إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>    دورة البادل، كانت فكرة وبالجهد نجحت  آخر رد: الياسمينا    <::>    لاونج بموقع مميز ودخل ممتاز للتقبيل في جدة حي الخالدية  آخر رد: الياسمينا    <::>    تورست لايجار السيارات والليموزين في مصر  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي تحاضر عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإر...  آخر رد: الياسمينا    <::>    مساعدة عائلة محاصرة في قطاع غزة يواجهون مخاطر الموت  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > المنتدى الفكري

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #21  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي زكاة الثروة التجارية - مقدمة

مقدمة

أباح الله للمسلمين أن يشتغلوا بالتجارة ويكسبوا منها، بشرط ألا يتجروا في سلعة محرمة ولا يهملوا العنصر الأخلاقي في معاملاتهم، من الأمانة والصدق والنصح، ولا تلهيهم مشاغل التجارة ومكاسبها عن ذكر الله وأداء حقه سبحانه (انظر في ذلك: كتابنا "الحلال والحرام" فصل "الكسب والاحتراف").
وقد عرفنا من الفصل الماضي، كيف فرض الإسلام زكاة سنوية (2.5بالمائة) على أصحاب النقود يطهرهم ويزكيهم بها، كما يطهر أموالهم ويزكيها وعرفنا من حكمة فرض هذه الزكاة: أن الشارع جعلها دافعًا قويًا، يسوق أصحاب النقود سوقًا حثيثًا، إلى استغلال أموالهم وتثميرها في كل عمل حلال، وكسب مشروع وبذلك ينجون من إثم الكانزين الذين يحبسون نقودهم عن التداول، ويعطلونها عن العمل في ميدان التثمير، كما تفيدهم هذه التنمية في إنقاذ أموالهم من أن تأكلها الزكاة بمرور الأعوام.
والتجارة من أنواع هذا الكسب المشروع ولهذا جاءت الآثار التي ذكرنا من قبل، آمرة بالاتجار في أموال اليتامى خاصة حتى لا تأكلها الزكاة.
فلا عجب أن تتحول طائفة غير قليلة من ثروات الأمة إلى التجارة، بمختلف أنواعها وفروعها وأن تصبح التجارة مصدرًا هائلاً لكسب المال وتنميته وأن يوجد بين التجار من يملك من السلع والبضائع ما يُقدَّر بالألوف والملايين.
ولا عجب أيضًا أن يفرض الإسلام في هذه الثروات، المستغلة في التجارة، والمكتسبة منها: زكاة سنوية، كزكاة النقود، شكرًا لنعمته تعالى، ووفاءً بحق ذوي الحاجة من عباده، مساهمة في المصالح العامة للدين والدولة، كما هو الشأن في كل زكاة.
ومن هنا عنى الفقه الإسلامي ببيان أحكام هذه الزكاة، ليكون التاجر المسلم على بيِّنة مما تجب فيه الزكاة من ماله، وما يعفى عنه.
ويسمى الفقهاء الثروة التجارية: "عروض التجارة " (العروض: جمع "عَرْض" بفتح العين وسكون الراء، وهو - كما في التاج-: ما خالف النقدين من متاع الدنيا وأثاثها، بخلاف العَرَض - بفتحتين - فهو حطام الدنيا ومتاعها قال الإمام النووي: مال التجارة: كل ما قصد الاتجار فيه عند اكتساب الملك بمعاوضة محضة "يعني معاوضة مالية" قال: وتفصيل هذه القيود: أن مجرد نية التجارة لا تصير المال مال تجارة، فلو كان له عرض قنية ملكه بشراء أو غيره، فجعله للتجارة "أي نوى به ذلك" لم يصر، على الصحيح الذي قطع به الجماهير "من الشافعية" وقال الكرابيسي من أصحابنا: يصير وأما إذا اقترنت نية التجارة بالشراء، فإن المشتري يصير مال تجارة ويدخل في الحول، سواء اشترى بعرض أو نقد، أو دين، حال أو مؤجل، وإذا ثبت حكم التجارة لا تحتاج كل معاملة إلى نية جديدة، ومعنى هذا: أنه يُعَد تاجرًا منذ أول سلعة يشتريها بنية التجارة.
أما لو كان له ما يقتنيه من متاع في بيته أو دابة يركبها أو نحو ذلك فنوى أن يتاجر بها، ويبيعها لذلك فلا تكفي هذه النية حتى يبيعها بالفعل ويقبض ثمنها ويبدأ من وقتها اعتبار التجارة) ويعنون بها: كل ما عدا النقدين مما يُعَد للتجارة من المال، على اختلاف أنواعه، مما يشمل الآلات والأمتعة والثياب والمأكولات، والحلي والجواهر، والحيوانات، والنباتات، والأرض والدور، وغيرها من العقارات والمنقولات.
وعرَّف بعضهم عروض التجارة تعريفًا دقيقًا فقال: هي ما يُعَد للبيع والشراء بقصد الربح (مطالب أولي النهى: 2/96).
فمن مَلَك منها شيئًا للتجارة وحال عليه الحَوْل، وبلغت قيمته نصابًا من النقود في آخر الحَوْل، وجب عليه إخراج زكاته، وهو ربع عُشر قيمته أي 2.5بالمائة كزكاة النقود، فهي ضريبة على رأس المال المتداول وربحه، لا على الربح وحده وسنفصِّل أحكام هذا الفصل في المباحث التالية:
المبحث الأول: في أدلة وجوب الزكاة في التجارة.
المبحث الثاني: في شبهات المخالفين من الظاهرية والإمامية والرد عليهما.
المبحث الثالث: في شروط زكاة التجارة.
المبحث الرابع: كيف يزكي التاجر ثروته التجارية.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #22  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي أدلة وجوب زكاة التجارة

أدلة وجوب زكاة التجارة


يستند القول بوجوب الزكاة في عروض التجارة إلى ما يأتي:

أولاً من القرآن
قوله تعالى: (يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرْضِ) (البقرة: 267) قال الإمام البخاري في كتاب "الزكاة" في صحيحه (الجزء الثاني ص143- طبع الشعب) باب "صدقة الكسب والتجارة " : لقوله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ).
وقال الإمام الطبري في تفسير الآية: يعني بذلك جلَّ ثناؤه: زكوا من طيب ما كسبتم بتصرفكم، إما بتجارة، أو بصناعة، من الذهب والفضة وروي من عدة طرق عن مجاهد في قوله: (مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) قال: من التجارة اهـ (تفسير الطبري: 5/555،556 بتحقيق ومراجعة الشيخين: أحمد ومحمود شاكر).
وقال الإمام الجصاص في أحكام القرآن: قد روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى: (أنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) أنه من التجارات، منهم الحسن ومجاهد وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال؛ لأن قوله تعالى: (مَا كَسَبْتُمْ) ينتظمها (أحكام القرآن للجصاص: 1/543).
وقال الإمام أبو بكر بن العربي: قال علماؤنا: قوله تعالى: (مَا كَسَبْتُمْ) يعني التجارة، (وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرْضِ)(البقرة:267 يعني النبات).
وتحقيق هذا أن الأكساب (جمع كسب) على قسمين: منها ما يكون من بطن الأرض وهو النباتات كلها، ومنها ما يكون من المحاولة على وجه الأرض كالتجارة والنتاج والمناورة في بلاد العدو، والاصطياد، فأمر الله تعالى الأغنياء من عباده، بأن يؤتوا الفقراء مما آتاهم على الوجه الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحكام القرآن: 1/235).
وقال الإمام الرازي: ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان، فيدخل فيه زكاة التجارة، وزكاة الذهب والفضة، وزكاة النعم، لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب اهـ (التفسير الكبير للرازي: 2/65).
ومما يؤيد ذلك قوله تعالى في أبي لهب: (مَا أغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)(المسد:2) فـ"ماله" هو ما ورثه عن أبيه، و "ما كسب": هو الذي جمعه من التجارة.
هذا فضلاً عن عموم الآيات الأخرى التي أوجبت في كل مال حقًا، مثل قوله تعالى: (وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَائِلِ وَالمَحْرُومِ)(الذاريات: 19) (وَالَّذِينَ فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلومٌ لِّلسَائِلِ وَالمَحْرُومِ)(المعارج: 24-25) (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا)(التوبة:103).
ولم يأت دليل من كتاب ولا سُنَّة يعفي أموال تجار المسلمين من هذا الحق المعلوم الذي بإخراجه يتطهر المسلم ويتزكى.
قال ابن العربي: قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) عام في كل مال على اختلاف أصنافه وتباين أسمائه، واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه بشيء فعليه الدليل (شرح الترمذي: 3/104).
بل ذهب بعض العرب وهم دَوس - قبيلة أبي هريرة - إلى أن المال: الثياب والمتاع والعروض، ولا تسمى العين المنقولة مالاً، وقد جاء هذا المعنى في السنة الثابتة من رواية مالك بسنده عن أبي هريرة قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبًا ولا وَرِقًا إلا الأموال: الثياب والمتاع (تفسير القرطبي: 8/245).

ثانيًا من السًنَّة
ومن السُنَّة ما رواه أبو داود بإسناده عن سمرة بن جندب، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نُخرج الصدقة مما نُعِدللبيع (الحديث رواه الدارقطني مطولاً ص214، وأبو داود من طريق جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه عن سمرة بن جندب؛ وسكت عنه أبو داود ثم المنذري "مختصر السنن: 2 : 175" قال ابن الهمام: وهو تحسين منهما، كما في المرقاة: 4/158- طبع ملتان وحسنه ابن عبد البر - كما في نصب الراية: 2/376، وقال الحافظ في بلوغ المرام (ص124): إسناده لين وطعن ابن حزم في إسناده بأن جعفر بن سعد وخبيب بن سليمان بن سمرة وأباه سليمان مجهولون لا يُعرف من هم قال الشيخ أحمد شاكر في هامش المحلي (5/234): بل هم معروفون ذكرهم ابن حبان في الثقات (أ.هـ) ونقل الذهبي عن ابن القطان قال: ما من هؤلاء من يُعرف حاله وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى من جملة أحاديث، وقال عبد الحق الأزدي: خبيب ضعيف وليس جعفر ممن يعتمد عليه وبكل حال، هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم "الميزان: 1/150").
والأمر يدل على الوجوب، لأن المفهوم من قوله: "يأمرنا" أنه ألقي إليهم ذلك بصيغة من صيغ الأمر وهي تدل على الوجوب كما أن المتبادر من كلمة "الصدقة" هو الزكاة فقد صحّت الأحاديث الكثيرة بتسميتها صدقة، وإذا عُرِّفت بــ"الـ" كما في الحديث، انصرف إلى اللفظ المعهود، وهو الزكاة وقول ابن حزم (المحلي: 5/234،235) إنه لو صح لكانت الصدقة فيه غير الزكاة، بعيد عن الظاهر المتبادر.
وروى الدارقطني عن أبي ذر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته"(رواه الدارقطني في سننه (2/101) كما رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي (1/388) إلا أنه قال: "وفي البُر" بالراء وضم الباء (أي القمح) لا بالزاي المعجمة وهو كذلك في مسند أحمد المطبوع (5/179) فلا مدخل له في زكاة التجارة لكن نقل الزيلعي عن النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" أن الرواية بالراء تصحيف وهو غلط.
ورواه البيهقي في سننه (4/147) من عدة طرق بالزاي.
وقد أطال الزيلعي في "نصب الراية" في تخريج الحديث (2/376-378)، وقال الحافظ في "الدراية": أخرجه أحمد والدارقطني والحاكم وإسناده حسن "1/260") والبز -كما في القاموس-: الثياب أو متاع البيت من الثياب ونحوها (اهـ) فهو يشمل الأقمشة والمفروشات والأواني والخردوات، ونحوها، ولا خلاف في أن الصدقة لا تجب في عين هذه الأشياء إذا كانت للاستمتاع والانتفاع الشخصي، فلم يبق إلا أن تجب في قيمتها إذا كانت للاستغلال والتجارة.
هذا غير الأحاديث العامة الأخرى التي تطالب بالزكاة في سائر الأموال مثل: "أدوا زكاة أموالكم"(رواه الترمذي في أول كتاب الزكاة وقال: حسن صحيح (3/91)- طبع المطبعة العصرية بالأزهر) من غير فصل بين مال ومال.
على أن مال التجارة أعم الأموال؛ لأنه يشمل كل مال يتجر فيه من حيوان وحبوب وثمار وسلاح ومتاع وغير ذلك، فكان أولى بالدخول في عموم هذه النصوص كما قال بعض العلماء (مطالب أولي النهى: 2/96).

ثالثًا إجماع الصحابة والتابعين والسَلَف
ومن هَدْي الصحابة: ما رواه أبو عبيد بسنده عن عبد القاري (من قبيلة القارة) قال: "كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها: شاهدها وغائبها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب"(الخبر رواه أيضًا ابن أبي شيبة كما رواه ابن حزم في المحلي: 6/34، وقال: إن سنده صحيح ولكن زعم أن المراد بأموال التجار فيه ما كان غير العروض من فضة وذهب وغير ذلك، وهو تأويل بعيد عما يتبادر إلى الفهم من ألفاظ الخبر ورواه ابن حزم في المحلي وقال: إسناده صحيح).
وعن أبي عمرو بن حماس (قال في "أسد الغابة": حماس الليثي وذكره الواقدي فيمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن عمر) عن أبيه قال: مرَّ بي عمر فقال: يا حماس أدِّ زكاة مالك، فقلت: ما لي مال إلا جِعاب وأدُم، فقال: قوِّمها قيمة ثم أدِّ زكاتها" (قال الحافظ في التلخيص (ص185): رواه الشافعي وأحمد وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور والدارقطني، وذكر طريق كل واحد من هؤلاء إلى حماس وانظر: الأم للشافعي: 2/38، والسنن للبيهقي: 4/147، وقد ضعف ابن حزم الخبر بأن حماسًا وابنه مجهولان وقال الشيخ شاكر في تعليقه على المحلي (5/235): كلا بل هما معروفان ثقتان) والجعاب جمع جعبة وهي ما يوضع فيه السهام ونحوها والأدُم: جمع أديم، وهو الجلد.
قال في المغني (الجزء الثالث ص35) تعقيبًا على هذا الخبر: وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر (أي لم ينكر هذا الحكم أحد من الصحابة) فيكون إجماعًا.
وروى أبو عبيد عن ابن عمر: ما كان من رقيق أو بز يراد به التجارة ففيه الزكاة (الأموال ص425) وروى البيهقي وابن حزم عنه قال ليس في العروض زكاة إلا أن تكون لتجارة قال ابن حزم: هو خبر صحيح انظر: المحلي: 5/324، والسنن الكبرى: 4/147وروى أبو عبيد وجوب زكاة التجارة عن ابن عباس أيضًا الأموال ص426، وصحح ابن حزم الخبر ولكنه تأوله: 5/234،235.
ولم يُنقل عن واحد من الصحابة ما يخالف قول عمر وابنه وابن عباس رضي الله عنهم بل استمر العمل والفتوى على ذلك في عهد التابعين، وقد نقلنا في الفصل السابق في نصاب الذهب ما صحّ عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أحد عماله: انظر مَن مرّ بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون في التجارات، من كل أربعين دينارًا: دينارًا، وما نقص فبحساب ذلك، حتى تبلغ عشرين دينارًا.
وكذلك اتفق فقهاء التابعين ومن بعدهم على القول بوجوب الزكاة في أموال التجارة.
ونقل الإجماع على ذلك ابن المنذر وأبو عبيد.
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة: الزكاة إذا حال عليها الحول، وروى ذلك عن عمر وابنه وابن عباس، وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاووس والنخعي والثوري، والأوزاعي، والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأصحاب الرأي (المغني:3/30) (أبو حنيفة وأصحابه) وهو مذهب مالك وأحمد.
وكذلك قال أبو عبيد في أموال التجارة: أجمع المسلمون على أن الزكاة فرض واجب فيها، ومع أنه ذكر قولاً آخر لم ينسبه لقائل، فقد قال فيه: وأما القول الآخر فليس من مذاهب أهل العلم عندنا (الأموال ص429).
قال القاضي ابن العربي: الزكاة واجبة في العروض من أربعة أدلة:
الأول: قول الله عزَّ وجَلَّ: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةٍ)(التوبة:103) وهذا عام في كل مال.
والثاني: أن عمر بن عبد العزيز كتب بأخذ الزكاة من العروض: والملأ الملأ، والوقت الوقت، بيد أنه استشار واستخار، وحكم بذلك على الأمة وقضى به، فارتفع الخلاف بحكمه.
الثالث: أن عمر الأعلى قد أخذها قبله صحيح من رواية أُنيس.
الرابع: أن أبا داود ذكر عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعد للبيع، ولم يصح فيه خلاف عن السلف اهـ (شرح الترمذي: 3/104).
وقال الخطابي: وزعم بعض المتأخرين من أهل الظاهر: أن لا زكاة فيها وهو مسبوق بالإجماع (معالم السنن:2/223).

رابعًا القياس والاعتبار
أما القياس فهو -كما ذكر ابن رشد- أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق، أعني: الحرث والماشية والذهب والفضة (بداية المجتهد: 1/217- طبع مصطفى الحلبي).
وأما من جهة النظر والاعتبار المستند إلى قواعد الإسلام وروحه العامة: فإن عروض التجارة المتداولة للاستغلال نقود معنى، لا فرق بينها وبين الدراهم والدنانير التي هي أثمانها، إلا في كون النصاب يتقلب ويتغير بين الثمن وهو النقد، والمثمن وهو العروض؛ فلو لم تجب الزكاة في التجارة، لأمكن لجميع الأغنياء أو أكثرهم: أن يتجروا بنقودهم، ويتحروا ألا يحول الحَوْل على نصاب من النقدين أبدًا، وبذلك تعطل الزكاة فيهما عندهم (تفسير المنار: 10/591- الطبعة الثانية).
إن التجار في عصرنا -دون قصد منهم إلى الفرار من الزكاة- قلّما توجد لديهم نقود عينية يحول عليها الحول، فمعظم التعامل التجاري الآن يتم بغير تقابض، إلا بالشيكات ونحوها.
ورأس الاعتبار في المسألة -كما قال العلاَّمة السيد رشيد رضا- أن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء صدقة، لمواساة الفقراء، ومن في معناهم، وإقامة المصالح العامة للدين الإسلامي وأمته، وأن الفائدة في ذلك للأغنياء: تطهير أنفسهم من رذيلة البخل، وتربيتها بفضائل الرحمة للفقراء، وسائر أصناف المستحقين، ومساعدة الدولة والأمة في إقامة المصالح العامة الأخرى، والفائدة للفقراء وغيرهم: إعانتهم على نوائب الدهر، مع ما في ذلك من سد ذريعة المفاسد، وهي تضخم الأموال وحصرها في أناس معدودين -وهو المشار إليه بقوله تعالى في حكمة قسمة الفيء: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنكُمْ)(الحشر:7)- فهل يعقل أن يخرج من هذه المقاصد الشرعية كلها التجار الذين ربما تكون معظم ثروة الأمة في أيديهم"؟ (المصدر السابق).
وأزيد على هذا فأقول:
إن أحوج الناس إلى تطهير أنفسهم وأموالهم وتزكيتها: هم التجار، فإن طرائق كسبهم لا تسلم من شوائب وشبهات، لا يسلم من غوائلها إلا الورع الصدوق الأمين، وقليل ما هم، وخاصة في هذا العصر.
وقد جاء في الحديث: "إن التجار يُبعثون يوم القيامة فجارًا إلا من اتقى الله وبر وصدق" (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه)"إن التجار هم الفجار، قالوا: يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع؟ قال: بلى، ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدِّثون فيكذبون" (رواه أحمد بإسناد جيد، والحاكم -واللفظ له- وقال: صحيح الإسناد "ترغيب").
ومن هنا قلنا: إن نفس التاجر وماله أحوج من أي ذي مال آخر إلى التزكية والتطهير وفي هذا روى أبو داود بسنده عن قيس بن أبي غَرَزَة، قال: مرّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة".
فهذه صدقة غير محدودة بحول ولا نصاب ولا مقدار، ولكن الحديث يؤكد ما نقوله من حاجة التاجر إلى التطهر الدائم من شوائب التجارة ومكدراتها فإذا كان على التاجر من الصدقة المفروضة غير المحدودة -كما يقول ابن حزم نفسه- ما يكون كفّارة لما يشوب البيع، فكيف يُعفَى مما هو مفروض على عامة المسلمين؟
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #23  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي رد: ثناء ابن باز رحمه الله تعالى على كتـــــــــــــاب فقه الزكاة للشيخ العلامة القرضاوي

شبهات المخالفين

(أ) مذهب الظاهرية في عروض التجارة
مذهب أهل السنة كافة هو إيجاب الزكاة في عروض التجارة (ينسب إلى الشافعي قول قديم بعدم وجوب الزكاة في التجارة، واختلف أئمة المذهب في ذلك فمنهم من قال: له في القديم قولان، ومنهم من قال: لم يثبت خلاف الجديد -انظر: الروضة للنووي:2/16) ولم يخالف في ذلك إلا بعض المتأخرين من أهل الظاهر، كما قال الخطابي، وقد تبنى مذهبهم ودافع عنه ابن حزم في المحلي (الجزء السادس ص233-240) كما أن بعض المضيقين في إيجاب الزكاة في الزمن الأخير، كالشوكاني وصِدِّيق حسن خان: مالوا إليه وأيدوه وسنذكر ما تعلقوا به من شبهات ثم نكر عليها بالإبطال:
1- تعلقوا بقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس على مسلم في عبده ولا فرسه صدقة"، وقوله: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق"(مر تخريجهما في زكاة الخيل) وظاهر ذلك عدم الوجوب في جميع الأحوال سواء أكانت للتجارة أم لغيرها.
وأجاب الجمهور عن هذه الشبهة: بأن المتأمل في عبارة الحديث يجده بمعزل عما نحن فيه، فهو ينفي الزكاة عن عبده الذي يخدمه، وفرسه الذي يركبه، وكلا الاثنين من الحوائج الأصلية، المعفاة من الصدقة بإجماع المسلمين.
2- وتعلقوا بأن الأصل في مال المسلم: الحرمة، كما أن الأصل براءة الذمم من التكاليف، فلا يصح أن نوجب على الناس في أموالهم ما لم يوجبه الله عليهم في كتاب ولا سُنَّة.
وقد كانت التجارة قائمة في عصره صلى الله عليه وسلم في أنواع مما يتجر به، ولم يرد عنه نقل صحيح يفيد وجوب ذلك قالوا: وحديثا سمرة وأبي ذر لا تقوم بمثلهما حُجَّة لضعفهما ولا سيما في التكاليف التي تعم بها البلوى (انظر الروضة الندية: 1/192-193).
وجوابنا: أنه قد عارض ما ذكروا من الأصول أصول أخرى أفادتها العمومات التي أوجبت في كل مال حقًا، وأفادتها أيضًا الأدلة الخاصة التي استقيناها من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، وإجماع من يعتد به من أهل العلم.
وحديث سمرة بن جندب سكت عنه أبو داود والمنذري وهذا تحسين منهما، وحسنه ابن عبد البر، وقال الشيخ أحمد شاكر، ردًا على ابن حزم: رواته معروفون ذكرهم ابن حبان في الثقات.
وحديث أبي ذر صححه الحاكم وذكر له الحافظ عدة طرق ضعيفة، وقال في إحداها: هذا إسناد لا بأس به.
وقد تأيد الحديثان بالعمومات، وبعمل الصحابة، وإجماع السلف، مع ما يعضدهما من النظر الصحيح والقياس السليم.
3- وشبهة ثالثة ذكرها أبو عبيد عن "بعض من يتكلم في الفقه" قال: إنه لا زكاة في أموال التجارة واحتج بأنه إنما أوجب الزكاة فيها من أوجبها بالتقويم، وإنما يجب على كل مال الزكاة في نفسه، والقيمة سوى المتاع، فأسقط عنه الزكاة لهذا المعنى قال أبو عبيد: وهذا عندنا غلط في التأويل: لأنَّا قد وجدنا السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد يجب الحق في المال ثم يحول إلى غيره مما يكون إعطاؤه أيسر على معطيه من الأصل، ومن ذلك كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ باليمن بالجزية "إن على كل حالم (بالغ) دينارًا أو عدله من المعافر"(رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث مسروق عن معاذ وحسنه الترمذي، وهو جزء من الحديث الذي ذكرناه في زكاة البقر) والمعافر ثياب يمنية، وعدله: قيمته، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العرض مكان العين (النقد) ثم كتب إلى أهل نجران "أن عليهم ألفي حُلّة في كل عام أو عدلها من الأواقي - يعني من الدراهم" فأخذ العين (أي النقود) مكان العرض.
وكان عمر يأخذ الإبل من الجزية، وإنما أصلها الذهب والورق، وأخذ عليّ بن أبي طالب الإبر والحبال والمسالّ (جمع مسلة) من الجزية، وقد روى عن معاذ في الصدقة نفسها أنه أخذ مكانها العروض، وذلك قوله: "آتوني بخميس أو لبيس -ثياب عندهم- آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم، وأنفع للمهاجرين بالمدينة"، وورد عن ابن مسعود أن امرأته قالت له: إن لي طوقًا فيه عشرون مثقالاً، قال: أدِّي عنه خمسة دراهم، وكانت قيمة كل عشرة دراهم تساوي مثقالاً، قال أبو عبيد: وكل هذه الأشياء قد أخذت فيها حقوق من غير المال الذي وجبت فيه تلك الحقوق، فلم يدعهم ذلك إلى إسقاط الزكاة؛ لأنه حق لازم لا يزيله شيء، ولكنهم قدّروا ذلك المال بغيره، إذ كان أيسر على من يؤخذ منه، فكذلك أموال التجارة، إنما كان الأصل فيها أن يؤخذ الزكاة منها أنفسها، فكان في ذلك عليهم ضرر من القطع والتبعيض؛ لذلك رخَّصوا في القيمة، فعلى هذا أموال التجارة عندنا، وعليه أجمع المسلمون: أن الزكاة فرض واجب فيها، وأما القول الآخر، فليس من مذاهب أهل العلم عندنا، وإنما وجبت الزكاة في العروض والرقيق وغيرها إذا كانت للتجارة وسقطت عنها إذا كانت لغيرها؛ لأن الرقيق والعروض إنما عُفِيَ عنها في السنة إذا كانت للاستمتاع والانتفاع بها، ولهذا أسقط المسلمون الزكاة عن الإبل والبقر العوامل، وأما أموال التجارة فإنما هي للنماء وطلب الفضل، فهي في هذه الحال تشبه سائمة المواشي التي يُطلب نسلها وزيادتها، فوجبت فيها الزكاة لذلك، إلا أن كل واحدة منها تزكي على سنتها فزكاة التجارات على القيم، وزكاة المواشي على الفرائض (المقادير المفروضة) فاجتمعتا في الأصل على وجوب الزكاة، ثم رجعت كل واحدة في الفرع إلى سنتها" (الأموال ص427 وما بعدها).
وبهذا نعلم أن قول جمهور الأمة، هو القول الصواب، وأن الزكاة في عروض التجارة فريضة لازمة، وأن شبهات المخالفين لا تقف على قدميها أمام حجج الجمهور، وإجماع الصحابة وخير القرون.

(ب) مذهب الإمامية
وذهب فقهاء الإمامية إلى أن الزكاة لا تجب في أموال التجارة، بل تُستحب على الأصح عندهم (المختصر النافع في فقه الإمامية ص54).
ولكن لهم رأيًا آخر في أرباح التجارة، وهو وجوب الخُمس فيها (أعني في الأرباح لا في رأس المال) مستدلين بقوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مَّن شَيْءٍ فَأنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (الأنفال:41) وقالوا: إن كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارات والكنوز وغيرها، يُطلق عليها في عرف اللغة اسم: الغُنْم والغنيمة، ولم يوجبوا الخُمس في أرباح التجارة إلا فيما فضل منها عن مؤونة السنة له ولعياله، قال في "جواهر الكلام" في عدّ ما يجب فيه الخُمس: "الخامس ما يفضل عن مؤونة السنة على الاقتصاد له ولعياله من أرباح التجارات والصناعات والزراعات بلا خلاف معتد به" (جواهر الكلام: 2/126) وهو -بالتعبير الحديث- ضريبة على صافي الدخل بنسبة (20) بالمائة.
قال أهل السنة: المراد بقوله: (مَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءْ)(الأنفال:41) ما بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما يُغنم بالقتال، لا لكل ما يُطلق عليه اسم الغنيمة، وبدلالة سياق الآية نفسها، ولو بقي على عمومه: لا ستلزم وجوب الخُمس في المواريث ونحوها، وهو خلاف الإجماع، وما استلزم الباطل: باطل (انظر الروضة الندية: 1/219).
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #24  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي شروط الزكاة في مال التجارة

شروط الزكاة في مال التجارة



التجارة -كما عرّفها بعض الفقهاء- هي كسب المال ببدل هو مال (رد المحتار: 2/18).
ومال التجارة هو: ما يُعد لهذا الكسب عن طريق البيع والشراء.
وعرّفه بعضهم بقوله: هو ما يُعد للبيع والشراء لأجل الربح (مطالب أولى النهى جـ 2/96).
فليس كل ما يشتريه الإنسان من أشياء وأمتعة وعروض يكون مال تجارة، فقد يشتري ثيابًا للبسه، أو أثاثًا لبيته، أو دابة أو سيارة لركوبه، فلا يسمى شيء من ذلك عرض تجارة، بل عرض "قنية" بخلاف ما لو اشترى شيئًا من ذلك بقصد بيعه والربح منه.
فالإعداد للتجارة يتضمن عنصرين: عملاً ونيَّة، فالعمل هو البيع والشراء، والنيَّة هي قصد الربح/ فلا يكفي في التجارة أحد العنصرين دون الآخر (انظر الدر المختار ورد المحتار : 2 / 18 - 19، وبلغة السالك، وحاشيته : 1 /224).
لا يكفى مجرد النيَّة والرغبة في الربح دون ممارسة التجارة بالفعل (هذا هو قول الجمهور، وذهب ابن عقيل وأبو بكر من الحنابلة إلى أن عرض القنية يصير للتجارة بمجرد النية، وحكوه رواية عن أحمد لقوله فيمن أخرجت أرضه خمسة أو سق، فمكثت عنده سنين، لا يريد بها التجارة، فليس عليه زكاة، وإن كان يريد التجارة، فأعجب إلى أن يزكيه، لأن نية القنية في عرض التجارة كافية في جعله للقنية، فكذلك نية التجارة، بل أولى؛ لأن الإيجاب يغلب على الإسقاط احتياطًا، ولأنه أحظ للمساكين فاعتبر، ولحديث سمرة في إخراج الصدقة مما يُعَد للبيع، وهذا داخل في عمومه، وردوا على هذا القول بأن القنية هي الأصل، والتجارة فرع عليها، فلا ينصرف إلى الفرع بمجرد النية، كالمقيم ينوي السفر، لا يصير مسافرًا بمجرد النية ..انظر المغني - المطبوع مع الشر -: 2/631، وانظر شرح الرسالة للعلامة المالكي زروق::1/325) لا يكفي الممارسة بغير النية والقصد.
ولو اشترى شيئًا للقنية كسيارة ليركبها، ناويًا أنه إن وجد ربحًا باعها، لم يعد ذلك مال تجارة (انظر الدر المختار وحاشيته:2/19) بخلاف ما لو كان يشتري سيارات ليتاجر فيها ويربح منها، فإذا ركب سيارة منها واستعملها لنفسه حتى يجد الربح المطلوب فيها فيبيعها، فإن استعماله لها لا يخرجها عن التجارة، إذ العبرة في النية بما هو الأصل، فما كان الأصل فيه الاقتناء والاستعمال الشخصي: لم يجعله للتجارة مجرد رغبته في البيع إذا وجد ربحًا، وما كان الأصل فيه الاتجار والبيع: لم يخرجه عن التجارة طروء استعماله.
أما إذا نوى تحويل عرض تجاري معين إلى استعماله الشخصي، فتكفي هذه النية عند جمهور الفقهاء لإخراجه من مال التجارة، وإدخاله في المقتنيات الشخصية غير النامية.
وشرط بعضهم هنا شرطًا آخر، وهو عدم قيام المانع المؤدي إلى "الثَّنَى" (المرجع نفسه ص18) في الزكاة، وهو أخذ الزكاة مرتين في عام واحد، وهو الذي يسميه رجال الضرائب "الازدواج" وفسر ابن قدامة "الثَّنَى" بأنه: إيجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد (المغني: 2/629) وقد جاء في الحديث: "لا ثِنَى في الصدقة" (الأموال ص 375).
وعلى هذا لو اشترى أرضًا زراعية للتجارة، فزرعها وأخرجت ما يجب فيه العُشر، اكتفى بزكاة العُشر عن الخارج، ولم تجب زكاة التجارة عن الأرض نفسها، حتى لا تتكرر الزكاة في مال واحد وخالف بعض الفقهاء، فغلبوا زكاة التجارة، وذهب بعضهم إلى القول بإيجاب الزكاتين (انظر الدر المختار ورد المحتار: 2/19، والمغني ص630) بناء على أن سبب هذه غير سبب تلك، فلا يُعد ذلك ثنَى، وسنعود إلى هذا بعد.
إذا عرفنا مال التجارة: ما هو؟ فقد بقي علينا أن نعرف شروط زكاته.
ورأس مال التاجر: إما نقود، أو سلع مقومة بالنقود، فأما النقود فلا كلام فيها، وأما السلع والعروض فيُشترط لوجوب الزكاة فيها ما يُشترط لزكاة النقود، من حولان الحول، وبلوغ النصاب المعين، والفراغ من الدَّيْن، والفضل عن الحوائج الأصلية، وقد رجحنا أن نصاب النقود في عصرنا الآن ما يعادل قيمة 85 جرامًا من الذهب.
ولكن متى يُعتبر كماله النصاب؟
هل يُعتبر في آخر الحول فقط؟
أو يُعتبر كماله في جميع الحول من أوله إلى آخره؟
أو يُعتبر في أول الحول وآخره دون ما بينهما؟
أقوال ثلاثة للفقهاء
أولها: وهو قول مالك ونص الشافعي في الأم: أنه يُعتبر في آخر الحول فقط؛ لأنه يتعلق بالقيمة، وتقويم العرض في كل وقت يشق، فاعتبر حال الوجوب، وهو آخر الحول، بخلاف سائر الزكوات؛ لأن نصابها من عَيْنها فلا يشق اعتباره (المجموع:1/55).
القول الثاني: اعتبار النصاب في جميع الحول، فمتى نقص النصاب في لحظة منه، انقطع الحول؛ لأنه مال يُعتبر له النصاب والحول فوجب اعتبار كمال النصاب في جميع أيام الحول كسائر الأمور التي يُعتبر فيها ذلك، وهذا قول الثوري وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر (المغني: 3/32 وما بعدها).
والثالث: اعتبار النصاب في أول الحول وآخره دون ما بينهما، فإذا تم النصاب في الطرفين وجبت الزكاة، ولا يضر نقصه بينهما، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، وحجته ما ذُكر في القول الأول: أن التقويم في جميع الحول يشق؛ لأنه يحتاج إلى أن يعرف قيمة السلع التي عنده في كل وقت ليعلم أتبلغ نصابًا أم لا وفي ذلك من الحرج والمشقة ما فيه، فعفى عنه إلا في أول الحول وآخره فصار الاعتبار به.
فلو مَلَك سلعة قيمتها دون النصاب فمضى نصف الحول -وهي كذلك- ثم زادت قيمة النماء بها، أو تغيرت الأسعار فبلغت نصابًا، أو باعها بنصاب، أو مَلَك في أثناء الحول عرضًا آخر، أو نقودًا تم بها النصاب: ابتدأ الحول من حينئذ، فلا يُحتسب بما مضى عند الجمهور.
أما عند مالك، وكذا الشافعي حسب نصه في الأم: فالحول ينعقد على ما دون النصاب، ولا يُشترط النصاب إلا في آخر الحول، فإذا بلغ في آخره نصابًا زكّاه (المغني: 3/31 وما بعدها).
ومن هنا رووا عن مالك قوله: إذا كانت له خمسة دنانير (وهي ربع النصاب) فاتجر فيها، فحال عليها الحول، وقد بلغت ما تجب فيه الزكاة: يزكيها (المغني: 2/31 ومابعدها).
والمختار عندي: هو قول مالك والأصح عند الشافعية (كما في الروضة: 2/267) لأن اشتراط حولان الحول على النصاب لم يقم عليه دليل، ولم يجيء به نص صحيح مرفوع، فإذا اكتمل النصاب عند الحول وجب الاعتبار به، واعتبر ابتداء السنة الزكوية للمسلم، وكلما جاء هذا الموعد من كل سنة: زكّى ما عنده إذا بلغ نصابًا، ولا يضر النقصان في أثناء السنة.
وإذا كانت الحكومة هي التي تجمع الزكاة من التجار، فإنها تحدِّد موعدًا كالمحرَّم من كل عام، فمَن وجد عنده النصاب في هذا الموعد أخِذت منه الزكاة، وإن كان نصابه لم يكمل إلا منذ شهر أو شهرين.
وهذا ما كان يحدث في زكاة المواشي، في عهد النبوة والراشدين، فقد كان السعاة يأخذون الزكاة مما حضر من المال إذا بلغ نصابًا، ولا يسألون متى تم هذا النصاب وكم شهرًا له؟ ويكتفون بتمامه عند أخذ الزكاة، ثم لا يأخذون منه زكاة إلا بعد عام قمري كامل.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #25  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي كيف يزكي التاجر ثروته التجارية

كيف يزكي التاجر ثروته التجارية
زكاة الثروة التجارية بمختلف صورها
الثروة التي يستغلها التاجر في تجارته، لا تخلو أن تتخذ صورة أو أكثر من الصور الثلاث الآتية:
1- فإما أن تكون الثروة التجارية في صورة: عروض وبضائع اشتراها التاجر بثمن ما، ولم تُبَع بعد.
2- أو تكون في صورة: نقود حاضرة يحوزها في يده فعلاً، أو تحت تصرفه كالتي يضعها في "البنوك" لحسابه.
3- أو تكون في صورة: ديون له على بعض العملاء أو غيرهم، مما تقتضيه طبيعة التجارة والتعامل، ولا شك أن من هذه الديون ما هو ميئوس منه، ومنها ما هو مرجو الحصول.
ولا ننسى هنا: أن التاجر كما يكون له ديون على الآخرين قلَّما يخلو أن يكون هو أيضًا مدينًا للآخرين.
فكيف يُخرج التاجر المسلم زكاة هذه الثروة بمختلف صورها؟
وللإجابة عن ذلك نذكر هنا بعض ما جاء عن أئمة التابعين في ذلك كما رواها أبو عبيد (صفحة 426).
قال ميمون بن مهران: إذا حلَت عليك الزكاة فانظر ما كان عندك من نقد أو عرض فقوِّمه قيمة النقد، وما كان من دَيْن في ملآة (الملآة: الغني واليسر فمعنى الكلمة ما كان من دين على غني مليء قادر على الدفع) فاحسبه ثم اطرح منه ما كان عليك من الدَيْن، ثم زكِّ ما بقي.
وقال الحسن البصري: إذا حضر الشهر الذي وقَّت الرجل أن يؤدي فيه زكاته: أدى عن كل مال له (يعني من النقد) وكل ما ابتاع من التجارة، وكل دين إلا ما كان منه ضمارًا لا يرجوه.
وقال إبراهيم النخعي: يقوِّم الرجل متاعه إذا كان للتجارة، إذا حلّت عليه الزكاة فيزكيه مع ماله (الأموال ص426).
ومن أقوال هؤلاء الأئمة، يتضح لنا: أن على التاجر المسلم -إذا حلَّ موعد الزكاة- أن يضم ماله بعضه إلى بعض، رأس المال والأرباح والمدخرات، والديون المرجوة، فيقوم بجرد تجارته، ويقوِّم قيمة البضائع إلى ما لديه من نقود -سواء أستغلَّها في التجارة أم لم يستغلها-إلى ما له من ديون مرجوة القضاء، غير ميئوس منها، ويُخرج من ذلك كله ربع العُشر (2.5بالمائة)، وأما الدَيْن الذي انقطع الرجاء فيه، فقد رجحنا - من قبل - الرأي القائل بأن لا زكاة فيه، إلا إذا قبضه، فيزكيه لعام واحد (وهذا هو رأي مالك في الديون كلها) بناء على اختيارنا تزكية المال المستفاد عند قبضه إذا بلغ نصابًا، وأما ما عليه من ديون فإنه يطرحها من جملة ماله، ثم يزكّى ما بقي.

تفريق "مالك" بين التاجر المحتكر والتاجر المدير
هذا هو رأي جمهور الفقهاء، وانفرد مالك عن الجمهور برأي فرَّق فيه بين صنفين من التجار: فالتاجر "المدير" وهو الذي يبيع ويشتري بالسعر الحاضر، ولا ينضبط له وقت في البيع والشراء (كتجار البقالة والخردوات والأقمشة والأدوات وغيرهم من أصحاب الحوانيت والطوَّافين بالسلع) (انظر بلغة السالك: 1/224، ونقل الصاوي في الحاشية عن ابن عاشر: الظاهر أن أرباب الصنائع، كالحاكة والدباغين مديرون وقد نص في المدونة على أن أصحاب الأسفار الذين يجهزون الأمتعة إلى البلدان مديرون ...المرجع نفسه ص 224-225) يرى مالك مع الجمهور: أن يزكّى عروضه وسلعه على رأس كل حول وإن خالف في اشتراط النصاب في أول الحول كما ذكرنا قبل.
وأما التاجر الآخر وهو الذي يشتري السلعة ويتربص بها رجاء ارتفاع السعر ويسميه "المحتكر" كالذين يشترون العقار وأراضى البناء ونحوها، ويتربصون بها مدة من الزمن، ويرصدون الأسواق، حتى ترتفع أسعارها، فيبيعوا، فيرى مالك: أن الزكاة لا يتكرر وجوبها عليه بتكرار الأعوام، بل إذا باع السلعة زكّاها لسنة واحدة، وإن بقيت عنده أعوامًا.
ويحسن أن أسوق عبارة ابن رشد التي ذكرها في بيان مذهبه، قال: "إن مالكًا قال: إذا باع العرض: زكّاه لسنة واحدة، كالحال في الدَّيْن، وذلك عنده -أي مالك- في التاجر الذي تنضبط له أوقات شراء عروضه، وأما الذين لا ينضبط لهم وقت ما يبيعونه ويشترونه، وهم الذين يخصون باسم "المدير" فحكم هؤلاء -عند مالك- إذا حال عليهم الحول من يوم ابتداء تجارتهم: أن يقوم ما بيده من عروض، ثم يضم إلى ذلك ما بيده من العَيْن (النقود) وما له من الدَّيْن الذي يرتجي قبضه -إن لم يكن عليه دَيْن مثله- وذلك بخلاف قوله في دَيْن غير المدير، فإذا بلغ ما اجتمع عنده من ذلك نصابًا: أدى زكاته (اشترط بعض المالكية -بل هو المشهور في المذهب- أن ينص للتاجر مقدار من النقود ولو درهمًا في أي وقت من السنة وروى بعضهم عدم الاشتراط ...انظر شرح الرسالة للعلاَّمة زروق:1/325، والمراد بالنص: بيع المتاع بنقد).
"وقال الجمهور (الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم): المدير وغير المدير حكمها واحد، وأنه من اشترى عرضًا للتجارة فحال عليه الحول قوَّمه وزكّاه" (بداية المجتهد لابن رشد: 1/260-261- طبع الاستقامة بالقاهرة).
وقد عقب ابن رشد على رأي مالك بقوله: "وهذا بأن يكون شرعًا زائدًا أشبه منه بأن يكون شرعًا مستنبطًا من شرع ثابت، ومثل هذا هو الذي يعرِّفونه بالقياس المرسل، وهو الذي لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع، إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه، ومالك -رحمه الله- يعتبر المصالح، وإن لم تستند إلى أصول منصوص عليها".
واختلف قول المالكية في التاجر المدير إذا بارت سلعته وكسدت بضاعته: هل يصير محتكرا، فلا يزكّى إلا ما باعه بالفعل، أم يظل مديرًا، فيقوِّم عروضه كل عام ويزكيها، قال سحنون: يصير محتكرًا، خلافًا لابن القاسم، وبماذا يُحد البوار؟ هل يُحد بعامين أو بالعُرف؟ قولان، لسحنون وعبد الملك (انظر: شرح الرسالة ...المرجع السابق).
والحق أن رأي الجمهور، أقوى دليلاً من رأي مالك، فإن الاعتبار الذي قام على أساسه إيجاب الزكاة في عُروض التجارة: أنها مال مرصد للنماء مثل النقود، سواء أنمت بالفعل أم لم تنم، بل سواء ربحت أم خسرت؛ والتاجر -مديرًا كان أو غير مدير- قد مَلَك نصابًا ناميًا فوجب أن يزكِّيه.
ومع هذا؛ قد يكون لرأي مالك وسحنون مجال يؤخذ به فيه، وذلك في أحوال الكساد والبوار، الذي يصيب بعض السلع في بعض السنين، حتى لتمر الأعوام، ولا يباع منها إلا القليل، فمن التيسير والتخفيف على مَن هذه حاله ألا تؤخذ منه الزكاة إلا عما يبيعه فعلاً، على أن يُعفى عما مضى عليه من أعوام الكساد، وذلك لأن ما أصابه ليس باختياره ولا من صنع يده.

العروض الثابتة لا تزكى
والمعتبر في رأس مال التجارة الذي يجب تزكيته: هو المال السائل، أو رأس المال المتداول، أما المباني والأثاث الثابت للمحلات التجارية ونحوه مما لا يُباع ولا يحرك: فلا يُحتسب عند التقويم، ولا تُخْرَج عنه الزكاة، فقد ذكر الفقهاء: أن المراد بعرض التجارة هو ما يُعد للبيع والشراء لأجل الربح (مطالب أولي النهى: 2/96) بدليل حديث سمرة الذي ذكرناه في أول هذا الفصل: "كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع".
ولهذا قالوا: لا تقوَّم الأواني التي توضع فيها سلع التجارة ولا الأقفاص والموازين، ولا الآلات، كالمنوال، والمنشار، والقدوم، والمحراث، ولا دولاب العمل اللازم للتجارة؛ لبقاء عينها فأشبهت عروض القنية (المصدر نفسه وانظر فتح القدير: 1/527، وبلغة السالك: 1/235، وشرح الأزهار:1/479-480) أي الممتلكات الشخصية التي لا تُعد للنماء.
وفصَّل بعضهم فقالوا: في الأواني التي توضع فيها عروض التجارة كقوارير العطارين، والغرائر والأكياس التي يستعملها تاجر الحبوب، والسُرج واللُّجم التي يستعملها تاجر الخيل، ونحوها -إن أريد بيعها مع هذه الأشياء فهي مال تجارة تقوَّم معها، وإن لم يرد بيعها -بل تباع العروض وتبقى هي للاستعمال- فلا تقوَّم، شأنها شأن العروض المقتناة (مطالب أولي النهى:2/96).

بأي سعر تُقوَّم سلع التجارة عند إخراج الزكاة؟
وبعد طرح الأثاث الثابت ونحوه، مما لا يُعَد للبيع، يجب تقويم السلع والبضائع التي حال عليها الحَوْل، ووجبت فيها الزكاة.
ولكن بأي سعر يقوِّمها التاجر، أو المصَدِّق إذا كانت الحكومة الإسلامية هي التي تأخذ الزكاة؟
(أ) المشهور: أن تقوَّم بالسعر الحالي الذي تباع به السلعة في السوق عند وجوب الزكاة بها، وقد جاء عن جابر بن زيد من التابعين في عرض يراد به التجارة: قوِّمه بنحو من ثمنه يوم حلّت فيه الزكاة، ثم أخْرِج زكاته (الأموال ص426) وهذا قول معظم الفقهاء.
(ب) وكان ابن عباس يقول: لا بأس بالتربص حتى يبيع، والزكاة واجبة عليه (المصدر نفسه).
والمقصود بالتربص هو الانتظار حتى يتم البيع فعلاً، للتأكد من أن التقويم يتم على أساس السعر الحقيقي الذي تباع به السلعة.
(جـ) وذكر ابن رشد: أن بعض الفقهاء قالوا: يزكي الثمن الذي اشترى به السلعة لا قيمتها (بداية المجتهد:1/260) ولم يُسمِّ ابن رشد من قال بهذا ولا دليله.
ولا يخلو الأمر من حالتين: إما هبوط الأسعار، فيتضرر التاجر من تقويم السلع بثمن ما اشتُريت به، وإما أن ترتفع، فتؤخذ الزكاة -على هذا القول- من رأس المال، دون الربح.
والمعهود في الزكاة أنها تؤخذ من رأس المال ونمائه معًا، كما في زكاة المواشي.
ولهذا كان القول الراجح هو ما عليه الجمهور، من تقويم السلعة عند الحول بسعر السوق، والمراد: سعر الجملة؛ لأنه الذي يمكن أن تباع به عند الحاجة بيسر فيما أرى.

هل يخرج التاجر زكاته من عَيْن السلعة أم من قيمتها؟
بعد تقويم السلع التجارية، كما ذكرنا، بقي أن نعرف: مم يخرج التاجر زكاته؟ هل يجوز أن يخرجها جزءًا من البضاعة التي عنده، أم يخرجها نقودًا بقيمة الواجب؟
في ذلك عدة أقوال:
فيرى أبو حنيفة والشافعي -في أحد أقواله-: أن التاجر مُخيَّر بين إخراج الزكاة من قيمة السلعة، وبين الإخراج من عَيْنها؛ فإذا كان تاجر ثياب يجوز أن يخرج من الثياب نفسها، كما يجوز أن يُخرج من قيمتها نقودًا؛ وذلك أن السلعة تجب فيها الزكاة فجاز إخراجها من عينها، كسائر الأموال (المغني:3/31).
وهناك قول ثان للشافعي: أنه يجب الإخراج من العين، ولا يجوز من القيمة (الروضة النووي:2/273).
وقال المزني : إن زكاة العروض من أعيانها لا من أثمانها (بداية المجتهد : 2 / 260).
وقال أحمد والشافعي -في القول الآخر- بوجوب إخراج الزكاة من قيمة السلع لا من عينها؛ لأن النصاب في التجارة معتبر بالقيمة، فكانت الزكاة منها كالعَيْن في سائر الأموال (المغني:2/31، والروضة -المرجع المذكور).
قال في المغني: ولا نسلِّم أن الزكاة وجبت في المال، وإنما وجبت في قيمته (المغني - المرجع نفسه).
وهذا الرأي الأخير هو الذي أرجحه نظرًا لمصلحة الفقير، فإنه يستطيع بالقيمة أن يشترى ما يلزم له، أما عَيْن السلعة فقد لا تنفعه، فقد يكون في غنى عنها، فيحتاج إلى بيعها بثمن بخس، وهذا الرأي هو المتبع، إذا كانت الحكومة هي التي تجمع الزكاة وتصرفها؛ لأن ذلك هو الأليق والأيسر.
ويمكن العمل بالرأي الأول في حال واحدة بصفة استثنائية: أن يكون التاجر هو الذي يخرج زكاته بنفسه، ويعلم أن الفقير في حاجة إلى عَيْن السلعة، فقد تحققت منفعته بها، والمسألة دائرة على اعتبار المصلحة وليس فيها نص.
وبعد أن رجَّحتُ هذا رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه ما يؤيد هذا الترجيح؛ فقد سئل عن التاجر: هل يجوز أن يخرج قيمة ما وجب عليه من بعض الأصناف عنده؟ فذكر في الجواب عن ذلك أقوالاً:
1- يجوز مطلقًا.
2- لا يجوز مطلقًا.
3- يجوز في بعض الصور للحاجة أو المصلحة الراجحة.
قال: وهذا القول هو أعدل الأقوال؛ فإن كان آخذ الزكاة يريد أن يشتري بها كسوة، فاشترى رب المال له بها كسوة وأعطاه، فقد أحسن إليه وأما إذا قوَّم هو الثياب التي عنده وأعطاها، فقد يقوٍّمها بأكثر من السعر، وقد يأخذ الثياب مَن لا يحتاج إليها، بل يبيعها، فيغرم أجرة المنادي (الدلال) وربما خسرت فيكون في ذلك ضرر على الفقراء" (فتاوى ابن تيمية:1/299).
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #26  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي زكاة الثروة الزراعية - مقدمة

مقدمة

كان من أجلّ نِعَم الله على الإنسان: أن مهّد له هذه الأرض، وجعلها صالحة للإنبات والإثمار، وأجرى سننه الكونية بذلك، فجعلها المصدر الأول لرزق الإنسان ومعيشته، وقوام بدنه حتى إن بعض الاقتصاديين في الغرب نادوا بفرض ضريبة واحدة على الأرض الزراعية دون غيرها، باعتبارها المصدر الرئيسي لمعيشة البَشر.
وهذا لمن تأمل بعين بصيرته محض فضل الله تعالى، فهو الذي سخّرها وجعلها ذلولاً وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها، وجعل فيها معايش لهذا النوع المكرَّم: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ، قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (الأعراف:10) ولو عرفنا شيئًا قليلاً مما تحتاج إليه البذرة من النبات كي تحيى وتنمو وتثمر، من أسباب وشروط ومن سنن وقوانين لعرفنا العجب العجاب من فضل الله علينا وعلى الناس.
ليست كلّ تربة تصلح للإنبات، فلا بدّ من تربة خاصة تحتوي على العناصر اللازمة لتغذية البذرة، فمَن ذا الذي خلق التربة الأرضية مشتملة على العناصر المطلوبة للنبات؟ ولا بدَّ من ماء يسقي البذرة وإلا ماتت فمَن ذا الذي أجرى سنته بإنزال الماء من السحاب أو تفجيره ينابيع في الأرض، وجعله فيها بقدر، حتى لا يغرق الخلق ويهلك الحرث والنسل؟
ولا بد من غاز يستنشقه النبات، فمن ذا الذي أودع هذا الغاز في الهواء؟ أو من الذي علَّم النبات أن يستنشق ثاني أكسيد الكربون الذي يلفظه الإنسان والحيوان؛ ليقوم بين المملكة الحيوانية والمملكة النباتية هذا التبادل الرائع الفريد؟!
ولا بد للنبات من ضوء وحرارة معينة، لو زادت كثيرًا لاحترق، ولو نقصت كثيرًا لذوى وهلك، وما وُجدت حياة نباتية ولا غيرها، فمن الذي خلق الشمس وسخرها، وأودع فيها هذه الخصوصية وجعلها على هذه المسافة المعينة من الأرض، بحيث لا تهلك الكائنات الحية عليها من البرودة المفرطة إذا بعدت، أو الحرارة المفرطة إذا قربت؟ (راجع في هذا الكتاب القيم: "العلم يدعو إلى الإيمان" ترجمة محمود صالح الفلكي).
ثم من الذي جعل في البذرة الساكنة الجافة قابلية الحياة والنمو والتكاثر؛ بحيث تصبح النواة نخلة باسقة طلعها نضيد، وتنبت حبة القمح سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة؟
إنه الله تعالى هو الذي صنع هذا كله وقدَّره فأحسن التقدير، ودبّره فأتقن التدبير، ولا غرو أن امتن بذلك على عباده في آيات كثيرة من كتابه، ورد الفضل فيه إلى أهله، مثل قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون؟ ءأنتم تزرعونه أم نحن الزَّارعون؟! لو نشاء لجعلناه حطامًا فظللتم تفكَّهون إنَّا لمغرمون بل نحن محرومون) (الواقعة:63-67).
وقوله تعالى: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين، وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم، وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) (الحجر:19-22).
وقوله تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنَّا صببنا الماء صبًا، ثم شققنا الأرض شقًا، فأنبتنا فيها حبًا، وعنبًا وقضبًا، وزيتونًا ونخلاً، وحدائق غلبًا، وفاكهة وأبًا، متاعًا لكم ولأنعامكم)(عبس:24-32).
وقوله تعالى: (وآيةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًا فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنَّاتٍ من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون، ليأكلوا من ثمرهِ وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون)(يس:33-35).
أجل ..إن ما تخرجه الأرض من زرع وثمر إنما هو من فضل الله ومن عمل يده سبحانه لا من عمل أيدينا القاصرة، هو الزارع المنبت حقيقة لا نحن الزارعون فلا عجب أن يطالبنا سبحانه بالشكر على هذه النعمة السابغة التي جاءتنا عفوًا صفواَ، وأكلنا منها هنيئًا مريئًا (ليأكلوا من ثمرهِ وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون)؟
أجل ..(أفلا يشكرون؟) وأول مظاهر هذا الشكر: هو أداء الزكاة مما خرج منها وفاءً ببعض حقه سبحانه، ومواساة للمحتاجين من خلقه، وإسهامًا في نصرة دينه، وهذه الزكاة هي المعروفة في الفقه الإسلامي باسم "العُشر" (وهو الشائع عند الحنفية، ومن الغريب أن بعضهم زعم أن تسميته زكاة مجاز، أو على قول الصاحبين، لاشتراطهما النصاب والبقاء بخلاف قول الإمام، قال المحقق ابن الهمام: وليس بشيء، إذ لا شك أنه زكاة حتى يُصرف مصارفها، غاية ما في الباب: أنهم اختلفوا في إثبات بعض شروط لبعض أنواع الزكاة ونفيها، وهذا لا يُخرجه عن كونه زكاة ...فتح القدير:2/2) أو زكاة "الزروع والثمار" أو زكاة "المعشرات".
وهذه الزكاة تمتاز عن زكاة الأموال الأخرى من مواش ونقود وعروض تجارة، بأنها لا يُشترط فيها حولان الحول، بل تجب بمجرد الحصول عليها، إذ هي نماء الأرض وغلتها، فحيث وُجِدت تحقق النماء الذي هو عِلة وجوب الزكاة، فهي -بتعبير العصر- ضريبة على الإنتاج والريع الناتج من استغلال الأرض.
أما الزكاة في الأموال السالفة فهي ضريبة على رأس المال نفسه، نما أم لم ينم.
وسنفصِّل أحكام هذا الفصل في المباحث التالية:
المبحث الأول: أدلة وجوب الزكاة في الزروع والثمار.
المبحث الثاني: الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة.
المبحث الثالث: اعتبار النصاب وما يتعلق به.
المبحث الرابع: مقدار الواجب وتفاوته.
المبحث الخامس: تقدير الواجب بالخرص وما يتعلق به.
المبحث السادس: ماذا يُترك لأرباب الزرع والثمر؟
المبحث السابع: اقتطاع الديون والنفقات وتزكية الباقي.
المبحث الثامن: زكاة الأرض المستأجرة.
المبحث التاسع: اجتماع العُشر والخراج
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #27  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي رد: ثناء ابن باز رحمه الله تعالى على كتـــــــــــــاب فقه الزكاة للشيخ العلامة القرضاوي

أدلة وجوب الزكاة في الزروع والثمار


أولاً - من القرآن
(أ) أما الكتاب فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تُغمضوا فيه)(البقرة:267) والأمر بالإنفاق للوجوب، وقد جعله الله تعالى من مقتضى الإيمان، والقرآن كثيرًا ما يعبر عن الزكاة بالإنفاق، قال الجصاص: قوله تعالى: (أنفقوا) المراد به: الصدقة، والدليل عليه قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) يعنى: تتصدقون، ولم يختلف السلف والخلف في أن المراد به الصدقة (أحكام القرآن للجصاص:1/543).
(ب) وقال تعالى: (وهو الذي أنشأ جناتٍ معروشات وغير معروشات(الجنات: البساتين، ومعروشات: ما عرش الناس من الكروم، وغير معروشات: غير مرفوعات، مبنيات: لا ينبته الناس ولا يرفعونه، ولكن الله يرفعه وينبته وينميه -الطبري:12 / 156 - طبع المعارف)والنَّخل والزرع مختلفًا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابهْ، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده)(الأنعام:141).
ذهب كثير من السلف إلى أن المراد بــ "الحق" هنا هو الزكاة المفروضة العُشر أو نصف العُشر.
روى أبو جعفر الطبري بسنده عن أنس بن مالك في تفسير الآية قال: الزكاة المفروضة.
وعن ابن عباس من أكثر من طريق قال: العُشر ونصف العُشر، وفي رواية عنه قال: يعني بحقه: زكاته المفروضة، يوم يُكال ويُعلم كيله.
وروى أيضًا عن جابر بن زيد والحسن وسعيد بن المسيب ومحمد ابن الحنفية وطاووس وقتادة والضحاك: أنه الزكاة أو الصدقة المفروضة أو العُشر ونصف العشر (تفسير الطبري:12/158-161) تختلف العبارات والمقصود واحد.
قال القرطبي: ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية، وبه قال بعض أصحاب الشافعي (القرطبي:7/99) وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة وأصحابه (بدائع الصنائع:2/53).
وقال آخرون: كان هذا شيئًا أمر الله به المؤمنين قبل أن تُفرض عليهم الصدقة المؤقتة (المحددة)، ثم نسخته الصدقة المعلومة: العُشر أو نصف العُشر.
روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في تفسير الآية قال: نسخها العُشر ونصف العُشر.
وروى مثله عن محمد ابن الحنفية عن إبراهيم النخعي، وفي رواية عن إبراهيم قال: "هذه السورة مكية، نسخها العُشر ونصف العُشر".
وعن سعيد بن جبير قال: هذا قبل الزكاة، فلما نزلت الزكاة نسختها.
وعن الحسن قال: نسختها الزكاة.
وعن السدي: كانوا إذا مر بهم أحد يوم الحصاد أو الجذاذ، أطعموه منه، فنسخها الله عنهم بالزكاة، وكان فيما أنبتت الأرض العُشر ونصف العُشر.
ونحوه عن عطية العوْفي (تفسير الطبري:12/168-170).
ذكر ابن جرير هذه الآثار، ورجح بعدها القول بأن الآية منسوخة، مؤيدًا ذلك بأن الزكاة المفروضة في الحب لا يُمكن إيتاؤها يوم الحصاد، بل بعد الدياس والتذرية والتنقية.
وكذلك صدقة الثمر لا تؤخذ إلا بعد الجفاف، كما أن قوله تعالى في الآية: (وَلا تُسرفوا)(الأنعام:141) لا وجه له إذا فُسِّر الحق بالعُشر ونصفه، لأنه مقدار محدد يتولى أخذه ولاة الأمر، فكيف ينهى رب المال عن الإسراف (تفسير الطبري:12/170-173) فهذا الحق إذن حق آخر غير الزكاة، وإذا لم يكن في المال حق سوى الزكاة، فهذا الحق منسوخ، فإنها نسخت كل حق سابق في المال.
والغريب من شيخ المفسرين ابن جرير أن يختار القول بأن الآية منسوخة، مع تحريه في قبول النسخ، ورده على كثير من دعاوى النسخ في آيات أُخر، مع أن النسخ لا يُلجأ إليه إلا عند التعارض التام بين نصين، بحيث يستحيل إعمال كل منهما، فهل العلاقة بين قوله تعالى: (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، والأحاديث الصحيحة التي فرضت العُشر أو نصفه - علاقة التضاد والتعارض التام؟ أم هي علاقة المجمل بالمفصَّل؟ والمبهم بالمفسَّر؟
إن الاحتمال الأخير هو الظاهر بوضوح لكل من تأمل العلاقة بين النصوص، وينبغي ألا يغرنا ما ذكره الطبري من الآثار عن ابن عباس وغيره من السلف: أن الحق المأمور به في الآية نسخه العُشر والزكاة المعلومة، فمن المعلوم أن النسخ في اصطلاح المتأخرين -بمعنى رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر- أخص من النسخ في عُرف الصحابة والتابعين وأتباعهم، فقد كان يدخل فيه ما سمى فيما بعد: تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتفسير المبهم، وتفصيل المجمل ونحوها.
قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات: "الذي يظهر من كلام المتقدمين: أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخًا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل متأخر نسخًا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد" (الموافقات:3/75).
وقال المحقق ابن القيم: "ومراد عامة السف بالناسخ والمنسوخ، رفع الحكم بجملته تارة -وهو اصطلاح المتأخرين- ورفع دلالة العام والمطلق وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد مطلق وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخًا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يُحصى وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على اصطلاح الحادث المتأخر" (إعلام الموقعين:1/28،29-طبع المنيرية).
وقد أحسن ابن كثير حين عقب على القول بالنسخ في هذه الآية فقال: "وفي تسمية هذا نسخًا نظر؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل، ثم إنه فصل بيانه وبين مقدار المخرج وكميته، قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة والله أعلم" (ابن كثير:2/182).
وبهذا يظهر لنا: أن الآثار التي ذكرت أن الحق في الآية منسوخ بالعُشر لا تعارض الرأي الأول الذي يقول: إن المراد بالحق في الآية هو العُشر.
وبه نفهم كيف روى كلا القولين عن ابن عباس وابن الحنفية والحسن؛ لأن الظاهر من تفسيرهم الحق: بالعُشر أو نصفه - مع علمهم بأن السورة مكية - أنهم يعنون: أن الإجمال فيه بُيِّن بعد الهجرة بالمقادير التي بينتها الزكاة، كأمثالها من الآيات المكية، التي ورد فيها وصف المؤمنين بإيتاء الزكاة، مع أنها لم تكن حددت وبينت بعد.
وما قيل من أن الزكاة لا يتيسر إيتاؤها يوم الحصاد، فهذا صحيح في بعض المزروعات كالقمح، أما الخضراوات والفاكهة كالعنب والرطب والزيتون والرمان - وهي الأربعة التي ذكرها الله في الآية مع الزرع - فيمكن تزكيتها يوم الحصاد، أي يوم القطع والجني.
وأول بعض العلماء إيتاء الحق بمعنى العزم عليه (انظر تفسير الفتوحات الإلهية - حاشية الجمل:2/99- طبع عيسى الحلبي).
أما النهي عن الإسراف، فيمكن صرفه إلىالأكل في قوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر) (الأنعام:141).
ثانيًا - من السُنَّة
وأما السنة:
(أ) فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًا: العُشر، وفيما سقى بالنضح : نصف العشر"(قال في المنتقى: رواه الجماعة إلا مسلمًا، لكن لفظ النسائي وأبي داود وابن ماجه: "أو كان بعلاً" بدل "عثريًا" ..نيل الأوطار:4/139، 140- طبع العثمانية).
والمراد بالعثريِّ: ما يشرب بعروقه من الأرض من غير سقي.
(ب) وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "وفيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سُقي بالساقية نصف العشور"(رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال: الأنهار والعيون - المصدر نفسه).
(جـ) وجاءت أحاديث أخرى في تحديد نصاب الزروع والثمار، وفي بعث السعاة وغير ذلك.
ثالثًا - الإجماع
وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة على: وجوب العُشر أو نصفه فيما أخرجته الأرض في الجملة، وإن اختلفوا في التفاصيل (بدائع الصنائع:2/54).
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #28  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة

الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة



وإذا كانت زكاة الخارج من الأرض من زرع وثمر ثابتة -في الجملة- بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول -كما قرر العلماء- فأي هذه الحاصلات الزراعية يجب فيها الزكاة المعلومة - العُشر أو نصفه؟ أتجب في كل ما يخرج من الأرض أم في بعضه؟ وما هذا البعض؟ وما وجه تخصيصه؟
اختلفت المذاهب في الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة :
1- مذهب ابن عمر وطائفة من السلف: "وجوب الزكاة في الأقوات الأربعة خاصة"
ذهب ابن عمر وبعض التابعين ومن بعدهم: أن لا زكاة في شيء من الحبوب غير الحنطة والشعير، ولا شيء في ثمار الفاكهة إلا في التمر والزبيب.
وهو رواية عن أحمد، وموسى بن طلحة، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وابن المبارك، وأبي عبيد (المحلي: 5/209 وما بعدها) ووافقهم إبراهيم وزاد: "الذرة" (المغني: 2/691).
واحتج أصحاب هذا القول:
(1) بما روى ابن ماجة والدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: "إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب" وزاد ابن ماجه: "الذرة" (قال الشوكاني: في إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي وهو متروك - نيل الأوطار:4/143).
(2) وبما روى عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن - يُعلِّمان الناس أمر دينهم - فأمرهما ألا يأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب (قال الحافظ: رواه الطبراني والحاكم (بلوغ المرام ص122)، وقال في التلخيص (ص179): قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل، وقال في الدراية ص174: في الإسناد يحيى بن طلحة، مختلف فيه، وهو أمثل ما في الباب- قال في المرعاة 3/39: وفيه أيضًا: أنه اختلف في رفعه ووقفه، وانظر: الخراج ليحيى بن آدم ص2153، والسنن الكبرى: 4/152، ونصب الراية: 2/319، والمحلي: 5/221) ولأن غير هذه الأربعة لا نص فيه ولا إجماع ولا هو في معناها في غلبة الاقتيات بها، وكثرة نفعها ووجودها، فلم يصح قياسه عليها ولا إلحاقه بها، فيبقى على الأصل.

2- مذهب مالك والشافعي "الزكاة في كل ما يقتات ويدخر"
وذهب مالك والشافعي إلى أن الزكاة تجب في كل ما يقتات ويدخر، وييبس من الحبوب والثمار، مثل الحنطة والشعير والذرة والأرز وما أشبه ذلك، والمراد بالمقتات: ما يتخذه الناس قوتًا يعيشون به في حال الاختيار، لا في الضرورة، فلا زكاة عند المالكية والشافعية في الجوز واللوز والبندق والفستق وما كان مثلها وإن كان ذلك مما يدخر، لأنه ليس مما يقتات الناس به، وكذلك لا زكاة في التفاح والرمان ولا في الكمثرى والخوخ والبرقوق ونحها لأنها مما ييبس ولا يدخر.
واختلف المالكية في التين، فذهب جماعة منهم إلى أن لا زكاة في التين، وذلك أن مالكًا قال في الموطأ: "السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم: أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك (الفرسك - بكسر الفاء والسين: الخوخ، أو ضرب منه أحمر) والتين، وما أشبه ذلك وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه" (الموطأ: 1/276- باب "ما لا زكاة فيه من الفواكه والقضب والبقول").
قال أبو عمر ابن عبد البر: "فأدخل التين في هذا الباب، وأظنه -والله أعلم- لم يعلم بأنه ييبس ويُدخر ويُقتات، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب، لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان، وقد بلغني عن الأبهرى وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يفتون بالزكاة فيه، يرونه مذهب مالك على أصوله عندهم" (نقل هذه الأقوال القرطبي في تفسيره: 7/103).
وذكر الخرشي في شرحه على متن "خليل": أن الزكاة تجب في عشرين نوعًا: القطاني السبعة: الحمص والفول واللوبيا والعدس والترمس والجلبان والبسيلة، وأيضًا القمح والشعير والسلت والعدس والأرز والذرة والدخن والزبيب والتمر؛ وأيضًا الأربعة ذوات الزيوت وهي: الزيتون والجلجلان -أي السمسم- وحب الفجل (أي الأحمر) والقرطم، فلا تجب في التين -على المعتمد- ولا في قصب ولا فاكهة ولا في حب الفجل (أي الأبيض) والعصفر والكتان، ولا في التوابل ونحو ذلك (شرح الخرشي على خليل مع حاشية العدوي: 2/168).
قال القرطبي: "وقال الشافعي: لا زكاة في شيء من الثمار غير التمر والعنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما، وكانا قوتًا بالحجاز يدخر.
قال: وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما؛ لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتًا فيما علمت، وإنما كانا فاكهة.
قال الشافعي: ولا زكاة في الزيتون لقوله تعالى: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) (الأنعام:141) فقرنه مع الرمان ولا زكاة فيه.
هذا قول الشافعي بمصر، وله قول بالعراق: أن فيه الزكاة" (انظر تفسير القرطبي:7/103).
ولم يختلف قول مالك في الزيتون -يعني أن فيه الزكاة- فقد ذكر في الموطأ أنه سأل ابن شهاب عن الزيتون، قال القرطبي: فقال: فيه العُشر (الموطأ:1/272: وقال مالك: إنما يؤخذ من الزيتون العُشر بعد أن يُعصر، ويبلغ زيته خمسة أوسق - المرجع نفسه).
ويدل هذا على: أن الآية عندهما محكمة غير منسوخة، واتفقا جميعًا على أن لا زكاة في الرمان، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه (تفسير القرطبي:7/103).
واستدل صاحب المهذب وشارحه لمذهب الشافعي بأمرين:
الأول: حديث معاذ بن جبل، وفيه: "فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضر فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" (رواه البيهقي في السنن الكبرى)، وروى جملة أحاديث ثم قال: هذه الأحاديث كلها مراسيل، إلا أنها من طرق مختلفة، فيؤكد بعضها بعضًا، ومعها قول الصحابة رضي الله عنهم، ثم روي عن عليّ وعمر وعائشة رضي الله عنهم.
الثاني: أن الأقوات تعظم منفعتها فهي كالأنعام في الماشية (المهذب مع المجموع:5/493).
وكلا الدليلين لا يكفي لمقاومة عموم القرآن والسنة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض وما سقت السماء، وبحث بعض المالكية في ثمن ما يباع من غلة البساتين التي تتخذ للغلة مما لا زكاة فيه عندهم كالتفاح ونحوه، فأشار إلى خلاف فيه هل يستقبل صاحبه بالثمن حولاً أم يعامله كعروض المحتكر، فيزكي كل ما يبيعه منها في الحال؟ لم يفصل القول في ذلك في شرح الرسالة، وأحاله على المطولات (شرح الرسالة لزروق:1/329).

3- مذهب أحمد: "في كل ما ييبس ويبقى ويكال"
ونقل عن أحمد عدة أقوال: أظهرها وأشهرها ما ذكره في المغني (الجزء الثاني: ص690-692) أن الزكاة تجب فيما جمع هذه الأوصاف: الكيل والبقاء واليبس - من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون إذا نبت في أرضه: سواء أكان قوتًا كالحنطة والشعير والسلت والأرز والذرة والدخن، أو من القطنيات كالباقلاء (الفول) والعدس، والماش، والحمص، أو من الأبازير: كالأكسفرة والكمون والكراويا، أو البذور: كبذر الكتان والقثاء والخيار، أو من حب البقول كالرشاد وحب الفجل والقرطم، والترمس والسمسم وسائر الحبوب، وتجب أيضًا فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار: كالتمر والزبيب والمشمش -أي المجفف- واللوز والفستق والبندق.
ولا زكاة في سائر الفواكه: كالخوخ والكمثرى والتفاح والمشمش.
ولا في الخضر: كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر، وبهذا قال عطاء في الحبوب كلها، ونحوه قول أبي يوسف ومحمد" اهـ.
فلم يشترط أحمد الإنبات كما اشترطه المذهب السابق.
والدليل على هذا القول: أن عموم قوله صلى الله عليه وسلم : "فيما سقت السماء العُشر"، وقوله لمعاذ: "خذ الحب من الحب"(جزء من حديث رواه أبو داود وابن ماجه كما في المنتقى، وقال الشوكاني: صححه الحاكم على شرطهما، وفي إسناده عطاء عن معاذ، ولم يسمع منه -نيل الأوطار: 4/152) يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناوله اللفظ، خرج منه ما لا يكال وما ليس بحب، بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : "وليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق"(انظر: نصب الراية: 2/384 الحديث 38) (رواه مسلم والنسائي)، فدل هذا الحديث: على انتفاء الزكاة مما لا توسيق فيه، أي لا كيل، وأما فيما هو مكيل فيبقى على العموم (المغني:2/692).

4- مذهب أبي حنيفة: "في كل ما أخرجت الأرض الزكاة"
وذهب أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة -العُشر أو نصفه- في كل ما أخرج الله من الأرض، مما يُقصد بزراعته نماء الأرض، وتُستغل به عادة، ولهذا استثنى الحطب والحشيش والقصب الفارسي؛ لأنها مما لا يستنبته الناس في العادة في الأرض، بل تنفي عنها، حتى لو اتخذ أرضه مقصبة أو مشجرة أو منبتًا للحشيش يجب فيها العُشر (الهداية - مع الفتح -: 2/2-5، وذكر في الفتح ص2: أنه لا شيء في الأدوية، ولا فيما يخرج من الأشجار كالصمغ والقطران، ولكن ينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يصبح ثروة تطلب وتقصد، فقد تزرع بعض النباتات للأدوية، وقد تستغل بعض الأشجار للصمغ، فيجب أن تدخل حينئذ في العموم).
فلم يشترط أن يكون الخارج من الأقوات، ولا أن يكون مما ييبس ويدخر ولا أن يكون مما يكال، ولا أن يكون مأكولاً.
ولذلك قال داود الظاهري وأصحابه -ما عدا ابن حزم- إن في كل ما أنبتت الأرض: الزكاة، ولا يستثنون شيئًا، وهو قول النخعي -في إحدى الروايتين- وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وحماد بن أبي سليمان (المحلي: 5/212،213).
وخالف أبا حنيفة صاحباه -أبو يوسف ومحمد- فيما ليس له ثمرة باقية (وهو ما يبقى سنة بلا علاج غالبًا، والعلاج: الحاجة إلى التقليب أو التعليق ..انتهى ملخصًا من فتح القدير: 2/2) وهي الخضراوات كالبقول والرطاب والخيار والقثاء ونحوها.
وعلى مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: يجب إخراج الزكاة من قصب السكر والزعفران والقطن والكتان وما شابهها، وإن لم تكن مما يقتات أو يؤكل.
وعلى قول أبي حنيفة يجب إخراج العُشر من الفواكه جميعها: كالتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والتين والمانجو وغيرها، سواء أكانت تجفف وتيبس أم لا؛ ويجب إخراج العُشر عنده من الخضراوات جميعًا كالخيار والقثاء والبطيخ والباذنجان والجزر واللفت والفجل وغيرها.
وحجة أبي حنيفة فيما ذهب إليه:
أولاً: عموم قوله تعالى في سورة البقرة: (ومما أخرجنا لكم من الأرض)(البقرة:267) ولم يُفرِّق بين مخرج ومخرج (قال الفخر الرازي في تفسير الآية (7/65): ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض على ما هو قول أبي حنيفة -رحمه الله- واستدلاله بهذه الآية ظاهر جدًا، إلا أن مخالفيه خصصوا عموم هذه الآية بقوله صلى الله عليه وسلم : "ليس في الخضراوات صدقة" أ هـ.
أقول: ولكن الحديث -كما سيأتي- ليس من الصحة بحيث يخصص عموم الآية، فبقي استدلال أبي حنيفة ظاهرًا جدًّا كما قال).
ثانيًا: قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده)(الأنعام:141) وذلك بعد ذكر أنواع المأكولات -من الجنات- معروشات وغير معروشات - والنخل والزرع، والزيتون والرمان، وأحق ما يحمل الحق عليه الخضراوات؛ لأنها هي التي يتيسر إيتاء الحق منها يوم القطع، وأما الحبوب فيتأخر الإيتاء فيها إلى يوم التنقية (بدائع الصنائع:2/59).
ثالثًا: قوله صلى الله عليه وسلم : "وفيما سقت السماء العُشر، وفيما سُقِى بالنضح نصف العشر" من غير فصل بين ما يبقى وما لا يبقى، وما يؤكل وما لا يؤكل، وما يُقتات وما لا يُقتات.

تعقيب وترجيح
وأولى هذه المذاهب بالترجيح هو مذهب أبي حنيفة الذي هو قول عمر بن عبد العزيز ومجاهد وحماد وداود والنخعي: أن في كل ما أخرجت الأرض الزكاة (لا أكاد أجد فرقًا في الواقع بين قول أبي حنيفة وقول من ذكرنا؛ لأن استثناء أبي حنيفة للحطب والقصب والحشيش لا يخرجه عن القول بعموم الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، لأن المقصود بما يخرج منها ما يزرع ويستنبت فيها، وإن كان ثمة فرق فليس له أثر يذكر) فهو الذي يعضده عموم النصوص من القرآن والسنة، وهو الموافق لحكمة تشريع الزكاة، فليس من الحكمة - فيما يبدو لنا - أن يفرض الشارع الزكاة على زارع الشعير والقمح، ويعفى صاحب البساتين من البرتقال أو "المانجو" أو التفاح، أما أحاديث حصر الصدقة في الأقوات الأربعة، فلم يسلم فيها حديث من طعن (انظر: المراعاة على المشكاة:3/39) إما بالانقطاع أو ضعف بعض الرواة -أو وقف ما ادعى رفعه- وعلى فرض التسليم بصحتها فقد تأولها ابن الملك وغيره من العلماء بأنه لم يكن ثمة غير الأربعة (انظر: المرقاة:4/153) أو يُحمل الحصر على أنه إضافي لا حقيقي، ولهذا لم يأخذ به أحد من أصحاب المذاهب المتبوعة.
والعجيب أن العلاَّمة السيد رشيد رضا أيد هذا المذهب المضيق! وأضاف إلى الأربعة: "الذرة"، كما في بعض الروايات، وقال: إن صح أن يقاس عليها شيء فالأرز، ولا سيما عند من هو قوتهم الغالب، قاله تعليقًا على كتاب المغني (انظر: المغني المطبوع مع الشرح الكبير:2/551) هذا مع أن الاعتبار الذي استند إليه في إيجاب الزكاة في الثروة التجارية، ونقلناه عنه هناك، وارد هنا أيضًا في الثروة الزراعية، وربما كانت نعمة الله في إخراج الزرع والثمر من الأرض: أظهر منها في أي مال آخر، ولهذا جاء الأمر بإيتاء حق الزرع يوم الحصاد منذ العهد المكي، وإن لم يبين مقدار هذا الحق ونصابه إلا في المدينة.
ولعل عذر السيد أنه عرض للموضوع بسرعة في تعليق خفيف عاجل بمناسبة طبع الكتاب، ولم يكن قصده تحقيق المسألة، ومهما يكن السبب فكل عالم يؤخذ منه ويُترك.
وقد أيَّد "ابن العربي" الفقيه المالكي: مذهب أبي حنيفة في "أحكام القرآن" .(أحكام القرآن - القسم الثاني: ص755-764 طـ دار المعرفة بيروت).
وفي شرح الترمذي قال: "وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلاً، وأحوطها للمساكين، وأولاها قيامًا بشكر النعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث" .(شرح الترمذي:3/135).
وفي تفسير آية: (وآتوا حقه يوم حصاده)(الأنعام:141) أطال القول في تأييد مذهب أبي حنيفة والرد على المذاهب الأخرى.
قال: أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق، فأوجبها في المأكول قوتًا كان أو غيره، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عموم قوله: "وفيما سقت السماء العُشر".
فأما قول أحمد: إنه فيما يوسق، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق" ..الحديث، فضعيف، لأن الذي يقتضيه طاهر الحديث أن يكون النصاب معتبرًا في الثمر والحب، فأما سقوط الحق عما عداها فليس في قوة الكلام، وأما المتعلق بالقوت (يعني الشافعية) فدعوى ومعنى ليس له أصل يرجع إليه، وإنما تكون المعاني موجهة لأحكامها بأصولها على ما بيناه في كتاب "القياس".
"فكيف يذكر الله سبحانه النعمة في القوت والفاكهة، وأوجب الحق فيها كلها، فيما تنوع حاله كالكرم والنخيل، وفيما تنوع جنسه كالزرع، وفيما ينضاف إلى القوت من الاستسراج الذي به تمام النعمة في المتاع بلذة البصر، إلى استيفاء النعم في الظلم"؟
فإن قيل: إنما تجب الزكاة في المقتات الذي يدوم، فأما في الخضر فلا بقاء لها، ولذلك لم تؤخذ الزكاة في الأقوات من أخضرها، وإنما أخذت من يابسها.
قلنا: إنما تؤخذ الزكاة من كل نوع عند انتهائه، واليبس انتهاء اليابس، والطيب انتهاء الأخضر، ولذلك إذا كان الرطب لا يتمر، والعنب لا يتزبب، تؤخذ الزكاة منهما على حالهما،ولو لم تكن الفاكهة الخضرية أصلاً في اللذة، وركنًا في النعمة ما وقع الامتنان بها في الجنة، ألا تراه وصف جمالها ولذتها فقال: (فيهما فاكهة ونخلٌ ورُمَّانٌ).(الرحمن:68) فذكر النخل أصلاً في المقتات، والرمان أصلاً في الخضراوات، أو لا ينظرون إلى وجه امتنانه على العموم لكم ولأنعامكم بقوله: (أنَّا صببنا الماء صبًا، ثُمَّ شققنا الأرض شقًا، فأنبتنا فيها حبًا، وعنبًا وقضبًا، وزيتونًا ونخلاً، وحدائق غلبًا، وفاكهة وأبًا)(عبس:25-31).
ثم قال ابن العربي:
فإن قيل: فلم لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر؟
قلنا: كذلك عول علماؤنا، وتحقيقه: أنه عدم دليل لا وجود دليل.
فإن قيل: لو أخذها لنقل.
قلنا: وأي حاجة إلى نقله والقرآن يكفي عنه" أ هـ.
وأما الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس في الخضراوات صدقة" فضعيف الإسناد لا يُحتج بمثله .(انظر تعليق الحافظ في التلخيص ص179، وفتح القدير لابن الهمام: 2/3- طبع مصطفى محمد، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/68-69 عن طلحة مرفوعًا، وقال: "زاده الطبراني في الأوسط والبتراء، وفيه الحارث بن نبهان، وهو متروك، وقد وثقه ابن عدي") فضلاً عن أن يُخصص به عموم القرآن والأحاديث المشهورة.
وقد رواه الترمذي ثم قال: إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، فلا يصح في هذا الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .(كتاب الزكاة - باب "ما جاء في زكاة الخضراوات"، وصحيح الترمذي بشرح ابن العربي ص132،133).
على أن للحديث محملاً عند فقهاء الحنفية -على فرض صحته- ومعناه: أنه ليس فيها صدقة تؤخذ بواسطة العمال والجباة، بل أربابها هم الذين يؤدونها بأنفسهم .(بدائع الصنائع: 2/59) وذلك لأن الخضراوات لا بقاء لها، فيسرع إليها التلف قبل أن تصل إلى المستحقين.
ومن هنا ذهب بعض الفقهاء إلى أخذ الزكاة من أثمان الخضراوات لا من عينها، روى ذلك يحيى بن آدم في "خراجه" عن الزهري قال:.
"ما كان سوى القمح والشعير والنخل والعنب والسلت (السلت: نوع من الشعير لا قشر له يتزودون به في الصيف) والزيتون، فإني أرى أن تخرج صدقته من أثمانه" .(الخراج اليحيى بن آدم ص145- طبع السلفية).
وروى أبو عبيد هذا القول عن ميمون بن مهران -مع الزهري- ثم قال: وأظن الأوزاعي ثالثهما .(الأموالص504) إلا أن الزهري جعل صدقتها صدقة النقدين، وكذلك ميمون بن مهران قال: ليس لها زكاة حتى تباع، فإذا بيعت فبلغت مائتي درهم فإن فيها خمسة دراهم .(الأموال ص 504).
وكذلك إذا كانت الثمار رطبًا لا يكون منه تمر، أو كانت عنبًا لا يكون منه زبيب، فإنه يحكى عن مالك -فيما ذكر أبو عبيد- أنه قال: "إذا بلغ خرصه (تقديره بالتقريب) خمسة أوسق كان في ثمنه إذا بيع، في كل مائتي درهم خمسة دراهم، وكذلك الزيتون الذي لا يكون منه الزيت صدقته على هذا، غير أنه لا يخرص إنما هو إلى ما يرفعه أهله .(المصدر السابق ص496).
وقد أحسن هؤلاء الأئمة إذ أوجبوا الزكاة في أثمان الخضراوات والفواكه التي لا يمكن أن تؤخذ وتحفظ في بيت المال، بل يسرع إليها التلف والفساد، ولكني أخالفهم في مقدار الواجب هنا، فلا يصح أن يكون ربع العشر، كما في زكاة النقدين، بل الواجب أن يكون العشر أو نصفه، لأنه بدل عن الخارج من الأرض، فيأخذ حكمه، ويقدر بقدره، فإن للبدل حكم المبدل.
وهذا ما يفهم من الروايات التي أطلقت أن فيها الزكاة بلا تحديد، وقد جاء عن الشعبي فيمن باع كرمه عنبًا، قال: يخرج من ثمنه العُشر أو نصف العُشر .(الخراج ليحيى بن آدم ص152).
وقال ابن أبي زيد في "الرسالة": ويُزكي الزيتون، إذا بلغ حبه خمسة أوسق أخرج من زيته، فإذا باع ذلك أجزأه أن يخرج من ثمنه إن شاء الله.
وقال ابن ناجي في شرحه: وهذا القول مروي عن مالك، قال: يخرج عُشر الثمن، قال: والمشهور من المذهب: أن الزيتون الذي له زيت إنما يخرج عنه الزيت فقط وما لا زيت له يخرج من ثمنه" اهـ .(انظر الرسالة وشرحها لابن ناجي:1/320-321).
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #29  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي النصاب في زكاة الزروع والثمار

النصاب في زكاة الزروع والثمار

مذاهب العلماء في اعتبار النصاب
جمهور علماء الأمة من الصحابة والتابعين وسائر أهل العلم بعدهم على أن: الزكاة لا تجب في شيء من الزروع والثمار حتى يبلغ خمسة أوسق .(المغنى: 2/695)، مستدلين بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة "، وهو حديث صحيح متفق عليه .(قال في المنتقى: رواه الجماعة من حديث أبى سعيد).
وذهب أبو حنيفة إلى أن الزكاة تجب في قليل ذلك وكثيره، لعموم قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العُشر" وهو حديث صحيح رواه البخاري وغيره، ولأنه لا يعتبر له حول، فلا يعتبر له نصاب .(المغنى: 2/695).
وهو قول إبراهيم النخعي -فيما رواه عنه يحيى بن آدم-: في كل قليل أو كثير من الأرض صدقة: العُشر أو نصف العُشر .(الخراج ص144).
وروى عن عطاء مثله.
وعن أبى رجاء العطاردي قال: كان ابن عباس بالبصرة يأخذ صدقاتها حتى "دساتج" الكراث .(المرجع السابق ص145 وفيه ضعف).
قال ابن حزم: وعن مجاهد وحماد بن أبى سليمان، وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي، إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، قل أو كثر، وهو عن عمر بن عبد العزيز وإبراهيم وحماد بن أبى سليمان في غاية الصحة .(المحلى: 5/112).
فعن عمر بن عبد العزيز قال: في عشر "دستجات" بقل، دستجة .(المرجع السابق ص113، وانظر فتح القدير: 2/3 - طبع مصطفى محمد) (حزمة).
وقال داود الظاهري: ما كان يحتمل التوسيق (الكيل) فلا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق، وما كان لا يحتمل التوسيق - مثل القطن والزعفران وسائر الخضراوات - فالزكاة في قليله وكثيره (المرجع نفسه ص241.
وهو نوع من التوفيق بين عموم حديث: "فيما سقت السماء العُشر"، وخصوص حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"نيل الأوطار: 4/151.
وحكى صاحب "البحر" عن الباقر والناصر مذهبًا آخر: أنه يعتبر النصاب في التمر والزبيب، والبر والشعير، إذ هي المعتادة، فانصرف إليها (البحر الزخار:2/169).
قال الشوكاني: وهو قصر للعام على بعض ما يتناوله بلا دليل (الجزء الرابع ص151).
تعقيب وترجيح
وإذا كنا رجحنا قول أبى حنيفة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، فإننا نخالفه في عدم اعتبار النصاب، وإيجاب العُشر في القليل والكثير من الزرع والثمر، فإن هذا مخالف للحديث الصحيح الذي نفى وجوب الزكاة عما دون خمسة أوسق، ومخالف لنظرية الشريعة -بصفة عامة- في إيجاب الزكاة على الأغنياء وحدهم، والنصاب هو الحد الأدنى للغنى، ولهذا اعتبر النصاب في سائر الأموال الزكوية.
ولا يجوز معارضة حديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " بحديث: "فيما سقت السماء العُشر" بدعوى أن هذا عام، وقد عارضه ذلك الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قُدِّم الأحوط، وهو الوجوب.
نعم ..لا يقال ذلك، بل يقال ما قاله ابن القيم في هذا الموضع:
يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر، ولا إلغاء أحدهما بالكلية، فإن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فرض في هذا وفى هذا، ولا تعارض بينهما -بحمد الله تعالى- بوجه من الوجوه، فإن قوله: "فيما سقت السماء العُشر" إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العُشر، وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقًا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث، وبينه نصًا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم، الذي لا يحتمل غير ما أول عليه البتة، إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصدوا بيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصصها من النصوص"؟ .(إعلام الموقعين:3/229، 230).
وقال ابن قدامة:لنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (متفق عليه)، وهذا خاص يجب تقديمه وتخصيص عموم ما رووه به، كما خصصنا قوله: "في كل سائمة من الإبل الزكاة" بقوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة"، وقوله: "في الرقة ربع العُشر" بقوله:"ليس فيما دون خمس أواق صدقة" ولأنه مال تجب فيه الصدقة، فلم تجب في يسيره، كسائر الأموال الزكوية.
" وإنما لم يعتبر الحَوْل، لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه، واعتبر الحَوْل في غيره، لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال، والنصاب اعتبر ليبلغ حدًا يحتمل المواساة منه، فلهذا اعتبر فيه.
" يحققه: أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء، ولا يحصل الغنى بدن النصاب كسائر الأموال الزكوية " .(المغنى: 2/695،696).
نصاب الحبوب والثمار
جاءت الأحاديث الصحيحة بتقدير النصاب في الحبوب والثمار بخمسة أوسق، وأجمع العلماء أن الوسق ستون صاعًا، فالأوسق الخمسة ثلاثمائة صاع، وقد روى في ذلك حديث مرفوع: "الوسق ستون صاعًا"، ولكن الحديث ضعيف. (رواه ابن ماجة عن جابر وإسناده ضعيف، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من طريق أبى البختري عن أبى سعيد مرفوعًا، وهو منقطع، لأن أبا البختري لم يسمع من أبى سعيد كما قال البخاري، بل لم يدركه كما قال أبو حاتم، ورواه الدارقطني عن عائشة، وهو ضعيف أيضًا، وقد بين الحافظ ضعفه من كل طرقه في التلخيص ص180 - طبع الهند)، والاعتماد في هذا التقدير على الإجماع الذي نقله ابن المنذر وغيره .(انظر المجموع: 5/447).
مقدار الصاع
إن معرفة الصاع أمر لازم لمعرفة نصاب الزرع والثمر، لأنه مقدر بالأوسق، والوسق مقدر بالصاع، كما أن زكاة الواجبة الفطر في كل عام مقدرة بالصاع أيضًا .(يحتاج إلى الصاع أيضًا في كفارة اليمين وفي فدية النسك)، فما هذا الصاع؟ وما مقداره؟
الصاع -كما في لسان العرب- مكيال لأهل المدينة يأخذ أربعة أمداد، وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد .(رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن سفينة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الترمذي: وفى الباب عن عائشة وجابر وأنس -انظر سنن الترمذي بتحقيق أحمد شاكر: 1/84)، وصاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة أمداد بمدهم المعروف عندهم.
والمد أيضًا مكيال، وقدروه بملء كفى الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومدَّ يده بهما، وبه سمى مدًا، قال صاحب القاموس: وقد جربت ذلك فوجدته صحيحًا.
وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمة أن ترجع في مكاييلها إلى ما تعارف عليه أهل المدينة، وفى موازينها -كالدرهم والمثقال- إلى ما تعارف عليه أهل مكة، وفى هذا روى ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة".(قال الحافظ في التلخيص ص183: رواه البزار واستغربه، وأبو داود والنسائي من رواية طاووس عن ابن عمر، وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي وأبو الفتح القشيري) وحكمة هذا التفريق -كما ذكرنا من قبل- أن أهل المدينة أهل زروع وثمار، فحاجتهم إلى المكاييل أكثر، وهى عندهم أدق وأضبط، أما أهل مكة فهم أهل تجارة، فتكون حاجتهم إلى الموازين -كالدينار والدرهم- أكثر، وبالتالي تكون عندهم أدق وأضبط.
اختلاف أهل الحجاز والعراق في الصاع
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جعل مكيال أهل المدينة هو المقياس الذي يرجع إليه ويعتمد عليه، فكان المتوقع أن يتفق المسلمون على مقدار الصاع وهو مكيال مدنى، ولكنهم اختلفوا في تقديره.
فأهل العراق -أبو حنيفة ومن وافقه- يقدرونه بثمانية أرطال (بالرطل البغدادي).
وأهل الحجاز -مالك والشافعي وأحمد وغيرهم- يقدرونه بخمسة أرطال وثلث رطل بغدادي.
دليل فقهاء العراق
وسند فقهاء العراق فيما قالوه: أن هذا قدر صاع عمر رضى الله عنه، فقد ثبت أنه ثمانية أرطال (بدائع الصنائع: 2/73)، وأيضًا صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع .(مر تخريجه قريبًا)، وجاء في حديث آخر أنه كان يغتسل بثمانية أرطال (ذكر هذه الأحاديث في الأموال: ص514 - 516، وبين أبو عبيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ أحيانًا بقدر الصاع، وأحيانًا بثمانية أرطال، وأحيانًا يتوضأ بالمد، وأخرى برطلين، فالأحاديث تحكى عن أحوال متعددة لا عن حال واحدة).
دليل فقهاء الحجاز
وحجة فقهاء الحجاز أن الخمسة الأرطال والثلث هي قدر صاع المدينة الذي توارثه أهلها خلفًا عن سلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمكيال مكيالهم، كما جاء في الحديث.
قال ابن حزم: هذا أمر مشهور بالمدينة،منقول نقل الكافة، صغيرهم وكبيرهم، وصالحهم وطالحهم، وعالمهم وجاهلهم، وحرائرهم وإمائهم، كما فعل أهل مكة بوضع الصفا والمروة والاعتراض على أهل المدينة في صاعهم ومدهم، كالمعترض على أهل مكة في موضع الصفا والمروة ولا فرق، وكمن يعترض على أهل المدينة في القبر والمنبر والبقيع، وهذا خروج عن الديانة والمعقول.
قال: وقد رجع أبو يوسف إلى الحق في هذه المسألة، إذ دخل المدينة ووقف على أمداد أهلها .(المحلى: 5/246).
يشير ابن حزم إلى القصة التي رواها البيهقي عن الحسين بن الوليد قال: قدم علينا أبو يوسف من الحج فأتيناه، فقال: إني أريد أن أفتح عليكم بابًا من العلم همني ففصحت عنه، فقدمت المدينة، فسألت عن الصاع فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت لهم: ما حجتكم في ذلك؟ قالوا: نأتيك بالحجة غدًا، فلما أصبحت أتى نحو خمسين شيخًا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه، كل رجل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته، أن هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظرت فإذا هي سواء، قال: فعايرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان معه يسير، فرأيت أمرًا قويًا، فقد تركت قول أبى حنيفة في الصاع، وأخذت بقول أهل المدينة .(السنن الكبرى للبيهقي: 4/171، ويبدو أن مثل قصة أبى يوسف تكررت لغيره مع أهل المدينة، فقد روى الدارقطني عن إسحاق بن سليمان الرازي قال: قلت لمالك بن أنس: أبا عبد الله ! كم قدر صاع النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي، أنا حزرته، فقلت: أبا عبد الله خالفت شيخ القوم، قال: من هو؟ قلت أبو حنيفة يقول ثمانية أرطال، فغضب غضبًا شديدًا ثم قال لجلسائنا: يا فلان هات صاع جدك، يا فلان هات صاع عمك، يا فلان هات صاع جدتك، قال إسحاق: فاجتمعت آصع، فقال: ما تحفظون في هذا؟ فقال هذا: حدثني أبي عن أبيه أنه كان يؤدى بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الآخر: حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال مالك: أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثًا (رواه الدارقطني والبيهقي بسند جيد، كما قال الشوكاني - نيل الأوطار: 4/196).
قال الحسين -راوي هذا الخبر-: فحججت من عامي ذلك، فلقيت مالك بن أنس فسألته عن الصاع فقال: صاعنا هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: كم رطلاً هو؟ قال: المكيال لا يرطل (يعنى لا يقدر بالوزن) وهو هذا (المرجع السابق).
وبعد الإمام مالك قال الإمام أحمد في القرن الثالث: الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة، وقال حنبل: قال أحمد أخذت الصاع من أبى النضر، وقال أبو النضر: أخذته عن ابن أبى ذئب، وقال هذا صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يُعرف بالمدينة، قال أبو عبد الله -يعنى ابن حنبل- فأخذنا العدس فعيرناه به، وهو أصلح ما وقفنا عليه يكال به، لأنه لا يتجافى عن موضعه فكلنا به، ثم وزناه فإذا هو خمسة أرطال وثلث، وقال أحمد: هذا أصلح ما وقفنا عليه، وما تبين لنا من صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- .(المغنى: 3/59).
هل يمكن التوفيق بين القولين؟
(أ) قال بعض الحنفية: إن أبا يوسف لما حرر الصاع وجده خمسة وثلثًا برطل أهل المدينة، وهذا المقدار يساوى ثمانية أرطال برطل بغداد، قال ابن الهمام: وهو أشبه؛ لأن محمدًا -رحمه الله- لم يذكر في المسألة خلاف أبى يوسف، ولو كان لذكره على المعتاد، وهو أعرف بمذهبه .(شرح فتح القدير: 2/42)، ومعنى هذا: أن الصاع واحد عند الحجازيين والعراقيين، ولكن الأرطال هي التي تختلف.
ولكن يرد هذا التخريج أن أبا يوسف قال في كتابه "الخراج" (صفحة 53 -طبع السلفية- الطبعة الثانية): الوسق ستون صاعًا بصاع النبي -صلى الله عليه وسلم- فالخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع، والصاع خمسة أرطال وثلث، ولا يفهم من هذه الأرطال إلا أنها البغدادية، فإن الكتاب قد أُلِّف بناء على طلب الخليفة الرشيد، وعاصمته بغداد، وأبو يوسف بها، فكيف يقدَّر في بغداد الصاع بأرطال المدينة؟!
(ب) ووفَّق ابن تيمية بين قول الحجازيين وقول العراقيين توفيقًا آخر، بيَّن فيه: أنه كان هناك صاعان: صاع للطعام والحبوب، وصاع للمياه والطهارة، فصاع الطعام خمسة وثلث، وصاع الطهارة ثمانية أرطال، كما جاء بكل واحد منهما الأثر، فصاع الزكوات والكفارات وصدقة الفطر هو ثلثا صاع الغسل، قال: وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، ممن جمع بين الأخبار المأثورة في هذا الباب اهـ (القواعد النورانية لابن تيمية ص 89).
وعلى هذا الرأي تكون الأرطال واحدة، ولكن الصيعان هي التي تختلف.
(ج) وفي العصر الحديث بحث على باشا مبارك موضوع الصاع متعمدًا على النتائج التي وصل إليها بعض الباحثين من الأوربيين، فانتهى إلى أن الصاع الشرعي الذي عنته الأحاديث النبوية: خمسة أرطال وثلث - كما هو رأى فقهاء الحجاز (رسالة على باشا مبارك " الميزان في الأقيسة والأوزنة " طبع المطبعة الأميرية ببولاق ص 86 - 88 نقلاً عن الخراج في الدولة الإسلامية للأستاذ ضياء الدين الريس ص 301 - الطبعة الأولى).
ولكنه ساق تعليلاً آخر للخلاف السابق بما يفيد أن الخلاف صوري لا حقيقي فقد قال: "والفرق الناتج بين علماء العراق وغيرهم من علماء العرب نشأ من أن علماء العراق يعتبرون كمية الماء المظروف في المدّ أو في الصاع، وغيرهم اعتبر كمية الحب التي يستوعبها هذان الكيلان".
ثم قال: "وبالتأمل في ذلك يعلم أن خمسة أرطال وثلث رطل توافق ما يستوعبه من الحب، وثمانية أرطال توافق ما يستوعبه من الماء للغسل، والثمانية هي عدد تقريبي، لما ذكر بعضهم من أن الصاع أقل من ثمانية أرطال، وأكثر من سبعة وهو صحيح؛ لأنك إن أجريت الحساب باعتبار أن النسبة بين ثقل الحب وثقل الماء كالنسبة بين 3،4 تجد أن خمسة أرطال وثلثًا من حب القمح تعادل أكثر من سبعة أرطال من الماء، وأقل من ثمانية " (الخراج في الدولة الإسلامية - المرجع السابق).
ومعنى هذا: أن الأرطال واحدة، وأن الصاع واحد لدى الفريقين، وإنما اختلفت زاويتا النظر لدى كل منهما.
فأهل العراق -أو الأحناف- اعتبروا سعة الصاع بالماء، وبقية العلماء سواهم اعتبروا سعته بحسب الحب (نفس المرجع السابق).
ولكن لو كان الخلاف على هذه الصورة، فلماذا غضب مالك غضبه الشديد ولماذا عدل أبو يوسف عن رأيه، وخالف رأى شيخه وصاحبه أبى حنيفة؟
النتيجة
وإذن فالقول الصحيح الذي تعضده البراهين كلها هو قول أهل الحجاز، ومن وافقهم أن الصاع خمسة أرطال وثلث.
والواقع - كما قال الأستاذ الريس: " أنه لا ينبغي أن يبقى هناك شك، حول ذلك بعد أن قامت الأدلة على صحة هذا التقدير، من أقوال أكثر العلماء والمجتهدين، وفى طليعة الأدلة ذلك الخبر الذي ورد عن الإمام مالك، بأنه قام بمعايرة صيعان أهل المدينة التي كانت باقية منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك بحضور الخليفة الرشيد، وبعد مناقشة جرت بينه وبين القاضي أبى يوسف، فكان من جراء هذا الإثبات بالتجربة العلمية المشاهدة أن اقتنع أبو يوسف، وعدل عن قوله إلى قول مالك وأهل المدينة.
نقول: فمن أعلم من الإمام مالك بالتقاليد المأثورة للمدينة؟ وأي شهادة أكبر من شهادة الفقيه المجتهد أبى يوسف: قاضى الخلافة ومستشارها الأول؟
ثم إن هذا التحديد للصاع هو الذي يتفق مع كل النسب التي حددت للوحدات الأخرى، وتبدو هذه النسب به معقولة، مجارية لطبائع الأشياء، بخلاف ما إذا فرض التحديد الآخر، فيلحظ حينئذ تفارق كبير، وتجاوز لدائرة المعقول.
"وعلى أية حال فإن المد قد عرف أيضًا بأنه: "ملء كفى الإنسان المعتدل"، والصاع: "بأنه أربع حفنات"، فالذي يتصور، ألا تتجاوز الكمية الأولى رطلاً وثلثاَ، والثانية مثل ذلك أربع مرات (الخراج في الدولة الإسلامية ص 302،303).
نصاب الحبوب والثمار بالمقاييس العصرية
ما دام قد ثبت لنا كل من الصاع والمد بالأرطال البغدادية، فمن الممكن أن نعرف مقدارها بأي مقياس آخر: بالأرطال المصرية مثلاً، أو بالدراهم أو الجرامات، أو اللترات، إذ أن النسب بين هذه الأمور ثابتة .(الخراج في الدولة الإسلامية ص303).
وإذا عرفنا مقدار الصاع عرفنا -بالتالي- مقدار الوسق، الذي جعل الشارع خمسة منه نصاب الحب والثمر.
والنصاب -كما قال ابن قدامة- معتبر بالكيل، فإن الأوساق مكيلة، وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتحفظ وتنقل، ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات، والمكيلات تختلف في الوزن، فمنها الثقيل كالحنطة والعدس، ومنها الخفيف كالشعير والذرة، ومنها المتوسط، وقد نص أحمد على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة .(المغنى: 2/701).
وقال بعض أهل العلم: أجمع أهل الحديث على أن مد النبي -صلى الله عليه وسلم- رطل وثلث قمحًا من أواسط القمح، وهذا يدل على أنهم قدروا الصاع بالثقيل، فأما الخفيف فتجب الزكاة فيه إذا قارب هذا وإن لم يبلغه (المغنى: 2 / 701)، ومن هنا سيكون أساس تقديرنا هو وزن القمح الوسط.
ومن حيث إن نسبة الرطل البغدادي إلى الرطل المصري هي كنسبة (9 إلى 10) كما حقق على مبارك (الخراج في الدولة الإسلامية ص304 - 305)، فإن الصاع بالأرطال المصرية =3/1 5 × 10/9=4.8 أرطال مصرية (قمحًا) .(المرجع السابق)، وهذا الرقم يساوى بالجرامات (2156) حسب الوزن بالقمح.
وهذا المقدار يساوى بالماء 2.75 لترًا.
وإذا كان الإردب المصري الحالي = 128 لترًا (بالماء) وهو مكون من 96 قدحًا.
فبعملية حسابية نجد أن الصاع = 3/1 1 قدحًا أي 6/1 كيلة مصرية.
فالكيلة المصرية الحالية =6 آصع، والإردب = 72 صاعًا (حدث خطًأ حسابي في الطبعات السابقة، حيث كتب بدل رقم 2.156 رقم 2.176، وقد صححنا الخطأ في هذه الطبعة فنرجو استدراكه فيما سبق من طبعات).
ويكون الوسق -وهو 60 صاعًا- يساوى 6/60 = 10 كيلات مصرية.
فالأوسق الخمسة - وهي النصاب الشرعي = 5×10 = 50 كيلة مصرية، أي أربعة أرادب وويبة.
وهذه النتيجة توافق ما انتهى إليه الشيخ على الأجهوري من علماء المالكية - في منتصف القرن الحادي عشر الهجري- من ضبط النصاب بالكيل المصري فوجده كذلك، فقد ذكر أنه حر النصاب عام 1042 هـ (سنة اثنتين وأربعين وألف)، بكيل مصر فوجده أربعة أرادب وويبة، وذلك لأن المد -كما تقرر- ملء اليدين المتوسطتين غير مقبوضتين ولا مبسوطتين، قال: وقد وجدت القدح المصري يأخذ ملأهما ثلاث مرات كما حررت ذلك بأيدي جماعة، ومن المعلوم أن النصاب ثلاثمائة صاع، والصاع أربعة أمداد، فيكون النصاب بالقدح المصري 400 (أربعمائة) قدح، وهي أربعة أرادب وويبة .(حاشية العدوى على شرح الخرشي: 2/168).
أما بالوزن فيساوى النصاب بالأرطال المصرية = 300 × 4.8 = 440 رطلاً من القمح.
وبالكيلو جرامات يوازي = 300 × 2.156 =646.96 كيلو جرام قمح، وبالتقريب = 647 ك ج (بناء على تصحيح مقدار الصاع أصبح الوسق 647 ك ج بدل 653 في الطبعات السابقة).
نصاب غير المكيلات
ما ذكرنا من النصاب "الأوسق الخمسة" إنما هو في المكيلات من الحاصلات الزراعية، أما ما لا يقدر بالكيل كالقطن والزعفران فقد اختلفوا في تقدير نصابه:
(أ) قال أبو يوسف: يعتبر فيه القيمة، وذلك أن تبلغ قيمة الخارج من قطن وغيره قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يكال من الحبوب، كالشعير مثلاً، وإنما قال ذلك لأن الأصل اعتبار الوسق حيث ورد به النص، غير أنه إن أمكن اعتباره صورة ومعنى اعتبر، وإن لم يمكن يجب اعتباره معنى، وهو قيمة الموسوق بدائع الصنائع:2/61، واعتبار الأدنى لحظ الفقراء.
وعلى هذا تجب زكاة القطن إذا كان ثمن الخارج منه يساوى ثمن خمسين كيلة من الشعير، باعتباره أرخص الحبوب الآن على ما نعلم، وخاصة في مصر.
(ب) وقال محمد: المعتبر إنما هو خمسة أمثال أعلى ما يقدر به ذلك الشيء، لأن التقدير بالوسق في المكيلات لم يكن إلا لأن الوسق أعلى ما يقدر به في بابه المرجع السابق.
وعلى هذا إذا كان القطن يقدر بالقناطير في عصرنا، فنصابه خمسة قناطير، وهكذا ولكن يؤخذ على هذا التقدير أن النصاب به لا ينضبط، لاختلاف الأقطار بل البلدان في القطر الواحد في اعتبار أعلى ما يقدر به نوع من الحاصلات مما يؤدي إلى الاضطراب والاختلاف الشديد.
(جـ) وذهب بعضهم إلى تقويم نصاب غير المكيل بمائتي درهم -أي بنصاب النقود- كمال التجارة، إذ هو مزكى لا نصاب له في نفسه فاعتبر بغيره البحر الزخار: 2/170.
(د) وقال داود: ما لا يكال تجب الزكاة في قليله وكثيره المغنى: 2/697.
(هـ) وعند أحمد: أن ما لا يكال يقدر بالوزن، ولهذا قدر نصاب الزعفران والقطن وشبههما بألف وستمائة رطل بالعراقي، لأنه ليس بمكيل، فيقوم وزنه مقام كيله المرجع السابق: 2/697، 698، لأن النصاب الذي جاء به الشرع قد عرف مقداره بالوزن، كما عرف بالكيل، فالأولى - فيما لا يكال أن يقدر بالوزن، وهو 647 كيلو جرام كما بيناه.
قال ابن قدامة -معقبًا على الأقوال الأخرى-: ولا أعلم لهذه الأقوال دليلاً ولا أصلاً يعتمد عليه، ويردها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة".
وإيجاب الزكاة في قليله وكثيره مخالف لجميع أموال الزكاة.
واعتباره بغيره مخالف لجميع ما يجب عُشره، واعتباره بأقل ما فيه الزكاة قيمة لا نظير له أصلاً، وقياسه على العروض لا يصح، لأن العروض لا تجب الزكاة في عينها، وإنما تجب في قيمتها، وتؤدى من القيمة التي اعتبرت بها.
ولأن هذا مال تخرج الزكاة من جنسه فاعتبر نصابه بنفسه كالحبوب.
ولأنه خارج من الأرض يجب فيه العُشر أو نصفه، فأشبه سائر ما يجب فيه ذلك.
ولأنه لا نص فيما ذكروه ولا إجماع، ولا هو في معناهما، فوجب ألا يقال به لعدم دليله نفس المرجع السابق.
الرأي الذي نختار
والرأي الذي أختاره هو اعتبار القيمة فيما لا يوسق ولا يكال لأنه مال زكوي لم ينص الشرع على نصابه فاعتبر بغيره وإذا كان لا بد من اعتبار النصاب بغيره، فليعتبر بقيمة ما يوسق للنص عليه، كما ذهب أبو يوسف ولكنى أخالف الإمام أبا يوسف في اعتباره القيمة بأدنى ما يوسق كالشعير والأذرة ونحوها، فإنه -وإن كان فيه رعاية لحظ الفقراء- لا يخلو من إجحاف بأرباب الأموال.
ولهذا أرى أن يقدر بأوسط ما يوسق من المكيلات المعروفة، لا بالأدنى ولا بالأعلى، رعاية للطرفين: الفقراء والممولين معًا.
وأوسط ما يوسق يختلف باختلاف الأقطار والأزمنة والأحوال الاقتصادية ولذا يجب أن يترك تحديده إلى أهل الرأي في كل بلد فقد يكون في بلد هو القمح، ويكون في آخر هو الأرز مثلاً وعلى هذا يمكن تقدير النصاب في الزعفران والنرجس وغيرهما من الحاصلات الغالية الثمن - التي لا تنتج الأرض منها عادة مثل ما تنتج من الأذرة والشعير - بقيمة 647 ك ج من غلة متوسطة في بلادنا كالقمح أو الأرز.
ومثل ذلك القطن وقصب السكر ونحوهما
متى يعتبر النصاب؟
والنصاب إنما يعتبر بعد الجفاف في الثمار، أي بعد أن يصير الرطب تمرًا، والعنب زبيبًا، وبعد التصفية والتنقية من القشر في الزروع.
قال الغزالي في الوجيز: ثم هذه الأوسق تعتبر زبيبًا أو تمرًا، وفى الحبوب منقى عن القشر إلا فيما يطحن مع قشره كالذرة، وما لا يتتمر يوسق رطبًا (انظر الوجيز وشرحه للرافعي - مع المجموع:5/568) وما كان يدخر في قشره كالأرز، فلا يكلف أهله إزالة قشره عنه لما في ذلك من الضرر عليهم.
أما النصاب فقدره بعض الفقهاء بضعف المنقى عن القشر، ليكون الصافي منه نصابًا، والأولى أن يرجع في ذلك إلى تقدير الخبراء فى كل نوع من الحبوب، وكل صنف منها على حدة، بحيث يعتبر أن يكون الصافي منها نصابًا المرجع السابق ص569، والمغنى: 2/697.

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #30  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي مقدار الواجب وتفاوته

مقدار الواجب وتفاوته

العُشر و نصف العُشر
روى البخاري عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا: العُشر، وفيما سُقى بالنضح: نصف العُشر"قال الحافظ في التلخيص ص180: رواه البخاري وابن حبان وأبو داود والنسائي وابن الجارود، ورواه مسلم من حديث جابر، والترمذي وابن ماجة عن أبى هريرة، والنسائي وابن ماجة من حديث معاذ والعثري -كما قال الأزهري وغيره- مخصوص بما سقى من ماء السيل، فيجعل عاثورًا، وهو شبه ساقية تحفر ويجرى الماء إلى أصوله، وسمى كذلك؛لأنه يتعثر به المار الذي لا يشعر به، والنضح: السقي بالسانية ذكره الحافظ في التلخيص ص 180 وهو البعير الذي يستقى به الماء من البئر ويقال له -: الناضح، والجمع: سوانٍ ونواضح.
وروى مسلم عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيما سقت الأنهار والغيم العُشر، وفيم سُقى بالسانية نصف العُشور"رواه أيضًا أحمد والنسائي وأبو داود (نيل الأوطار: 4/139 - طبع العثمانية)
والغيم: المطر، والعُشور: جمع عُشر.
وروى يحيى بن آدم في الخراج عن أنس قال: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما سقت السماء العُشر، وفيما سُقى بالدوالي والسواني والغرب والناضح:نصف العُشر" التلخيص ص181 والغرب: الدلو الكبير.
وروى ابن ماجة عن معاذ: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فأمرني أن آخذ مما سقت السماء وما سقى بعلاً العُشر، وما سقى بالدوالي نصف العُشر أخرجه ابن ماجة في باب "صدقة الزروع والثمار" عن عاصم بن أبى النجود عن أبى وائل عن مسروق عن معاذ (نصب الراية: 2/385).
قال أبو عبيد: البعل ما شرب بعروقه من غير سقى (ككثير من الكروم والبساتين في فلسطين) وهكذا كل ما سُقي بغير آلة وكلفة سواء أكان من المطر، أو من ماء ينصب إليه من جبل أو نهر أو عين كبيرة، أو يشرب بعروقه فكله فيه العُشر انظر: الروضة للنووي: 2/244.
قال في المغنى: وفي الجملة كل ما سُقي بكلفة ومؤونة من دالية أو سانية أو دولاب أو ناعور أو غير ذلك ففيه نصف العُشر، وما سقي بغير مؤونة ففيه العُشر، لما روينا من الخبر، ولأن للكلفة تأثيرًا في إسقاط الزكاة جملة، بدليل العلوفة، فبأن تؤثر في تخفيفها أوْلى، ولأن الزكاة إنما تجب في المال النامي وللكلفة تأثير في تقليل النماء، فأثرت في تقليل الواجب " المغنى:2/698، 699.
ويدخل في الكلفة أن يشترى الماء لأرضه أو بستانه كما قال النووي وغيره الروضة: 2/245.

ما سقي بعض العام بكلفة وبعضه بغير كلفة
(أ) فإن سقي الزرع نصف السنة بكلفة ونصفها بغير كلفة، ففيه ثلاثة أرباع العُشر، قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه مخالفًا، لأن كل واحد منهما لو وُجِد في جميع السنة لوجب مقتضاه، فإذا وُجِد في نصفها أوجب نصفه المغنى: 2/699.
(ب) وإن سُقِي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر أكثرهما، فوجب مقتضاه وسقط حكم الآخر، وهو قول عطاء والثوري وأبى حنيفة وأحد قولي الشافعي والمعتمد عند الحنابلة والقول الآخر: يسقط الواجب على عدد السقيات، لأنهما لو كانا نصفين أخذ بالحصة، فكذلك إذا كان أحدهما أكثر كما لو كانت الثمرة نوعين.
ورجح الأول بأن اعتبار مقدار السقي وعدد مراته وقدر ما يشرب في كل سقية يشق ويتعذر، فكان الحكم للأغلب منهما كالسوم في الماشية (انظر المغنى: 2/700).
(جـ) وإن جُهِل المقدار غلّبنا إيجاب العُشر احتياطًا، لأن الأصل وجوب العُشر وإنما يسقط بوجود الكلفة، فما لم يتحقق المسقط يبقى على الأصل، ولأن الأصل عدم الكلفة في الأكثر، فلا يثبت وجودها مع الشك فيه المغنى:2/700.

هل يعتبر الجهد في غير السقي؟
بقى النظر فيما إذا ثقلت المؤونة بسبب آخر غير سقيه بالآلات ونحوها، كأن يحتاج إلى حفر الترع والمصارف والقنوات ونحو ذلك.
والذي أفاده صاحب المغنى في هذا المقام أن حفر الأنهار والقنوات، لا يؤثر في نقصان الزكاة، وعلل ذلك بأنه من جملة إحياء الأرض ولا يتكرر كل عام المغنى: 2/699.
ومثل ذلك أفاده الرافعي في الشرح الكبير، وعلله بأن مؤونة القنوات إنما تتحمل لإصلاح الضيعة، والأنهار تُشَق لإحياء الأرض، فإذا تهيأت وصل الماء إلى الزرع بطبعه مرة أخرى، فيكون فيه العُشر، بخلاف السقي بالنواضح ونحوها الشرح الكبير مع المجموع: 5/578.
وفصل الإمام الخطابى فقال: وأما الزرع الذي يُسقى بالقنى (القنوات) فالقياس على هذا أن ينظر، فإن كان لا مؤونة فيها أكثر من مؤونة الحفر الأول وكسحها في بعض الأوقات، فسبيلها سبيل النهر والسيح في وجوب العُشر فيها، وإن كان تكثر مؤونتها بأن لا تزال تتداعى وتنهار، ويكثر نضوب مائها، فيحتاج إلى استحداث حفر، فسبيلها سبيل ماء الآبار التي يُنزح منها بالسواني والله أعلم معالم السنن: 2/207.
وتبعه في هذا التفصيل بعض الشافعية، كما ذكر الرافعي في الشرح الكبير نفس المصدر الأسبق، وانظر الروضة للنووي: 2/244.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد

أدوات الموضوع ابحث في الموضوع
ابحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:41 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.