مكتب انجاز استخراج تصاريح الزواج  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي : حكم لصالح موكلنا بأحقيتة للمبالغ محل ...  آخر رد: الياسمينا    <::>    منتجات يوسيرين: رفع مستوى روتين العناية بالبشرة مع ويلنس سوق  آخر رد: الياسمينا    <::>    اكتشفي منتجات لاروش بوزيه الفريدة من نوعها في ويلنس سوق  آخر رد: الياسمينا    <::>    منتجات العناية بالبشرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    استكشف سر جمال شعرك في ويلنس سوق، الوجهة الأولى للعناية بالش...  آخر رد: الياسمينا    <::>    ويلنس سوق : وجهتك الأساسية لمنتجات العناية الشخصية والجمال  آخر رد: الياسمينا    <::>    موقع كوبون جديد للحصول على اكواد الخصم  آخر رد: الياسمينا    <::>    إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم
التسجيل التعليمات الملحقات التقويم مشاركات اليوم البحث

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #21  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق 1-13

تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق 1-13

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } * { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } * { يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }


فلما علم ذلك كله وكانت الأمثال ألصق بالبال وأكشف للأحوال مثل حالهم في هداهم الذي باعوه بالضلالة بالأمور المحسوسة، لأن للتمثيل بها شأناًعظيماً في إيصال المعاني حتى إلى الأذهان الجامدة وتقريرها فيها بقوله تعالى { مثلهم } أي في حالهم هذه التي طلبوا أن يعيشوا بها { كمثل الذي استوقد ناراً } أي طلب أن توقد له وهي هداه ليسير في نورها، وأصلها من نار إذا نفر لتحركها واضطرابها، فوقدت وأنارت.

{ فلما أضاءت } أي النار، وأفراد الضمير باعتبار لفظ " الذي " فقال: { ما حوله } وأراد أن ينتفع بها في إبصار ما يريد، وهو كناية عما حصل لهم من الأمنة بما قالوه من كلمة الإسلام من غير اعتقاد { ذهب الله } الذي له كمال العلم والقدرة، وجمع الضمير نظراً إلى المعنى لئلا يتوهم أن بعضهم انتفع دون بعض بعد أن أفراد تقليلاً للنور وإن كان قوياً في أوله لانطفائه في آخر فقال: { بنورهم } أي الذي نشأ من تلك النار بإطفائه لها ولا نور لهم سواه؛ ولم يقل: بضوئهم، لئلا يتوهم أن المذهوب به الزيادة فقط، لأن الضوء أعظم من مطلق النور

{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً } [يونس10: 5]


فذهب نورهم وبقيت نارهم ليجتمع عليهم حرّها مع حر الفقد لما ينفعهم من النور، وعبر بالإضاءة أولاً إشارة إلى قوة أولهم وانمحاق آخرهم، لأن محط حالهم الباطل والباطل له صولة ثم تضمحل عند من ثبت لها ليتبين الصادق من الكاذب، وعبر بالذهاب به دون إذهابه ليدل نصاً على أنه سبحانه ليس معهم وحقق ذلك بالتعبير عن صيّر بترك فقال: { وتركهم في ظلمات } أي بالضلالة من قلوبهم وأبصارهم وليلهم أي ظلمات لا ينفذ فيها بصر، فلذا كانت نتيجته { لا يبصرون } أي لا إبصار لهم أصلاً ببصر ولا بصيرة.

ولما فرغ من المثل كشف المراد بظلماتهم بأنها ما في آذانهم من الثقل المانع من الانتفاع بالسماع، وما في ألسنتهم من الخرس عن كلام الخير الناشىء عن عدم الإدراك الناشىء عن عمى البصائر وفساد الضمائر والسرائر، وما على أبصارهم من الغشاوة المانعة من الاعتبار وعلى بصائرهم من الأغطية المنافية للادّكار فقال: { صم } أي عن السماع النافع { بكم } عن النطق المفيد لأن قلوبهم مختوم عليها فلا ينبعث منها خير تقذفه إلى الألسنة { عمي } في البصر والبصيرة عن الإبصار المرشد لما تقدم من الختم على مشاعرهم، ولما كان في مقام إجابة الداعي إلى الإيمان قدم السمع لأنه العمدة في ذلك، وثنى بالقول لأنه يمكن الأصم الإفصاح عن المراد، وختم بالبصر لإمكان الاهتداء به بالإشارة؛ وكذا ما يأتي في هذه السورة سواء بخلاف ما في الإسراء، { فهم } أي فتسبب عن ذلك أنهم { لا } ولما كان المراد التعميم في كل رجوع لم يذكر المرجوع عنه فقال: { يرجعون } أي عن طغيانهم وضلالهم إلى الهدى الذي باعوه ولا إلى حالهم الذي كانوا عليه ولا ينتقلون عن حالهم هذا أصلاً، لأنهم كمن هذا حاله، ومن هذا حاله لا يقدر على مفارقة موضعه بتقدم ولا تأخر.
-1-

{ أو } مثلهم في سماع القرآن الذي فيه المتشابه والوعيد والوعد { كصيب } أي أصحاب صيب أي مطر عظيم، وقال الحرالي: سحاب ممطر دارٍّ ثم اتبعه تحقيقاً لأن المراد الحقيقة قوله: { من السماء } وهو كما قال الحرالي ما علا فوق الرأس، يعني هذا أصلة والمراد هنا معروف، ومثل القرآن بهذا لمواترة نزوله وعلوه وإحيائه القلوب كما أن الصيب يحيي الأرض، ثم أخبر عن حاله بقوله: { فيه ظلمات } أي لكثافة السحاب واسوداده { ورعد } أي صوت مرعب يرعد عند سماعه { وبرق } أي نور مبهت للمعانه وسرعته ـ قاله الحرالي، والظلمات مثل ما لم يفهموه، والرعد ما ينادى عليهم بالفضيحة والتهديد والبرق ما لم يلوح لهم معناه ويداخلهم رأي في استحسانه.

ولما تم مثل القرآن استأنف الخبر عن حال الممثل لهم والممثل بهم حقيقة ومجازاً فقال: { يجعلون أصابعهم } أي بعضها ولو قدروا لحشوا الكل لشدة خوفهم { في آذانهم من الصواعق } أي من أجل قوتها، لأن هولها يكاد أن يصم، وقال الحرالي: جمع صاعقة وهو الصوت الذي يميت سامعه أو يكاد، ثم علل هذا بقوله: { حذر الموت والله } أي والحال أن المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { محيط بالكافرين } فلا يغنيهم من قدره حذر، وأظهر موضع الإضمار لإعراضهم عن القرآن وسترهم لأنواره.

ثم استأنف الحديث عن بقية حالهم فقال: { يكاد البرق } أي من قوة لمعه وشعاعه وشدة حركته وإسراعه { يخطف أبصارهم } فهم يغضونها عند لمعه وخفضه في ترائبه ورفعه، ولما كان من المعلوم أن البرق ينقضي لمعانه بسرعة كان كأنه قيل: ماذا يصنعون عند ذلك؟ فقال: { كلما } وعبر بها دون إذا دلالة على شدة حرصهم على إيجاد المشي عند الإضاءة { أضاء لهم مشوا فيه } مبادرين إلى ذلك حراصاً عليه لا يفترون عنه في وقت من أوقات الإضاءة مع أنهم يغضون أبصارهم ولا يمدونها غاية المد خوفاً عليهم ووقوفاً مع الأسباب ووثوقاً بها واعتماداً عليها وغفلة عن رب الأرباب، وهو مثل لما وجدوا من القرآن موافقاً لآرائهم، وعطف بإذا لتحقق خفوته بعد خفوته قوله: { وإذا أظلم عليهم قاموا } أي أول حين الإظلام لا يقدرون على التقدم خطوة واحده إشارة إلى أنه ليست لهم بصائر بها فيما كشف البرق لأبصارهم من الأرض قبل الإظلام بل حال انقطاع اللمعان يقفون لعمى بصائرهم ووحشتهم وجبنهم وغربتهم وشدة جزعهم وحيرتهم، وهكذا حال هؤلاء لا يقيسون ما أشكل عليهم من القرآن على ما فهموه.
-2-

{ ولو شاء الله } الذي له العظمة الباهرة مع شدة حرصهم وتناهي جزعهم، ودل على مفعول شاء بقوله: { لذهب بسمعهم } أي بقاصف الرعد ولم يغنهم سدّ آذانهم { وأبصارهم } بخاطف البرق ولم يمنعه غضَّهم لها، ثم علل ذلك بقوله: { إن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { على كل شيء } أي مشيء أي يصح أن تقع عليه المشيئة هذا المراد وإن كان الشيء كما قال سيبوية يقع على كل ما أخبر عنه، وهو أعم العام كما أن الله أخص الخاص، يجري على الجسم والعرض والقديم والمعدوم والمحال، وقول الأشاعرة: إن المعدوم ليس بشيء، بمعنى أنه ليس بثابت في الأعيان متميز فيها { قدير } إعلاماً بأن قدرته لا تتقيد بالأسباب، قال الحرالي: القدرة إظهار الشيء من غير سبب ظاهر ـ انتهى.

ولعله سبحانه قدم المثل الأول لأنه كالجزء من الثاني، أو لأنه مثل المنافقين، جعلت مدة صباهم بنموهم وازدياد عقولهم استيقاداً مع جعل الله إياهم على الفطرة القويمة وزمان بلوغهم بتمام العقل الغريزي إضاءة؛ والثاني مثل المنافقين وهو أبلغ. لأن الضلال فيه أشنع وأفظع. فالصيب القرآن الذي انقادوا له ظاهراً،والظلمات متشابهه، والصواعق وعيده، والبرق وعده، كلما أنذروا بوعيد انقطعت قلوبهم خوفاً

{ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } [المنافقون63: 4]

وكلما بشروا انقادوا رجاء، وإذا عرض المتشابه وقفوا تحيراً وجفاء وكل ذلك وقوفاً مع الدنيا وانقطاعاً إليها، لا نفوذ لهم إلى ما وراءها أصلاً، بل هم كالأنعام، لا نظر لهم ألى ما سوى الجزيئات والأمور المشاهدات،

{ فَإِن كَانَ لَكُم فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَم نَكُن مَعَكُم } [النساء4: 141]
{ يَالَيْتَنِي كُنتُ مَعَهُم فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } [النساء4: 73]

والكلام الجامع النافع في ذلك أن يقال إنه سبحانه شبّه في الأول مثلهم بمثل المستوقَد لا بالمستوقِد، وفي الثاني شبه مثلهم في خوفهم اللازم ورجائهم المنقطع بأصحاب الصيب لا بمثلهم؛ فتقدير الأول مثلهم في أنهم سمعوا أولاً الدعاء ورأوا الآيات فأجابوا الداعي إما بالفعل كالمنافقين وإما بالقوة في أيام الصبا لما عندهم من سلامة الفطر وصحة النظر، ثم تلذذوا فرجعوا بقلوبهم من نور ما قالوه بألسنتهم من كلمة التقوى نطقاً أو تقديراً إلى ظلمات الكفر، فلم ينفعهم سمع ولا بصر ولا عقل، فصاروا مثل البهائم التي لا تطيع الراعي إلا بالزجر البليغ، مثلهم في هذا يشبه مثل المستوقد في أنه لما أضاءت ناره رأى ما حوله، فلما ذهبت لم يقدر على تقدم ولا تأخر، لأنه لا ينفع في ذلك سمع ولا كلام فإذن استوى وجودهما وعدمهما، فصار عادماً للثلاثة، فكان من هذه الجهة مساوياً للأصم الأبكم الأعمى، فهو مثله لكونه لا يقدر على مراده إلا أن قاده قائد حسي، فهو حينئذ مثل البهائم التي لا تقاد للمراد إلا بقائد، فاستوى المثلان وسيتضح ذلك عند قوله تعالى:

-3-

{ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ } [البقرة2: 171]

ولذلك كانت النتيجة في كل منها صم ـ إلى آخره و " او " بمعنى الواو، ولعله عبر بها دونها لأنه وإن كان كل من المثلين صالحاً لكل من القسمين فإن احتمال التفصيل غير بعيد، لأن الأول أظهر في الأول والثاني في الثاني.

وجعل الحرالي المثلين للمنافقين فقال: ضرب لهم مثلين لما كان لهم حالان وللقرآن عليهم تنزلان، منه ما يرغبون فيه لما فيه من مصلحة دنياهم، فضرب لهم المثل الأول، وقدمه لأنه سبب دخولهم مع الذين آمنوا لما رأوا من معاجلة عقاب الذين كفروا في الدنيا؛ ومنه ما يرهبونه ولا يستطيعون سماعه لما يتضمنه من أمور شاقة عليهم لا يحملها إلا مؤمن حقاً ولا يتحملها إلا من أمن، ولما يلزم منه من فضيحة خداعهم فضرب له المثل الثاني؛ فلن يخرج حالهم عند نزول نجوم القرآن عن مقتضى هذين المثلين ـ اتهى. وضرب الأمثال المنهي إلى الحمد المنتهي إلى الإحاطة بكل حد لا سيما في أصول الدين الكاشف لحقيقة التوحيد الموصل إلى اليقين في الإيمان بالغيب المحقق لما لله تعالى من صفات الكمال الدافع للشكول الحافظ في طريق السلوك مما اختص به القرآن من حيث كان منهياً إلى الحمد ومفصحاً به فكان حرف الحمد، وذلك أنه حرف عام محيط شامل لجميع الأمور كافل بكل الشرائع في سائر الأزمان؛ فكان أحق الرسل به من كانت رسالته عامة لجميع الخلق وكتابه شاملاً لجميع الأمر وهو أحمد ومحمد صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام أبو الحسن الحرالي في كتابه " عروة المفتاح ": هذا الحرف لإحاطته أنزل وتراً وسائر الحروف أشفاع لاختصاصها، ووجه إنزاله تفهيم ما غمض من المغيبات بضرب مثل من المشهودات، ولما كان للأمر تنزلات وللخلق تطورات كان الأظهر منها مثلاً لما هو دونه في الظهور، وكلما ظهر ممثول صار مثلاً لما هو أخفى منه، فكان لذلك أمثالاً عدداً منها مثل ليس بممثول لظهوره وممثولات تصير أمثالاً لما هو أخفى منها إلى أن تنتهي الأمثال إلى غاية محسوس أو معلوم، فتكون تلك الغاية مثلاً أعلى كالسماوات والأرض فيما يحس والعرش والكرسي فيما يعلم

{ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الروم30: 18]

وأحمده أنهاه وأدناه إلى الله تعالى بحيث لا يكون بينه وبين الله تعالى واسطة، فلذلك ما استحق أكمل الخلق وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه وأكمل الأمر وأجمعه الاختصاص بالحمد، فكان أكمل الأمور سورة الحمد وكان أكمل الخلق صورة محمد صلى الله عليه وسلم، كان خُلقه القرآن

{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْءَانَ الْعَظِيمَ } [الحجر: 87]
-4-

ودون المثل الأعلى الجامع الأمثال العلية المفصلة منه

{ ضَرَبَ لَكُم مَثَلاً مِن أَنفُسِكُم } [الروم30: 28]

ولإحاطة أمر الله وكماله في كل شيء يصح أن يضربه مثلاً

{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة2: 26]
{ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَت بَيْتاً } [العنكبوت29: 41]

وللمثل حكم من ممثوله، إن كان حسناً حسنَ مثله، وإن كان سيئاً ساء مثله؛ ولما كان أعلى الأمثال الحمد كان أول الفاتحة الحمد، ولما كان أخفى أمر الخلق النفاق كان أول مثل في الترتيب مثل النفاق، وهو أدنى مثل أمثال حسنة وسيئة

{ مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ } [الرعد13: 35] الآيتين،
{ مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا } [الجمعة62: 5]
{ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ } [الأعراف7: 176] الآيتين.

وبقدر علو المثل أو دنوه أو توسطه يتزايد للمؤمن الإيمان وللعالم العلم وللفاهم الفهم، وبضد ذلك لمن اتصف بأضداد تلك الأوصاف، { فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلاً يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً } ومعرفة أمثال القرآن المعرفة إحاطة ممثولاتها وعلم آياته المعلمة اختصاص معلوماتها هو حظ العقل واللب وحرفه من القرآن، ولكل حرف اختصاص بحظ من تدرّك الإنسان وأعمال القلوب والأنفس والأبدان، فمن يسر له القراءة والعمل بحرف منه اكتفى، ومن جمع له قراءة جميع أحرفه علماً وعملاً فقد أتم ووفّى، وبذلك يكون القارىء من القراء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنهم أعز من الكبريت الأحمر "


ثم قال فيما به يحصل قراءة هذا الحرف: اعلم أن قراءة الأحرف الستة تماماً وفاء بتفصيل العبادة، لأنها أشفاع ثلاثة للتخلص والتخلي وثلاثة للعمل والتحلي، لأن ترك الحرام طهرة البدن وترك النهي طهرة النفس وترك التعرض للمتشابه طهرة القلب، ولأن تناول الحلال زكاء البدن وطاعة الأمر زكاء النفس وتحقق العبودية بمقتضى حرف المحكم نور القلب؛ وأما قراءة حرف الأمثال فهو وفاء العبادة بالقلب جمعاً ودواماً

{ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً } [النحل16: 52] و
{ الَّذِينَ هُم عَلَى صَلَاتِهِم دَائِمُونَ } [المعارج70: 23]

فالذي يحصل قراءة هذا الحرف إنما هو خاص بالقلب، لأن أعمال الجوارح وأحوال النفس قد استوفتها الأحرف السته التفصيلية، والذي يخص القلب بقراءة هذا الحرف هو المعرفة التامه المحيطة بأن كل الخلق دقيقة وجليلة خلق الله وحده لا شريك له في شيء منه، وأنه جميعه مثل لكلية أمر الله القائم بكلية ذلك الخلق، وإن كلية ذلك الأمر الذي هو ممثول لمثل الخلق هو مثل لله تعلى:

{ وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى } [الروم30: 27]

وأن تفاصيل ذلك الخلق المحيطات أمثل لقيامها من تفاصيل ذلك الأمر المحيطات بها، وأن تفاصيل الأمر المحيطات أمثال لأسماء الله تعالى الحسنى بما هي محيطة؛ ولجمع هذا الحرف لم يصح إنزاله إلا على الخلق الجامع الآدمي الذي هو صفوة الله وفطرته، وعلى سيد الآدميين محمد خاتم النبيين وهو خاصته وخاصة آله، وعنه كمل الدين بالإحسان، وصفا العلم بالإيقان، وشوهد في الوقت الحاضر، ما بين حدي الأزل الماضي والأبد الغابر، وعن تمام اليقين والإحسان تحقق الفناء لكل فانٍِ وبقي وجه رب محمد ذي الجلال والإكرام، وكان هذا الحرف بما اسمه الحمد هو لكل شيء بداء وختام ـ انتهى.

-5-

ولما ثبت بهذا البيان عما للكافرين بقسميهم من الشقاوة مع تمام القدرة شمول العلم المستلزمان للواحدانية أنتج قطعاً إفراده بالعباده الموجبه للسعاده المضمنة لإياك نعبد، فوصل بذلك قوله مقبلاً عليهم بعد الإعراض عنهم عند التقسيم إيذاناً بأنهم صاروا بما تقدم من ضرب الأمثال وغيرها من حيز المتأهل للخطاب من غير واسطة تنشيطاً لهم في عبادته وترغيباً وتحريكاً إلى رفع أنفسهم بإقبال الملك الأعظم عن الخضوع لمن هو دونه بل دونهم وبشارة لمن أقبل عليه بعد أن كان معرضاً عنه بدوام الترقيه، فيزال ما أشار إليه حرف النداء والتعبير عن المنادى من بقية البعد بالسهو والغفلة والإعراض بالتقصير في العبادة والاضطراب والذبذبة { ياأيها الناس }.

قال الحرالي في تفسيره { يا } تنبيه من يكون بمسمع من المنبه ليقبل على الخطاب، وهو تنبيه في ذات نفس المخاطب ويفهم توسط البعد بين آيا الممدودة وأي المقصورة " أيّ " اسم مبهم، مدلوله اختصاص ما وقع عليه من مقتضى اسم شامل، " ها " كلمة مدلولها تنبيه على أمر يستفيده المنبه - انتهى. وأكد سبحانه الكلام بالإبهام والتنبيه والتوضيح بتعيين المقصود بالنداء تنبيهاً على أن ما يأتي بعده أمور مهمة يحق لها تشمير الذيول والقيام على ساق الجد.

وقال الحرالي: اعلم أنه كما اشتمل على القرآن كله فاتحة الكتاب فكذلك أيضاً جعل لكل سورة ترجمة جامعة تحتوي على جميع مثاني آيها، وخاتمة تلتئم وتنتظم بترجمتها، ولذلك تترجم السورة عدة سور، وسيقع التنبيه على ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. واعلم مع ذلك أن كل نبىء منبأ - يقرأ بالهمز - من النبأ وهو الخبر، فإنه شرع في دعوته وهو غير عالم بطية أمره وخبر قومه، وأن الله عز وجل جعل نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم نبياً منبياً من النبوة - يقرأ بغير همز. ومعناه رفعة القدر والعلو، فمما أعلاه الله به أن قدم له بين يدي دعوته علم طيّة أمره ومكنون علمه تعالى في سر التقدير الذي لم يزل خبأ في كل كتاب، فأعلمه بأنه تعالى جبل المدعوين الذين هم بصفة النوس مترددين بين الاستغراق في أحوال أنفسهم وبين مرجع إلى ذكر ربهم على ثلاثة أضرب: منهم من فُطِر على الإيمان ولم يطبع عليه أي على قلبه فهو مجيب ولا بد، ومنهم من طبع على الكفر فهو آب ولا بد، ومنهم من ردد بين طرفي الإيمان ظاهراً والكفر باطناً، وإن كلاًّ ميسر لما خلق له؛ فكان بذلك انشراح صدره في حال دعوته وزال به ضيق صدره الذي شارك به الأنبياء - بالهمز، ثم علا بعد ذلك إلى مستحق رتبته العلية، فكان أول ما افتتح له كتابه أن عرفه معنى ما تضمنته { الم } ثم فصل من ذلك ثلاثة أحوال المدعوين بهذا الكتاب، وحينئذ شرع في تلقينه الدعوة العامة للناس، فافتتح بعد ذلك الدعوة والنداء والدعوة إلى العبادة يعني بهذه الآية، وتولى الله سبحانه دعوة الخلق في هذه الدعوة العامة التي هي جامعة لكل دعوة في القرآن.
-6-

ولما ضمن صدرها من الوعيد في حق رسوله فلم يجر خطاب ذلك على لسانه، ولما فيها من السطوة وخطاب الملك والجزاء ومحمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين فلم ينبغ إجراؤها على لسانه لذلك، وغيره من الرسل فعامة دعوة من خص الله سبحانه خبر دعوته فهي مجراة على ألسنتهم ولذلك كثرت مقاواة قومهم ومدعويهم لهم، ولما أجرى الحق تعالى هذه الدعوة من قبله كان فيها بشرى بالغلبة وإظهار دينه، لأن الله سبحانه وتعالى لا يقاويه خلقه، ولما انتهى إلى البشرى التي هي رحمة أجرى الكلام على مخاطبته عليه السلام بقوله:

{ وَبَشِّرِ } [البقرة2: 25]

ومع إجراء دعوة المرسلين على ألسنتهم علقت باسم الله بلفظ

{ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ } [المائدة5: 117]

ونحو فعزّ على أكثر النفوس الإجابة لفوات اسم الله عن إدراك العقول، ومع تولي الله سبحانه لهذه الدعوة بسلطانه العلي أجراها باسم الربوبية وهو اسم أقرب مثالاً على النفوس، لأنها تشاهد آياته بمعنى التربية والربابة، ومع ذلك أيضاً فذكر اسم الله في دعوة المرسلين غير متبع ولا موصوف بآيات الإلهية، ولو ذكر لما قرب مثالاً علمها فهي كالشمس والقمر ونحو ذلك، وذكر تعالى الربوبية في هذه الدعوة متبعة بآياتها الظاهرة التي لا تفوت العقل والحس ولا يمكن إنكارها، ووجه بعد النفوس عن الانقياد عند الدعوة باسم الله أن آيات الربوبية التي يسهل عليها الانقياد من جهتها التي بيسير منها تنقاد للملوك وأولي الإحسان، لأنها جبلت على حب من أحسن إليها تبقى عند الدعوة باسم الله بمعزل عن الشعور بإضافتها لاسم الله ويحار العقل في المتوجه له بالعبادة، وتضيف النفوس الغافلة آيات الربوبية إلى ما تشاهده من أقرب الأسباب في العوائد، كالفصول التي نيطت الموالد والأقوات بها في مقتضى حكمة الله سبحانه أو إلى أسباب هذه الأسباب كالنجوم ونحو ذلك، فلا يلتئم للمدعو حال قوامه بعبادته فيكثر التوقف والإباء، واقتضى اليسر الذي أراد الله بهذه الأمة ذكر الربوبية منوطاً بآياتها - انتهى.

-7-

ولما كانت العبادة المختلّة بشرك أو غيره ساقطة والازدياد من الصحيحة والاستمرار عليها عبادة جديدة يحسن الأمر بها خاطب الفريقين فقال: { اعبدوا ربكم } أي الذي لا رب لكم غيره عبادة هي بحيث يقبلها الغني. ثم وصفه بما أشارت إليه صفة الرب من الإحسان تنبيهاً على وجوده ووجوب العبادة له بوجوب شكر المنعم فقال: { الذي خلقكم } ، قال الحرالي: { الذي } اسم مبهم مدلوله ذات موصوف بوصف يعقب به وهي الصلة اللازمة له، والخلق تقدير أمشاج ما يراد إظهاره بعد الامتزاج والتركيب صورة { والذين من قبلكم } القبل ما إذا عاد المتوجه إلى مبدأ وجهته أقبل عليه - انتهى.

ثم بين نتيجتها بقوله: { لعلكم تتقون } أي لتكون حالكم بعبادته لأنها كلها محاسن ولا حسن في غيرها حال من ترجى له التقوى، وهي اجتناب القبيح من خوف الله، وسيأتي في قوله: { لعلكم تشكرون } ما ينفع هنا. وقال الحرالي: لعل كلمة ترج لما تقدم سببه، وبدأ من آيات الربوبية بذكر الخلق لأنه في ذواتهم، ووصل ذلك بخلق من قبلهم حتى لا يستندوا بخلقهم إلى من قبلهم وترجى لهم التقوى لعبادتهم ربهم من حيث نظرهم إلى خلقهم وتقدير أمشاجهم، لأنهم إذا أسندوا خلقهم لربهم كان أحق أن يسندوا إليه ثمرة ذلك من صفاتهم وأفعالهم فيتوقفون عن الاستغناء بأنفسهم فينشأ لهم. بذلك تقوى - انتهى.

وما أحسن الأمر بالعبادة حال الاستدلال على استحقاقها بخلق الأولين والآخرين وما بعده عقب إثبات قدرة الداعي المشيرة إلى الترهيب من سطواته! ولقد بدع هذا الاستدلال على التفرد بالاستحقاق عقب أحوال من قرب أنهم في غاية الجمود بأمور مشاهدة يصل إليها كل عاقل بأول وهلة من دحو الأرض وما بعده مما به قوام بقائهم من السكن والرزق في سياق منبّه على النعمة محذر من سلبها دال على الإله بعد الدلالة بالأنفس من حيث إن كل أحد يعرف ضرورة أنه وُجد بعد أن لم يكن، فلا بد له من موجد غير الناس، لما يشاهد من أن حال الكل كحاله بالدلالة بالآفاق من حيث إنها متغيرة، فهي مفتقرة إلى مغير هو الذي أحدثها ليس بمتغير، لأنه ليس بجسم ولا جسماني في سياق مذكر بالنعم الجسام الموجبة لمحبة المنعم وترك المنازعة وحصول الانقياد فقال: { الذي جعل } قال الحرالي: من الجعل وهو إظهار أمر عن سبب وتصيير { لكم الأرض } أي المحل الجامع لنبات كل نابت ظاهر أو باطن، فالظاهر كالموالد وكل ما الماء أصله، والباطن كالأعمال والأخلاق وكل ما أصله ما الماء آيته كالهدى والعلم ونحو ذلك؛ ولتحقق دلالة اسمها على هذا المعنى جاء وصفها بذلك من لفظ اسمها فقيل: أرض أريضة، للكريمة المنبتة، وأصل معناها ما سفل في مقابلة معنى السماء الذي هو ما علا على سفل الأرض كأنها لوح قلمه الذي يظهر فيها كتابه - انتهى.
-8-

{ فراشاً } وهي بساط سقفه السماء وهي مستقر الحيوان من الأحياء والأموات، وأصله كما قال الحرالي: بساط يضطجع عليه للراحة ونحو ذلك، { والسماء بناء } أي خيمة تحيط بصلاح موضع السكن وهو لعمري بناء جليل القدر، محكم الأمر، بهي المنظر، عظيم المَخْبَر.

ورتبت هذه النعم الدالة على الخالق الداعية إلى شكره أحكم ترتيب، قدم الإنسان لأنه أعرف بنفسه والنعمة عليه أدعى إلى الشكر، وثنى بمن قبله لأنه أعرف بنوعه، وثلث بالأرض لأنها مسكنه الذي لا بد له منه، وربع بالسماء لأنها سقفه، وخمس بالماء لأنه كالأثر والمنفعة الخارجة منها وما يخرج بسببه من الرزق كالنسل المتولد بينهما فقال: { وأنزل } قال الحرالي: من الإنزال وهو الإهواء بالأمر من علو إلى سفل - انتهى. { من السماء } أي بإثارتها الرياح المثيرة للسحاب الحامل للماء { ماء } أي جسماً لطيفاً يبرد غلة العطش، به حياة كل نام. قال الحرالي: وهو أول ظاهر للعين من أشباح الخلق { فأخرج } من الإخراج وهو إظهار من حجاب، وفي سوقه بالفاء تحقيق للتسبيب في الماء - انتهى.

وأتي بجمع القلة في الثمر ونكر الرزق مع المشاهدة لأنهما بالغان في الكثرة إلى حد لا يحصى تحقيراً لهما في جنب قدرته إجلالاً له فقال: { به من الثمرات رزقاً } وإخراج الأشياء في حجاب الأسباب أوفق بالتكليف بالإيمان بالغيب، لأنه كما قيل: لولا الأسباب لما ارتاب المرتاب، والثمر كما قال الحرالي: مطعومات النجم والشجر وهي عليها، وعُبر بِمن لأن ليس كل الثمرات رزقاً لما يكون عليه وفيه من العصف والقشر والنوى، وليس أيضاً من كل الثمرات رزق فمنه ما هو للمداواة ومنه سموم وغير ذلك. وفي قوله: { لكم } إشعار بأن في الرزق تكملة لذواتهم ومصيراً إلى أن يعود بالجزاء منهم.

وقد وصف الرب في هذه الآية بموصولين ذكر صلة الثاني بلفظ الجعل، لأن حال القوام مرتب على حال الخلق ومصيّر منه، فلا يشك ذو عقل في استحقاق الانقياد لمن تولى خلقه وأقام تركيبه؛ ولا يشك ذو حس إذا تيقظ من نوم أو غفلة فوجد بساطاً قد فرش له وخيمة قد ضربت عليه وعولج له طعام وشراب قدم له أن نفسه تنبعث بذاتها لتعظيم من فعل ذلك بها ولتقلد نعمته وإكباره؛ فلتنزيل هذه الدعوة إلى هذا البيان الذي يضطر النفس إلى الإذعان ويدخل العلم بمقتضاها في رتبة الضرورة والوجدان كانت هذه الدعوة دعوة عربية جارية على مقتضى أحوال العرب، لأن العرب لا تعدو بأنفسها العلم الضروري وليس من شأنها تكلف الأفكار والتسبب إلى تواني العلوم النظرية المأخوذة من مقتضى الإمارات والأدلة، فعوملت بما جبلت عليه فتنزل لها لتكون نقلتها من فطرة إلى فطرة ومن علم وجداني إلى علم وجداني عليّ لتحفظ عليها رتبة الإعراب والبيان بأن لا يتسبب لها إلى دخول ريب في علومها، لأن كل علم مكتسب يتكلف التسبب له بآيات وعلامات ودلائل تبعد من الحس وأوائل هجوم العقل تتعارض عليه الأدلة ويعتاده الريب، فحفظت هذه الدعوة العربية عن التكلف وأجريت على ما أحكمه صدر السورة في قوله تعالى: { لا ريب فيه }.
-9-

واعلم أن حال المخلوق في رزقه محاذي به حاله في كونه، فيعلم بالاعتبار والتناسب الذي شأنه أن تتعلم من جهته المجهولات أن الماء بزر كون الإنسان كما أن الماء أصل رزقه، ولذلك قال عليه السلام لمن سأله ممن هو فلم يرد أن يعين له نفسه: " نحن من ماء " ويعلم كذلك أيضاً أن للأرض والسماء مدخلاً في أمشاج الإنسان رتب عليه مدخلها في كون رزقه، وفي ذكر الأرض معرفة أخذ للأرض إلى نهايتها وكمالها، ولذلك قال عليه السلام: " من اغتصب شبراً من أرض طوقه من سبع أرضين " وكذلك ذكر السماء أخذ لها إلى نهايتها وكمالها؛ وقدم الأرض لأن نظر النفوس إلى ما تحتها أسبق لها من نظرها إلى ما علا عليها. ثم قال: ولوضوح آية الربوبية تقلدها الأكثر وإنما توقفوا في الرسالة ولذلك وصل ذكر الرسالة بالتهديد - انتهى.

ولما أمر بعبادته وذكرهم سبحانه بما يعلمون أنه فاعله وحده حسن النهي عن أن يشرك به ما لا أثر له في شيء من ذلك بفاء التسبب عن الأمرين كليهما قال معبراً بالجلالة على ما هو الأليق بالتوبيخ على تألّه الغير { فلا تجعلوا لله } أي ما إحاطته بصفات الكمال. ويجوز أن يكون مسبباً عن التقوى المرتجاة فتكون لا نافية والفعل منصوب { أنداداً } أي على حسب زعمكم أنها تفعل ما تريدون. قال الحرالي: جمع ند وهو المقاوم في صفة القيام والدوام، وعبر بالجعل لأن بالجعل والمصير من حال إلى حال أدنى منها ترين الغفلة على القلوب، حتى لا تشهد في النعم والنقم إلا الخلق من ملك أو ذي إمرة أو من أي ذي يد عليا كان، ولما شهدوا ذلك منهم تعلق بهم رجاؤهم وخوفهم وعاقبهم ربهم على ذلك بأيديهم فاشتد داعي رجائهم لهم وسائق خوفهم منهم فتذللوا لهم وخضعوا، فصاروا بذلك عبدة الطاغوت وجعلوهم لله أنداداً - انتهى. وما أحسن قوله في تأنيبهم وتنبيههم على ما أزروا بأنفسهم { وأنتم تعلمون } أي والحال أنكم ذوو علم على ما تزعمون فإنه يلوّح إلى أن من أشرك به مع قيام هذه الأدلة لم يكن ممن يصح منه العلم فكان في عداد البهائم. وفيه كما قال الحرالي: إعلام بظهور آيات ما يمنع جعل الند لما يشاهد أن جميع الخلق أدناهم وأعلاهم مقامون من السماء وفي الأرض ومن الماء، فمن جعل لله نداً مما حوته السماء والأرض واستمد من الماء فقد خالف العلم الضروري الذي به تقلد التذلل للربوبية في نفسه فإن يحكم بذلك على غيره مما حاله كحاله أحق في العلم - انتهى.
-10-

وفي تعقيبها لما قبلها غاية التبكيت على من ترك هذا القادر على كل شيء وعبد ما لا يقدر على شيء.

وهذه الآية من المحكم الذي اتفقت عليه الشرائع واجتمعت عليه الكتب، وهو عمود الخشوع، وعليه مدار الذل والخضوع. قال الإمام أبو الحسن الحرالي في العروة: وجه إنزال هذا الحرف تحقيق اتصاف العبد بما هو اللائق به في صدق وجهته إلى الحق بانقطاعه عن نفسه وبراءته منها والتجائه إلى ربه استسلاماً، وجهده في خدمته إكباراً واستناده إليه اتكالاً، وسكونه له طمأنينة

{ يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً } [الفجر: 27، 28]،

ويتأكد تحلي العبد بمستحق أوصافه لقراءة هذا الحرف والعمل به بحسب براءته من التعرض لنظيره المتشابه، لأن اتباع المتشابه زيغ لقصور العقل والفهم عن نيله، ووجوب الاقتصار على الإيمان به من غير موازنة بين ما خاطب الله به عباده للتعرف وبين ما جعله للعبد للاعتبار، سبحانه من لم يجعل سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.


وجامع منزل المحكم ما افتتح به التنزيل في قوله تعالى:

{ اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ } [العلق96: 1] الآيات،

وما قدم في الترتيب في قوله تعالى: { يا أيها الناس اعبدوا ربكم } إلى ما ينتظم بذلك من ذكر عبادة القلب التي هي المعرفة

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]

فليكن أول ما تدعوهم إليهم عبادة الله فإذا عرفوا الله، ومن ذكر عبادة النفس التي هي الإجمال في الصبر وحسن الجزاء

{ وَاصْبِر نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم } [الكهف18: 28]
{ وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ } [الرعد13: 22]
{ الَّذِينَ هُم فِي صَلَاتِهِم خَاشِعُونَ } [المؤمنون23: 2]

لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه إلى سائر أحوال العبد التي يتحقق بها في حال الوجهة إلى الرب، وما تقدم من حرفي الحلال والحرام لإصلاح الدنيا، وحرفي الأمر والنهي لإصلاح العقبى معاملة كتابه، والعمل بهذا الحرف اغتباط بالرق وعياذ من العتق، فلذلك هو أول الاختصاص ومبدأ الاصطفاء وإفراد موالاة الله وحده من غير شرك في نفس ولا غير، ولذلك بدىء بتنزيله النبي العبد، وهو ثمرة ما قبله وأساس ما بعده، وهو للعبد أحوال محققة لا يشركه فيها ذو رثاء ولا نفاق، ويشركه في الأربعة المتقدمة - يعني النهي والأمر والحلال والحرام، لأنها أعمال ظاهرة فيتحلى بها المنافق، وليس يمكنه مع نفاقه التحلي بالمعرفة، ولا بالخشوع ولا بالخضوع، ولا بالشوق للقاء ولا بالحزن في الإبطاء، ولا بالرضا بالقضاء، ولا بالحب الجاذب للبقاء في طريق الفناء، ولا بشيء مما شمله آيات المحكم المنزلة في القرآن وأحاديثه الواردة للبيان، وإنما يتصف بهذا الحرف عباد الرحمن

-11-


ولما كان حرف المحكم مستحق العبد في حق الرب في فطرته التي فطر عليها كان ثابتاً في كل ملة وفي كل شرعة فكانت آياته لذلك هن أم الكتاب المشتمل على الأحرف الأربعة، لتبدلها وتناسخها وتناسبها في الشرع والملل واختلافها على مذاهب الأئمة في الملة الجامعة، مع اتفاق الملل في الحرف المحكم فهو أمها وقيامها الثابت حال تبدلها وهو حرف الهدى الذي يهدي به الله من يشاء، وقرأته العملة به هم المهتدون أهل السنة والجماعة، كما أن المتبعين لحرف المتشابه هم المتفرقون في الملل وهم أهل البدع والأهواء المشتغلون بما لا يعنيهم، وبهذا الحرف المتشابه يضل الله من يشاء؛ فحرف المحكم للاجتماع والهدى، وحرف المتشابه للافتراق والضلال


ثم قال: اعلم أن قراءة الأحرف الماضية الأربعة هو حظ العامة من الأمة العاملين لربهم على الجزاء المقارضين له على المضاعفة، وقراءة هذا الحرف تماماً هو حظ المتحققين بالعبودية المتعبدين بالأحوال الصادقة المشفقين من وهم المعاملة، لشعورهم أن العبد لسيده مصرّف فيما شاء وكيف شاء، ليس له في نفسه حق ولا حكم، ولا حجة له على سيده فيما أقامه فيه من صورة سعادة أو شقاوة

والذي تحصل به قراءة هذا الحرف إما من جهة القلب فالمعرفة بعبودية الخلق للحق رقّ خلق ورزق وتصريف فيما شاء مما بينه وبين ربه ومما بينه وبين نفسه ومما بينه وبين أمثاله من سائر العباد، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا يأخذ إلا ما أعطاه سيده، ولا يتقي إلا ما وقاه سيده، ولا يكشف السوء عنه إلا هو، فيسلم له مقاليد أمره في ظاهره وباطنه، وذلك هو الدين عند الله الذي لا يقبل سواه

{ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلَامُ } [آل عمران3: 19] و
{ وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران3: 85]

وهو دين النبي العبد، وما يتحقق للعبد من ذلك عن اعتبار العقل وخلوص اللب هي الملة الحنيفية ملة النبي الخليل - هذا من جهة القلب؛ وإما من جهة حال النفس فجميع أحوال العبد القن المعرق في الملك: إنما أنا عبد آكل مثل ما يأكل العبد؛ وجماع ذلك وأصله الذل انكساراً والذل عطفاً والبراءة من الترفع والفخر على سائر الخلق والتحقق بالضعة دونهم على وصف النفس، بذلك ينتهي حسن التخلق مع الخلق وصدق التعبد للحق؛ وإما من جهة العمل فتصرف الجوارح وإسلامها لله قولاً وفعلاً وبذلاً، ومسالمة الخلق لساناً ويداً، وهو تمام الإسلام وثبته، لا يكتب أحدكم في المسلمين حتى يسلم الناس من لسانه ويده، ويخص الهيئة من ذلك ما هو أولى بهيئات العبيد كالذي بنيت عليه هيئة الصلاة من الإطراق في القيام ووضع اليمنى على اليسرى بحذاء الصدر هيئة العبد المتأدب المنتظر لما لا يدري خبره من أمر سيده وكهيئة الجلوس فيها الذي هو جلوس العبيد، كذلك كان صلى الله عليه وسلم يجلس لطعامه ليستوي حال تعبده في أمر دنياه وأخراه ويقول: " إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد " ويؤثر جميع ما هو هيئة العبيد في تعبده ومطعمه ومشربه وملبسه ومركبه وظعنه وإقامته

-12-

{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران3: 31]

فبهذه الأمور من تحقق العبودية للقلب وذل النفس وانكسار الجوارح تحصل قراءة حرف المحكم والله الولي الحميد - انتهى.

-13-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #22  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ) مصنف و مدقق 1-3

تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ) مصنف و مدقق 1-3

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } * { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }


أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والصابوني في المائتين عن ابن عباس قي قوله { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } الآية. قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين، كانوا يعتزون بالإِسلام، فيناكحهم المسلمون، ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء. فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النار ضوءه { وتركهم في ظلمات } يقول في عذاب { صم بكم عمي } لايسمعون الهدى، ولا يبصرونه، ولا يعقلونه { أو كصيب } هو المطر. ضرب مثله في القرآن { فيه ظلمات } يقول: ابتلاء { ورعد وبرق } تخويف { يكاد البرق يخطف أبصارهم } يقول: يكاد محكم القرآن يدل على عورات المنافقين { كلما أضاء لهم مشوا فيه } يقول: كلما أصاب المنافقون من الإِسلام عزاً اطمأنوا، فإن أصاب الإِسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ.. } [الحج22: 11] الآية.


وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناسٍ من الصحابة في قوله { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً... } الآية. قال: إن ناساً دخلوا في الإِسلام مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة، فأوقد ناراً فـ { أضاءت ما حوله } من قذى أو أذى، فأبصره حتى عرف ما يتقي. فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم، فعرف الحلال من الحرام، والخير من الشر، بينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر، فهم { صم بكم } فهم الخرس { فهم لا يرجعون } إلى الإِسلام. وفي قوله { أو كصيب... } الآية. قال: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين، فأصابهما هذا المطر الذي ذكره الله. فيه رعد شديد، وصواعق، وبرق، فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق، أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما، وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه، وإذا لم يلمع لم يبصرا. قاما مكانهما لا يمشيان، فجعلا يقولان. ليتنا قد أصبحنا، فنأتي محمداً فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما، ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما.

فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين، مثلاً للمنافقين الذين بالمدينة، وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء، أو يذكروا بشيء، فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما { كلما أضاء لهم مشوا فيه } فإذا كثرت أموالهم وولدهم، وأصابوا غنيمة وفتحاً { مشوا فيه } وقالوا: إن دين محمد حينئذ صدق، واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء بهما البرق { وإذا أظلم عليهم قاموا } فكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم، وأصابهم البلاء، قالوا هذا من أجل دين محمد، وارتدوا كفاراً، كما كان ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
-1-

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن السدي. مثله.

وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله { كمثل الذي استوقد ناراً } قال: ضربه الله مثلاً للمنافق. وقوله { ذهب الله بنورهم } أما (النور) فهو إيمانهم الذي يتكلمون به، وأما (الظلمة) فهي ضلالهم وكفرهم. وفي قوله { أو كصيب } الآية. قال (الصيب) المطر. وهو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله، وعمل مراءاة للناس، فإذا خلا وحده عمل بغيره، فهو في ظلمة ما أقام على ذلك، وأما (الظلمات) فالضلالة، وأما (البرق) فالإِيمان. وهم أهل الكتاب { وإذا أظلم عليهم } فهو رجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه.

وأخرج ابن اسحق وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { مثلهم... } الآية. قال: ضرب الله مثلاً للمنافقين يبصرون الحق ويقولون به، حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفأوه بكفرهم ونفاقهم، فتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون، هدى ولا يستقيمون على حق { صم بكم عمي } عن الخير { فهم لا يرجعون } إلى هدى، ولا إلى خير. وفي قوله { أو كصيب.. } الآية. يقول: هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر، والحذر من القتل، على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم، على مثل ما وصف من الذي هو في ظلمة الصيب، فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق { حذر الموت والله محيط بالكافرين } منزل ذلك بهم من النقمة { يكاد البرق يخطف أبصارهم } أي لشدة ضوء الحق { كلما أضاء لهم مشوا فيه } أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به استقامة، فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر { قاموا } أي متحيرين { ولو شاء الله لذهب بسمعهم } أي لما سمعوا، تركوا من الحق بعد معرفته.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } قال: أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى، وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة، وإضاءة البرق وإظلامه على نحو ذلك المثل { والله محيط بالكافرين } قال: جامعهم في جهنم.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة في قوله { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } قال: هذا مثل ضربه الله للمنافق. إن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فناكح بها المسلمين، ووارث بها المسلمين، وغازى بها المسلمين، وحقن بها دمه وماله. فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه، ولا حقيقة في عمله، فسلبها المنافق عند الموت، فترك في ظلمات وعمى يتسكع فيها. كما كان أعمى في الدنيا عن حق الله وطاعته صم عن الحق فلا يبصرونه { فهم لا يرجعون } عن ضلالتهم، ولا يتوبون ولا يتذكرون { أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت } قال: هذا مثل ضربه الله للمنافق لجبنه، لا يسمع صوتاً إلا ظن أنه قد أتي، ولا يسمع صياحاً إلا ظن أنه قد أتي، ولا يسمع صياحاً إلا ظن أنه ميت.
-2-

أجبن قوم، وأخذله للحق. وقال الله في آية أخرى

{ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } [المنافقون63: 4]

{ يكاد البرق يخطف أبصارهم } الآية. قال: { البرق } هو الإِسلام و (الظلمة) هو البلاء والفتنة. فإذا رأى المنافق من الإِسلام طمأنينة، وعافية، ورخاء، وسلوة من عيش { قالوا: إنا معكم } ومنكم، وإذا رأى من الإِسلام شدة، وبلاء، فقحقح عند الشدة فلا يصبر لبلائها، ولم يحتسب أجرها، ولم يرج عاقبتها. إنما هو صاحب دنيا لها يغضب، ولها يرضى، وهو كما هو نعته الله.


واخرج ابن وكيع وعبد بن حميد وأبو يعلى في مسنده وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة من طرق عن ابن عباس في قوله { أو كصيب من السماء } قال: المطر.

وأخرج ابن جرير عن مجاهد والربيع وعطاء. مثله.

وأخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إنما الصيب من ههنا. وأشار بيده إلى السماء ".

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { يكاد البرق } قال: يلتمع { يخطف أبصارهم } ولما يخطف. وكل شيء في القرآن (كاد، وأكاد، وكادوا) فإنه لا يكون أبداً.

وأخرج وكيع عن المبارك بن فضالة قال: سمعت الحسين يقرأها { يكاد البرق يخطف أبصارهم }.

-3-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #23  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق 1-2

تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق 1-2


{ مّثْلُهُمْ } زيادة كشف لحالهم وتصويرٌ غِبَّ تصويرِها بصورة ما يؤدي إلى الخسارة بحسب المآل بصورة ما يفضي إلى الخَسار من حيث النفسُ تهويلاً لها وإبانةً لفظاعتها، فإن التمثيلَ ألطفُ ذريعةٍ إلى تسخير الوهم للعقل، واستنزالِه من مقام الاستعصاء عليه، وأقوى وسيلةٍ إلى تفهيم الجاهل الغبـي، وقمعِ سَوْرةِ الجامح الآبـي، كيف لا وهو رفعُ الحجاب عن وجوه المعقولات الخفية، وإبرازٌ لها في معرض المحسوسات الجلية، وإبداءٌ للمنكر في صورة المعروف، وإظهارٌ للوحشي في هيئة المألوف، والمَثَل في الأصل بمعنى المِثْل والنظير، يقال مِثْل ومَثَل ومثيل، كشِبْهٍ وشَبَه وشبـيه، ثم أطلق على القول السائر الذي يُمثّل مضرِبُه بمورده وحيث لم يكن ذلك إلا قولاً بديعاً فيه غرابةٌ صيَّرتْه جديراً بالتسيـير في البلاد وخليقاً بالقبول فيما بـين كل حاضرٍ وباد، استعير لكل حال أو صفةٍ أو قصة لها شأن عجيب، وخطرٌ غريب من غير أن يلاحَظ بـينها وبـين شيءٍ آخرَ تشبـيهٌ، ومنه قوله عز وجل:

{ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [النحل16، الآية 60]

أي الوصفُ الذي له شأن عظيم وخطر جليل، وقوله تعالى:

{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [الرعد13، الآية 35]

أي قصتها العجيبةُ الشأن { كَمَثَلِ ٱلَّذِى } أي الذين كما في قوله تعالى:

{ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ } [التوبة9، الآية 69]

خلا أنه وُحِّد الضمير في قوله تعالى: { ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } نظراً إلى الصورة، وإنما جاز ذلك مع عدم جوازِ وضعِ القائمِ مَقام القائمين، لأن المقصود بالوصف هي الجملة الواقعةُ صلةً له دون نفسه، بل إنما هو صلةٌ لوصف المعارف بها ولأنه حقيق بالتخفيف لاستطالته بصلته، ولذلك بولغ فيه فحُذف ياؤه ثم كسرتُه ثم اقتُصر على اللام في أسماء الفاعلين والمفعولين ولأنه ليس باسم تام بل هو كجزئه، فحقُه ألا يُجمع، ويستوي فيه الواحد والمتعدد كما هو شأن أخواته، وليس (الذين) جمعَه المصحح بل النونُ فيه مزيدة للدلالة على زيادة المعنى، ولذلك جاء بالياء أبداً على اللغة الفصيحة، أو قصد به جنسُ المستوقد أو الفوجُ أو الفريقُ المستوقد، والنارُ جوهرٌ لطيف مُضيء حارٌّ محرق، واشتقاقها من نار ينورُ إذا نفَر لأن فيها حركة واضطراباً واستيقادُها طلبُ وُقودها، أي سطوعها وارتفاع لهبها وتنكيرها للتفخيم { فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } الإضاءة فرطُ الإنارة كما يعرب عنه قوله تعالى:

{ هُوَ ٱلَّذِى جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [يونس10، الآية 5]

وتجيء متعدية ولازمة، والفاء للدلالة على ترتبها على الاستيقاد أي فلما أضاءت النار ما حول المستوقد، أو فلما أضاء ما حوله، والتأنيث لكونه عبارةً عن الأماكن والأشياء، أو أضاءت النارُ نفسها فيما حوله على أن ذلك ظرف لإشراق النارِ المنزّلِ منزلتَها لا لنفسها، أو(ما) مزيدةٌ و(حوله) ظرف، وتأليفُ الحول للدوران، وقيل: للعام حَوْلٌ لأنه يدور { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } النور ضوءُ كل نيِّر، واشتقاقه من النار، والضمير للذي، والجمع باعتبار المعنى أي أطفأ الله نارهم التي هي مدار نورِهم، وإنما علِق الإذهابُ بالنور دون نفس النار لأنه المقصودُ بالاستيقاد، لا الاستدفاءِ ونحوه كما ينبىء عنه قوله تعالى: { فَلَمَّا أَضَاءتْ } حيث لم يقل فلما شب ضِرامُها أو نحو ذلك، وهو جوابُ (لمّا) أو استئنافٌ أجيب به عن سؤال سائل يقول ما بالُهم أشبَهَتْ حالهم حالَ مستوقدٍ انطفأت ناره، أو بدلٌ من جملة التمثيل على وجه البـيان، والضمير على الوجهين للمنافقين والجواب محذوف كما في قوله تعالى:

-1-

{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [يوسف12، الآية 15]

للإيجاز والأمن من الإلباس، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمَدَت فبقُوا في الظلمات خابطين متحيِّرين خائبـين بعد الكدح في إحيائها، وإسنادُ الإذهاب إلى الله تعالى إما لأن الكل بخلقه تعالى، وإما لأن الانطفاءَ حصل بسبب خفيّ، أو أمر سماوي كريح أو مطر وإما للمبالغة كما يؤذن به تعديةُ الفعل بالباء دون الهمزة لما فيه من معنى الاستصحاب والإمساك، يقال: ذهب السلطان بماله إذا أخذه، وما أخذه الله عز وجل فأمسكه فلا مرسلَ له من بعده، ولذلك عُدل عن الضوء الذي هو مقتضى الظاهر إلى النور لأن ذهابَ الضوء قد يجامع بقاءَ النور في الجملة لعدم استلزام عدم القوي لعدم الضعيف، والمراد إزالتُه بالكلية كما يفصح عنه قوله تعالى: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } فإن الظلمةَ التي هي عدمُ النور وانطماسُه بالمرة، لا سيما إذا كانت متضاعفة متراكمة متراكباً بعضُها على بعض كما يفيده الجمع والتنكير التفخيمي وما بعدها من قوله تعالى: { لاَّ يُبْصِرُونَ } لا يتحقق إلا بعد ألا يبقىٰ من النور عينٌ ولا أثر، وإما لأن المراد بالنور ما لا يرضىٰ به الله تعالى من النار المجازية التي هي نارُ الفتنة والفساد كما في قوله تعالى:

{ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } [المائدة5، الآية 64]

ووصفُها بإضاءة ما حول المستوقد من باب الترشيح، أو النار الحقيقية التي يوقدها الغواة ليتوصلوا بها إلى بعض المعاصي، ويهتدوا بها في طرق العبث والفساد، فأطفأها الله تعالى، وخيب آمالهم، و(ترك) في الأصل بمعنى طرَح وخلَّى، وله مفعول واحد، فضُمِّن معنى التصيـير فجرى مَجرى أفعال القلوب قال:[الكامل]

فتركتُه جَزَرَ السِّباع ينُشْنَهيقضَمْنَ حُسنَ بنانِه والمِعصَمِ


والظلمة مأخوذة من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا، أي ما منعك، لأنها تسد البصرَ وتمنعه من الرؤية، وقرىء (في ظُلْمات) بسكون اللام، و(في ظلمة) بالتوحيد، ومفعول لا يبصرون من قبـيل المطروح، كأن الفعل غير متعد، والمعنى أن حالهم العجيبة ــ التي هي اشتراؤهم الضلالةَ ــ التي هي عبارة عن ظلمتي الكفرِ والنفاقِ المستتبعتين لظُلمة سخط الله تعالى، وظلمةِ يوم القيامة:

{ يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَـٰنِهِم } [الحديد57، الآية 12]

وظلمةِ العقاب السرمدي ــ بالهدى، الذي هو النورُ الفطري المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق أو بالهدى الذي كانوا حصّلوه من التوراة حسبما ذكر ـــ كحال من استوقد ناراً عظيمة حتى كاد ينتفع بها فأطفأها الله تعالى، وتركه في ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الإبصار.

-2-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #24  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق 1-4

تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق 1-4

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } * { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَٰفِرِينَ } * { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَٰرَهُمْ كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَٰرِهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }


{ مَثَلُهُمْ } شبههم. { كَمَثَلِ ٱلَّذِي } بمعنى الذين، دليله سياق الآية نظير قوله تعالى:

{ وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } [الزمر39: 33]

ثم قال { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [البقرة: 177].


وقال الشاعر:

وانّ الذي حانت بفلج دماؤهمهم القوم كلّ القوم يا أُمّ خالد


{ ٱسْتَوْقَدَ }: أوقد ناراً كما يُقال: أجاب واستجاب.

قال الشاعر:

وداع دعانا من يجيب الى الندّىفلم يستجبه عند ذاك مجيب


{ فَلَمَّآ أَضَاءَتْ } النار { مَا حَوْلَهُ } يقال: ضاء القمر يضوء ضوءاً، وأضاء يضيء إضاءةً وأضاء غيره: { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ } النار يكون لازماً ومتعدّياً.

وقرأ محمد بن السميقع (ضاءت) بغير ألف. و(حوله) نصب على الظرف.

{ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } أي أذهب الله نورهم، وإنما قال: (بنورهم) والمذكور في أوّل الآية النار؛ لأنّ النار شيئان النّور والحرارة فذهب نورهم وبقيت الحرارة عليهم.

{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }: قال ابن عباس وقتادة والضحّاك ومقاتل والسدي: نزلت هذه الآية في المنافقين. يقول: مثلهم في كفرهم ونفاقهم كمثل رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مفازة فأستضاء بها فاستدفأ ورأى ما حوله فأتّقى ما يحذر ويخاف فأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلماً خائفاً متحيّراً، كذلك المنافقون إذا أظهروا كلمة الإيمان استناروا بنورها واعتزّوا بعزّها وناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمّنوا على أموالهم وأولادهم، فاذا ماتوا عادوا الى الخوف والظلمة وهووا في العذاب والنقمة.

وقال مجاهد: إضاءة النار: إقبالهم الى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم الى المشركين والضّلالة.

سعيد بن جبير ومحمد بن كعب وعطاء، ويمان بن رئاب: نزلت في اليهود وانتظارهم خروج النبي صلى الله عليه وسلم وإيمانهم به واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلمّا خرج كفروا به، وذلك بأنّ قريظة والنضير وبنو قينقاع قدموا من الشام الى يثرب حتى إنقطعت النبوة من بني اسرائيل وافضت الى العرب، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة وأنّ أمّته خير الأمم وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له: عبد الله بن هيبان قبل أن يوحي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلّ سنة فيعظهم على طاعة الله تعالى وإقامة التوراة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم رسول إذا خرج: فلا تفرّقوا عنه وانصروه وقد كنت أطمع أن أدركه، ثمّ مات قبل خروج النبي صلى الله عليه وسلم فقبلوا منه، ثم لمّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل.

وقال الضحاك: لمّا أضاءت النار أرسل الله عليه ريحاً قاصفاً فأطفأها، فكذلك اليهود كلمّا أوقدوا ناراً لحرب محمد صلى الله عليه وسلم أطفأها الله.

ثم وصفهم جميعاً فقال: { صُمٌّ }: أي هم صمٌّ عن الهدى فلا يسمعون.

{ بُكْمٌ }: عنه فلا يقولون.
-1-

{ عُمْيٌ }: عنه فلا يرونه.

وقيل: { صُمٌّ } يتصاممون عن سماع الحقّ، { بُكْمٌ } يتباكمون عن قول الحقّ، { عُمْيٌ } يتعامون عن النظر الى الحق بغير إعتبار.

وقرأ عبد الله: (صمّاً بكماً عمياً) على معنى وتركهم كذلك، وقيل: على الذّم، وقيل: على الحال.

{ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } عن الضلالة والكفر الى الهداية والإيمان.

ثم قال: { أَوْ كَصَيِّبٍ } هذا مثل آخر ضربه الله لهم أيضاً معطوف على المثل الأوّل مجازه: مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً ومثلهم أيضاً كصيّب.

قال أهل المعاني: (أو) بمعنى الواو، يريد وكصيّب، كقوله تعالى:

{ أَمْ تُرِيدُونَ } [البقرة2: 108]

وأنشد الفرّاء:

وقد زعمت سلمى بأنّي فاجرلنفسي تقاها أو عليها فجورها


وأنشد أبو عبيدة:

يصيب قد راح يروي الغُدُرا[فاستوعب] الأرض لمّا أن سرا


وأصله من صاب يصوب صوباً إذا نزل.

قال الشاعر:

فلست لأنسي ولكن لملاكتنزّل من جوّ السماء يصوب


وقال أمرؤ القيس:

كأن المدام وصوب الغماموريح الخزامي ونشر القطر


فسمّي المطر صيّباً لأنّه ينزل من السماء.

واختلف النّحاة في وزنه من الفعل، فقال البصريون: هو على وزن فيعل بكسر العين، ولا يوجد هذا المثال إلاّ في المعتل نحو سيّد وميّت وليّن وهيّن وضيّق وطيّب، وأصله صهيوب، فجعلت الواو ياء فأُدغمت إحدى اليائين في الأُخرى.

وقال الكوفيون: هو وأمثاله على وزن فعيل بكسر العين وأصله: صَييِبْ فاستثقلت الكسرة على الياء فسُكّنت وأدغمت إحداهما في الأخرى وحرّكت الى الكسر.

والسماء: كلّ ما علاك فأظلك وأصله: سماو؛ لأنه من سما يسمو، فقلبت الواو همزة لأنّ الألف لا تخلو من مدّة وتلك المدّة كالحركة، وهو من أسماء الأجناس، يكون واحداً أو جمعاً، قال الله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ } [البقرة: 29] ثم قال: { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ } [البقرة: 29].

وقيل: هو جمع واحدتها سماوة، والسموات جمع الجمع.

قال الرّاجز:

سماوة الهلال حتى احقوقفاطي الليالي زلفا فزلفا


{ فِيهِ } أي في الصيّب، وقيل: في الليل كناية عن [ضمير] مذكور، وقيل: في السماء؛ لأنّ المراد بالسماء السّحاب، وقيل: هو عائد الى السماء على لغة من يذكرها.

قال الشاعر:

فلو رفع السماء إليه قوماًلحقنا بالسماء مع السّحاب


والسماء يذكّر ويؤنّث. قال الله تعالى:


{ ظُلُمَاتٌ }: جمع ظلمة، وضُمّت اللام على الإتباع بضمّ الظاء.

وقرأ الأعمش: (ظُلْمات) بسكون اللام على أصل الكلام لأنّها ساكنة في التوحيد.

كقول الشاعر وهو ذو الرّمّة:

أبتْ ذكر مَنْ عوّدن أحشاء قلبهخفوقاً ورفصات الهوى في المفاصل


ونزّل الفاء ساكنة على حالها في التوحيد.

وقرأ أشهب العقيلي: (ظلمات) بفتح اللام، وذلك إنّه لمّا أراد تحريك اللام حرّكها الى أخفّ الحركات.

كقول الشاعر:

فلمّا رأونا بادياً ركباتناعلى موطن لا نخلط الجدّ بالهزل


{ وَرَعْدٌ }: وهو الصوت الذي يخرج من السحاب.

{ وَبَرْقٌ }: وهو النار الذي تخرج منه.

قال مجاهد: الرعد ملك يسبّح بحمده، يقال لذلك الملك: رعد، والصّريم أيضاً رعد.

والبرق: ملك يسوق السحاب.
-2-

وقال عكرمة: الرعد ملك موكّل بالسحاب يسوقها كما يسوق الراعي الإبل.

شهر بن حوشب: الرعد ملك يزجي السحاب كما يحثّ الراعي الإبل فاذا انتبذت السحاب ضمّها فاذا اشتدَّ غضبه طار من فيه النار فهي الصواعق.

ربيعة بن الأبيض عن علي عليه السلام قال: البرق مخاريق الملائكة.

وقال أبو الدرداء: الرعد للتسبيح، والبرق للخوف والطمع، والبرد عقوبة، والصواعق للخطيئة، والجراد رزق لقوم وزجر لآخرين، والبحر بمكيال، والجبال بميزان.

وأصل البرق من البريق والضوء، والصواعق: المهالك، وهو جمع صاعقة، والصاعقة والصاقعة والصّعقة: المهلكة، ومنه قيل: صعق الإنسان، إذا غشيَ عليه، وصعق، إذا مات.

{ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } أي مخافة الموت، وهو نصب على المصدر، وقيل لنزع حرف الصفة.

وقرأ قتادة: حذار الموت.

{ وٱللَّهُ مُحِيطٌ بِٱلْكَافِرِينَ } أي عالم بهم، يدل عليه قوله:


وقيل: معناه: والله مهلكهم وجامعهم، دليله قوله:

{ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } [يوسف12: 66]:

أي تهلكوا جميعاً.


وأمال أبو عمرو والكسائي (الكافرين) في حال الخفض والنّصب ولكسرة الفاء والراء.

{ يَكَادُ ٱلْبَرْقُ } أي يقرب. يقال: كاد، أي قرب ولم يفعل، والعرب تقول: كاد يفعل ـ بحذف ـ أن فاذا سببّوه بقي قالوا: كاد أن يفعل، والأوّل أوضح وأظهر. قال الشاعر:

قد كاد من طول البلى أن تمسحا


{ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }: أي يخطفها ويشغلها، ومنه الخطّاف.

وقرأ أُبيّ: يتخطف.

وقرأ ابن أبي إسحاق: نصب الخاء والتشديد (يخطّف) فأدغم. وقرأ الحسن: كسر الخاء والطّاء مع التشديد أتبع الكسرة الكسرة.

وقرأ العامة: التخفيف لقوله:

{ فَتَخْطَفُهُ ٱلطَّيْرُ } [الحج22: 31] وقوله:
{ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ ٱلْخَطْفَةَ } [الصافات: 10].

{ كُلَّمَا }: حرف علة ضمّ إليه (ما) الجزاء فصار أداة للتكرار، وهي منصوبة بالظرف، ومعناهما: متى ما.


{ أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ }: وفي حرف عبد الله [.....].

{ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ }: أي أقاموا ووقفوا متحيّرين.

القول في معنى الآيتين ونظمهما وحكمهما

قوله تعالى: { أَوْ كَصَيِّبٍ } أي كأصحاب صيّب، كقوله:

{ وَسْئَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف12: 82]

شبههم الله في كفرهم ونفاقهم وحيرتهم وترددّهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة فأصابهم مطرفيه ظلمات من صفتها إنّ الساري لا يمكنه المشي من ظلمته، فذلك قوله: { وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ }.


ورعد من صفته أن يضع السامع يده الى أذنه من الهول والفرق مخافة الموت والصعق، ذلك قوله تعالى: { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَاعِقِ حَذَرَ ٱلْمَوْتِ }.

وبرق من صفته أنْ يقرب من أن يخطف أبصارهم ويذهب بضوئها ونعيمها من كثرته وشدّة توقدّه، وذلك قوله { يَكَادُ ٱلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ }.

وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن واجماع الناس والكافرين معه:

فالمطر: هو القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان.

{ فِيهِ ظُلُمَاتٌ } وهو ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والشك وبيان الفتن والمحن.

{ وَرَعْدٌ }: وهو ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار والزّواجر والنواهي.
-3-

{ وَبَرْقٌ }: وهو ما في القرآن من الشفاء والبيان والهدى والنّور والرعد وذكر الجنة.

فكما أنّ أصحاب الرعد والبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت كذلك المنافقون واليهود والكافرون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن ولا يصغون إليه مخافة ميل القلب الى القرآن فيؤدّي ذلك الى الإيمان؛ لأنّ الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم عندهم كفر والكفر موت.

وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمنافق لجبنه، لا يسمع صوتاً إلاّ ظنّ أنه قد أُتي ولا يسمع صياحاً إلاّ ظنّ إنه ميّت أجبن قوم وأخذ له للحق كما قال في آية أخرى:


وقوله: { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } يعني المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان أمِنوا وصارت لهم نوراً فاذا ماتوا عادوا الى الخشية والظلمة.

قتادة: والمنافق إذا كثر ماله وحَسُن حاله وأصاب في الإسلام رخاءً وعافية ثبت عليه فقال: أنا معكم، وإذ ذهب ماله وأصابته شدّة، قام متحيراً وخفق عندها فلم يصبر على بلائها ولم يحتسب أجرها. وتفسيره في سورة الحجّ

{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ } [الحج22: 11] الآية.


الوالبي عن ابن عباس: هم اليهود لما نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرّنا به موسى لا تردّ له راية، فلمّا نكب بأُحد ارتدّوا وسكتوا.

{ وَلَوْ }: حرف تمنّي وشك وفيه معنى الجزاء وجوابه اللام.

ومعنى الآية: { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ }: أي أسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنية حتى صاروا صمّاً بكماً عمياً.

{ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قادر، وكان حمزة يكسر شاء، وجاء وأمثالها لانكسار فاء الفعل، إذا أخبرت عن نفسك قلت: شئت وجئت وزدّت وطبت وغيرها.
-4-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #25  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) مصنف و مدقق

تفسير مقاتل بن سليمان/ مقاتل بن سليمان (ت 150 هـ) مصنف و مدقق

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


ثم ضرب الله للمنافقين مثلاً، فقال عز وجل: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } طفئت ناره، يقول الله عز وجل: مثل المنافق إذا تكلم بالإيمان كان له نور بمنزلة المستوقد ناراً يمشى بضوئها ما دامت ناره تتقد، فإذا ترك الإيمان كان فى ظلمة كظلمة من طفئت ناره، فقام لا يهتدى ولا يبصر، فذلك قوله سبحانه: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } ، يعنى بإيمانهم، نظيرها فى سورة النور:

{ وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [النور24: 40]،

يعنى به الإيمان، وقال سبحانه فى الأنعام:

{ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [الأنعام6: 122]،

يعنى يهتدى به الذين تكلموا به، { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } ، يعنى الشرك، { لاَّ يُبْصِرُونَ } [آية: 17] الهدى.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #26  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ) مصنف و مدقق

تفسير حقائق التفسير/ السلمي (ت 412 هـ) مصنف و مدقق


قوله تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً... } الآية.

قال أبو الحسن الوراق: هذا مثل ضربه الله عز وجل لمن لم تصح له أحوال الإرادة بدءاً فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر من يضئ عليه أحوال إرادته لو صححتها بملازمة آدابها، فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله عنه تلك الأنوار وبقى فى ظلمات دعاوية لا يبصر طريق الخروج منها.

قال الحسن: { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } [الآية: 20].

قال: إذا أضاء لهم مرادهم من الدنيا والدين ألقوه، وإذا أظلم عليهم من خلاف معقولهم قاموا مجهولين.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #27  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق

تفسير لطائف الإشارات / القشيري (ت 465 هـ) مصنف و مدقق

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


هذا مثل ضربه الله سبحانه للمنافقين بمن استوقد ناراً في ابتداء ليلته ثم أطفئت النيران فبقي صاحبها في الظلمة، كذلك المنافق ظهر عليه شيء من العوافي في الدنيا بظاهره ثم امْتُحِنُوا في الآخرة بأليم العقوبة، أو لاح شيء من إقرارهم ثم بقوا في ظلمة إنكارهم.

والإشارة من هذه الآية لمن له بداية جميلة؛ يسلك طريق الإرادة، ويتعنَّى مدة، ويقاسي بعد الشدّة شدة، ثم يرجع إلى الدنيا قبل الوصول إلى الحقيقة، ويعود إلى ما كان فيه من ظلمات البشرية. أورق عُودُه ثم لم يثمر، وأزهر غصنه ثم لم يدركه، وعجَّل كسوف الفترة على أقمار حضوره، وردّته يد القهر بعد ما أحضره لسان اللطف، فوطن عن القرب قلبه، وغلّ من الطالبين نفسه، فكان كما قيل:

حين قرّ الهوى وقلنا سُرِرْناوَحِسْبناً من الفراق أمِنَّا
بعث البَيْن رُسْل في خفاءٍفأبادوا من شملنا ما جمعنا


وكذلك تحصل الإشارة في هذه الآية لمن له أدنى شيء من المعاني فيظهر الدعاوى فوق ما هو به، فإِذا انقطع عنه (...) ماله من أحواله بقي في ظلمة دعاواه.

وكذلك الذي يركن إلى حطام الدنيا وزخرفها، فإِذا استتبت الأحوال وساعد الأمل وارتفع المراد - برز عليه الموت من مكامن المكر فيترك الكُل ويحمل الكَلَّ.

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #28  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 404 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى

تفسير عرائس البيان في حقائق القرآن/ البقلي (ت 404 هـ) مصنف و مدقق مرحلة اولى



{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } هذا مثل من دَخل طريق الاولياء بالتقليد لا بالتحقيق يعمل عمل الظاهر ومَا وَجد حلاوة الباطن فترك الاعمالَ بعد فقدان الاحوال وايضاً مثل مَن استوقد نيران الدّعوى وليس معه حقيقة الغنى فاضاَءت ظواهره بالصّيتِ والقبول فافشَى الله نفاقَه بين الخلق حتى تبدوه في اخَسّ السحرية ولا يجد مناصا من فضاحة الدّنيا والآخرة وقال ابو الحسن الوراق هذا مَثَل ضَرَبهُ الله لمن لم يَصحّ له احوال الارادة فارتقى من تلك الاحوال بالدَّعاوى الى احوال الاكابر فكان يُضى عليه احوالُ ارادية لو صَحّحها بملازمة أدابها فلمّا مزَجَها بالدعاوى اَذْهَبَ الله عنه تلك الانوار وبقى في ظلمات دَعَاويه لا يبصر طريق الخروج منها.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #29  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تفسير القرآن / ابن عربي (ت 638 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }


{ مَثَلُهُم } أي: صفتهم في النفاق كصفة المستوقد للإضاءة الذي إذا أضاءت ما حوله من الأشياء القريبة منه خمدت ناره وبقي متحيّراً، لأن نور استعدادهم بمنزلة النار الموقدة، وإضاءتها لما حولهم هي اهتداؤهم إلى مصالح معاشهم القريبة منهم دون مصالح المعاد البعيدة بالنسبة إليهم وصحبة المؤمنين وموافقتهم في الظاهر وخمودها سريعاً انطفاء نورهم الاستعداديّ وسرعة زوال ما تمتّعوا به من دنياهم ووشك انقضائه. { ذهب الله بنُورِهم } الاستعداديّ بإمدادهم في الطغيان، وخلاهم محجوبين عن التوفيق في ظلمات صفات النفس { لا يبصرون } ببصر القلب، ووجه المخرج ولا ما ينفعهم من المعارف كمن تنطفئ ناره وهو في تيه بين أشغال وأسباب.

{ صمٌّ بكمٌ عُميٌ } بالحقيقة لاحتجاب قلوبهم عن نور العقل الذي به تسمع الحق وتنطق به، وتراه في الظاهر لعدم فوائدها، لانسداد الطرق من تلك المشاعر إلى القلب لمكان الحجاب، فلم يصل إليها نور القلب ليحتفظوا بفوائدها ولم ترد مدركاتها على القلب ليفهموا ويعتبروا. { فهم لا يرجعون } إلى الله لوجود السّدين المضروبين على قلوبهم المذكورين في قوله:

{ وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } [يس، الآية: 9].

وفائدة التشبيه تصوير المعقول بصورة المحسوس، ليتمثل في نفوس العامة. ثم شبههم ثانياً بقوم أصابهم مطر فيه ظلمات ورعد وبرق، فالمطر هو نزول الوحي الإلهي ووصول إمداد الرحمة إليهم ببركة صحبة المؤمنين، وبقية استعدادهم مما يفيد قلوبهم أدنى لين، وحصول النِعَم الظاهرة لهم بموافقتهم في الظاهر.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #30  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ) مصنف و مدقق

تفسير روح البيان في تفسير القرآن/ اسماعيل حقي (ت 1127 هـ) مصنف و مدقق

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


{ مثلهم } المثل فى الاصل بمعنى النظير ثم قيل للقول السائر الممثل مضربه بمورده اى المضروب كما ورد من غير تغيير ولا يضرب الا بما فيه غرابة ولذلك حوفظ عليه من التغيير ثم استعير لكل حال او قصة او صفة لها شأن عجيب وفيها غرابة كقوله تعالى { مثل الجنة التى وعد المتقون } وقوله تعالى


اى الوصف الذى له شأن من العظمة والجلال ولما جاء الله بحقيقة حال المنافقين عقبها بضرب المثل زيادة فى التوضيح والتقرير فان التمثيل ألطف ذريعة الى تسخير الوهم للعقل واقوى وسيلة الى تفهيم الجاهل الغبى وقمع سورة الجامح الابى كيف لا يلطف وهو ابداء للمنكر فى صورة المعروف واظهار للوحشى فى هيئة المألوف واراءة للخيل محققا والمعقول محسوسا وتصوير للمعانى بصورة الاشخاص ومن ثمة كان الغرض من المثل تشبيه الخفى بالجلى والغائب بالشاهد ولامر ما اكثر الله فى كتبه الامثال وفى الانجيل سورة تسمى سورة الامثال وفى القرآن الف آية من الامثال والعبر وهى فى كلام الانبياء عليهم السلام والعلماء والحكماء كثيرة لا تحصى ذكر السيوطى فى الاتقان من اعظم علم القرآن امثاله والناس فى غفلة عنه والمعنى حالهم العجيبة الشان { كثمل الذى } اى كحال الذين من باب وضع واحد الموصول موضع الجمع منه تخفيفا لكونه مستطالا بصلته كقوله { وخضتم كالذى خاضوا } والقرينة ما قبله وما بعده خلا انه وحد الضمير فى قوله تعالى { استوقد نارا } نظرا الى الصورة وجمع فى الافعال الآتية نظرا الى المعنى.

والاستيقاد طلب الوقود والسعى فى تحصيله وهو سطوع النار وارتفاع لهبها.

والنار جوهر لطيف مضئ محرق حار والنور ضوءها وضوء كل نير وهو نقيض الظلمة اى اوقد فى مفازة فى ليلة مظلمة نار عظيمة خوفا من السباع وغيرها { فلما اضاءت } الاضاءة فرط الانارة كما يعرب عنه قوله تعالى

{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً } [يونس10: 5].


اى انارت النار { ما حوله } اى ما حول المستوقد من الاماكن والاشياء على ان ما مفعول اضاءت ان جعلته متعدياً وحول نصب على الظرفية وان جعلته لازما فهو مسند الى ما والتأنيث لان ما حوله اشياء واماكن واصل الحول الدوران ومنه الحول للعالم لانه يدور وجواب لما قوله تعالى { ذهب الله بنورهم } اى اذهبه بالكلية واطفأ نارهم التى هى مدار نورهم وانما علق الاذهاب بالنور دون نفس النار لانه المقصود بالاستيقاد واسناد الاذهاب الى الله تعالى اما لان الكل بخلقه تعالى واما لان الانطفاء حصل بسبب خفى اوامر سماوى كريح او مطر واما للمبالغة كما يؤذن به تعدية الفعل بالباء دون الهمزة لما فيه من معنى الاستصحاب والامساك يقال ذهب السلطان بماله اذا اخذه وما اخذه الله تعالى فامسكه فلا مرسل له من بعده ولذلك عدل عن الضوء الذى هو مقتضى الظاهر الى النور لان ذهاب الضوء قد يجامع بقاء النور فى الجملة لعدم استلزام عدم القوى لعدم الضعيف والمراد ازالته بالكلية كما يفصح عنه قوله تعالى { وتركهم فى ظلمات لا يبصرون } فان الظلمة هى عدم النور وانطامسة بالمرة لا سيما اذا كانت متضاعفة متراكمة متراكبا بعضها على بعض كما يفيده الجمع والتنكير التفخيمى وما بعده من قوله { لا يبصرون } لا يتحقق الا بعد ان لا يبقى من النور عين ولا اثر وترك فى الاصل بمعنى طرح وخلى وله مفعول واحد فضمن معنى التصيير فجرى مجرى افعال القلوب اى صيرهم { فى ظلمات لا يبصرون } ما حولهم فعلى هذا يكون قوله { فى ظلمات } وقوله { لا يبصرون } مفعولين لصير بعد المفعول الاول على سنن الاخبار المتتابعة للمخبر عنه الواحد وان حمل معناه على الاصل يكونان حالين من المفعول مترادفين او متداخلين والمعنى ان حالهم العجيبة التى هى اشتراؤهم الضلالة التى هى عبارة عن ظلمتى الكفر والنفاق المستتبعين لظلمة سخط الله تعالى وظلمة يوم القيامة { يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين ايديهم وبايمانهم } وظلمة العقاب السرمدى بالهدى الذى هو الفطرى النورى المؤيد بما شاهدوه من دلائل الحق كحال من استوقد نارا عظيمة حتى كاد ينتفع بها فاطفأها الله تعالى وتركه فى ظلمات هائلة لا يتسنى فيها الابصار * وفى التيسير والعيون ان المنافقين اظهروا كلمة الايمان فاستتاروا بنورها واستعزوا بعزها وأمنوا بسببها فناحكوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمنوا على اموالهم واولادهم فاذا بلغوا الى آخر العمر كل لسانهم عنها وبقوا فى ظلمة كفرهم أبد الأبد وعادوا الى الخوف والظلمة.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 08:05 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.