أماكن شحن بطاقة ايوا  آخر رد: الياسمينا    <::>    مجموعة ديرتنتا لجميع أنواع التصاميم والطباعة والتعبئه لشركات...  آخر رد: الياسمينا    <::>    متخصصون في جميع أنواع التصميم والطباعة والتعبئه لشركات المست...  آخر رد: الياسمينا    <::>    كيف تحقق أكثر من 1000 دولار بالشهر بسعر وجبة عشاء  آخر رد: الياسمينا    <::>    سكاي فليكس يوفر لك كل احتياجاتك الخاصه في مكان واحد  آخر رد: الياسمينا    <::>    دعوة لحضور لقاء "القانون وريادة الأعمال" للتعريف بالإجراءات ...  آخر رد: الياسمينا    <::>    مكتب انجاز استخراج تصاريح الزواج  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي : حكم لصالح موكلنا بأحقيتة للمبالغ محل ...  آخر رد: الياسمينا    <::>    منتجات يوسيرين: رفع مستوى روتين العناية بالبشرة مع ويلنس سوق  آخر رد: الياسمينا    <::>    اكتشفي منتجات لاروش بوزيه الفريدة من نوعها في ويلنس سوق  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم
التسجيل التعليمات الملحقات التقويم مشاركات اليوم البحث

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #31  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق

تفسير البحر المديد في تفسير القرآن المجيد/ ابن عجيبة (ت 1224 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }


قلت: { استوقد } يحتمل أن تكون للطلب، أو زائدة بمعنى أوقد، و { لما } شرطية، و { ذهب } جواب، وإذا كان لفظ الموصول مفرداً واقعاً على جماعة، يصح في الضمير مراعاة لفظه فيفرد، ومعناه فيجمع، فأفرد في الآية أولاً، وجمع ثانياً، ويقال: أضاء يضيء إضاءة، وضَاء يضُوء ضَوْءاً.

يقول الحقّ جلّ جلاله: مثل هؤلاء المنافقين من اليهود { كَمَثَلِ } رجل في ظلمة، تائه في الطريق، فاستوقد ناراً ليبصر طريق، فاستوقد ناراً ليبصر طريق القصد { فَلَمَّا } اشتغلت و { أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } فأبصر الطريق، وظهرت له معالم التحقيق، أطفأ الله تلك النار وأذهب نورها، ولم يبق إلا جمرها وحرّها. كذلك اليهود كانوا في ظلمة الكفر والمعاصي ينتظرون ظهور نور النبيّ صلى الله عليه وسلم ويطلبونه، فلما قدم عليهم، وأشرقت أنواره بين أيديهم كفروا به، فأذهب الله عنهم نوره، { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } الكفر والشك والنفاق، { لاَّ يُبْصِرُونَ } ولا يهتدون، { صُمٌّ } عن سماع الحق، { بُكْمٌ } عن النطق به { عُمْي } عن رؤية نوره، { فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ } عن غيّهم، ولا يقصرون عن ضلالتهم.

الإشارة: مَثَلُ مَنْ كان في ظلمات الحجاب قد أحاطت به الشكوك والارتياب، وهو يطلب من يأخذ بيده ويهديه إلى طريق رشده، فلما ظهرت أنوار العارفين، وأحدقت به أسرار المقربين، حتى أشرقت من نورهم أقطارُ البلاد، وحَيِيَ بهم جلّ العباد، أنكرهم وبعد منهم، فتصامم عن سماع وعظهم، وتباكَمَ عن تصديقهم، وعَمِيَ عن شهود خصوصيتهم، فلا رجوع له عن حظوظه وهواه، ولا انزجار له عن العكوف على متابعة دنياه، مثله كمن كان في ظلمات الليل ضالاً عن الطريق، فاستوقد ناراً لتظهر له الطريق، فلما اشتعلت وأضاءت ما حوله أذهب الله نورها، وبقي جمرها وحرّها، وهذه سنة ماضية: لا ينتفع بالولي إلا مَن كان بعيداً منه. وفي الحديث: " أزْهَدُ النَّاسِ في العَالِم جيرانُه " ، وقد مَثَّلُوا الولي بالنهر الجاري كلما بَعُدَ جَرْيُه عَمَّ الانتفاعُ به، ومثَّلوه أيضاً بالنخلة لا تُظِلُّ إلا عن بُعْد. والله تعالى أعلم.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #32  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق 1-2

تفسير التبيان الجامع لعلوم القرآن/ الطوسي (ت 460 هـ) مصنف و مدقق 1-2

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


اللغة:

إن قيل: كيف قال: { مثلهم } ، أضاف المثل إلى الجمع، ثم شبهه بالواحد في قوله: { كمثل الذي استوقد ناراً } ، هلاّ قال كمثل الذين استوقدوا نارا، يكني به عن جماعة من الرجال والنساء، والصبيان. والذي لا يعبر به إلا عن واحد مذكر ولو جاز ذلك، لجاز أن يقول القائل: كأن أجسام هؤلاء ـ ويشير إلى جماعة عظيمي القامة ـ نخلة. وقد علمنا أن ذلك لا يجوز؟ قلنا: في الموضع الذي جعله مثلا لأفعالهم جائز حسن وله نظائر كقوله:

{ تَدُورُ أَعْيُنُهُم كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ } (الأحزاب33: 19)

والمعنى: كدور أعين الذي يغشى عليه من الموت وكقوله

{ مَا خَلْقُكُم وَلَا بَعْثُكُم إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } (لقمان31: 28)

ومعناه إلا كبعث نفس واحدة لأن التمثيل وقع للفعل بالفعل وأما في تمثيل الأجسام لجماعة من الرجال في تمام الخلق والطول بالواحد من النخيل فغير جائز، ولا في نظائره.


التفسير:

والفرق بينهما، أن معنى الآية، أن مثل استضاءة المنافقين بما أظهروا من الاقرار بالله وبمحمد صلى الله عليه وآله، وبما جاء به قولا ـ وهم به مكذبون اعتقاداً ـ كمثل استضاءة الموقد، ثم اسقط ذكر الاستضاءة، واضاف المثل اليهم كما قال الشاعر وهو نابغة جعدة:

وكيف تواصل من اصبحتخلالته كأبي مرحب


أي كخلالة أبي مرحب. واسقط لدلالة الكلام عليه وأما إذا أراد تشبيه الجماعة من بني آدم وأعيان ذوي الصور والاجسام بشيء فالصواب أن يشبه الجماعة بالجماعة، والواحد بالواحد؛ لأن عين كل واحد منهم غير اعيان الأخر كما قال تعالى:

{ كَأَنَّهُم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ } (المنافقون63: 4) وقال:
{ كَأَنَّهُم أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } (الحاقة69: 7)

واراد جنس النخل ومثل قوله: ما افعالكم إلا كفعل الكلب ثم يحذف الفعل فيقال: ما افعالكم إلا كالكلب.


وقيل إن { الذي } بمعنى الذين كقوله:

وان الذي حانت بفلج دماؤهمهم القوم كل القوم يا ام خالد


وانما جاز ذلك، لأن الذين منهم يحتمل الوجوه المختلفة وضعف هذا الوجه من حيث ان في الآية الثانية وفي البيت دلالة على انه اريد به الجمع. وليس ذلك في الآية التي نحن فيها. وقيل فيه وجه ثالث وهو ان التقدير: مثلهم كمثل اتباع الذي استوقد ناراً وكما قال:

{ وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ } (يوسف12: 82)

وانما اراد اهلها. وفى الآية حذف (طفئت عليهم النار)


وقوله: { استوقد ناراً } معناه: اوقد ناراً كما يقال استجاب بمعنى اجاب قال الشاعر:

وداع دعا يا من يجيب إلى الندىفلم يستجبه عند ذاك مجيب


يريد: فلم يجبه

الوقَود: الحطب. والوقُود: مصدر وقدت النار وقودا. والاستيقاد: طلب الوقود. والايقاد: ايقاد النار. والتوقد: التوهج. والايقاد: التهاب النار. وزند ميقاد: سريع الوَرْي. وقلب وقاد: سريع الذكاء والنشاط. وكل شيء يتلألأ فهو يتقد.
-1-

وفي الحجر نار لا تقد، لأنها لا تقبل الاحتراق والوقود: ظهور النار فيما يقبل الاحتراق.

وأصل النار النور. نار الشيء اذا ظهر نوره. وانار: اظهر نوره. واستنار: طلب اظهار نوره. والمنار: العلامات. والنار: السمت. وضاءت النار: ظهر ضوؤها وكل ما وضح فقد اضاء. واضاء القمر الدار: كقوله: اضاءت ما حوله. قال الشاعر:

اضاءت لهم احسابهم ووجوههمدجى الليل حتى نظمّ الدر ثاقبه


وقوله: { حوله } مأخوذ من الحول وهو الانقلاب. يقال حال الحول: اذا انقلب إلى أول السنة وأحال في كلامه اذا صرفه عن وجهه وحوّله عن المكان: أي نقله إلى مكان آخر: وتحول: تنقل واحتال عليه وحاوله طالبه بالانقلاب إلى مراده والحَول بالعين ـ بالفتح ـ والحول ـ بالكسر ـ الانقلاب عن الأمر ومنه قوله

{ لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } (الكهف18: 108)

والحوالة انقلاب الحق عن شخص إلى غيره والمحالة: البكرة. والحيلة: إيهام الأمر للخديعة. وحال بينه وبينه: مانع والحائل: الناقة التي انقطع حملها. والحائل: العير. وحوله الصبا: أي دايرته


ذهب به واذهبه: أي أهلكه، لا ذهابه إلى مكان يعرف، ومنه { ذهب الله بنورهم }. والمذهب: الطريقة في الأمر. والذّهبه: المطرة الجود. وقوله: { وتركهم في ظلمات }: أي أذهب النور بالظلمات. وتاركه متاركة وتتاركوا: تقابلوا في الترك. واترك اتراكا: اعتمد الترك. والتركة والتريكة: بيضة النعام المنفردة لتركها وحدها.

والظلمات: جمع الظلمة، واصلها انتقاص الحق من قوله: ولم تظلم منه شيئاً أي لم تنقص. واظلم الجواد احتمل انتقاص الحق لكرمه، ومن أشبه أباه فما ظلم أي ما انتقص حق الشبه. وظلمت الناقة: اذا نحرت من غير علة.

والظلم: ماء الأسنان من اللون لا من الريق. والظلم: الثلج. وقوله: { في ظلمات لا يبصرون } قال ابن عباس: إنهم بيصرون الحق ويقولون به حتى اذا خرجوا من ظلمة الكفر، أطفأوه بكفرهم به، فتركهم في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدى، ولا يستقيمون على حق، وروي عنه أيضاً أنه قال: هذا مثل ضربه الله تعالى للمنافقين، أنهم كانوا يعتزون بالاسلام، فيناكحهم المسلمون ويولدونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا، سلبهم الله ذلك العز، كما سلب صاحب النار ضوءه، وتركهم في عذاب، وهو أحسن الوجوه. وقال أبو مسلم: معناه أنه لا نور لهم في الآخرة، وإن ما أظهروه في الدنيا يضمحل سريعاً كاضمحلال هذه اللمعة. وحال من يقع في الظلمة بعد الضياء اشقى في الحيرة، فكذلك حال المنافقين في حيرتهم بعد اهتدائهم، ويزيد استضرارهم على استضرار من طفئت ناره بسوء العاقبة. وروي عن ابن مسعود وغيره أن ذلك في قوم كانوا اظهروا الاسلام، ثم أظهروا النفاق، فكان النور الايمان، والظلمة نفاقهم. وقيل فيها وجوه تقارب ما قلناه

وتقدر بعد قوله: { فلما أضاءت ما حوله } (انطفأت) لدلالة الكلام عليها كما قال ابو ذؤيب الهذلي:

دعاني اليها القلب إني لأمرهمطيع فما ادري ارشد طلابها؟


وتقديره، ارشد طلابها ام غي؟

وقال الفراء يقال ضاء القمر يضوء، واضاء يضيء، لغتان وهو الضوء والضوء ـ بفتح الضاد وضمها ـ وقد اظلم الليل، وظَلِم ـ بفتح الظاء وكسر اللام ـ وظلمات على وزن غرفات، وحجرات، وخطوات، فاهل الحجاز وبنو اسد يثقلون وتميم وبعض قيس يخففون والكسائي يثمّ الهاء الرفع بعد نصب اللام في قوله { حوله } ، و { نجمع عظامه } في حال الوقف الباقون لا يشمون وهو احسن

-2-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #33  
قديم 12-16-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة/ الجنابذي (ت القرن 14 هـ) مصنف و مدقق

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


{ مَثَلُهُمْ } فى قبول نور الاسلام والاستضاءة به { كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } المثل بالتّحريك والمثل بالكسر والاسكان والمثيل كالشّبه والشّبه والشّبيه لفظاً ومعنىً لكن استعمال المثل بالتّحريك فى التشبيه المركّب اكثر ولذا صار اسماً للقول السائر فى العرف العامّ والموصول كالمعرّف بالّلام قد يكون لتعريف الجنس وحينئذٍ يجوز ان يجرى على مفرده حكم الافراد والجمع كما هنا فانّه أفرد بعض الضّمائر الرّاجعة اليه وجمع بعضها وكما فى قوله تعالى

{ وَخُضْتُم كَالَّذِي خَاضُوا } (التوبة9: 69)

على ان يكون الفاعل عائداً لموصول ولم يأت بالعاطف هنا مع أنّه متفرّع على اشتراء الضّلالة مثل الجملتين السابقتين وجعله مستأنفاً لجواب سؤالٍ مقدّر تجديداً لنشاط السامع بتغيير الاسلوب ويحتمل ان يكون حالاً { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ } أضائت متعدّ مسند الى ضمير النّار او لازم مسند الى ما باعتبار كونه بمعنى الاماكن والاشياء الّتى حوله، او لازم مسند الى ضمير النّار وما حوله بدل عنه بدل الاشتمال { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } وحّد النّور وجمع الظلمة للاشارة الى وحدة حقيقة النّور وانّ الوحدة ذاتيّة للنّور ولغيره بعرض النّور، وللاشارة الى كثرة الظّلمة وانّ الكثرة ذاتيّة لها ولغيرها عرضيّة، وسيأتى تحقيق لهذا فى اوّل سورة الانعام ان شاء الله والمراد بالظّلمات فى الممثّل له ظلمات شؤن النّفس المتراكمة فانّ الانسان كلّما ازداد بعداً من نور الاسلام ازداد توغّلاً فى شؤن النّفس المظلمة، وتعريف النّور بالاضافة وتنكير الظّلمات لما سبق من كون النّور ذاتيّاً للانسان والظّلمة عرضيّة { لاَّ يُبْصِرُونَ } حال او صفة بحذف العائد او مستأنف او مفعول ثان لترك اذا جعل بمعنى صيّر، او مفعول بعد مفعولٍ اذا جعل فى ظلمات مفعولاً ثانياً وترك المفعول لترك القصد اليه كان الفعل جعل لازماً او لقصد التّعميم فى المفعول.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #34  
قديم 12-18-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق 1-7

تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق 1-7

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


{ مَثَلُهُمْ } أى فى صفتهم فى النفاق، والمثل فى الأصل بمعنى الشبيه، ويقال أيضاً مثل، بكسر فإسكان، ومثيل ككريم، ثم استعمل بمعنى الكلام الذى شبه مضربه بمورده، وهو استعمال عربى، وإنما سمى هذا الكلام المشبه مضربه بمورده مثلا لأنه أخذ من المعنى الأصلى المذكور وهو التشبيه، إذ جعل مضربه وهو ما يضرب فيه شبيهاً بمورده، وهو ما ورد فيه أولا قبل ضربه مثلا، وضرب المثل نوع من الاستعارة التمثيلية فهى أعم منه، وعمومها مطلق وهو أخص، وخصوصه خصوص مطلق، وبيان خصوصه أنه تعتبر فيه الشهرة، فإنه لا يضرب إلا بما فيه غرابة من بعض الوجوه، ولا يغير لأنه استعارة كما مر وهى تصر يحية، ولفظها لفظ المشبه به كما هو شأن الاستعارة التصريحية، فلو غير لم يكن لفظه لفظ المشبه به، ولم يكن مثلا، بل مأخوذ منه ومشير إليه، فقولك: الصيف ضيعت اللبن، بكسر التاء، مثل إذ لم يغير عن اللفظ المقول أولا، وبفتحها أو ضمها مأخوذ من المثل ومشير إليه. وقال الزمخشرى والقاضى: حوفظ عليه من التغير لما فيه من الغرابة، وما ذكرته أولى وهو قول السكاكى.

وقد كثر ضرب المثل فى كلام الله سبحانه وتعالى وكلام الأنبياء والحكماء، لأنه أوقع فى قلب المخاطب ويراه المتخيل تحققاً. والمعقول محسوساً، والغائب مشاهداً وأقمع للمعاند الشديد الخصومة، ومن سور الإنجيل سورة تسمى سورة الأمثال، ثم استعير لفظ المثل لكل ذى شأن وغرابة من حال أو قصة أو صفة، وهو استعمال ثالث متفرع على الثانى الذى هو الكلام المشبه، مضروب بمفرده المتفرع على الأول الذى هو الشبيه، وحمل القرآن إلى الثانى أولى، لأن أكثر أحكام القرآن معقولة غير محسوسة، من حيث الاعتقادات والوهم، وإنما يدرك المحسوس فهو ينازع العقل فى إدراك المعقولة حتى يحجبها عنه، وإذا ضرب المثل بالمحسوس أدركه الوهم فوافق العقل فزالت خصومة الخصم، إلا أن يخاصم مكابرة لعقله، ووجه الحمل على الأمثال فيما إذا صرح بأداة التشبيه أن يقال: إن مدخول الأداة والمضروب له يشملهما كلام واحد مشار إليه غير مدرك مذكور فى القرآن نصاً بلفظه، ففى الآية يقال: إن هؤلاء المنافقين والذى استوقد ناراً على الكيفية المذكورة، مثلهما الذى يضرب لهما واحد وهو الدخول فى أمر مرغوب فيه وقطعه، بحيث يكون القطع أضر من ترك الدخول من أول مرة، ألا ترى أن المنافق أسفل فى النار من المشرك المحض؟ وأن الحاصل فى ظلمة أعقبت نوراً أهم من الحاصل فيها من أول؟ فالمنافق دخل بلسانه وربما شابته موافقة من قلبه غير خالصة، وقطع دخوله بنفاقه أعنى أبطله به، وأما ما لم يصرح فيه بالأداة فكونه مثلا مضروباً ظاهراً، ولو صرح فيه بلفظ الضرب كقوله عز وجل:
-1-

إلخ السورة، ويجوز حمل القرآن على الاستعمال الأول وهو معنى الشبيه، لأن ما صدقه راجع إلى الثانى، لأنه سيق للبيان والإيضاح، ويجوز حمله على الثالث وهو ذو الشأن والغرابة من حال أو صفة أو قصة، فكأنه قبل صفة هؤلاء المنافقين الغريبة العجيبة الشأن.


{ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً }: أى كصفته الغريبة العجيبة الشأن، حيث استوقد ناراً فى ظلمة ثم زالت وبقى متحيراً كما قال مولانا جل وعلا:

{ فَلَمَّآ آضَآءَتْ }: أى النار { مَا حَوْلَهُ }: ما يقرب منه ويدور به من المواضع، فأبصر بعد أن كان لا يبصر شدة الظلمة، واستدفأ بعد أن كان مقروراً وآمن ما يخافه.

{ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم }: أى أذهبه. { وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }: ما حولهم فهم متحيرون عن الطريق خائفون، فكذلك هؤلاء المنافقون آمنوا ما يخافونه من القتل والأسر والغنيمة والسبى وغير ذلك، وزوال نعم حين أظهروا كلمة الشهادة وإذا ما يزال عنهم ذلك الأمن كما قال ابن عباس فى القبر وما بعده، وجاءهم الخوف والعذاب لأنهم أضمروا الشرك، ومن كان منافقاً بالفسق من أهل التوحيد، فكذلك لأنهم آمنوا فى الدنيا مما ذكر، وتوصلوا إلى مناكحة المسلمين وموارثتهم وغير ذلك، فإذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب، وزال ما معهم من النور الضعيف القليل الذى حصلوه من التوحيد، لأنهم لم يحققوه بعمل، فيجوز أن يكون ذلك مثلا مضروباً لهؤلاء المنافقين بطريقة آخر هو أنه شبه حالهم حين أتاهم الله ضرباً من الهدى وهو التوحيد اللسانى فأضاعوه ولم يدخلوه قلوبهم، ففاتهم نعيم الأبد بمن أعطى فى ظلمة عظيمة مخوفة نورا، فلم يتسمك به ولم يحافظ عليه حتى زال، فكلاهما متحير مضر.

وهذه الآية مقررة وموضحة لقوله تعالى:

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَت تِجَارَتُهُم وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } (البقرة2: 16)

وبطريق آخر هو أنه شبه إيمانهم من حيث إنه سلمت به دماؤهم وأولادهم وأموالهم، وشاركوا المسلمين فى المغانم والأحكام، ثم فضحهم الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وأظهر نفاقهم فكان لهم اسم المنافق لا اسم المؤمن بنار أوقدت فانتفع بها قليلا فى الظلمة ثم زالت، وهكذا حال الموحد المنافق بالنظر إلى انكشافه فى الآخرة وقد ينكشف أيضاً فى الدنيا، فتزول عنه الولاية وتوابعها، وبطريق آخر وهو أن نرجع ضمير الهاء للكفار المحض والكفار المنافقين بأن يشبهوا فى إعراضهم عن فطرة الإسلام أى فطروا عليها، ونمكن عقولهم من نور الهدى بمن لم يحافظ على النور الذى حصل فى ظلمة فضاع عنه، وبطريق آخر هو أن نرجع الضمير للكفار المحض الباقين على الكفر، والمرتدين إليه بعد الإسلام والكفار المنافقين، فإن كلا قد زال عنه نور الإسلام كزوال نور النار فى ظلمة، وفى معنى ذلك كل من زال عن درجة فى الإسلام إلى ما دونها، ولو لم يكن يحكم بهلاكه ولا بإطلاق أصم وأبكم وأعمى عليه، اللهم إلا بقيد النسبة إلى الدرجة التى نزل عنها، وقال قوم منهم قتادة: إن المعنى أن نطقهم بلا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والقرآن كإضاءة النار، واعتقادهم الكفر بقلوبهم كانطفائها، والمراد بالذى الجنس، ولذلك عاد عليه ضمير الجمع فى قوله: بنورهم، أو لكونه نعتاً لمحذوف مفرد فى اللفظ جمع فى المعنى، كالفريق والفوج والقوم ونحو ذلك، مما هو مفرد لفظاً جمع فى المعنى، أو لأن المراد مثل كل واحد منهم، كمثل الذى استوقد ناراً، ووجه الشبه بين الإسلام والنور أن كلا يزيل الحيرة والهلاك، وضرب المثل بالنار لأن المستضىء بها مستضىء بنور غيره، وإذا ذهب بقى فى ظلمة فلما أقروا بدون اعتقاد كان إيمانهم كالمستعار، ولأن النار تحتاج لمادة الحطب لتدوم، والإيمان يحتاج لمادة الاعتقاد ليدوم، واستعمل الذى بمعنى الذين تخفيفاً بإسقاط النون فهى فى الحقيقة لفظ الذين، أو استعمالا كالموصولات المشتركة مثل من، وعلى كل وجه روعى لفظه فى استوقد وحوله ومعناه فى نورهم وما بعده إلا على تأويل: مثل كل واحد منهم كمثل الذى فإنه مفرد لفظ ومعنى، وإن قلت جاز مراعاة لفظه فى وجه التخفيف من الذين قلت لأن حقيقة تخفيفه منه إسقاط نونه وجعلها نسياً منسياً، كما حذفت لام يد وهن ونحوهما وأعر بن على العين، وإنما جاز تخفيفه المذكور واستعماله مشتركاً كمن، ولم يحز وضع القائم موضع القائمين إلا بإرادة الجنس، لأنه غير مقصود بالوصف به ذاتاً، بل المقصود الوصف بصلته، وإنما هو وصله إلى نعت المعرفة بها، ولأنه ليس اسماً تاماً بل كجزء فحقه أن يستعمل مشتركاً كمن، ولا تلحقه الزوائد، وليس الذين جمعاً له بل اسم جمع، زيدت فيه زيادة لزيادة المعنى، ولذلك يقول الذين بالياء جراً ونصباً ورفعاً على اللغة الفصحى، فليس جمع مذكر سالما، ولغة من يقول رفعاً الذون ليست نعتاً فى إعرابه، وكونه جمع سلامة له الاحتمال بقائه على البناء والواو أمارة على محله، كما يقال منان ومنون فى الاستفهام ولكونه مستطالا بصلة استحق التخفيف، فقيل الذى بإسقاط النون وتناسيها وإذا أسقطت بلا تناس وجب مراعاة المعنى بخلاف القائم فإن القصد الوصف به وهو اسم تام، والقائمون جمعه وكذا ما أشبهه من اسم الفاعل والمفعول سواء، قلنا أل فى ذلك اموصولة أو حرف تعريف، وإن قلت فلعل أل بقية الذى والذين.

-2-

قلت: هو بعيد لاختصاصها فى الأشهر بالاسم ولتخطئ العامل لها، ولكونها لا محل لها من الإعراب، والإعراب فى آخر الوصف: اللهم إلا أن يقال أشبهت أل الحرفية التى للتعريف قد خلت على الاسم وتخطاها العامل، فلم يكن لها إعراب محلا.
-3-

وإخبار الفخر أن المنافقين لم يشبهوا بذات المستوقد حتى يلزم تشبيه الجماعة بالواحد، بل شبه قصتهم بقصة المستوقد، كما شبه الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها بالحمار يحمل أسفاراً، فالذى مفرد لفظاً ومعنى ولا يحتاج لتأويل، فالضمير على هذا فى نورهم وما بعده للمنافقين لا للذى، ومعنى استوقد طلب الوقود وسعى فى تحصيله، واختار هذه الصيغة الدالة على الطلب والعلاج ليكون التمثيل بمن احتاج إلى النور غاية الاحتياج فى لجة الظلمة، فهو يجتهد فى تحصيله ثم زال عنه فبقى فى ظلمة أشد، هكذا أقول والممثل لهم ولو لم يكونوا مريدين لنور الدين ولا طالبين له، لكنهم فى غاية الاحتياج إليه ولم يعلموا، وقال الأكثر استوقد بمعنى أوقد، ووقود النار حصول لهبها وارتفاعه من ذلك وقد فى الجبل إذا صعد وعلا فيه، والنار جسم لطيف مضىء حار محرق، وأما الجسم الذى يمتد منه فجمر، وإطلاق النار على حرارتها مجاز، والنور ضوؤها وضوء كل نير كالشمس والقمر والنجوم واللؤلؤ وهو نقيض الظلمة، ونكر النار للتعظيم، ولفظ النار مأخوذ من نارينور إذا نفر بالنون والفاء، لأن فيها حركة واضطراباً، أو نار ينور هو الذى أخذ من لفظ النار، وأما النور فقيل مأخوذ من لفظ النار، والتحقيق أنه من النور، بفتح النون، الذى هو مصدر، وإنما ساغ ذلك الاختلاف لأن باب الأخذ والاشتقاق الذى بمعناه واسع يكفى فيه وجود المادة، وأصل المعنى وهما موجودان فى كل لفظين متوافقين، ومعنى أضاءت أنارت إنارة عظيمة، فإن الضوء أعظم من النور لقوله تعالى:

{ جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً } (يونس10: 5)

ولو ترادفا لغة، لأن الترادف بحسب الوضع كالاستعمال بلغية بحسب الاستعمال، ويستعمل أضاء متعدياً بمعنى جعل الشىء للبصر زائلة ظلمته، ويستعمل لازماً بمعنى الظهور للبصر، وزوال ظلمته فيحتمل الذى فى الآية أن يكون متعدياً، وفيه ضمير مستتر فاعل عائد إلى النار، وما مفعول به وهو الواضح المتبادر، ويحتمل أن يكون لازماً وما فاعله، لوقوعه على الأمكنة، لأن ما حول المستوقد هو أماكن وأشياء كائنة فلما ظهرت للببصر الأمكنة والأشياء التى حول المستوقد، وأن يكون لازماً وفاعله ضمير مستتر عائد إلى النار وما زائدة، وحوله ظرف متعلق بأضاءت بخلافه على الوجهين الأولين، فإنه صلة.


والمعنى على هذا الوجه فلما ظهرت النار وزالت بها الظلمة أو ظلمته أشرقت، وأن يكون لازماً وفاعله ضمير مستتر عائد إلى النار وما اسم موصول كالوجهين الأولين، لكنها واقعة على الأمكنة، فهى منتصبة المحل على الظرفية، وهذا أثبته الزمخشرى والقاضى، وعندى أن هذا بعيد ولو جاز وقوع الذى ونحوه ظرفاً، نحو جلست الذى جلست فيه، أى فى الموضع الذى جلست، لأن الذى ونحوه يصح النعت به، وما لا ينعت بها ولا يبعد وقوع ما الشرطية ظرفاً زمانياً، وهو متبادر فى قوله تعالى:
-4-

{ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُم فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ } (التوبة9: 7)
ومادة الحوق تدل على الدوران والتغير والانقلاب والظهور، سواء كانت على هذا الترتيب - ح و ل أم لا، فسمى ما يقرب من المستوقد حولا لاستدارته به، وسمى العام حولا لأنه يدور، وحال الشىء واستحال تغير، وحال عن العهد انقلب وتحول إلى مكان، ولاحه السفر غيره، ولاح النجم ظهر، ووحل بالكسر وقع فى الوحل وهو الطين، كما أن مادة كمل للقوة ككمل وكلم وملك ومكل ولكم، وجواب لما هو قوله عز وجل: { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } ، ولم يقل بنارهم مع أنه مقتضى الظاهر، لأن النور هو المراد من إيقادها، ولأن الممثل لهم وهم المنافقون إنما يذهب عنهم نور الإيمان، ويجوز أن يكون جواب لما محذوفاً للإيجاز وأمن اللبس، لدلالة المقام عليه، وفى حذفه بلاغه كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين فى ظلام، متحيرين على خمودها بعد طلب إيقادها وعلاجه، وإذا قلنا بحذف جوابها كانت الهاء فى قوله: { بِنُورِهِمْ } عائدة إلى المنافقين، وكانت جملة: { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } إما بدلا من قوله: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِى اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ } مع الجواب المحذوف، وهو بدل نحوى لأن التحقيق ألا يشترط فى إبدال الجملة من جملة وجود محل الإعراب للجملة الأولى المبدل منها، ولو قال كثير باشتراطه، وفائدة ذلك البدل البيان، وقد أجاز الزمخشرى والقاضى الإبدال هنا، وهو طبق ما ذكرت من عدم الاشتراط، اللهم إلا أن يراد البدل اللغوى وهو أعم لا البدل الصناعى، وأن معنى البدلية قيام الجملة مقام الجملة التى وقع بها التمثيل فى المعنى مع إفادة إيضاح، وإما استئنافاً بيانيا كأنه قيل: ما بالهم شبهت حالهم بحال الذى استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله خمدت، فقيل ذهب الله بنورهم، وليس هذا الوجه ضعيفاً لأن هذا السؤال لا يغنى عنه، فلما أضاءت ما حوله لحذف جواب لما وهو الخمود، وإن قلت: إن زوال نور الإيمان بفعلهم واختيارهم إذا اعتبرناه الفطرة التى فطروا عليها أو تمكنهم منه، فكيف شبه بمن زال نور ناره بلا فعل منه واختيار، بل بإذهاب الله؟ قلت: ساغ ذلك لأن المستوقد للنار هو أيضاً فاعل فى زوال نورها بتضييع أو تعمد يعقبه الندم، لكن فعله مخلوق لله عز وجل، فقال: { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } أو لأن الإزالة بسبب خفى فنسب لله، سواء كان للمستوقد فيه فعل أو لم يكن، أو لأنها حصلت بأمر سماوى كريح أو مطر، أو نسبت الإزالة إلى الله تعالى نسبة الفعل إلى الفاعل، من حيث إنه فاعل لا إلى الخالق من حيث إنه خالق، وذلك مجاز ومبالغة كما تقول: ذبحه الله مجازاً أو مبالغة، ولك أن تقول: إن المستوقد استوقد نار فتنة وعداوة للإسلام، فأضاءت ترشيح أو نار حقيقة فى معصية فأطفأها الله كما عاقبهم بعد اختيارهم ونسبتهم بالخذلان وعدم إلقاء حلاوة الإيمان فى قلوبهم، فأطفئ عنهم نور الإيمان، ففى هذين الوجهين اعتبر أن المطفئ هو الله فى جانب المشبه والمشبه به، وإما إن قلنا زوال نورهم بالموت أو بالافتضاح فالإطفاء فى الجانبين من الله عز وجل، والباء للتعدية كالهمزة، إلا أن معها استصحابا وليس مع الهمزة، يقال: ذهب زيد بعمر وأى أذهبه ومضى معه، ويقال أذهبه أى جعله ذاهباً سواء ذهب معه أم لا، فإذا ذهب معه فليس لفظ أذهب هو الدال على المصاحبة، فعبر بالباء فى الآية للمبالغة لدلالتها على المصاحبة وذلك مجاز لأن الوصف بالذهاب وصف بالمكان والتحيز والانتقال، تعالى الله عنه.
-5-

ووجه المبالغة إنما ذهبت به قد أزالته عن موضعه، وحافظت عليه وأمسكته وما يمسك فلا مرسل له من بعده، وقرأ اليمانى أذهب الله نورهم بهمزة التعدية لا ببائها، فليس فيه مجازية الصحبة، والفرق بين التعدية بالهمزة والتعدية بالباء بما ذكر من المصاحبة مع الباء قول المبرد والسهيلى، ورده ابن هشام بالآية، يعنى لأن الله لا يذهب مع شىء، بل يذهب الشىء ويزيله، ويرده ما ذكرت من المبالغة والمجاز، وإنما قال بنورهم ولم يقل بضوئهم مع أن مقتضى اللفظ أن يقال بضوئهم من حيث إنه المذكور فى قوله: { فَلَمَّآ أَضَآءَتْ } للمبالغة فيفند إزالة النور عنهم أصلا، ولو قيل بضوئهم احتمل ذهاب ما فى الضوء من الزيادة، وبقاء ما يسمى نوراً لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة، ويدل لذلك قوله: { وَتَرَكَهُمْ فِى ظُلُمَاتٍ لاَ يُبْصِرُونَ } وإنه مقرر مؤكد فى المعنى، لقوله: { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ } حيث ذكر الظلمة التى هى عدم النور وانطماسه بالكلية ونقيضه، وقيل الظلمة عرض ينافى النور وترك فى الأصل بمعنى طرح وخل متعد لمفعول واحد، فضمن معنى صير فتعدى لاثنين كقوله:

فتركته جزر السباع ينشنهما بين قلة رأسه والمعصم


فجزر، بفتح الراء، مفعول ثان لا حال لإضافته للمعرفة والمضاف للمعرفة معرفة، والحال لا يكون معرفة، بخلاف قوله جل وعلا: { فِى ظُلُمَاتٍ } فيحتمل التعليق بمحذوف مفعول ثان، أو بمحذوف حال والتعليق بترك وجزر السباع شاة لسباع، والجزر الشاة المعدة للذبح، وجمع الظلمة ونكرها ووصفها بأنها ظلمة لا يمكن فيها الإبصار إبصار شىء ما للتعظيم والمبالغة، فذلك أيضاً من مؤكدات قوله: { ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم } وقرأ الحسن بإسكان لام ظلمات، وقرأ اليمانى فى ظلمة بالإفراد، والظلمات ظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة يوم القيامة:

{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِم وَبِأَيْمَانِهِم } (الحديد57: 12)

أو ظلمة الضلال، وظلمة سخط الله تعالى، وظلمة العقاب الدائم، أو كل ذلك، والجمع للتنصيص على الأنواع مجملة، وإلا فالظلمة مصدر يصلح لذلك ولو مفرداً ولذا قرأ اليمانى بالإفراد، واشتقاق الظلمة من معنى قولك: ما ظلمك أن تفعل كذا، أى ما منعك، لأن الظلمة تسد البصر وتمنع الرؤية.

-6-

قاله الزمخشرى والقاضى.

والمشهور أن أصل الظلم معنى النقص كقوله تعالى:

{ وَلَم تَظْلِم مِنْهُ شَيْئاً } (الكهف18: 33)

أو معنى وضع الشىء فى غير موضعه، كما قال الجوهرى، وقد يجتمع بين ذلك بأن مرادهم المنع عن عدم النقص والمنع عن وضع الشىء فى موضعه، وينصر فى الأصل متعد ونزل هنا منزلة اللام لعدم تعلق الغرض بمفعوله المطروح، فليس مفعوله مقدرا مبينا الكلام على تقديره ونيته، وجملة لا يبصرون مفعول ثان بعد مفعول، أو لمحذوف حال، أو حال من الهاء كما فى ظلمات حال منها.

-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #35  
قديم 12-18-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تيسير التفسير/ اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


{ مَثَلُهُمْ } صفتهم الشبيهة فى القرابة عقلا وشرساً بما يضرب مثلا لغرابته { كَمَثَلِ } كصفة { الَّذِي } الرجل الذى، لا بأس بتشبيه الجماعة بالمفرد، والمواد الجنس، فضمير المفرد بعده للفظه، وضمير الجمع للجنس، ويجوز أنه يقدر: الفريق لذى، والكلام فى الضمائر كذلك { اسْتَوْقَدَ } ليلا { نَاراً } بالغ فى إيقادها وعالجه فى ظلمة وهذا لبقائه على الأصل أولى من تفسيرها بأوقد. ويجوز أن تكون تمثيلا بنار لا يرضى الله إبقاؤها كنار الفتنة للإسلام، أو حقيقة أوقدها الغواة للشر، فيليق بالحكيم إطفاؤها { فَلَمَّا أَضَاءَتْ } أنارت إنارة عظيمة { مَا حَوْلَهُ } ما فى جهاته من الأرض، وتمكن مما أوقدها لأجله، من الإبصار والاستدفاء، والأمن مما يخاف، والطبخ للأكل، أو نحو ذلك من المنافع { ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ } أذهب نورهم بإطفائه، فلا نور فضلا عن لإضاءة والنور منشأ الضياء، ووردا جميعاً فى شأن سيدنا محمد، وسيدنا موسى صلى الله عليه وسلم عليهما، وقيل الضياء ما للشىء جميعاً فى شأن سيدنا محمد، وسيدنا موسى صلى الله وسلم عليهما، وقيل الضياء ما للشىء من ذاته، والنور من غيره { وَتَرَكَهُمْ } صيَّرهم { فِى ظُلُمَٰتٍ } ظلمة واحدة كأنها ظلمات، لشدتها، أو ظلمات متراكبة من الليل أو ظلمة الليل وظلمة العمام، وظلمة انطفاء النار، وذلك من حال المستوقدين يشبه من حال هؤلاء المنافقين مضرة الكفر ومضرة النفاق، وظلمة يوم القيامة، { يَوْمَ تَرَى الْمُؤمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبأيمانهم } ، ومضرة العقاب { لاَ يُبْصِرُونَ } ما حولهم من الطريق فضلا عن أن استدفئوا أو يطبخوا أو يحصل لهم الأمن من مضار الحقير والسبع والحية ونحو ذلك. وهذا منهم يشبه حال المنافقين، إذا ماتوا جاءهم الخوف والعذاب بعد أمنهم فى الدنيا على أنفسهم وأموالهم وأولادهم بكلمة الشهادة فى ألسنتهم.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #36  
قديم 12-18-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 1-9

تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 1-9
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


هذه الآية مسبوقة بتسع آيات هاتكة أستار أهل النفاق، كاشفة خباياهم، سواء كانوا من اليهود أو من العرب الوثنيين، وجاءت بعدها هذه الآية لترسم صورة محسوسة للنفاق وأحوال المنافقين بما فيها من ضرب المثل، وقد تُلِّي هذا المثل بمثل آخر في آية ثالثة لهذه الآية.

الأمثال ترسخ المعاني وتقرِّب الحقائق:

وضرب الأمثال أسلوب معروف عند العرب وعند غيرهم، ولكتاب الله سبحانه الحظ الأوفر منه، كيف لا وهو أعلى قدحا وأسمى غاية من أي كلام، فلذلك كانت أمثال القرآن أعرق الأمثال في البلاغة، وأدقها في التصوير، وأدلها على المقاصد، وقد قال تعالى

{ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ } [العنكبوت29: 43]، وقال:
{ وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [الحشر59: 21]،

ومن فوائد الأمثال ترسيخ المعاني في الأذهان، وتقريب الحقائق حتى تكون كالصور البارزة للعيان، ومع ذلك ففيها إيجاز للقول بعد الاطناب، وإجمال بعد التفصيل، فإن المعاني إذا تقدمت في عبارات متفرقة ربما تتشتت في الذهن، فإذا جُمعت في الأمثال كان ذلك أدعى لأن تعيها الأذهان وترتسم في الأدمغة، على أن الوهم قد يكابر العقل في المعقولات، ولكنه أضعف من المكابرة في المحسوسات، فإذا ما أُبرزت الحقائق المعنوية في معرض الصور المحسوسة كان ذلك أدعى لأن تتضاءل الأوهام، وتتبدد الشُّبَه، فتستسيغ العقول تلك الحقائق المجلوة بدون تردد، ولذلك كثر ضرب الأمثال في معرض التفخيم والتحقير، والتكثير والتقليل، والتهويل والتهوين، والترغيب والترهيب.


وأصل المثل - بالتحريك - والمِثْل - بكسر فسكون - والمَثِيل كالشَّبَه والشِّبْه والشَّبِيه، دال على تشابه أمرين في وصف، ومأخذه من مَثَل الشيء مثولا إذا انتصب، وإنما شاع المثل فيما إذا كانت المماثلة بين محسوس ومعقول، أو بين محسوسين مركبين، ولفظة المثل موحية بالاستدلال على الممثل له بالممثل به، فإن نفس التمثيل دليل إمكان وجود المثل.

وما ذكرته من أن المثل إنما هو في المنافقين هو الذي يقتضيه السياق، وذهب قطب الأئمة - رحمه الله - إلى جواز أن يشمل معهم اليهود والمشركين، لأنهم طمسوا نور الفطرة بكفرهم، وذهب فريق من السلف إلى أن المثل في اليهود كما سيأتي، والأول هو الذي عليه الجمهور، وبه قال ترجمانا القرآن؛ ابن مسعود وابن عباس - رضي الله تعالى عنهم -.

وذهب الأستاذ الامام الشيخ محمد عبده إلى أن هذا المثل والذي بعده ليس مضربهما واحدا، وإنما كل واحد منهما لفريق من اليهود والمنافقين، وحاصل ما يقوله أن هذا المثل في قوم أكرمهم الله تعالى بهداية الدين، ودرج عليها سلفهم، فجنوا ثمارها وصلحت أحوالهم، إذ استقاموا على طريقتها عندما كانوا يبصرون بنور من الوحي ويقفون عند حدود الشريعة، ثم جاء من بعدهم هؤلاء الأخلاف فانحرفوا عن تلك الطريقة إذ لم يبصروا الحقيقة، بل ظنوا أن ما كان عليه السلف من نعمة وسعادة أمر اختصوا به أو خير سيق إليهم لسبب امتازوا به عن غيرهم ممن لم يأخذ بدينهم، وإن كان ما استحقوا به هذه المزية أمرا شكليا لم يصل إلى سرائرهم فعدلوا عن الدين إلى تقاليد وعادات تمكنت في نفوسهم فلم تدع مجالا لغيرها، ولذلك لم يفكروا في الاعتصام بما اعتصم به سلفهم، ولم يبيحوا لأنفسهم فهم الكتاب الذي اهتدى به من قبلهم لدعواهم أن فهمه خُصت به طائفة من رؤساء الدين يؤخذ بأقوالهم إذا وُجدوا وبكتبهم اذا فُقدوا، فمثل هذا الفريق المخذول في فقده لما كان عنده من نور الهداية الدينية، وحرمانه من الانتفاع بها بالمرة، وانطماس الصوى بينها وبينه مثل من استوقد نارا.
-1-

. الخ، ووجه التمثيل أن من يدعي الايمان بكتاب نزل من عند الله طالب بإيمانه أن توقد له نار يهتدي بها في سره ويستضيء بها في ظلمات اللبس، ويبصر بضوئها ما يصادفه من مخاطر الأهواء والشهوات، فلما أضاءت ما حوله بنور الهدى والرشاد، وكاد بالنظر فيها يمشي على هداية وسداد، عادت إليه ظلمة التقليد، وعصب عينيه شيطان الباطل لئلا يبصر ذلك النور، وأطبق عليه جو الضلالة فانطفأ فيه نور الفطرة، وتعطلت مداركه فلم يبصر ما بين يديه، فإذا هو بمنزلة الأعمى الأصم الذي لا يبصر ولا يسمع.

وأما المثل الثاني وهو قوله { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } ، فيراد به فريق آخر بقيت له نظرات إلى الهدى بين آونة وأخرى، وأنوار التنزيل تسطع بين يديه فيرى الحقيقة ماثلة أمام عينيه، وفطرته بقي لها شيء من هدايتها غير أن التقاليد والبدع تطغى ظلماتها على ذلك كله، فلذلك يتخبط في المهالك مع سماعه قوارع النذر الالهية، وإبصاره بوارق البراهين الفرقانية، فإذا أضاء له ذلك البرق سار، وإذا اختفى بشبه الضلالات والغرور قام وتحير، لا يدري أين يذهب، وكثيرا ما يُعرض عن سماع النذر وأصوات الحق، كما يضع أصبعيه في أذنيه لئلا يسمع إرشاد المرشد، ولا نصح الناصح، يخاف إن أصغى إلى تلك القوارع أن تقتله، ويحذر من صواعق النذر أن تهلكه.

هذا حاصل رأيه في المثلين، ويظهر منه أن المثل الأول في قوم استحكم في نفوسهم الهوى، واستولى على أفكارهم الباطل، وأحاطت بهم الضلالة من كل جانب، فلا يسمعون للحق نداء، ولا يبصرون له ضياء، وليس في نفوسهم عزم على البحث عنه، أو الرجوع إليه إن انكشف لهم، لأنهم مُخلِدون إلى ما هم فيه من الضلال، ومستمسكون بما ورثوه من آبائهم المحرفين، وقادتهم الدجالين، وهم مغترون بذلك، فلا يرون أن شيئا أفضل مما هم عليه، وأما المثل الثاني فهو مضروب فيمن تردد بين الهدى والضلال، والرشد والغي، لا يستقرون على حال، وإنما ضلالهم أبلغ من هداهم، وعماهم أعمق من بصيرتهم، قد يبصرون للحق نورا فتنكشف لهم حقيقته إلا أنهم بسبب طغيان الهوى على نفوسهم لا يمكنهم الانفلات من قيود الباطل، والانطلاق من أغلال التقاليد.
-2-

هذا، والذي أراه أن ما ذكره من صفات أصحاب المثل الأول لا ينطبق على المنافقين، وإنما ينطبق على اليهود المتمسكين بيهوديتهم، المستعلين على الناس بغرورهم، فإنهم يرون أنهم أولى الناس بالهدى، وأن النبوة لا تخرج عنهم إلى غيرهم، بل أفرطوا في الغرور حتى ادعوا - زورا وبهتانا - أنهم أبناء الله وأحباؤه، ومن المعلوم أن أحبارهم حرفوا الكلم عن مواضعه، ونسوا حظا مما ذُكِّروا به، وجعلوا من تلك الضلالات التي لفقوها، والافك الذي اصطنعوه دينا لهم ولأتباعهم، فلذلك لا يصغون لصوت ناصح، ولا يقبلون عذل عاذل، وقد سُلبوا هداية أنبيائهم، وانطفأت أنوار ما كان بأيديهم من الكتاب.

وإذا ألقينا نظرة إلى سياق هذه الآيات لم نجدها إلا في المنافقين سواء كانوا من منافقي اليهود أو منافقي العرب، والمثلان مضروبان فيهم لا في غيرهم، ولا مانع من الانتقال من مثل إلى آخر مع كون الممثل له واحدا، فإن ذلك معروف عند العرب، وستأتي له شواهد إن شاء الله عندما نصل إلى المثل الثاني.

ووجه ضرب هذا المثل في المنافقين أنهم استضاءوا بشيء من نور الاسلام حال اجتماعهم بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، وسماعهم ما يدور في مجالسهم من مواعظ وأمثال، ومشاركتهم في الأعمال الدينية الظاهرة، ولكن سرعان ما تنطفئ هذه الشعلة عندما يفارقونهم، فتتراكم في نفوسهم ظلمات العقيدة التي يبطنونها، وهذا هو المروي عن مجاهد؛ وقال عطاء الخراساني: هذا مثل المنافق يبصر أحيانا، ويعرف أحيانا، ثم يدركه عمى القلب، وعزا ذلك ابن أبي حاتم إلى عكرمة، والحسن، والسُّدي، والربيع بن أنس، ورُوي عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم.

وما ذكروه من إبصارهم أحيانا يُحتمل أن يكون عند لقائهم بالمؤمنين وسماعهم منهم، وأن يكون بمجرد تفكرهم في الأمور، فإن الفطرة داعية إلى الحق لولا ما يضعفها من الهوى والضلال.

وروى ابن جرير عن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن الآية في قوم دخلوا في الاسلام عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ثم إنهم نافقوا، وكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله من قذى وأذى فأبصره حتى عرف ما يتقي منه، فبينما هو كذلك إذ طَفِئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى، فذلك المنافق، كان في ظلمة الشرك فعرف الحلال والحرام، والخير والشر، فبينما هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشر؛ وروي عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم مثله.
-3-

وأنكر ابن جرير أن يكون هؤلاء أسلموا في وقت من الأوقات لقوله تعالى فيهم { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ، وتعقبه ابن كثير بأن هذا إخبار عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهو لا ينافي أن يكونوا آمنوا من قبل ثم سُلبوا الايمان، وطُبع على قلوبهم، واستدل بقوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ }.

ولابن جرير أن يتخلص بما ذكرته من قبل، وهو أن المنافقين أصناف، منهم من آمن ثم ارتد، ومنهم من لم تخالط بشاشة الإِيمان قلبه ولكنه ادعاه بلسانه.

وروى ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم رأيا آخر في الآية لابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -، قال: هذا مثل ضربه الله للمنافقين، كانوا يعتزون بالاسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم، ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله ذلك العز كما سُلب صاحب النار ضوءه، وروي مثله عن قتادة، وهو الذي مال إليه ابن جرير مستدلا بقوله تعالى:

{ يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [الحديد57: 13]،

فإن فيها ما يدل على أن المنافقين يطلبون المؤمنين يوم القيامة أن يختلطوا بهم ليستمدوا منهم المنافع كما كانوا يستمدون في دار الدنيا، ولكن لا يجديهم النفاق يومئذ شيئا، فيُفصلون عن المؤمنين إلى الذين كانوا معهم في سرائرهم.


وذهب سعيد بن جبير، وعطاء، ومحمد بن كعب، ويمان ابن رئاب إلى أن الآية في أهل الكتاب الذين كانوا على علم بمبعث النبي الخاتم، فلما بُعث وانكشفت لهم آياته، وبهرتهم معجزاته كفروا به، فكان ما عندهم من علم الكتاب كالنار المستوقدة للإِضاءة، وما كان منهم من كفر بمثابة انطفاء تلك النار، لعدم استفادتهم من الضوء، وهذا لا يتفق مع السياق كما سبق.

و " الذي " يُستعمل للمفرد غالبا لوجود صيغة جمع له وهي " الذين " ، وقد يُستعمل للجمع تشبيها بمن وما، وعليه قول الشاعر:

وإن الذي حانت بفلج دماؤهمهم القوم كل القوم يا أم خالد


وحُمل عليه قوله تعالى:

{ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ } [التوبة9: 69]،

وهذا أولى أن يُحمل عليه هنا من دعوى بعضهم أنه وصف لموصوف محذوف دال على الجمع تقديره كالفوج الذي استوقد، أو كالجمع الذي استوقد لأن الأصل عدم الحذف، وفي مثل هذا الحال يجوز في الضمائر أن تُفرد مراعاة للفظ، وأن تُجمع مراعاة للمعنى، وكذا الصفات والأحوال، ويجوز أن يُنظر إلى اللفظ أولا ثم إلى المعنى ثانيا كما في قوله تعالى:

-4-

{ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [الجن72: 23]،

وهذا من باب التفنن المحمود في البلاغة، وعليه يُحمل اختلاف الضمائر هنا، فقد روعي لفظ { الذي } في { استوقد } ومعناه في { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }.

واستوقد بمعنى أوقد لترادف استفعل وأفعل أحيانا، ومنه استجاب وأجاب، واستنار وأنار، ويجوز أن يكون بمعنى طلب الوقود كاستعان بمعنى طلب الإِعانة، واستغاث بمعنى طلب الاغاثة، نظرا إلى أنه بمباشرة الأسباب والأخذ في الوسائل طالب لما تفضي إليه هذه الوسائل والأسباب، أو أن المراد طلب من غيره الايقاد والأول أظهر.

والإِضاءة فرط الإِنارة، ويُستعمل فعل أضاء لازما ومتعديا، لتجرده تارة عن الهمزة كقول العباس - رضي الله عنه - في النبي صلى الله عليه وسلم:

وأنت لما ظهرت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق


واقترانه بها تارة مع كونه بمعنى المجرد، وأخرى للتعدية، ويُحتمل أن يكون هنا لازما ومتعديا، فإن حُمل على اللزوم (فما) هي الفاعل، وجاز تأنيث الفعل لاعتبار التعدد في معنى { ما حوله } ، لأن المراد به الأماكن المحيطة بالمستوقد، وهي متعددة، فإن الخلف غير الأمام، واليمين غير الشمال، وعضد الزمخشري هذا التأويل بقراءة ابن أبي عبله " ضاءت " بالتجريد، وذكر الزمخشري وجها آخر وهو أن يستتر في الفعل ضمير النار، ويُجعل الحول ظرفا و(ما) إما مزيدة أو موصولة، بمعنى الأمكنة، وإن حُمل على التعدي (فما) موصول مفعول به، و(حوله) صلته ويُراد تصييرها الأماكن التي حول المستوقد مُنحسرا عنها الظلام.

والحول يراد به المكان القريب لما أضيف إليه، ويرى الزمخشري أن تأليفه للدوران والإِطافة، ومنه تسمية العام حولا لأنه يدور، ولم ير لزوم ذلك ابن عاشور، والأظهر أن النظر إلى الدوران فيه حكم غالب وليس لازما.

والمراد بذهاب الله بنورهم إطفاء النار التي هي مصدر النور، وإنما ذُكر النور دون الضياء إما لأن ذهابه يستلزم ذهاب الضياء بناء على ما تقدم من أن الإِضاءة فرط الإِنارة، وهو يعني أن النور أعم من الضوء، ولا بقاء للأخص مع ذهاب الأعم، وإما لأن المراد تلاشي فائدة تلك المظاهر الاسلامية التي كان المنافقون يخدعون بها المؤمنين، وقد شاع التعبير بالنور عن الاسلام في القرآن، فصار اختيار لفظه أنسب.

وإنما عُبِّر بالذهاب بالنور دون إذهاب النور لما في ذلك من المبالغة، فإن أصل استعماله أن يكون مع استصحاب الفاعل للمفعول به، نحو قوله تعالى:

{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [يوسف12: 15]،

وهو آكد فيما يراد ذهابه من مجرد الاذهاب لوقوعه تحت رقابة الفاعل نفسه، بخلاف ما لو قيل أذهبه، إذ لا يلزم منه أن يكون ذهاب المفعول تحت إشراف الفاعل وحراسته، ثم استعمل هذا اللفظ حال قصد المبالغة، ولو لم تكن مصاحبة، ولم تتصور الحراسة، نحو قول القائل " ذهب بمالِهِ الديْن ".

-5-

وجملة { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } جواب للشرط الذي تقتضيه لما على الصحيح، وهو الذي عليه الجمهور، ولا داعي إلى تكلف الزمخشري تقدير جواب قبله نحو (فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام مُتحيرين متحسرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار)، وهو مما يجب تنزيه ساحة التنزيل عنه، وبناء على قوله هذا يكون قوله { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } كلاما مستأنفا استئنافا بيانيا جوابا لما ينشأ عن هذا الوصف من السؤال عن حال هذا المستوقد بعد خمود النار، وعلى هذا فهو داخل في التمثيل، أو يكون بدلا من جملة التمثيل بأسرها على البيان، فيكون مرجع الضمير فيه إلى المنافقين لعدم اتحاد البدل والمبدل منه، ويقرب من هذا الوجه الأخير ما ارتآه الإِمام ابن عاشور، وهو أن يكون الضمير في التمثيل يعود تارة إلى المشبه وهو المنافقون، لأن الغرض الأصلي الاخبار عن انطفاء نور الايمان منهم، وشبهه بتجريد الاستعارة المفردة، وعد من محسناته جمع التمثيل بين ذكر المشبه وذكر المشبه به، فالمتكلم بالخيار في مراعاة ما شاء منهما، لأن الوصف لهما، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه، ومن مراعاة الأمرين إفراد الضمير تارة وجمعه أخرى، ولأجل ذلك اختير هنا لفظ النور عوضا عن النار المبتدأ به تنبيها على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة، للدلالة على أن الله أذهب نور الايمان من قلوب المنافقين.

وعد ابن عاشور هذا من الإِيجاز البديع لإِفادته ذهاب نور الايمان من قلوب المنافقين كما تنطفئ النار بعد اتقادها، وذكر أنه أسلوب لم تكن العرب تعهده، فهو من أساليب الإِعجاز، وجعل قريبا منه قوله تعالى:

{بَلْ قَالُوۤاْ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ *وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ قَٰلَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [الزخرف43: 22 - 24].

حيث جمع ضمير الخطاب في { أرسلتم } حكاية لخطاب أقوام الرسل بمعرض جواب سؤال النبي صلى الله عليه وسلم الموجه إلى قومه بقوله { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ } وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقا لما في التشبيه الآتي من قوله { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِيۤ آذَانِهِم } فإنه يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه.


والذي يقوله ابن عاشور لا يبعد مما قاله الزمخشري على الوجه الأخير، وإنما الفارق بينهما أن جملة " ذهب الله بنورهم.. الخ " خارجة عن التمثيل عند الزمخشري، على هذا الوجه، وداخلة فيه عند ابن عاشور، ولكن التُفت فيها إلى المشبه كما يفرق بينهما أنها جواب " لما " عند ابن عاشور، وجوابها عند الزمخشري مقدر كما ذكرت من قبل، وما ذكره الزمخشري من الجواب المقدر ينكشف للفهم على ما ذهب إليه ابن عاشور ولو بدون تقدير.
-6-

وإذا رجعت تتأمل ما أوردته من آراء السلف في الآية الكريمة علمت احتمال أن يكون ذهاب هذا النور ممن ضُرب فيهم المثل - وهم المنافقون - في الدنيا والآخرة معا، فأما ذهابه في الدنيا فما يعتريهم من الشكوك فيما أدركوا حقه من عقيدة التوحيد، وعلموا صدقه من رسالة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وما يتبع هذه الشكوك من رسوخ الكفر في نفوسهم واستحكام الضلال، وأما في الآخرة فإن المنافق بمجرد موته أو إشرافه عليه تنكشف له حقيقة الأمر ولا يعود ينفعه ما كان يتشبث به في الدنيا عند الناس من تديُّن ظاهري، وهو معنى ما سبقت روايته عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وبما أن الامام محمد عبده يرى أن هذا المثل في اليهود ومن كان على شاكلتهم كما سبق، ذهب في تطبيقه عليهم إلى أنهم استوقدوا نار الهداية الالهية بفطرتهم السليمة عندما صدقوا رسله، فلما أشرقت لهم، واستنارت لهم الطريق، انحرفت بهم التقاليد والعادات وصرفتهم عنها المنافع التي يتوهمونها والفوائد العاجلة التي يقصدونها، فحرموا الانتفاع بذلك النور واستبدلوا به ظلمات الليل البهيم.

ومهما قيل في معنى المثل فليس فيه ما يدل على أنهم أُجبروا على الزيغ عن الهدى إلى الضلال، وعن النور إلى الظلمات، وإنما كان ذلك باختيار أنفسهم، وعندما يركن أحد إلى الضلال، وينحرف عن طريق الاستقامة، يتوالى عليه خذلان الله سبحانه فيسلبه نور الفطرة باستحبابه العمى على الهدى.

وفسر ابن عباس - رضي الله عنهما - النور بالإِيمان، رواه عنه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد نحوه عن مجاهد وقتادة، ورواه ابن أبي حاتم عن عكرمة، والحسن، والسدي، والربيع بن أنس، وروى مثله عن الضحاك.

ومادة الترك تستعمل في الطرح والاهمال، ومفارقة الشيء لغيره، وكثيرا ما تذكر معها الحال التي باين التارك المتروك عليها، وفي مثل هذا الاستعمال يضمن الترك معنى الجعل والتصيير فينصب مفعولين، وغالبا ما يدل ذلك على الزهد في الشيء أو تحقيره، ويراعى إذا اعتبر المنصوب الثاني مفعولا به كونه هو محل الفائدة المقصودة بالإِخبار.

والظلمات جمع ظلمة، وهي نقيض النور، وكثيرا ما يفرد النور وتجمع الظلمة في كلام العرب، ولم يأتيا في القرآن إلا كذلك، وفسر ابن عباس الظلمات بالكفر، وروي عنه تفسيرها بالضلال وهو غير بعيد مما قبله، وروي عنه أيضا تفسيرها بالعذاب، وهو مبني على ما سبق نقله من أن انحسار هذا النور إنما يكون بعد مفارقة الحياة، وروي مثل ذلك عن الحسن البصري، وعن السدي أنه فسر الظلمات بالنفاق.

ولا فارق بين هذه الأقوال، فإن الضلال يصدق على الكفر والنفاق، والنفاق في حقيقته كفر، وإنما يزيد عليه بما يكون عليه المنافق من الخداع لله ورسوله وللمؤمنين، فالخلاف ما بين هذه الآراء لا يعدو أن يكون لفظيا، وإنما الخلاف المعنوي بينها وبين قول من يرى أنها العذاب، وإن كان كل من الكفر والنفاق والضلال مفضيا إلى العذاب، ذلك لأن من فسر الظلمات بها اعتبر أن ذهاب النور حاصل في الدنيا قبل الآخرة، ومن فسرها بالعذاب ذهب إلى أن النور ما يتمتع به المنافق في الدنيا بسبب كلمة التوحيد، وأن الظلمات ذهاب ذلك بعد مفارقته لها كما تقدم.
-7-

أحوال المنافقين كلها ظلمات:

ذهب ابن عاشور أن جمع الظلمات في هذه الآية يُشار به إلى أحوال المنافقين التي يصلح تشبيه كل منها بالظلمة، وهي الكفر والكذب والاستهزاء بالمؤمنين، وما يتبعها من آثار النفاق المتنوعة، وذكر أن طي وجه الشبه في هذا التشبيه لأجل الاعتماد على فِطنة السامع، فإنه يمكنه أن يستظهره من مجموع ما تقدم من شرح أحوالهم؛ ابتداء من قوله: { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا.. } الخ، وما يتضمنه المثلان من الاشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة التي شُبّهوا بها، فإن إظهارهم الإِيمان بقولهم { آمنا بالله } ، وقولهم { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } ، وقولهم عند لقاء المؤمنين { آمنا } ، أحوال ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما يتظاهرون بالاسلام، ويأتون بواجباته؛ كالصلاة والصدقة والصيام، ويصدر منهم طيب القول، وقويم السلوك، وتُشرق عليهم الأنوار النبوية، فيكاد نور الايمان يخترق إلى قلوبهم، ولكن سرعان ما تنقلب تلك الحالة إلى نقيضها عندما ينفضُّون عن تلك المجالس، ويجتمعون ببطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم، فتعاودهم الأحوال الذميمة؛ من مزاولة الكفر، وخداع المؤمنين، والحقد عليهم والاستهزاء بهم، ووصفهم بالسّفه، فهذا التظاهر وما تبعه من الإِنقلاب مُثِّلا بحال الذي استوقد نارا ثم ذهب عنه نورها.

وأتبع ذلك ابن عاشور أن من بدائع هذا التمثيل كونه - مع ما فيه من تركيب الهيئة المشبه بها ومقابلتها للهيئة المركبة من حالهم - قابلا لتحليله بتشبيهات مفردة لكل جزء من هيئة أحوالهم بجزء مفرد من الهيئة المشبه بها، فيشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين، ويشبه رجوعهم إلى كفرهم بالظلمات، ويُشبَّهون بقوم انقطع إبصارهم.

ولم يُذكر مفعول { لا يبصرون } لقصد عموم المبصرات، لأن الفعل المتعدي قد يُنزل في مثل هذه الحالة منزلة اللازم لافادة تأكيد العموم، فكأنه قيل ليس من شأنهم الابصار رأسا، وجملة " وتركهم في ظلمات.. الخ " جاءت تقريرا لمضمون ما تقدمها؛ لأن من شأن مَن ذهب نوره أن يكون في ظلمة لا يبصر، والجملة التقريرية وإن كان مدلولها تتضمنه الجملة المقررة قبلها؛ فإن فيها من الفائدة إيقاظ الذهن الخامل لما قد يعزب عنه من هذا المدلول، وذلك أن الذهن قد لا يتصور النتيجة المترتبة على ذهاب الله بنورهم إلا عندما يوقظ، بأنها كانت تَخَبُّطهم في ظلماتهم بعدم إبصارهم.
-8-

ولا يخلو إما أن يكون ترك هنا متعديا إلى مفعول واحد أو إلى مفعولين؛ إن ضُمِّن معنى صيَّر وجعل كما تقدم، وعلى الأول فالجار والمجرور متعلقان بمحذوف حال من المفعول، وجملة { لا يبصرون } حال مرادفة، ويجوز أن يكون { في ظلمات } متعلقا بترك، و { لا يبصرون } حال، وعلى الثاني فالمفعول الثاني { في ظلمات } و { لا يبصرون } جملة حالية من المفعول أيضا، ولا يجوز أن تكون جملة { لا يبصرون } هي المفعول الثاني، و { في ظلمات } في موضع الحال، لأن المفعول الثاني خبر في الأصل، والأخبار لا تُساق للتأكيد، ومن المعلوم أن من تُرك في الظلمات لا يبصر، فإذا صرح بعدم إبصاره كان في هذا التصريح تأكيد لما سبقه.
-9-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #37  
قديم 12-18-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق 1-8

تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق 1-8


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً } جملة مقررة لجملة قصة المنافقين المسرودة إلى هنا فلذا لم تعطف على ما قبلها، ولما كان ذلك جارياً على ما فيه من استعارات وتجوزات مجرى الصفات الكاشفة عن حقيقة المنافقين وبيان أحوالهم عقبه ببيان تصوير تلك الحقيقة وإبرازها في صورة المشاهد بضرب المثل تتميماً للبيان، فلضرب المثل شأن لا يخفى ونور لا يطفى يرفع الأستار عن وجوه الحقائق ويميط اللثام عن محيا الدقائق ويبرز المتخيل في معرض اليقين ويجعل الغائب كأنه شاهد، وربما تكون المعاني التي يراد تفهيمها معقولة صرفة، فالوهم ينازع العقل في إدراكها حتى يحجبها عن اللحوق بما في العقل فبضرب الأمثال تبرز في معرض المحسوس فيساعد الوهم العقل في إدراكها، وهناك تنجلي غياهب الأوهام ويرتفع شغب الخصام

{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ } [البقرة2: 16]

الخ ولا بعد فيه؛ والحمل على الاستئناف بعيد لا سيما والأمثال تضرب للكشف والبيان.


والمثل بفتحتين - كالمثل - بكسر فسكون - والمثيل في الأصل النظر والشبيه، والتفرقة لا أرتضيها، وكأنه مأخوذ من المثول - وهو الانتصاب - ومنه الحديث: " من أحب أن يتمثل له الناس قياماً فليتبوأ مقعده من النار " ثم أطلق على الكلام البليغ الشائع الحسن المشتمل إما على تشبيه بلا شبيه، أو استعارة رائقة تمثيلية وغيرها، أو حكمة وموعظة نافعة، أو كناية بديعة، أو نظم من جوامع الكلم الموجز، ولا يشترط فيه أن يكون استعارة مركبة خلافاً لمن وهم، بل لا يشترط أن يكون مجازاً، وهذه أمثال العرب أفردت بالتآليف وكثرت فيها التصانيف وفيها الكثير مستعملاً في معناه الحقيقي ولكونه فريداً في بابه، وقد قصد حكايته لم يجوزوا تغييره لفوات المقصود وتفسيره بالقول السائر الممثل مضربه بمورده يرد عليه أمثال القرآن لأن الله تعالى ابتدأها وليس لها مورد من قبل، اللهم إلا أن يقال إن هذا اصطلاح جديد أو أن الأغلب في المثل ذلك، ثم استعير لكل حال أو قصة أو صفة لها شأن وفيها غرابة. ومن ذلك:

{ وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [النحل16: 60] و
{ مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [الرعد13: 35]


وهو المراد هنا في المثل دون التمثيل المدلول عليه بالكاف. والمعنى حالهم العجيبة الشأن كحال من استوقد ناراً الخ فيما سيكشف عن وجهه إن شاء الله تعالى، فالكاف حرف تشبيه متعلقة بمحذوف خبر عن المبتدأ، وزعم ابن عطية أنها اسم مثلها في قول الأعشى:

أينتهون ولن ينهى ذوي شططكالطعن يذهب فيه الزيت والفتل


وهذا مذهب ابن الحسن، وليس بالحسن إلا في الضرورة والقول بالزيادة كما في قوله: فصيروا مثل:

-1-

{ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ }[الفيل105: 5]

زيادة في الجهل، والذي وضع موضع ـ الذين ـ إن كان ضمير { بِنُورِهِمْ } راجعاً إليه وإلا فهو باق على ظاهره إذ لا ضير في تشبيه حال الجماعة بحال الواحد وجاز هنا وضع المفرد موضع الجمع، وقد منعه الجمهور فلم يجوزوا إقامة القائم مقام القائمين لأن هذا مخالف لغيره لخصوصية اقتضته فإنه إنما وضع ليتوصل به إلى وصف المعارف بالجمل فلما لم يقصد لذاته توسعوا فيه، ولأنه مع صلته كشيء واحد، وعلامة الجمع لا تقع حشواً فلذا لم/ يلحقوها به ووضعوه لما يعم كمن وما، والذين ـ ليس جمعاً له بل هو اسم وضع مزيداً فيه لزيادة المعنى، وقصد التصريح بها ولذا لم يعرف بالحروف كغيره على الأفصح، ولأن استطال بالصلة فاستحق التخفيف حتى بولغ فيه إلى أن اقتصر على اللام في نحو اسم الفاعل، قاله القاضي وغيره، ولا يخلو عن كدر لا سيما الوجه الأخير، وما روي عن بعض النحاة من جواز حذف نون ـ الذين ـ ليس بالمرضي عند المحققين، ولئن تنزل يلتزم عود ضمير الجمع إليه كما في قوله تعالى:

{ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُواْ } [التوبة9: 69]

على وجه، وقول الشاعر:

يا رب عيسى لا تبارك في أحدفي قائم منهم ولا فيمن قعد
إلا الذي قاموا بأطراف المسد


وإفراد الضمير لم نسمعه ممن يوثق به ولعله لأن المحذوف كالملفوظ، فالوجه أن يقال إنه نظر إلى ما في ـ الذي ـ من معنى الجنسية العامة إذ لا شبهة في أنه لم يرد به ـ مستوقد ـ مخصوص ولا جميع أفراد المستوقدين والموصول كالمعرف باللام يجري فيه ما يجري فيه، واسم الجنس وإن كان لفظه مفرداً قد يعامل معاملة الجمع كـ

{ عَـٰلِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ } [الإنسان76: 21]

وقولهم: الدينار الصفر، والدرهم البيض، أو يقال: إنه مقدر له موصوف مفرد اللفظ مجموع المعنى كالفوج والفريق فيحسن النظام، ويلاحظ في ضمير ـ استوقد ـ لفظ الموصوف، وفي ضمير { بِنُورِهِمْ } معناه، و (استوقدوا) بمعنى أوقدوا، فقد حكى أبو زيد أوقد واستوقد بمعنى كأجاب واستجاب وبه قال الأخفش، وجعل الاستيقاد بمعنى طلب الوقود وهو سطوع النار كما فعل البيضاوي محوج إلى حذف، والمعنى حينئذٍ طلبوا ناراً واستدعوها فأوقدوها { فَلَمَّا أَضَاءتْ } لأن الإضاءة لا تتسبب عن الطلب وإنما تتسبب عن الإيقاد.


والنار جوهر لطيف مضىء محرق، واشتقاقها من نار ينور نوراً إذا نفر لأن فيها على ما تشاهد حركة واضطراباً لطلب المركز، وكونه من غلط الحس كأنه من غلط الحس، نعم أورد على التعريف أن الإضاءة لا تعتبر في حقيقتها وليست شاملة لما ثبت في «الكتب الحكمية» أن النار الأصلية حيث الأثير شفافة لا لون لها وكذا يقال في الإحراق، والجواب أن تخصيص الأسماء لأعيان الأشياء حسبما تدرك أو للمعاني الذهنية المأخوذة منها، وأما اعتبار لوازمها وذاتياتها فوظيفة من أراد الوقوف على حقائقها وذلك خارج عن وسع أكثر الناس، والناس يدركون من النار التي عندهم الإضاءة والإحراق ويجعلونهما أخص أوصافها، والتعريف للمتعارف وعدم الإحراق لمانع لا يضر على أن كون النار التي تحت الفلك هادية غير محرقة وإن زعمه بعض الناس أبطله الشيخ، واحتراق الشهب شهاب على من ينكر الإحراق، وأغرب من هذا نفي النار التي عند الأثير؛ وقريب منه القول بأنها ليست غير الهواء الحار جداً.
-2-

وقرأ ابن السميقع (كمثل الذين) على الجمع وهي قراءة مشكلة جداً، وقصارى ما رأيناه في توجيهها أن إفراد الضمير على ما عهد في لسان العرب من التوهم كأنه نطق بمن ـ الذي ـ لها لفظاً ومعنى كما جزم بالذي على توهم من الشرطية في قوله:

كذاك الذي يبغي على الناس ظالماتصبه على رغم عواقب ما صنع


أو أنه اكتفى بالإفراد عن الجمع كما يكتفي بالمفرد الظاهر عنه فهو كقوله:

وبالبدو منا أسرة يحفظونهاسراع إلى الداعي عظام كراكره


أي كراكرهم، أو أن الفاعل في استوقد عائد على اسم الفاعل المفهوم من الفعل كما في قوله تعالى:

{ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَـٰتِ } [يوسف12: 35]

على وجه، والعائد حينئذٍ محذوف على خلاف القياس أي لهم أولاً: عائد في الجملة الأولى اكتفاءً بالضمير من الثانية المعطوفة بالفاء، وفي القلب من كل شيء.


{ فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } (لما) حرف وجود لوجود، أو وجوب لوجوب كما نص عليه سيبويه، أو ظرف بمعنى حين، أو إذ، والإضاءة جعل/ الشيء مضيئاً نيراً، أو الإشراق وفرط الإنارة. وأضاء يكون متعدياً ولازماً، فعلى الأول: (ما) موصولة أو موصوفة والظرف صلة أو صفة وهي المفعول والفاعل ضمير النار، وعلى الثاني: فما كذلك وهي الفاعل وأنث فعله لتأويله بمؤنث كالأمكنة والجهات أو الفاعل ضمير النار وما زائدة أو في محل نصب على الظرفية، ولا يجب التصريح بفي حينئذٍ كما توهم لأن الحق أن ما الموصولة أو الموصوفة إذا جعلت ظرفاً فالمراد بها الأمكنة التي تحيط بالمستوقد وهي الجهات الست وهي مما ينصب على الظرفية قياساً مطرداً فكذا ما عبر به عنها، وأولى الوجوه أن تكون (أضاءت) متعدية و (ما) موصولة إذ لا حاجة حينئذٍ إلى الحمل على المعنى، ولا ارتكاب ما قل استعماله لا سيما زيادة ما هنا حتى ذكروا أنها لم تسمع هنا، ولم يحفظ من كلام العرب جلست ما مجلساً حسناً ولا قمت ما يوم الجمعة. ويا ليت شعري من أين أخذ ذلك الزمخشري وكيف تبعه البيضاوي؟! وإذا جعل الفاعل ضمير النار والفعل لازم يكون الإسناد إلى السبب لأن النار لم توجد حول المستوقد ووجد ضوؤها فجعل إشراق ضوئها حوله بمنزلة إشراقها نفسها على ما قيل، وهو مبني على أن الظرف إذا تعلق بفعل قاصر له أثر متعد يشترط في تحقق النسبة الظرفية للأثر والمؤثر فلا بد في إشراق كذا في كذا من كون الإشراق والمشرق فيه، وهذا كما إذا تعلق الظرف بفعل قاصر ـ كقام زيد في الدار ـ فإن زيداً والقيام فيها ذاتاً وتبعاً ـ وإلى ذلك مال الزمخشري ـ ومن الناس من اكتفى بوجود الأثر فيه وإن لم يوجد المؤثر فيه بذاته كما في الأفعال المتعدية فأضاءت الشمس في الأرض حقيقة على هذا مجاز على الأول.
-3-

وحول ظرف مكان ملازم للظرفية والإضافة ـ ويثنى ويجمع ـ فيقال حوليه وأحواله وحوال مثله فيثنى على حوالي، ولم نظفر بجمعه فيما حولنا من الكتب اللغوية ولا تقل حواليه بكسر اللام كما في «الصحاح». ولعل التثنية والجمع ـ مع ما يفهم من بعض الكتب أن حول وكذا حوال بمعنى الجوانب وهي مستغرقة ـ ليسا حقيقين، وقيل: باعتبار تقسيم الدائرة كما أشار إليه المولى عاصم أفندي في ترجمة «القاموس» بالرومية وفيه تأمل، وأصل هذا التركيب موضوع للطواف والإحاطة كالحول للسنة فإنه يدور من فصل أو يوم إلى مثله، ولما لزمه الانتقال والتغير استعمل فيه باعتباره كالاستحالة والحوالة وإن خفي في نحو الحول بمعنى القوة، وقيل: أصله تغير الشيء وانفصاله.

و (ذهب) الخ جواب (لما) والسببية ادعائية فإنه لما ترتب إذهاب النور على الإضاءة بلا مهلة جعل كأنه سبب له على أنه يكفي في الشرط مجرد التوقف نحو ـ إن كان لي مال حججت ـ والإذهاب متوقف على الإضاءة، والضمير في { بِنُورِهِمْ } للذي أو لموصوفه وجمعه لما تقدم. واختار النور على النار لأنه أعظم منافعها والمناسب للمقام سباقاً ولحاقاً، وقيل: الجملة متسأنفة جواباً عما بالهم شبهت حالهم بذلك، أو بدل من جملة التمثيل للبيان والضمير للمنافقين وجواب (لما) محذوف أي خمدت نارهم فبقوا متحيرين، ومثله

{ فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ } [يوسف12: 15]

وحذفه للإيجاز وأمن الإلباس ولا يخفى ما فيه على من له أدنى إنصاف وإن ارتضاه الجم الغفير، ويجل عن مثل هذا الإلغاز كلام الله تعالى اللطيف الخبير. وإسناد الفعل إليه تعالى حقيقة فهو سبحانه الفعال المطلق الذي بيده التصرف في الأمور كلها بواسطة وبغير واسطة، ولا يعترض على الحكيم بشيء، وحمل النار على نار لا يرضى الله تعالى إيقادها إما مجازية كنار الفتنة والعداوة للإسلام أو حقيقية أوقدها الغواة للفساد أو الإفساد، فحينئذٍ يليق بالحكيم إطفاؤها وإلا يرتكب المجاز لم يدع إليه إلا اعتزال وإيقاد نار الغواية والإضلال، وعدي بالباء دون الهمزة لما في " المثل السائر " أن ذهب بالشيء يفهم منه أنه استصحبه وأمسكه عن الرجوع إلى الحالة الأولى ولا كذلك أذهبه فالباء والهمزة وإن اشتركا في معنى التعدية فلا يبعد أن ينظر صاحب المعاني إلى معنى الهمزة والباء الأصليين، أعني الإزالة/ والمصاحبة والإلصاق.

-4-

ففي الآية لطف لا ينكر كيف والفاعل هو الله تعالى القوي العزيز الذي لا رادّ لما أخذه ولا مرسل لما أمسكه. وذكر أبو العباس أن ذهبت بزيد يقتضي ذهاب المتكلم مع زيد دون أذهبته، ولعله يقول: إن ما في الآية مجاز عن شدة الأخذ بحيث لا يرد أو يجوز أن يكون الله تعالى وصف نفسه بالذهاب على معنى يليق به كما وصف نفسه سبحانه بالمجىء في ظاهر قوله تعالى:

{ وَجَاء رَبُّكَ } [الفجر: 22]

والذي ذهب إليه سيبويه إلى أن الباء بمعنى الهمزة فكلاهما لمجرد التعدية عنده بلا فرق فلذا لا يجمع بينهما.


والنور منشأ الضياء ومبدؤه كما يشير إليه استعمال العرب حيث أضافوا الضياء إليه كما قال ورقة بن نوفل:

ويظهر في البلاد ضياء نور


وقال العباس رضي الله تعالى عنه:

وأنت لما ظهرت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق


ولهذا أطلق عليه سبحانه النور دون الضياء، وأشار سبحانه إلى نفي الضياء الذي هو مقتضى الظاهر بنفي النور وإذهابه لأنه أصله وبنفي الأصل ينتفي الفرع، وهذا الذي ذكرنا هو الذي ارتضاه المحققون من أهل اللغة، ومنه يعلم وجه وصف الشريعة المحمدية بالنور في قوله تعالى:

{ قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَـٰبٌ مُّبِينٌ } [المائدة5: 15]

والشريعة الموسوية بالضياء في قوله تعالى:

{ وَلَقَدْ ءاتَيْنَا مُوسَىٰ وَهَـٰرُونَ ٱلْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ } [الأنبياء21: 48]

وفي ذلك إشارة إلى مقام نبينا صلى الله عليه وسلم الجامع الفارق ومزيته على أخيه موسى عليه السلام الذي لم يأت إلا بالفرق ولفرق ما بين الحبيب والكليم:

وكل آي أتى الرسل الكرام بهافإنما اتصلت من نوره بهم


وكذا وجه وصف الصلاة ـ الناهية عن الفحشاء والمنكر في حديث مسلم ـ بالنور والصبر بالضياء، ويعلم من هذا أنه أقوى من الضياء كذا قيل واعترض بأنه قد جاء وصف ما أوتيه نبينا صلى الله عليه وسلم بالضياء كما جاء وصف ما أوتيه موسى عليه السلام بالنور وإليه يشير كلام الشيخ الأكبر قدس سره في «الفتوحات» فتدبر، وذهب بعض الناس إلى أن الضياء أقوى من النور لقوله تعالى:

{ جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَاء وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [يونس10: 5]

وعلى هذا يكون التعبير بـ { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } دون ذهب الله بضوئهم دفعاً لاحتمال إذهاب ما في الضوء من الزيادة وبقاء ما يسمى نوراً مع أن الغرض إزالة النور رأساً، وذكر بعضهم أن كلاً من الضوء والنور يطلق على ما يطلق عليه الآخر فهما كالمترادفين والفرق إنما نشأ من الاستعمال أو الاصطلاح لا من أصل الوضع واللغة، ومن هنا قال الحكماء: إن الضوء ما يكون للشيء من ذاته، والنور ما يكون من غيره، واستعمل الضوء لما فيه حرارة حقيقة كالذي في الشمس، أو مجازاً كالذي ذكر فيما أوتيه موسى عليه السلام مما فيه شدة ومزيد كلفة، ومنه «الصبر ضياء» ومعلوم أنه كاسمه، والنور لما ليس كذلك كالذي في القمر وفيما جاء به النبـي صلى الله عليه وسلم من الشريعة السهلة السمحة البيضاء، ومنه

-5-


" الصلاة نور " ولا شك أنها قرة العين وراحة القلب وإلى ذلك يشير: " وجعلت قرة عيني في الصلاة " " وأرحنا يا بلال " واستعمل النور لما يطرأ في الظلم كما ورد: «كان الناس في ظلمة فرش الله تعالى عليهم من نوره» وقول الشاعر:

بتنا وعمر الليل في غلوائهوله بنور البدر فرع أشمط


والضوء ليس كذلك إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتتبع، والذي يميل القلب إليه أن الضياء يطلق على النور القوي/ وعلى شعاع النور المنبسط فهو بالمعنى الأول أقوى وبالمعنى الثاني أدنى ولكل مقام مقال ولكل مرتبة عبارة ولا حجر على البليغ في اختيار أحد الأمرين في بعض المقامات لنكتة اعتبرها ومناسبة لاحظها، وآية الشمس لا تدل على أن الضياء أقوى من النور أينما وقع ـ فالله نور السمٰوات والأرض ولله المثل الأعلى ـ وشاع إطلاق النور على الذوات المجردة دون الضوء ولعل ذلك لأن انسياق العرضية منه إلى الذهن أسرع من انسياقها من النور إليه فقد انتشر أنه عرض وكيفية مغايرة للون، والقول بأنه عبارة عن ظهور اللون ـ أو أنه أجسام صغار تنفصل من المضيء فتتصل بالمستضىء ـ مما بين بطلانه في «الكتب الحكمية» وإن قال بكل بعض من الحكماء، ثم التعبير بالنور هنا دون الضوء يحتمل أن يكون لسر غير ما انقدح في أذهان الناس وهو كونه أنسب بحال المنافقين الذين حرموا الانتفاع والإضاءة بما جاء من عند الله مما سماه سبحانه نوراً في قوله تعالى:

{ قَدْ جَاءكُمْ مّنَ ٱللَّهِ نُورٌ وَكِتَـٰبٌ } [المائدة5: 15]

فكأن الله عز شأنه أمسك عنهم النور وحرمهم الانتفاع به، ولم يسمه سبحانه ضوءاً لتتأتى هذه الإشارة ـ لو قال هنا ذهب الله بضوئهم ـ بل كساه من حلل أسمائه وأفاض عليه من أنوار آلائه فهو المظهر الأتم والرداء المعلم. هذا وإضافة النور إليهم لأدنى ملابسة لأنه للنار في الحقيقة لكن لما كانوا ينتفعون به صح إضافته إليهم، وقرأ ابن السميقع وابن أبـي عبلة فلما أضاءت ثلاثياً وتخريجها يعلم مما تقدم، وقرأ اليماني أذهب الله نورهم وفيها تأييد لمذهب سيبويه.


{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } عطف على قوله تعالى: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } وهو أوفى بتأدية المراد فيستفاد منه التقرير لانتفاء النور بالكلية تبعاً لما فيه من ذكر الظلمة وجمعها وتنكيرها، وإيراد { لاَّ يُبْصِرُونَ } وجعل الواو للحال بتقدير قد مع ما فيه يقتضي ثبوت الظلمة قبل ذهاب النور ومعه، وليس المعنى عليه ـ والترك ـ في المشهور طرح الشيء كترك العصا من يده أو تخليته محسوساً كان أو غيره وإن لم يكن في يده كترك وطنه ودينه، وقال الراغب: ترك الشيء رفضه قصداً واختياراً أو قهراً واضطراراً.
-6-

ويفهم من «المصباح» أنه حقيقة في مفارقة المحسوسات ثم استعير في المعاني، وفي كون الفعل من النواسخ الناصبة للجزأين لتضمينه معنى صير أم لا خلاف ـ والكل هنا محتمل ـ فعلى الأول: (هم) مفعوله الأول، و { فِى ظُلُمَـٰتِ } مفعوله الثاني، و { لاَّ يُبْصِرُونَ } صفة لظلمات بتقدير فيها أو حال من الضمير المستتر، أو من (هم) ولا يجوز أن يكون في ظلمات حالاً، و { لاَّ يُبْصِرُونَ } مفعولاً ثانياً لأن الأصل في الخبر أن لا يكون مؤكداً وإن جوزه بعضهم. وعلى الثاني: (هم) مفعوله، و { فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } حالان مترادفان من المفعول أو متداخلان، فالأول: من المفعول والثاني: من الضمير فيه أو { فِى ظُلُمَـٰتِ } متعلق بـ { تركهم } و { لاَّ يُبْصِرُونَ } حال.

والظلمة في المشهور عدم الضوء عما من شأنه أن يكون مستضيئاً، فالتقابل بينها وبين الضوء تقابل العدم والملكة، واعترض بأن الظلمة كيفية محسوسة ولا شيء من العدم كذلك وبأنها مجعولة كما يقتضيه قوله تعالى:

{ وَجَعَلَ ٱلظُّلُمَـٰتِ وَٱلنُّورَ } [الأنعام6: 1]

والمجعول لا يكون إلا موجوداً، وأجيب عن الأول بمنع الصغرى فإنا إذا غمضنا العين لا نشاهد شيئاً البتة كذلك إذا فتحنا العين في الظلمة؛ وعن الثاني بالمنع أيضاً فإن الجاعل كما يجعل الموجود يجعل العدم الخاص كالعمى والمنافي للمجعولية هو العدم الصرف، وقيل: كيفية مانعة من الإبصار فالتقابل تقابل التضاد، واعترض بأنه لو كانت كيفية لما اختلف حال من في الغار المظلم ومن هو في الخارج في الرؤية وعدمها إلا أن يقال المراد أنها كيفية مانعة من إبصار ما فيها فيندفع الاعتراض عنه، وربما يرجح عليه بأنه قد يصدق على الظلمة الأصلية السابقة على وجود العالم دونه كما قيل، وقيل: التقابل بين النور والظلمة تقابل الإيجاب والسلب وجمع الظلمات إما لتعددها في الواقع سواء رجع ضمير الجمع إلى المستوقدين أو المنافقين أو لأنها في الحقيقة، وإن/ كانت ظلمة واحدة لكنها لشدتها استعير لها صيغة الجمع مبالغة ـ كما قيل رب واحد يعدل ألفاً ـ أو لأنه لما كان لكل واحد ظلمة تخصه جمعت بذلك الاعتبار كذا قالوا.


ومن اللطائف أن الظلمة حيثما وقعت في القرآن وقعت مجموعة والنور حيثما وقع وقع مفرداً، ولعل السبب هو أن الظلمة وإن قلت تستكثر والنور وإن كثر يستقل ما لم يضر، وأيضاً كثيراً ما يشار بهما إلى نحو الكفر والإيمان والقليل من الكفر كثير والكثير من الإيمان قليل فلا ينبغي الركون إلى قليل من ذاك ولا الاكتفاء بكثير من هذا، وأيضاً معدن الظلمة بهذا المعنى قلوب الكفار
-7-

{ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ } [الحشر59: 14]

ومشرق النور بذلك المعنى قلوب المؤمنين وهي كقلب رجل واحد، وأيضاً النور المفاض هو الوجود المضاف وهو واحد لا تعدد فيه كما يرشدك إليه قوله تعالى:

{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ } [النور24: 35]

وفي الظلمة لا يرى مثل هذا، وأيضاً الظلمة يدور أصل معناها على المنع فلذا أخذت من قولهم ـ ما ظلمك أن تفعل كذا ـ أي ما منعك، وفي «مثلثات» ابن السيد الظلم بفتح الظاء شخص كل شيء يسد بصر الناظر يقال لقيته أول ذي ظلم أي أول شخص يسد بصري وزرته والليل ظلم أي مانع من الزيارة فكأنها سميت ظلمة لأنها تسد في المشهور وتمنع الرؤية، فباعتبار تعدد الموانع جمعت ولم يعتبر مثل هذا في أصل معنى النور فلم يجمع إلى غير ذلك وإنما نكرت ظلمات هنا ولم تضف إلى ضميرهم كما أضيف النور اختصاراً للفظ واكتفاءً بما دل عليه المعنى، والظرفية مجازية كيفما فسرت الظلمة على بعض الآراء، و { لاَّ يُبْصِرُونَ } منزل منزلة اللازم لطرح المفعول نسياً منسياً، ولعدم القصد إلى مفعول دون مفعول فيفيد العموم.


وقرأ الجمهور: { فِى ظُلُمَـٰتِ } بضم اللام، والحسن وأبو السماك بسكونها، وقوم بفتحها، والكل جمع ظلمة.

وزعم قوم أن (ظلمات) بالفتح جمع ظلم جمع ظلمة فهي جمع الجمع، والعدول إلى الفتح تخفيفاً مع سماعه في أمثاله أسهل من ادعاء جمع الجمع إذ ليس بقياسي ولا دليل قطعي عليه، وقرأ اليماني (في ظلمة)، وفي الآية إشارة إلى تشبيه إجراء كلمة الشهادة على ألسنة من ذكر ـ والتحلي بحلية المؤمنين ونحو ذلك ـ مما يمنع من قتلهم ويعود عليهم بالنفع الدنيوي من نحو الأمن والمغانم، وعدم إخلاصهم لما أظهروه بالنفاق الضار في الدين بإيقاد نار مضيئة للانتفاع بها أطفأها الله تعالى فهبت عليهم الرياح والأمطار وصيرت موقدها في ظلمة وحسرة، ويحتمل أنهم لما وصفوا بأنهم

{ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [البقرة2: 16]

عقب ذلك بهذا التمثيل لتشبيه هداهم الذي باعوه بالنار المضيئة ما حول المستوقد، والضلالة التي اشتروها وطبع الله تعالى بها على قلوبهم بذهاب الله تعالى بنورهم وتركه إياهم في الظلمات، والتفسير المأثور عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كما أخرجه ابن جرير عنه أن ذلك مثل للإيمان الذي أظهروه لاجتناء ثمراته بنار ساطعة الأنوار موقدة للانتفاع والاستبصار ولذهاب أثره وانطماس نوره بإهلاكهم وإفشاء حالهم بإطفاء الله تعالى إياها وإذهاب نورها، ويحتمل التشبيه وجوهاً أخر.


ومن البطون القرآنية التي ذكرها ساداتنا الصوفية نفعنا الله تعالى بهم أن الآية مثل من دخل طريقة الأولياء بالتقليد لا بالتحقيق فعمل عمل الظاهر وما وجد حلاوة الباطن فترك الأعمال بعد فقدان الأحوال، أو مثل من استوقد نيران الدعوى وليس عنده حقيقة المعنى فأضاءت ظواهره بالصيت والقبول فأفشى الله تعالى نفاقه بين الخلق حتى نبذوه في الآخر ولا يجد مناصاً من الفضيحة يوم تبلى السرائر، وقال أبو الحسن الوراق: هذا مثل ضربه الله تعالى لمن لم يصحح أحوال الإرادة فارتقى من تلك الأحوال بالدعاوى إلى أحوال الأكابر فكان يضيء عليه أحوال إرادته لو صححها بملازمة آدابها فلما مزجها بالدعاوى أذهب الله تعالى عنه تلك الأنوار وبقي في ظلمات دعاويه لا يبصر طريق الخروج منها، نسأل الله تعالى العفو والعافية ونعوذ به من الحور بعد الكور.
-8-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #38  
قديم 12-18-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-9

تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-9


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِى ٱسْتَوْقَدَ نَاراً }.

أعقبت تفاصيل صفاتهم بتصوير مجموعها في صورة واحدة، بتشبيه حالهم بهيئة محسوسة، وهذه طريقة تشبيه التمثيل، إلحاقاً لتلك الأحوال المعقولة بالأشياء المحسوسة، لأن النفس إلى المحسوس أميل.

وإتماماً للبيان بجمع المتفرقات في السمع، المطالة في اللفظ، في صورة واحدة لأن للإجمال بعد التفصيل وقعاً من نفوس السامعين.

وتقريراً لجميع ما تقدم في الذهن بصورة تخالف ما صور سالفاً لأن تجدد الصورة عند النفس أحب من تكررها. قال في «الكشاف»: «ولضرب العرب الأمثال واستحضار العلماء المِثل والنظائر شأن ليس بالخفي في إبراز خبيات المعاني ورفع الأستار عن الحقائق حتى تريك المتخيل في صورة المحقق والمتوهم في معرض المتيقن والغائب كالمشاهد».

واستدلالاً على ما يتضمنه مجموع تلك الصفات من سوء الحالة وخيبة السعي وفساد العاقبة، فمن فوائد التشبيه قصد تفظيع المشبه.

وتقريباً لما في أحوالهم في الدين من التضاد والتخالف بين ظاهر جميل وباطن قبيح بصفة حال عجيبة من أحوال العالم فإن من فائدة التشبيه إظهار إمكان المشبه، وتنظير غرائبه بمثلها في المشبه به. قال في «الكشاف»: «ولأمر ما أكثر الله تعالى في كتابه المبين أمثاله وفشت في كلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الأنبياء والحكماء قال تعالى:


والتمثيل منزع جليل بديع من منازع البلغاء لا يبلغ إلى محاسنه غير خاصتهم. وهو هنا من قبيل التشبيه لا من الاستعارة لأن فيه ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه وهي لفظ مثل. فجملة: { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً } واقعة من الجمل الماضية موقع البيان والتقرير والفذلكة، فكان بينها وبين ما قبلها كمال الاتصال فلذلك فصلت ولم تعطف، والحالة التي وقع تمثيلها سيجىء بيانها في آخر تفسير الآية.

وأصل المثل بفتحتين هو النظير والمشابه، ويقال أيضاً مثل بكسر الميم وسكون الثاء، ويقال: مثيل كما يقال: شَبَه وشبْهٌ وشبيه، وبدَل وبِدْل، وبديل، ولا رابع لهذه الكلمات في مجيء فَعَل وفِعْل وفَعِيل بمعنى واحد.

وقد اختص لفظ المَثَل (بفتحتين) بإطلاقه على الحال الغريبة الشأن لأنها بحيث تمثل للناس وتوضح وتشبه سواء شبهت كما هنا، أم لم تشبه كما في قوله تعالى:

{ مَثَلُ الْجَنَّةِ } [الرعد13: 35].


وبإطلاقه على قول يصدر في حال غريبة فيحفظ ويشيع بين الناس لبلاغة وإبداع فيه، فلا يزال الناس يذكرون الحال التي قيل فيها ذلك القول تبعاً لذكره وكم من حالة عجيبة حدثت ونسيت لأنها لم يصدر فيها من قول بليغ ما يجعلها مذكورة تبعاً لذكره فيسمى مثلاً وأمثال العرب باب من أبواب بلاغتهم وقد خصت بالتأليف ويعرفونه بأنه قول شبه مضربه بمورده وسأذكره قريباً.
-1-

فالظاهر أن إطلاق المثل على القول البديع السائر بين الناس الصادر من قائله في حالة عجيبة هو إطلاق مرتب على إطلاق اسم المثل على الحال العجيبة، وأنهم لا يكادون يضربون مثلاً ولا يرونه أهلاً للتسيير وجديراً بالتداول إلا قولاً فيه بلاغة وخصوصية في فصاحة لفظ وإيجازه ووفرة معنى، فالمثل قول عزيز غريب ليس من متعارف الأقوال العامة بل هو من أقوال فحول البلاغة فلذلك وصف بالغرابة أي العزة مثل قولهم: «الصيف ضيعتِ اللبن» وقولهم: «لا يطاع لقصير أمر» وستعرف وجه ذلك.

ولما شاع إطلاق لفظ المثل (بالتحريك) على الحالة العجيبة الشأن جعل البلغاء إذا أرادوا تشبيه حالة مركبة بحالة مركبة أعني وصفين منتزعين من متعدد أتوا في جانب المشبه والمشبه به معاً أو في جانب أحدهما بلفظ المثل وأدخلوا الكاف ونحوها من حروف التشبيه على المشبه به منهما ولا يطلقون ذلك على التشبيه البسيط فلا يقولون مثل فلان كمثل الأسد وقلما شبهوا حالاً مركبة بحال مركبة مقتصرين على الكاف كقوله تعالى:

{ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ } [الرعد13: 14]

بل يذكرون لفظ المثل في الجانبين غالباً نحو الآية هنا، وربما ذكروا لفظ المثل في أحد الجانبين كقوله:

{ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ } [يونس10: 24] الآية

وذلك ليتبادر للسامع أن المقصود تشبيه حالة بحالة لا ذات بذات ولا حالة بذات فصار لفظ المثل في تشبيه الهيئة منسياً من أصل وضعه ومستعملاً في معنى الحالة فلذلك لا يستغنون عن الإتيان بحرف التشبيه حتى مع وجود لفظ المثل فصارت الكاف في قوله تعالى: { كمثل } دالة على التشبيه وليست زائدة كما زعمه الرضى في «شرح الحاجبية»، وتبعه عبد الحكيم عند قوله تعالى:

{ أَو كَصَيِّبٍ } [البقرة2: 19]

وقوفاً مع أصل الوضع وإغضاء عن الاستعمال ألا ترى كيف استغنى عن إعادة لفظ المثل عند العطف في قوله تعالى: { أو كصيب } ولم يستغن عن الكاف.


ومن أجل إطلاق لفظ المثل اقتبس علماء البيان مصطلحهم في تسمية التشبيه المركب بتشبيه التمثيل وتسمية استعمال المركب الدال على هيئة منتزعة من متعدد في غير ما وضع له مجموعه بعلاقة المشابهة استعارة تمثيلية وقد تقدم الإلمام بشيء منه عند قوله تعالى:

{ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَبِّهِم } [البقرة2: 5].

وإنني تتبعت كلامهم فوجدت التشبيه التمثيلي يعتريه ما يعتري التشبيه المفرد فيجىء في أربعة أقسام:

الأول: ما صرح فيه بأداة التشبيه أو حذفت منه على طريقة التشبيه البليغ كما في هذه الآية وقوله:

{ أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى } [البقرة2: 16]

إذا قدرنا أولئك كالذين اشتروا كما قدمنا.


الثاني: ما كان على طريقة الاستعارة التمثيلية المصرحة بأن يذكروا اللفظ الدال بالمطابقة على الهيئة المشبه بها ويحذف ما يدل على الهيئة المشبهة نحو المثال المشهور وهو قولهم: إني أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى.
-2-

الثالث: تمثيلية مكنية وهي أن تشبه هيئة بهيئة ولا يذكر اللفظ الدال على الهيئة المشبه بها بل يرمز إليه بما هو لازم مشتهر من لوازمه، وقد كنت أعد مثالاً لهذا النوع خصوص الأمثال المعروفة بهذا اللقب نحو الصيف ضيعت اللبن وبيدي لا بيد عمرو ونحوها من الأمثال فإنها ألفاظ قيلت عند أحوال واشتهرت وسارت حتى صار ذكرها ينبىء بتلك الأحوال التي قيلت عندها وإن لم يذكر اللفظ الدال على الحالة، وموجب شهرتها سيأتي. ثم لم يحضرني مثال للمكنية التمثيلية من غير باب الأمثال حتى كان يوم حضرت فيه جنازة، فلما دفنوا الميت وفرغوا من مواراته التراب ضج أناس بقولهم: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة» فقلت إن الذين سنوا هذه المقالة في مثل هذه الحالة ما أرادوا إلا تنظير هيئة حفرهم للميت بهيئة الذين كانوا يحفرون الخندق مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا يكررون هذه المقالة كما ورد في كتب السنة قصداً من هذا التنظير أن يكون حفرهم ذلك شبيهاً بحفر الخندق في غزوة الأحزاب بجامع رجاء القبول عند الله تعالى فلم يذكروا ما يدل على المشبه به ولكنهم طووه ورمزوا إليه بما هو من لوازمه التي عرف بها وهو قول النبي تلك المقالة ثم ظفرت بقول أحمد بن عبد ربه الأندلسي:

وقُلْ لمن لامَ في التصابيخَلِّ قليلاً عن الطريق


فرأيته من باب التمثيلية المكنية فإنه حذف المشبه به وهو حال المتعرض لسائر في طريقه يسده عليه ويمنعه المرور به وأتى بشيء من لوازم هذه الحالة وهو قول السائر للمتعرض: خل عن الطريق.

رابعها: تمثيلية تبعية كقول أبي عطاء السندي:

ذكرتكِ والخطيُّ يخطُر بينناوقد نَهِلت منى المُثَقّفَةُ السُّمْر


فأثبت النهل للرماح تشبيهاً لها بحالة الناهل فيما تصيبه من دماء الجرحى المرة بعد الأخرى كأنها لا يرويها ما تصيبه أولاً ثم أتى بنَهلتْ على وجه التبعية، ومن هذا القسم عند التفتزاني الاستعارة في (على) من قوله تعالى:

{ أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِن رَبِّهِم } [البقرة2: 5]

وقد تقدم الكلام عليه هناك.


فأما المثل الذي هو قول شبه مضربه بمورده، وهو الذي وعدت بذكره آنفاً فمعنى تشبيه مضربه بمورده أن تحصل حالة لها شبه بالحالة التي صدر فيها ذلك القول فيستحضر المتكلم تلك الحالة التي صدر فيها القول ويشبه بها الحالة التي عرضت وينطق بالقول الذي كان صدر في أثناء الحالة المشبه بها ليذكِّر السامع بتلك الحالة، وبأن حالة اليوم شبيهة بها ويجعل علامة ذِكر ذلك القول الذي قيل في تلك الحالة وإذا حققت التأمل وجدت هذا العمل من قبيل الاستعارة التمثيلية المكنية لأجل كون تلك الألفاظ المسماة بالأمثال قد سارت ونقلت بين البلغاء في تلك الحوادث فكانت من لوازم الحالات المشبه بها لا محالة لمقارنتها لها في أذهان الناس فهي لوازم عرفية لها بين أهل الأدب فصارت من روادف أحوالها وكان ذكر تلك الأمثال رمزاً إلى اعتبار الحالات التي قيلت فيها، ومن أجل ذلك امتنع تغييرها عن ألفاظها الواردة بها لأنها إذا غيرت لم تبق على ألفاظها المحفوظة المعهودة فيزول اقترانها في الأذهان بصور الحوادث التي قيلت فيها فلم يعد ذكرها رمزاً للحال المشبه به التي هي من روادفها لا محالة وفي هذا ما يغني عن تطلب الوجه في احتراس العرب من تغيير الأمثال حتى تسلموا من الحيرة في الحكم بين صاحب «الكشاف» وصاحب «المفتاح» إذ جعل صاحب «الكشاف» سبب منع الأمثال من التغيير ما فيها من الغرابة فقال: «ولم يضربوا مثلاً ولا رأوه أهلاً للتسيير، ولا جديراً بالتداول إلا قولاً فيه غرابة من بعض الوجوه ومن ثم حوفظ عليه وحمي من التغيير» فتردد شراحه في مراده من الغرابة، وقال الطيبي الغرابة غموض الكلام وندرته وذلك إما أن يكون بحسب المعنى وإما أن يكون بحسب اللفظ، أما الأول فكأن يرى عليه أثر التناقض وما هو بتناقض نحو قول الحكم بن عبد يغوث: رب رمية من غير رام، أي رب رمية مصيبة من غير رام أي عارف وقوله تعالى:
-3-

{ وَلَكُم فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } [البقرة2: 179]

إذ جعل القتل حياة. وأما الثاني بأن يكون فيه ألفاظ غريبة لا تستعملها العامة نحو قول الحباب بن المنذر: «أنا جذيلها المحكك وعُذيقها المرجَّب» أو فيه حذف وإضمار نحو رمية من غير رام. أو فيه مشاكلة نحو: «كما تدين تدان». أراد كما تفعل تجازى. وفسر بعضهم الغرابة بالبلاغة والفصاحة حتى صارت عجيبة وعندي أنه ما أراد بالغرابة إلا أن يكون قولاً بديعاً خاصياً إذ الغريب مقابل المألوف والغرابة عدم الإلف يريد عدم الإلف به في رفعة الشأن. وأما صاحب «المفتاح» فجعل منعها من التغيير لورودها على سبيل الاستعارة فقال: ثم إن التشبيه التمثيلي متى شاع واشتهر استعماله على سبيل الاستعارة صار يطلق عليه المثل لا غير ا هـ. وإلى طريقته مال التفتزاني والسيد. وقد علمت سرها وشرحها فيما بيناه. ولورود الأمثال على سبيل الاستعارة لا تغير عن لفظها الذي ورد في الأصل تذكيراً وتأنيثاً وغيرهما. فمعنى قولهم في تعريف المثل بهذا الإطلاق: «قول شبه مضربه بمورده» أن مضربه هو الحالة المشبهة سميت مضرباً لأنها بمنزلة مكان ضرب ذلك القول أي وضعه أي النطق به يقال ضرب المثل أي شبه ومثل قال تعالى:

{ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَا } [البقرة2: 26]

وأما مورده فهو الحالة المشبه بها وهي التي ورد ذلك القول أي صدر عند حدوثها، سميت مورداً لأنها بمنزلة مكان الماء الذي يرده المستقون، ويقال الأمثال السائرة أي الفاشية التي يتناقلها الناس ويتداولونها في مختلف القبائل والبلدان فكأنها تسير من بلد إلى بلد.

-4-

و { الذي استوقد ناراً } مفرد مراد به مشبه واحد لأن مستوقد النار واحد ولا معنى لاجتماع جماعة على استيقاد نار ولا يريبك كون الحالة المشبه حالة جماعة المنافقين، كأن تشبيه الهيئة بالهيئة إنما يتعلق بتصوير الهيئة المشبهة بها لا بكونها على وزن الهيئة المشبهة فإن المراد تشبيه حال المنافقين في ظهور أثر الإيمان ونوره مع تعقبه بالضلالة ودوامه، بحال من استوقد ناراً.

واستوقد بمعنى أوقد فالسين والتاء فيه للتأكيد كما هما في قوله تعالى:

{ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُم } [آل عمران3: 195]

وقولهم استبان الأمر وهذا كقول بعض بني بولان من طي في «الحماسة»:

نَسْتَوْقِد النبل بالحَضيض ونَصْــطَادُ نُفوسا بُنَتْ علَى الكرم


أراد وقوداً يقع عند الرمي بشدة. وكذلك في الآية لإيراد تمثيل حال المنافقين في إظهار الإيمان بحال طالب الوقود بل هو حال الموقد وقوله:

{ فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }.

مفرع على { استوقد }. و { لما } حرف يدل على وقوع شيء عند وقوع غيره فوقوع جوابها مقارن لوقوع شرطها وذلك معنى قولهم حرف وجود لوجود أي حرف يدل على وجود الجواب لوجود شرطها أي أن يكون جوابها كالمعلول لوجود شرطها سواء كان من ترتب المعلول على العلة أو كان ترتب المسبب العرفي على السبب أم كان ترتب المقارن على مقارنه المهيأ والمقارن الحاصل على سبيل المصادفة وكلها استعمالات واردة في كلام العرب وفي القرآن.

مثال ترتب المعلول على العلة لما تعفنت أخلاطه حُمَّ، والمسبب على السبب،

لما رأيتُ نساءنايفحصن بالمعزاء شدا
نازَلْتُ كبشهم ولمأر من نزال الكبش بدا


ومثال المقارن المهيأ قول امرىء القيس:

فلما أَجزْنا ساحة الحي وانتحىبنا بطن خَبت ذي حقاف عقنقل
هَصَرْتُ بفوْدَيْ رأسها فتمايلتعليّ هضيم الكشح ريَّا المخلخَل


ومثال المقارن الحاصل اتفاقاً

{ وَلَمَّا جَاءَت رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا... } [العنكبوت29: 31] وقوله:
{ وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ ءَاوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ } [يوسف12: 69]

فمن ظن أن لما تؤذن بالسببية اغتراراً بقولهم وجود لوجود حملاً لِلاَّم في عبارتهم على التعليل فقد ارتكب شططاً ولم يجد من كلام الأئمة فرطاً.


و(أضاء) يجىء متعدياً وهو الأصل لأن مجرده ضَاء فتكون حينئذٍ همزته للتعدية كقول أبي الطمحان القيني:

أضاءت لهم أحسابهم ووجوههمدُجى الليل حتى ثقب الجزع ثاقبه


ويجىء قاصراً بمعنى ضاء فهمزته للصيرورة أي صار ذا ضوء فيساوي ضاء كقول امرىء القيس يصف البرق:

يُضِىء سنَاه أو مصابيح راهبأمال السليط بالذبال المفتل


والآية تحتملهما أي فلما أضاءت النار الجهات التي حوله وهو معنى ارتفاع شعاعها وسطوع لهبها، فيكون ما حوله موصولاً مفعولاً لأضاءت وهو المتبادر، وتحتمل أن تكون من أضاء القاصر أي أضاءت النار أي اشتعلت وكثر ضوءها في نفسها، ويكون ما حوله على هذا ظرفاً للنار أي حصل ضوء النار حولها غير بعيد عنها.
-5-

و { حوله } ظرف للمكان القريب ولا يلزم أن يراد به الإحاطة فحوله هنا بمعنى لديه ومن توهم أن { ما حوله } يقتضي ذلك وقع في مشكلات لم يجد منها مخلصاً إلا بعناء.

وجمع الضمير في قوله: { بنورهم } مع كونه بلصق الضمير المفرد في قوله: { ما حوله } مراعاة للحال المشبهة وهي حال المنافقين لا للحال المشبه بها؛ وهي حال المستوقد الواحد على وجه بديع في الرجوع إلى الغرض الأصلي وهو انطماس نور الإيمان منهم، فهو عائد إلى المنافقين لا إلى (الذي)، قريباً من رد العجز على الصدر فأشبه تجريد الاستعارة المفردة وهو من التفنين كقول طرفة:

وفي الحي أحوى ينفض المرد شادنمظاهرُ سِمطَيْ لؤلؤ وزبرجد


وهذا رجوع بديع، وقريب منه الرجوع الواقع بطريق الاعتراض في قوله الآتي:

{ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ } [البقرة2: 19]

وحسنه أن التمثيل جمع بين ذكر المشبه وذكر المشبه به فالمتكلم بالخيار في مراعاة كليهما لأن الوصف لهما فيكون ذلك البعض نوعاً واحداً في المشبه والمشبه به، فما ثبت للمشبه به يلاحظ كالثابت للمشبه. وهذا يقتضي أن تكون جملة { ذهب الله بنورهم } جواب (لمّا) فيكون جمع ضمائر " بنورهم وتركهم " إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر إذ مقتضى الظاهر أن يقول ذهب الله بنوره وتركه، ولذلك اختير هنا لفظ النور عوضاً عن النار المبتدأ به، للتنبيه على الانتقال من التمثيل إلى الحقيقة ليدل على أن الله أذهب نور الإيمان من قلوب المنافقين، فهذا إيجاز بديع كأنه قيل فلما أضاءت ذهب الله بناره فكذلك ذهب الله بنورهم وهو أسلوب لا عهد للعرب بمثله فهو من أساليب الإعجاز. وقريب منه قوله تعالى:

{ بَل قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُهْتَدُونَ *وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِن نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا ءَابَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُقْتَدُونَ *قَالَ أَوَلَو جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّم عَلَيْهِ ءَابَاءَكُم قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ } [الزخرف43: 22 ـــ 24]

فقوله: { أرسلتم } حكاية لخطاب أقوام الرسل في جواب سؤال محمد صلى الله عليه وسلم قومه بقوله: { أوَلو جئتكم. } وبهذا يكون ما في هذه الآية موافقاً لما في الآية بعدها من قوله تعالى: { يجعلون أصابعهم في آذانهم } إذ يتعين رجوعه لبعض المشبه به دون المشبه. وجوز صاحب «الكشاف» أن يكون قوله: { ذهب الله بنورهم } استئنافاً ويكون التمثيل قد انتهى عند قوله تعالى { فلما أضاءت ما حوله } ويكون جواب (لما) محذوفاً دلت عليه الجملة المستأنفة وهو قريب مما ذكرته إلا أن الاعتبار مختلف.


ومعنى { ذهب الله بنورهم }: أطفأ نارهم فعبر بالنور لأنه المقصود من الاستيقاد، وأسند إذهابه إلى الله تعالى لأنه حصل بلا سبب من ريح أو مطر أو إطفاء مطفىء، والعرب والناس يسندون الأمر الذي لم يتضح سببه لاسم الله تعالى كما تقدم عند قوله:
-6-

{ وَيَمُدُّهُم فِي طُغْيَانِهِم } [البقرة2: 15]

و { ذهب } المعدى بالباء أبلغ من أذهب المعدى بالهمزة وهاته المبالغة في التعدية بالباء نشأت من أصل الوضع لأن أصل ذهب به أن يدل على أنهما ذهبا متلازمين فهو أشد في تحقيق ذهاب المصاحب كقوله:

{ فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ } [يوسف12: 15]

وأذهبه جعله ذاهباً بأمره أو إرساله فلما كان الذي يريد إذهاب شخص إذهاباً لا شك فيه يتولى حراسة ذلك بنفسه حتى يوقن بحصول امتثال أمره صار ذهب به مفيداً معنى أذهبه، ثم تنوسي ذلك بكثرة الاستعمال فقالوا ذهب به ونحوه ولو لم يصاحبه في ذهابه كقوله:

{ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ } [البقرة2: 258] وقوله:
{ وَجَاءَ بِكُم مِنَ الْبَدْوِ } [يوسف12: 100]

ثم جعلت الهمزة لمجرد التعدية في الاستعمال فيقولون: ذهب القمار بمال فلان ولا يريدون أنه ذهب معه، ولكنهم تحفظوا ألا يستعملوا ذلك إلا في مقام تأكيد الإذهاب فبقيت المبالغة فيه. وضمير المفرد في قوله { وما حوله } مراعاة للحال المشبهة.


واختيار لفظ النور في قوله: { ذهب الله بنورهم } دون الضوء ودون النار لأن لفظ النور أنسب؛ لأن الذي يشبه النار من الحالة المشبهة هو مظاهر الإسلام التي يظهرونها وقد شاع التعبير عن الإسلام بالنور في القرآن فصار اختيار لفظ النور هنا بمنزلة تجريد الاستعارة لأنه أنسب بالحال المشبهة، وعبّر عما يقابله في الحال المشبه بها بلفظ يصلح لهما أو هو بالمشبه أنسب في اصطلاح المتكلم كما قدمنا الإشارة إليه في وجه جمع الضمير في قوله: { بنورهم. }

{ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَـٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }.

هذه الجملة تتضمن تقريراً لمضمون { ذهب الله بنورهم } لأن من ذهب نوره بقي في ظلمة لا يبصر، والقصد منه زيادة إيضاح الحالة التي صاروا إليها فإن للدلالة الصريحة من الارتسام في ذهن السامع ما ليس للدلالة الضمنية فإن قوله { ذهب الله بنورهم } يفيد أنهم لما استوقدوا ناراً فانطفأت انعدمت الفائدة وخابت المساعي ولكن قد يذهل السامع عما صاروا إليه عند هاته الحالة فيكون قوله بعد ذلك: { وتركهم في ظلمات لا يبصرون } تذكيراً بذلك وتنبيهاً إليه، فإنهم لا يقصدون من البيان إلا شدة تصوير المعاني ولذلك يطنبون ويشبهون ويمثلون ويصفون المعرفة ويأتون بالحال ويعددون الأخبار والصفات فهذا إطناب بديع كما في قول طرفة:

ندامَايَ بيضٌ كالنجوم وقَينةتَرُوح إلينا بَيْن بُرد ومِجْسَد


فإن قوله تروح إلينا الخ لا يفيد أكثر من تصوير حالة القينة وتحسين منادمتها، وتفيد هذه الجملة أيضاً أنهم لم يعودوا إلى الاستنارة من بعد، على ما في قوله { وتركهم } من إفادة تحقيرهم، وما في جمع { ظلمات } من إفادة شدة الظلمة وهي فائدة زائدة على ما استفيد ضمناً من جملة { ذهب الله بنورهم } وما يقتضيه جمع { ظلمات } من تقدير تشبيهات ثلاثة لضلالات ثلاث من ضلالاتهم كما سيأتي.
-7-

وبهذا الاعتبار الزائد على تقرير مضمون الجملة قبلها عطفت على الجملة ولم تفصل.

وحقيقة الترك مفارقة أحد شيئاً كان مقارناً له في موضع وإبقاؤه في ذلك الموضع. وكثيراً ما يذكرون الحال التي ترك الفاعل المفعول عليها، وفي هذا الاستعمال يكثر أن يكون مجازاً عن معنى صَيَّر أو جَعَل. قال النابغة:

فلا تتركّني بالوعيد كأننيإلى الناس مطليٌّ به القارُ أجرب


أي لا تصيرني بهذه المشابهة، وقول عنترة:

جادت عليه كل عينٍ ثرةٍفترَكن كل قرارة كالدرهم


يريد صيرن، والأكثر أن يكنى به في هذا الاستعمال عن الزهادة في مفعوله كما في بيت النابغة، أو عن تحقيره كما في هذه الآية.

والفرق بين ما يعتبر فيه معنى صيَّر حتى يكون منصوبه الثاني مفعولاً، وما يعتبر المنصوب الثاني معه حالاً، أنه إن كان القصد إلى الإخبار بالتخلية والتنحي عنه فالمنصوب الثاني حال وإن كان القصد أولاً إلى ذلك المنصوب الثاني وهو محل الفائدة فالمنصوب الثاني مفعول وهو في معنى الخبر فلا يحتمل واحد منهما غير ذلك معنى وإن احتمله لفظاً.

وجمع { ظلمات } لقصد بيان شدة الظلمة كقوله تعالى:

{ قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ } [الأنعام6: 63]

وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الظلم ظلمات يوم القيامة " فإن الكثرة لما كانت في العرف سبب القوة أطلقوها على مطلق القوة وإن لم يكن تعدد ولا كثرة مثل لفظ كثير كما يأتي عند قوله تعالى:

{ وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً } (الفرقان25: 14)،

ومنه ذكر ضمير الجمع للتعظيم، للواحد، وضمير المتكلم ومعه غيره للتعظيم، وصيغة الجمع من ذلك القبيل، قيل لم يرد في القرآن ذكر الظلمة مفرداً، ولعل لفظ ظلمات أشهر إطلاقاً في فصيح الكلام وسيأتي بيان هذا عند قوله تعالى:

{ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } (الأنعام6: 1) بخلاف قوله تعالى:
{ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ } [الزمر39: 6]

فإن التعدد مقصود بقرينة وصفه بثلاث. ولكن بلاغة القرآن وكلام الرسول عليه السلام لا تسمح باستعمال جمع غير مراد به فائدة زائدة على لفظه المفرد، ويتعين في هذه الآية أن جمع (ظلمات) أشير به إلى أحوال من أحوال المنافقين كل حالة منها تصلح لأن تشبه بالظلمة وتلك هي: حالة الكفر، وحالة الكذب، وحالة الاستهزاء بالمؤمنين، وما يتبع تلك الأحوال من آثار النفاق.


وهذا التمثيل تمثيل لحال المنافقين في ترددهم بين مظاهر الإيمان وبواطن الكفر فوجه الشبه هو ظهور أمر نافع ثم انعدامُه قبل الانتفاع به، فإن في إظهارهم الإسلام مع المؤمنين صورة من حسن الإيمان وبشاشته لأن للإسلام نوراً وبركة ثم لا يلبثون أن يرجعوا عند خلوهم بشياطينهم فيزول عنهم ذلك ويرجعوا في ظلمة الكفر أشد مما كانوا عليه لأنهم كانوا في كفر فصاروا في كفر وكَذب وما يتفرع عن النفاق من المذام، فإن الذي يستوقد النار في الظلام يتطلب رؤية الأشياء فإذا انطفأت النار صار أشد حيرة منه في أول الأمر لأن ضوء النار قد عوَّد بصره فيظهر أثر الظلمة في المرة الثانية أقوى ويرسخ الكفر فيهم.
-8-

وبهذا تظهر نكتة البيان بجملة: { لا يبصرون } لتصوير حال من انطفأَ نورُه بعد أن استضاء به.

ومفعول { لا يبصرون } محذوف لقصد عموم نفي المبصرات فنزل الفعل منزلة اللازم ولا يقدَّر له مفعول كأنه قيل لا إحساس بصر لهم، كقول البحتري:

شَجْوُ حساده وغيظُ عداهأن يَرى مبصرٌ ويسمَعَ واعٍ


وقد أجمل وجه الشبه في تشبيه حال المنافقين اعتماداً على فطنة السامع لأنه يَمْخَضه من مجموع ما تقدم من شرح حالهم ابتداء من قوله:

{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بِاللَّهِ } [البقرة2: 8]

الخ ومما يتضمنه المثَلان من الإشارة إلى وجوه المشابهة بين أجزاء أحوالهم وأجزاء الحالة المشبه بها، فإن إظهارهم الإيمان بقولهم: { آمنا بالله } وقولهم:

{ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } [البقرة2: 11]

وقولهم عند لقاء المؤمنين:

{ ءَامَنَّا } [البقرة2: 14]

أحوالٌ ومظاهر حسنة تلوح على المنافقين حينما يحضرون مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وحينما يتظاهرون بالإسلام والصلاةِ والصدقةِ مع المسلمين ويصدر منهم طيِّب القول وقويم السلوك وتشرق عليهم الأنوار النبوية فيكاد نور الإيمان يخترق إلى نفوسهم ولكن سرعان ما يعقب تلك الحالة الطيبةَ حالةٌ تضادها عند انفضاضهم عن تلك المجالس الزكية وخلوصهم إلى بطانتهم من كبرائهم أو من أتباعهم فتعاودهم الأحوال الذميمة من مزاولة الكفر وخداع المؤمنين والحقد عليهم والاستهزاء بهم ووصفهم بالسفه، مُثِّلَ ذلك التظاهر وذلك الانقلاب بحال الذي استوقد ناراً ثم ذهب عنه نورها.


ومن بدائع هذا التمثيل أنه مع ما فيه من تركيب الهيأة المشبه بها ومقابلتها للهيأة المركبة من حالهم هو قابل لتحليله بتشبيهاتٍ مفردة لكل جزء من هيأة أحوالهم بجزء مفرد من الهيأة المشبه بها فشبه استماعهم القرآن باستيقاد النار، ويتضمن تشبيه القرآن في إرشاد الناس إلى الخير والحق بالنار في إضاءة المسالك للسالكين، وشبه رجوعهم إلى كفرهم بذهاب نور النار، وشبه كفرهم بالظلمات، ويشبهون بقوم انقطع إبصارهم.
-9-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #39  
قديم 12-18-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-11

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-11

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } * { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ }



تحقيق الآية يستدعي تمهيد مقدّمات.

إحداها: هي إن العوالم متطابقة والنشآت متحاذية، نسبة الأعلى إلى الأدنى كنسبة الصافي إلى الكدر، ونسبة اللبّ الى القشر. ونسبة الأدنى إلى الأعلى كنسبة الفرع إلى الأصل، ونسبة الظلّ إلى الشخص، ونسبة الشخص إلى الطبيعة، ونسبة المثال إلى الحقيقة.

فكلّ ما في الدنيا لا بدّ له في الآخرة من أصل، وإلاّ لكان كسراب باطل وخيال عاطل، وكلّ ما في الآخرة لا بدّ له في الدنيا من مثال، وإلاّ لكان كمقدّمة بلا نتيجة وشجرة بلا ثمرة، وعلّة بلا معلول، وجواد بلا جود، لأنّ الدنيا عالم الملك والشهادة، والآخرة من عالم الغيب والملكوت، ولكلّ إنسان دنياً وآخرة، وأعني بدنياك: حالتك قبل الموت، وبآخرتك: حالتك بعد الموت.

فدنياك وآخرتك، من جملة أحوالك ودرجاتك، يسمّى القريب الداني منها دنياً، وما بعده المتأخّر آخرة، وكون الدنيا متقدّمة على الآخرة، ليس بحسب الأمر في ذاته، بل بالإضافة إلينا، من جهة أنّ الإنسان أول ما يحدث، يكون في عالم الحسّ والشهادة، ثمّ يتدرّج قليلاً قليلاً في قوّة الوجود، حتى ينتقل من هذا العالم إلى عالم الغيب والآخرة عند قيامة.

فبالقياس إليه، تكون الدنيا أولاه والآخرة أخراه، كما أن الصورة في المرآة تابعة لصورة الناظر في رتبة الوجود، وثانيةٌ لها، وهي وإن كانت ثانية في رتبة الوجود؛ فإنّها أول في حقّ رؤيتك؛ فإنك لا ترى نفسك، وترى صورتك في المرآة أولاً، فتعرف بها صورتك التي هي قائمة بك ثانياً على سبيل المحاكاة، فانقلب التابع في الوجود متبوعاً في حق المعرفة، وانقلب المتأخر متقدماً.

وهذا النوع من الانعكاس والانتكاس، ضرورة هذا العالم، وكذلك عالم الشهادة محال لعالم الغيب والملكوت.

ومن الناس من يُسرّ له نظر الإعتبار، فلا ينظر في شيء من عالم الملك إلاّ ويَعْبُرُ به إلى عالم الملكوت، فيسمى عبوره عبرة؛ وقد أمر الخلق به، قال سبحانه:


ومنهم من عميت بصيرته فلم يعبر، فاحتبس في عالم الملك والشهادة، وتنفتح إلى حبسه أبواب جهنّم، وهذا الحبس ممتلئ ناراً شأنها أن تطّلع على الأفئدة، إلا أن بينه وبين إدراك الَمِها حجابٌ، فإذا رُفع الحجاب بالموت، أدرك.

وعن هذا أظهر الله الحقّ على لسان قوم استنطقهم بالحق فقالوا: الجنّة والنار مخلوقتان. ثمّ إنّا نحن الآن: نتكلّم أو نخاطب في الدنيا مَن في الآخرة.

والغرض من إنزال القرآن، أكثره شرح أحوال الآخرة، وخصوصاً في هذه الآية، فإنّ الغرض شرح أحوال طائفة من المنافقين بحسب باطنهم وآخرتهم، والآخرة من عالم الملكوت، ولا يتصوّر شرح عالم الملكوت في عالم الملك إلا بضرب الأمثال، ولذلك قال سبحانه:


-1-

وهم الذين جردوا صور المحسوسات عن قشورها المادية، وأحضروها عند عقولهم العابرة عن عالم الأمثلة الحسّية إلى عالم الحقائق والملكوت، وعالم الأمثلة الحسية بالقياس إلى عالم الحقائق، كنشأة النوم بالقياس إلى عالم الملكوت، ولذلك قال عليه السلام: " الناسُ نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا ".

وما سيكون في اليقظة لا يبيّن لك في النوم إلا بضرب الأمثال المحوِجة إلى التعبير، وكذلك ما سيكون في يقظة يوم القيامة، لا يبيّن لك في ليالي حجُب الدنيا إلا في كسوة الأمثال، وأعني بكسوة الأمثال، ما تعرفه من علم التعبير، فإنّ شأن علماء التعبير أن يعبروا من الأمثلة إلى الحقائق.

ولنذكر لك ثلاثة أمثلة من تعبيرات ابن سيرين تكفيك إن كنت فَطِناً لفهم معنى المثال ونسبته إلى الحقيقة.

فقد جاءَ رجلُ إليه وقال: رأيت كأن في يدي خاتماً أختم به أفواه الرجال وفروج النساء. فقال: إنك مؤذِّن توذِّن في رمضان قبل الفجر فقال: صدقت.

وجاء آخر فقال: رأيت كأنّي أصبّ الزيت في الزيتون. فقال: إنْ كان تحتك جارية اشتريتها ففتّش عن حالها فإنّها أمك، لأنّ الزيتون أصل الزيت، فهو ردٌّ إلى الأصل، فنظر فإذا جاريته كانت أمه وقد سُبيت في صِغَره.

وقال آخر له: كأنّي أعلّقُ الدرّ في أعناق الخنازير، فقال: إنّك تعلّم الحكمة غير أهلها - وكان كما قال -.

فالتعبير من أوله إلى آخره مثال لعرفان طريق الأمثال، وليس للأنبياء عليهم السلام أن يتكلموا مع الخلق إلاّ بضرب الأمثال، لأنّهم كلّفوا أن يكلّموا الناس على قدر عقولهم، وقدر عقولهم أنّهم في النوم، كما ورد: " الدنيا دار منام، والعيش فيها كأحلام ".

والنائم لا ينكشف له شيء إلاّ بصورة المثل، فإذا ماتوا انتبهوا ووصلوا إلى تعبير منامهم، وعرفوا أن المثل المضروب لهم كان صادقاً كله.

وإنّما نعني بالمثَل؛ أداء المعنى، أو وجوده في صورة إن نُظر إلى معناه وباطنه وُجد صادقاً، وإن نُظر إلى صورته وظاهره وجد كاذباً.

المقدّمة الثانية: إنّ موجودية الممكنات بحقيقة الوجود الفائض من الحقّ الأول، وقد علمت فيما سبق، أن الوجود في كلّ شيء هو نحو وجوده، وهو صورة ذاته دون المسمّى بالماهية، إلاّ أنّ صورة الوجود في بعض الأشياء كالمفارقات، وضرب من الملائكة والمدبرات العلوية، قائمة في أنفسها بذات باريها وموجدها. وفي بعض الأشياء كالطبائع وضَرْبٍ من الملكوت والمدبرات السفليّة، قائمة لا في أنفسها، بل بتبعيّة المحال والمقادير، وكلّ من قِسميّ الوجود، أعني القائم بالذات والقائم بالمقدار، نورُ من أنوار الله الفائضة عنه في سموات الأرواح وأراضي الأشباح، وهو من إسمه: العَليم والنُّور، إذ هو عالم الغيب والشهادة، والله نورُ السَّمٰواتِ والأرضِ، بل الوجود على مراتبه كلّه نور والله نور الأنوار.

والإنسان بالقوّة، مشتمل على كل قسم من النور، وأشرف أنواره المكمونة بالقوّة في ذاته بحسب أصل الفطرة، هو النور العقلي المدرك للحقائق، الفعّال للصورة العقليّة والنفسانيّة والحسيّة عند تفرّده بذاته، وخروجه من القوّة إلى الفعل، واتّصاله بحضرة الحقّ الأول، وإنّما يخرج من القوة إلى الفعل، عند استكماله بسلوك سبيل الحقّ وانقياد الشريعة الإلهية بالإيمان والعمل الصالح، وصرف قواه الإدراكيّة؛ كالحواسّ الظاهرة والتحريكية، كالقدرة والإرادة والشهوة والغضب، فيما خِلقت هي لأجله.

-2-

وهذه القوى أيضاً ضروب من الأنوار الوجودية التي أنعمها الله علينا للإستعمال في التوصل بها إليه تعالى والتقرّب منه، وهي أيضاً في أول النشأة، ضعيفة خامدة في مادة البدن، سيّما الباطنيّة منها، كالوهم والخيال من القسم الأول، والهوى وحب الجاه والرياسة من القسم الثاني، وهذه الأنوار الحسّية، وكذا محسوساتها ومتعلّقاتها، صورٌ مكمونة في مواد الأجسام، سيّما العنصرية، كالصورة الناريّة في الفحم، إذ جميع هذه الأجسام التي تلينا وما حولنا بمنزلة الفحم والزغال، وأنوار صور الحقائق مندمجة فيها، وإنّما تظهر من البطون وتبرز من الكمون لنا بسبب حركات ورياضات في كورة الدنيا وعالم الطبيعة، هي بمنزلة النفاخات الواقعة في كورة الحدادين.

وأول ما يخرج إلى الفعل من القوّة، وإلى البروز من الكمون، هو صورة الحسّ والمحسوس، إذ كلّ إدراك، سواء كان حسّاً أو تخيّلاً أو وهماً أو تعقّلاً أو تألّهاً، فهو بضرب من التجريد، ومراتب التجريدات في الشدة والضعف، كمراتب الإدراكات في الكمال والنقص، فأقلّ التجريدات، التجريد الحاصل في الحس، فإن الحس يجرّد الصورة القائمة بالمادّة المغشاة بالغواشي المادّية من أصل تلك المادّة، ولكن لا يجرّدها من الغواشي، بل هي معها، مع اشتراط أن يكون لمحلها من الحس نسبة وضعيّة جسمانيّة إلى تلك المادة المنتزعة هي عنها، حتّى أنه لو غابت تلك المادة غابت الصورة أيضاً عن الحس.

وأمّا الخيال، فيجرّد الصورة عن المادّة تجريداً أتمّ، وإلى أفق المفارقات تقريباً أشدّ، فإنّه يجرّدها عن المادّة، وعن ملابسها وغواشيها الجسمانيّة من غير اشتراط حضور المادّة أيضاً، لكن بشرط بقاء تخصّصها وتعيّنها المشابه لتعيّنها المادّي في عالم التمثل الخيالي.

وأما الوهم، فيجرّد الصورة تجريداً أتمّ من تجريد الحسّ والخيال جميعاً بحيث يتصوّر المعاني الحاصلة في الأجسام، ويجرّدها عن المواد وعن صفاتها المكتنفة بها، لكن لا يمكن للوهم تجريد المعنى بالكليّة عن الموادّ الشخصية، وعن صفاتها جميعاً حتى عن اضافتها إلى الشخص، بل يتصوّر كلاً من المعاني مضافاً إلى شخص بعينه، إذ الوهم نفسه أيضاً كذلك، لأنه عبارة عن قوّة عقليّة مضافة إلى جوهر جسماني، حتّى لو تجرّد عن هذه الإضافات، صار الوهم عقلاً، والشيطان مَلَكاً، والجزبرة حكمة.

وأمّا العقل فشأنه تجريد الصور عن المواد تجريداً أتمّ وأقوى من جميع ما سبق، لأنّه كما يجرّدها عن المواد وملابسها، يجرّدها عن أنحاء التعلّقات والإضافات كلّها، فيصيّرها لبّاً خالصاً صافياً مقدّساً مطهّراً عن الأرجاس والأدناس، لائقاً بحضرة القدس وحظيرة الإنس، وذلك ما أردناه.

-3-

المقدمة الثالثة: إنّ هذه القوى من الإنسان من فروعات جوهره العقلي، بمنزلة أشعّة وأنوار لازمة لجوهر نوانيّ متعلق بالبدن، كمصباح في بيت تقع منه أنوار وأشعّة على جدرانه وسقوفه وزواياه وأكنافه وكلٌّ من هذه القوى، ينفعل ويستنير ويخرج من القوّة إلى الفعل بواسطة صور محسوسة تخصّها، فالبصَر بالمبصرات كالألوان، والسمع بالمسموعات كالأصوات.

وبالجملة، الحسّ بالمحسوس يستنير ويخرج وجوده من القوّة إلى الفعل، والخيال بالصور المتخيّلة، يستنير ويقوى ويصير من حد النقص إلى حدّ الكمال، وقد علمت أن كل كمال ونور إنّما يحصل بضرب من التجرّد والبعد عن المادّة، وكلّ نقص وظُلمة إنّما يحصل بواسطة لصوق بالمادة وقرب منها.

وعلمت أن مراتب الكمالات حسب مراتب التجريدات، ووجود هذه القوى متقدّم بحسب الحدوث على وجود القوّة العقليّة تقدّماً زمانياً وبالطبع، ووجود القوّة العقلية متقدّم بقاء على وجودها تقدّماً ذاتياً وبالعليّة والشرف، لأنّها من فروعها ومعاليلها عند تجوهر العقل وحصوله بالفعل، فالعاقلة مفتقرة إليها في أول النشأة، وعند أوان الاستكمال والحركة إلى المبدء الفعّال، وهي مفتقرة إليها في النشأة الثانية وبقاء الآخرة.

فمن استكمل ذاته ما دام الكون الدنيوي بنور الإيمان واليقين، قامت مع روحه جميع قواه، وتنوّرت بنوره يوم الدين، وحشرت معه يوم حشر الخلائق أجمعين.

ومن لم يستكمل ذاته هٰهنا بنور الإيمان، ولم تنفتح بصيرة باطنه إلى عالم الروح والريحان، لِفَرط جهالته، وتراكم غشاوته، وكثرة حجابه، وكثافة نقابه، سُلبت في الآخرة عنه قواه وحواسه، وبقيت نفسه في ظلمات الهاوية وأدخنة السعير أصمّ وأبكم وأعمى قائلاً بلسان الحال:


المقدّمة الرابعة: إن الوجودات الفائضة من الحقّ، بعضها من عالم النور، وبعضها من عالم النار، وبعضها من عالم الظلمة والدخان.

أمّا التي هي من عالم النور، فهي العقول القادسة، والنفوس الزكية، والملائكة العلويّة، والأخيار من الجنّ.

وأمّا التي هي من عالَم النار، فهي النفوس الخبيثة، والشياطين والأشرار من الجن.

وأمّا عالم الظلمة والدخان، فهي موادّ هذا العالم من الأفلاك، ولهذا قال تعالى:


إشارة إلى موادّ الأفلاك التسع ومادّة العناصر. وقال:


فلولا ضوءُ الشمس ونورُ القمر ومصابيح الكواكب، لكانَ هذا العالم في ظلمة محضة لا أوحش منها.

فاستنار هذا العالم بتلك الأنوار الحسّية المتعلّقة، وأمّا عالم الآخرة، فلا يمكن أن يستنير بشيء من هذه الأنوار الحسّية، بل لا بدّ في استنارته من نور آخر من ضروب الأنوار المعنويّة.

-4-

إما العلمية فكما للمقرَّبين. وإمّا العمليّة فكما لأصحاب اليمين. كما قال تعالى:


وأمّا عالم النار، فليست ناره من جنس هذه النارالتي في الدنيا، فإنّ هذه ليست ناراً محضةً، بل ناراً مع مادّة مقداريّة كالحطب ونحوه، ومع هيئة نوريّة حسيّة، ووضع وشكل محسوسين، وأمّا النار المحضة، فلا يكون معها هذا الصفاء والإشراق والتلألؤ واللمعان، فإن هذه كلها مسلوبة عن نار جهنّم، بل هي سوداء مظلمة كما ورد في الخبر.

وإنّما تثبت هذه الأوصاف لهذه النيران الدنيوية، لأنها ليست نيراناً محضة، بل في مادّتها نار ونور سانح كما مرّ، وأمّا التي هي نارٌ محضة، فتمامها أنّها صورة جوهريّة حارّة بالذّات، محرّكة للموادّ، محلّلة مذيبة للأجساد، محرقة مؤذية مهلكة، قطّاعة نزّاعة مفسدة للصور الإتّصالية، وفساد الصور بوارها، فدار البوار هي محل ظهور سلطان النار.

وأمّا عالم النور، فهو محل ظهور الحقائق من حيث إنّها حقائق وبقاؤها وسلطانها، والأبواب إليها منسدّة إلاّ من قِبَل آثارها، ومن ناحية صوَرها المحسوسة، ولهذا قيل: مَنْ فَقَد حسّاً فَقَد علماً.

ومن تأمّل علِم إن النيران التي عندنا، فمحلّ ناريّتها الحقيقية في الحقيقة دار البوار لا دار القرار، لأن النار هي المحلّلة المفرّقة، وهذا المحسوس من النار ليس محرقاً حقيقة، والذي يباشر الإحراق والتفريق حقاً وحقيقة هي نار مستورة عن هذه الحواس، خارجة عن فكر الناس والقياس، مرتبطة بهذا المحسوس وبغيره ارتباطاً، وهذا شيء يوافقنا فيه علماء النظر، لاعترافهم بأن الأثر لا يبقى بعد وجود ما هو الفاعل له حقيقة، وإنما الذين يبقى بعده الأثر فهو فاعلٌ في علم الطبيعة، وباصطلاح الطبيعيّين، وذلك يسمّى في علم ما بعد الطبيعة وباصطلاح الإلهيين: " مُعِدّاً " ، لا فاعلاً مفيداً.

فقد تبيّن واتّضح أن ناريّة النار - أي كونها محلّلة مزيلة للصورة - ليست حاصلة فيما يفارقه، وأنّ نار الله الكبرى لا مستقرّ لها سوى دار البوار، لأن حقيقتها منبعثةً عن تنزّلات الأنوار الإلهيّة والعقليّة عند هبوطها عن عالم النور إلى عالم الاستحالة والدُثور، فالطبيعة الناريّة ساريةً في كل المستحيلات الجوهريّة.

وعندنا أن جميع الجواهر الماديّة - سماويّة كانت أو أرضية - سيّالةً في ذاتها، قابلة للاستحالة الجوهريّة والتجدّد والذوبان بتأثير نيران الطبائع الغير المحسوسة، وهي نيران أخروية كامنة في بواطن الأجسام الدنيوية، والنفس الأمّارة بالسوء أيضاً نار موقدة تطّلع على الأفئدة، وهي كلها مؤلمة، إلا أن بين الناس وبين إدارك الَمِها حجاباً.

والجحيم، وجودها معلوم لبعض العلماء، يدرك مرّة بإدراك يسمّى: " علم اليقين " ، ومرة بادراك يسمى بـ " عين اليقين " ، وعين اليقين لا يكون إلاّ في الآخرة، وعلم اليقين قد يكون في الدنيا، ولكن للذين وفّي حظّهم من نور اليقين، فلذلك قال تعالى:

-5-


والدليل على كون النار الأخرويّة كامنة في جميع الأجرام الدنيوية التي هي بمنزلة الوقود والحشيش لها - سواء كانت حارّة يابسة كالنار، أو باردة رطبة كالماء - قوله تعالى:


والأحاديث في هذا الباب كثيرة:

منها: ما يروى أنه قال صلّى الله عليه وآله: " لا يركبنَّ رجلٌ بحراً إلاّ غازياً أو معتمراً، فإن تحتَ البَحر ناراً. أو تحت النارِ بحْراً ".

ومنها: أنّه قال صلى الله عليه وآله: " البحْرُ كلُّه نارٌ في نارٍ ".

وعن ابن عباس: إن النار تحت سبعة أبحر مطبقة.

ومنها: " ما ورد في حديث المعراج أنّه رأى في السماء الدنيا آدم أبا البشر، وكان عن يمينه بابٌ يأتي من قبله ريحٌ طيّبة، وعن شماله ريحٌ منتنةٌ، فأخبره جبرئيل أنّ أحدهما هو الجنّة والآخر هو النار ".

ومنها: ما في حديث الكسوف، أنّه قال صلى الله عليه وآله: " ما من شيء توعدونه إلاّ قد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار وذلك حين رأيتموني تأخّرت مخافة أن يصيبني من نفخها (الحديث) ".

ومنها أيضاً ما يدلّ على أن النار في السماء كما ذكره مجاهد والضحّاك في قوله تعالى:


أنّ المراد هو الجنّة والنار، وكما يروى في حديث المعراج أيضاً: إنه صلى الله عليه وآله رأى في السماء الدنيا مالكاً خازن النار، وفتح له طريقاً من طرق النار لينظر إليها حتى ارتقى من دخانها وشررها وما عن يساره من الباب.

إذا تمهّدتْ هذه المقدّمات فنقول: إن الله تعالى أراد أن يكشف عن حال المنافقين الذين كانوا مشتغلين باكتساب الظواهر، والإغترار ببعض الآثار، ولم يباشر الإيمان قلوبهم، واقتصروا على البحث والتكرار، وصرفوا كدّهم في الصرْف والنحو والأشعار، وحفظ قوالب الأحاديث والأخبار، طلباً لحُطام هذه الدار، وتقرّباً إلى السلاطين والأشرار، بحال من استوقد ناراً، وهي نار النفس الوقّادة، التي تستوقد أولاً من أشعة المدارك الحسّية المتنوَّرة بنور الصور المحسوسة، وهذه الأنوار الحسّية التي تنفعل منها الحواس، وتخرج بها من القوّة إلى الفعل، أنوار حادثة متجدّدة زائلة عند فتور القوى ودُثورها حين استيلاء المرض والهرم عليها، وإنّما الفائدة فيها تنبّه النفس بصور هذه المدركات، لتنتقل منها إلى إدراك صورها العقليّة وأنوارها المعنويّة الحاصلة في عالم الأنوار، وبها تخرج قوّتها العاقلة إلى الفعل، وتستسعد بالسعادة الأخرويّة.

-6-

فمَن اقتصر حاله في استعمال هذه القوى لا لأجل تحصيل المعارف الإلهيّة والتنوّر بأنوارها الدائمة، فهو كمن استوقد ناراً واستضاء ما حول نفسه بتلك النار، وهي القوى الحسّاسة والمحرّكة، وحين أضاءت النار ما حوله من القوى والمدارك الخارجة عن ذاته قبل أن يبلغ أثر الضوء إلى نفسه، ذهب الله بنورهم، أي بنوره وبنور من يَحذو حذْوه، لأن الأنوار المحسوسة كلّها زائلة داثرة تنقص وتندثر، عند عروض الشيب والموت، ثمّ لم يبق لهم نورٌ أصلاً، لا نور الحواسّ لزوالها عند الموت؛ ولا نور الإيمان والمعرفة، لعدم اكتسابهم له، فلا جرم تُركوا في ظلمات الموت والجهالة وغيرها، كظلمة الكفر، وظلمة النفاق، وظلمة الضلال، وظلمة سخط الله، وظلمة يوم القيامة وظلمة عذاب السرمد، كأنها ظلمات متراكمةً بعضها فوق بعض، فلا يبصرون شيئاً، وسُلبت قواهم وجوارهم كلّها، فلا سمْع ولا نطْق ولا بصَر، كما لا أذن ولا لسان ولا عين، فهم صمٌّ بكْمٌّ عمْيٌّ لا يرجعون، لأنّ الرجوع إلى الفطرة الأولى من الممتنعات، والممتنع لا يكون مقدوراً أصلاً.

فالآية مثلٌ ضربه الله لمن آتاه ضَرْباً من الهدى فأضاعه، ولم يتوصّل به إلى نعيم الأبَد وسعادة السرمد، فبقيَ متحيِّراً متحسِّراً في ظلمة لا أوحش منها، مسلوب الحواس والآلات تقريراً وتوضيحاً لما تضمنته الآية الأولى.

ويدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقين، وكلّ من آثَر الضلالة على الهُدى المجعول له بالفطرة الأولى، ويمكن أن يكون المراد من قوله: { فَلَمَّا أضَاءَتْ مَا حَوْلَه } ، أنّ الرجل المنافق قد يكون من أهل الوعظ والتذكير، يستضيء بنور وعظه وتذكيره حواليه من المستمعين، وهو نفسه لا ينتفع بما يقوله ولا يعمل به، كما قيل: " مثَل العالِم بأمر الله غير العالِم بالله، كمثَل السراج يُحرق نفسه ويُضيء غيرَه " وفي الحديث عنه: " إنّ الله يؤيّد هذا الدين بالرجل الفاجِر ".

فهذا ما تيسّر لنا في فهم هذه الآية بفضل الله، ولنرجع إلى حلّ الألفاظ وما ذكره المفسّرون إنشاء الله.

فصل

ما هو ضربُ المثَل

قالوا: إنّ المقصود من ضرّب المثال أنّه يؤثّر في القلوب ما لا يؤثّره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض (من المثل) تشبيه الخفيّ بالجلي، والغائب بالشاهد، فيتأكّد الوقوف على ماهيته، ويصير الحسّ مطابقاً للعقل، وذلك هو النهاية في الايضاح، ألا ترى إن الترغيب بالإيمان والتزهيد عن الكفر مجرّدين عن ضرب المثَل، لا يتأكد تأثيرهما في القلب، وإذا مثّل الإيمان بالنور، والكفر بالظُلمة، يتأكّد تأثير حسن الإيمان وقبح الكفر في القلب؟

ولهذا أكثر لله في كتابه المبين وفي سائر كتبه ضرب الأمثال، وقال:


ومن سور الإنجيل: " سورة الأمثال ".

أقول: قد علمت أنّ حقيقة التمثيل ما هو، ودريت أن الغرض ليس مجرد التأثير والوقع في النفس، بل بيان حقيقة الأمر وملاكه وروحه، أوَ لا ترى أن الألفاظ المذكورة في هذه الآية، من النار والاستيقاد والإضاءَة والنور والذهاب والظلمات وغيرها، كلّها محمولة على الحقيقة، مشهودة بنظر البصيرة، بل هي حقيقة أحوالهم الباطنة، والتي هم عليها من الأحوال والأفعال الظاهرة هي مثال لتلك الأحوال، كما قرّرنا من أنّ ما في الدنيا أمثلة لما في الآخرة، لكن المماثلة لمّا كانت من الجانبين، يجوز استعمالها في كلّ من الطرفين، إذ المثَل في أصل كلامهم بمعنى المثْل، وهو النظير، يقال: مَثَل ومِثْل ومَثيل، كشَبَه وشِبْه وشَبيه، ثمّ قيل للقول السائر الممثَل مضربه بمورده: مثَل، وربما اشترط أن يكون قولاً فيه غرابة بوجه.

-7-

ثم ذكروا في الآية سؤالات وأجوبة.

أحدها: إنّ مستوقِد النار اكتسب لنفسه نوراً، والله تعالى أذهب بنوره وتركه في ظلمات، والمنافق لم يكتسب خيراً، وليس له نورٌ، فما وجه التشبيه؟

والجواب بوجوه:

الأول: بما قال السدي: إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصول النبي صلى الله عليه وآله إلى المدينة، ثم نافقوا، فهم بايمانهم اكتسبوا نوراً، ثمّ بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور، ووقعوا في حيرة عظيمة.

أقول: وهذا ليس بشيء، لأن الإيمان إن كان مجرّد الإقرار باللسان، فليس بنور، وإن كان العرفان الحقيقي الحاصل بالبرهان، فليس بقابل للزوال.

والثاني: بما ذكره الحسن: وهو انهم لما أظهروا الإسلام فقد ظفروا بحقن دمائهم، وسلامة أموالهم عن الغنيمة، وأولادهم عن السبي، وظفروا بغنائم الجهاد وسائر أحكام المسلمين، عدّ ذلك نوراً من أنوار الإيمان، ولمّا كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدائم قليل القدر، شبّههم بمستوقد النار الذي انتفع بضوءها قليلاً، ثمّ سلب ذلك، فدامت حيرته وحسرته للظلمة التي جاءت في أعقاب النار. وكان يسير انتفاعهم في الدنيا يشبه النور، وعظيم ضررهم في الآخرة يشبه الظلمة.

الثالث: أن يقال ليس وجه الشبه أن للمنافق نوراً، بل شبّه حاله في تحيّره وظلمته في القيامة، بحال المستوقد الذي زال نوره وبقي متحيّراً في طريقه المظلم.

الرابع: أنّه صار ما يظهره المنافق من كلمة الإيمان ممثّلاً بالنور، وذهابه هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنفاق، وإنّما سمّي مجرّد القول بتلك الكلمة نوراً، وإن كان القائل بها أظهر في تلك الساعة خلافها، لأنه قول حق في نفسه.

الخامس: أنّه سمّي إظهار الكلمة نوراً، لأنه يتزيّن به ظاهره، ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم، ثمّ إن الله ذهب بذلك النور، بهتْك ستر المنافق بتعريف نبيّه صلّى الله عليه وآله والمؤمنين حقيقة أمره، فيظهر له اسم النفاق، فبقي في ظلمة لا يبصر، إذ النور الذي كان قد زال بما كشف الله تعالى أمره.

السادس: إن المشبّه به هو مستوقِد نار لا يرضاها الله، فشبّه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار، لأن فتنتهم كانت قليلة البقاء، ألا ترى إلى قوله:

-8-


السابع: قال سعيد بن جبير: نزلت في اليهود وانتظارهم لخروج النبي صلّى الله عليه وآله، واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلمّا خرج كفروا به، فكان انتظارهم لخروجه صلّى الله عليه وآله كإيقاد النار، وكفرهم به بعد خروجه كزوال ذلك النور.

السؤال الثاني: إنّ الآية تقتضي تشبيه المثَل بالمثل، فما مثَل المنافقين ومثَل المستوقِد ناراً حتّى شبّه أحدهما بالآخر.

الجواب: إنّه قد استعير " المثَل " للقصّة أو الصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنّه قيل: " قصّتهم العجيبة كقصّة الذي استوقد ناراً ". وكذا قوله:


والمعنى: وصفهم وشأنهم المتعجّب كحال من استوقد ناراً.

السؤال الثالث: كيف مثّلت الجماعة بالواحد؟

والجواب عنه بوجوه:

أحدها: إنّه يجوز وضع " الذي " موضع " الذين " كقوله:


إن جعل مرجع الضمير في قوله: { بِنُورِهم } وإنّما جاز ذلك ولم يجز وضع " القائم " موضع " القائمين " ، لكون " الذي " وصلة إلى ما بعده من الجملة التي هي صلَته، فلا قصْد إلى مطابقته بالموصوف جمعاً وإفراداً، ولكثرة وقوعه في كلامهم، وكونه مستطالاً بصلته استحقّ التخفيف، ولذلك بولِغ فيه، فحذف ياؤه ثمّ كسْرته، ثمّ اقتصر على " اللام " في أسماء الفاعلين والمفعولين، ولأنّه ليس باسم تامّ، بل هو كجزء منه، فحقّه أن لا يجمع، كما لا تجمع اخواتها وليس " الذين " جمعه المصحّح، بل ذو زيادة زيدت لزيادة المعنى، ولذلك جاء بالياء أبداً على اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل.

الثاني: إنّ المراد جنس المستوقِدين: أو بتأويل الجمع، أو الرهْط الذي استوقَد ناراً.

الثالث: إنّ المراد من " مثَلهم " ، مثَل كلّ واحد منهم، كقوله تعالى:


أي نُخرج كلّ واحد منكم.

الرابع:- وهو الأصوب والأقوى - إنّ التشبيه وقع بين القصّة والقصّة، لا بين الذوات والذوات. وهذا كما قال تعالى:


السؤال الرابع ما الوَقود؟ وما النار؟ وما الإضاءَة؟ وما النور؟ وما الظلمة؟.

الجواب: وَقود النار سطوعها وارتفاع لهبها. والنار جوهرٌ لطيف، مضيءٌ، محرقٌ، حارٌّ، واشتقاقها من " نار، ينور " إذا نفر، لأن فيها حركة واضطراباً.

والنور: مشتقٌ منها، وهو ضوءها. والمنار: العلامة. والمنارة: هي الشي الذي يؤذّن عليه. ويقال أيضاً لما يوضع السراج عليه. ومنها النورة، لأنها تظهر البدن.

والإضاءة: هي فرط الإنارة، ومصداقه قوله تعالى:


والظُلمَة: عدم النور عمّا من شأنه أن يستنير. والظلْم في أصل اللغة بمعنى النقصان.

-9-

قال تعالى:


أي: لم تنقص. وفي المَثل: " مَن أشبه أباه فما ظلَم " ، أي ما نقص حقّ الشَبَه. والظلْم: الثلْج، لأنّه ينقص بسرعة. والظلْم: ماء السن وطراوته وبياضه تشبيهاً له بالثلْج. قال ابن الفارض:

عليكَ بها صرفاً وإن شئت مزجَهافعدلُك عن ظلم الحبيب هو الظلْم

و { أَضَاءَتْ } ، يجوز كونها متعدّية ولازمة، والأقرب هٰهنا هو الأول، وعلى الثاني تكون مستندة إلى: " مَا حَولَه " ، والتأنيث، للحمل على المعنى، لأنّ ما حَول المستوقِد أماكن وأشياء. ويعضده قراءة ابن عبلة " ضَاءَتْ ".

ويجوز إسنادها إلى ضمير: " النار " ، وتكون: " مَا " موصولة منصوبة على الظرفية، أو مزيدة، و " حولَه " ظرفاً.

والحَوْلُ: الدور المتّصل. وتأليفه للدوران. وقيل للسَنة: حَول. لأنّها تدور. والحَوالة: إنقلاب الحقّ من شخص إلى آخر. والحَوَل: إنقلاب العيْن. والمحاولة: طلب الفعل بعد أن لم يكن طالبا له.

وقوله: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } جواب " لمّا " ، والضمير للذي، وإنّما جمع حملاً على المعنى، ولم يقل: " ذّهب الله بنارِهم " ، لكون النور هو المراد من ايقادها.

ويحتمل أن يكون الجواب محذوفاً كما في قوله:


لاستطالة الكلام مع أمن الالتباس للدلالة عليه، كأنه قيل: فلما أضاءت ما حولَه خمدت فبقوا خابطين في ظلام، متحيّرين متحسّرين على فوت الضوء، خائبين بعد الكدح في إحياء النار.

وعلى هذا يكون: { ذَهَبَ ٱللَّهُ } كلاماً مستأنفاً أجيب به اعتراض سائل: " ما بالهم شبّهت حالهم بحال مستوقِد انطفت ناره؟ " ، أو يكون بَدَلاً من جملة التمثيل على سبيل البيان؛ والضمير على هٰذين الوجهين، للمنافقين، وعلى الأول، للموصول، لكونه في معنى الجمع، وأما توحيده في: { حولِه } فللحمل على اللفظ.

السؤال الخامس: هلاَّ قيل: " ذهب الله بضوئهم " لقوله: { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ }.

الجواب: هذا أبلغ، إذ في الضوء زيادة، والغرض إزالة النور بالكلّية، ونفي الأشد لا يوجب نفي الأضعف، أوَ لا ترى كيف عقّبه بقوله: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } والظلْمة عدم النور وانطماسه بالكلّية، وقد جمعت ونكّرت ثمّ اتبعت زيادة في التأكيد بقوله: { لاَّ يُبْصِرُونَ }.

تنبيهٌ:

إسناد الإذهاب إلى الله تعالى؛ أمّا في الممثّل له: فلأنّ الكلّ واقعٌ بقضائه وقدَره، أو لأنّ الاطفاء وقع بسبب أمر خفي، أو أمر سماوي كريح أو مطَر.

وأمّا في الممثّل: فقد علمت ممّا ذكر، أن ذهاب أنوار الحسّ والخيال والوهم وسائر القوى من النفس الغير المنوّرة بنور الإيمان، أمرٌ ضروري حاصل عند الموت بقضاء الله - لا صُنع لأحد غيره فيه -، ولهذا قال: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِم } ، ولم يقل: " أذهَبَ الله نورَهم " ، لما في الأول من الاستصحاب والاستمساك.

-10-

كما في قوله تعالى:


يقال: " ذهب السلطان بماله " إذا أخذه وأمسكه، " وما يمسك الله فلا مرسل له " ، فهو أبلغ من الإذهاب. وفيه سترٌّ آخر.

وقرء اليماني: " أذهبَ الله نورهم ".

و " تَرَكَ " في الأصل، بمعنى طرح وخلّى، وله مفعول واحد، وإذا ضمّن معنى " صيّر " علّق بشيئين فجرى مجرى أفعال القلوب. ومنه قوله { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ } أصله: " هم في ظلمات " ثم دخل " ترَكَ " فنصبهما.

ومفعول: { لاَّ يُبْصِرُونَ } ، من قبيل المتروك المطرَّح، لا من قبيل المقدّر المنويّ، إذ الغرض سلب الإبصار، لا سلب تعلّقه بشيء، كما في قوله:


تذكرة فيها تبصرة

قد علمت تباين المسلكين في تحقيق الآية، وتفارقهما في تبيينها من حمل الألفاظ في أحدهما على الحقيقة الباطنيّة، وفي الآخر إمّا على التجوّز أو الاستعارة. وكذلك قالوا جرياً على طريقتهم في قوله تعالى: { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } ، إنّه لمّا كان المعلوم من حالهم أنّهم كانوا يسمعون وينطقون ويبصرون، امتنع حمل الآية على الحقيقة، فلم يبق إلا تشبيه حالهم - لشدة تمسّكهم بالعناد، وإعراضهم عمّا يطرق سمْعهم من القرآن، وما يظهره الرسول صلّى الله عليه وآله من الأدلّة والآيات - كمن هو أصمٌّ في الحقيقة، فلا يسمع، وإذا لم يسمع لم يتمكن من الجواب، فلذلك جعلَه بمنزلة الأبكم، وإذا لم ينتفع بالأدلّة، ولم يبصر طريق الرشد، فهو بمنزلة الأعمى، فحملوا هذه الألفاظ الثلاثة في حقّهم على المجاز والتشبيه لحالهم بحال من أيفت مشاعره وانتفتْ قواه كقوله:

صمٌّ إذا سمعوا خيراً ذُكرت بهوإن ذُكرت بسوء عندهم أذُنٌ

وكانت على طريقة قولهم: " هم ليوثٌ " للشجعان، " وهم بحورٌ " للأسخياء؛ وما حملوها على الحقيقة لكونهم مسلوبي القوى والمشاعر الأخروية التي هذه المشاعر الدنيوية قشورها وظواهرها، فإن للنفس في ذاتها سمعاً وبصراً ونطقاً وغير ذلك، أوَلا ترى أنّ الإنسان عند نومه - الذي هو أخو موته - يسمع ويبصر وينطق.

والمسلوب عن الكفّار والمنافقين، هو مشاعر الآخرة، لأنّ وجودها تابعةٌ لوجود العقل المنوّر بنور الإيمان كما مرّ.

ثم اختلفوا في أن إطلاقها عليهم استعارة أو تشبيهٌ بليغٌ، فالمحققون منهم على أنه تشبيهٌ بليغ وليس باستعارة، لأنّ من شرطها أن يطوى ذكر المستعار له بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لولا القرينة، كقول زهير:

لدى أسد شاكي السلاح مقذّفله لبدٌ أظفاره لم تقلّم

ومن ثمّة ترى المفلّقين السحرة منهم يتناسبون التشبيه، ويضربون عن توهّمه صفحاً، كما قال أبو تمام:

ويصعد حتى يظنّ الجَهولبأنّ له حاجة في السماء

وها هنا - وإن طوي ذكره - لكنّه في حكم المنطوق به، ونظيره:

أسدٌ عليَّ وفي الحروب نعامةٌفتخاء تنفر من صفير الصافر

وقيل: هذا إذا جعل الضمير للمنافقين على أن الآية فذلكةُ للتمثيل ونتيجةٌ له، وإن جُعل للمستوقدين، فهي على حقيقتها، والمعنى: أنّهم لمّا أوقدوا ناراً، ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات هائلة أدهشتهم بحيث اختلّت حواسّهم وانقضت قواهم.

وقرئت الثلاثة بالنصب على الحال من مفعول تركهم.

-11-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #40  
قديم 12-18-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ) مصنف و مدقق 1-7

تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ) مصنف و مدقق 1-7

{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }


يريد الحق سبحانه وتعالى أن يقرب صفات التمزق في المنافقين إلى فهمنا، ولذلك فهو يضرب لنا الأمثال، والأمثال جمع مثل وهو الشبيه الذي يقرب لنا المعنى ويعطينا الحكمة، والأمثال باب من الأبواب العريقة في الأدب العربي. فالمثل أن تأتي بالشيء الذي حدث وقيل فيه قولة موجزة ومعبرة، رأى الناس أن يأخذوا هذه المقولة لكل حالة مشابهة.

ولنضرب مثلا لذلك، ملك من الملوك، أراد أن يخطب فتاة من فتيات العرب، فأرسل خاطبة اسمها عصام لِترى هذه العروس وتسأل عنها وتخبره، فلما عادت قال لها ما وراءك يا عصام؟ أي بماذا جئت من أخبار، قالت: له أبدي المخض عن الزبد. المخض هو أن تأتي باللبن الحليب وتخضه في القربة حتى ينفصل الزبد عن اللبن، فصار الاثنان ـ السؤال والجواب ـ يضربان مثلا. تأتي لمن يجيئك تنتظر منه أخبارا فتقول له: ما وراءك يا عصام.

ولا يكون اسمه " عصام ".. ولم ترسله لاستطلاع أخبار، بينما تريد أن تسمع ما عنده من أخبار.

وحينما تريد مثلا.. أن تصور تنافر القلوب.. وكيف أنها إذا تنافرت لا تلتئم أبدا.. ويريد الشاعر أن يقرب هذا المعنى فيقول:

إن القلوب إذا تنافر ودهامثل الزجاجة كسرها لا يشعب (أي لا يجبر)


وساعة تنكسر الزجاجة لا تستطيع اصلاحها.. ولكي يسهل هذا المعنى عليك وتفهمه في يسر وسهولة.. فإنك لا تستطيع أن تصور أو تشاهد معركة بين قلبين.. لأن هذه مسألة غيبية.. فتأتي بشيء مشاهد وتضرب به المثل.. وبذلك يكون المعنى قد قرب.. لأنك شبهته بشيء محسوس.. تستطيع أن تفهمه وتشاهده..

ولقد استخدم الله سبحانه وتعالى الأمثال في القرآن الكريم في أكثر من موضع.. ليقترب من أذهاننا معنى الغيبيات التي لا نعرفها ولا نشاهدها.. ولذلك ضرب لنا الأمثال في قمة الإيمان.. وحدانية الله سبحانه وتعالى.. وضرب لنا المثل بنوره جل جلاله.. الذي لا نشهده وهو غيب عنا.. وضرب لنا الأمثال بالنسبة للكفار والمنافقين.. لنعرف فساد عقيدتهم ونتنبه لها.. وضرب لنا الأمثال فيما يمكن أن يفعله الكفر بالنعمة.. والطغيان في الحق.. وغير ذلك من الأمثال.. قال الله تعالى:


وقد ضرب الله جل جلاله لنا الأمثال في الدنيا وفي الآخرة، وفي دقة الخلق.. وقمة الإيمان.. ومع ذلك فإن الناس منصرفون عن حكمة هذه الأمثال.. كافرون بها.. مع أن الحق تبارك وتعالى.. ضربها لنا لتقرب لنا المعنى.
-1-

. تشبيها بماديات نراها في حياتنا الدنيا.. وكان المفروض أن تزيد هذه الأمثال الناس إيمانا.. لأنها تقرب لهم معاني غائبة عنهم.. ولكنهم بدلا من ذلك ازدادوا كفرا!!

ولابد قبل أن نتعرض للآية الكريمة: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }.. أن نتحدث عن بعض الأمثال التي ضُربت في القرآن الكريم.. لنرى كيف أن الله سبحانه وتعالى حدثنا عن قضايا غيبية بمحسات دنيوية:

ضرب الله تبارك وتعالى لنا مثلا بالقمة الإيمانية.. وهي أنه لا إله إلا الله.. وكيف أن هذه رحمة من الله سبحانه وتعالى.. يجب أن نسجد له شكرا عليها.. لأن فيها وقاية لنا من شقاء.. ومع ذلك فإن الله تبارك وتعالى يريد بعباده الرحمة، ولكن بعض الناس يريد أن يشقي نفسه فيشرك بالله جل جلاله.. وبدلا من أن يأخذ طريق الإيمان الميسر.. يأخذ طريق الكفر والنفاق والشرك بالله الذي يملك كل شيء في الدنيا والآخرة.. يقول الحق جل جلاله:


بهذه الصورة المحسة التي نراها.. ولا يختلف فيها اثنان.. يريد الله تبارك وتعالى أن يقرب إلى أذهاننا صورة العابد لله وحده، وصورة المشرك بالله.. ويعطينا المثل في عبد مملوك لشركاء.. رجل مملوك لعشرة مثلا.. وليس هؤلاء الشركاء العشرة متفقين.. بل هم متشاكسون أي أنهم مختلفون.. ورجل آخر مملوك لسيد واحد.. أيهما يكون مستريحا يعيش في رحمة؟.. طبعا المملوك لسيد واحد في نعمة ورحمة.. لأنه يتبع أمرا واحدا ونهيا واحدا.. ويطيع ربا واحدا.. ويطلب رضا سيد واحد.. أما ذلك الذي يملكه شركاء حتى لو كانوا متفقين.. فسيكون لكل واحد منهم أمر ونهي.. ولكل واحد منهم طلب.. فما بالك إذا كانوا مختلفين؟ أحد الشركاء يقول له تعالَ.. والآخر يقول له لا تأت، وأحد الشركاء يأمره بأمر، والآخر يأمره بأمر مناقض.. ويحتار أيهما يرضي وأيهما يغضب؟.. وهكذا تكون حياته شقاء وتناقضا..

إن الله سبحانه وتعالى يريد أن يقرب لنا الصورة.. في قضية هي قمة اليقين.. وهي الإيمان بالواحد الأحد.. يريدنا أن نلمس هذه الصورة.. بمثل نراه ونشهده.. وأن نرى فيض الله برحمته على عباده.. ويمضي الحق سبحانه ليلفتنا إلى أن نفكر قليلا في مثل يضربه لنا في القرآن الكريم:

{ وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [النحل16: 76]
-2-

فالحق تبارك وتعالى في هذه الآية الكريمة.. يطلب منا أن نفكر في مثل مادي محسوس.. أيهما خير؟.. أذلك الصنم الذي يعبده الكفار وهو لا يأتي لهم بخير أبدا.. لأنه لا يستطيع أن ينفع نفسه فكيف يأتي بالخير لغيره.. بل هو عبء على من يتخذونه إلها.. فإنهم يجب أن يضعوه وأن يحملوه من مكان إلى آخر إذا أرادوا تغيير المعبد أو الرحيل.. وإذا سقط فتهشمت أجزاء منه.. فإنه يجب أن يصلحوها..

إذن فزيادة على أنه يأتي لهم بخير.. فإنه عبء عليهم يكلفهم مشقة.. ويحتاج منهم إلى عناية ورعاية..

أعبادة مثل هذا الصنم خير؟ أم عبادة الله سبحانه الذي منه كل الخير وكل النعم.. والذي يأمر بالعدل.. فلا يفضل أحدا من عباده على أحد.. والذي يعطي لعباده الصراط المستقيم.. الذي لا اعوجاج فيه.. والموصل إلى الجنة في الآخرة.. إن الله سبحانه وتعالى يشرح بهذا المثل غباء فكر المشركين الذين يعبدون الأصنام ويتركون عبادة الله تبارك وتعالى.

وهكذا يعطينا هذان المثلان توضيحا لقضية الوحدانية والألوهية.. ثم يأتي الله سبحانه وتعالى بمثل آخر.. يضرب لنا مثلا لنوره.. هذا النور الإلهي الذي يضيء الدنيا والآخرة.. فيضيء القلوب المؤمنة.. إنه يريد أن يضرب لنا مثلا لهذا النور بشيء مادي محس.. فيقول جل جلاله:

{ ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ٱلْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ٱلزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيۤءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ وَيَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } [النور24: 35]


كأن الله سبحانه وتعالى.. يريدنا أن نعرف بتشبيه محس.. أن مثل نوره كمشكاة.. والمشكاة هي (الطاقة).. وهي فجوة في الحائط بالبيت الريفي.. ونحن نضع المصباح في هذه الطاقة.. إذن المصباح ليس في الحجرة كلها.. ولكن نوره مركز في هذه الطاقة فيكون قويا في هذا الحيز الضيق.. ولكن المصباح في زجاجة.. تحفظه من الهواء من كل جانب.. فيكون الضوء أقوى.. صافيا لا دخان فيه.. كما أن الزجاج يعكس الأشعة فيزيد تركيزه.. والزجاجة غير عادية ولكنها: " كوكب دري ".. أي هي مضيئة بذاتها وكأنها كوكب.. ووقودها من شجرة مباركة يملؤها النور لا شرقية ولا غربية.. أي يملؤها النور من الوسط ويخرج صافيا.. والزيت مضيء بذاته دون أن تَمَسَّهُ النار.. فهي نور على نور.. أيكون جزء من هذه المشكاة ذات المساحة الصغيرة مظلما؟.
-3-

. أم تكون كلها مليئة بالنور القوي؟.

وهذا ليس نور الله تبارك وتعالى عن التشبيه والوصف، ولكنه مثل فقط للتقريب إلى الأذهان.. فكأن نور الله يضيء كل ركن وكل بقعة.. ولا يترك مكانا مظلما.. فهو نور على نور..

ولقد أراد أحد الشعراء أن يمدح الخليفة وكانت العادة أن يشبه الخليفة.. بالأشخاص البارزين ذوي الصفات الحسنة.. فقال:

إقدام عمرو في سماحة حاتمفي حلم أحنف في ذكاء إياس


وكل هؤلاء الذين ضرب بهم الشاعر المثل كانوا مشهورين بهذه الصفات.. فعمرو كان مشهورا بالإقدام والشجاعة.. وحاتم كان مشهور بالسماحة.. وأحنف يضرب به المثل في الحلم.. وإياس شعلة في الذكاء.. وهنا قام أحد الحاضرين وقال: الأمير أكبر من كل شيء ممن شبهته بهم.. فقال أبو تمام على الفور:

لا تنكروا ضَرْبي لَه مَنْ دُونَهُمثلاً شَرُوداً في النَّدَى والباسِ
فاللهُ قَدْ ضَربَ الأقلَّ لنـورهمثلاً من المِشْـكَاةِ والنّبْراسِ


فأعجب أحمد بن المعتصم والحاضرون من ذكائه وأمر بأن تضاعف جائزته. والله سبحانه وتعالى.. يضرب لنا المثل بما سيشهده المؤمنون في الجنة.. فيقول جل جلاله:


هذه ليست الجنة.. ولكن هذا مثل يقرب الله سبحانه وتعالى لنا به الصورة بأشياء موجودة في حياتنا.. لأنه لا يمكن لعقول البشر أن تستوعب أكثر من هذا.. والجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. ومن هنا فإنه لا توجد أسماء في الحياة تعبر عما في الجنة.. واقرأ قوله تعالى:

{ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [السجدة32: 17]


فإذا كانت النفس لا تعلم.. فلا توجد ألفاظ تعبر عما يوجد في الجنة.. والمثل متى شاع استعماله بين الناس سمي مثلا.. فأنت إذا رأيت شخصا مغترا بقوته.. وتريد أن تفهمه أنك أقوى منه تقول له.. إن كنت ريحا فقد لاقيت إعصارا.. ولا توجد ريح ولا إعصار فيما يحدث بينكما.. وإنما المراد المعنى دون التقيد بمدلول الألفاظ.

فالحق سبحانه وتعالى.. يريد أن يعطينا صورة.. عما في داخل قلوب المنافقين.. من اضطراب وذبذبة وتردد في استقبال منهج الله.. وفي الوقت نفسه ما يجري في القلوب غيب عنا.. وأراد الله أن يقرب هذا المعنى إلينا.. فقال: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً }.. أي حاول أن يوقد نارا.. والذي يحاول أن يوقد نارا.
-4-

. لابد أن له هدفا.. والهدف قد يكون الدفء وقد يكون الطهي.. وقد يكون الضوء وقد يكون غير ذلك.. المهم أن يكون هناك هدف لإيقاد النار..

يقول الحق سبحانه وتعالى: { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }.. ذلك أنهم في الحيرة التي تملأ قلوبهم.. كانوا قد سمعوا من اليهود أن زمن نبي جديد قد أتى.. فقرروا أن يؤمنوا به.. ولكن إيمانهم لم يكن عن رغبة في الإيمان.. ولكنه كان عن محاولة للحصول على أمان دنيوي.. لأن اليهود كانوا يتوعدونهم ويقولون أتى زمن نبي سنؤمن به ونقتلكم به قتل عاد وإرم.. فأراد هؤلاء المنافقون أن يتقوا هذا القتل الذي يتوعدهم به اليهود.. فتصوروا أنهم إذا أعلنوا أنهم آمنوا بهذا النبي نفاقا أن يحصلوا على الأمن..

إن الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة.. إنهم أوقدوا هذه النار.. لتعطيهم نورا يريهم طريق الإيمان.. وعندما جاء هذا النور بدلا من أن يأخذوا نور الإيمان انصرفوا عنه.. وعندما حدث ذلك ذهب الله بنورهم.. فلم يبق في قلوبهم شيء من نور الإيمان.. فهم الذين طلبوا نور الإيمان أولا.. فلما استجاب الله لهم انصرفوا عنه.. فكأن الفساد في ذاتهم.. وكأنهم هم الذين بدأوا بالفساد.. وساعة فعلوا ذلك ذهب الله بنور الإيمان من قلوبهم.

ونلاحظ هنا دقة التعبير القرآني.. في قوله تعالى: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ } ولم يقل ذهب الله بضوئهم.. مع أنهم أوقدوا النار ليحصلوا على الضوء.. ما هو الفرق بين الضوء والنور؟.. إذا قرأنا قول الحق سبحانه وتعالى:

{ هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [يونس10: 5]


نجد أن الضوء أقوى من النور.. والضوء لا يأتي إلا من إشعاع ذاتي.. فالشمس ذاتية الإضاءة.. ولكن القمر يستقبل الضوء ويعكس النور.. وقبل أن تشرق الشمس تجد في الكون نورا.. ولكن الضوء يأتي بعد شروق الشمس.. فلو أن الحق تبارك وتعالى قال ذهب الله بضوئهم.. لكان المعنى أنه سبحانه ذهب بما يعكس النور.. ولكنه أبقى لهم النور.. ولكن قوله تعالى: { ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ }.. معناها أنه لم يبق لهم ضوءا ولا نورا.. فكأن قلوبهم يملؤها الظلام.. ولذلك قال الله بعدها؛ { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }.. لنعلم أنه لا يوجد في قلوبهم أي نور ولا ضوء إيماني.. كل هذا حدث بظلمهم هم وانصرافهم عن نور الله.

ونلاحظ هنا أن الحق سبحانه وتعالى.. لم يقل وتركهم في ظلام.. بل قال: " في ظلمات ".. أي أنها ظلمات متراكمة.
-5-

. ظلمات مركبة لا يستطيعون الخروج منها أبدا..

من أين جاءت هذه الظلمات؟.. جاءت لأنهم طلبوا الدنيا ولم يطلبوا الآخرة.. وعندما جاءهم نور الإيمان انصرفوا عنه فصرف الله قلوبهم..

مثلا إذا أخذنا قصة زعيم المنافقين عبد الله بن أُبَيِّ، نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المدينة وأهلها يستعدون لتتويج عبد الله بن أبي ملكا عليها.. وعندما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف الناس عن عبد الله بن أبي إلى استقبال الرسول عليه الصلاة والسلام.. فوصول الرسول عليه الصلاة والسلام ضيع على عبد الله بن أبي الْمُلْك.. ولقد كان من الممكن أن يؤمن.. وأن يلتمس النور من رسول الله صلى الله عليه وسلم.. ولو آمن حينئذ ربما أعطى في الآخرة ملكا دائما.. يفوق الملك الذي كان سيحصل عليه في الدنيا.. ولكن لأن في قلبه الدنيا وليس الدين.. ولأنه يريد رفعة في الدنيا.. ولا يريد جنة في الآخرة، فقد ملأ الحقد قلبه فكان ظلمة.. وملأ الحسد قلبه فكان ظلمة.. وملأت الحسرة قلبه فكانت ظلمة.. وملأت الكراهية والبغضاء قلبه فكانت ظلمة.. إذن هي ظلمات متعددة..

وهكذا في قلب كل منافق ظلمات متعددة.. ظلمة الحقد على المؤمنين وظلمة الكراهية لهم.. وظلمة تمني هزيمة الإيمان.. وظلمة تمني أن يصيبهم سوء وشر.. وظلمة التمزق والألم من الجهد الذي يبذله للتظاهر بالإيمان وفي قلوبهم الكفر.. كل هذه ظلمات.. ولكن لا تحاول أن تأخذها بمقاييس عقلك.. والمفروض أن المثل هنا لتقريب المعنى.. لأنك إذا قرأت قول الحق سبحانه وتعالى:


كيف يكون الحجاب مستورا؟.. مع أن الحجاب هو الساتر الذي يستر شيئا عن شيء.. ولكن الحق سبحانه وتعالى يريدنا أن نفهم.. أنه برغم أن الحجاب يستر شيئا عن شيء، فإن الحجاب نفسه مستور لا نراه.. وبعض العلماء يقولون: إن مستورا اسم مفعول.. وهو في معنى اسم الفاعل ساتر.. نقول لا.. واقرأ قوله تبارك وتعالى:

{ جَنَّاتِ عَدْنٍ ٱلَّتِي وَعَدَ ٱلرَّحْمَـٰنُ عِبَادَهُ بِٱلْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [مريم19: 61]


مأتيا اسم مفعول واسم الفاعل آتى.. ويقول البعض وضع اسم المفعول مكان اسم الفاعل.. نقول أنك لم تفهم.. هل وعد الله يلح في طلب العبد.. أم أن العبد يلح في طلبه بعمله فكأنه ذاهب إليه.. والموعود هو المستفيد وليس الوعد.. إذن من دقة القرآن الكريم.. أنه يريد أن ينبهنا إلى أن الموعود هو الذي يسعى للقاء الوعد.. وليس الوعد هو الذي يطلب لقاء الموعود فيستخدم اسم الفاعل.
-6-

فحين يقول الحق سبحانه وتعالى: { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }.. نفى النور عنهم.. والنور لا علاقة له بالسمع ولا بالشم ولا باللمس.. ولكنه قانون البصر..

وانظر إلى دقة التعبير القرآني.. إذا امتنع النور امتنع البصر.. أي أن العين لا تبصر بذاتها.. ولكنها تبصر بانعكاس النور على الأشياء ثم انعكاسه على العين..

واقرأ قوله تعالى:

{ وَجَعَلْنَا ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلْلَّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } [الإسراء17: 12]


فكأن الذي يجعل العين تبصر هو الضوء أو النور.. فإذا ضاع النور ضاع الإبصار.. ولذلك فأنت لا تبصر الأشياء في الظلام.. وهذه معجزة قرآنية اكتشفها العلم بعد نزول القرآن.
-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:18 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.