فهي كثيرة (أ) الباء في قوله: «بالله» باء الإلصاق وفيه مسائل: ـ

المسألة الأولى: البصريون يسمونه باء الإلصاق، والكوفيون يسمونه باء الآلة، ويسميه قوم باء التضمين، واعلم أن حاصل الكلام أن هذه الباء متعلقة بفعل لا محالة، والفائدة فيه أنه لا يمكن إلصاق ذلك الفعل بنفسه إلا بواسطة الشيء الذي دخل عليه، هذا الباء فهو باء الإلصاق لكونه سبباً للإلصاق، وباء الآلة لكونه داخلاً على الشيء الذي هو آلة.

المسألة الثانية: اتفقوا على أنه لا بدّ فيه من إضمار فعل، فإنك إذا قلت: «بالقلم» لم يكن ذلك كلاماً مفيداً، بل لا بدّ وأن تقول: «كتبت بالقلم» وذلك يدل على أن هذا الحرف متعلق بمضمر، ونظيره قوله: «بالله لأفعلن» ومعناه أحلف بالله لأفعلن، فحذف أحلف لدلالة الكلام عليه، فكذا ههنا، ويقول الرجل لمن يستأذنه في سفره: على اسم الله أي سر على اسم الله.

المسألة الثالثة: لما ثبت أنه لا بدّ من الإضمار فنقول: الحذف في هذا المقام أفصح، والسبب فيه أنه لو وقع التصريح بذلك المضمر لاختص قوله: «أعوذ بالله» بذلك الحكم المعين أما عند الحذف فإنه يذهب الوهم كل مذهب، ويقع في الخاطر أن جميع المهمات، لا تتم إلا بواسطة الاستعاذة بالله، وإلا عند الابتداء باسم الله، ونظيره أنه قال: «الله أكبر» ولم يقل أنه أكبر من الشيء الفلاني لأجل ما ذكرناه من إفادة العموم فكذا هنا.

المسألة الرابعة: قال سيبويه لم يكن لهذه الباء عمل إلا الكسر فكسرت لهذا السبب، فإن قيل: كاف التشبيه ليس لها عمل إلا الكسر ثم إنها ليست مكسورة بل مفتوحة، قلنا: كاف التشبيه قائم مقام الاسم، وهو في العمل ضعيف، أما الحرف فلا وجود له إلا بحسب هذا الأثر، فكان فيه كلاماً قوياً.

-80-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #14  
قديم 12-31-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 81-90 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 81-90 من 259


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }



المسألة الخامسة: الباء قد تكون أصلية كقوله تعالى:

{ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مّنَ ٱلرُّسُلِ } [الأحقاف46: 9]

وقد تكون زائدة وهي على أربعة أوجه: أحدها: للإلصاق وهي كقوله: { أَعُوذُ بِٱللَّهِ } وقوله: (بسم الله) وثانيها: للتبعيض عند الشافعي رضي الله عنه، وثالثها: لتأكيد النفي كقوله تعالى:

{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ } [فصلت41: 46]

ورابعها: للتعدية كقوله تعالى:

{ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } [البقرة2: 17]

أي أذهب نورهم، وخامسها: الباء بمعنى في قال:


حل بأعدائك ما حل بي

أي: حل في أعدائك، وأما باء القسم، وهو قوله: «بالله» فهو من جنس باء الإلصاق.

المسألة السادسة: قال بعضهم: الباء في قوله:

{ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُم } [المائدة5: 6]

زائدة والتقدير: وامسحوا رؤسكم، وقال الشافعي رضي الله عنه إنها تفيد التبعيض، حجة الشافعي رضي الله عنه وجوه الأول أن هذه الباء إما أن تكون لغواً أو مفيداً، والأول باطل؛ لأن الحكم بأن كلام رب العالمين وأحكم الحاكمين لغو في غاية البعد، وذلك لأن المقصود من الكلام إظهار الفائدة فحمله على اللغو على خلاف الأصل، فثبت أنه يفيد فائدة زائدة، وكل من قال بذلك قال: إن تلك الفائدة هي التبعيض، الثاني: أن الفرق بين قوله: «مسحت بيدي المنديل» وبين قوله: «مسحت يدي بالمنديل» يكفي في صحة صدقه ما إذا مسح يده بجزء من أجزاء المنديل. الثالث: أن بعض أهل اللغة قال: الباء قد تكون للتبعيض، وأنكره بعضهم، لكن رواية الإثبات راجحة فثبت أن الباء تفيد التبعيض، ومقدار ذلك البعض غير مذكور فوجب أن تفيد أي مقدار يسمى بعضاً، فوجب الاكتفاء بمسح أقل جزء من الرأس، وهذا هو قول الشافعي، والإشكال عليه أنه تعالى قال:

{ فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُم وَأَيْدِيكُم } [النساء4: 43]

فوجب أن يكون مسح أقل جزء من أجزاء الوجه واليد كافياً في التيمم، وعند الشافعي لا بدّ فيه من الإتمام، وله أن يجيب فيقول: مقتضى هذا النص الاكتفاء في التيمم بأقل جزء من الأجزاء إلا أن عند الشافعي الزيادة على النص ليست نسخاً فأوجبنا الإتمام لسائر الدلائل، وفي مسح الرأس لم يوجد دليل يدل على وجوب الإتمام فاكتفينا بالقدر المذكور في هذا النص.


المسألة السابعة: فرع أصحاب أبي حنيفة على باء الإلصاق مسائل: إحداها: قال محمد في «الزيادات»: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق بمشيئة الله تعالى لا يقع الطلاق، وهو كقوله: أنت طالق إن شاء الله، ولو قال: لمشيئة الله يقع، لأنه أخرجه مخرج التعليل، وكذلك أنت طالق بإرادة الله لا يقع الطلاق، ولو قال لإرادة الله يقع، أما إذا قال: أنت طالق بعلم الله أو لعلم الله فإنه يقع الطلاق في الوجهين، ولا بدّ من الفرق، وثانيها: قال في كتاب الأَيمان لو قال لامرأته: إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فأنت طالق، فإنها تحتاج في كل مرة إلى إذنه، ولو قال: إن خرجت إلا أن آذن لك فأذن لها مرة كفى، ولا بدّ من الفرق، وثالثها: لو قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاً بألف، فطلقت نفسها واحدة وقعت بثلث الألف وذلك أن الباء ههنا تدل على البدلية فيوزع البدل على المبدل، فصار بإزاء من طلقة ثلث الألف، ولو قال: طلقي نفسك ثلاثاً على ألف فطلقت نفسها واحدة لم يقع شيء عند أبي حنيفة لأن لفظة «على» كلمة شرط ولم يوجد الشرط وعند صاحبيه تقع واحدة بثلث الألف.

-81-

قلت: وههنا مسائل كثيرة متعلقة بالباء.

(أ) قال أبو حنيفة: الثمن إنما يتميز عن المثمن بدخول حرف الباء عليه، فإذا قال: بعت كذا بكذا، فالذي دخل عليه الباء هو الثمن فقط، وعلى هذا الفرق بنى مسألة البيع الفاسد فإنه قال: إذا قال: بعت هذا الكرباس بمن من الخمر صح البيع وانعقد فاسداً، وإذا قال بعت هذا الخمر بهذا الكرباس لم يصح، والفرق أن في الصورة الأولى الخمر ثمن، وفي الصورة الثانية الخمر مثمن، وجعل الخمر ثمناً جائز أما جعله مثمناً فإنه لا يجوز.

(ب) قال الشافعي: إذا قال بعت منك هذا الثوب بهذا الدرهم تعين ذلك الدرهم، وعند أبي حنيفة لا يتعين.

(ج) قال الله تعالى:

{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوٰلَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلّجَنَّةَ } [التوبة9: 111]

فجعل الجنة ثمناً للنفس والمال.


ومن أصول الفقه مسائل: (أ) الباء تدل على السببية قال الله تعالى:

{ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّواْ ٱللَّهَ } [الأنفال8: 13]

ههنا الباء دلت على السببية، وقيل: إنه لا يصح لأنه لا يجوز إدخال لفظ الباء على السبب فيقال ثبت هذا الحكم بهذا السبب.


(ب) إذا قلنا الباء تفيد السببية فما الفرق بين باء السببية وبين لام السببية، لا بدّ من بيانه.

(ج) الباء في قوله: «سبحانك اللهم وبحمدك» لا بدّ من البحث عنه فإنه لا يدري أن هذه الباء بماذا تتعلق، وكذلك البحث عن قوله:

{ وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ } [البقرة2: 30]

فإنه يجب البحث عن هذه الباء.


(د) قيل: كل العلوم مندرج في الكتب الأربعة، وعلومها في القرٱن، وعلوم القرآن في الفاتحة، وعلوم الفاتحة في (بسم الله الرحمن الرحيم) وعلومها في الباء من بسم الله (قلت) لأن المقصود من كل العلوم وصول العبد إلى الرب، وهذا الباء باء الإلصاق فهو يلصق العبد بالرب، فهو كمال المقصود.

النوع الثالث من مباحث هذه الباب، مباحث حروف الجر.

فإن هذه الكلمة اشتملت على نوعين منها: أحدهما: الباء؛ وثانيهما: لفظ «من» فنقول: في لفظ «من» مباحث: ـ

(أ) أنك تقول: «أخذت المال من ابنك» فتكسر النون ثم تقول: «أخذت المال من الرجل» فتفتح النون، فههنا اختلف آخر هذه الكلمة، وإذا اختلفت الأحوال دلت على اختصاص كل حالة بهذه الحركة، فههنا اختلف آخر هذه الكلمة باختلاف العوامل، فإنه لا معنى للعامل إلا الأمر الدال على استحقاق هذه الحركات، فوجب كون هذه الكلمة معربة.

-82-

(ب) كلمة«من» وردت على وجوه أربعة: إبتداء الغاية، والتبعيض، والتبيين، والزيادة.

(ج) قال المبرد: الأصل هو ابتداء الغاية، والبواقي مفرعة عليه، وقال آخرون: الأصل هو التبعيض، والبواقي مفرعة عليه.

(د) أنكر بعضهم كونها زائدة، وأما قوله تعالى:

{ يَغْفِرْ لَكُمْ مّن ذُنُوبِكُمْ } [نوح71: 4]

فقد بينوا أنه يفيد فائدة زائدة فكأنه قال يغفر لكم بعض ذنوبكم، ومن غفر كل بعض منه فقد غفر كله.


(هـ) الفرق بين من وبين عن لا بدّ من ذكره قال الشيطان

{ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـٰنِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ } [الأعراف7: 17]

وفيه سؤالان: الأول: لم خص الأولين بلفظ من والثالث والرابع بلفظ عن. الثاني: لما ذكر الشيطان لفظ من ولفظ عن فلم جاءت الاستعاذة بلفظ من فقال: (أعوذ بالله من الشيطان) ولم يقل عن الشيطان.


النوع الرابع من مباحث هذا الباب: ـ

(أ) الشيطان مبالغة في الشيطنة، كما أن الرحمن مبالغة في الرحمة، والرجيم في حق الشيطان فعيل بمعنى مفعول، كما أن الرحيم في حق الله تعالى فعيل بمعنى فاعل، إذا عرفت هذا فهذه الكلمة تقتضي الفرار من الشيطان الرجيم إلى الرحمن الرحيم، وهذا يقتضي المساواة بينهما، وهذا ينشأ عنه قول الثنوية الذين يقولون إن الله وإبليس أخوان، إلا أن الله هو الأخ الكريم الرحيم الفاضل، وإبليس هو الأخ اللئيم الخسيس المؤذي، فالعاقل يفر من هذا الشرير إلى ذلك الخير.

(ب) الإله هل هو رحيم كريم؟ فإن كان رحيماً كريماً فلم خلق الشيطان الرجيم وسلطه على العباد، وإن لم يكن رحيماً كريماً فأي فائدة في الرجوع إليه والاستعاذة به من شر الشيطان.

(ج) الملائكة في السموات هل يقولون: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم) فإن ذكروه فإنما يستعيذون من شرور أنفسهم لا من شرور الشيطان.

(د) أهل الجنة في الجنة هل يقولون أعوذ بالله.

(هـ) الأنبياء والصديقون لم يقولون (أعوذ بالله) مع أن الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم في قوله:

{ فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ *إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ ٱلْمُخْلَصِينَ } [صۤ38: 82, 83].


(و) الشيطان أخبر أنه لا تعلق له بهم إلا في مجرد الدعوة حيث قال:

{ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى فَلاَ تَلُومُونِى وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ } [إبراهيم14: 22]


-83-

وأما الإنسان فهو الذي ألقى نفسه في البلاء فكانت استعاذة الإنسان من شر نفسه أهم وألزم من استعاذته من شر الشيطان فلم بدأ بالجانب الأضعف وترك الجانب الأهم؟.

الكتاب الثاني

في مباحث بسم اللّه الرحمن الرحيم وفيه أبواب:

الباب الأول:

في مسائل جارية مجرى، المقدمات وفيه مسائل:

متعلق باء البسملة:

المسألة الأولى: قد بينا أن الباء من (بسم الله الرحمن الرحيم) متعلقة بمضمر، فنقول: هذا المضمر يحتمل أن يكون اسماً، وأن يكون فعلاً، وعلى التقديرين فيجوز أن يكون متقدماً، وأن يكون متأخراً، فهذه أقسام أربعة، أما إذا كان متقدماً وكان فعلاً فكقولك: أبدأ باسم الله، وأما إذا كان متقدماً وكان اسماً فكقولك: ابتداء الكلام باسم الله، وأما إذا كان متأخراً وكان فعلاً فكقولك: باسم الله أبدأ، وأما إذا كان متأخراً وكان اسماً فكقولك: باسم الله ابتدائي ويجب البحث ههنا عن شيئين: الأول: أن التقديم أولى أم التأخير؟ فنقول كلاهما وارد في القرآن، أما التقديم فكقوله:

{ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرِيهَا وَمُرْسَاهَا } [هود11: 41]

وأما التأخير فكقوله:

{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } [العلق96: 1]

وأقول: التقديم عندي أولى، ويدل عليه وجوه: الأول: أنه تعالى قديم واجب الوجود لذاته، فيكون وجوده سابقاً على وجود غيره، والسابق بالذات يستحق السبق في الذِّكر، الثاني: قال تعالى:

{ هُوَ ٱلاْوَّلُ وَٱلاْخِرُ } [الحديد57: 3] وقال:
{ لِلَّهِ ٱلأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [الروم30: 4]

الثالث: أن التقديم في الذكر أدخل في التعظيم، الرابع: أنه قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } فههنا الفعل متأخر عن الاسم، فوجب أن يكون في قولهبسم الله) كذلك، فيكون التقدير باسم الله ابتدىء، الخامس: سمعت الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رضي الله عنه يقول: سمعت الشيخ أبا القاسم الأنصاري يقول: حضر الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير الميهني مع الأستاذ أبي القاسم القشيري فقال الأستاذ القشيري: المحققون قالوا ما رأينا شيئاً إلا ورأينا الله بعده، فقال الشيخ أبو سعيد بن أبي الخير: ذاك مقام المريدين أما المحققون فإنهم ما رأوا شيئًا إلا وكانوا قد رأوا الله قبله، قلت: وتحقيق الكلام أن الانتقال من المخلوق إلى الخالق إشارة إلى برهان الإنّ، والنزول من الخالق إلى المخلوق برهان اللم، ومعلوم أن برهان اللم أشرف، وإذا ثبت هذا فمن أضمر الفعل أولاً فكأنه انتقل من رؤية فعله إلى رؤية وجوب الاستعانة باسم الله ومن قال: (باسم الله) ثم أضمر الفعل ثانياً فكأنه رأى وجوب الاستعانة بالله ثم نزل منه إلى أحوال نفسه.


المسألة الثانية: إضمار الفعل أولى أم إضمار الاسم، قال الشيخ أبو بكر الرازي: نسق تلاوة القرآن يدل على أن المضمر هو الفعل، وهو الأمر، لأنه تعالى قال:

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة1: 5]

والتقدير قولوا إياك نعبد وإياك نستعين، فكذلك قوله: { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } التقدير قولوا بسم الله، وأقول: لقائل أن يقول: بل إضمار الاسم أولى، لأنا إذا قلنا تقدير الكلام بسم الله ابتداء كل شيء كان هذا إخباراً عن كونه مبدأ في ذاته لجميع الحوادث وخالقاً لجميع الكائنات، سواء قاله قائل أو لم يقله، وسواء ذكره ذاكر أو لم يذكره، ولا شك أن هذا الاحتمال أولى، وتمام الكلام فيه يجيء في بيان أن الأولى أن يقال قولوا الحمد لله أو الأولى أن يقال الحمد لله؛ لأنه إخبار عن كونه في نفسه مستحقاً للحمد سواء قاله قائل أو لم يقله.


-84-

المسألة الثالثة: الجر يحصل بشيئين: أحدهما: بالحرف كما في قوله: «باسم» والثاني: بالإضافة كما في «الله» من قوله: «باسم الله» وأما الجر الحاصل في لفظ «الرحمن الرحيم» فإنما حصل لكون الوصف تابعاً للموصوف في الإعراب، فههنا أبحاث: أحدها: أن حروف الجر لم اقتضت الجر؟ وثانيها: أن الإضافة لم اقتضت الجر؟ وثالثها: أن اقتضاء الحرف أقوى أو اقتضاء الإضافة، ورابعها: أن الإضافة على كم قسم تقع، قالوا إضافة الشيء إلى نفسه محال، فبقي أن تقع الإضافة بين الجزء والكل، أو بين الشيء والخارج عن ذات الشيء المنفصل عنه، أما القسم الأول فنحو «باب حديد، وخاتم ذهب» لأن ذلك الباب بعض الحديد وذلك الخاتم بعض الذهب، وأما القسم الثاني فكقولك: «غلام زيد» فإن المضاف إليه مغاير للمضاف بالكلية، وأما أقسام النسب والإضافات فكأنها خارجة عن الضبط والتعديد؛ فإن أنواع النسب غير متناهية.

المسألة الرابعة: كون الاسم اسماً للشيء نسبة بين اللفظة المخصوصة التي هي الاسم وبين الذات المخصوصة التي هي المسمى، وتلك النسبة معناها أن الناس اصطلحوا على جعل تلك اللفظة المخصوصة معرفة لذلك الشيء المخصوص، فكأنهم قالوا متى سمعتم هذه اللفظة منا فافهموا أنا أردنا بها ذلك المعنى الفلاني، فلما حصلت هذه النسبة بين الاسم وبين المسمى لا جرم صحت إضافة الاسم إلى المسمى، فهذا هو المراد من إضافة الاسم إلى الله تعالى.

المسألة الخامسة: قال أبو عبيد: ذكر الاسم في قوله: «بسم الله» صلة زائدة، والتقدير بالله قال، وإنما ذكر لفظة الاسم: إما للتبرك، وإما ليكون فرقاً بينه وبين القسم، وأقول والمراد من قوله: «بسم الله» قوله: ابدؤا بسم الله، وكلام أبي عبيد ضعيف؛ لأنا لما أمرنا بالابتداء فهذا الأمر إنما يتناول فعلاً من أفعالنا، وذلك الفعل هو لفظنا وقولنا، فوجب أن يكون المراد أبدأ بذكر الله، والمراد أبدأ ببسم الله، وأيضاً فالفائدة فيه أنه كما أن ذات الله تعالى أشرف الذوات فكذلك ذكره أشرف الأذكار، واسمه أشرف الأسماء، فكما أنه في الوجود سابق على كل ما سواه وجب أن يكون ذكره سابقاً على كل الأذكار، وأن يكون اسمه سابقاً على كل الأسماء، وعلى هذا التقدير فقد حصل في لفظ الاسم هذه الفوائد الجليلة.

-85-

الباب الثاني

فيما يتعلق بهذه الكلمة من القراءة والكتابة

أما المباحث المتعلقة بالقراءة فكثيرة: ـ

الوقف على كلمات البسملة:

المسألة الأولى: أجمعوا على أن الوقف على قوله: «بسم» ناقص قبيح، وعلى قوله: «بسم الله» أو على قوله: «بسم الله الرحمن» كاف صحيح، وعلى قوله: «بسم الله الرحمن الرحيم» تام واعلم أن الوقف لا بدّ وأن يقع على أحد هذه الأوجه الثلاثة، وهو أن يكون ناقصاً، أو كافياً أو كاملاً، فالوقف على كل كلام لا يفهم بنفسه ناقص، والوقف على كل كلام مفهوم المعاني إلا أن ما بعده يكون متعلقاً بما قبله يكون كافياً، والوقف على كل كلام تام ويكون ما بعده منقطعًا عنه يكون وقفاً تاماً.

ثم لقائل أن يقول: قوله: «الحمد لله رب العالمين» كلام تام، إلا أن قوله: «الرحمن الرحيم ملك» متعلق بما قبله، لأنها صفات، والصفات تابعة للموصوفات، فإن جاز قطع الصفة عن الموصوف وجعلها وحدها آية فلم لم يقولوا بسم الله الرحمن آية؟ ثم يقولوا الرحيم آية ثانية، وإن لم يجز ذلك فكيف جعلوا الرحمن الرحيم آية مستقلة، فهذا الإشكال لا بدّ من جوابه.

حكم لام الجلالة:

المسألة الثانية: أطبق القراء على ترك تغليظ اللام في قوله: «بسم الله» وفي قوله: «الحمد لله» والسبب فيه أن الانتقال من الكسرة إلى اللام المفخمة ثقيل؛ لأن الكسرة توجب التسفل، واللام المفخمة حرف مستعل، والانتقال من التسفل إلى التصعد ثقيل، وإنما استحسنوا تفخيم اللام وتغليظها من هذه الكلمة في حال كونها مرفوعة أو منصوبة كقوله:

{ ٱللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ } [الشورى42: 19]
{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص112: 1] وقوله:
{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ } [التوبة9: 111].


المسألة الثالثة: قالوا المقصود من هذا التفخيم أمران: الأول: الفرق بينه وبين لفظ اللام في الذكر، الثاني: أن التفخيم مشعر بالتعظيم، وهذا اللفظ يستحق المبالغة في التعظيم، الثالث: أن اللام الرقيقة إنما تذكر بطرف اللسان، وأما هذه اللام المغلظة فإنما تذكر بكل اللسان فكان العمل فيه أكثر فوجب أن يكون أدخل في الثواب؛ وأيضاً جاء في التوراة يا موسى أجب ربك بكل قلبك، فههنا كان الإنسان يذكر ربه بكل لسانه، وهو بدل على أنه يذكره بكل قلبه، فلا جرم كان هذا أدخل في التعظيم.

المسألة الرابعة: لقائل أن يقول: نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء، وكنسبة السين إلى الصاد، فإن الدال تذكر بطرف اللسان والطاء تذكر بكل اللسان وكذلك السين تذكر بطرف اللسان والصاد تذكر بكل اللسان، فثبت أن نسبة اللام الرقيقة إلى اللام الغليظة كنسبة الدال إلى الطاء وكنسبة السين إلى الصاد، ثم إنا رأينا أن القوم قالوا الدال حرف والطاء حرف آخر، وكذلك السين حرف والصاد حرف آخر فكان الواجب أيضاً أن يقولوا: اللام الرقيقة حرف واللام الغليظة حرف آخر، وأنهم ما فعلوا ذلك ولا بدّ من الفرق.

-86-

حكم الإدغام:

المسألة الخامسة: تشديد اللام من قولك: «الله» للإدغام فإنه حصل هناك لامان الأولى: لام التعريف وهي ساكنة والثانية: لام الأصل وهي متحركة، وإذا التقى حرفان مثلان من الحروف كلها وكان أول الحرفين ساكناً والثاني متحركاً أدغم الساكن في المتحرك ضرورة سواء كانا في كلمتين أو كلمة واحدة، أما في الكلمتين فكما في قوله:

{ فَمَا رَبِحَت تِّجَـٰرَتُهُمْ } [البقرة2: 16]
{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ } [النحل16: 53]
{ مَّا لَهُمْ مّنَ ٱللَّهِ } [الرعد13: 34]

وأما في الكلمة الواحدة فكما في هذه الكلمة.


واعلم أن الألف واللام والواو والياء إن كانت ساكنة امتنع اجتماع مثلين، فامتنع الإدغام لهذا السبب، وإن كانت متحركة واجتمع فيها مثلان كان الإدغام جائزاً.

المسألة السادسة: لأَرباب الإشارات والمجاهدات ههنا دقيقة، وهي أن لام التعريف ولام الأصل من لفظة «الله» اجتمعا فأدغم أحدهما في الثاني، فسقط لام المعرفة وبقي لام لفظة الله، وهذا كالتنبيه على أن المعرفة إذا حصلت إلى حضرة المعروفة سقطت المعرفة وفنيت وبطلت، وبقي المعروف الأزلي كما كان من غير زيادة ولا نقصان.

مد لام الجلالة:

المسألة السابعة: لا يجوز حذف الألف من قولنا: الله في اللفظ، وجاز ذلك في ضرورة الشعر عند الوقف عليه، قال بعضهم: ـ

أقبل سيل جاء من عند اللهيجود جود الجنة المغله


انتهى، ويتفرع على هذا البحث مسائل في الشريعة: إحداها: أنه عند الحلف لو قال بله فهل ينعقد يمينه أم لا قال بعضهم: لا؛ لأن قوله بله اسم للرطوبة فلا ينعقد اليمين، وقال آخرون ينعقد اليمين به لأنه بحسب أصل اللغة جائز، وقد نوى به الحلف فوجب أن تنعقد وثانيها: لو ذكره على هذه الصفة عند الذبيحة هل يصح ذلك أم لا، وثالثها: لو ذكر قوله: «الله» في قوله: «الله أكبر» هل تنعقد الصلاة به أم لا؟.

المسألة الثامنة: لم يقرأ أحد الله بالإمالة إلا قتيبة في بعض الروايات انتهى.

حكم لام أل:

المسألة التاسعة: تشديد الراء من قوله: «الرحمن الرحيم» لأجل إدغام لام التعريف في الراء، ولا خلاف بين القراء في لزوم إدغام لام التعريف في اللام، وفي ثلاثة عشر حرفاً سواه وهي: الصاد، والضاد، والسين، والشين، والدال، والذال، والراء، والزاي، والطاء، والظاء، والتاء، والثاء، والنون، انتهى. كقوله تعالى: { ٱلتَّـٰئِبُونَ ٱلْعَـٰبِدُونَ ٱلْحَـٰمِدُونَ ٱلسَّـٰئِحُونَ ٱلراكِعُونَ ٱلسَّـٰجِدونَ ٱلآمِرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱلنَّاهُونَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ } والعلة الموجبة لجواز هذا الإدغام قرب المخرج، فإن اللام وكل هذه الحروف المذكورة مخرجها من طرف اللسان وما يقرب منه، فحسن الإدغام، ولا خلاف بين القراء في امتناع إدغام لام التعريف فيما عدا هذه الثلاثة عشر كقوله:

-87-

{ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ } [التوبة9: 112]

كلها بالإظهار، وإنما لم يجز الإدغام فيها لبعد المخرج، فإنه إذا بعد مخرج الحرف الأول عن مخرج الحرف الثاني ثقل النطق بهما دفعة فوجب تمييز كل واحد منهما عن الآخر، بخلاف الحرفين اللذين يقرب مخرجاهما، لأن التمييز بينهما مشكل صعب.

المسألة العاشرة: أجمعوا على أنه لا يمال لفظ «الرحمن» وفي جواز إمالته قولان للنحويين: أحدهما: أنه يجوز، ولعله قول سيبويه، وعلة جوازه انكسار النون بعد الألف، والقول الثاني: وهو الأظهر عند النحويين، أنه لا يجوز.

المسألة الحادية عشرة: أجمعوا على أن إعراب «الرحمن الرحيم» هو الجر لكونهما صفتين للمجرور الأول إلا أن الرفع والنصب جائزان فيهما بحسب النحو، أما الرفع فعلى تقدير بسم الله هو الرحمن الرحيم، وأما النصب فعلى تقدير بسم الله أعين الرحمن الرحيم.

النوع الثاني من مباحث هذا الباب ما يتعلق بالخط، وفيه مسائل: ـ

ما يتعلق بالبسملة قراءة وكتابة:

المسألة الأولى: طولوا الباء من «بسم الله» وما طولوها في سائر المواضع، وذكروا في الفرق وجهين: الأول: أنه لما حذفت ألف الوصل بعد الباء طولوا هذه الباء ليدل طولها على الألف المحذوفة التي بعدها، ألا ترى أنهم لما كتبوا


{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } [العلق96: 1]

بالألف ردوا الباء إلى صفتها الأصلية، الثاني: قال القتيبي، إنما طولوا الباء لأنهم أرادوا أن لا يستفتحوا كتاب الله إلا بحرف معظم، وكان عمر بن عبد العزيز يقول لكتابه طولوا الباء، وأظهروا السين. ودوروا الميم تعظيماً لكتاب الله.

المسألة الثانية: قال أهل الإشارة والباء حرف منخفض في الصورة فلما اتصال بكتبة لفظ الله ارتفعت واستعلت، فنرجو أن القلب لما اتصل بخدمة الله عزّ وجلّ أن يرتفع حاله ويعلو شأنه.

المسألة الثالثة: حذفوا ألف «اسم» من قوله: «بسم الله» وأثبتوه في قوله: (إقرأ باسم ربك) والفرق من وجهين: الأول: أن كلمة «باسم الله» مذكورة في أكثر الأوقات عند أكثر الأفعال، فلأجل التخفيف حذفوا الألف، بخلاف سائر المواضع فإن ذكرها قليل. الثاني: قال الخليل: إنما حذفت الألف في قوله: «بسم الله» لأنها إنما دخلت بسبب أن الابتداء بالسين الساكنة غير ممكن، فلما دخلت الباء على الاسم نابت عن الألف فسقطت في الخط، وإنما لم تسقط في قوله: { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } لأن الباء لا تنوب عن الألف في هذا الموضع كما في (بسم الله) لأنه يمكن حذف الباء من { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبّكَ } مع بقاء المعنى صحيحاً، فإنك لو قلت إقرأ اسم ربك صح المعنى، أما لو حذفت الباء من «بسم الله» لم يصح المعنى فظهر الفرق.


-88-

المسألة الرابعة: كتبوا لفظة الله بلامين، وكتبوا لفظة الذي بلام واحدة، مع استوائهما في اللفظ وفي كثرة الدوران على الألسنة، وفي لزوم التعريف، والفرق من وجوه: الأول: أن قولنا:«الله» اسم معرب متصرف تصرف الأسماء، فأبقوا كتابته على الأصل، أما قولنا «الذي» فهو مبني لأجل أنه ناقص؛ لأنه لا يفيد إلا مع صلته فهو كبعض الكلمة، ومعلوم أن بعض الكلمة يكون مبنياً، فأدخلوا فيه النقصان لهذا السبب، ألا ترى أنهم كتبوا قولهم: «اللذان» بلامين، لأن التثنية أخرجته عن مشابهة الحروف، فإن الحرف لا يثنى.

الثاني: أن قولنا:«الله» لو كتب بلام واحدة لالتبس بقوله إله، وهذا الالتباس غير حاصل في قولنا الذي.

الثالث: أن تفخيم ذكر الله في اللفظ واجب، فكذا في الخط، والحذف ينافي التفخيم وأما قولنا: «الذي» فلا تفخيم له في المعنى فتركوا أيضاً تفخيمه في الخط.

المسألة الخامسة: إنما حذفوا الألف قبل الهاء من قولنا: «الله» في الخط لكراهتهم اجتماع الحروف المتشابهة بالصورة عند الكتابة، وهو مثل كراهتهم اجتماع الحروف المتماثلة في اللفظ عند القراءة.

المسألة السادسة: قالوا: الأصل في قولنا: «الله» الإله، وهي ستة حروف، فلما أبدلوه بقولهم: «الله» بقيت أربعة أحرف في الخط: همزة، ولامان، وهاء؛ فالهمزة من أقصى الحلق واللام من طرف اللسان، والهاء من أقصى الحلق، وهو إشارة إلى حالة عجيبة، فإن أقصى الحلق مبدأ التلفظ بالحروف، ثم لا يزال يترقى قليلاً قليلاً إلى أن يصل إلى طرف اللسان ثم يعود إلى الهاء الذي هو في داخل الحلق، ومحل الروح، فكذلك العبد يبتدىء من أول حالته التي هي حالة النكرة والجهالة، ويترقى قليلاً قليلاً في مقامات العبودية، حتى إذا وصل إلى آخر مراتب الوسع والطاقة ودخل في عالم المكاشفات والأنوار أخذ يرجع قليلاً قليلاً حتى ينتهي إلى الفناء في بحر التوحيد، فهو إشارة إلى ما قيل: النهاية رجوع إلى البداية.

المسألة السابعة: إنما جاز حذف الألف قبل النون من «الرحمن» في الخط على سبيل التخفيف، ولو كتب بالألف حسن، ولا يجوز حذف الياء من الرحيم، لأن حذف الألف من الرحمن لا يخل بالكلمة ولا يحصل فيها التباس، بخلاف حذف الياء من الرحيم.

الباب الثالث

من هذا الكتاب في مباحث الاسم، وهي نوعان:

أحدهما: ما يتعلق من المباحث النقلية بالاسم، والثاني: ما يتعلق من المباحث العقلية بالاسم.

النوع الأول: وفيه مسائل: ـ

لغات الاسم:

المسألة الأولى: في هذا اللفظ لغتان مشهورتان، تقول العرب: هذا اسمه وسمه، قال: باسم الذي في كل سورة سمه.

وقيل: فيه لغتان غيرهما سم وسم، قال الكسائي: إن العرب تقول تارة اسم بكسر الألف وأخرى بضمه، فإذا طرحوا الألف قال الذين لغتهم كسر الألف سم، وقال الذين لغتهم ضم الألف سم، وقال ثعلب: من جعل أصله من سما يسمى قال اسم وسم، ومن جعل أصله من سما يسمو قال اسم وسم، وقال المبرد: سمعت العرب تقول اسمه واسمه وسمه وسمه وسماه.

-89-

المسألة الثانية: أجمعوا على أن تصغير الاسم سمي وجمعه أسماء وأسامي.

اشتقاق الاسم:

المسألة الثالثة: في اشتقاقه قولان: قال البصريون: هو مشتق من سما يسمو إذا علا وظهر، فاسم الشيء ما علاه حتى ظهر ذلك الشيء به، وأقول: اللفظ معرف للمعنى، ومعرف الشيء متقدم في المعلومية على المعرف، فلا جرم كان الاسم عالياً على المعنى ومتقدماً عليه، وقال الكوفيون: هو مشتق من وسم يسم سمة، والسمة العلامة، فالاسم كالعلامة المعرفة للمسمى، حجة البصريين لو كان اشتقاق الاسم من السمة لكان تصغيره وسيماً وجمعه أوساماً.

المسألة الرابعة: الذين قالوا اشتقاقه من السمة قالوا أصله من وسم يسم، ثم حذف منه الواو، ثم زيد فيه ألف الوصل عوضاً عن المحذوف كالعدة والصفة والزنة، أصله الوعد والوصف والوزن، أسقط منها الواو، وزيد فيها الهاء، وأما الذين قالوا اشتقاقه من السمو وهو العلو، فلهم قولان: الأول: أن أصل الاسم من سما يسمو وسما يسمي، والأمر فيه اسم: كقولنا ادع من دعوت، أو اسم مثل ارم من رميت، ثم إنهم جعلوا هذه الصيغة اسماً وأدخلوا عليها وجوه الإعراب، وأخرجوها عن حد الأفعال، قالوا: وهذا كما سموا البعير يعملا، وقال الأخفش: هذا مثل الآن فإن أصله آن يئين إذا حضر، ثم أدخلوا الألف واللام على الماضي من فعله، وتركوه مفتوحاً، والقول الثاني: أصله سمو مثل حمو، وإنما حذفت الواو من آخره استثقالاً لتعاقب الحركات عليها مع كثرة الدوران، وإنما أعربوا الميم لأنها صارت بسبب حذف الواو آخر الكلمة فنقل حركة الواو إليها، وإنما سكنوا السين لأنه لما حذفت الواو بقي حرفان أحدهما ساكن والآخر متحرك، فلما حرك الساكن وجب تسكين المتحرك ليحصل الاعتدال، وإنما أدخلت الهمزة في أوله لأن الابتداء بالساكن محال، فاحتاجوا إلى ذكر ما يبتدأ به، وإنما خصت الهمزة بذلك لأنها من حروف الزيادة.

مسائل الاسم العقلية:

النوع الثاني: من مباحث هذه الباب، المسائل العقلية: ـ

فنقول: أما حد الاسم وذكر أقسامه وأنواعه، فقد تقدم ذكره في أول هذا الكتاب وبقي ههنا مسائل: ـ

المسألة الأولى: قالت الحشوية والكرامية والأشعرية: الاسم نفس المسمى وغير التسمية وقالت المعتزلة: الاسم غير المسمى ونفس التسمية، والمختار عندنا أن الاسم غير المسمى وغير التسمية.

وقبل الخوض في ذكر الدلائل لا بدّ من التنبيه على مقدمة؛ وهي أن قول القائل: «الاسم هل هو نفس المسمى أم لا» يجب أن يكون مسبوقاً ببيان أن الاسم ما هو، وأن المسمى ما هو، حتى ينظر بعد ذلك في أن الاسم هل هو نفس المسمى أم لا، فنقول: إن كان المراد بالاسم هذا اللفظ الذي هو أصوات مقطعة وحروف مؤلفة، وبالمسمى تلك الذوات في أنفسها، وتلك الحقائق بأعيانها، فالعلم الضروري حاصل بأن الاسم غير المسمى، والخوض في هذه المسألة على هذا التقدير يكون عبثاً، وإن كان المراد بالاسم ذات المسمى، وبالمسمى أيضاً تلك الذات كان قولنا الاسم هو المسمى معناه أن ذات الشيء عين الشيء، وهذا وإن كان حقاً إلا أنه من باب إيضاح الواضحات وهو عبث، فثبت أن الخوض في هذا البحث على جميع التقديرات يجري مجرى العبث.

-90-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #15  
قديم 12-31-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 91-100 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 91-100 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


المسألة الثانية: اعلم أنا استخرجنا لقول من يقول الاسم نفس المسمى تأويلاً لطيفاً دقيقاً، وبيانه أن الاسم اسم لكل لفظ دل على معنى من غير أن يدل على زمان معين، ولفظ الاسم كذلك، فوجب أن يكون لفظ الاسم إسماً لنفسه، فيكون لفظ الاسم مسمى بلفظ الاسم، ففي هذه الصورة الاسم نفس المسمى، إلا أن فيه إشكالاً، وهو أن كون الاسم إسماً للمسمى من باب الاسم المضاف، وأحد المضافين لا بدّ وأن يكون مغايراً للآخر.

المسألة الثالثة: في ذكر الدلائل الدالة على أن الاسم لا يجوز أن يكون هو المسمى، وفيه وجوه: ـ

الأول: أن الاسم قد يكون موجوداً مع كون المسمى معدوماً، فإن قولنا: «المعدوم منفي» معناه سلب لا ثبوت له، والألفاظ موجودة مع أن المسمى بها عدم محض ونفي صرف، وأيضاً قد يكون المسمى موجوداً والاسم معدوماً مثل الحقائق التي ما وضعوا لها أسماء معينة، وبالجملة فثبوت كل واحد منهما حال عدم الآخر معلوم مقرر وذلك يوجب المغايرة.

الثاني: أن الأسماء تكون كثيرة مع كون المسمى واحد كالأسماء المترادفة، وقد يكون الاسم واحداً والمسميات كثيرة كالأسماء المشتركة، وذلك أيضاً يوجب المغايرة.

الثالث: أن كون الاسم إسماً للمسمى وكون المسمى مسمى بالاسم من باب الإضافة كالمالكية والمملوكية، وأحد المضافين مغاير للآخر ولقائل أن يقول: يشكل هذا بكون الشيء عالماً بنفسه.

الرابع: الاسم أصوات مقطعة وضعت لتعريف المسميات، وتلك الأصوات أعراض غير باقية، والمسمى قد يكون باقياً، بل يكون واجب الوجود لذاته.

الخامس: أنا إذا تلفظنا بالنار والثلج فهذان اللفظان موجودان في ألسنتنا، فلو كان الاسم نفس المسمى لزم أن يحصل في ألسنتنا النار والثلج، وذلك لا يقوله عاقل.

السادس: قوله تعالى: { وَللَّهِ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تعالى تسعة وتسعين إسماً " فههنا الأسماء كثيرة والمسمى واحد، وهو الله عزّ وجلّ.

السابع: أن قوله تعالى: { بِسْمِ اللَّهِ } وقوله:

{ تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ } [الرحمن55: 78]

-91-

ففي هذه الآيات يقتضي إضافة الاسم إلى الله تعالى وإضافة الشيء إلى نفسه محال.

الثامن: أنا ندرك تفرقة ضرورية بين قولنا إسم الله، وبين قولنا اسم الاسم، وبين قولنا الله الله، وهذا يدل على أن الاسم غير المسمى.

التاسع: أنا نصف الأسماء بكونها عربية وفارسية فنقول: الله اسم عربي، وخداي اسم فارسي، وأما ذات الله تعالى فمنزه عن كونه كذلك.

العاشر: قال الله تعالى:

{ وَللَّهِ ٱلاسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } [الأعراف7: 180]

أمرنا بأن ندعو الله بأسمائه فالاسم آلة الدعاء، والمدعو هو الله تعالى، والمغايرة بين ذات المدعو وبين اللفظ الذي يحصل به الدعاء معلوم بالضرورة.


واحتج من قال الاسم هو المسمى بالنص، والحكم، أما النص فقوله تعالىٰ:

{ تَبَـٰرَكَ ٱسْمُ رَبّكَ } [الرحمن55: 78]

والمتبارك المتعالي هو الله تعالى لا الصوت ولا الحرف، وأما الحكم فهو أن الرجل إذا قال: زينب طالق، وكان زينب إسماً لامرأته وقع عليها الطلاق، ولو كان الاسم غير المسمى لكان قد أوقع الطلاق على غير تلك المرأة، فكان يجب أن لا يقع الطلاق عليها.


والجواب عن الأول أن يقال: لم لا يجوز أن يقال: كما أنه يجب علينا أن نعتقد كونه تعالى منزهاً عن النقائص والآفات، فكذلك يجب علينا تنزيه الألفاظ الموضوعة لتعريف ذات الله تعالى وصفاته عن العبث والرفث وسوء الأدب.

وعن الثاني أن قولنا زينب طالق معناه أن الذات التي يعبر عنها بهذا اللفظ طالق، فلهذا السبب وقع الطلاق عليها.

المسألة الرابعة: التسمية عندنا غير الاسم، والدليل عليه أن التسمية عبارة عن تعيين اللفظ المعين لتعريف الذات المعينة، وذلك التعيين معناه قصد الواضع وإرادته، وأما الاسم فهو عبارة عن تلك اللفظة المعينة. والفرق بينهما معلوم بالضرورة.

الاسم أسبق من الفعل وضعا:

المسألة الخامسة: قد عرفت أن الألفاظ الدالة على تلك المعاني تستتبع ذكر الألفاظ الدالة على ارتباط بعضها بالبعض، فلهذا السبب الظاهر وضع الأسماء والأفعال سابق على وضع الحروف، فأما الأفعال والأسماء فأيهما أسبق؟ الأظهر أن وضع الأسماء سابق على وضع الأفعال، ويدل عليه وجوه: ـ

الأول: أن الاسم لفظ دال على الماهية، والفعل لفظ دال على حصول الماهية بشيء من الأشياء في زمان معين، فكان الاسم مفرداً والفعل مركباً، والمفرد سابق على المركب بالذات والرتبة، فوجب أن يكون سابقاً عليه في الذكر واللفظ.

الثاني: أن الفعل يمتنع التلفظ به إلا عند الإسناد إلى الفاعل، أما اللفظ الدال على ذلك الفاعل فقد يجوز التلفظ به من غير أن يسند إليه الفعل، فعلى هذا الفاعل غنيّ عن الفعل، والفعل محتاج إلى الفاعل، والغنيّ سابق بالرتبة على المحتاج، فوجب أن يكون سابقاً عليه في الذكر.

الثالث: أن تركيب الاسم مع الاسم مفيد، وهو الجملة المركبة من المبتدأ والخير، أما تركيب الفعل مع الفعل فلا يفيد ألبتة، بل ما لم يحصل في الجملة الاسم لم يفد ألبتة، فعلمنا أن الاسم متقدم بالرتبة، على الفعل، فكان الأظهر تقدمه عليه بحسب الوضع.

-92-

تقدم اسم الجنس على المشتق وضعا:

المسألة السادسة: قد علمت أن الاسم قد يكون اسماً للماهية من حيث هي هي، وقد يكون إسماً مشتقاً وهو الاسم الدال على كون الشيء موصوفاً بالصفة الفلانية كالعالم والقادر، والأظهر أن أسماء الماهيات سابقة بالرتبة على المشتقات، لأن الماهيات مفردات والمشتقات مركبات والمفرد قبل المركب.

المسألة السابعة: يشبه أن تكون أسماء الصفات سابقة بالرتبة على أسماء الذوات القائمة بأنفسها؛ لأنا لا نعرف الذوات إلا بواسطة الصفات القائمة بها، والمعرف معلوم قبل المعرف والسبق في المعرفة يناسب السبق في الذكر.

أقسام أسماء المسميات:

المسألة الثامنة: في أقسام الأسماء الواقعة على المسميات: اعلم أنها تسعة، فأولها: الاسم الواقع على الذات، وثانيها: الاسم الواقع على الشيء بحسب جزء من أجزاء ذاته كما إذا قلنا للجدار أنه جسم وجوهر، وثالثها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته كقولنا للشيء إنه أسود وأبيض وحار وبارد فإن السواد والبياض والحرارة والبرودة صفات حقيقية قائمة بالذات لا تعلق لها بالأشياء الخارجية، ورابعها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية فقط كقولنا للشيء إنه معلوم ومفهوم ومذكور ومالك ومملوك، وخامسها: الاسم الواقع على الشيء بحسب حالة سلبية كقولنا إنه أعمى وفقير وقولنا إنه سليم عن الآفات خالٍ عن المخافات، وسادسها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة إضافية كقولنا للشيء إنه عالم وقادر فإن العلم عند الجمهور صفة حقيقية ولها إضافة إلى المعلومات والقدرة صفة حقيقية ولها إضافة إلى المقدورات، وسابعها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة حقيقية مع صفة سلبية كالمفهوم من مجموع قولنا قادر لا يعجز عن شيء وعالم لا يجهل شيئاً. وثامنها: الاسم الواقع على الشيء بحسب صفة إضافية مع صفة سلبية مثل لفظ الأول فإنه عبارة عن مجموع أمرين: أحدهما: أن يكون سابقاً على غيره وهو صفة إضافية. والثاني: أن لا يسبقه غيره وهو صفة سلبية، ومثل القيوم فإن معناه كونه قائماً بنفسه مقوماً لغيره فقيامه بنفسه أنه لا يحتاج إلى غيره وتقويمه لغيره احتياج غيره إليه، والأول: سلب، والثاني: إضافة، وتاسعها: الاسم الواقع على الشيء بحسب مجموع صفة حقيقية وإضافية وسلبية، فهذا هو القول في تقسيم الأسماء، وسواء كان الاسم إسماً لله سبحانه وتعالى أو لغيره من أقسام المحادثات فإنه لا يوجد قسم آخر من أقسام الأسماء غير ما ذكرناه.

المسألة التاسعة: في بيان أنه هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ اعلم أن الخوض في هذه المسألة مسبوق بمقدمات عالية من المباحث الآلهية:

المقدمة الأولى: أنه تعالى مخالف لخلقه، لذاته المخصوصة لا لصفة، والدليل عليه أن ذاته من حيث هي هي مع قطع النظر عن سائر الصفات إن كانت مخالفة لخلقه فهو المطلوب، وإن كانت مساوية لسائر الذوات فحينئذٍ تكون مخالفة ذاته لسائر الذوات لا بدّ وأن يكون لصفة زائدة، فاختصاص ذاته بتلك الصفة التي لأجلها وقعت المخالفة إن لم يكن لأمر ألبتة فحينئذٍ لزم رجحان الجائز لا لمرجح، وإن كان لأمر آخر لزم إما التسلسل وإما الدور وهما محالان، فإن قيل؛ هي قولنا فهذا يقتضي أن تكون خصوصية تلك الصفة لصفة أخرى ويلزم منه التسلسل،وهو محال.

-93-

المقدمة الثانية: أنا نقول: إنه تعالى ليس بجسم ولا جوهر، لأن سلب الجسمية والجوهرية مفهوم سلبي، وذاته المخصوصة أمر ثابت، والمغايرة بين السلب والثبوت معلوم بالضرورة، وأيضاً فذاته المخصوصة ليست عبارة عن نفس القادرية والعالمية، لأن المفهوم من القادرية والعالمية مفهومات إضافية، وذاته ذات قائمة بنفسها والفرق بين الموجود القائم بالنفس وبين الاعتبارات النسبية والإضافية معلوم بالضرورة.

المقدمة الثالثة: في بيان أنا في هذا الوقت لا نعرف ذاته المخصوصة، ويدل عليه وجوه:

الأول: أنا إذا رجعنا إلى عقولنا وأفهامنا لم نجد عند عقولنا من معرفة الله تعالى إلا أحد أمور: أربعة: إما العلم بكونه موجوداً، وإما العلم بدوام وجوده، وإما العلم بصفات الجلال وهي الاعتبارات السلبية، وإما العلم بصفات الإكرام وهي الاعتبارات الإضافية، وقد ثبت بالدليل أن ذاته المخصوصة مغايرة لكل واحد من هذه الأربعة؛ فإنه ثبت بالدليل أن حقيقته غير وجوده، وإذا كان كذلك كانت حقيقته أيضاً مغايرة لدوام وجوده، وثبت أن حقيقته غير سلبية وغير إضافية، وإذا كان لا معلوم عند الخلق إلا أحد هذه الأمور الأربعة وثبت أنها مغايرة لحقيقته المخصوصة، ثبت أن حقيقته المخصوصة غير معلومة للبشر.

الثاني: أن الاستقراء التام يدل على أنا لا يمكننا أن نتصور أمراً من الأمور إلا من طرق أمور أربعة: أحدها: الأشياء التي أدركناها بإحدى هذه الحواس الخمس، وثانيها: الأحوال التي ندركها من أحوال أبداننا كالألم واللذة والجوع والعطش والفرح والغم، وثالثها: الأحوال التي ندركها بحسب عقولنا مثل علمنا بحقيقة الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان، ورابعها: الأحوال التي يدركها العقل والخيال من تلك الثلاثة، فهذه الأشياء هي التي يمكننا أن نتصورها وأن ندركها من حيث هي هي، فإذا ثبت هذا وثبت أن حقيقة الحق سبحانه وتعالى مغايرة لهذه الأقسام، ثبت أن حقيقته غير معقولة للخلق.

الثالث: أن حقيقته المخصوصة علة لجميع لوازمه من الصفات الحقيقية والإضافية والسلبية والعلم بالعلة علة للعلم بالمعلول، ولو كانت حقيقته المخصوصة معلومة لكانت صفاته بأسرها معلومة بالضرورة، وهذا معدوم فذاك معدوم، فثبت أن حقيقة الحق غير معقولة للبشر.

-94-

المقدمة الرابعة: في بيان أنها وإن لم تكن معقولة للبشر فهل يمكن أن تصير معقولة لهم.

المقدمة الخامسة: في بيان أن البشر وإن امتنع في عقولهم إدراك تلك الحقيقة المخصوصة فهل يمكن ذلك العرفان في حق جنس الملائكة أو في حق فرد من أفرادهم؟ الإنصاف أن هذه المباحث صعبة، والعقل كالعاجز القاصر في الوفاء بها كما ينبغي، وقال بعضهم: عقول المخلوقات ومعارفهم متناهية، والحق تعالى غير متناهٍ، والمتناهي يمتنع وصوله إلى غير المتناهي ولأن أعظم الأشياء هو الله تعالى، وأعظم العلوم علم الله سبحانه وتعالى، وأعظم الأشياء لا يمكن معرفته إلا بأعظم العلوم، فعلى هذا لا يعرف الله إلا الله.

المقدمة السادسة: اعلم أن معرفة الأشياء على نوعين: معرفة عرضية، ومعرفة ذاتية: أما المعرفة العرضية فكما إذا رأينا بناء علمنا بأنه لا بدّ له من بان، فأما أن ذلك الباني كيف كان في ماهيته، وأن حقيقته من أي أنواع الماهيات، فوجود البناء لا يدل عليه، وأما المعرفة الذاتية فكما إذا عرفنا اللون المعين ببصرنا، وعرفنا الحرارة بلمسنا، وعرفنا الصوت بسمعنا، فإنه لا حقيقة للحرارة والبرودة إلا هذه الكيفية الملموسة، ولا حقيقة للسواد والبياض إلا هذه الكيفية المرئية، إذا عرفت هذا فنقول: إنا إذا علمنا احتياج المحدثات إلى محدث وخالق فقد عرفنا الله تعالى معرفة عرضية إنما الذي نفيناه الآن هو المعرفة الذاتية، فلتكن هذه الدقيقة معلومة حتى لا تقع في الغلط.

المقدمة السابعة: اعلم أن إدراك الشيء من حيث هو هو ـ أعني ذلك النوع الذي سميناه بالمعرفة الذاتية ـ يقع في الشاهد على نوعين: أحدهما: العلم، والثاني: الإبصار، فإنا إذا أبصرنا السواد ثم غمضنا العين فإنا نجد تفرقة بديهية بين الحالتين، فعلمنا أن العلم غير، وأن الإبصار غير، إذا عرفت هذا فنقول: بتقدير أنه يقال يمكن حصول المعرفة الذاتية للخلق فهل لتلك المعرفة ولذلك الإدراك طريق واحد فقط أو يمكن وقوعه على طريقين مثل ما في الشاهد من العلم والإبصار؟ هذا أيضاً مما لا سبيل للعقل إلى القضاء به والجزم فيه، وبتقدير أن يكون هناك طريقان: أحدهما: المعرفة، والثاني: الإبصار فهل الأمر هناك مقصور على هذين الطريقين أو هناك طرق كثيرة ومراتب مختلفة؟ كل هذه المباحث مما لا يقدر العقل على الجزم فيها ألبتة، فهذا هو الكلام في هذه المقدمات.

المسألة العاشرة: في أنه هل لله تعالى بحسب ذاته المخصوصة اسم أم لا؟ نقل عن قدماء الفلاسفة إنكاره، قالوا: والدليل عليه أن المراد من وضع الاسم الإشارة بذكره إلى المسمى فلو كان لله بحسب ذاته اسم لكان المراد من وضع ذلك الاسم ذكره مع غيره لتعريف ذلك المسمى، فإذا ثبت أن أحداً من الخلق لا يعرف ذاته المخصوصة ألبتة لم يبق في وضع الاسم لتلك الحقيقة فائدة، فثبت أن هذا النوع من الاسم مفقود، فعند هذا قالوا: إنه ليس لتلك الحقيقة اسم، بل له لوازم معرفة، وتلك اللوازم هي أنه الأزلي الذي لا يزول، وأنه الواجب الذي لا يقبل العدم، وأما الذين قالوا إنه لا يمتنع في قدرة الله تعالى أن يشرف بعض المقربين من عباده بأن يجعله عارفاً بتلك الحقيقة المخصوصة قالوا: إذا كان الأمر كذلك فحينئذٍ لا يمتنع وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة، فثبت أن هذه المسألة مبنية على تلك المقدمات السابقة.

-95-

المسألة الحادية عشرة: بتقدير أن يكون وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ممكناً وجب القطع بأن ذلك الاسم أعظم الأسماء، وذلك الذكر أشرف الأذكار، لأن شرف العلم بشرف المعلوم، وشرف الذكر بشرف المذكور، فلما كان ذات الله تعالى أشرف المعلومات والمذكورات كان العلم به أشرف العلوم، وكان ذكر الله أشرف الأذكار، وكان ذلك الاسم أشرف الأسماء وهو المراد من الكلام المشهور الواقع في الألسنة، وهو اسم الله الأعظم، ولو اتفق لملك مقرب أو نبي مرسل الوقوف على ذلك الاسم حال ما يكون قد تجلى له معناه لم يبعد أن يطيعه جميع عوالم الجسمانيات والروحانيات.

اسم الله الأعظم:

المسألة الثانية عشرة: القائلون بأن الاسم الأعظم موجود اختلفوا فيه على وجوه:

الأول: قول من يقول إن ذلك الاسم الأعظم هو قولنا:

{ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن55: 27]

وورد فيه قوله عليه الصلاة والسلام: " ألظوا بياذا الجلال والإكرام " وهذا عندي ضعيف، لأن الجلال إشارة إلى الصفات السلبية، والإكرام إشارة إلى الصفات الإضافية، وقد عرفت أن حقيقته المخصوصة مغايرة للسلوب والإضافات.


والقول الثاني: قول من يقول أنه هو

{ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [البقرة2: 255]

لقوله عليه الصلاة والسلام لأبي ابن كعب: ما أعظم آية في كتاب الله تعالى؟ فقال:

{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ } [البقرة2: 255]

فقال: " ليهنك العلم أبا المنذر " وعندي أنه ضعيف، وذلك لأن الحي هو الدراك الفعال، وهذا ليس فيه كثرة عظمة لأنه صفة، وأما القيوم فهو مبالغة في القيام، ومعناه كونه قائماً بنفسه مقوماً لغيره، فكونه قائماً بنفسه مفهوم سلبي وهو استغناؤه عن غيره، وكونه مقوماً لغيره صفة إضافية فالقيوم لفظ دال على مجموع سلب وإضافة، فلا يكون ذلك عبارة عن الاسم الأعظم.


القول الثالث: قول من يقول: أسماء الله كلها عظيمة مقدسة، ولا يجوز وصف الواحد منها بأنه أعظم؛ لأن ذلك يقتضي وصف ما عداه بالنقصان، وعندي أن هذا أيضاً ضعيف لأنا بينا أن الأسماء منقسمة إلى الأقسام التسعة، وبينا أن الاسم الدال على الذات المخصوصة يجب أن يكون أشرف الأسماء وأعظمها، وإذا ثبت هذا بالدلائل فلا سبيل فيه إلى الإنكار.

-96-

القول الرابع: أن الاسم الأعظم هو قولنا: «الله» وهذا هو الأقرب عندي لأنا سنقيم الدلالة على أن هذا الاسم يجري مجرى اسم العلم في حقه سبحانه، وإذا كان كذلك كان دالاً على ذاته المخصوصة.

المسألة الثالثة عشرة: أما الاسم الدال على المسمى بحسب جزء من أجزاء ماهية المسمى فهذا في حق الله تعالى محال، لأن هذا إنما يتصور في حق من كانت ماهيته مركبة من الأجزاء وذلك في حق الله محال، لأن كل مركب فإنه محتاج إلى جزئه، وجزؤه غيره فكل مركب فإنه محتاج إلى غيره، وكل محتاج إلى غيره فهو ممكن، ينتج أن كل مركب فهو ممكن لذاته، فما لا يكون ممكناً لذاته امتنع أن يكون مركباً، وما لا يكون مركباً امتنع أن يحصل له اسم بحسب جزء ماهيته.

المسألة الرابعة عشرة: اعلم أنّا بينا أن الاسم الدال على الذات هل هو حاصل في حق الله تعالىٰ أم لا، قد ذكرنا اختلاف الناس فيه، وأما الاسم الدال بحسب جزء الماهية فقد أقمنا البرهان القاطع على امتناع حصوله في حق الله تعالى، فبقيت الأقسام السبعة فنقول: أما الاسم الدال على الشيء بحسب صفة حقيقية قائمة بذاته المخصوصة فتلك الصفة إما أن تكون هي الوجود وإما أن تكون كيفية من كيفيات الوجود، وإما أن تكون صفة أخرى مغايرة للوجود ولكيفيات ذلك الوجود، ونحن نذكر المسائل المفرعة على هذه الأقسام، والله الهادي.

الباب الرابع

في البحث عن الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية

قد عرفت أن هذا البحث ينقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: الأسماء الدالة على الوجود وفيه مسائل:

تسمية الله بالشيء:

المسألة الأولى: أطبق الأكثرون على أنه يجوز تسمية الله تعالى باسم الشيء ونقل عن جهم بن صفوان أن ذلك غير جائز، أما حجة الجمهور فوجوه: ـ

الحجة الأولى: قوله تعالى:

{ قُلْ أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً قُلِ ٱللَّهِ } [الأنعام6: 19]

وهذا يدل على أنه يجوز تسمية الله باسم الشيء، فإن قيل: لو كان الكلام مقصوراً على قوله: { قُلِ ٱللَّهُ } لكان دليلكم حسناً، لكن ليس الأمر كذلك بل المذكور هو قوله تعالى:

{ قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } [الأنعام6: 19]

وهذا كلام مستقل بنفسه، ولا تعلق له بما قبله، وحينئذٍ لا يلزم أن يكون الله تعالى مسمى باسم الشيء قلنا: لما قال: { أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً } ثم قال: { قُلِ ٱللَّهِ شَهِيدٌ بِيْنِى وَبَيْنَكُمْ } وجب أن تكون هذه الجملة جارية مجرى الجواب عن قوله: { أَىُّ شَىْء أَكْبَرُ شَهَـٰدةً } وحينئذٍ يلزم المقصود.


-97-

الحجة الثانية: قوله تعالى:

{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص28: 88]

والمراد بوجهه ذاته، ولو لم تكن ذاته شيئاً لما جاز استثنائه عن قوله: { كُلُّ شَىْء هَالِكٌ } وذلك يدل على أن الله تعالى مسمى بالشيء.


الحجة الثالثة: قوله عليه السلام في خبر عِمران بن الحصين: " كان الله ولم يكن شيء غيره " وهذا يدل على أن اسم الشيء يقع على الله تعالى.

الحجة الرابعة: روى عبد الله الأنصاري في الكتاب الذي سماه «بالفاروق» عن عائشة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من شيء أغير من الله عزّ وجلّ "

الحجة الخامسة: أن الشيء عبارة عما يصح أن يعلم ويخبر عنه، وذات الله تعالى كذلك، فيكون شيئاً.

واحتج جهم بوجوه: الحجة الأولى: قوله تعالى:

{ ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء } [الزمر39: 62] وكذلك قوله:
{ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } [المائدة5: 17]

فهذا يقتضي أن يكون كل شيء مخلوقاً ومقدوراً، والله تعالى ليس بمخلوق ولا مقدور، ينتج أن الله سبحانه وتعالى ليس بشيء. فإن قالوا إن قوله تعالى: { ٱللَّهُ خَـٰلِقُ كُلّ شَىْء } وقوله:

{ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } [الملك67: 1]

عام دخله التخصيص، قلنا الجواب عنه من وجهين: الأول: أن التخصيص خلاف الأصل، والدلائل اللفظية يكفي في تقريرها هذا القدر، الثاني: أن الأصل في جواز التخصيص هو أن أهل العرف يقيمون الأكثر مقام الكل، فلهذا السبب جوزوا دخول التخصيص في العموميات، إلا أن إجراء الأكثر مجرى الكل إنما يجوز في الصورة التي يكون الخارج عن الحكم حقيراً قليل القدر فيجعل وجوده كعدمه، ويحكم على الباقي بحكم الكل، فثبت أن التخصيص إنما يجوز في الصورة التي تكون حقيرة ساقطة الدرجة إذا عرفت هذا فنقول: إن بتقدير أن يكون الله تعالى مسمى بالشيء كان أعظم الأشياء وأجلها هو الله تعالى، فامتنع أن يحصل فيه جواز التخصيص، فوجب القول بأن ادعاء هذا التخصيص محال.


الحجة الثانية: قوله تعالى:

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى42: 11]

حكم الله تعالى بأن مثل مثله ليس بشيء، ولا شك أن كل شيء مثل لمثل نفسه، وثبت بهذه الآية أن مثل مثله ليس بشيء ينتج أنه تعالى غير مسمى بالشيء، فإن قالوا إن الكاف زائدة، قلنا هذا الكلام معناه أن هذا الحرف من كلام الله تعالى لغو وعبث وباطل، ومعلوم أن هذا الكلام هو الباطل، ومتى قلنا إن هذا الحرف ليس بباطل صارت الحجة التي ذكرناها في غاية القوة والكمال.


الحجة الثالثة: لفظ الشيء لا يفيد صفة من صفات الجلال والعظمة والمدح والثناء، وأسماء الله تعالى يجب كونها كذلك ينتج أن لفظ الشيء ليس اسماً لله تعالى: أما قولنا إن اسم الشيء لا يفيد المدح والجلال فظاهر، وذلك لأن المفهوم من لفظ الشيء قدر مشترك بين الذرة الحقيرة وبين أشرف الأشياء، وإذا كان كذلك كان المفهوم من لفظ الشيء حاصلاً في أخس الأشياء وذلك يدل على أن اسم الشيء لا يفيد صفة المدح والجلال، وأما قولنا: إن أسماء الله يجب أن تكون دالة على صفة المدح والجلال، فالدليل عليه قوله تعالى:

-98-

{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـٰئِهِ } [الأعراف7: 180]

والاستدلال بالآية أن كون الأسماء حسنة لا معنى له إلا كونها دالة على الصفات الحسنة الرفيعة الجليلة، فإذا لم يدل الاسم على هذا المعنى لم يكن الاسم حسناً ثم إنه تعالى أمرنا بأن ندعوه بهذه الأسماء ثم قال بعد ذلك

{ وَذَرُواْ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِى أَسْمَـٰئِهِ } [الأعراف7: 180]

وهذا كالتنبيه على أن من دعاه بغير تلك الأسماء الحسنة فقد ألحد في أسماء الله، فتصير هذه الآية دالة دلالة قوية على أنه ليس للعبد أن يدعو الله إلا بالأسماء الحسنى الدالة على صفات الجلال والمدح، وإذا ثبت هاتان المقدمتان فقد حصل المطلوب.


الحجة الرابعة: أنه لم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة أنه خاطب الله تعالى بقوله يا شيء، وكيف يقال ذلك وهذا اللفظ في غاية الحقارة، فكيف يجوز للعبد خطاب الله بهذاالاسم، بل نقل عنهم أنهم كانوا يقولون: يا منشىء الأشياء، يا منشىء الأرض والسماء.

واعلم أن من الناس من يظن أن هذا البحث واقع في المعنى، وهذا في غاية البعد، فإنه لا نزاع في أن الله تعالى موجود وذات وحقيقة، إنما النزاع في أنه هل يجوز إطلاق هذا اللفظ عليه، فهذا نزاع في مجرد اللفظ لا في المعنى، ولا يجري بسببه تكفير ولا تفسيق، فليكن الإنسان عالماً بهذه الدقيقة حتى لا يقع في الغلط.

إطلاق لفظ الموجود على الله:

المسألة الثانية: في بيان أنه هل يجوز إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى؟ اعلم أن هذا البحث يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة، وهي أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك على معيين: أحدهما: أن يراد بالوجود الوجدان والإدراك والشعور، ومتى أريد بالوجود الوجدان والإدراك فقد أريد بالموجود لا محالة المدرك والمشعور به، والثاني: أن يراد بالوجود الحصول والتحقق في نفسه، واعلم أن بين الأمرين، فرقاً، وذلك لأن كونه معلوم الحصول في الأعيان يتوقف على كونه حاصلاً في نفسه، ولا ينعكس، لأن كونه حاصلاً في نفسه لا يتوقف على كونه معلوم الحصول في الأعيان: لأنه يمتنع في العقل كونه حاصلاً في نفسه مع أنه لا يكون معلوماً لأحد، بقي ههنا بحث، وهو أن لفظ الوجود هل وضع أولاً للإدراك والوجدان ثم نقل ثانياً إلى حصول الشيء في نفسه، أو الأمر فيه بالعكس، أو وضعا معاً؟ فنقول: هذا البحث لفظي، والأقرب هو الأول، لأنه لولا شعور الإنسان بذلك الشيء لما عرف حصوله في نفسه، فلما كان الأمر كذلك وجب أن يكون وضع اللفظ لمعنى الشعور والإدراك سابقاً على وضعه لحصول الشيء نفسه.

-99-

إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إطلاق لفظ الموجود على الله تعالى يكون على وجهين: أحدهما: كونه معلوماً مشعوراً به، والثاني: كونه في نفسه ثابتاً متحققاً، أما بحسب المعنى الأول فقد جاء في القرآن قال الله تعالى:

{ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ } [النساء4: 64]

ولفظ الوجود ههنا بمعنى الوجدان والعرفان، وأما بالمعنى الثاني فهو غير موجود في القرآن.


فإن قالوا: لما حصل الوجود بمعنى الوجدان لزم حصول الوجود بمعنى الثبوت والتحقق إذ لو كان عدماً محضاً لما كان الأمر كذلك.

فنقول: هذا ضعيف من وجهين: الأول: أنه لا يلزم من حصول الوجود بمعنى الوجدان والمعرفة حصول الوجود بمعنى الثبوت؛ لما ثبت أن المعدوم قد يكون معلوماً، والثاني: أنا بينا أن هذا البحث ليس إلا في اللفظ، فلا يلزم من حصول الاسم بحسب معنى حصول الاسم بحسب معنى آخر، ثم نقول: ثبت بإجماع المسلمين إطلاق هذا الاسم فوجب القول به.

فإن قالوا: ألستم قلتم إن أسماء الله تعالى يجب كونها دالة على المدح والثناء، ولفظ الموجود لا يفيد ذلك؟.

قلنا عدلنا عن هذا الدليل بدلالة الإجماع، وأيضاً فدلالة لفظ الموجود على المدح أكثر من دلالة لفظ الشيء عليه، وبيانه من وجوه: الأول: أنه عند قوم يقع لفظ الشيء على المعدوم كما يقع على الموجود، أما الموجود فإنه لا يقع على المعدوم ألبتة، فكان إشعار هذا اللفظ بالمدح أولى. الثاني: أن لفظ الموجود بمعنى المعلوم يفيد صفة المدح والثناء، لأنه يفيد أن بسبب كثرة الدلائل على وجوده وإلاهيته صار كأنه معلوم لكل أحد موجود عند كل أحد واجب الإقرار به عند كل عقل، فهذا اللفظ أفاد المدح والثناء من هذا الوجه، فظهر الفرق بينه وبين لفظ الشيء.

معنى قولنا ذات الله:

المسألة الثالثة: في الذات: روى عبد الله الأنصاري الهروي في الكتاب الذي سماه «بالفاروق» أخباراً تدل على هذا اللفظ: أحدها: عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن من أعظم الناس أجراً الوزير الصالح من أمير يطيعه في ذات الله " ، وثانيها: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن إبراهيم لم يكذب إلا في ثلاث ثنتين في ذات الله " ، وثالثها: عن كعب بن عجرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تسبوا علياً فإنه كان مخشوشاً في ذات الله "

-100-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #16  
قديم 12-31-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 101-110 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 101-110 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


، ورابعها: عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الجهاد أفضل؟ قال: " أن تجاهد نفسك وهواك في ذات الله " وخامسها: عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أن للشيطان مصايد وفخوخاً منها البطر بأنعم الله، والفخر بعطاء الله، والكبر على عباد الله، واتباع الهوى في غير ذات الله "

وأقول: إن كل شيء حصل به أمر من الأمور فإن كان اللفظ الدال على ذلك الشيء مذكراً قيل إنه ذو ذلك الأمر، وإن كان مؤنثاً قيل إنها ذات ذلك الأمر، فهذه اللفظة وضعت لإفادة هذه النسبة والدلالة على ثبوت هذه الإضافة، إذا عرفت هذا فنقول: إنه من المحال أن تثبت هذه الصفة لصفة ثانية، وتلك الصفة الثانية تثبت لصفة ثالثة، وهكذا إلى غير النهاية، بل لا بدّ وأن تنتهي إلى حقيقة واحدة قائمة بنفسها مستقلة بماهيتها، وحينئذٍ يصدق على تلك الحقيقة أنها ذات تلك الصفات، فقولنا: إنها ذات كذا وكذا إنما يصدق في الحقيقة على تلك الماهية القائمة بنفسها، فلهذا السبب جعلوا هذه اللفظة كاللفظة المفردة الدالة على هذه الحقيقة، ولما كان الحق تعالى قيوماً في ذاته كان إطلاق اسم الذات عليه حقاً وصدقاً، وأما الأخبار التي رويناها عن الأنصاري الهروي فإن شيئاً منها لا يدل على هذا المعنى؛ لأنه ليس المراد من لفظ الذات فيها حقيقة الله تعالى وماهيته، وإنماالمراد منه طلب رضوان الله، ألا ترى أنه قال: " لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث ثنتين في ذات الله " أي: في طلب مرضاة الله، وهكذا الكلام في سائر الأخبار.

إطلاق لفظ النفس على الله:

المسألة الرابعة: في لفظ النفس، وهذا اللفظ وارد في القرآن، قال تعالى:

{ تَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِى وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِى نَفْسِكَ } [المائدة5: 116] وقال:
{ وَيُحَذّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [آل عمران3: 28]

وعن عائشة قالت: كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم فقدته، فطلبته، فوقعت يدي على قدميه وهو ساجد، وهو يقول: " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " يقول الله تعالى: أنا مع عبدي حين يذكرني، فإن ذكرني في في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً، وإن جاءني يمشي جئته أهرول " والخبر الثالث: عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:


-101-

" لما خلق الله الخلق كتب في كتابه على نفسه وهو مرفوع فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي " والخبر الرابع: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليس أحد أحب إليه المدح من الله تعالى، ومن أجل ذلك مدح نفسه، وليس أحد أغير من الله، ومن أجل ذلك حرم الفواحش، وليس أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل " الخبر الخامس: عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم علمها هذا التسبيح: سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ومداد كلماته، ورضا نفسه، وزنة عرشه. الخبر السادس: روى أبو ذر عن النبي عليه الصلاة والسلام عن الله سبحانه وتعالىٰ أنه قال: " حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً، فلا تظالموا " وتمام الخبر مشهور. الخبر السابع: عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ذات يوم على المنبر

{ وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام6: 91]

ثم أخذ يمجد الله نفسه: أنا الجبار، أنا المتكبر، أنا العزيز أنا الكريم، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى خفنا سقوطه. الخبر الثامن: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: التقى آدم وموسى عليهما السلام فقال له موسىٰ: أنت الذي أشقيت الناس فأخرجتهم من الجنة، قال آدم: أنت الذي اصطفاك الله برسالته، واصطنعك لنفسه، وأنزل عليك التوراة، فهل وجدت كتبته على قبل أن يخلقني؟ قال: نعم، قال فحج آدم موسى ثلاث مرات» الخبر التاسع: عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقول الله تعالى: هذا دين ارتضيته لنفسي، ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق، فأكرموه بهما " الخبر العاشر: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه أنه قال: " من أهان لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، فلا أبالي في أي وادٍ من الدنيا أهلكه، وأقذفه في جهنم، وما ترددت في نفسي في قضاء شيء قضيت ترددي في قبض عبدي المؤمن؛ يكره الموت ولا بدّ له منه وأكره مساءته " الخبر الحادي عشر: عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما قال عبد قط إذا أصابه هم أو حزن: اللهم إني عبدك وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ـ أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدله مكان حزنه فرحاً "


-102-

الخبر الثاني عشر: عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله تعالى بعثني رحمة للعالمين وأن أكسر المعازف والأصنام، وأقسم ربي على نفسه أن لا يشرب عبد خمراً ثم لم يتب إلى الله تعالى منه إلا سقاه الله تعالى من طينة الخبال " فقال: قلت: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: " صديد أهل جهنم "

نفس الشيء ذاته وحقيقته:

واعلم أن النفس عبارة عن ذات الشيء، وحقيقته؛ وهويته، وليس عبارة عن الجسم المركب من الأجزاء، لأن كل جسم مركب، وكل مركب ممكن، وكل ممكن محدث، وذلك على الله محال فوجب حمل لفظ النفس على ما ذكرناه.

المسألة الخامسة: في لفظ الشخص، عن سعد بن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا شخص أغير من الله، ومن أجل غيرته حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا شخص أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين ومنذرين، ولا شخص أحب إليه المدح من الله "

واعلم أنه لا يمكن أن يكون المراد من الشخص الجسم الذي له تشخص وحجمية، بل المراد منه الذات المخصوصة والحقيقة المعينة في نفسها تعيناً باعتباره يمتاز عن غيره.

هل يقال لله «النور»:

المسألة السادسة: في أنه هل يجوز إطلاق لفظ النور على الله، قال الله تعالى:

{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } [النور24: 35]

وأما الأخبار فروى أنه قيل لعبد الله بن عمر: نقل عنك أنك تقول الشقي من شقي في بطن أمه، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله خلق الخلق في ظلمة، ثم ألقى عليهم من نوره، فمن أصابه من ذلك النور شيء فقد اهتدى، ومن أخطأ فقد ضل " فلذلك أقول: جف القلم على علم الله تعالى.


واعلم أن القول بأن الله تعالى هو هذا النور أو من جنسه قول باطل، ويدل عليه وجوه: الأول: أن النور إما أن يكون جسماً أو كيفية في جسم، والجسم محدث فكيفياته أيضاً محدثة، وجل الإله عن أن يكون محدثاً. الثاني: أن النور تضاده الظلمة، والإله منزه عن أن يكون له ضد. الثالث: أن النور يزول ويحصل له أفول، والله منزه عن الأفول والزوال، وأما قوله تعالى: { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } فجوابه أن هذه الآية من المتشابهات، والدليل عليه ما ذكرناه من الدلائل العقلية، وأيضاً فإنه تعالى قال عقيب هذه الآية

{ مَثَلُ نُورِهِ } [النور24: 35]

فأضاف النور إلى نفسه إضافة الملك إلى مالكه، فهذا يدل على أنه في ذاته ليس بنور، بل هو خالق النور.


-103-

بقي أن يقال: فما المقتضي لحسن إطلاق لفظ النور عليه؟ فنقول فيه وجوه: الأول: قرأ بعضهم «لله نور السموات والأرض» وعلى هذه القراءة فالشبهة زائلة، والثاني: أنه سبحانه منور الأنوار ومبدعها وخالقها؛ فلهذا التأويل حسن إطلاق النور عليه. والثالث: أن بحكمته حصلت مصالح العالم. وانتظمت مهمات الدنيا والآخرة، ومن كان ناظماً للمصالح وساعياً في الخيرات فقد يسمى بالنور، يقال: فلان نور هذه البلد، إذا كان موصوفاً بالصفة المذكورة. والرابع: أنه هو الذي تفضل على عباده بالإيمان والهداية والمعرفة، وهذه الصفات من جنس الأنوار ويدل عليه القرآن والأخبار: أما القرآن فقوله تعالىٰ في آخر الآية: { نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِى ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء } وأما الأخبار فكثيرة: ـ

الخبر الأول: ما روى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "

الخبر الثاني: عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " هل تدرون أي الناس أكيس؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً قالوا: يا رسول الله، هل لذلك من علامة؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، والإنابة إلى دار الخلود، فإذا دخل النور في القلب انفسح واتسع للاستعداد قبل نزول الموت "

الخبر الثالث: عن ابن مسعود قال: " تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: { أَفَمَن شَرَحَ ٱللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلَـٰمِ فَهُوَ عَلَىٰ نُورٍ مّن رَّبّهِ } [الزمر: 22] فقلت: يا رسول الله كيف يشرح الله صدره؟ قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح، فقلت: ما علامة ذلك يا رسول الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والتأهب للموت قبل نزول الموت. " الخبر الرابع: عن أنس رضي الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في طريق إذ لقيه حارثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أصبحت يا حارثة؟ قال: أصبحت والله مؤمناً حقاً، فقال عليه الصلاة والسلام: أنظر ما تقول، فإن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت ليلي، وأظمأت نهاري وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وإلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: عرفت فالزم، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سره أن ينظر إلى رجل نور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى هذا " ثم قال: يا رسول الله، ادع الله لي بالشهادة، فدعا له، فنودي بعد ذلك: يا خيل الله اركبي، فكان أول فارس ركب، فاستشهد في سبيل الله.

الخبر الخامس: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع صوتاً من فوقه، فرفع رأسه إلى السماء فقال:

-104-

" إن هذا الباب من السماء قد فتح، وما فتح قط، فنزل منه ملك فقال: يا محمد أبشر بنورين لم يؤتهما أحد من قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة "

الخبر السادس: عن يعلى بن منبه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يمر المؤمن على الصراط يوم القيامة فتناديه النار: «جز عني يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي "

الخبر السابع: عن نافع عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " اللهم بك نصبح، وبك نمسي، وبك نحيا وبك نموت، وإليك النشور، اللهم اجعلني من أفضل عبادك عندك حظاً ونصيباً، في كل خير تقسمه اليوم: من نور تهدى به، أن رحمة تنشرها، أو رزق تبسطه، أو ضر تكشفه، أو بلاء تدفعه، أو سوء ترفعه، أو فتنة تصرفها "

الخبر الثامن: عن علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن أهل الجنة فقال: " أهل الجنة شعث رؤسهم، وسخة ثيابهم، لو قسم نور أحدهم على أهل الأرض لوسعهم "

الخبر التاسع: عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أن أهل الجنة كل أشعث أغبر ذي طمرين إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم، وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا، وإذا قالوا لم ينصت لقولهم، حاجة أحدهم تتلجلج في صدره، لو قسم نوره على أهل الأرض لوسعهم "

الخبر العاشر: عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عزّ وجلّ يقول: نوري هداي، و «لا إله إلا الله» كلمتي، فمن قالها أدخلته حصني ومن أدخلته حصني فقد أمن "

الخبر الحادي عشر: عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو " أعوذ بكلمات الله التامة، وبنوره الذي أشرقت له الأرض وأضاءت به الظلمات، من زوال نعمتك، ومن تحول عافيتك، ومن فجأة نقمتك، ومن درك الشقاء وشر قد سبق "

الخبر الثاني عشر: عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: " اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً " والحديث مشهور.

لفظ الصورة:

المسألة السابعة: في لفظ الصورة، وفيه أخبار: الخبر الأول: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله خلق آدم على صورته " وعن بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

-105-

" لا تقبحوا الوجه فإن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن " قال إسحاق بن راهويه: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله خلق آدم على صورة الرحمن "

الخبر الثاني: عن معاذ بن جبل قال صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غدوة فقال له قائل: ما رأيتك أسفر وجهك مثل الغداة، قال: " وما أبالي،، وقد بدا لي ربي في أحسن صورة فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي ربي، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها فعلمت ما في السموات والأرض "

واعلم أن العلماء ذكروا في تأويل هذه الأخبار وجوهًا: الأول: أن قوله: " إن الله خلق آدم على صورته " الضمير عائد إلى المضروب، يعني أن الله تعالى خلق آدم على صورة المضروب، فوجب الاحتراز عن تقبيح وجه ذلك المضروب. الثاني: أن المراد أن الله خلق آدم على صورته التي كان في آخر أمره، يعني أنه ما تولد عن نطفة ودم وما كان جنيناً ورضيعاً، بل خلقه الله رجلاً كاملاً دفعة واحدة الثالث: أن المراد من الصورة الصفة يقال صورة هذا الأمر كذا، أي: صفته، فقوله: " خلق الله آدم على صورة الرحمن " أي: خلقه على صفته في كونه خليفة له في أرضه متصرفاً في جميع الأجسام الأرضية، كما أنه تعالى نافذ القدرة في جميع العالم.

إطلاق «الجوهر» على الله لا يجوز:

المسألة الثامنة: الفلاسفة قد يطلقون لفظ «الجوهر» على ذات الله تعالى، وكذلك النصارى، والمتكلمون يمتنعون منه، أما الفلاسفة فقالوا: المراد من الجوهر الذات المستغنى عن المحل والموضوع، والله تعالى كذلك، فوجب أن يكون جوهراً، فالجوهر فوعل واشتقاقه من الجهر، وهو الظهور، فسمي الجوهر جوهراً لكونه ظاهراً بسبب شخصيته وحجميته، فكونه جوهراً عبارة عن كونه ظاهر الوجود، وأما حجميته فليست نفس الجوهر، بل هي سبب لكونه جوهراً وهو ظهور وجوده، والحق سبحانه وتعالى أظهر من كل ظاهر بحسب كثرة الدلائل على وجوده، فكان أولى الأشياء بالجوهرية هو هو، وأما المتكلمون فقالوا: أجمع المسلمون على الامتناع من هذا اللفظ فوجب الامتناع منه.

إطلاق الجسم لا يجوز:

المسألة التاسعة: أطلق أكثر الكرامية لفظ «الجسم» على الله تعالى فقالوا: لا نريد به كونه مركباً مؤلفاً من الأعضاء، وإنما نريد به كونه موجوداً قائماً بالنفس غنياً عن المحل وأما سائر الفرق فقد أطبقوا على إنكار هذا الاسم.

ولنا مع الكرامية مقامان: المقام الأول: أنا لا نسلم أنهم أرادوا بكونه جسماً معنى غير الطول والعرض والعمق، وكيف لا نقول ذلك وأنهم يقولون: أنه تعالى فوق العرش، ولا يقولون إنه في الصغر مثل الجوهر الفرد، والجزء الذي لا يتجزأ، بل يقولون: إنه أعظم من العرش، وكان ما كان كذلك كانت ذاته ممتدة من أحد جانبي العرش إلى الجانب الآخر فكان طويلاً عريضاً عميقاً، فكان جسماً بمعنى كونه طويلاً عريضاً عميقاً، فثبت أن قولهم إنا أردنا بكونه جسماً معنى غير هذا المعنى كذب محض وتزوير صرف.

-106-

المقام الثاني: أن نقول: لفظ الجسم لفظ يوهم معنى باطلاً، وليس في القرآن والأحاديث ما يدل على وروده فوجب الامتناع منه، لا سيما والمتكلمون قالوا: لفظ الجسم يفيد كثرة الأجزاء بحسب الطول والعرض والعمق، فوجب أن يكون لفظ الجسم يفيد أصل هذا المعنى.

إطلاق «الأَنية»:

المسألة العاشرة: في إطلاق لفظ «الأنية» على الله تعالى: اعلم أن هذه اللفظة تستعملها الفلاسفة كثيراً، وشرحه بحسب أصل اللغة أن لفظة «إن» في لغة العرب تفيد التأكيد والقوة في الوجود، ولما كان الحق سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته، وكان واجب الوجود أكمل الموجودات في تأكد الوجود، وفي قوة الوجود، لا جرم أطلقت الفلاسفة بهذا التأويل لفظ الأنية عليه.

إطلاق «الماهية»:

المسألة الحادية عشرة: في إطلاق لفظ الماهية عليه: اعلم أن لفظ «الماهية» ليس لفظاً مفرداً بحسب أصل اللغة، بل الرجل إذا أراد أن يسأل عن حقيقة من الحقائق فإنه يقول: ما تلك الحقيقة وما هي؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: أرنا الأشياء كما هي، فلما كثر السؤال عن معرفة الحقائق بهذه اللفظة جعلوا مجموع قولنا ما هي كاللفظة المفردة، ووضعوا هذه اللفظة بإزاء الحقيقة فقالوا ماهية الشيء أي حقيقته المخصوصة وذاته المخصوصة.

إطلاق لفظ «الحق»:

المسألة الثانية عشرة: في إطلاق لفظ «الحق» اعلم أن هذا اللفظ إن أطلق على ذات الشيء كان المراد كونه موجوداً وجوداً حقيقياً في نفسه والدليل عليه أن الحق مقابل للباطل والباطل هو المعدوم قال لبيد:

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

فلما كان مقابل الحق هو المعدوم وجب أن يكون الحق هو الموجود، وأما إن أطلق لفظ الحق على الاعتقاد كان المراد أن ذلك الاعتقاد صواب مطابق للشيء في نفسه، وإنما سمي هذا الاعتقاد بالحق لأنه إذا كان صواباً مطابقاً كان واجب التقرير والإبقاء، وأما أن أطلق لفظ الحق على القول والخبر كان المراد أن ذلك الأخبار صدق مطابق لأنه إذا كان كذلك كان ذلك القول واجب التقرير والإبقاء، إذا ثبت هذا فنقول: إن الله تعالى هو المستحق لاسم الحق، أما بحسب ذاته فلأنه هو الموجود الذي يمتنع عدمه وزواله. وأما بحسب الاعتقاد فلأن اعتقاد وجوده ووجوبه هو الاعتقاد الصواب المطابق الذي لا يتغير عن هذه الصفة، وأما بحسب الأخبار والذكر فلأن هذا الخبر أحق الأخبار بكونه صدقاً واجب التقرير، فثبت أنه تعالى هو الحق بحسب جميع الاعتبارات والمفهومات والله الموفق الهادي.

-107-

القسم الثاني: من هذا الباب الأسماء الدالة على كيفية الوجود: ـ

اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمات عقلية.

كونه تعالى «أزلياً»:

المقدمة الأولى: اعلم أن كونه تعالى أزلياً أبدياً لا يوجب القول بوجود زمان لا آخر له، وذلك لأنا نقول: كون الشيء دائم الوجود في ذاته إما أن يتوقف على حصوله في زمان أولاً يتوقف عليه، فإن لم يتوقف عليه فهو المقصود، لأن على هذا التقدير يكون تعالى أزلياً أبدياً من غير حاجة إلى القول بوجود زمان آخر، وأما أن توقف عليه فنقول: ذلك الزمان إما أن يكون أزلياً أو لا يكون فإن كان ذلك الزمان أزلياً فالتقدير هو أن كونه أزلياً لا يتقرر إلا بسبب زمان آخر فحينئذٍ يلزم افتقار الزمان إلى زمان آخر فيلزم التسلسل، وأما إن قلنا أن ذلك الزمان ليس أزلياً فحينئذٍ قد كان الله أزلياً موجوداً قبل ذلك الزمان، وذلك يدل على أن الدوام لا يفتقر إلى وجود زمان آخر، وهو المطلوب، فثبت أن كونه تعالى أزلياً لا يوجب الاعتراف بكون الزمان أزلياً.

كونه تعالى «باقياً»:

المقدمة الثانية: أن الشيء كلما كان أزلياً كان باقياً، لكن لا يلزم من كون الشيء باقياً كونه أزلياً، ولفظ «الباقي» وورد في القرآن قال الله تعالى:

{ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ } [الرحمن55: 27] وأيضاً قال تعالى:
{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص28: 88]

والذي لا يصير هالكاً يكون باقياً لا محالة، وأيضاً قال تعالى:

{ هُوَ ٱلأوَّلُ وَٱلأَخِرُ } [الحديد57: 3]

فجعله أولاً لكل ما سواه، وما كان أولاً لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول؛ إذ لو كان له أول لامتنع أن يكون أولاً لأول نفسه، ولو كان له آخر لامتنع كونه آخراً لآخر نفسه، فلما كان أولاً لكل ما سواه وكان آخراً لكل ما سواه امتنع أن يكون له أول وآخر، فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى أزلياً لا أول له، أبدياً لا آخر له.


المقدمة الثالثة: لو كان صانع العالم محدثاً لافتقر إلى صانع آخر، ولزم التسلسل، وهو محال فهو قديم، وإذا ثبت أنه قديم وجب أن يمتنع زواله، لأن ما ثبت قدمه امتنع عدمه.

إذا ثبتت هذه المقدمات فلنشرع في تفسير الأسماء: ـ

اسمه تعالى «القديم»:

الاسم الأول: القديم، واعلم أن هذا اللفظ يفيد في أصل اللغة طول المدة، ولا يفيد نفي الأولية يقال: دار قديم إذا طالت مدته، قال الله تعالى:

{ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ } [يۤس36: 39] وقال:
{ إِنَّكَ لَفِى ضَلَـٰلِكَ ٱلْقَدِيمِ } [يوسف12: 95].


اسمه تعالى " الأزلي ":

الاسم الثاني: الأزلي، وهذا اللفظ يفيد الانتساب إلى الأزل، فهذا يوهم أن الأزل شيء حصل ذات الله فيه، وهذا باطل، إذ لو كان الأمر كذلك لكانت ذات الله مفتقرة إلى ذلك الشيء ومحتاجة إليه، وهو محال، بل المراد وجود لا أول له ألبتة.

-108-

عدم أوليته تعالى:

الاسم الثالث: قولنا لا أول له، وهذا اللفظ صريح في المقصود، واختلفوا في أن قولنا لا أول له صفة ثبوتية أو عدمية، قال بعضهم: إن قولنا لا أول له إشارة إلى نفي العدم السابق ونفي النفي إثبات، فقولنا لا أول له وإن كان بحسب اللفظ عدماً إلا أنه في الحقيقة ثبوت، وقال آخرون: أنه مفهوم عدمي، لأنه نفي لكون الشيء مسبوقاً بالعدم، وفرق بين العدم وبين كونه مسبوقاً بالعدم، فكونه مسبوقاً بالعدم كيفية ثبوتية، فقولنا لا أول له سلب لتلك الكيفية الثبوتية، فكان قولنا لا أول مفهوماً عدمياً، وأجاب الأولون عنه بأن كونه مسبوقاً بالعدم لو كان كيفية وجودية زائدة على ذاته لكانت تلك الكيفية الزائدة حادثة، فكانت مسبوقة بالعدم، فكان كونها كذلك صفة أخرى، ولزم التسلسل، وهو محال.

اسمه تعالى " الأبدي والسرمدي ":

الاسم الرابع: الأبدي، وهو يفيد الدوام بحسب الزمان المستقبل.

الاسم الخامس: السرمدي، واشتقاق هذه اللفظة من السرد، وهو التوالي والتعاقب، قال عليه الصلاة والسلام في الأشهر الحرم: " واحد فرد وثلاثة سرد " أي: متعاقبة، ولما كان الزمان إنما يبقى بسبب تعاقب أجزائه وتلاحق أبعاضه وكان ذلك التعاقب والتلاحق مسمى بالسرد أدخلوا عليه الميم الزائدة ليفيد المبالغة في ذلك المعنى.

إذا عرفت هذا فنقول: الأصل في لفظ السرمد أن لا يقع إلا على الشيء الذي تحدث أجزاؤه بعضها عقيب البعض، ولما كان هذا المعنى في حق الله تعالى محالاً كان إطلاق لفظ السرمدي عليه مجازاً، فإن ورد في الكتاب والسنّة أطلقناه وإلا فلا.

" المستمر ":

الاسم السادس: المستمر، وهذا بناء الاستفعال، وأصله المرور والذهاب، ولما كان بقاء الزمان بسبب مرور أجزائه بعضها عقيب البعض لا جرم أطلقوا المستمر، إلا أن هذا إنما يصدق في حق الزمان، أما في حق الله فهو محال؛ لأنه باقٍ بحسب ذاته المعينة لا بحسب تلاحق أبعاضه وأجزائه.

الاسم السابع: الممتد وسميت المدة مدة لأنها تمتد بحسب تلاحق أجزائها وتعاقب أبعاضها فيكون قولنا في الشيء، إنه امتد وجوده إنما يصح في حق الزمان والزمانيات، أما في حق الله تعالى فعلى المجاز.

اسمه تعالى " الباقي ":

الاسم الثامن: لفظ الباقي، قال تعالى:

{ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبّكَ } [الرحمن55: 27]

واعلم أن كل ما كان أزلياً كان باقياً ولا ينعكس، فقد يكون باقياً ولا يكون أزلياً ولا أبدياً كما في الأجسام والأعراض الباقية، ومن الناس من قال: لفظ الباقي يفيد الدوام، وعلى هذا ألا يصح وصف الأجسام بالباقي، وليس الأمر كذلك، لإطباق أهل العرف على قول بعضهم لبعض أبقاك الله.


-109-

" الدائم ":

الاسم التاسع: الدائم، قال تعالى:

{ أُكُلُهَا دَائِمٌ } [الرعد13: 35]

ولما كان أحق الأشياء بالدوام هو الله كان الدائم هوالله.


واجب الوجود:

الاسم العاشر: قولنا: «واجب الوجود لذاته» ومعناه أن ماهيته وحقيقته هي الموجبة لوجوده، وكل ما كان كذلك فإنه يكون ممتنع العدم والفناء، واعلم أن ما كان واجب الوجود لذاته وجب أن يكون قديماً أزلياً، ولا ينعكس؛ فليس كل ما كان قديماً أزلياً كان واجب الوجود لذاته، لأنه لا يبعد أن يكون الشيء معللاً بعلة أزلية أبدية، فحينئذٍ يجب كونه أزلياً أبدياً بسبب كون علته كذلك، فهذا الشيء يكون أزلياً أبدياً مع أنه لا يكون واجب الوجود لذاته، وقولهم بالفارسية «خداي» معناه أنه واجب الوجود لذاته لأن قولنا: «خداي» كلمة مركبة من لفظتين في الفارسية: إحداهما: خود، ومعناه ذات الشيء ونفسه وحقيقته والثانية قولنا: «آي» ومعناه جاء، فقولنا: «خداي» معناه أنه بنفسه جاء، وهو إشارة إلى أنه بنفسه وذاته جاء إلى الوجود لا بغيره، وعلى هذا الوجه فيصير تفسير قولهم: «خداي» أنه لذاته كان موجوداً.

" الكائن ":

الاسم الحادي عشر: الكائن، واعلم أن هذا اللفظ كثير الورود في القرآن بحسب صفات الله تعالى، قال الله تعالى:

{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا } [الكهف18: 45] وقال إن الله:
{ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [النساء4: 24]

وأما ورود هذا اللفظ بحسب ذات الله تعالى فهو غير وارد في القرآن، لكنه وارد في بعض الأخبار، روي في الأدعية المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم: " يا كائناً قبل كل كون، ويا حاضراً مع كل كون، ويا باقياً بعد انقضاء كل كون " أو لفظ يقرب معناه مما ذكرناه ويناسبه من بعض الوجوه واعلم أن ههنا بحثاً لطيفاً نحوياً: وذلك أن النحويين أطبقوا على أن لفظ «كان» على قسمين: أحدهما: الذي يكون تاماً، وهو بمعنى حدث ووجد وحصل، قال تعالى:

{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [آل عمران3: 110]

أي حدثتم ووجدتم خير أمة. والثاني: الذي يكون ناقصاً كقولك «كان الله عليماً حكيماً»، فإن لفظ كان بهذا التفسير لا بدّ له من مرفوع ومنصوب، واتفقوا على أن كان على كلا التقديرين فعل، إلا أنهم قالوا: إنه على الوجه الأول فعل تام، وعلى الثاني فعل ناقص، فقلت للقوم: لو كانت هذه اللفظة فعلاً لكان دالاً على حصول حدث في زمان معين ولو كان كذلك لكنا إذا أسندناه إلى اسم واحد لكان حينئذٍ قد دل على حصول حدث لذلك الشيء، وحينئذٍ يتم الكلام، فكان يجب أن يستغنى عن ذكر المنصوب، وعلى هذا التقدير يصير فعلاً تاماً.


-110-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #17  
قديم 12-31-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 111-120 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 111-120 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


فثبت أن القول بأن بهذه الكلمة الناقصة فعل يوجب كونها تامة غير ناقصة، وما أفضى ثوبته إلى نفيه كان باطلاً، فكان القول بأن هذه الكلمة ناقصة كلاماً باطلاً، ولما أوردت هذا السؤال عليهم بقي الأذكياء من النحويين والفضلاء منهم متحيرين فيه زماناً طويلاً، وما أفلحوا في الجواب، ثم لما تأملت فيه وجدت الجواب الحقيقي الذي يزيل الشبهة، وتقريره أن نقول: لفظ «كان» لا يفيد إلا الحدوث والحصول والوجود، إلا أن هذا على قسمين: منه ما يفيد حدوث الشيء في نفسه، ومنه ما يفيد موصوفية شي بشيء آخر. أما القسم الأول: فإن لفظ «كان» يتم بإسناده إلى ذلك الشيء الواحد لأنه يفيد أن ذلك الشيء قد حدث وحصل، وأما القسم الثاني فإنه لا تتم فائدته إلا بذكر الاسمين، فإنه إذا ذكر كان معناه حصول موصوفية زيد بالعلم ولا يمكن ذكر موصوفية هذا بذاك إلا عند ذكرهما جميعاً، فلا جرم لا يتم المقصود إلا بذكرهما، فقولنا: «كان زيد عالماً»، معناه أنه حدث وحصل موصوفية زيد بالعلم، فثبت بما ذكرنا أن لفظ الكون يفيد الحصول والوجود فقط، إلا أنه في القسم الأول يكفيه إسناده إلى اسم واحد، وفي القسم الثاني: لا بدّ من ذكر الاسمين، وهذا من اللطائف النفيسة في علم النحو، إذا عرفت هذا فنقول: فعلى هذا التقدير لا فرق بين الكائن والموجود فوجب جواز إطلاقه على الله تعالى.

القسم الثالث: من أقسام الصفات الحقيقية:

الصفة المغايرة للوجود مذهب نفاة الصفات:

الصفة التي تكون مغايرة للوجود ولكيفيات الوجود.

اعلم أن هذا البحث مبني على أنه هل يجوز قيام هذه الصفات ذات الله تعالى؟ فالمعتزلة والفلاسفة ينكرونه أشد الإنكار، ويحتجون عليه بوجوه:

الأول: أن تلك الصفة إما أن تكون واجبة لذاتها أو ممكنة لذاتها، والقسمان باطلان، فبطل القول بالصفات، وإنما قلنا أن يمتنع كونها واجبة لذاتها لوجهين: الأول: أنه ثبت في الحكمة أن واجب الوجود لذاته لا يكون إلا واحداً. الثاني: أن الواجب لذاته هو الذي يكون غنياً عما سواه، والصفة هي التي تكون مفتقرة إلى الموصوف، فالجمع بين الوجوب الذاتي وبين كونه صفة للغير محال، وإنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون ممكناً لذاته لوجهين: الأول: أن الممكن لذاته لا بدّ له من سبب، وسببه لا يجوز أن يكون غير ذات الله، لأن تلك الذات لما امتنع خلوها عن تلك الصفة، وتلك الصفة مفتقرة إلى الغير لزم كون تلك الذات مفتقرة إلى الغير. وما كان كذلك كان ممكناً لذاته فيلزم أن يكون الواجب لذاته ممكناً لذاته، وهو محال، ولا يجوز أن يكون هو ذات الله تعالى؛ لأنها قابلة لتلك الصفة فلو كانت مؤثرة فيها لزم كون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد فاعلاً وقابلاً معاً، وهو محال؛ لما ثبت أن الشيء الواحد لا يصدر عنه إلا أثر واحد، والفعل والقبول أثران مختلفان: الثاني: أن الأثر مفتقر إلى المؤثر، فافتقاره إليه إما أن يكون بعد حدوثه، أو حال حدوثه، أو حال عدمه، والأول باطل.

-111-

وإلا لكان تأثير ذلك المؤثر في إيجاده تحصيلاً للحاصل، وهو محال، فبقي القسمان الأخيران، وذلك يقتضي أن يكون كلما كان الشيء أثراً لغيره كان حادثاً، فوجب أن يقال: الشيء الذي لا يكون حادثاً فإنه لا يكون أثراً للغير، فثبت أن القول بالصفات باطل.

الحجة الثانية: على نفي الصفات: قالوا: إن تلك الصفات إما أن تكون قديمة أو حادثة والأول باطل لأن القدم صفة ثبوتية على ما بيناه، فلو كانت الصفات قديمة لكانت الذات مساوية للصفات في القدم، ويكون كل واحد منهما مخالفاً للآخر بخصوصية ماهيته المعينة وما به المشاركة غير ما به المخالفة، فيكون كل واحد من تلك الأشياء القديمة مركباً من جزأين ثم نقول: ويجب أن يكون كل واحد من ذينك الجزأين قديماً لأن جزء ماهية القديم يجب أن يكون قديماً، وحينئذٍ يكون ذانك الجزآن يتشاركان في القدم ويختلفان بالخصوصية، فيلزم كون كل واحد منهما مركباً من جزأين، وذلك محال لأنه يلزم أن يكون حقيقة الذات وحقيقة كل واحدة من تلك الصفات مركبة من أجزاء غير متناهية وذلك محال، وإنما قلنا إنه يمتنع كون تلك الصفات حادثة لوجوه: الأول: أن قيام الحوادث بذات الله محال، لأن تلك الذات إن كانت كافية في وجود تلك الصفة أو دوام عدمها لزم دوام وجود تلك الصفة أو دوام عدمها بدوام تلك الذات، وإن لم تكن كافية فيه فحينئذٍ تكون تلك الذات واجبة الاتصاف بوجود تلك الصفة أو عدمها، وذلك الوجود والعدم يكونان موقوفين على شيء منفصل، والموقوف على الموقوف على الغير موقوف على الغير، والموقوف على الغير ممكن لذاته، ينتج أن الواجب لذاته ممكن لذاته، وهو محال. والثاني: أن ذاته لو كانت قابلة للحوادث لكانت قابلية تلك الحوادث من لوازم ذاته، فحينئذٍ يلزم كون تلك القابلية أزلية لأجل كون تلك الذات أزلية، لكن يمتنع كون قابلية الحوادث أزلية؛ لأن قابلية الحوادث مشروط بإمكان وجود الحوادث، وإمكان وجود الحوادث في الأزل محال، فكان وجود قابليتها في الأزل محالاً. الثالث: أن تلك الصفات لما كانت حادثة الإله الموصوف بصفات الإلهية موجوداً قبل حدوث هذه الصفات، فحينئذٍ تكون هذه الصفات مستغنى عنها في ثبوت الإلهية، فوجب نفيها، فثبت أن تلك الصفات إما أن تكون حادثة أو قديمة، وثبت فسادهما فثبت امتناع وجود الصفة.

الحجة الثالثة: أن تلك الصفات إما أن تكون بحيث تتم الإلهية بدونها أو لا تتم، فإن كان الأول كان وجودها فضلاً زائداً، فوجب نفيها، وإن كان الثاني كان الإله مفتقراً في تحصيل صفة الإلهية إلى شيء آخر، والمحتاج لا يكون إلهاً.

-112-

الحجة الرابعة: ذاته تعالى إما أن تكون كاملة في جميع الصفات المعتبرة في المدائح والكمالات، وإما أن لا تكون، فإن كان الأول فلا حاجة إلى هذه الصفات، وإن كان الثاني كانت تلك الذات ناقصة في ذاتها مستكملة بغيرها، وهذه الذات لا يليق بها صفة الإلهية.

الحجة الخامسة: لما كان الإله هو مجموع الذات والصفات فحينئذٍ يكون الإله مجزأ مبعضاً منقسماً، وذلك بعيد عن العقل؛ لأن كل مركب ممكن لا واجب.

الحجة السادسة: أن الله تعالى كفر النصارى في التثليث، فلا يخلو إما أن يكون لأنهم قالوا بإثبات ذوات ثلاثة، أو لأنهم قالوا بالذات مع الصفات، والأول لا يقوله النصارى، فيمتنع أن يقال إن الله كفرهم بسبب مقالة هم لا يقولون بها، فبقي الثاني، وذلك يوجب أن يكون القول بالصفات كفراً.

فهذه الوجوه يتمسك بها نفاة الصفات، وإذا كان الأمر كذلك فعلى هذا التقدير يمتنع أن يحصل الله تعالى اسم بسبب قيام الصفة الحقيقية به.

دلائل مثبتي الصفات:

المسألة الثانية: في دلائل مثبتي القول بالصفات: اعلم أنه ثبت أن إله العالم يجب أن يكون عالماً قادراً حياً، فنقول يمتنع أن يكون علمه وقدرته نفس تلك الذات، ويدل عليه وجوه: الأول: أنا ندرك تفرقة ضرورية بديهية بين قولنا: ذات الله ذات، وبين قولنا: ذات الله عالمة قادرة، وذلك يدل على أن كونه عالماً قادراً ليس نفس تلك الذات. الثاني: أنه يمكن العلم بكونه موجوداً مع الذهول عن كونه قادراً وعالماً، وكذلك يمكن أن يعلم كونه قادراً مع الذهول عن كونه عالماً، وبالعكس، وذلك يدل على أن كونه عالماً قادراً ليس نفس تلك الذات، الثالث: أن كونه عالماً عام التعلق بالنسبة إلى الواجب والممتنع والممكن، وكونه قادراً ليس عام التعلق بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة، بل هو مختص بالجائز فقط، ولولا الفرق بين العلم وبين القدرة وإلا لما كان كذلك، الرابع: أن كونه تعالى قادراً يؤثر في وجود المقدور، وكونه عالماً لا يؤثر، ولولا المغايرة وإلا لما كان كذلك، الخامس: أن قولنا: موجود، يناقضه قولنا: ليس بموجود، ولا يناقضه قولنا: ليس بعالم، وذلك يدل على أن المنفي بقولنا: ليس بموجود مغاير للمنفي بقولنا: ليس بعالم، وكذا القول في كونه قادراً.

فهذه دلائل واضحة على أنه لا بدّ من الإقرار بوجود الصفات لله تعالى، إلا أنه بقي أن يقال: لم لا يجوز أن تكون هذه الصفات صفات نسبية وإضافية فالمعنى من «كونه قادراً» كونه بحيث يصح منه الإيجاد، وتلك الصحة معللة بذاته، و «كونه عالماً» معناه الشعور والإدراك، وذلك حالة نسبية إضافية، وتلك النسبية الحاصلة معللة بذاته المخصوصة، وهذا تمام الكلام في هذا الباب.

-113-

المسألة الثالثة: أنا إذا قلنا بإثبات الصفات الحقيقية فنقول: الصفة الحقيقية إما أن تكون صفة يلزمها حصول النسبة والإضافة، وهي مثل العلم والقدرة، فإن العلم صفة يلزمها كونها متعلقة بالمعلوم، والقدرة صفة يلزمها صحة تعلقها بإيجاد المقدور، فهذه الصفات وإن كانت حقيقية إلا أنه يلزمها لوازم من باب النسب والإضافات.

أما الصفة الحقيقية العارية عن النسبة والإضافة في حق الله تعالى فليست إلا صفة الحياة فلنبحث عن هذه الصفة فنقول: قالت الفلاسفة: الحي هو الدراك الفعال، إلا أن الدراكية صفة نسبية والفعالية أيضاً كذلك، وحينئذٍ لا تكون الحياة صفة مغايرة للعلم والقدرة على هذا القول، وقال المتكلمون إنها صفة باعتبارها يصح أن يكون عالماً قادراً، واحتجوا عليه بأن الذوات متساوية في الذاتية ومختلفة في هذه الصحة، فلا بدّ وأن تكون تلك الذوات مختلف في قبول صفة الحياة، فوجب أن تكون صحيحة لأجل صفة زائدة، فيقال لهم: قد دللنا على أن ذات الله تعالى مخالفة لسائر الذوات لذاته المخصوصة، فسقط هذا الدليل، وأيضاً الذوات مختلفة في قبول صفة الحياة، فوجب أن يكون صحة قبول الحياة لصفة أخرى، ولزم التسلسل، ولا جواب عنه إلا أن يقال: إن تلك الصحة من لوازم الذات المخصوصة فاذكروا هذا الكلام في صحة العالمية، وقال قوم ثالث: معنى كونه حياً أنه لا يمتنع أن يقدر ويعلم، فهذا عبارة عن نفي الامتناع، ولكن الامتناع عدم، فنفيه يكون عدماً للعدم، فيكون ثبوتاً، فيقال لهم: هذا مسلم، لكن لم لا يجوز أن يكون هذا الثبوت هو تلك الذات المخصوصة؟ فإن قالوا: الدليل عليه أن نعقل تلك الذات مع الشك في كونها حية، فوجب أن يكون كونها حية مغايراً لتلك الذات، فيقال لهم: قد دللنا على أنا لا نعقل ذات الله تعالى تعقلاً ذاتياً، وإنما نتعقل تلك الذات تعقلاً عرضياً، وعند هذا يسقط هذا الدليل، فهذا تمام الكلام في هذا الباب.

اسمه تعالى الحي:

المسألة الرابعة: لفظ الحي وارد في القرآن، قال الله تعالى:

{ ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْحَىُّ ٱلْقَيُّومُ } [البقرة2: 255] وقال:
{ وَعَنَتِ ٱلْوُجُوهُ لِلْحَىّ ٱلْقَيُّومِ } [طه20: 111] وقال:
{ هُوَ ٱلْحَىُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَـٱدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدّينَ } [غافر40: 65]

فإن قيل: الحي معناه الدراك الفعال أو الذي لا يمتنع أن يعلم ويقدر، وهذا القدر ليس فيه مدح عظيم، فما السبب في أن ذكره الله تعالى في معرض المدح العظيم؟ فالجواب إن التمدح لم يحصل بمجرد كونه حياً، بل بمجموع كونه حياً قيوماً. وذلك لأن القيوم هو القائم بإصلاح حال كل ما سواه، وذلك لا يتم إلا بالعلم التام والقدرة التامة، والحي هو الدراك الفعال، فقوله: «الحي» يعني كونه دراكاً فعالاً، وقوله: «القيوم» يعني كونه دراكاً لجميع الممكنات فعالاً لجميع المحدثات والممكنات، فحصل المدح من هذا الوجه.


-114-

الباب الخامس

في الأسماء الدالة على الصفات الإضافية

الاسم الدال على الصفات الإضافية:

اعلم أن الكلام في هذا الباب يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمة عقلية، وهي أن التكوين هل هو نفس المكون أم لا؟ قالت المعتزلة والأشعرية: التكوين نفس المكون، وقال آخرون إنه غيره، واحتج النفاة بوجوده:

الحجة الأولى: أن الصفة المسماة بالتكوين إما أن تؤثر على سبيل الصحة أو على سبيل الوجوب، فإن كان الأول فتلك الصفة هي القدرة لا غير، وإن كان الثاني لزم كونه تعالى موجباً بالذات لا فاعلاً بالا ختيار.

الحجة الثانية: أن تلك الصفة المسماة بالتكوين إن كانت قديمة لزم من قدمها قدم الآثار وإن كانت محدثة افتقر تكوينها، إلى تكوين آخر ولزم التسلسل.

الحجة الثالثة: أن الصفة المسماة بالقدرة إما أن يكون لها صلاحية التأثير عند حصول سائر الشرائط من العلم والإرادة أو ليس لها هذه الصلاحية، فإن كان الأول فحينئذٍ تكون القدرة كافية في خروج الأثر من العدم إلى الوجود، وعلى هذا التقدير فلا حجة إلى إثبات صفة أخرى، وإن كان الثاني فحينئذٍ القدرة لا تكون لها صلاحية التأثير، فوجب أن لا تكون القدرة قدرة، وذلك يوجب التناقض.

واحتج مثبتو قدم الصفة بأن القادر على الفعل قد يوجده وقد لا يوجده، ألا ترى أن الله تعالى قادر على خلق ألف شمس وقمر على هذه السماء إلا أنه ما أوجده، وصحة هذا النفي والإثبات يدل على أن المعقول من كونه موجداً مغاير للمعقول من كونه قادراً، ثم نقول: كونه موجداً إما أن يكون معناه دخول الأثر في الوجود أو يكون أمراً زائداً، والأول باطل لأنا نعلل دخول هذا الأثر في الوجود بكون الفاعل موجداً له، ألا ترى أنه إذا قيل: لم وجد العالم؟ قلنا: لأجل أن الله أوجده، فلو كان كون الموجد موجداً له معناه نفس هذا الأثر لكان تعليل وجود الأثر بالموجدية يقتضي تعليل وجوده نفسه، ولو كان معللاً بنفسه لامتنع إسناده إلى الغير، فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر يقتضي نفي الموجدية، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان باطلاً، فثبت أن تعليل الموجدية بوجود الأثر كلام باطل، فوجب أن يكون كون الموجد موجداً أمراً مغايراً لكون الفاعل قادراً لوجود الأثر، فثبت أن التكوين غير المكون.

إذا عرفت هذا الأصل فنقول: القائلون بأن التكوين نفس المكون قالوا: معنى كونه تعالى خالقاً رازقاً محيياً مميتاً ضاراً نافعاً عبارة عن نسبة مخصوصة وإضافة مخصوصة، وهي تأثير قدرة الله تعالى في حصول هذه الأشياء.

-115-

وأما القائلون بأن التكوين غير المكون، فقالوا معنى كونه خالقاً رازقاً ليس عبارة عن الصفة الإضافية فقط، بل هو عبارة عن صفة حقيقية موصوفة بصفة إضافية.

اعلم أن الصفات الإضافية على أقسام: أحدها: كونه معلوماً مذكوراً مسبحاً ممجداً، فيقال: يا أيها المسبح بكل لسان، يا أيها الممدوح عند كل إنسان، يا أيها المرجوع إليه في كل حين وأوان، ولما كان هذا النوع من الإضافات غير متناهٍ كانت الأسماء الممكنة لله بحسب هذا النوع من الصفات غير متناهية. وثانيها: كونه تعالى فاعلاً للأفعال صفة إضافية محضة بناءً على أن تكوين الأشياء ليس بصفة زائدة، إذا عرفت هذا فالمخبر عنه إما أن يكون مجرد كونه موجداً، أو المخبر عنه كونه موجداً للنوع الفلاني لأجل الحكمة الفلانية، أما القسم الأول ـ وهو اللفظ الدال على مجرد كونه موجداً ـ فههنا ألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة مثل: الموجد، والمحدث، والمكون، والمنشىء، والمبدع، والمخترع، والصانع، والخالق، والفاطر، والبارىء، فهذه ألفاظ عشرة متقاربة، ومع ذلك فالفرق حاصل: أما الاسم الأول ـ وهو الموجد ـ فمعناه المؤثر في الوجود، وأما المحدث فمعناه الذي جعله موجوداً بعد أن كان معدوماً، وهذا أخص من مطلق الإيجاد، وأما المكون فيقرب من أن يكون مرادفاً للموجد، وأما المنشىء فاشتقاقه من النشوء والنماء، وهو الذي يكون قليلاً قليلاً على التدريج، وأما المبدع فهو الذي يكون دفعة واحدة، وهما كنوعين تحت جنس الموجد. والمخترع قريب من المبدع، وأما الصانع فيقرب أن يكون اسماً لمن يأتي بالفعل على سبيل التكلف، وأما الخالق فهو عبارة عن التقدير، وهو في حق الله تعالى يرجع إلى العلم، وأما الفاطر فاشتقاقه من الفطر وهو الشق، ويشبه أن يكون معناه هو الأحداث دفعة، وأما البارىء فهو الذي يحدثه على الوجه الموافق للمصلحة، يقال: برى القلم إذا أصلحه وجعله موافقاً لغرض معين، فهذا بيان هذه الألفاظ الدالة على كونه موجداً على سبيل العموم، أما الألفاظ الدالة على إيجاد شيء بعينه فتكاد أن تكون غير متناهية، ويجب أن نذكر في هذا الباب أمثلة فالمثال الأول: أنه إذا خلق النافع سمي نافعاً، وإذا خلق المؤلم سمي ضاراً، والمثال الثاني: إذا خلق الحياة سمي محيياً، وإذا خلق الموت سمي مميتاً، والمثال الثالث: إذا خصهم بالإكرام سمي براً لطيفاً، وإذا خصهم بالقهر سمي قهاراً جباراً، والمثال الرابع: إذا قلل العطاء سمي قابضاً، وإذا أكثره سمي باسطاً، والمثال الخامس: إن جارى ذوي الذنوب بالعقاب سمي منتقماً وإن ترك ذلك الجزاء سمي عفواً غفوراً رحيماً رحماناً، المثال السادس: إن حصل المنع والإعطاء في الأموال سمي قابضاً باسطاً، وإن حصلا في الجاه والحشمة سمي خافضاً رافعاً.

-116-

إذا عرفت هذا فنقول: إن أقسام مقدورات الله تعالى بحسب الأنواع والأجناس غير متناهية، فلا جرم يمكن أن يحصل لله تعالى أسماء غير متناهية بحسب هذا الاعتبار.

وإذا عرفت هذا فنقول: ههنا دقائق لا بدّ منها: فالدقيقة الأولى: أن مقابل الشيء تارة يكون ضده وتارة يكون عدمه، فقولنا: «المعز المذل» وقولنا: «المحيـي المميت» يتقابلان تقابل الضدين، وأما قولنا: «القابض الباسط، الخافض الرافع» فيقرب من أن يكون تقابلهما تقابل العدم والوجود، لأن القبض عبارة عن أن لا يعطيه المال الكثير، والخفض عبارة أن لا يعطيه الجاه الكبير، أما الإعزاز والإذلال فهما متضادان؛ لأنه فرق بين أن لا يعزه وبين أن يذله والدقيقة الثانية: أنه قد تكون الألفاظ تقرب من أن تكون مترادفة ولكن التأمل التام يدل على الفرق اللطيف، وله أمثلة: المثال الأول: الرؤف الرحيم، يقرب من هذا الباب إلا أن الرؤف أميل إلى جانب إيصال النفع، والرحيم أميل إلى جانب دفع الضرر، والمثال الثاني: الفاتح، والفتاح، والنافع والنفاع، والواهب والوهاب، فالفاتح يشعر بأحداث سبب الخير، والواهب يشعر بإيصال ذلك الخير إليه، والنافع يشعر بإيصال ذلك النفع إليه بقصد أن ينتفع ذلك الشخص به، وإذا وقفت على هذا القانون المعتبر في هذا الباب أمكنك الوقوف على حقائق هذا النوع من الأسماء.

الباب السادس

في الأسماء الواقعة بحسب الصفات السلبية

واعلم أن القرآن مملوء منه، وطريق الضبط فيه أن يقال: ذلك السلب إما أن يكون عائداً إلى الذات، أو إلى الصفات، أو إلى الأفعال، أما السلوب العائدة إلى الذات فهي قولنا إنه تعالى ليس كذا ولا كذا، كقولنا: إنه ليس جوهراً ولا جسماً ولا في المكان ولا في الحيز ولا حالاً ولا محلاً، واعلم أنا قد دللنا على أن ذاته مخالفة لسائر الذوات والصفات لعين ذاته المخصوصة، لكن أنواع الذوات والصفات المغايرة لذاته غير متناهية، فلا جرم يحصل ههنا سلوب غير متناهية، ومن جملتها قوله تعالى:

{ وَٱللَّهُ ٱلْغَنِىُّ وَأَنتُمُ ٱلْفُقَرَاء } [محمد47: 38] وقوله:
{ وَرَبُّكَ ٱلْغَنِىُّ ذُو ٱلرَّحْمَةِ } [الأنعام6: 133]

لأن كونه غنياً أنه لا يحتاج في ذاته ولا في صفاته الحقيقية ولا في صفاته السلبية إلى شيء غيره، ومنه أيضاً قوله:

{ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [الإخلاص112: 3]

وأما السلوب العائدة إلى الصفات فكل صفة تكون من صفات النقائص فإنه يجب تنزيه الله تعالى عنها، فمنها ما يكون من باب أضداد العلم ومنها ما يكون من باب أضداد القدرة، ومنها ما يكون من باب أضداد الاستغناء، ومنها ما يكون من باب أضداد الوحدة: ومنها ما يكون من باب أضداد العلم فأقسام، أحدها: نفي النوم، قال تعالى:

{ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } [البقرة2: 255]

وثانيها: نفي النسيان، قال تعالى:

{ وما كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [مريم19: 64]

وثالثها: نفي الجهل قال تعالى:


-117-

{ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَلاَ فِى ٱلأرْضِ } [سبأ34: 3]

ورابعها: أن علمه ببعض المعلومات لا يمنعه عن العلم بغيره فإنه تعالى لا يشغله شأن عن شأن، وأما السلوب العائدة إلى صفة القدرة فأقسام: أحدها: أنه منزه في أفعاله عن التعب والنصب قال تعالى:

{ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } [قۤ50: 38]

وثانيها: أنه لا يحتاج في فعله إلى الآلات والأدوات وتقدم المادة والمدة، قال تعالى:

{ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [النحل16: 40]

وثالثها: أنه لا تفاوت في قدرته بين فعل الكثير والقليل، قال تعالى:

{ وَمَا أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل16: 77]

ورابعها: نفي انتهاء القدرة وحصول الفقر، قال تعالى:

{ لَّقَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } [آل عمران3: 181]

وأما السلوب العائدة إلى صفة الاستغناء فكقوله:

{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [الأنعام6: 14]
{ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } [المؤمنون23: 88]

وأما السلوب العائدة إلى صفة الوحدة ـ وهو مثل نفي الشركاء والأضداد والأنداد ـ فالقرآن مملوء منه، وأما السلوب العائدة إلى الأفعال ـ وهو أنه لا يفعل كذا وكذا ـ فالقرآن مملوء منه، أحدها: أنه لا يخلق الباطل، قال تعالى:

{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَاء وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَـٰطِلاً ذٰلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [صۤ38: 27]

وقال تعالى حكاية عن المؤمنين:

{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً } [آل عمران3: 191]

وثانيها: أنه لا يخلق اللعب، قال تعالى:

{ وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ *وَمَا خَلَقْنَـٰهُمَا إِلاَّ بِٱلْحَقّ } [الدخان41: 38 ـ 39]

وثالثها: لا يخلق العبث؛ قال تعالى:

{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـٰكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ *فَتَعَـٰلَى ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ } [المؤمنون23: 115، 116]

ورابعها: أنه لا يرضى بالكفر، قال تعالى:

{ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } [الزمر39: 7]

وخامسها: أنه لا يريد الظلم، قال تعالى:

{ وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لّلْعِبَادِ } [غافر40: 31]

وسادسها: أنه لا يحب الفساد، قال تعالى:

{ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَسَادَ } [البقرة2: 205]

وسابعها: أنه لا يعاقب من غير سابقة جرم، قال تعالى:

{ مَّا يَفْعَلُ ٱللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ } [النساء4: 147]

وثامنها: أنه لا ينتفع بطاعات المطيعين ولا يتضرر بمعاصي المذنبين، قال تعالى:

{ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [الإسراء17: 7]

وتاسعها: أنه ليس لأحد عليه اعتراض في أفعاله وأحكامه، قال تعالى:

{ لاَّ يُسْـئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْـئَلُونَ } [الأنبياء21: 23]

وقال تعالى:

{ فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ } [البروج85: 16]

وعاشرها: أنه لا يخلف وعده ووعيده، قال تعالى:

{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ وَمَا أَنَاْ بِظَلَّـٰمٍ لّلْعَبِيدِ } [قۤ50: 29].


إذا عرفت هذا الأصل فنقول: أقسام السلوب بحسب الذات وبحسب الصفات وبحسب الأفعال غير متناهية، فيحصل من هذا الجنس أيضاً أقسام غير متناهية من الأسماء، إذا عرفت هذا الأصل فلنذكر بعض الأسماء المناسبة لهذا الباب: فمنها القدوس، والسلام، ويشبه أن يكون القدوس عبارة عن كون حقيقة ذاته مخالفة للماهيات التي هي نقائص في أنفسها، والسلام عبارة عن كون تلك الذات غير موصوفة بشيء من صفات النقص، فالقدوس سلب عائد إلى الذات، والسلام سلب عائد إلى الصفات، وثانيها: العزيز، وهو الذي لا يوجد له نظير، وثالثها: الغفار، وهو الذي يسقط العقاب عن المذنبين، ورابعها: الحليم، وهو الذي لا يعاجل بالعقوبة، ومع ذلك فإنه لا يمتنع من إيصال الرحمة، وخامسها: الواحد، ومعناه أنه لا يشاركه أحد في حقيقته المخصوصة،، ولا يشاركه أحد في صفة الإلهية، ولا يشاركه أحد في خلق الأرواح والأجسم، ولا يشاركه أحد في نظم العالم وتدبير أحوال العرش وسادسها: الغني: ومعناه كونه منزهاً عن الحاجات والضرورات، وسابعها: الصبور، والفرق بينه وبين الحليم أن الصبور هو الذي لا يعاقب المسيء مع القدرة عليه، والحليم هو الذي يكون كذلك مع أنه لا يمنعه من إيصال نعمته إليه، وقس عليه البواقي، والله الهادي.

-118-

الباب السابع

في الأسماء الدالة على الصفات الحقيقية مع الإضافية، وفيه فصول:

الفصل الأول

في الأسماء الحاصلة بسبب القدرة

الأسماء الدالة على صفة القدرة:

والأسماء الدالة على صفة القدرة كثيرة: الأول: القادر، قال تعالى:

{ قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } [الأنعام6: 65]

وقال في أول سورة القيامة:

{ أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَـٰنُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ *بَلَىٰ قَـٰدِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوّىَ بَنَانَهُ } [القيامة75: 3، 4]

وقال في آخر السورة:

{ أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِىَ ٱلْمَوْتَىٰ } [القيامة75: 40]

الثاني: القدير، قال تعالى:

{ تَبَارَكَ ٱلَّذِى بِيَدِهِ ٱلْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلّ شَىْء قَدِيرٌ } [الملك67: 1]

وهذا اللفظ يفيد المبالغة في وصفه بكونه قادراً، الثالث: المقتدر، قال تعالى:

{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلّ شَىْء مُّقْتَدِرًا } [الكهف18: 45] وقال:
{ فِى مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [القمر54: 55]

الرابع: عبر عن ذاته بصيغة الجمع في هذه الصفة قال تعالى:

{ فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ ٱلْقَـٰدِرُونَ } [المرسلات77: 23]

واعلم أن لفظ «الملك» يفيد القدرة أيضاً بشرط خاص، ثم إن هذا اللفظ جاء في القرآن على وجوه مختلفة: فالأول: المالك، قال الله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } الثاني: الملك، قال تعالى:

{ فَتَعَـٰلَى ٱللَّهُ ٱلْمَلِكُ ٱلْحَقُّ } [طه20: 114] وقال:
{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ } [الحشر59: 23]

وقال: { مَلِكِ ٱلنَّاسِ } واعلم أن ورود لفظ الملك في القرآن أكثر من ورود لفظ المالك، والسبب فيه أن الملك أعلى شأناً من المالك، الثالث: مالك الملك، قال تعالى:

{ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ } [آل عمران3: 26]

الرابع: «المليك» قال تعالى:

{ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ } [القمر54: 55]

الخامس: لفظ الملك، قال تعالى:

{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } [الفرقان25: 26] وقال تعالى:
{ لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } [البقرة2: 107]

واعلم أن لفظ القوة يقرب من لفظ القدرة، وقد جاء هذا اللفظ في القرآن على وجوه مختلفة: الأول: القوي، قال تعالى:

{ إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ } [الحج22: 40]

الثاني: ذو القوة، قال تعالى:


-119-

{ إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } [الذاريات51: 58].

الفصل الثاني

الأسماء الحاصلة بسبب العلم:

في الأسماء الحاصلة بسبب العلم، وفيه ألفاظ: الأول: العلم وما يشتق منه، وفيه وجوه: الأول: إثبات العلم لله تعالى، قال تعالى:

{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْء مّنْ عِلْمِهِ } [البقرة2: 255] وقال تعالى:
{ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } [فصلت41: 47] وقال تعالى:
{ قَدْ أَحَاطَ بِكُلّ شَىْء عِلْمَاً } [الطلاق65: 12] وقال تعالى:
{ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ } [لقمان31: 34]

الاسم الثاني: العالم، قال تعالى:

{ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَـٰدَةِ } [الزمر39: 46]

الثالث: العليم، وهو كثير في القرآن، الرابع: العلام، قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام:

{ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّـٰمُ ٱلْغُيُوبِ } [المائدة5: 116]

الخامس: الأعلم، قال تعالى:

{ ٱللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [الأنعام6: 124]

السادس: صيغة الماضي، قال تعالى:

{ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ } [البقرة2: 187]

السابع: صيغة المستقبل، قال تعالى:

{ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ } [البقرة2: 197] وقال:
{ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [النحل16: 19]

الثامن: لفظ علم من باب التفعيل، قال تعالى:

{ وَعَلَّمَ ءادَمَ ٱلأَسْمَاء كُلَّهَا } [البقرة2: 31]

وقال في حق الملائكة

{ سُبْحَـٰنَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } [البقرة2: 32] وقال:
{ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } [النساء4: 113] وقال:
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ *عَلَّمَ ٱلْقُرْءانَ } [الرحمن55: 1، 2].


واعلم أنه لا يجوز أن يقال إن الله معلم مع كثرة هذه الألفاظ لأن لفظ المعلم مشعر بنوع نقيصة، التاسع: لا يجوز إطلاق لفظ العلامة على الله تعالى؛ لأنها وإن أفادت المبالغة لكنها تفيد أن هذه المبالغة إنما حصلت بالكد والعناء، وذلك في حق الله تعالى محال.

اللفظ الثاني: من ألفاظ هذا الباب لفظ الخبر والخبرة، وهو كالمرادف للعلم، حتى قال بعضهم في حد العلم: إنه الخبر، إذا عرفت هذا فنقول: ورد لفظ «الخبير» في حق الله تعالى في حد العلم: إنه الخبر، إذا عرفت هذا فنقول: ورد لفظ «الخبير» في حق الله تعالى كثيراً في القرآن، وذلك أيضاً يدل، على العلم.

النوع الثالث من الألفاظ: الشهود والمشاهدة، ومنه «الشهيد» في حق الله تعالى، إذا فسرناه بكونه مشاهداً لها عالماً بها، أما إذا فسرناه بالشهادة كان من صفة الكلام.

النوع الرابع: الحكمة، وهذه اللفظة قد يراد بها العلم، وقد يراد بها أيضاً ترك ما لا ينبغي وفعل ما ينبغي.

النوع الخامس: اللطيف، وقد يراد به العلم بالدقائق، وقد يراد به إيصال المنافع إلى العباد بطريق خفية عجيبة.

الفصل الثالث

الأَسماء الحاصلة بصفة الكلام:

في الأسماء الحاصلة بسبب صفة الكلام، وما يجري مجراه: ـ

اللفظ الأول: الكلام، وفيه وجوه: الأول: لفظ الكلام، قال تعالى:

{ وَإِنْ أَحَدٌ مّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [التوبة9: 6]

الثاني: صيغة الماضي من هذا اللفظ، قال تعالى:

{ وَكَلَّمَ ٱللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيماً } [النساء4: 164] وقال:
{ وَلَمَّا جَاء مُوسَىٰ لِمِيقَـٰتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [الأعراف7: 143]

الثالث: صيغة المستقبل، قال تعالى:


-120-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #18  
قديم 12-31-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 121-130 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 121-130 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } [الشورى42: 51].

اللفظ الثاني: القول، وفيه وجوه: الأول: صيغة الماضي، قال تعالى:

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ } [البقرة2: 30]

ونظائره كثيرة في القرآن، الثاني: صيغة المستقبل، قال تعالى:

{ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ } [البقرة2: 68]

الثالث: القيل والقول، قال تعالى:

{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } [النساء4: 122] وقال تعالى:
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ } [قۤ50: 29]


اللفظ الثالث: الأمر، قال تعالى:

{ لِلَّهِ ٱلأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [الروم30: 4] وقال:
{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأمْرُ } [الأعراف7: 54]

وقال حكاية عن موسى عليه السلام

{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } [البقرة2: 67].


اللفظ الرابع: الوعد، قال تعالى:

{ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءانِ } [التوبة9: 111] وقال تعالى:
{ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [يونس10: 4].


اللفظ الخامس: الوحي، قال تعالى:

{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } [الشورى42: 51] وقال:
{ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ } [النجم53: 10].


اللفظ السادس: كونه تعالى شاكراً لعباده، قال تعالى:

{ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [لإسرء17: 19]
{ وَكَانَ ٱللَّهُ شَـٰكِراً عَلِيماً } [النساء4: 147].


الفصل الرابع

الإرادة وما بمعناها:

في الإرادة وما يقرب منها: ـ

فاللفظ الأول: الإرادة، قال تعالى:

{ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [البقرة2: 185].


اللفظ الثاني: الرضا، قال تعالى:

{ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } [الزمر39: 7] وقال:
{ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } [الزمر39: 7] وقال:
{ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } [الفتح48: 18]

وقال في صفة السابقين الأولين

{ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [المائدة5: 119]

وقال حكاية عن موسى

{ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىٰ } [طه20: 84].


اللفظ االثالث: المحبة، قال:

{ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة5: 54] وقال:
{ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة2: 222].


اللفظ الرابع: الكراهة، قال تعالى:

{ كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا } [الإسراء17: 38] وقال:
{ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } [التوبة9: 46]

قالت الأشعرية: الكراهة عبارة عن أن يريد أن لا يفعل وقالت المعتزلة: بل هي صفة أخرى سوى الإرادة، والله أعلم.


الفصل الخامس

السمع والبصر ومشتقاتها:

في السمع والبصر: قال تعالى:

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى42: 11] وقال تعالى:
{ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـٰتِنَا إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } [الإسراء17: 1] وقال تعالى:
{ إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } [طه20: 46] وقال:
{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [مريم19: 42] وقال تعالى:
{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأبْصَـٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأبْصَـٰرَ } [الأنعام6: 103].


فهذا جملة الكلام في الصفات الحقيقية مع الإضافية.

الفصل السادس

في الصفات الإضافية مع السلبية

اعلم أن «الأول» هو الذي يكون سابقاً على غيره، ولا يسبقه غيره، فكونه سابقاً على غيره إضافة، وقولنا أنه لا يسبقه غيره فهو سلب، فلفظ «الأول» يفيد حالة متركبة من إضافة وسلب، «والآخر» هو الذي يبقى بعد غيره، ولا يبقى بعده غيره، والحال فيه كما قدم، أما لفظ «الظاهر» فهو إضافة محضة، لأن معناه كونه ظاهراً بحسب الدلائل، وأما لفظ «الباطن» فهو سلب محض، لأن معناه كونه خفياً بحسب الماهية.

-121-

ومن الأسماء الدالة على مجموع إضافة وسلب «القيوم» لأن هذا اللفظ يدل على المبالغة في هذا المعنى، وهذه المبالغة تحصل عند اجتماع أمرين: أحدهما: أن لا يكون محتاجاً إلى شيء سواه ألبتة، وذلك لا يحصل إلا إذا كان واجب الوجود في ذاته وفي جملة صفاته، والثاني: أن يكون كل ما سواه محتاجاً إليه في ذواتها وفي جملة صفاتها، وذلك بأن يكون مبدأ لكل ما سواه، فالأول سلب، والثاني إضافة ومجموعهما هو القيوم.

الفصل السابع

في الأسماء الدالة على الذات والصفات

الحقيقية والإضافية والسلبية

فمنها قولنا: «الإله» وهذا الاسم يفيد الكل؛ لأنه يدل على كونه موجوداً، وعلى كيفيات ذلك الوجود، أعني كونه أزلياً أبدياً واجب الوجود لذاته، وعلى الصفات السلبية الدالة على التنزيه، وعلى الصفات الإضافية الدالة على الإيجاد والتكوين، واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يطلق على غير الله تعالى؟ أما كفار قريش فكانوا يطلقونه في حق الأصنام، وهل يجوز ذلك في دين الإسلام؟ المشهور أنه لا يجوز، وقال بعضهم: إنه يجوز لأنه ورد في بعض الأذكار: يا إله الآلهة، وهو بعيد، وأما قولنا: «الله» فسيأتي بيان أنه اسم علم لله تعالى، فهل يدل هذا الاسم على هذه الصفات؟ فنقول: لا شك أن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات، والمعنى أنه تعالى لو كان بحيث يصح أن يشار إليه لكان هذا الاسم قائماً مقام تلك الإشارة، ثم اختلفوا في أن الإشارة إلى الذات المخصوصة هل تتناول الصفات القائمة بتلك الذات؟ فإن قلنا إنها تتناول الصفات كان قولنا: «الله» دليلاً على جملة الصفات، فإن قالوا: الإشارة لا تتناول الصفات السلبية فوجب أن لا يدل عليها لفظ الله قلنا: الإشارة في حق الله إشارة عقلية منزهة عن العلائق الحسية، والإشارة العقلية قد تتناول السلوب.

الفصل الثامن

في الأسماء التي اختلف العقلاء فيها أنها هل هي من

أسماء الذات أو من أسماء الصفات

الأسماء المختلف في مرجعها:

هذا البحث إنما ظهر من المنازعة القائمة بين أهل التشبيه وأهل التنزيه، وذلك لأن أهل التشبيه يقولون: الموجود إما أن يكون متحيزاً، وإما أن يكون حالاً في المتحيز أما الذي لا يكون متحيزاً ولا حالاً في المتحيز ـ فكان خارجاً عن القسمين ـ فذاك محض العدم، وأما أهل التوحيد والتقديس فيقولون: أما المتحيز فهو منقسم، وكل منقسم فهو محتاج، فكل متحيز هو محتاج، فما لا يكون محتاجاً امتنع أن يكون متحيزاً، وأما الحال في المتحيز فهو أولى بالاحتياج، فواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون متحيزاً أو حالاً في المتحيز.

إذا عرفت هذا الأصل فنقول: ههنا ألفاظ ظواهرها مشعرة بالجسمية والحصول في الحيز والمكان: فمنها «العظيم» وذلك لأن أهل التشبيه قالوا: معناه أن ذاته أعظم في الحجمية والمقدار من العرش ومن كل ما تحت العرش، ومنها «الكبير» وما يشتق منه، وهو لفظ «الأكبر» ولفظ «الكبرياء» ولفظ «المتكبر».

-122-

واعلم أني ما رأيت أحداً من المحققين بيَّن الفرق بينهما، إلا أن الفرق حاصل في التحقيق من وجوه: الأول: أنه جاء في الأخبار الإلهية أنه تعالى يقول: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فجعل الكبرياء قائماً مقام الرداء، والعظمة قائمة مقام الإزار. ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الإزار، فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع حالاً من صفة العظمة. والثاني: أن الشريعة فرقت بين الحالين، فإن المعتاد في دين الإسلام أن يقال في تحريمه الصلاة «الله أكبر» ولم يقل أحد «الله أعظم» ولولا التفاوت لما حصلت هذه التفرقة. الثالث: أن الألفاظ المشتقة من الكبير مذكورة في حق الله تعالى كالأكبر والمتكبر بخلاف العظيم فإن لفظ المتعظم غير مذكور في حق الله.

واعلم أن الله تعالى أقام كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى، فقال:

{ وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ } [البقرة2: 255]

وقال في آية أخرى:

{ حَتَّىٰ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ } [سبأ34: 23]

إذا عرفت هذا فالمباحث السابقة مشعرة بالفرق بين العظيم وبين الكبير، وهاتان الآيتان مشعرتان بأنه لا فرق بينهما، فهذه العقدة يجب البحث عنها فنقول ومن الله الإرشاد والتعليم: يشبه أن يكون الكبير في ذاته كبيراً سواء استكبره غيره أم لا، وسواء عرف هذه الصفة أحد أو لا، وأما العظمة فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية عرضية والذاتي أعلى وأشرف من العرضي، فهذا هو الممكن في هذا المقام والعلم عند الله.


ومن الأسماء المشعرة بالجسمية والجهة الألفاظ المشتقة من «العلو» فمنها قوله تعالى: { ٱلْعَلِىُّ } ومنها قوله:

{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأعْلَىٰ } [الأعلى87: 1]

ومنها المتعالى ومنها اللفظ المذكور عند الكل على سبيل الأطباق وهو أنهم كلما ذكروه أردفوا ذلك الذكر بقولهم: «تعالى» لقوله تعالى في أول سورة النحل:

{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [االنحل16: 1]

إذا عرفت هذا فالقائلون بأنه في الجهة والمكان قالوا: معنى علوه وتعاليه كونه موجوداً في جهة فوق، ثم هؤلاء منهم من قال إنه جالس فوق العرش، ومنهم من قال: إنه مباين للعرش ببعد متناه، ومنهم من قال: إنه مباين للعرش ببعد غير متناه، وكيف كان فإن المشبهة حملوا لفظ العظيم والكبير على الجسمية والمقدار وحملوا لفظ العلي على العلو في المكان والجهة، وأما أهل التنزيه والتقديس فإنهم حملوا العظيم والكبير على وجوه لا تفيد الجسمية والمقدار: فأحدها: أنه عظيم بحسب مدة الوجود، وذلك لأنه أزلي أبدي، وذلك هو نهاية العظمة والكبرياء في الوجود والبقاء والدوام، وثانيها: أنه عظيم في العلم والعمل، وثالثها: أنه عظيم في الرحمة والحكمة، ورابعها: أنه عظيم في كمال القدرة، وأما العلو فأهل التنزيه يحملون هذا اللفظ على كونه منزهاً عن صفات النقائص والحاجات.


-123-

إذا عرفت هذا فلفظ العظيم والكبير عند المشبهة من أسماء الذات، وعند أهل التوحيد من أسماء الصفات، وأما لفظ العلي فعند الكل من أسماء الصفات، إلا أنه عند المشبهة يفيد الحصول في الحيز الذي هو العلو الأعلى، وعند أهل التوحيد يفيد كونه منزهاً عن كل ما لا يليق بالإلهية، فهذا تمام البحث في هذا الباب.

الفصل التاسع

في الأسماء الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة

الأسماء المضمرة:

اعلم أن الأسماء المضمرة ثلاثة: أنا، وأنت، وهو، وأعرف الأقسام الثلاثة قولنا: «أنا»أن هذا اللفظ لفظ يشير به كل أحد إلى نفسه، وأعرف المعارف عند كل أحد نفسه، وأوسط هذه الأقسام قولنا: «أنت» لأن هذا خطاب للغير بشرط كونه حاضراً، فلأجل كونه خطاباً للغير يكون دون قوله أنا، ولأجل أن الشرط فيه كون ذلك المخاطب حاضراً يكون أعلى من قوله: «هو» فثبت أن أعلى الأقسام هو قوله: «أنا» وأوسطها «أنت» وأدناها «هو» وكلمة التوحيد وردت بكل واحدة من هذه الألفاظ، أما لفظ «أنا» فقال في أول سورة النحل

{ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } [النحل16: 2]

وفي سورة طه

{ إِنَّنِى أَنَا للَّهِ لاَ إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } [طه20: 14]

وأما لفظ أنت فقد جاء في قوله:

{ فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ } [الأنبياء21: 87]

وأما لفظ هو فقد جاء كثيراً في القرآن أولها في سورة البقرة في قوله:

{ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } [البقرة2: 163]

وآخرها في سورة المزمل وهو قوله:

{ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [المزمل73: 9]

وأما ورود هذه الكلمة مقروناً باسم آخر سوى هذه الأربعة فهو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون أنه قال:

{ آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو اسرائيل } [يونس10: 90]

ثم بين الله تعالى أن تلك الكلمة ما قبلت منه.


إذا عرفت هذا فلنذكر أحكام هذه الأقسام فنقول: أما قوله: { لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } فهذا الكلام لا يجوز أن يتكلم به أحد إلا الله أو من يذكره على سبيل الحكاية عن الله، لأن تلك الكلمة تقتضي إثبات الإلهية لذلك القائل، وذلك لا يليق إلا بالله سبحانه، واعلم أن معرفة هذه الكلمة مشروطة بمعرفة قوله: «أنا» وتلك المعرفة على سبيل التمام والكمال لا تحصل إلا للحق سبحانه وتعالى؛ لأن علم كل أحد بذاته المخصوصة أكمل من علم غيره به، لا سيما في حق الحق تعالى، فثبت أن قوله: «لا إله إلا أنا» لم يحصل العلم به على سبيل الكمال إلا للحق تعالى، وأما الدرجة الثانية وهي قوله: «لا إله إلا أنت» فهذا يصح ذكره من العبد لكن بشرط أن يكون حاضراً لا غائباً، لكن هذه الحالة إنما اتفق حصولها ليونس عليه السلام عند غيبته عن جميع حظوظ النفس، وهذا تنبيه على أن الإنسان ما لم يصر غائباً عن كل الحظوظ لا يصل إلى مقام المشاهدة، وأما الدرجة الثالثة وهي قوله: «لا إله إلا هو» فهذا يصح من الغائبين.

-124-

واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد، وكمال التجلي ونقصانه، وكل درجة ناقصة من درجات الحضور فهي غيبة بالنسبة إلى الدرجة الكاملة، ولما كانت درجات الحضور غير متناهية كانت مراتب الكمالات والنقصانات غير متناهية، فكانت درجات الحضور والغيبة غير متناهية، فكل من صدق عليه أنه حاضر فباعتبار آخر يصدق عليه أنه غائب، وبالعكس وعن هذا قال الشاعر: ـ

أبا غائباً حاضراً في الفؤادسلام على الغائب الحاضر


ويحكى أن الشبلي لما قربت وفاته قال بعض الحاضرين: قل لا إله إلا الله، فقال: ـ

كل بيت أنت حاضرهغير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنايوم تأتي الناس بالحجج


أسرار من التصوف في لفظ «هو»:

واعلم أن لفظ «هو» فيه أسرار عجيبة وأحوال عالية، فبعضها يمكن شرحه وتقريره وبيانه، وبعضها لا يمكن، قال مصنف الكتاب: وأنا بتوفيق الله كتبت أسراراً لطيفة، إلا أني كلما أقابل تلك الكلمات المكتوبة بما أجده في القلب من البهجة والسعادة عند ذكر كلمة «هو» أجد المكتوب بالنسبة إلى تلك الأحوال المشاهدة حقيراً، فعند هذا عرفت أن لهذه الكلمة تأثيراً عجيباً في القلب لا يصل البيان إليه، ولا ينتهي الشرح إليه، فلنكتب ما يمكن ذكره فنقول: فيه أسرار: الأول: أن الرجل إذا قال: «يا هو» فكأنه يقول: من أنا حتى أعرفك، ومن أنا حتى أكون مخاطباً لك، وما للتراب ورب الأرباب، وأي مناسبة بين المتولد عن النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم؟ فأنت أعلى من جميع المناسبات وأنت مقدس عن علائق العقول والخيالات، فلهذا السبب خاطبة العبد بخطاب الغائبين فقال: يا هو.

والفائدة الثانية: أن هذا اللفظ كما دل على إقرار العبد على نفسه بالدناءة والعدم ففيه أيضاً دلالة على أنه أقر بأن كل ما سوى الله تعالى فهو محض العدم، لأن القائل إذا قال: «يا هو» فلو حصل في الوجود شيئان لكان قولنا: «هو» صالحاً لهما جميعاً، فلا يتعين واحد منهما بسبب قوله: «هو» فلما قال: (يا هو) فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه عدم محض ونفي صرف، كما قال تعالى:

-125-

{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص28: 88]

وهذان المقامان في الفناء عن كل ما سوى الله مقامان في غاية الجلال، ولا يحصلان إلا عند مواظبة العبد على أن يذكر الله بقوله: يا هو.

والفائدة الثالثة: أن العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته لم يكن مستغرقاً في معرفة الله تعالى؛ لأنه إذا قال: «يا رحمن» فحينئذٍ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها فيكون طالباً للحصة، وكذلك إذا قال: (يا كريم، يا محسن، يا غفار، يا وهاب، يا فتاح) وإذا قال: (يا ملك) فحينئذٍ يتذكر ملكه وملكوته وما فيه من أقسام النعم فيميل طبعه إليه فيطلب شيئاً منها، وقس عليه سائر الأسماء، أما إذا قال: (يا هو) فإنه يعرف أنه هو، وهذا الذكر لا يدل على شيء غيره ألبتة، فحينئذٍ يحصل في قلبه نور ذكره، ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله، وهناك يحصل في قلبه النور التام والكشف الكامل.

والفائدة الرابعة: أن جميع الصفات المعلومة عند الخلق: إما صفات الجلال، وإما صفات الإكرام، أما صفات الجلال فهي قولنا ليس بجسم ولا بجوهر ولا عرض ولا في المكان ولا في المحل، وهذا فيه دقيقة؛ لأن من خاطب السلطان فقال: أنت لست أعمى ولست أصم ولست كذا ولا كذا ويعد أنواع المعايب والنقصانات فإنه يستوجب الزجر والحجر والتأديب، ويقال: إن مخاطبته بنفي هذه الأشياء عنه إساءة في الأدب، وأما صفات الإكرام فهي كونه خالقاً للمخلوقات مرتباً لها على النظم الأكمل، وهذا أيضاً فيه دقيقة من وجهين: الأول: لا شك أن كمال الخالق أعلى وأجل من كمال المخلوق بمراتب لا نهاية لها، فإذا شرحنا نعوت كمال الله وصفات جلاله بكونه خالقاً لهذه المخلوقات فقد جعلنا كمال هذه المخلوقات كالشرح والبيان لكمال جلال الخالق، وذلك يقتضي تعريف الكامل المتعالى بطريق في غاية الخسة والدناءة،وذلك سوء أدب، والثاني: أن الرجل إذا أخذ يمدح السلطان القاهر بأنه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز أو قطرة ماء فإنه يستوجب الزجر والحجر، ومعلوم أن نسبة جميع عالم المخلوقات من العرش إلى آخر الخلاء الذي لا نهاية له إلى ما في خزائن قدرة الله أقل من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا، فإذا كان ذلك سوء أدب فهذا أولى أن يكون سوء أدب فثبت أن مدح الله وثناءه بالطريقين المذكورين فيه هذه الاعتراضات، إلا أن ههنا سبباً يرخص في ذكر هذه المدائح، وهو أن النفس صارت مستغرقة في عالم الحس والخيال فالإنسان إذا أراد جذبها إلى عتبة عالم القدس احتاج إلى أن ينبهها على كمال الحضرة المقدسة، ولا سبيل له إلى معرفة كمال الله وجلاله إلا بهذين الطريقين، أعني ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام فيواظب على هذين النوعين حتى تعرض النفس عن عالم الحس وتألف الوقوف على عتبة القدس فإذا حصلت هذه الحالة فعند ذلك يتبنه لما في ذينك النوعين من الذكر من الاعتراضات المذكورة وعند ذلك يترك تلك الأذكار ويقول: (يا هو) كأن العبد يقول: أجل حضرتك أن أمدحك وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك أو بإسناد كمالات المخلوقات إليك، فإن كمالك أعلى وجلالك أعظم، بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي، ولا أخاطبك أيضاً بلفظة (أنت) لأن تلك اللفظة تفيد التيه والكبر حيث تقول الروح إني قد بلغت مبلغاً صرت كالحاضر في حضرة واجب الوجود، ولكني لا أزيد على قولي (هو) ليكون إقراراً بأنه هو الممدوح لذاته بذاته، ويكون إقراراً بأن حضرته أعلى وأجل من أن يناسبه حضور المخلوقات، فهذه الكلمة الواحدة تنبه على هذه الأسرار في مقامات التجلي والمكاشفات، فلا جرم كان هذا الذكر أشرف الأذكار لكن بشرط التنبيه لهذه الأسرار.

-126-

الفائدة الخامسة: في هذا الذكر: أن المواظبة على هذا الذكر تفيد الشوق إلى الله، والشوق إلى الله ألذ المقامات وأكثرها بهجة وسعادة، إنما قلنا أن المواظبة على هذا الذكر تورث الشوق إلى الله وذلك لأن كلمة (هو) ضمير الغائب فالعبد إذا ذكر هذه الكلمة علم أنه غائب عن الحق ثم يعلم أن هذه الغيبة ليست بسبب المكان والجهة، وإنما كانت بسبب أنه موصوف بنقصانات الحدوث والإمكان، ومعيوب بعيب الكون في إحاطة المكان والزمان، فإذا تنبه العقل لهذه الدقيقة وعلم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدثات فعند هذا يعلم أن كل المحدثات والإبداعيات غائبة عن عتبة علو الحق سبحانه وتعالى، وعرف أن هذه الغيبة إنما حصلت بسبب المفارقة في النقصان والكمال والحاجة والاستغناء، فعند هذا يعتقد أن الحق موصوف بأنواع من الكمال متعالية عن مشابهة هذه هذه الكمالات ومقدسة عن مناسبة هذه المحادثات، واعتقد أن تصوره غائب عن العقل والفكر والذكر، فصارت تلك الكمالات مشعوراً بها من وجه دون وجه، والشعور بها من بعض الوجوه يشوق إلى الشعور بدرجاتها ومراتبها، وإذا كان لا نهاية لتلك المراتب والدرجات فكذلك لا نهاية لمراتب هذا الشوق، وكلما كان وصول العبد إلى مرتبة أعلى مما كان، أسهل كان شوقه إلى الترقي عن تلك الدرجة أقوى وأكمل، فثبت أن لفظ «هو» يفيد الشوق إلى الله تعالى، وإنما قلنا إن الشوق إلى الله أعظم المقامات، وذلك لأن الشوق يفيد حصول آلام ولذات متوالية متعاقبة، لأن بقدر ما يصل يلتذ وبقدر ما يمتنع وصوله إليه يتألم، والشعور باللذة حال زوال الألم يوجب مزيد الالتذاذ والإبتهاج والسرور، وذلك يدل على أن مقام الشوق إلى الله أعظم المقامات، فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة «هو» تورث الشوق إلى الله تعالى وثبت أن الشوق إلى الله أعظم المقامات وأكثرها بهجة وسعادة فيلزم أن يقال: المواظبة على ذكر هذه الكلمة تفيد أعلى المقامات وأسنى الدرجات.

-127-

الفائدة السادسة: في شرح جلالة هذا الذكر: واعلم أن المقصود لا يتم إلا بذكر مقدمتين: المقدمة الأولى: أن العلم على قسمين: تصور، وتصديق، أما التصور فهو أن تحصل في النفس صورة من غير أن تحكم النفس عليها بحكم ألبتة لا بحكم وجودي ولا بحكم عدمي، أما التصديق فهو أن يحصل في النفس صورة مخصوصة، ثم أن النفس تحكم عليها إما بوجود شيء أو عدمه إذا عرفت هذا فنقول: التصور مقام التوحيد، وأما التصديق فإنه مقام التكثير. المقدمة الثانية: أن التصور على قسمين: تصور يتمكن العقل من التصرف فيه، وتصور لا يمكنه التصرف فيه: أما القسم الأول: فهو تصور الماهيات المركبة، فإنه لا يمكنه تصور الماهيات المركبة إلا بواسطة استحضار ماهيات أجزاء ذلك المركب، وهذا التصرف عمل وفكر، وتصرف من بعض الوجوه، وأما القسم الثاني: فهو تصور الماهيات البسيطة المنزهة عن جميع جهات التركيبات فإن الإنسان لا يمكنه أن يعمل عملاً يتوسل به إلى استحضار تلك الماهية، فثبت بما ذكرنا أن التصديق يجري مجرى التكثير بالنسبة إلى التصور، وأن التصور توحيد بالنسبة إلى التصديق وثبت أيضاً أن تصور الماهية البسيطة هو النهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة، وإذا عرفت هذا فنقول: قولنا في الحق سبحانه وتعالى: «يا هو» هذاتصور محض خالٍ عن التصديق، ثم إن هذا التصور تصور لحقيقة منزهة عن جميع جهات التركيب والكثرة، فكان قولنا: «يا هو» نهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة، وهو أعظم المقامات.

الفائدة السابعة: أن تعريف الشيء إما أن يكون بنفسه، أو بالأجزاء الداخلة فيه، أو بالأمور الخارجة عنه، أما القسم الأول ـ وهو تعريفه بنفسه ـ فهو محال؛ لأن المعرف سابق على المعرف، فتعريف الشيء بنفسه يقتضي تقدم العلم به على العلم به، وذلك محال، وأما القسم الثاني ـ وهو تعريفه بالأمور الداخلة فيه ـ فهذا في حق الحق محال؛ لأن هذا إنما يجري في الماهية المركبة، وذلك في حق الحق محال، وأما القسم الثالث ـ وهو تعريفه بالأمور الخارجة عنه ـ فهذا أيضاً باطل محال؛ لأن أحوال الخلق لا يناسب شيء منها شيئاً من أحوال القديم الواجب لذاته؛ لأنه تعالى مخالف بذاته المخصوصة وبهويته المعينة لكل ما سواه ولما كان كذلك امتنع أن تكون أحوال الخلق كاشفة عن ماهية الله تعالى وحقيقته المخصوصة فإذا كان كذلك فقد انسدت أبواب التعريفات بالنسبة إلى هويته المخصوصة وماهيته المعينة، فلم يبق طريق إليه إلا من جهة واحدة، وهو أن يوجه الإنسان حدقة عقله وروحه إلى مطلع نور تلك الهوية على رجاء أنه ربما أشرق ذلك النور حال ما كانت حدقة عقله متوجهة إليها فيستسعد بمطالعة ذلك النور، فقول الذاكر «يا هو» توجيه لحدقة العقل والروح إلى الحضرة القدسية على رجاء أنه ربما حصلت له تلك السعادة.

-128-

الفائدة الثامنة: أن الرجل إذا دخل على الملك المهيب والسلطان القاهر ووقف بعقله على كمال تلك المهابة وعلى جلال تلك السلطنة فقد يصير بحيث تستولي عليه تلك المهابة وتلك السلطنة فيصير غافلاً عن كل ما سواه، حتى أنه ربما كان جائعاً فينسى جوعه، وربما كان به ألم شديد فينسى ذلك الألم في تلك الحالة، وربما رأى أباه أو ابنه في تلك الحالة ولا يعرفهما، وكل ذلك لأن استيلاء تلك المهابة عليه أذهله عن الشعور بغيره، فكذلك العبد إذا قال: «يا هو» وتجلى لعقله وروحه ذرة من نور جلال تلك الهوية وجب أن يستولي على قلبه الدهشة وعلى روحه الحيرة، وعلى فكرة الغفلة، فيصير غائباً عن كل ما سوى تلك الهوية، معزولاً عن الإلتفات إلى شيء سواها، وحينئذٍ لا يبقى معه في تلك الحالة إلا أن يقول بعقله: «هو» وبلسانه «هو» فإذا قال العبد «هو» وواظب على هذا الذكر فهذا منه تشبه بتلك الحالة على رجاء أنه ربما وصل إلى تلك الحالة، فنسأل الله تعالى الكريم أن يسعدنا بها.

الفائدة التاسعة: من فوائد هذا الذكر العالي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من جعل همومه هماً واحداً كفاه الله هموم الدنيا والآخرة " فكأن العبد يقول: همومي في الدنيا والآخرة غير متناهية، والحاجات التي هي غير متناهية لا يقدر عليها إلا الموصوف بقدرة غير متناهية، ورحمة غير متناهية، وحكمة غير متناهية، فعلى هذا أنا لا أقدر على دفع حاجاتي ولا على تحصيل مهماتي، بل ليس القادر على دفع تلك الحاجات وعلى تحصيل تلك المهمات إلا الله سبحانه وتعالى، فأنا أجعل همي مشغولاً بذكره فقط، ولساني مشغولاً بذكره فقط فإذا فعلت ذلك فهو برحمته يكفيني مهمات الدنيا والآخرة.

الفائدة العاشرة: أن العقل لا يمكنه الاشتغال بشيء حالة الاستغراق في العلم بشيء آخر، فإذا وجه فكره إلى شيء يبقى معزولاً عن غيره، فكأن العبد يقول: كلما استحضرت في ذهني العلم بشيء فاتني في ذلك الوقت العلم بغيره، فإذا كان هذا لازماً فالأولى أن أجعل قلبي وفكري مشغولاً بمعرفة أشرف المعلومات، وأجعل لساني مشغولاً بذكر أشرف المذكورات؛ فلهذا السبب أواظب على قوله: «يا هو».

الفائدة الحادية عشرة: أن الذكر أشرف المقامات، قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: " إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه "

-129-

وإذا ثبت هذا فنقول: أفضل الأذكار ذكر الله بالثناء الخالي عن السؤال، قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: " من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، " إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: العبد فقير محتاج، والفقير المحتاج إذا نادى مخدومه بخطاب يناسب الطلب والسؤال كان ذلك محمولاً على السؤال، فإذا قال الفقير للغني «يا كريم» كان معناه أكرم وإذا قال له: «يا نفاع» كان معناه طلب النفع، وإذا قال: «يا رحمن» كان معناه ارحم، فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال، وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خالياً عن السؤال والطلب، أما إذا قال: «يا هو» كان معناه خالياً عن الإشعار بالسؤال والطلب، فوجب أن يكون قولنا: «هو» أعظم الأذكار.

ولنختم هذا الفصل بذكر شريف رأيته في بعض الكتب: يا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا إله إلا هو، يا أزل، يا أبد، يا دهر، يا ديهار، يا ديهور، يا من هو الحي الذي لا يموت.

ومن لطائف هذا الفصل أن الشيخ الغزالي رحمة الله عليه كان يقول: «لا إله إلا الله» توحيد العوام، «ولا إله إلا هو» توحيد الخواص، ولقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان: أما القرآن فإنه تعالى قال: { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءاخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } ثم قال بعده:

{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص28: 88]

معناه إلا هو، فذكر قوله إلا هو بعد قوله لا إله فدل ذلك على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة، وأما البرهان فهو أن من الناس من قال: إن تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها، بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها، فقلت: فالوجود أيضاً ماهية، فوجب أن لا يكون الوجود واقعاً بتأثيره، فإن التزموا ذلك وقالوا الواقع بتأثير الفاعل موصوفية الماهية بالوجود فنقول: تلك الموصوفية إن لم تكن مفهوماً مغايراً للماهية والوجود امتنع إسنادها إلى الفاعل، وإن كانت مفهوماً مغايراً فذلك المفهوم المغاير لا بدّ وأن يكون له ماهية؛ وحينئذٍ يعود الكلام، فثبت أن القول بأن المؤثر لا تأثير له في الماهيات ينفي التأثير والمؤثر، وينفي الصنع والصانع بالكلية، وذلك باطل فثبت أن المؤثر يؤثر في الماهيات، فكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير، فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة، فبقدرته صارت الماهيات ماهيات، وصارت الحقائق حقائق وقبل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجود ولا حقيقة ولا ثبوت، وعند هذا يظهر صدق قولنا: «لا هو إلا هو» أي: لا تقرر لشيء من الماهيات ولا تخصص لشيء من الحقائق إلا بتقريره وتخصيصه، فثبت أنه «لا هو إلا هو»،والله أعلم.


-130-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #19  
قديم 12-31-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 131-140 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 131-140 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


الباب الثامن

في بقية المباحث عن أسماء الله تعالى، وفيه مسائل

هل أسماؤه تعالى توقيفية:

المسألة الأولى: اختلف العلماء في أن أسماء الله تعالى توقيفية أم اصطلاحية، قال بعضهم لا يجوز إطلاق شيء من الأسماء والصفات على الله تعالى إلا إذا كان وارداً في القرآن والأحاديث الصحيحة، وقال آخرون: كل لفظ دل على معنى يليق بجلال الله وصفاته فهو جائز، وإلا فلا، وقال الشيخ الغزالي رحمة الله عليه: الاسم غير، والصفة غير، فاسمي محمد، واسمك أبو بكر، فهذا من باب الأسماء، وأما الصفات فمثل وصف هذا الإنسان بكونه طويلاً فقيهاً كذا وكذا، إذا عرفت هذا الفرق فيقال: أما إطلاق الاسم على الله فلا يجوز إلا عند وروده في القرآن والخبر، وأما الصفات فإنه لا يتوقف على التوقيف.

واحتج الأولون بأن قالوا: إن العالم له أسماء كثيرة، ثم أنا نصف الله تعالى بكونه عالماً ولا نصفه بكونه طبيباً ولا فقيهاً، ولا نصفه بكونه متيقناً ولا بكونه متبيناً، وذلك يدل على أنه لا بدّ من التوقيف، وأجيب عنه فقيل: أما الطبيب فقد ورد؛ نقل أن أبا بكر لما مرض قيل له: نحضر الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني، وأما الفقيه فهو عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه بعد دخول الشبهة فيه. وهذا القيد ممتنع الثبوت في حق الله تعالى، وأما المتيقن فهو مشتق من يقن الماء في الحوض إذا اجتمع فيه، فاليقين هو العلم الذي حصل بسبب تعاقب الأَمارات الكثيرة وترادفها حتى بلغ المجموع إلى إفادة الجزم، وذلك في حق الله تعالى محال وأما التبيين فهو عبارة عن الظهور بعد الخفاء، وذلك لأن التبيين مشتق من البينونة والإبانة وهي عبارة عن التفريق بين أمرين متصلين، فإذا حصل في القلب اشتباه صورة بصورة ثم انفصلت إحداهما عن الأخرى فقد حصلت البينونة؛ فلهذا السبب سمي ذلك بياناً وتبييناً، ومعلوم أن ذلك في حق الله تعالى محال.

واحتج القائلون بأنه لا حاجة إلى التوقيف بوجوه: الأول: أن أسماء الله وصفاته مذكورة بالفارسية وبالتركية وبالهندية، وإن شيئاً منها لم يرد في القرآن ولا في الأخبار، مع أن المسلمين أجمعوا على جواز إطلاقها. الثاني: أن الله تعالى قال:

{ وَللَّهِ ٱلأَسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ فَٱدْعُوهُ بِهَا } [الأعراف7: 180]

والاسم لا يحسن إلا لدلالته على صفات المدح ونعوت الجلال، فكل اسم دل على هذه المعاني كان اسماً حسناً، فوجب جواز إطلاقه في حق الله تعالى تمسكاً بهذه الآية. الثالث: أنه لا فائدة في الألفاظ إلا رعاية المعاني، فإذا كانت المعاني صحيحة كان المنع من إطلاق اللفظة المعينة عبثاً، وأما الذي قاله الشيخ الغزالي رحمة الله تعالى عليه فحجته أن وضع الاسم في حق الواحد منا يعد سوء أدب، ففي حق الله أولى، أما ذكر الصفات بالألفاظ المختلفة فهو جائز في حقنا من غير منع، فكذلك في حق البارىء تعالى.


-130-

المسألة الثانية: اعلم أنه قد ورد في القرآن ألفاظ دالة على صفات لا يمكن إثباتها في حق الله تعالى، ونحن نعد منها صوراً، فأحدها: الاستهزاء، قال تعالى:

{ ٱللَّهُ يَسْتَهْزِىء بِهِمْ } [البقرة2: 15]

ثم أن الاستهزاء جهل، والدليل عليه أن القوم لما قالوا لموسى عليه السلام

{ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِٱللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ ٱلْجَـٰهِلِينَ } [البقرة2: 67]

وثانيها: المكر، قال تعالى:

{ وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ ٱللَّهُ } [آل عمران3: 54]

وثالثها: الغضب قال تعالى:

{ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } [الفتح48: 6]

ورابعها: التعجب، قال تعالى:

{ بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ } [الصافات37: 12]

فمن قرأ عجبت بضم التاء كان التعجب منسوباً إلى الله، والتعجب عبارة عن حالة تعرض في القلب عند الجهل بسبب الشيء، وخامسها: التكبر، قال تعالى:

{ ٱلْعَزِيزُ ٱلْجَبَّارُ ٱلْمُتَكَبّرُ } [الحشر59: 23]

وهو صفة ذم، وسادسها: الحياء، قال تعالى:

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا } [البقرة2: 26]

والحياء عبارة عن تغير يحصل في الوجه والقلب عند فعل شيء قبيح.


واعلم أن القانون الصحيح في هذه الألفاظ أن نقول: لكل واحد من هذه الأحوال أمور توجد معها في البداية، وآثار تصدر عنها في النهاية، مثاله أن الغضب حالة تحصل في القلب عند غليان دم القلب وسخونة المزاج، والأثر الحاصل منها في النهاية إيصال الضرر إلى المغضوب عليه، فإذا سمعت الغضب في حق الله تعالى فاحمله على نهايات الأعراض لا على بدايات الأعراض، وقس الباقي عليه.

بيان أن أسماء الله لا تحصى:

المسألة الثالثة: رأيت في بعض «كتب التذكير» أن لله تعالى أربعة آلاف اسم: ألف منها في القرآن والأخبار الصحيحة وألف منها في التوراة، وألف في الإنجيل، وألف في الزبور ويقال: ألف آخر في اللوح المحفوظ، ولم يصل ذلك الألف إلى عالم البشر، وأقول: هذا غير مستبعد، فإنا بينا أن أقسام صفات الله بحسب السلوب والإضافات غير متناهية، ونبهنا على تقرير هذا الموضع وشرحناه شرحاً بليغاً، بل نقول: كل من كان اطلاعه على آثار حكمة الله تعالى في تدبير العالم الأعلى وتدبير العالم الأسفل أكثر، كان اطلاعه على أسماء الله تعالى أكثر، ووقوفه على الصفات الموجبة للمدح والتعظيم أكثر، فمن طالع تشريح بدن الإنسان ووقف فيه على ما يقرب من عشرة آلاف نوع من أنواع الرحمة والحكمة في تخليق بدن الإنسان فقد حصل في عقله عشرة آلاف نوع من أسماء الله تعالى الدالة على المدح والتعظيم، ثم إن من وقف على العدد الذي ذكرناه من أقسام الرحمة والحكمة في بدن الإنسان صار ذلك منبهاً للعقل على أن الذي لم يعرفه من أقسام الحكمة والرحمة في تخليق هذا البدن أكثر مما عرفه، وذلك لما عرف أن الأرواح الدماغية من العصب سبعة، عرف لكل واحد منها فائدة وحكمة، ثم لما عرف أن كل واحد من هذا الأرواح ينقسم إلى ثلاثة أقسام أو أربعة عرف بالجبلة الشديدة وجه الحكمة في كل واحد من تلك الأقسام.

-132-

ثم إن العقل يعلم أن كل واحد من تلك الأقسام ينقسم إلى شظايا دقيقة، وكل واحدة من تلك الشظايا تنقسم إلى أقسام أخر وكل واحد من تلك الأقسام يتصل بعضو معين اتصالاً معيناً. ويكون وصول ذلك القسم إلى ذلك العضو في ممر معين، إلا أنها لما كثرت ودقت خرجت عن ضبط العقل، فثبت أن تلك العشرة آلاف تنبه العقل على أن أقسام حكمة الله تعالى في تخليق هذا البدن خارج عن التعديد والتحديد والإحصاء والاستقصاء كما قال تعالى:

{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم14: 34]
{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [النحل16: 18]

فكل من وقف على نوع آخر من أنواع تلك الحكمة فقد وصل إلى معرفة اسم آخر من أسماء الله تعالى، ولما كان لا نهاية لمراتب حكمة الله تعالى ورحمته فكذلك لا نهاية لأَسمائه الحسنى ولصفاته العليا، وذكر جالينوس في «كتاب منافع الأعضاء» أنه لما صنف ذلك الكتاب لم يكتب فيه منافع مجمع النور، قال: وإنما تركت كتابتها ضنة بها لشرفها، فرأيت في بعض الليالي كأن ملكاً نزل من السماء وقال: جالينوس، إن إلهك يقول: لم أخفيت حكمتي عن عبادي قال: فلما انتهيت صنفت في هذا المعنى كتاباً مفرداً، وبالغت في شرحه، فثبت بما ذكرنا أنه لا نهاية لأسماء الله الحسنى.


حكم الأذكار التي في الرقى:

المسألة الرابعة: إنا نرى في «كتب الطلسمات والعزائم» أذكاراً غير معلومة ورقى غير مفهومة وكما أن تلك الألفاظ غير معلومة فقد تكون الكتابة غير معلومة، وأقول: لا شك أن الكتابة دالة على الألفاظ، ولا شك أن الألفاظ دالة على الصور الذهنية فتلك الرقى إن لم يكن فيها دلالة على شيء أصلاً لم يكن فيها فائدة. وإن كانت دالة على شيء فدلالتها إما أن تكون على صفات الله ونعوت كبريائه، وإما أن تكون دالة على شيء آخر: أما الثاني فإنه لا يفيد؛ لأن ذكر غير الله لا يفيد لا الترغيب ولا الترهيب، فبقي أن يقال: إنها دالة على ذكر الله وصفات المدح والثناء، فنقول: ولما كانت أقسام ذكر الله مضبوطة ولا يمكن الزيادة عليها كان أحسن أحوال تلك الكلمات أن تكون من جنس هذه الأدعية، وأما الاختلاف الحاصل بسبب اختلاف اللغات فقليل الأثر، فوجب أن تكون هذه الأذكار المعلومة أدخل في التأثير من قراءة تلك المجهولات، لكن لقائل أن يقول: إن نفوس أكثر الخلق ناقصة قاصرة، فإذا قرؤا هذه الأذكار المعلومة وفهموا ظواهرها وليست لهم نفوس قوية مشرقة إلهية لم يقو تأثرهم عن الإلهيات ولم تتجرد نفوسهم عن هذه الجسمانيات، فلا تحصل لنفوسهم قوة وقدرة على التأثير، أما إذا قرؤا تلك الألفاظ المجهولة ولم يفهموا منها شيئاً وحصلت عندهم أوهام أنها كلمات عالية استولى الخوف والفزع والرعب على نفوسهم فحصل لهم بهذا السبب نوع من التجرد عن عالم الجسم، وتوجه إلى عالم القدس، وحصل بهذا السبب لنفوسهم مزيد قوة وقدرة على التأثير، فهذا ما عندي في قراءة هذه الرقى المجهولة.

-133-

المسألة الخامسة: إن بين الخلق وبين أسماء الله تعالى مناسبات عجيبة، والعاقل لا بدّ وأن يعتبر تلك المناسبات حتى ينتفع بالذكر، والكلام في شرح هذا الباب مبني على مقدمة عقلية وهي أنه ثبت عندنا أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة بالجوهر والماهية، فبعضها إلهية مشرقة حرة كريمة، وبعضها سفلية ظلمانية نذلة خسيسة، وبعضها رحيمة عظيمة الرحمة، وبعضها قاسية قاهرة، وبعضها قليلة الحب لهذه الجسمانيات قليلة الميل إليها، وبعضها محبة للرياسة والاستعلاء، ومن اعتبر أحوال الخلق علم أن الأمر كما ذكرناه ثم إنا نرى هذه الأحوال لازمة لجواهر النفوس، وإن كل من راعى أحوال نفسه علم أن له منهجاً معيناً وطريقاً مبيناً في الإرادة والكراهة والرغبة والرهبة، وأن الرياضة والمجاهدة لا تقلب النفوس عن أحوالها الأصلية ومناهجها الطبيعية، وإنما تأثير الرياضة في أن تضعف تلك الأخلاق ولا تستولي على الإنسان، فأما أن ينقلب من صفة أخرى فذلك محال، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: " الناس معادن كمعادن الذهب والفضة " وبقوله عليه الصلاة والسلام: " الأرواح جنود مجندة " إذا عرفت هذا فنقول: الجنسية علة الضم، فكل اسم من أسماء الله تعالى دال على معنى عين، فكل نفس غلب عليها ذلك المعنى كانت تلك النفس شديدة المناسبة لذلك الاسم، فإذا واظب على ذكر ذلك الاسم انتفع به سريعاً، وسمعت أن الشيخ أبا النجيب البغدادي السهروردي كان يأمر المريد بالأربعين مرة أو مرتين بقدر ما يراه من المصلحة، ثم كان يقرأ عليه الأسماء التسعة والتسعين وكان ينظر إلى وجهه فإن رآه عديم التأثر عند قراءتها عليه قال له أخرج إلى السوق واشتغل بمهمات الدنيا فإنك ما خلقت لهذا الطريق، وإن رآه متأثراً عند سماع اسم خاص مزيد التأثر أمره بالمواظبة على ذلك الذكر، وأقول: هذا هو المعقول، فإنه لما كانت النفوس مختلفة كان كل واحد منها مناسباً لحالة مخصوصة، فإذا اشتغلت تلك النفس بتلك الحالة التي تناسبها كان خروجها من القوة إلى الفعل سهلاً هيناً يسيراً، وليكن هذا آخر كلامنا في البحث عن مطلق الأسماء، والله الهادي.

الباب التاسع

في المباحث المتعلقة بقولنا: «الله» وفيه مسائل

لفظ الجلالة علم لا مشتق:

المسألة الأولى: المختار عندنا أن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى، وأنه ليس بمشتق ألبتة، وهو قول الخليل وسيبويه، وقول أكثر الأصوليين والفقهاء، ويدل عليه وجوه، وحجج: ـ

الحجة الأولى: أنه لو كان لفظاً مشتقاً لكان معناه معنى كلياً لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الشركة فيه لأن اللفظ المشتق لا يفيد إلا أنه شيء ما مبهم حصل له ذلك المشتق منه وهذا المفهوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه بين كثيرين، فثبت أن هذا اللفظ لو كان مشتقاً لم يمنع وقوع الشركة فيه بين كثيرين، ولو كان كذلك لما كان قولنا: «لا إله إلا الله» توحيداً حقاً مانعاً من وقوع الشركة فيه بين كثيرين؛ لأن بتقدير أن يكون الله لفظاً مشتقاً كان قولنا: «الله» غير مانع من أن يدخل تحته أشخاص كثيرة، وحينئذٍ لا يكون قولنا: «لا إله إلا الله» موجباً للتوحيد المحض، وحيث أجمع العقلاء على أن قولنا: «لا إله إلا الله» يوجب التوحيد المحض علمنا أن قولنا: «الله» اسم علم موضوع لتلك الذات المعينة، وأنها ليست من الألفاظ المشتقة.

-134-

الحجة الثانية: أن من أراد أن يذكر ذاتاً معينة ثم يذكره بالصفات فإنه يذكر اسمه أولاً ثم يذكر عقيب الاسم الصفات، مثل أن يقول: زيد الفقيه النحوي الأصولي، إذا عرفت هذا فنقول: إن كل من أراد أن يذكر الله تعالى بالصفات المقدسة فإنه يذكر أولاً لفظة الله ثم يذكر عقيبه صفات المدائح مثل أن يقول: الله العالم القادر الحكيم، ولا يعكسون هذا فلا يقولون: العالم القادر الله، وذلك يدل على أن قولنا: «الله» اسم علم.

فإن قيل: أليس أنه تعالى قال في أول سورة إبراهيم:

{ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ *ٱللَّهِ ٱلَّذِى لَهُ مَا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأرْضِ } [إبراهيم14: 1, 2]

قلنا: ههنا قراءتان منهم من قرأ الله بالرفع، وحينئذٍ يزول السؤال، لأنه لما جعله مبتدأ فقد أخرجه عن جعله صفة لما قبله، وأما من قرأ بالجر فهو نظير لقولنا: هذه الدار ملك للفاضل العالم زيد وليس المراد أنه جعل قوله زيد صفة للعالم الفاضل، بل المعنى أنه لما قال هذه الدار ملك للعالم الفاضل بقي الاشتباه في أنه من ذلك العالم الفاضل؟ فقيل عقيبه زيد، ليصير هذا مزيلاً لذلك الاشتباه، ولما لم يلزم ههنا أن يقال اسم العلم صار صفة فكذلك في هذه الآية.


الحجة الثالثة: قال تعالى:

{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم19: 65]

وليس المراد من الاسم في هذه الآية الصفة وإلا لكذب قوله:

{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم19: 65]

فوجب أن يكون المراد اسم العلم، فكل من أثبت لله اسم علم قال ليس ذاك إلا قولنا الله.


واحتج القائلون بأنه ليس اسم علم بوجوه وحجج: ـ

الحجة الأولى: قوله تعالى:

-135-

{ وَهُوَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ } [الأنعام6: 3] وقوله:
{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِى لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [البقرة2: 255]


فإن قوله: «الله» لا بدّ وأن يكون صفة، ولا يجوز أن يكون اسم علم، بدليل أنه لا يجوز أن يقال: هو زيد في البلد، وهو بكر، ويجوز أن يقال: هو العالم الزاهد في البلد، وبهذا الطريق يعترض على قول النحويين: إن الضمير لا يقع موصوفاً ولا صفة، وإذا ثبت كونه صفة امتنع أن يكون اسم علم.

الحجة الثانية: أن اسم العلم قائم مقام الإشارة، فلما كانت الإشارة ممتنعة في حق الله تعالى كان اسم العلم ممتنعاً في حقه.

الحجة الثالثة: أن اسم العلم إنما يصار إليه ليتميز شخص عن شخص آخر يشبهه في الحقيقة والماهية، وإذا كان هذا في حق الله ممتنعاً كان القول بإثبات الاسم العلم محالاً في حقه.

والجواب عن الأول لم لا يجوز أن يكون ذلك جارياً مجرى أن يقال: هذا زيد الذي لا نظير له في العلم والزهد؟ والجواب عن الثاني أن الاسم العلم هو الذي وضع لتعيين الذات المعينة، ولا حاجة فيه إلى كون ذلك المسمى مشاراً إليه بالحس أم لا، وهذا هو الجواب عن الحجة الثالثة.

المسألة الثانية: الذين قالوا: إنه اسم مشتق ذكروا فيه فروعاً: ـ

الفرع الأول: أن الإله هو المعبود، سواء عبد بحث أو بباطل، ثم غلب في عرف الشرع على المعبود بالحق، وعلى هذا التفسير لا يكون إلهاً في الأزل.

واعلم أنه تعالى هو المستحق للعبادة، وذلك لأنه تعالى هو المنعم بجميع النعم أصولها وفروعها، وذلك لأن الموجود إما واجب وإما ممكن، والواجب واحد وهو الله تعالى، وما سواه ممكن، والممكن لا يوجب إلا بالمرجح، فكل الممكنات إنما وجدت بإيجاده وتكوينه إما ابتداء وإما بواسطة، فجميع ما حصل للعبد من أقسام النعم لم يحصل إلا من الله، فثبت أن غاية الأنعام صادرة من الله والعبادة غاية التعظيم فإذا ثبت هذا فنقول: إن غاية التعظيم لا يليق إلا لمن صدرت عنه غاية الإنعام فثبت أن المستحق للعبودية ليس إلا الله تعالى.

الفرع الثاني: أن من الناس من يعبد الله لطلب الثواب وهو جهل وسخف، ويدل عليه وجوه: الأول: أن من عبد الله ليتوصل بعبادته إلى شيء آخر كان المعبود في الحقيقة هو ذلك الشيء، فمن عبد الله لطلب الثواب كان معبوده في الحقيقة هو الثواب، وكان الله تعالى وسيلة إلى الوصول إلى ذلك المعبود، وهذا جهل عظيم. الثاني: أنه لو قال: أصلي لطلب الثواب أو للخوف من العقاب، لم تصح صلاته. الثالث: أن من عمل عملاً لغرض آخر كان بحيث لو وجد ذلك الغرض بطريق آخر لترك الواسطة، فمن عبد الله للأجر والثواب كان بحيث لو وجد الأجر والثواب بطريق آخر لم يعبد الله، ومن كان كذلك لم يكن محباً لله ولم يكن راغباً في عبادة الله، وكل ذلك جهل، ومن الناس من يعبد الله لغرض أعلى من الأول، وهو أن يتشرف بخدمة الله، لأنه إذا شرع في في الصلاة حصلت النية في القلب، وتلك النية عبارة عن العلم بعزة الربوبية وذلة العبودية، وحصل الذكر في اللسان، وحصلت الخدمة في الجوارح والأعضاء فيتشرف كل جزء من أجزاء العبد بخدمة الله، فمقصود العبد حصول هذا الشرف.

-136-

الفرع الثالث: من الناس من طعن في قول من يقول: الإله هو المعبود من وجوه: الأول: أن الأوثان عبدت مع أنها ليست آلهة. الثاني: أنه تعالى إله الجمادات والبهائم، مع أن صدور العبادة منها محال. الثالث: أنه تعالى إله المجانين والأطفال، مع أنه لا تصدر العبادة عنها. الرابع: أن المعبود ليس له بكونه معبوداً صفة؛ لأنه لا معنى لكونه معبوداً إلا أنه مذكور بذكر ذلك الإنسان، ومعلوم بعلمه، ومراد خدمته بإرادته، وعلى هذا التقدير فلا تكون الإلهية صفة لله تعالى. الخامس: يلزم أن يقال: إنه تعالى ما كان إلهاً في الأزل.

الفرع الرابع: من الناس من قال: الإله ليس عبارة عن المعبود، بل الإله هو الذي يستحق أن يكون معبوداً، وهذا القول أيضاً يرد عليه أن لا يكون إلهاً للجمادات والبهائم والأطفال والمجانين، وأن لا يكون إلهاً في الأزل، ومنهم من قال: إنه القادر على أفعال لو فعلها لاستحق العبادة ممن يصح صدور العبادة عنه، واعلم أنا إن فسرنا الإله بالتفسيرين الأولين لم يكن إلهاً في الأزل، ولو فسرناه بالتفسير الثالث كان إلهاً في الأزل.

التفسير الثاني: الإله مشتق من ألهت إلى فلان، أي: سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره والأرواح لا تعرج إلا بمعرفته، وبيانه من وجوه: الأول: أن الكمال محبوب لذاته، وما سوى الحق فهو ناقص لذاته؛ لأن الممكن من حيث هو هو معدوم، والعدم أصل النقصان والناقص بذاته لا يكمل إلا بتكميل الكامل بذاته، فإذا كان الكامل محبوباً لذاته وثبت أن الحق كامل لذاته وجب كونه محبوباً لذاته. الثاني: أن كل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يقف عند نفسه، بل يبقى متعلقاً بغيره، لأنه لا يوجد إلا بوجود غيره، فعلى هذا كل ممكن فإنه لا يقف عند نفسه بل ما لم يتعلق بالواجب لذاته لم يوجد، وإذا كان الأمر كذلك في الوجود الخارجي وجب أن يكون كذلك في الوجود العقلي، فالعقول مترقبة إلى عتبة رحمته والخواطر متمسكة بذيل فضله وكرمه، وهذان الوجهان عليهما التعويل في تفسير قوله تعالى:

{ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد13: 28].


التفسير الثالث: أنه مشتق من الوله، وهو ذهاب العقل.

-137-

واعلم أن الخلق قسمان: واصلون إلى ساحل بحر معرفته، ومحرومون، فالمحرومون قد بقوا في ظلمات الحيرة وتيه الجهالة فكأنهم فقدوا عقولهم وأرواحهم، وأما الواجدون فقد وصلوا إلى عرصة النور وفسحة الكبرياء والجلال، فتاهوا في ميادين الصمدية، وبادوا في عرصة الفردانية، فثبت أن الخلق كلهم والهون في معرفته، فلا جرم كان الإله الحق للخلق هو هو، وبعبارة أخرى وهي أن الأرواح البشرية تسابقت في ميادين التوحيد والتمجيد فبعضها تخلفت وبعضها سبقت فالتي تخلفت بقيت في ظلمات الغبار والتي سبقت وصلت إلى عالم الأنوار، فالأولون بادوا في أودية الظلمات، والآخرون طاشوا في أنوار عالم الكرامات.

التفسير الرابع: أنه مشتق من لاة إذا ارتفع، والحق سبحانه وتعالى هو المرتفع عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات؛ لأن الواجب لذاته ليس إلا هو، والكامل لذاته ليس إلا هو، والأحد الحق في هويته ليس إلا هو، والموجد لكل ما سواه ليس إلا هو، وأيضاً فهو تعالى مرتفع عن أن يقال: إن ارتفاعه بحسب المكان، لأن كل ارتفاع حصل بسبب المكان فهو للمكان بالذات وللمتمكن بالعرض؛ لأجل حصوله في ذلك المكان، وما بالذات أشرف مما بالغير، فلو كان هذا الارتفاع بسبب المكان لكان ذلك المكان أعلى وأشرف من ذات الرحمن، ولما كان ذلك باطلاً علمنا أنه سبحانه وتعالى أعلى من أن يكون علوه بسبب المكان، وأشرف من أن ينسب إلى شيء مما حصل في عالم الإمكان.

التفسير الخامس: من أله في الشيء إذا تحير فيه ولم يهتد إليه، فالعبد إذا تفكر فيه تحير؛ لأن كل ما يتخيله الإنسان ويتصوره فهو بخلافه، فإن أنكر العقل وجوده كذبته نفسه؛ لأن كل ما سواه فهو محتاج، وحصول المحتاج بدون المحتاج إليه محال، وإن أشار إلى شيء يضبطه الحس والخيال وقال إنه هو كذبته نفسه أيضاً؛ لأن كل ما يضبطه الحس والخيال فأمارات الحدوث ظاهرة فيه، فلم يبق في يد العقل إلا أن يقر بالوجود والكمال مع الاعتراف بالعجز عن الإدراك، فههنا العجز عن درك الإدراك إدراك، ولا شك أن هذا موقف عجيب تتحير العقول فيه وتضطرب الألباب في حواشيه.

التفسير السادس: من لاه يلوه إذا احتجب، ومعنى كونه محتجباً من وجوه: الأول: أنه بكنه صمديته محتجب عن العقول. الثاني: أن لو قدرنا أن الشمس كانت واقفة في وسط الفلك غير متحركة كانت الأنوار باقية على الجدران غير زائلة عنها، فحينئذٍ كان يخطر بالبال أن هذه الأنوار الواقعة على هذه الجدران ذاتية لها، إلا لما شاهدنا أن الشمس تغيب وعند غيبتها تزول هذه الأنوار عن هذه الجدران فبهذا الطريق علمنا أن هذه الأنوار فائضة عن قرص الشمس، فكذا ههنا الوجود الواصل إلى جميع عالم المخلوقات من جناب قدرة الله تعالى كالنور الواصل من قرص الشمس، فلو قدرنا أنه كان يصح على الله تعالى الطلوع والغروب والغيبة والحضور لكان عند غروبه يزول ضوء الوجود عن الممكنات، فحينئذٍ كان يظهر أن نور الوجود منه، لكنه لما كان الغروب والطلوع عليه محالاً لا جرم خطر ببال بعض الناقصين أن هذه الأشياء موجودة بذواتها ولذواتها، فثبت أنه لا سبب لاحتجاب نوره إلا كمال نوره، فلهذا قال بعض المحققين: سبحان من احتجب عن العقول بشدة ظهوره، واختفى عنها بكمال نوره وإذا كان كذلك ظهر أن حقيقة الصمدية محتجبة عن العقول، ولا يجوز أن يقال: محجوبة لأن المحجوب مقهور،والمقهور يليق بالعبد، أما الحق فقاهر، وصفة الاحتجاب صفة القهر فالحق محتجب، والخلق محجوبون.

-138-

التفسير السابع: إشتقاقه من أله الفصيل إذا ولع بأمه، والمعنى أن العباد مولهون مولعون بالتضع إليه في كل الأحوال، ويدل عليه أمور: الأول: أن الإنسان إذا وقع في بلاء عظيم وآفة قوية فهنالك ينسى كل شيء إلا الله تعالى، فيقول بقلبه ولسانه: يا رب، يا رب، فإذا تخلص عن ذلك البلاء وعاد إلى منازل الآلاء والنعماء أخذ يضيف ذلك الخلاص إلى الأسباب الضعيفة والأحوال الخسيسة، وهذا فعل متناقض، لأنه إن كان المخلص عن الآفات والموصل إلى الخيرات غير الله وجب الرجوع في وقت نزول البلاء إلى غير الله، وإن كان مصلح المهمات هو الله تعالى في وقت البلاء وجب أن يكون الحال كذلك في سائر الأوقات، وأما الفزع إليه عند الضرورات والإعراض عنه عند الراحات فلا يليق بأرباب الهدايات، والثاني: أن الخير والراحة مطلوب من الله، والثالث: أن المحسن في الظاهر إما الله أو غيره، فإن كان غيره فذلك الغير لا يحسن إلا إذا خلق الله في قلبه داعية الإحسان، فالحق سبحانه وتعالى هو المحسن في الحقيقة، والمحسن مرجوع إليه في كل الأوقات، والخلق مشغوفون بالرجوع إليه.

شكا بعض المريدين من كثرة الوسواس، فقال الأستاذ: كنت حداداً عشر سنين، وقصاراً عشرة أخرى، وبوابًا عشرة ثالثة، فقالوا: ما رأيناك فعلت ذلك، قال: فعلت ولكنكم ما رأيتم، أما عرفتم أن القلب كالحديد؟ فكنت كالحداد ألينه بنار الخوف عشر سنين، ثم بعد ذلك شرعت في غسله عن الأوضار والأقذار عشر سنين، ثم بعد هذه الأحوال جلست على باب حجرة القلب عشرة أخرى سالا سيف «لا إله إلا الله» فلم أزل حتى يخرج منه حب غير الله، ولم أزل حتى يدخل فيه حب الله تعالى، فلما خلت عرصة القلب عن غير الله تعالى وقويت فيه محبة الله سقطت من بحار عالم الجلال قطرة من النور فغرق القلب في تلك القطرة، وفني عن الكل، ولم يبق فيه إلا محض سر «لا إله إلا الله».

-139-

التفسير الثامن: أن اشتقاق لفظ «الإله» من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره، والمجير لكل الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه وتعالى، لقوله تعالى:

{ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } [المؤمنون23: 88]

ولأنه هو المنعم لقوله تعالى:

{ وَمَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل16: 53]

ولأنه هو المطعم لقوله تعالى:

{ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } [الأنعام6: 14]

ولأنه هو الموجد لقوله تعالى:

{ قُلْ كُلٌّ مّنْ عِندِ ٱللَّهِ } [النحل16: 53]

فهو سبحانه وتعالى قهار للعدم بالوجود والتحصيل، جبار لها بالقوة والفعل والتكميل، فكان في الحقيقة هو الله ولا شيء سواه.


وههنا لطائف وفوائد: الفائدة الأولى: عادة المديون أنه إذا رأى صاحب الدين من البعد فإنه يفر منه، والله الكريم يقول: عبادي: أنتم غرمائي بكثرة ذنوبكم، ولكن لا تفروا مني، بل أقول:

{ فَفِرُّواْ إِلَى ٱللَّهِ } [الذاريات51: 50]

فإني أنا الذي أقضي ديونكم وأغفر ذنوبكم، وأيضًا الملوك يغلقون أبوابهم عن الفقراء دون الأغنياء، وأنا أفعل ضد ذلك.


الفائدة الثانية: قال صلى الله عليه وسلم: " إن للّه تعالى مائة رحمة أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام فبها يتعاطفون ويتراحمون، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة " ، وأقول: إنه صلى الله عليه وسلم إنما ذكر هذا الكلام على سبيل التفهيم، وإلا فبحار الرحمة غير متناهية فكيف يعقل تحديدها بحد معين.

الفائدة الثالثة: قال صلى الله عليه وسلم: " إن اللّه عزّ وجلّ يقول يوم القيامة للمذنبين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا رب، فيقول اللّه تعالى: ولم؟ فيقولون: رجونا عفوك وفضلك، فيقول اللّه تعالى: إني قد أوجبت لكم مغفرتي "

الفائدة الرابعة: قال عبد الله بن عمر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله عزّ وجلّ ينشر على بعض عباده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلاً كل واحد منها مثل مد البصر فيقول له: هل تنكر من هذا شيئاً؟ هل ظلمك الكرام الكاتبون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول الله تعالى: فهل كان لك عذر في عمل هذه الذنوب؟ فيقول: لا يا رب، فيضع ذلك العبد قلبه على النار فيقول الله تعالى: إن لك عندي حسنة وإنه لا ظلم اليوم، ثم يخرج بطاقة فيها: «أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله» فيقول العبد: يا رب، كيف تقع هذه البطاقة في مقابلة هذه السجلات؟ فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة أخرى، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع ذكر الله شيء ". الفائدة الخامسة: وقف صبي في بعض الغزوات ينادي عليه في من يزيد في يوم صائف شديد الحر، فبصرت به امرأة فعدت إلى الصبي وأخذته وألصقته إلى بطنها، ثم ألقت ظهرها على البطحاء وأجلسته على بطنها تقيه الحر، وقالت: ابني، ابني، فبكى الناس وتركوا ما هم فيه فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم فأخبروه الخبر، فقال:

-140-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #20  
قديم 01-03-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 141-150 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 141-150 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


" أعجبتم من رحمة هذه بابنها فإن الله تعالى أرحم بكم جميعاً من هذه المرأة بابنها " فتفرق المسلمون على أعظم أنواع الفرح والبشارة.

أصل لفظ الجلالة:

المسألة الثالثة: في كيفية اشتقاق هذه اللفظة بحسب اللغة، قال بعضهم هذه اللفظة ليست عربية، بل عبرانية أو سريانية، فإنهم يقولون إلهاً رحماناً ومرحيانا، فلما عرب جعل «الله الرحمن الرحيم» وهذا بعيد، ولا يلزم من المشابهة الحاصلة بين اللغتين الطعن في كون هذه اللفظة عربية أصلية، والدليل عليه قوله تعالى:

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان31: 25] وقال تعالى:
{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم19: 65]


وأطبقوا على أن المراد منه لفظة «الله» وأما الأكثرون فقد سلموا كونها لفظة عربية، أما القائلون بأن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى فقد تخلصوا عن هذه المباحث، وأما المنكرون لذلك فلهم قولان: قال الكوفيون: أصل هذه اللفظة إلاه، فأدخلت الألف واللام عليها للتعظيم، فصار الإلاه، فحذفت الهمزة استثقالاً، لكثرة جريانها على الألسنة، فاجتمع لامان، فأدغمت الأولى فقالوا: «الله» وقال البصريون أصله لاه، فألحقوا بها الألف واللام فقيل: «الله» وأنشدوا: ـ

فكحلفة من أبي رباحيسمعها لاهه الكبار


فأخرجه على الأصل.

المسألة الرابعة: قال الخليل: أطبق جميع الخلق على أن قولنا: «الله» مخصوص بالله سبحانه وتعالى، وكذلك قولنا الإله مخصوص به سبحانه وتعالى، وأما الذين كانوا يطلقون اسم الإله على غير الله فإنما كانوا يذكرونه بالإضافة كما يقال إله كذا، أو ينركونه فيقولون: إله كما قال الله تعالى خبرًا عن قوم موسى

{ اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ قَالَ إِنَّكُم قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [الأعراف7: 138].


خواص لفظ الجلالة:

المسألة الخامسة: اعلم أن هذا الاسم مختص بخواص لم توجد في سائر أسماء الله تعالى، ونحن نشير إليها: فالخاصة الأولى: أنك إذا حذفت الألف من قولك: «الله» بقي الباقي على صورة «الله» وهو مختص به سبحانه، كما في قوله:

{ وَلِلَّهِ جُنُودُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } [الفتح48: 4]
{ وَلِلَّهِ خَزَائِنُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } [المنافقون63: 7]

وإن حذفت عن هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة «له» كما في قوله تعالى:

{ لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ } [الزمر39: 63] وقوله:
{ لَهُ ٱلْمُلْكُ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ } [التغابن64: 1]

فإن حذفت اللام الباقية كانت البقية هي قولنا: «هو» وهو أيضًا يدل عليه سبحانه كما في قوله:

{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص112: 1] وقوله:
{ هُوَ ٱلْحَىُّ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [غافر40: 65]

والواو زائدة بدليل سقوطها في التثنية والجمع؛ فإنك تقول؛ هما، هم فلا تبقى الواو فيهما، فهذه الخاصية موجودة في لفظ «الله» غيرموجودة في سائر الأسماء، وكما حصلت هذه الخاصية بحسب اللفظ فقد حصلت أيضاً بحسب المعنى، فإنك إذا دعوت الله بالرحمن فقد وصفته بالرحمة، وما وصفته بالقهر، وإذا دعوته بالعليم فقد وصفته بالعلم، وما وصفته بالقدرة، وأما إذا قلت يا الله فقد وصفته بجميع الصفات؛ لأن الإله لا يكون إلهاً إلا إذا كان موصوفاً بجميع هذه الصفات، فثبت أن قولنا الله قد حصلت له هذه الخاصية التي لم تحصل لسائر الأسماء.


-141-

الخاصية الثانية: أن كلمة الشهادة وهي الكلمة التي بسببها ينتقل الكافر من الكفر إلى الإسلام لم يحصل فيها إلا هذا الاسم، فلو أن الكافر قال: أشهد أن لا إله إلا الرحمن أو إلا الرحيم، أو إلا الملك، أو إلا القدوس لم يخرج من الكفر ولم يدخل في الإسلام، أما إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله فإنه يخرج من الكفر ويدخل في الإسلام، وذلك يدل على اختصاص هذا الاسم بهذه الخاصية الشريفة، والله الهادي إلى الصواب.

الباب العاشر

في البحث المتعلق بقولنا الرحمن الرحيم

الرحمن الرحيم:

اعلم أن الأشياء على أربعة أقسام: الذي يكون نافعاً وضرورياً معاً، والذي يكون نافعاً ولا يكون ضرورياً، والذي يكون ضرورياً ولا يكون نافعاً، والذي لا يكون نافعاً ولا يكون ضرورياً.

أما القسم الأول ـ وهو الذي يكون نافعاً وضرورياً معاً ـ فأما أن يكون كذلك في الدنيا فقط، وهو مثل النفس ـ فإنه لو انقطع منك لحظة واحدة حصل الموت، وإما أن يكون كذلك في الآخرة، وهو معرفة الله تعالى، فإنها إن زالت عن القلب لحظة واحدة مات القلب، واستوجب عذاب الأبد.

وأما القسم الثاني ـ وهو الذي يكون نافعاً ولا يكون ضرورياً ـ فهو كالمال في الدنيا وكسائر العلوم والمعارف في الآخرة.

وأما القسم الثالث ـ وهو الذي يكون ضرورياً ولا يكون نافعاً ـ فكالمضار التي لا بدّ منها في الدنيا: كالأمراض، والموت، والفقر، والهرم، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة، فإن منافع الآخرة لا يلزمها شيء من المضار.

وأما القسم الرابع ـ وهو الذي لا يكون نافعاً ولا ضرورياً ـ فهو كالفقر في الدنيا والعذاب في الآخرة.

إذا عرفت هذا فنقول: قد ذكرنا أن النفس في الدنيا نافع وضروري فلو انقطع عن الإنسان لحظة لمات في الحال، وكذلك معرفة الله تعالى أمر لا بدّ منه في الآخرة فلو زالت عن القلب لحظة لمات القلب لا محالة، لكن الموت الأول أسهل من الثاني؛ لأنه لا يتألم في الموت الأول إلا ساعة واحدة، وأما الموت الثاني فإنه يبقى ألمه أبد الآباد، وكما أن التنفس له أثران: أحدهما: إدخال النسيم الطيب على القلب وإبقاء اعتداله وسلامته، والثاني: إخراج الهواء الفاسد الحار المحترق عن القلب، كذلك الفكر له أثران: أحدهما: إيصال نسيم الحجة والبرهان إلى القلب وإبقاء اعتدال الإيمان والمعرفة عليه، والثاني: إخراج الهواء الفاسد المتولد من الشبهات عن القلب، وما ذاك إلا بأن يعرف أن هذه المحسوسات متناهية في مقاديرها منتهية بالآخرة إلى الفناء بعد وجودها، فمن وقف على هذه الأحوال بقي آمناً من الآفات واصلاً إلى الخيرات والمسرات، وكمال هذين الأمرين ينكشف لعقلك بأن تعرف أن كل ما وجدته ووصلت إليه فهو قطرة من بحار رحمه الله، وذرة من أنوار إحسانه، فعند هذا ينفتح على قلبك معرفة كون الله تعالى رحماناً رحيماً.

-142-

فإذا أردت أن تعرف هذا المعنى على التفصيل فاعلم أنك جوهر مركب من نفس، وبدن وروح، وجسد.

(أما نفسك) فلا شك أنها كانت جاهلة في مبدأ الفطرة كما قال تعالى:

{ وَٱللَّهُ أَخْرَجَكُم مّن بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ ٱلْسَّمْعَ وَٱلأبْصَـٰرَ وَٱلأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل16: 78]

ثم تأمل في مراتب القوى الحساسة والمحركة والمدركة والعاقلة، وتأمل في مراتب المعقولات وفي جهاتها، واعلم أنه لا نهاية لها ألبتة، ولو أن العاقل أخذ في اكتساب العلم بالمعقولات وسرى فيها سريان البرق الخاطف والريح العاصف وبقي في ذلك السير أبد الآبدين ودهر الداهرين لكان الحاصل له من المعارف والعلوم قدراً متناهياً، ولكانت المعلومات التي ما عرفها ولم يصل إليها أيضاً غير متناهية، والمتناهي في جنب غير المتناهي قليل في كثير، فعند هذا يظهر له أن الذي قاله الله تعالى في قوله:

{ وَمَا أُوتِيتُم مّن ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [الإسراء17: 85]

حق وصدق.


(وأما بدنك) فاعلم أنه جوهر مركب من الأخلاط الأربعة، فتأمل كيفية تركيبها وتشريحها، وتعرف ما في كل واحد من الأعضاء والأجزاء من المنافع العالية والآثار الشريفة وحينئذٍ يظهر لك صدق قوله تعالى:

{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم14: 34]

وحينئذٍ ينجلي لك أثر من آثار كمال رحمته في خلقك وهدايتك، فتفهم شيئاً قليلاً من معنى قوله الرحمن الرحيم.


لا رحمن إلا الله

فإن قيل: فهل لغير الله رحمة أم لا؟ قلنا: الحق أن الرحمة ليست إلا لله، ثم بتقدير أن تكون لغير الله رحمة إلا أن رحمة الله أكمل من رحمة غيره، وههنا مقامان: المقام الأول: في بيان أنه لا رحمة إلا لله، فنقول: الذي يدل عليه وجوه: الأول: أن الجود هو إفادة ما ينبغي لا لعوض، فكل أحد غير الله فهو إنما يعطي ليأخذ عوضاً، إلا أن الأعواض أقسام: منها جسمانية مثل أن يعطي ديناراً ليأخذ كرباساً، ومنها روحانية وهي أقسام: فأحدها: أنه يعطي المال لطلب الخدمة، وثانيها: يعطي المال لطلب الإعانة، وثالثها: يعطي المال لطلب الثناء الجميل، ورابعها: يعطي المال لطلب الثواب الجزيل، وخامسها: يعطي المال ليزيل حب المال عن القلب، وسادسها: يعطي المال لدفع الرقة الجنسية عن قلبه، وكل هذه الأقسام أعواض روحانية، وبالجملة فكل من أعطي فإنما يعطي ليفوز بواسطة ذلك العطاء بنوع من أنواع الكمال، فيكون ذلك في الحقيقة معاوضة، ولا يكون جوداً، ولا هبة، ولا عطية، أما الحق سبحانه وتعالى فإنه كامل لذاته، فيستحيل أن يعطي ليستفيد به كمالاً، فكان الجواد المطلق والراحم المطلق هو الله تعالى.

-143-

الحجة الثانية: أن كل من سوى الله فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد واجب الوجود لذاته، فكل رحمة تصدر من غير الله فهي إنما دخلت في الوجود بإيجاد الله فيكون الرحيم في الحقيقة هو الله تعالى.

الحجة الثالثة: أن الإنسان يمكنه الفعل والترك، فيمتنع رجحان الفعل على الترك إلا عند حصول داعية جازمة في القلب، فعند عدم حصول تلك الداعية يمتنع صدور تلك الرحمة منه، وعند حصولها يجب صدور الرحمة منه، فيكون الراحم في الحقيقة هو الذي خلق تلك الداعية في ذلك القلب، وما ذاك إلا الله تعالى، فيكون الراحم في الحقيقة هو الله تعالى.

الحجة الرابعة: هب أن فلاناً يعطي الحنطة، ولكن ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام لم يحصل الانتفاع بتلك الحنطة، وهب أنه وهب البستان فما لم تحصل القوة الباصرة في العين لم يحصل الانتفاع بذلك البستان، بل الحق أن خالق تلك الحنطة وذلك البستان هو الله تعالى والممكن من الانتفاع بهما هو الله، والحافظ له عن أنواع الآفات والمخافات حتى يحصل الانتفاع بتلك الأشياء هو الله تعالى، فوجب أن يقال: المنعم والراحم في الحقيقة هو الله تعالى.

المقام الثاني: في بيان أن بتقدير أن تحصل الرحمة من غير الله إلا أن رحمة الله أكمل وأعظم. وبيانه من وجوه: الأول: أن الأنعام يوجب علو حال المنعم ودناءة حال المنعم عليه بالنسبة إلى المنعم، فإذا حصل التواضع بالنسبة إلى حضرة الله فذاك خير من حصول هذه الحالة بالنسبة إلى بعض الخلق.

الثاني: أن الله تعالى إذا أنعم عليك بنعمة طلب عندها منك عملاً تتوصل به إلى استحقاق نعم الآخرة، فكأنه تعالى يأمرك بأن تكتسب لنفسك سعادة الأبد، وأما غير الله فإنه إذا أنعم عليك بنعمة أمرك بالاشتغال بخدمته والانصراف إلى تحصيل مقصوده، ولا شك أن الحالة الأولى أفضل.

الثالث: أن المنعم عليه يصير كالعبد للمنعم، وعبودية الله أولى من عبودية غير الله.

الرابع: أن السلطان إذا أنعم عليك فهو غير عالم بتفاصيل أحوالك، فقد ينعم عليك حال ما تكون غنياً عن إنعامه، وقد يقطع عنك إنعامه حال ما تكون محتاجاً إلى إنعامه، وأيضاً فهو غير قادر على الإنعام عليك في كل الأوقات وبجميع المرادات، أما الحق تعالى فإنه عالم بجميع المعلومات قادر على كل الممكنات، فإذا ظهرت بك حاجة عرفها، وإن طلبت منه شيئاً قدر على تحصيله، فكان ذلك أفضل.

-144-

الخامس: الإنعام يوجب المنة، وقبول المنة من الحق أفضل من قبولها من الخلق.

فثبت بما ذكرنا أن الرحمن الرحيم هو الله تعالى، وبتقدير أن يحصل رحمن آخر فرحمة الله تعالى أكمل وأفضل وأعلى وأجل،والله أعلم.

الباب الحادي عشر

في بعض النكت المستخرجة من قولنا (بسم الله الرحمن الرحيم)

إشارات البسملة:

النكتة الأولى: مرض موسى عليه السلام واشتد وجع بطنه، فشكا إلى الله تعالى، فدله على عشب في المفازة، فأكل منه فعوفي بإذن الله تعالى، ثم عاوده ذلك المرض في وقت آخر فأكل ذلك العشب فازداد مرضه، فقال: يا رب، أكلته أولاً فانتفعت به، وأكلته ثانياً فازداد مرضي، فقال: لأنك في المرة الأولى ذهبت مني إلى الكلأ فحصل فيه الشفاء، وفي المرة الثانية ذهبت منك إلى الكلأ فازداد المرض، أما علمت أن الدنيا كلها سم قاتل وترياقها اسمي؟.

الثانية: باتت رابعة ليلة في التهجد والصلاة، فلما انفجر الصبح نامت، فدخل السارق دارها وأخذ ثيابها؛ وقصد الباب فلم يهتد إلى الباب، فوضعها فوجد الباب، ففعل ذلك ثلاث مرات، فنودي من زاوية البيت: ضع القماش واخرج فإن نام الحبيب فالسلطان يقظان.

الثالثة: كان بعض العارفين يرعى غنماً وحضر في قطيع غنمه الذئاب، وهي لا تضر أغنامه، فمر عليه رجل وناداه: متى اصطلح الذئب والغنم؟ فقال الراعي: من حين اصطلح الراعي مع الله تعالى.

الرابعة: قوله (بسم الله) معناه أبدأ باسم الله، فأسقط منه قوله: «أبدأ» تخفيفاً، فإذا قلت بسم الله فكأنك قلت أبدأ باسم الله، والمقصود منه التنبيه على أن العبد من أول ما شرع في العمل كان مدار أمره على التسهيل والتخفيف والمسامحة، فكأنه تعالى في أول كلمة ذكرها لك جعلها دليلاً على الصفح والإحسان.

الخامسة: روى أن فرعون قبل أن يدعي الإلهية بنى قصراً وأمر أن يكتب (بسم الله) على بابه الخارج، فلما ادعى الإلهية وأرسل إليه موسى عليه السلام ودعاه فلم يرَ به أثر الرشد قال: إلهي كم أدعوه ولا أرى به خيراً، فقال تعالى: يا موسى، لعلك تريد إهلاكه، أنت تنظر إلى كفره وأنا أنظر إلى ما كتبه على بابه، والنكتة أن من كتب هذه الكلمة على بابه الخارج صار آمناً من الهلاك وإن كان كافراً فالذي كتبه على سويداء قلبه من أول عمره إلى آخره كيف يكون حاله؟.

السادسة: سمى نفسه رحماناً رحيماً فكيف لا يرحم؟ روى أن سائلاً وقف على باب رفيع فسأل شيئاً فأعطي قليلاً، فجاء في اليوم الثاني بفأس وأخذ يخرب الباب فقيل له: ولم تفعل؟ قال: إما أن يجعل الباب لائقاً بالعطية أو العطية لائقة بالباب.

-145-

إلهنا إن بحار الرحمة بالنسبة إلى رحمتك أقل من الذرة بالنسبة إلى العرش، فكما ألقيت في أول كتابك على عبادك صفة رحمتك فلا تجعلنا محرومين عن رحمتك وفضلك.

السابعة: «الله» إشارة إلى القهر والقدرة والعلو، ثم ذكر عقيبه الرحمن الرحيم، وذلك يدل على أن رحمته أكثر وأكمل من قهره.

الثامنة: كثيراً ما يتفق لبعض عبيد الملك أنهم إذا اشتروا شيئاً من الخيل والبغال والحمير وضعوا عليها سمة الملك لئلا يطمع فيها الأعداء، فكأنه تعالى يقول: إن لطاعتك عدواً وهو الشيطان فإذا شرعت في عمل فاجعل عليه سمتي، وقل: بسم الله الرحمن الرحيم، حتى لا يطمع العدو فيها.

التاسعة: اجعل نفسك قرين ذكر الله تعالى حتى لا تبعد عنه في الدارين، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " دفع خاتمه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال: أكتب فيه لا إله إلا الله، فدفعه إلى النقاش وقال: أكتب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، فكتب النقاش فيه ذلك، فأتى أبو بكر بالخاتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى النبي فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله أبو بكر الصديق، فقال: يا أبا بكر، ما هذه الزوائد؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله ما رضيت أن أفرق إسمك عن إسم الله، وأما الباقي فما قلته، وخجل أبو بكر، فجاء جبريل عليه السلام وقال: يا رسول الله أما إسم أبي بكر فكتبته أنا لأنه ما رضي أن يفرق إسمك عن اسم الله فما رضي الله أن يفرق إسمه عن إسمك " والنكتة أن أبا بكر لما لم يرض بتفريق اسم محمد صلى الله عليه وسلم عن إسم الله عزّ وجلّ وجد هذه الكرامة فكيف إذا لم يفارق المرء ذكر الله تعالى؟.

العاشرة: أن نوحاً عليه السلام لما ركب السفينة قال:

{ بِسْمِ اللَّهِ مَجْرِيهَا وَمُرْسَاهَا } [هود11: 41]

فوجد النجاة بنصف هذه الكلمة، فمن واظب على هذه الكلمة طول عمره كيف يبقى محروماً عن النجاة؟ وأيضاً أن سليمان عليه السلام نال مملكة الدنيا والآخرة بقوله:

{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ } [النمل27: 30]

فالمرجو أن العبد إذا قاله فاز بملك الدنيا والآخرة.


الحادية عشرة: إن قال قائل لم قدم سليمان عليه السلام إسم نفسه على إسم الله تعالى في قوله: { إنه من سليمان } فالجواب من وجوه: الأول: أن بلقيس لما وجدت ذلك الكتاب موضوعاً على وسادتها ولم يكن لأحد إليها طريق ورأت الهدهد واقفاً على طرف الجدار علمت أن ذلك الكتاب من سليمان، فأخذت الكتاب وقالت: إنه من سليمان، فلما فتحت الكتاب ورأت بسم الله الرحمن الرحيم قالت: وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، فقوله: { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } من كلام بلقيس لا كلام سليمان: الثاني: لعل سليمان كتب على عنوان الكتاب { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ } وفي داخل الكتاب ابتدأ بقوله: { بِسْمِ اللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } كما هو العادة في جميع الكتب، فلما أخذت بلقيس ذلك الكتاب قرأت ما في عنوانه، فقالت: إنه من سليمان، فلما فتحت الكتاب قرأت: بسم الله الرحمن الرحيم، فقالت: وأنه بسم الله الرحمن الرحيم: الثالث: أن بلقيس كانت كافرة فخاف سليمان أن تشتم الله إذا نظرت في الكتاب فقدم إسم نفسه على إسم الله تعالى، ليكون الشتم له لا لله تعالى.

-146-

الثانية عشرة: الباء من «بسم» مشتق من البر فهو البار على المؤمنين بأنواع الكرامات في الدنيا والآخرة، وأجل بره وكرامته أن يكرمهم يوم القيامة برؤيته.

مرض لبعضهم جار يهودي قال: فدخلت عليه للعيادة وقلت له: أسلم، فقال: على ماذا؟ قلت: من خوف النار قال: لا أبالي بها، فقلت: للفوز بالجنة، فقال: لا أريدها، قلت: فماذا تريد؟ قال: على أن يريني وجهه الكريم، قلت: أسلم على أن تجد هذا المطلوب، فقال لي: أكتب بهذا خطاً، فكتبت له بذلك خطاً فأسلم ومات من ساعته، فصلينا عليه ودفناه، فرأيته في النوم كأنه يتبختر فقلت له: يا شمعون، ما فعل بك ربك؟ قال: غفر لي، وقال لي: أسلمت شوقاً إليّ.

وأما السين فهو مشتق من اسمه السميع، يسمع دعاء الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى.

روي أن زيد بن حارثة خرج مع منافق من مكة إلى الطائف فبلغا خربة فقال المنافق ندخل ههنا ونستريح، فدخلا ونام زيد فأوثق المنافق زيداً وأراد قتله، فقال زيد: لم تقتلني؟ قال: لأن محمداً يحبك وأنا أبغضه، فقال زيد: يا رحمن أغثني، فسمع المنافق صوتاً يقول: ويحك لا تقتله، فخرج من الخربة ونظر فلم يرَ أحداً، فرجع وأراد قتله فسمع صائحاً أقرب من الأول يقول: لا تقتله، فنظر فلم يجد أحداً، فرجع الثالثة وأراد قتله فسمع صوتاً قريباً يقول: لا تقتله، فخرج فرأى فارساً معه رمح فضربه الفارس ضربة فقتله، ودخل الخربة وحل وثاق زيد، وقال له: أما تعرفني؟ أنا جبريل حين دعوت كنت في السماء السابعة فقال الله عزّ وجلّ: (أدرك عبدي)، وفي الثانية كنت في السماء الدنيا، وفي الثالثة بلغت إلى المنافق.

وأما الميم فمعناه أن من العرش إلى ما تحت الثرى ملكه وملكه.

قال السدي: أصاب الناس قحط على عهد سليمان بن داود عليهما السلام، فأتوه فقالوا له: يا نبي الله، لو خرجت بالناس إلى الاستسقاء، فخرجوا وإذا بنملة قائمة على رجليها باسطة يديها وهي تقول: اللهم أنا خلق من خلقك، ولا غنى لي عن فضلك، قال: فصب الله تعالى عليهم المطر، فقال لهم سليمان عليه السلام: ارجعوا فقد استجيب لكم بدعاء غيركم.

-147-

أما قوله: «الله» فاعلموا أيها الناس أني أقول طول حياتي الله، فإذا مت أقول الله، وإذا سئلت في القبر أقول الله، وإذا جئت يوم القيامة أقول الله، وأذا أخذت الكتاب أقول الله وإذا وزنت أعمالي أقول الله، وإذا جزت الصراط أقول الله، وإذا دخلت الجنة أقول الله، وإذا رأيت الله قلت الله.

النكتة الثالثة عشرة: الحكمة في ذكر هذه الأسماء الثلاثة أن المخاطبين في القرآن ثلاثة أصناف كما قال تعالى:

{ فَمِنْهُمْ ظَـٰلِمٌ لّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرٰتِ } [فاطر35: 32]

فقال: أنا الله للسابقين، الرحمن للمقتصدين، الرحيم للظالمين، وأيضاً الله هو معطي العطاء، والرحمن هو المتجاوز عن زلات الأولياء، والرحيم هو المتجاوز عن الجفاء، ومن كمال رحمته كأنه تعالى يقول أعلم منك ما لو علمه أبواك لفارقاك، ولو علمته المرأة لجفتك، ولو علمته الأمة لأقدمت على الفرار منك، ولو علمه الجار لسعى في تخريب الدار، وأنا أعلم كل ذلك وأستره بكرمي لتعلم أني إله كريم.


الرابعة عشرة: الله يوجب ولايته، قال الله تعالى:

{ ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ } [البقرة2: 256]

والرحمن يوجب محبته، قال الله تعالى:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وُدّاً } [مريم19: 96]

والرحيم يوجب رحمته

{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [الأحزاب33: 43].


الخامسة عشرة: قال عليه الصلاة والسلام: " من رفع قرطاساً من الأرض فيه «بسم الله الرحمن الرحيم» إجلالاً له تعالى كتب عند الله من الصديقين، وخفف عن والديه وإن كانا مشركين " وقصة بشر الحافي في هذا الباب معروفة، وعن أبي هريرة أنه عليه الصلاة والسلام قال: " يا أبا هريرة، إذا توضأت فقل: بسم الله، فإن حفظتك لا تبرح أن تكتب لك الحسنات حتى تفرغ، وإذا غشيت أهلك فقل: بسم الله، فإن حفظتك يكتبون لك الحسنات حتى تغتسل من الجنابة، فإن حصل من تلك الواقعة ولد كتب لك من الحسنات بعدد نفس ذلك الولد، وبعدد أنفاس أعقابه إن كان له عقب، حتى لا يبقى منهم أحد. يا أبا هريرة إذا ركبت دابة فقل: بسم الله والحمد لله، يكتب لك الحسنات بعدد كل خطوة، وإذا ركبت السفينة فقل: بسم الله والحمد لله، يكتب لك الحسنات حتى تخرج منها " وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا نزعوا ثيابهم أن يقولوا: بسم الله الرحمن الرحيم، والإشارة فيه أنه إذا صار هذا الاسم حجاباً بينك وبين أعدائك من الجن في الدنيا أفلا يصير حجاباً بينك وبين الزبانية في العقبى؟ ".

-148-

السادسة عشرة: كتب قيصر إلى عمر رضي الله عنه أن بي صُداعاً لا يسكن فابعث لي دواء، فبعث إليه عمر قلنسوة فكان إذا وضعها على رأسه يسكن صداعه، وإذا رفعها عن رأسه عاوده الصداع، فعجب منه ففتش القلنسوة فإذا فيها كاغد مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم.

السابعة عشرة: قال صلى الله عليه وسلم: " من توضأ ولم يذكر اسم الله تعالى كان طهوراً لتلك الأعضاء، ومن توضأ وذكر اسم الله تعالى كان طهوراً لجميع بدنه " فإذا كان الذكر على الوضوء طهوراً لكل البدن فذكره عن صميم القلب أولى أن يكون طهوراً للقلب عن الكفر والبدعة.

الثامنة عشرة: طلب بعضهم آية من خالد بن الوليد فقال: إنك تدعي الإسلام فأرنا آية لنسلم، فقال: ائتوني بالسم القاتل، فأتى بطاس من السم، فأخذها بيده وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، وأكل الكل وقام سالماً بإذن الله تعالى، فقال المجوس هذا دين حق.

التاسعة عشرة: مر عيسى بن مريم عليه السلام على قبر فرأى ملائكة العذاب يعذبون ميتاً، فلما انصرف من حاجته مر على القبر فرأى ملائكة الرحمة معهم أطباق من نور، فتعجب من ذلك، فصلى ودعا الله تعالى فأوحى الله تعالى إليه: يا عيسى، كان هذا العبد عاصياً ومذ مات كان محبوساً في عذابي، وكان قد ترك امرأة حبلى فولدت ولداً وربته حتى كبر، فسلمته إلى الكتاب فلقنه المعلم بسم الله الرحمن الرحيم، فاستحيت من عبدي أن أعذبه بناري في بطن الأرض وولده يذكر اسمي على وجه الأرض.

العشرون: سئلت عمرة الفرغانية ـ وكانت من كبار العارفات ـ ما الحكمة في أن الجنب والحائض منهيان عن قراءة القرآن دون التسمية فقالت: لأن التسمية ذكر اسم الحبيب والحبيب لا يمنع من ذكر الحبيب.

الحادية والعشرون: قيل في قوله: «الرحيم» هو تعالى رحيم بهم في ستة مواضع في القبر وحشراته، والقيامة وظلماته، والميزان ودرجاته، وقراءة الكتاب وفزعاته، والصراط ومخافاته والنار ودركاته.

الثانية والعشرون: كتب عارف «بسم الله الرحمن الرحيم» وأوصى أن تجعل في كفنه فقيل له: أي فائدة لك فيه فقال: أقول يوم القيامة: إلهي بعثت كتاباً وجعلت عنوانه بسم الله الرحمن الرحيم، فعاملني بعنوان كتابك.

الثالثة والعشرون: قيل «بسم الله الرحمن الرحيم» تسعة عشر حرفاً، وفيه فائدتان: إحداهما: أن الزبانية تسعة عشر، فالله تعالى يدفع بأسهم بهذه الحروف التسعة عشر، الثانية: خلق الله تعالى الليل والنهار أربعة وعشرين ساعة، ثم فرض خمس صلوات في خمس ساعات فهذه الحروف التسعة عشر تقع كفارات للذنوب التي تقع في تلك الساعات التسعة عشر.

الرابعة والعشرون: لما كانت سورة التوبة مشتملة على الأمر بالقتال لم يكتب في أولها «بسم الله الرحمن الرحيم» وأيضاً السنة أن يقال عند الذبح «باسم الله، والله أكبر» ولا يقال: «بسم الله الرحمن الرحيم» لأن وقت القتال والقتل لا يليق به ذكر الرحمن الرحيم، فلما وفقك لذكر هذه الكلمة في كل يوم سبع عشرة مرة في الصلوات المفروضة دل ذلك على أنه ما خلقك للقتل والعذاب، وإنما خلقك للرحمة والفضل والإحسان، والله تعالى الهادي إلى الصواب.

-149-

الكلام في سورة الفاتحة وفي ذكر أسماء

هذه السورة، وفيه أبواب:

الباب الأول

اعلم أن هذه السورة لها أسماء كثيرة، وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى: ـ

أسماء الفاتحة وسببها:

فالأول: «فاتحة الكتاب» سميت بذلك الاسم لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم، والقراءة في الصلاة، وقيل سميت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كلام على ما سيأتي تقريره، وقيل لأنها أول سورة نزلت من السماء.

والثاني: «سورة الحمد» والسبب فيه أن أولها لفظ الحمد.

والثالث: «أم القرآن» والسبب فيه وجوه:

الأول: أن أم الشيء أصله، والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى، فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } يدل على الإلهيات، وقوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } يدل على المعاد، وقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } يدل على نفي الجبر والقدر وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله وقدره، وقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } يدل أيضاً على إثبات قضاء الله وقدره وعلى النبوات، وسيأتي شرح هذه المعاني بالاستقصاء، فلما كان المقصد الأعظم من القرآن هذه المطالب الأربعة وكانت هذه السورة مشتملة عليها لقبت بأم القرآن.

السبب الثاني لهذا الاسم: أن حاصل جميع الكتب الإلهية يرجع إلى أمور ثلاثة: إما الثناء على الله باللسان، وإما الاشتغال بالخدمة والطاعة، وإما طلب المكاشفات والمشاهدات، فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } كله ثناء على الله، وقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } اشتغال بالخدمة والعبودية،إلا أن الابتداء وقع بقوله { إياك نعبد } وهو إشارة إلى الجد والاجتهاد في العبودية، ثم قال: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } وهو إشارة إلى اعتراف العبد بالعجز والذلة والمسكنة والرجوع إلى الله، وأما قوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } فهو طلب للمكاشفات والمشاهدات وأنواع الهدايات.

السبب الثالث لتسمية هذه السورة بأم الكتاب: أن المقصود من جميع العلوم: إما معرفة عزة الربوبية، أو معرفة ذلة العبودية فقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } يدل على أنه هو الإله المستولي على كل أحوال الدنيا والآخرة، ثم من قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } إلى آخر السورة يدل على ذل العبودية، فإنه يدل على أن العبد لا يتم له شيء من الأعمال الظاهرة ولا من المكاشفات الباطنة إلا بإعانة الله تعالى وهدايته.

-150-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع
ابحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:31 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.