موقع كوبون جديد للحصول على اكواد الخصم  آخر رد: الياسمينا    <::>    إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>    دورة البادل، كانت فكرة وبالجهد نجحت  آخر رد: الياسمينا    <::>    لاونج بموقع مميز ودخل ممتاز للتقبيل في جدة حي الخالدية  آخر رد: الياسمينا    <::>    تورست لايجار السيارات والليموزين في مصر  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي تحاضر عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإر...  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #31  
قديم 12-08-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ) مصنف و مدقق 41-50 من 65

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ) مصنف و مدقق 41-50 من 65






والطاعة تتضمن صلاح المعاش والمعاد

{ مَن عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَو أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُم أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [النحل16: 97]

فعلى الناس أن يطيعوا ملوكهم، وعلى الملوك أن يطيعوا مالك الملك حتى تنتظم أمور معاشهم ومعادهم لما وصف نفسه بأنه " ملك يوم الدين " أظهر للعالمين كمال عدله بنفي الظلم تارة

{ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ } [ق50: 29]

وبثبوت العدل أخرى

{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } [الأنبياء21: 47]

فلا خلة للملك أعم نفعاً وأتم وقعاً من أن يكون عادلاً. ومن هنا تظهر البركة في العالم أو ترتفع إن كان السلطان عادلاً أو جائراً. يحكى أن أنوشروان خرج يوماً إلى الصيد وانقطع عن عسكره واستولى عليه العطش، فرأى بستاناً فيه رمان. فلما دخله قال لصبي فيه: أعطني رمانة، فأعطاه فعصرها وأخرج منها ماء كثيراً، فشربه وأعجبه ذلك، فعزم على أن يأخذ ذلك البستان من مالكه. ثم قال لذلك الصبي: أعطني رمانة أخرى، فأعطاه فعصرها فخرج منها ماء قليل فشربه فوجده عفصاً. فقال: أيها الصبي، لم صار الرمان هكذا؟ فقال الصبي: فلعل ملك البلد عزم على الظلم فلشؤم ظلمه صار هكذا، فتاب أنوشروان في قلبه وأناب، وقال للصبي: أعطني رمانة أخرى فعصرها فوجدها أطيب من الأولى فقال للصبي: لم بدلت هذه الحالة؟ فقال: لعل الملك تاب عن ظلمه. فلما وجد أنوشروان مقالة الصبي مطابقة لأحواله في قلبه تاب بالكلية، فكان من ميامن عدله أن ورد في حقه قول نبينا صلى الله عليه وسلم " ولدت في زمن الملك العادل ".


الثالثة: كونه مالكاً وملكاً معناه أنه قادر على ترجيح جانب وجود الممكنات على عدمها، وأنه قادر على نقلها من صفة إلى صفة كما يشاء من غير مانع ولا منازع. وعلى قضية الحكمة والعدالة فهو الملك الحق وأنه ملك يوم الدين أيضاً، لأن القدرة على إحياء الخلق بعد إماتتهم والعلم بتلك الأجزاء المتفرقة من أبدان الناس لا يختص به أحد غيره، فإذا كان الحشر والنشور لا يتأتى إلا بعلم يتعلق بجميع المعلومات وقدرة تنفذ في كل الممكنات، فلا مالك ليوم الدين إلا الله. فإن قيل: لا يكون مالكاً إلا إذا كان المملوك موجوداً لكن القيامة غير موجودة فينبغي أن يقال " مالك يوم الدين " بالتنوين بدليل أنه لو قال: أنا قاتل زيد كان إقراراً، ولو قال: أنا قاتل زيداً كان تهديداً. قلنا: لما كان قيام القيامة أمراً حقاً لا يجوز الإخلال به في الحكمة، جعل وجوده كالشيء القائم في الحال. ولو قيل: من مات فقد قامت قيامته زال السؤال.

الرابعة: قالت القدرية: إن كان الكل من الله فثواب الرجل على ما لم يعمله عبث وعقابه على ما لم يفعله ظلم، فيبطل كونه مالكاً ليوم الدين.

-41-

قلنا: خلق الجنة وخلق اهلاً لها، وخلق النار وخلق أهلاً لها، وذلك أن له صفة لطف وصفة قهر كما ينبغي لكل ملك. فخلق لكل صفة مظهراً ولا يسأل عما يفعل، لأن كل سؤال ينقلب فهو باطل.

الخامسة: في هذه السورة من أسماء الله تعالى خمسة: الله، الرب، الرحمن، الرحيم، المالك. كأنه يقول: خلقتك أولاً فأنا الله، ثم ربيتك بأصناف النعم فأنا الرب، ثم عصيت فسترت عليك فأنا الرحمن، ثم تبت فغفرت لك فأنا الرحيم، ثم أجازيك بما عملت فأنا مالك يوم الدين وذكر الرحمن الرحيم مرة في التسمية ومرة أخرى في السورة دليل على أن العناية بالرحمة أكثر منها بسائر الأوصاف، ومع ذلك عقبها بقوله " مالك يوم الدين " كيلا يغتروا بها. ونظيره

{ غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ } [غافر40: 3].


السادسة: الحمد والمدح والتعظيم فيما بين الناس إنما يكون لكونه كاملاً في ذاته وإن لم يكن له إحسان إليك، وإما لكونه محسناً إليك، وإما رجاء وطمعاً في المستقبل، وإما خوفاً ورهبة، فكأنه سبحانه يقول: إن كنتم تعظمون للكمال الذاتي فاحمدوني فإني أنا الله، وإن كنتم تعظمون للإحسان السالف فأنا رب العالمين، وإن كنتم تعظمون للإحسان المترقب فأنا الرحمن الرحيم، وإن كنتم تعظمون رهبة عن العقاب فأنا مالك يوم الدين.

الثامن: في فوائد قوله " إياك نعبد ".

الأولى: لا شك أن تقديم المفعول مفيد للاختصاص أي لا نعبد أحداً سواك والحاكم فيه الذوق السليم. واستحقاق هذا الاختصاص لله تعالى ظاهر، لأن العبادة عبارة عن نهاية التعظيم فلا تليق إلا لمن صدر منه غاية الإنعام وهو الله تعالى. وذلك أن للعبد أحوالاً ثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي فقد كان معدوماً فأوجده

{ وَقَد خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَم تَكُ شَيْئاً } [مريم19: 9]
{ أَوَمَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ } [الأنعام6: 122]
{ وَكُنتُم أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُم } [البقرة2: 28]

وكان جاهلاً فعلمه

{ أَخْرَجَكُم مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُم لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً } [النحل16: 78]

ثم أسمعه وأبصره وأعقله

{ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } [الملك67: 23]

فهو إله بهذه المعاني. وأما الحاضر فحاجاته كثيرة، ووجوه افتقاره غير محصورة من أول عمره إلى آخره مع انفتاح أبواب المعصية وانخلاع ربقة الطاعة، فهو رب رحمن رحيم من هذه الوجوه. وأما المستقبل فأموره المتعلقة بما بعد الموت وأنه مالك يوم الدين بهذه الحيثية، فلا مفزع للعبد في شيء من أحواله إلا إليه، فلا يستحق عبادة العبد إلا هو. وأيضاً ثبت بالدلائل القاطعة وجوب كونه تعالى عالماً قادراً جواداً غنياً حكيماً إلى غير ذلك من الصفات الكمالية، وأما كون غيره من الفلكيات والطبائع والنفوس كذلك فمشكوك فيه وإن كنا نجزم بأنه لا تأثير لها فوجب طرح المشكوك والأخذ باليقين، فلا معبود بالحق إلا الله سبحانه، وأيضاً العبودية ذلة ومهانة، فكلما كان المولى أشرف وأعلى كانت العبودية أهنأ وأمرأ.


-42-

ولما كان الله تعالى أشرف الموجودات وأعلاها وأولاها بالصفات العلى، فعبوديته أولى، وأيضاً كل ما سوى الواجب الغني ممكن فقير، والفقير مشغول بحاجة نفسه فلا يمكنه إفادة غيره. فدافع الحاجات هو الله فلا يستحق العبادة إلا هو

{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ } [الإسراء17: 23].


الثانية: تقديم ذكر الله تعالى يورث الخشية والمهابة حتى لا يلتفت في العبادة يميناً وشمالاً بخلاف العكس. (يحكى) أن واحداً من المصارعين الأستاذين صارع بعض من هو دونه ولا يعرفه، فصرع الأستاذ مراراً فقيل له: فلان الأستاذ فانصرع في الحال وما ذاك إلا لاحتشامه بعد عرفانه. وأيضاً ذكره تعالى أوّلاً مما يورث العبد قوة يسهل بها عليه ثقل العبودية فوجب تقديمه، كما أن من أراد حمل ثقيل يقدم عليه دواء أو غذاء بعينه على ذلك، كما أن العاشق يسهل عليه جميع الآلام عند حضور معشوقه. وأيضاً

{ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُم طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُبْصِرُونَ } [الأعراف7: 201]

فالنفس إذا مسها طائف الشيطان من الكسل والغفلة والبطالة طلع لها جلال الله من مشرق " إياك نعبد " فتصير مبصرة مستعدة لأداء حق العبودية. وأيضاً إن بدأ بالعبادة فض إبليس قلبه أن المعبود من هو فيلقي في نفسه وساوس، أما إذا غير هذا الترتيب وقال: " إياك نعبد " كان بعيداً عن احتمال الشرك. وأيضاً الواجب لذاته متقدم في الوجود فيناسب أن يكون مقدماً في الذكر. وأيضاً المحققون نظرهم على المعبود لا على العبادة، وعلى المنعم لا على النعمة، ولهذا قيل لبني إسرائيل

{ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ } [البقرة2: 40]

ولأمة محمد

{ فَاذْكُرُونِي } [البقرة2: 152]

فذكر المعبود عندهم أولى من ذكر العبادة.


الثالثة: النون في قوله " نعبد " فيه وجوه من الحكمة منها: أنه تشريف من الله تعالى للعبد حيث لقنه لفظاً ينبئ عن التعظيم والتكريم كقوله حكاية عن نفسه

{ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ } [يوسف12: 3]

كأنه قال: لما أظهرت عبوديتي ولم تستنكف أن تكون عبداً ليّ جعلناك أمة

{ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [النحل16: 120]

ومنها أنه لو قال: إياك أعبد كان إخباراً عن كونه عبداً فقط، ولما قال: " إياك نعبد " صار معناه إني واحد من عبيدك، ولا ريب أن الثاني أدخل في الأدب والتواضع. ومنها أن يكون تنبيهاً على أن الصلاة بالجماعة أولى قال صلى الله عليه وسلم: " التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة خير من الدنيا وما فيها " وههنا نكتة وهي أن الإنسان إذا أكل الثوم أو البصل فليس له أن يحضر الجماعة كيلا يتأذى منه جاره، وإذا كان ثواب الجماعة لا يفي بهذا القدر من الإيذاء فكيف يفي بما هو أكثر من ذلك إيذاء للمسلمين من الغيبة والتهمة والنميمة والسعاية وسائر أنواع الظلم؟ ومنها أن يكون المراد أعبدك والملائكة معي والحاضرون بل جميع عبادك الصالحين.


-43-

ومنها أن المؤمنين إخوة فكأن الله تعالى قال: لما أثنيت عليّ بقولك { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } ارتفعت منزلتك عندنا، فلا تقتصر على إصلاح حالك بل عليك بالسعي في إصلاح حال جميع إخوانك فقل: { إياك نعبد وإياك نستعين }. ومنها أن العبد يقول: إلهي عبادتي مخلوطة بالتقصير وإني أخلطها بعبادة جميع العابدين، فلا يليق بكرمك أن تميز بين العبادات، ولا أن ترد الكل وفيها عبادة الأنبياء والأولياء بل الملائكة المقربين. وهذا كما أن الرجل إذا باع من غيره عشرة أعبد، فالمشتري إما أن يقبل الكل أو يرد الكل وليس له أن يقبل البعض دون البعض في تلك الصفقة.

الرابعة: من عرف فوائد العبادة طاب له الاشتغال بها وثقل عليه الاشتغال بغيرها لأن الكمال محبوب لذاته وأكمل أحوال الإنسان اشتغاله بخدمة مولاه، فإنه يستنير قلبه بنوره ويشرق عليه من جماله ولهذا قد ورد " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار " وأيضاً التكاليف أمانة

{ إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ } [الأحزاب33: 72]

وأداء الأمانة واجب عقلاً وشرعاً

{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُم أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا } [النساء4: 58]

وأداء الأمانات من أحد الجانبين سبب لأدائها من الجانب الآخر. قال بعض الصحابة: أتى أعرابي باب المسجد فنزل عن ناقته وتركها ودخل المسجد وصلى بالسكينة والوقار ودعا بما شاء فتعجبنا، فلما خرج لم يجد الناقة فقال: إلهي أديت أمانتك فأين أمانتي؟ قال الرواي: فزدنا تعجباً، فلم يمكث حتى جاء رجل على ناقته وقد قطع يده وسلم الناقة إليه. " وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: يا غلام احفظ الله في الخلوات يحفظك في الفلوات " وأيضاً الاشتغال بالعبادة انتقال من عالم الغرور إلى دار السرور، وركون من الخلق إلى حضرة الحق، وذلك يوجب كمال اللذة والبهجة. (يحكى) عن أبي حنيفة أن حية سقطت من السقف وتفرق الناس وهو في الصلاة فلم يشعر بها. ووقعت الأكلة في بعض أعضاء عبد الله بن الزبير واحتاجوا إلى قطع ذلك العضو فقطع وهو في الصلاة ولم يشعر به. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان حين يشرع في الصلاة كانوا يسمعون من صدره أزيزاً كأزيز المرجل. ومن استبعد فليقرأ قوله تعالى

{ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ } [يوسف12: 31]

فإذا كان لجمال البشر مثل هذا التأثير فكيف جلال الله وعظمته إذا تجلى على قلب الموحد العابد؟! وقد تحدث الحيرة والدهش عن رؤية بعض السلاطين فكيف إذا كان الوقوف بين يدي رب العالمين؟! واعلم أن العبادة لها ثلاث درجات، لأنه إما أن يعبد الله رغبة في ثوابه أو رهبة من عقابه، ويختص باسم الزاهد حيث يعرض عن متاع الدنيا وطيباتها طمعاً فيما هو أشرف منها وأدوم، وهذه مرتبة نازلة عند المحققين.


-44-

وإما أن يعبد الله تشرفاً بعبادته أو بقبول تكاليفه أو بالانتساب إليه، وهذه مرتبة متوسطة وتسمى بالعبودية. وإما أن يعبد الله لكونه إلهاً ولكونه عبداً له، والإلهية توجب العزة والهيبة، والعبودية تقتضي الخضوع والذلة، وهذه أعلى الدرجات وتسمى بالعبودية وإليها الإشارة بقول المصلي: أصلي لله فإنه لو قال: أصلي لثواب الله أو هرباً من عقابه فسدت صلاته. (يحكى) أن عابداً في بني إسرائيل اعتزل وعبد الله تعالى سبعين سنة، فأرسل الله تعالى إليه ملكاً فقال: إن عبادتك غير مقبولة فلا تشق على نفسك ولا تجاهد، فأجاب العابد بأن الذي عليّ هو العبودية وإني لا أزال أفعل ما عليّ، فأما القبول وعدم القبول فموكول إلى المعبود. فرجع الملك فقال الله: بم أجاب العابد؟ فقال: أنت أعلم يا رب، إنه قال كذا وكذا. فقال الله تعالى: ارجع إليه وقل له: قبلنا طاعتك بسبب ثبات نيتك. والتحقيق أن إثبات نسبة الإمكان هو قصارى مجهود العابدين ونهاية مطامح أبصار العارفين. وفي العبادة انشراح صدور المؤمنين وإنها عاقبة حال المتقين. قال عز من قائل

{ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } * { فَسَبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِنَ السَّاجِدِينَ } * {وَاعْبُد رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ } [الحجر15: 97 - 99]

ولأن العبودية أشرف المقامات. مدح الله تعالى نبيه في قوله

{ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء17: 1]

وافتخر عيسى بذلك أول ما نطق فقال:

{ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ } [مريم19: 30]

وكان عليّ يقول: كفاني فخراً أن أكون لك عبداً وكفاني شرفاً أن تكون لي رباً. اللهم إني وجدتك إلهاً كما أردت، فاجعلني عبداً كما أردت. ومنهم من قال: العبودية أشرف من الرسالة، فبالعبودية ينصرف من الخلق إلى الحق، وبالرسالة ينصرف من الحق إلى الخلق، وبالعبودية ينعزل عن التصرفات، وبالرسالة يقبل على التصرفات، ولهذا نال شرف التقدم في قول الموحد " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله "

{ لَن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } [النساء4: 172].


التاسع: في فوائد قوله { وإياك نستعين }.

الأولى: لا شك أن للعبد قدرة بها يتمكن من الفعل والترك، وإنما يحصل الرجحان بمرجح. ولو كان ذلك المرجح من عند العبد عاد التقسيم، فلا بد أن ينتهي إلى الله تعالى. وأيضاً كل الخلائق يطلبون طريق الحق مع استوائهم في القدرة والعقل والجد والطلب، ولا يفوز به إلا بعضهم، فليس ذلك إلا بإعانة الحق.

-45-

وأيضاً قد يطلب الإنسان حاجة من غيره ويدافعه مدة مديدة ثم يقضي حاجته، فإلقاء تلك الداعية في القلب ليس إلا من الله، فثبت أنه لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله. وتظهر فائدة الاستعانة في أنه ربما جعل الله تعالى ذلك واسطة إلى نيل المطلوب كالشبع الحاصل عقيب أكل الطعام ونحوه، فيسقط اعتراض الجبري والقدري فافهم. الثانية: لقائل أن يقول: الاستعانة على العمل إنما تحسن قبل الشروع فيه لا بعده، فهلا قدّمت الاستعانة على ذكر العبادة؟ والجواب كأنه يقول: شرعت في العبادة فأستعين بك على إتمامها حتى لا يمنعني مانع ولا يعارضني صارف، فإن قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن. وأيضاً إن قيل: الاستعانة مطلقة تتناول كل مستعان فيه فذكر العبادة كالوسيلة إلى طلب الإعانة على الحوائج وتقديم الوسيلة مناسب.

الثالثة: لا أريد بالإعانة غيرك إقتداء بالخليل صلى الله عليه وسلم حيث قيد نمروذ يديه ورجليه ورماه إلى النار فجاءه جبرائيل وقال: هل لك حاجة؟ فقال له: أما إليك فلا. قال: فاسأل الله. قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي. وهنا نكتة وهي أن المؤمن في الصلاة مقيدة رجلاه عن المشي، ويداه عن البطش، ولسانه إلا عن القراءة والذكر، فكما أن الله قال

{ قُلْنَا يَنَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ } [الأنبياء21: 69]

فكذلك تقول له نار جهنم: جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي.


الرابعة: لا أستعين غيرك لأن الغير لا يمكنه إعانتي إلا إذا أعنته، فأنا أقطع الواسطة ولا أنظر إلا إلى إعانتك.

الخامسة: " إياك نعبد " تورث العجب بالعبادة فأردفه بقوله " وإياك نستعين " لإزالة ذلك.

السادسة: ههنا مقامان: معرفة الربوبية ومعرفة العبودية، وعند اجتماعهما يحصل الربط المذكور في قوله

{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُم } [البقرة2: 40]

أما معرفة الربوبية فكمالها مذكور في قوله { الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين } فانتقال العبد من العدم السابق إلى الوجود يدل على كونه إلهاً، وحصول الفوائد للعبد حال وجوده يدل على كونه رباً رحماناً رحيماً، وأحوال معادة تدل على أنه مالك يوم الدين، وأما معرفة العبودية فمبدؤها " إياك نعبد " وكمالها " إياك نستعين " في جميع المطالب، وإذا تم الوفاء بالعهدين ترتبت عليه الثمرة وهو قوله: " اهدنا " إلى آخره. وهذا ترتيب لا يتصور أحسن منه.


السابعة: في الالتفات الوارد في السورة وجوه: منها أن المصلي كان أجنبياً عند الشروع في الصلاة، فلا جرم أثنى على الله بالألفاظ الغائبة إلى قوله: { مالك يوم الدين }. ثم الله تعالى كأنه يقول: حمدتني وأقررت بأني إله، رب العالمين، رحمن رحيم، مالك يوم الدين، فنعم العبد أنت يا عبد. رفعنا الحجاب وأبدلنا البعد بالقرب فتكلم بالمخاطبة وقل " إياك نعبد ".

-46-

ومنها أنه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام من كونه رباً لا يخرج شيء من ملكوته منعماً على الخلق بأنواع النعم - جلائلها ودقائقها - مالكاً للأمر كله في العاقبة، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بغاية الخضوع والاستعانة في المهام، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل " إياك " يا من هذه صفاته نخص بالعبادة والاستعانة، ليكون الخطاب أدل على أن العبادة له لذلك التميز الذي لا تحق العبادة إلا به. ومنها أن الدعاء بالحضور أولى كما أن الثناء في الغيبة أوقع وأحرى، وهكذا فعل الأنبياء عليهم السلام

{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا } [الأعراف7: 23]
{ رَبِّ هَب لِي حُكْماً } [الشعراء26: 83]
{ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً } [طه20: 114]
{ رَبِّ أَرِنِي } [الأعراف7: 143]
{ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ } [الأنبياء21: 89]

ومنها أنه إذا شرع في الصلاة نوى القربة فأثنى على الله بما هو أهله، فاستجاب الله دعاءه في تحصيل تلك القربة ونقله إلى مقام الحضور من مقام الغيبة.


الثامنة: اعلم أن المشركين طوائف، منهم من اتخذ إلهه من الأجسام المعدنية كالحجر والذهب والفضة والنحاس، ومنهم من اتخذه من النبات كالشجر المعين، ومنهم من اتخذه من الإنسان كعبدة المسيح وعزير، ومنهم من اتخذه من الأجسام البسيطة، إما السفلية كعبدة النار وهم المجوس، أو العلوية كعبدة الشمس والقمر وسائر الكواكب. ومنهم من قال: مدبر العالم نور وظلمة وهم الثنوية، ومنهم من قال: الملائكة عبارة عن الأرواح الفلكية ولكل إقليم روح من الأرواح الفلكية يدبره وكذا لكل نوع من أنواع هذا العالم، فيتخذون لتلك الأرواح صوراً وتماثيل ويعبدونها وهم عبدة الملائكة. ومنهم من قال: للعالم إلهان، أحدهما خير وهو الله، والآخر شرير وهو إبليس. إذا عرفت ذلك فنقول: قد مر أن " الحمد لله " يتضمن التسبيح له وسائر الصفات منبئة عن سبب إثبات جميع أنواع " الحمد لله " " وإياك نعبد " يدل على التوحيد المحض والبراءة من كل ما يعبد من دون الله، وأن الله أكبر من جميع المعبودين، فيقوم مقام قوله " لا إله إلا الله والله أكبر " " وإياك نستعين " يدل على قوله " لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " فثبت أن سورة الفاتحة مشتملة إلى هنا على الذكر المشهور " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ".

العاشر في فوائد قوله { اهدنا الصراط المستقيم }.

الأولى: سئل أن طلب الهداية من المؤمن وهو مهدي تحصيل للحاصل. وأجيب بأن المراد منه صراط الأولين في تحمل ما يشق، وكان تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى.

-47-

يحكى أن نوحاً عليه السلام كان يضرب في كل يوم مرات بحيث يغشى عليه وكان يقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. وأيضاً إن في كل خلق من الأخلاق طرفي إفراط وتفريط هما مذمومان، والحق هو الوسط والصواب. فالمؤمن بعد أن عرف الله بالدليل صار مهتدياً، لكنه لا بد مع ذلك من حصول الملكات والأخلاق الفاضلة التي هي وسط بين الطرفين ومستقيم بين المنحرفين. ففي القوة الشهوية طرف الإفراط فجور وطرف التفريط خمود وهما مذمومان، والوسط وهو استعمالها في مواضعها على قضية العدالة والشريعة محمود وهو العفة، وكذا في القوة الغضبية طرفا التهور والجبن مذمومان والوسط وهو الشجاعة محمود، وفي القوة النفسانية الجربزة والبله مذمومان والوسط وهو الحكمة محمود. وبالجملة فإنه يحصل من توسيط استعمال القوة الشهوية الحياء والرفق والصبر والقناعة والورع والحرية والسخاء، ومن توابع السخاء الكرم والإيثاء والعفو والمروءة والمسامحة، ويلزم من توسط استعمال القوة الغضبية كبر النفس وعلو الهمة والثبات والحلم والسكون والتحمل والتواضع والحمية والرقة، ومن توسط استعمال القوة النطقية الذكاء وسرعة الفهم وصفاء الذهن وسهولة التعلم وحسن التعقل والتحفظ والتذكر، ويحصل من كمال التوسط في القوى الثلاث كمال العدالة ويتبعها الصداقة والألفة والوفاء والشفقة وصلة الرحم والمكافأة وحسن الشركة والتسليم والتوكل وتعظيم المعبود الحق وملائكته وأنبيائه وأولي الأمر والانقياد لأوامرهم ونواهيهم. والتقوى تكمل هذه المعاني وتتممها، ولأن القوة النطقية ذاتية للإنسان، والشهوية والغضبية حصلتا له بواسطة التعلقِ البدني، فكمال التوسط في النطقية أن يستعملها بحيث لا يمكن أزيد منها. وكمال التوسط في الأخريين أن يستعملهما بحيث لا يمكن أقل من ذلك ليفضي إلى تحصيل سعادة الدارين. وأيضاً العلم النظري يقبل الزيادة بمعنى تواصل أوقاته وقلة الفترات، وبمعنى زيادة الأدلة فليس من علم بدليل كمن علم بأدلة، فلا موجود من أقسام الممكنات إلا وفيه دلالة على وجود الله وعلمه وقدرته، وجوده ورحمته وحكمته. وربما صح دين الإنسان بالدليل الواحد وبقي غافلاً عن سائر الدلائل فكأنه يقول: عرفنا إلهنا ما في كل شيء من كيفية دلالته على ذاتك وصفاتك وعلمك وقدرتك. وأيضاً قد يراد بالصراط المستقيم الاقتداء بالأنبياء، وهو أن يكون الإنسان معرضاً عما سوى الله مقبلاً بكلية قلبه وفكره وذكره على الله، حتى لو أمر بذبح ولده لأطاع كالخليل، ولو أمر أن يذبح لانقاد كإسماعيل، ولو أمر بإلقاء نفسه في البحر امتثل كيونس، ولو أمر بتلمذة من هو أعلم منه بعد بلوغه أعلى منصب ائتمر كموسى مع الخضر. وعن خباب قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا: ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه ويجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ما يصدّه ذلك عن دينه.

-48-

وأيضاً كأن العبد يقول: الأحباب يدعونني إلى طريق، والأعداء إلى طريق ثانٍ، والشيطان إلى ثالث. وكذا القول في الشهوة والغضب والاعتقادات والآراء، والعقل ضعيف، والعمر قصير، والقضاء عسير، فاهدني هذا الطريق السوي الذي لا أزيغ به. حكي عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يسير إلى بيت الله، فإذا أعرابي على ناقة له. فقال: يا شيخ إلى أين؟ فقال: إلى بيت الله. قال: كأنك مجنون، لا أرى لك مركباً ولا زاداً والسفر طويل! فقال إبراهيم: إن لي مراكب كثيرة ولكنك لا تراها. قال: وما هي؟ قال: إذا نزلت عليّ بلية ركبت مركب الصبر، وإذا أسديت إليّ نعمة ركبت مركب الشكر، وإذا ألم بي القضاء ركبت مركب الرضا، وإذا دعتني النفس إلى شيء علمت أن ما بقي من العمر أقل مما مضى. فقال الأعرابي: سر بإذن الله فأنت الراكب وأنا الراجل. وقيل: الصراط القرآن أو الإسلام وليس بشيء، إذ يصير المعنى اهدنا صراط المتقدمين، مع أنه لم يكن لهم قرآن ولا إسلام، اللهم إلا أن يراد أصول هذه الشريعة وقوانينها كما قال

{ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه } [الأنعام6: 90].

وعن علي كرم الله وجهه: ثبتنا على الهداية كقوله

{ رَبَّنَا لَا تُزِغ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذ هَدَيْتَنَا } [آل عمران3: 8]

فكم من عالم يزل ومهتد يضل. وفي اختيار لفظ الصراط دون الطريق أو السبيل، تذكير للصراط الذي هو الجسر الممدود بين طرفي جهنم، سهل الله تعالى علينا عبوره ووروده.


الثانية: إنما قبل " اهدنا " بلفظ الجمع لأن الدعاء متى كان أعم كان إلى الإجابة أقرب، ولهذا قال بعض العلماء لتلميذه: إذا قلت قبل القراءة " رضي الله عنك، وعن جماعة المسلمين " فإياك وأن تنساني في قولك " وعن جماعة المسلمين " فإن ذلك أوقع عندي من قولك " رضي الله عنك " ، لأن هذا تخصيص بالدعاء ويجوز أن لا يقبل، وأما قولك " وعن المسلمين " فإنه أرجى لأنه لا بد أن يكون في المسلمين من يستحق الإجابة، وإذا أجاب الله دعاء في البعض فهو أكرم من أن يرده في الباقي. ومن هنا ورد في السنة أن يصلي على النبي صلى الله علبه وسلم قبل كل دعاء وبعده، لأن الدعاء في الطرفين مستجاب ألبتة لأنه في حق النبي صلى الله عليه وسلم فيستجاب الوسط بتبعية ذلك لا محالة. وأيضاً قال صلى الله عليه وسلم: " ادعوا الله بألسنة ما عصيتموه بها. قالوا: يا رسول الله، ومن لنا بتلك الألسنة؟ قال: " يدعو بعضكم لبعض لأنك ما عصيت بلسانه وهو ما عصى بلسانك " " وأيضاً " الحمد لله " شامل لحمد جميع الحامدين، و " إياك نعبد " لعبادة الجميع، " وإياك نستعين " لاستعانة الكل، فلا جرم لما طلب الهداية طلبها للكل كما طلب الاقتداء بالصالحين جميعاً في قوله: { صراط الذين أنعمت عليهم } والفرار من الطالحين جميعاً في قوله: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين }.

-49-
وإذاكان كذلك في الدنيا يرجى أن يكون كذلك في الآخرة


الثالثة: الخط المستقيم أقرب خط يصل بين النقطتين، والعبد عاجز فلا يليق بضعفه إلا الطريق المستقيم. وأيضاً المستقيم واحد وما سواه معوجة يشبه بعضها بعضاً في الاعوجاج، فكان أبعد من الخوف وأقرب إلى الخلاص. وأيضاً ميل الطباع إلى الاستقامة أكثري فلهذه الأسباب سئل الصراط المستقيم.

الحادي عشر في فوائد قوله { صراط الذين أنعمت عليهم }.

الأولى: حد النعمة بأنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، لأنه لو قصد الفاعل منفعة نفسه أولاً على جهة الإحسان لم يكن نعمة فلا يستحق الشكر. ثم نقول: كل ما يصل إلى الخلق من نفع أو دفع ضر فهو من الله تعالى لقوله

{ وَمَا بِكُم مِن نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ } [النحل16: 53]

ولأن الواصل من جهة غير الله ينتهي إليه أيضاً لأنه الخالق لتلك النعمة، وكذلك للمنعم ولداعية ذلك الإنعام فيه. والنعم الواصلة إلينا بطاعاتنا هي أيضاً من الله تعالى لأنها بتوفيقه وإعانته بأن أتاح الأسباب وأزاح الأعذار. وأول نعمة من الله تعالى على عبيده نعمة الحياة التي بها يمكن الانتفاع بالمنافع والاحتراز عن المضارّ قال تعالى:


الثانية: هل لله تعالى على الكافر نعمة أم لا؟ أنكر ذلك بعض أصحابنا لوجوه منها: قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } فإنه لو كان له على الكفار نعمة لزم طلب صراط الكفار لأن المبدل منه وهو الصراط المستقيم في حكم المنحى. والجواب أن قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } يدفع ذلك، ومنها قوله

{ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنفُسِهِم إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً } [آل عمران3: 178]

والجواب أنه لا يلزم من أن لا يكون الإملاء خيراً ونعمة لهم أن لا يكون أصل الحياة وسائر أسباب الانتفاع نعمة، فإن الإملاء تأخير النقمة بعد ثبوت استحقاقها، فما قبل هذه الحالة لا يكون كذلك. على أن نفس الإملاء أيضاً تمتيع حالي

{ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ } [البقرة2: 126]

وليس هذا كمن جعل السم في الحلواء على ما ظن، وإنما هو كمن ناول شخصاً حلواء لذيذة غير مسمومة ولكن ذلك الشخص لفساد مزاجه أو لاستعماله الحلواء لا كما ينبغي أفسد مزاج الحلواء أيضاً وصيره كالسم القاتل بالنسبة إليه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:

-50-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #32  
قديم 12-08-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ) مصنف و مدقق 51-60 من 65

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ) مصنف و مدقق 51-60 من 65



" نعم المال الصالح للرجل الصالح " وكيف لا تعم نعم الله تعالى وقد قال على العموم:

{ يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ } * { الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ } [البقرة2: 21 - 22]

وقال:

{ وَكُنتُم أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُم } [البقرة2: 28]

كل ذلك في معرض الامتنان وشرح النعم. وقال:

{ وَقَلِيلٌ مِن عِبَادِيَ الشَّكُورُ } [سبأ34: 13]
{ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُم شَاكِرِينَ } [الأعراف7: 17]

والشكر لا يكون إلا بعد النعمة.

الثالثة: ما المراد بالنعمة المذكورة في قوله " أنعمت عليهم "؟ قلنا: يتناول كل من كان لله عليه نعمة دينية ودنيوية. ثم إنه يخرج بقوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } كل من عليه نعمة دنيوية فقط ويبقى الذين أنعم الله عليهم في الدنيا والآخرة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وكما أن أصل النعم الدنيوية هي الحياة المستتبعة لكل المنافع، فكذلك أصل النعم الدينية هو الإيمان المستلزم لجميع الخيرات والسعادات. وكما أن كمال البدن بالحياة فكمال النفس بالإيمان وموتها بفقده

{ إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى } [النمل27: 80]
{ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَن فِي الْقُبُورِ } [فاطر40: 22]

وكما أن حياة البدن من الله فكذا الإيمان منه وبتوفيقه. وإضافة الإيمان إلى العبد إضافة الأثر إلى القابل وبذلك القبول يستأهل الثواب. والمؤمن لا يبقى مخلداً في النار، فإن من شرفه الله تعالى بأعظم الأنعام لن يعاقبه بأشد الآلام، فما الإنعام إلا بالإتمام. قيل: لو كان رعاية الأصلح على الله واجباً لم يكن ذلك إنعاماً لأن أداء الواجب لا يسمى إنعاماً. قلت: النزاع لفظي لأن الأصلح لا بد أن يصدر عنه، ولا يليق بحكمته وكماله خلاف ذلك ثم ما شئت فسمه.

الثاني عشر في فوائد قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } الأولى: من المغضوب عليهم ومن الضالون؟ قلت: المغضوب عليهم هم المائلون في كل خلق أو اعتقاد إلى طرف التفريط ومنهم اليهود، والضالون هم المائلون إلى طرف الإفراط ومنهم النصارى. وإنما خص الأولون بالغضب عليهم لأن الغضب يلزمه البعد والطرد، والمفرّط في شيء هو المعرض عنه غير مجد بطائل فهو بعيد عن ذلك. وأما المفرط فقد أقبل عليه وجاوز حد الاعتدال، فغاب عن المقصود ومني بالحرمان

{ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ } [الأنعام6: 71]

فاليهود فرطوا في شأن نبي الله ولم يطيعوه وآذوه حتى قالوا بعد أن نجاهم الله من عدوّهم

{ يَمُوسَى اجْعَل لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ ءَالِهَةٌ } [الأعراف7: 138]
{ لَن نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً } [البقرة2: 55]

ولهذا قال عز من قائل

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا }[الأحزاب33: 69]

-51-

والنصارى أفرطوا وقالوا

{ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ } [التوبة9: 30]
{ إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ } [المائدة5: 73]

روي عن عدي بن حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " غير المغضوب عليهم اليهود والضالون النصارى " وتصديق ذلك من كتاب الله حيث قال في اليهود

{ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ } [آل عمران3: 112]

وفي النصارى

{ وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ } [المائدة5: 77]

هذا شأن الفريقين. وأما المؤمنون فطلبوا الوسط بين المنحرفين وذلك من لطف الله تعالى بهم وفضله عليهم

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُم أُمَّةً وَسَطاً } [البقرة2: 143]
{ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَت لِلنَّاسِ } [آل عمران3: 110]

وخير الأمور أوسطها.

الثانية: الآية تدل على أن أحداً من الملائكة والأنبياء ما أقدم على عمل أو اعتقاد يخالف الحق وإلا لكان ضالاً لقوله تعالى

{ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ } [يونس10: 32]

يصلح للاقتداء به والاهتداء بطريقه.

الثالثة: ما الفائدة في أن عدل من أن يقول اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين إلى ما عدل؟ قلت: الإيمان إنما يكمل بالرجاء والخوف كما قال صلى الله عليه وسلم: " لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا " فقوله { صراط الذين أنعمت عليهم } يدل على الرجاء، وباقي الآية يدل على الخوف، فيكمل الإيمان بطرفيه وركنيه.

الثالث عشر: في تفسير السورة مجموعة وفيه مناهج:

المنهج الأول نسبة عالم الغيب إلى عالم الشهادة، ونسبة الأصل إلى الفرع، والنور إلى الظلمة، فكل شاهد. فله في الغائب أصل وإلا كان كسراب زائل وخيال باطل، وكل غائب فله في الشاهد مثال وإلا كان كشجرة بلا ثمرة ومدلول بلا دليل، وكل شريف فهو بالنسبة إلى ما دونه مطاع كما قال عز من قائل

{ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ } * { مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير81: 20 - 21]

والمطاع في عالم الروحانيات مطاع في عالم الجسمانيات، والمطاع في عالم الأرواح هو المصدر، والمطاع في عالم الأجسام هو المظهر. ولا بد من أن يكون بينهما ملاقاة ومجانسة وبهما تتم سعادة الدارين لأنهما يدعوان إلى الله بالرسالة. وحاصل الدعوة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة، أربعة منها تتعلق بالمبدأ وهي معرفة الربوبية أعني معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه ورسله

{ ءَامَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ ءَامَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِن رُسُلِهِ } [البقرة2: 285]

واثنان منها تتعلق بالوسط أحدهما مبدأ العبودية

{ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [البقرة2: 285]

والثاني كمال العبودية وهو الالتجاء إلى الله وطلب المغفرة منه

{ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } [البقرة2: 285]

وواحد يتعلق بالمعاد وهو الذهاب إلى حضرة الملك الوهاب

{ وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ } [البقرة2: 285]

ويتفرع على هذه المراتب سبع مراتب في الدعاء والتضرع أولها

{ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَسِينَا أَو أَخْطَأْنَا } [البقرة2: 286]

فضد النسيان هو الذكر

{ وَاذْكُر رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف18: 24]

وهذا الذكر إنما يحصل بقوله { بسم الله الرحمن الرحيم }.



-52-
وثانيها



ودفع الإصر والثقل يوجب { الحمد لله رب العالمين }. وثالثها:


ذلك إشارة إلى كمال رحمته " الرحمن الرحيم " ورابعها

{ وَاعْفُ عَنَّا } [البقرة2: 286]

لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة في يوم الدين { مالك يوم الدين }. وخامسها

{ وَاغْفِر لَنَا } [البقرة2: 286]

لأنا التجأنا بكليتنا إليك وتوكلنا في جميع الأمور عليك { إياك نعبد وإياك نستعين }. وسادسها

{ وَارْحَمْنَا } [البقرة2: 286]

لأنا طلبنا الهداية منك { اهدنا الصراط المستقيم } وسابعها


{ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }. فهذه المراتب ذكرها محمد صلى الله عليه وسلم في عالم الروحانيات عند صعوده إلى المعراج، فلما نزل من المعراج فاض أثر المصدر على المظهر فوقع التعبير عنها بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته صعدت هذه الأنوار من المظهر إلى المصدر كما نزلت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم من المصدر إلى المظهر، فلهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم: " الصلاة معراج المؤمن ".

المنهج الثاني: المداخل التي يأتي الشيطان من قبلها في الأصل ثلاثة: الشهوة والغضب والهوى. الشهوة بهيمية، والغضب سبعية، والهوى شيطانية أرضية، ولهذا قال: فالشهوة آفة لكن الغضب أعظم منها، والغضب آفة لكن الهوى أعظم منه. قال تعالى


أي الشهوة، والمنكر الغضب، والبغي الهوى، فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وبالغضب ظالماً لغيره، وبالهوى لربه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر وظلم لا يترك وظلم عسى الله أن يتركه، فالظلم الذي لا يغفر هو الشرك بالله، والظلم الذي لا يترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً، والظلم الذي عسى الله أن يتركه هو ظلم الإنسان نفسه " ونتيجة الشهوة الحرص والبخل، ونتيجة الغضب العجب والكبر، ونتيجة الهوى الكفر والبدعة. ويحصل من اجتماع هذه الست في بني آدم خصلة سابعة هي الحسد وهو نهاية الأخلاق الذميمة، كما أن الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومة، ولهذا السبب ختم الله تعالى مجامع الشرور الإنسانية بالحسد في قوله تعالى:


كما ختم جوامع الخبائث الشيطانية بالوسوسة في قوله


روي أن إبليس أتى باب فرعون وقرع الباب فقال فرعون: من هذا؟ قال: إبليس ولو كنت إلهاً ما جهلت. فلما دخل قال فرعون: أتعرف في الأرض شراً مني ومنك؟ قال: نعم، الحاسد، وبالحسد وقعت فيما وقعت. ثم نقول: الأسماء الثلاثة في التسمية دافعة للأخلاق الثلاثة الأصلية، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة، بيان ذلك من عرف الله تباعد عنه شيطان الهوى

-53-


يا موسى خالف هواك فإني ما خلقت خلقاً نازعني في ملكي إلا هواك. ومن عرف أنه رحمن لم يغضب لأن منشأ الغضب طلب الولاية والولاية للرحمن



ومن عرف أنه رحيم صحح نسبته إليه فلا يظلم نفسه ولا يلطخها بالأفعال البهيمية. وأما الفاتحة فإذا قال " الحمد لله " فقد شكر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته، ومن عرف أنه رب العالمين زال حرصه فيما لم يجد وبخله فيما وجد، ومن عرف أنه { مالك يوم الدين } بعد أن عرف إنه { الرحمن الرحيم } زال غضبه، ومن قال: { إياك نعبد وإياك نستعين } زال كبره بالأول وعجبه بالثاني، وإذا قال { اهدنا الصراط المستقيم } اندفع عنه شيطان الهوى، وإذا قال { صراط الذين أنعمت عليهم } زال عنه كفره، وإذا قال { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } اندفعت بدعته، وإذا زالت عنه الأخلاق الستة اندفع عنه الحسد، ثم إن جملة القرآن كالنتائج والشعب من الفاتحة وكذا جميع الأخلاق الذميمة كالنتائج والشعب من تلك السبعة، فلا جرم القرآن كله كالعلاج لجميع الأخلاق الذميمة. وهنا نكتة دقيقة تتعلق بالرب والإله وبسببها ختم القرآن عليها، كأنه قال: إن أتاك الشيطان من قبل الشهوة فقل أعوذ برب الناس، وإن أتاك من قبل الغضب فقل ملك الناس، وإن أتاك من قبل الهوى فقل إله الناس.

المنهج الثالث: في أن سورة الفاتحة جامعة لكل ما يفتقر إليه الإنسان في معرفة المبدأ والوسط والمعاد " الحمد لله " إشارة إلى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم المستحق للحمد والثناء والتعظيم. " رب العالمين " يدل على أن ذلك الإله واحد وأن كل العالمين ملكه وملكه وليس في العالم إله سواه، ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخلق الخلائق كثيراً


وهذه الحالة كما أنها في نفسها دليل على وجود الرب فكذلك هي في نفسها إنعام عظيم، وذلك أن تولد الأعضاء المختلفة الطبائع والصور من النطفة المتشابهة الأجزاء لا يمكن إلا إذا قصد الخالق إيجاد تلك الأعضاء على تلك الصور والطبائع، وكل منها مطابق للمطلوب وموافق للغرض كما يشهد به علم تشريح الأبدان. فلا أحق بالحمد والثناء من هذا المنعم المنان الكريم الرحمن الرحيم الذي شمل إحسانه قبل الموت وعند الموت وبعد الموت. { مالك يوم الدين } يدل على أن من لوازم حكمته ورحمته أن يقدر بعد هذا اليوم يوماً آخر يظهر فيه تمييز المحسن من المسيء والمظلوم من الظالم، وههنا تمت معرفة الربوبية.

-54-

ثم إن قوله " إياك نعبد " إشارة إلى الأمور التي لا بد من معرفتها في تقرير العبودية وهي نوعان: الأعمال والآثار المتفرعة على الأعمال أما الأعمال فلها ركنان: أحدهما الإتيان بالعبادة وهو قوله " إياك نعبد " والثاني علمه بأنه لا يمكنه ذلك إلا بإعانة الله وهو قوله " وإياك نستعين ". وأما الآثار المتفرعة على الأعمال فهي حصول الهداية والتحلي بالأخلاق الفاضلة المتوسطة بين الطرفين المستقيمة بين المنحرفين { اهدنا الصراط المستقيم } إلى آخره وفي قوله { صراط الذين أنعمت عليهم } دليل على أن الاستضاءة بأنوار أرباب الكمال خلة محمودة وسنة مرضية " هم القوم لا يشقى بهم جليسهم "

{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [آل عمران3: 31]

وفي قوله { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } إشارة إلى أن التجنب عن مرافقة أصحاب البدع والأهواء واجب.

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينهفكل قرين بالمقارن يقتدي
والجمر يوضع في الرماد فيخمد


المنهج الرابع: قال صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال العبد { بسم الله الرحمن الرحيم } يقول الله: ذكرني عبدي. وإذا قال: { الحمد لله رب العالمين } يقول الله: حمدني عبدي وإذا قال: " الرحمن الرحيم " يقول الله: عظمني عبدي. وإذا قال: { مالك يوم الدين } يقول الله: مجدني عبدي - وفي رواية فوض إلي عبدي - وإذا قال: " إياك نعبد " يقول الله: عبدني عبدي وإذا قال: " وإياك نستعين " يقول الله: توكّل عليّ عبدي - وفي رواية وإذا قال: { اهدنا الصراط المستقيم } يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل فقوله " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي " إشارة إلى أن أهم مهمات العبد أن يستنير قلبه بمعرفة الربوبية ثم بمعرفة العبودية، لأنه إنما خلق لرعاية هذا العهد

{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات51: 56]
{ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُم } [البقرة2: 40]

فلا جرم أنزل الله تعالى هذه السورة جامعة لكل ما يحتاج إليه العبد في الوفاء بذلك العهد وقوله " إذا قال العبد: بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله ذكرني عبدي " مناسب لقوله تعالى { فاذكروني أذكركم } " أنا جليس من ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه " والذكر مقام عالٍ شريف ذكره الله تعالى في القرآن كثيراً

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً } [الأحزاب33: 41]
{ وَاذْكُر رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ } [الأعراف7: 205]
{ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُبْصِرُونَ } [الأعراف7: 201]
{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم } [آل عمران3: 191]

ولهذا وقع الإبتداء به. وقوله " ذكرني عبدي " دل على أن ذاته المخصوصة صارت مذكورة بقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } وهذا يدل على أن الله اسم علم.

-55-

وقوله " إذا قال: الله رب العالمين يقول الله: حمدني عبدي " يدل على أن مقام الحمد أعلى من مقام الذكر لأنه أول كلام في أول خلق العالم حيث قالت الملائكة:

{ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة2: 30]

وآخر كلام في الجنة

{ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس10: 10]

ولأن الفكر في ذات الله تعالى غير ممكن " تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله " وكل من تفكر في مخلوقاته ومصنوعاته كان وقوفه على رحمته وفضله وإحسانه أكثر فيحمد الله تعالى أكثر، فقوله " حمدني عبدي " شهادة من الله تعالى على وقوف العبد بعقله وفكره على وجوه فضله وإنعامه في ترتيب العالم وتربية العالمين، وأنه أقر بقلبه ولسانه بكرمه وإحسانه. قوله " وإذا قال: الرحمن الرحيم " " يقول الله: عظمني عبدي " يدل ذلك على أن الإله الكامل المكمل المنزه عن الشريك والنظير والمثل والند والضد، هو في غاية الرحمة والفضل والكرم مع عباده. ولا شك أن غاية ما يصل العقل والفهم والوهم إليه من تصور معنى الكمال والجلال ليس إلا هذا المقام وهو التعظيم لله. وقوله " وإذا قال: مالك يوم الدين يقول الله: مجدني عبدي " أي نزهني وقدسني عن الظلم وعن شبهة الظلم حيث قضيت معاداً يحشر إليه العباد ويقضي فيه بين الظالم والمظلوم والقوي والضعيف.

أيحسب الظالم في ظلمهأهمله القادر أم أمهلا
ما أهملوه بل لهم موعدلن يجدوا من دونه موئلا


وقوله " وإذا قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال الله هذا بيني وبين عبدي " معناه أن " إياك نعبد " يدل على إقدام العبد على الطاعة والعبادة ولا يتم ذلك إلا بإعانة الله بخلق داعية فيه خالصة عن المعارض، فإن العبد غير مستقل بالإتيان بذلك العمل فهو المراد من قوله " وإياك نستعين " وقوله " وإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم يقول الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " تقريره أن أهل العلم مختلفون بالنفي والإثبات في جميع المسائل الإلهية أو أكثرها، وفي المعاد والنبوات وغيرها مع استواء الكل في العقل والنظر. فالاهتداء إلى ما هو الحق في الأمر نفسه ليس إلا بهداية الله تعالى وإرشاده كما قالت الملائكة

{ سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } [البقرة2: 32]

وقال إبراهيم عليه السلام

{ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ } [الأنعام6: 77]

وقال موسى

{ قَالَ رَبِّ اشْرَح لِي صَدْرِي * وَيَسِّر لِي أَمْرِي } [طه20: 25 - 26].

المنهج الخامس: آيات الفاتحة سبع والأعمال المحسوسة في الصلاة أيضاً سبعة: القيام والركوع والانتصاب منه والسجود الأول والانتصاب منه والسجود الثاني والقعدة.

-56-

فهذه الأعمال كالشخص والفاتحة لها كالروح، وإنما يحصل الكمال عند اتصال الروح بالجسد، فقوله { بسم الله الرحمن الرحيم } بإزاء القيام، ألا ترى أن الباء في بسم الله لما اتصل باسم الله حصل قائماً مرتفعاً. وأيضاً التسمية لبداية الأمور " كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله أبتر " والقيام أيضاً أول الأعمال. وقوله { الحمد لله رب العالمين } بإزاء الركوع لأن الحمد في مقام التوحيد نظراً إلى الحق وإلى الخلق والمنعم والنعمة، لأنه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد، فهو حالة متوسطة بين الإعراض والاستغراق، كما أن الركوع متوسط بين القيام والسجود، وأيضاً ذكر النعم الكثيرة مما يثقل الظهر فينحني وقوله " الرحمن الرحيم " مناسب للانتصاب، لأن العبد لما تضرع إلى الله بالركوع فاللائق برحمته أن يرده إلى الانتصاب ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " إذا قال العبد: سمع الله لمن حمده نظر الله إليه بالرحمة " وقوله { مالك يوم الدين } مناسب للسجدة الأولى لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع. وقوله { إياك نعبد وإياك نستعين } مناسب للقعدة بين السجدتين لأن إياك نعبد إخبار عن السجدة التي تقدمت و " إياك نستعين " استعانة بالله في أن يوفقه للسجدة الثانية، وقوله { اهدنا الصراط المستقيم } سؤال لأهم الأشياء فيليق به السجدة الثانية ليدل على نهاية الخشوع. وقوله { صراط الذين أنعمت عليهم } إلخ. مناسب للقعود لأن العبد لما أتى بغاية التواضع قابله الله بالإكرام والقعود بين يديه وحينئذ يقرأ " التحيات لله " كما أن محمداً صلى الله عليه وسلم قرأها في معراجه فالصلاة معراج المؤمن.

المنهج السادس: آيات الفاتحة سبع وأعمال الصلاة المحسومة سبعة كما تقدم، ومراتب خلق الإنسان سبع

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِن طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون23: 12 - 14]

فنور آيات الفاتحة يسري إلى الأعمال السبعة، ونور الأعمال السبعة يسري إلى هذه المراتب فيحصل في القلب نور على نور، ثم ينعكس إلى وجه المؤمن " من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار ".

المنهج السابع: إنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم معراجان: من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ثم من المسجد الأقصى إلى عالم الملكوت. هذا في عالم الحس، وأما في عالم الأرواح، فمن الشهادة إلى الغيب، ثم من الغيب إلى غيب الغيب، فهذا بمنزلة قوسين متلاصقين، فتخطاهما محمد صلى الله عليه وسلم فكان قاب قوسين. وقوله " أو أدنى " إشارة إلى فنائه في نفسه. والمراد بعالم الشهادة كل ما يتعلق بعالم الجسم والجسمانيات، وبعالم الأرواح ما فوق ذلك من الأرواح السفلية، ثم المتعلقة بسماء سماء إلى الملائكة الحافين من حول العرش، ثم إلى حملة العرش ومن عند الله الذين طعامهم ذكر الله وشرابهم محبته وأنسهم بالثناء عليه ولذتهم في خدمته

-57-

{ لَا يَسْتَكْبِرُونَعَن عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ *يُسَبِّحُونَ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } [الأنبياء21: 19 - 20]

وهكذا يتصاعد إلى أن ينتهي إلى نور الأنوار وروح الأرواح ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه، والمقصود أن نبينا صلى الله عليه وسلم لما عرج وأراد أن يرجع قال رب العزة: المسافر إذا عاد إلى وطنه أتحف أصحابه وإن تحفة أمتك الصلاة الجامعة بين المعراجين الجسماني بالأفعال والروحاني بالأذكار. فليكن المصلي ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً لأنه بالوادي المقدس طوى. وأيضاً عنده ملك وشيطان، ودين ودنيا، وعقل وهوى، وخير وشر، وصدق وكذب، وحق وباطل، وحلم وطيش، وقناعة وحرص، وسائر الأخلاق المتضادة والصفات المتنافية، فلينظر أيها يختار فإنه إذا استحكمت المرافقة تعذرت المفارقة، اختار الصديق صحبة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يفارقه في الدنيا وفي القبر ويكون معه في القيامة وفي الجنة، وصحب كلب أصحاب الكهف فلزمهم في الدنيا والآخرة قال تعالى:

{ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ } [التوبة9: 119]

ثم إذا تطهر فليرفع يديه إشارة إلى توديع الدنيا والآخرة وليوجه قلبه وروحه وسره إلى الله ثم ليقل " الله أكبر " أي من كل الموجودات بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره بأنه أكبر منه، ثم ليقل " سبحانك اللهم وبحمدك " وفي هذا المقام ينكشف له نور سبحات الجلال، ثم ليقل " تبارك اسمك " إشارة إلى الدوام المنزه عن الإفناء والإعدام ليطالع حقيقة الأزل في القدم وحقيقة الأبد في البقاء، فيتجلى له نور الأزل والأبد، ثم ليقل " وتعالى جدك " إشارة إلى أنه أعلى وأعظم من أن تكون صفات جلاله ونعوت كماله محصورة في القدر المذكور، ثم ليقل " ولا إله غيرك " إشارة إلى أن صفات الجلال وسمات الكمال له تعالى لا لغيره فهو الكامل الذي لا كامل إلا هو وفي الحقيقة لا هو إلا هو، وههنا بكل اللسان وتدهش الألباب، ثم عد أيها المصلي إلى نفسك وحالك وقل " وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض " فقولك " سبحانك اللهم وبحمدك " معراج الملائكة المقربين حيث قالوا

{ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } [البقرة2: 30]

وهو أيضاً معراج محمد صلى الله عليه وسلم لأن معراجه مفتتح بقوله " سبحانك اللهم وبحمدك " وقوله " وجهت وجهي " معراج الخليل صلى الله عليه وسلم، وقولك " إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي " معراج الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.

-58-

فقد جمع المصلي بين معراج الملائكة المقربين ومعراج عظماء الأنبياء والمرسلين ثم إذا فرغت من هذه الحالة فقل " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لتدفع العجب عن نفسك، وفي هذه المقام يفتح لك أحد أبواب الجنة وهو باب المعرفة، وبقولك { بسم الله الرحمن الرحيم } يفتح باب الذكر، وبقولك { الحمد لله رب العالمين } يفتح باب الشكر، وبقولك " الرحمن الرحيم " يفتح باب الرجاء، وبقولك { مالك يوم الدين } يفتح باب الخوف، وبقولك { إياك نعبد وإياك نستعين } يفتح باب الإخلاص المتولد من معرفة العبودية ومعرفة الربوبية وبقولك { اهدنا الصراط المستقيم } يفتح باب الدعاء والتضرع

{ ادْعُونِي أَسْتَجِب لَكُم } [غافر40: 60]

وبقولك: { صراط الذين أنعمت عليهم } الخ. يفتح باب الاقتداء بالأرواح الطيبة والاهتداء بأنوارهم، فجنات المعارف الربانية انفتحت لك أبوابها الثمانية بهذه المقاليد الروحانية، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة، وأما الجسماني فأولى المراتب أن تقوم بين يدي الله كقيام أصحاب الكهف

{ إِذ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الكهف18: 14]

بل قيام أهل القيامة

{ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [المطففين83: 6]

ثم اقرأ " سبحانك اللهم وبحمدك " ثم " وجهت وجهي " ثم " الفاتحة " وبعدها " ما تيسر لك من القرآن " واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك حتى تستحقرها، وإياك أن تنظر من عبادتك إلى الله فإنك إن فعلت ذلك صرت من الهالكين وهذا سر قوله: { إياك نعبد وإياك نستعين } واعلم أن نفسك إلى الآن جارية مجرى خشية عرضتها على نار خوف الجلال فلانت، فاجعلها منحنية بالركوع ثم اتركها لتستقيم مرة أخرى، فإن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق ولا تبغض طاعة الله إلى نفسك " فإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى " فإذا عادت إلى استقامتها فانحدر إلى الأرض بغاية التواضع واذكر ربك بغاية العلو وقل: " سبحان ربي الأعلى " فإذا سجدت ثانية حصل لك ثلاثة أنواع من الطاعة... ركوع واحد وسجدتان، فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات، وبالسجود الأول من عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات، وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي إلى كل المضلات. فإذا تجاوزت هذه الصفات وتخلصت عن هذه الدركات، وصلت إلى الدرجات العاليات وملكت الباقيات الصالحات، وانتهيت إلى عقبة جلال مدبر الأرض والسموات، فقل عند ذلك " التحيات المباركات " باللسان، و " الصلوات " بالأركان و " الطيبات " بالجنان وقوة الإيمان بالله، فيصعد نور روحك وينزل نور روح محمد صلى الله عليه وسلم فيتلاقى الروحان ويحصل هناك الروح والريحان فقل " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " فعند ذلك يقول محمد صلى الله عليه وسلم " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " فكأنه قيل لك: بم نلت هذه الكرامات؟ فقل: بقولي: " أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد أن محمداً رسول الله " فقيل: إن محمداً الذي هداك أي شيء هديتك له صلى الله عليه وسلم؟ فقل " اللهم صل على محمد وآل محمد " ، فقيل لك: إن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وهو الذي قال



-59-
{ رَبَّنَا وَابْعَث فِيهِم رَسُولاً مِنْهُمْ } [البقرة2: 129]

فما جزاؤك له صلى الله عليه وسلم؟ فقل " كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين " فيقال لك: هذه الخيرات من محمد وإبراهيم أو من الله؟ فقل: بل من الحميد المجيد " إنك حميد مجيد ". ثم إن العبد إذا ذكر الله تعالى بهذه الأثنية والمدائح ذكره الله تعالى في محافل الملائكة " إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه " فإذا سمع الملائكة ذلك اشتاقوا إلى العبد فقال الله تعالى: إن الملائكة اشتاقوا إلى زيارتك وقد جاؤوك زائرين فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين، فقل عن اليمين وعن الشمال " السلام عليكم ورحمة الله وبركاته " فلا جرم إذا دخل المصلون الجنة فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتهم فنعم عقبى الدار.

المنهج الثامن: أعظم المخلوقين جلالة ومهابة المكان والزمان، فالمكان فضاء لا نهاية له، وخلاء لا غاية له، والزمان امتداد وهمي شبيه بنهر خرج من قعر جبل الأزل فامتد ودخل في قعر الأبد، فلا يعرف لانفجاره مبدأ ولا لاستقراره منزل. فالأول والآخر صفة الزمان، والظاهر والباطن صفة المكان، وكمال هذه الأربعة " الرحمن الرحيم " فالحق سبحانه وسع المكان ظاهراً وباطناً، ووسع الزمان أولاً وآخراً، وهو منزه عن الافتقار إلى المكان والزمان، فإنه كان ولا مكان ولا زمان، فعقد المكان بالكرسي

{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } [البقرة2: 255]

وعقد الزمان بالعرش

{ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [هود11: 7]

لأن جري الزمان يشبه جري الماء، فالعلو صفة الكرسي

{ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } [البقرة2: 255]

والعظمة صفة العرش

{ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [التوبة9: 129]

وكمال العلو والعظمة لله

{ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } [البقرة2: 255]

والعلو والعظمة درجتان من درجات الكمال إلا أن العظمة أقوى وفوق الكل درجة الكبرياء " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري " ولا يخفى أن الرداء أعظم من الإزار وفوق جميع الصفات صفة الجلال وهي تقدسه في هويته المخصوصة عن مناسبة الممكنات وبه استحق الإلهية، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: " ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام " وفي التنزيل

{ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن55: 27]

فالمصلي يبتغي وجه الله، والداخل على السلطان يجب أن يتطهر من الأدناس والأرجاس، وأولى المراتب التطهر من دنس الذنوب

{ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً } [التحريم66: 8]

ثم من الدنيا حلالها وحرامها وهو الزهد، ثم من الكونين الدنيا والآخرة وهو مقام المعرفة، ثم من الالتفات إلى أعماله وهو مقام الإخلاص، ثم من الالتفات إلى عدم الالتفات وهو مقام المحسنين، ثم من الالتفات إلى كل ما سوى الله وهو مقام الصديقين، ثم قم قائماً

-60-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم

آخر تعديل بواسطة admin ، 12-08-2010 الساعة 08:34 PM
رد مع اقتباس
 
 
  #33  
قديم 12-08-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ) مصنف و مدقق 61-65 من 65

تفسير غرائب القرآن و رغائب الفرقان/القمي النيسابوري (ت 728 هـ) مصنف و مدقق 61-65 من 65




{ فَأَقِم وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } [الروم30: 30]

واستحضر في نفسك جميع أقسام العالم من الروحانيات والجسمانيات فقل " الله أكبر " أي من الكل كما مر، أو من لا يراني ولا يسمع كلامي كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " أو أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأفهامهم كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: التوحيد أن لا تتوهمه أو أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته فإذا قلت " الله أكبر " فأجل طرف عقلك في ميادين جلال الله وقل " سبحانك اللهم وبحمدك " ثم قل " وجهت وجهي " ثم انتقل إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لكي تبصر فيها عجائب الدنيا والآخرة، وتطلع منها على أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والكتب الإلهية والشرائع النبوية فتصل إلى الشريعة ومنها إلى الطريقة ومنها إلىالحقيقة وتشاهد درجات الكاملين ودركات الناقصين، فإذا قلت { بسم الله الرحمن الرحيم } أبصرت به الدنيا فباسمه قامت السموات والأرضون، وإذا قلت { الحمد لله رب العالمين } أبصرت به الآخرة فبالحمد قامت الآخرة

{ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس10: 10]

وإذا قلت { الرحمن الرحيم } أبصرت به عالم الجمال المشتمل على أصول النعم وفروع النوال، وإذا قلت { مالك يوم الدين } أبصرت به عالم الجلال وما يحصل هناك من الأحوال والأهوال، وإذا قلت " إياك نعبد " أبصرت به عالم الشريعة، وإذا قلت " وإياك نستعين " أبصرت به عالم الطريقة، وإذا قلت { اهدنا الصراط المستقيم } أبصرت به عالم الحقيقة وإذا قلت { صراط الذين أنعمت عليهم } أبصرت به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات، وإذا قلت { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } لاحظت دركات أهل التفريط والإفراط فإذا انكشفت لك هذه المقامات فلا تظن أنك قد بلغت الغايات بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء ولنفسك بالهوان وقل " الله أكبر " ثم انزل من صفة الكبرياء إلى العظمة وقل " سبحان ربي العظيم " ثم انتصب ثانياً وادع لمن وقف موفقك وحمد حمدك وقل " سمع الله لمن حمده " فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك فالله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم. ولا تكبير في هذا المقام لأن التكبير من الكبرياء والهيبة والخوف وهذا مقام الشفاعة، ثم عد إلى التكبير وانحدر به إلى غاية العلو وقل " سبحان ربي الأعلى " لأن السجود أكثر تواضعاً.


-61-

روي أن لله ملكاً تحت العرش اسمه حزقيل. فأوحى إليه أيها الملك طر فطار ثلاثين ألف سنة، ثم ثلاثين ألف سنة، فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني فأوحى الله إليه: لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ إلى الطرف الثاني من العرش. فقال الملك عند ذلك: سبحان ربي الأعلى. أما فوائد السجدتين فالأولى الأزل والثانية الأبد، والقعدة بينهما هي الدنيا، فتعرف بأزليته أنه لا أول له فتسجد له، وبأبديته أنه لا آخر له فتسجد له ثانياً. وأيضاً الأولى فناء الدنيا في الآخرة، والثانية فناء الآخرة في جلال الله تعالى، وأيضاً الأولى فناء الكل في أنفسها، والثانية بقاؤها ببقائه، وأيضاً الأولى انقياد عالم الشهادة لقدرته، والثانية انقياد عالم الأرواح لعزته

{ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ } [الأعراف7: 54]

وأيضاً الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته، والثانية سجدة الخوف مما فاتنا من أداء حقوق كبريائه. وأيضاً صلاة القاعدة على النصف من صلاة القائم فتواضع السجدتين بإزاء تواضع ركوع واحد، وأيضاً ليكونا شاهدين للعبد على أداء العبادة، وأيضاً ليناسب الوجود الأخذ من الوحدة إلى الكثرة ومن الفردية إلى الزوجية، وأيضاً الانتصاب صفة الإنسان والانحناء صفة الأنعام والجثوم صفة النبات. ففي الركوع هضم للنفس بمرتبة واحدة، وفي السجود بمرتبتين، ولعل ما فاتنا من الفوائد أكثر مما أدركنا.

المنهج التاسع في اللطائف: عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم سأل ربه فقال: ما جزاء من حمدك؟ فقال تعالى: الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته. فقال أهل التحقيق: من ههنا جعلها الله فاتحة كتابه وخاتمة كلام أحبائه في جنته

{ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس10: 10]

وعن علي عليه السلام أن أول ما خلق الله العقل من نوره المكنون، ثم قال له: تكلم فقال: الحمد لله فقال الرب: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز عليّ منك. ونقل عن آدم عليه السلام لما عطس قال: الحمد لله فأول كلام لفاتحة المحدثات الحمد، وأول كلام لخاتمة المحدثات الحمد، فلا جرم جعلها الله تعالى فاتحة كتابه. وأيضاً أول كلام الله " الحمد لله " وآخر أنبيائه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الأول والآخر مناسبة، فجعل " الحمد لله " أول آية من كتاب محمد رسول الله، ولما كان كذلك وضع لمحمد رسول الله من كلمة الحمد اسمان: محمد وأحمد. وعند هذا قال صلى الله عليه وسلم " أنا في السماء أحمد وفي الأرض محمد " فأهل السماء في تحميد الله ورسوله أحمدهم، والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال:

{ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُوراً } [الإسراء17: 19]

ورسول الله محمدهم.


-62-

أخرى: الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالرحمة والنعمة، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال فلهذا قال " سبقت رحمتي غضبي ".

أخرى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه أحمد أي أكثر الحامدين حمداً فوجب أن تكون رحمة الله في حقه أكثر فلهذا جاء رحمة للعالمين.

أخرى: إن من أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى اسمه محمد وأحمد الحامد والمحمود على ما جاء في الروايات، وكلها تدل على الرحمة، لأن الحمد يتضمن النعمة فقال تعالى:

{ نَبِّئ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الحجر15: 49]

فقوله " نبئ " إشارة إلى محمد وهو مذكور قبل العباد، والياء في قوله " عبادي " ضمير الله سبحانه. وكذا في " أني " و " أنا " و " الغفور " و " الرحيم " صفتان لله، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول صلى الله عليه وسلم مع خمسة أسماء تدل على الرحمة، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تعالى تدل على الرحمة، ورحمة الرسول كثيرة

{ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ } [الأنبياء21: 107]

ورحمة الله تعالى غير متناهية

{ وَرَحْمَتِي وَسِعَت كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف7: 156]

فكيف يضيع المذنب فيما بين هذه الأصناف من الرحمة؟!.


أخرى: في الفاتحة عشرة أشياء، خمسة من صفات الربوبية: الله الرب الرحمن الرحيم المالك، وخمسة من صفات العبودية: العبادة الاستعانة طلب الهداية طلب الاستقامة طلب النعمة في قوله " أنعمت عليهم " وكأنه قيل " إياك نعبد " لأنك أنت الله " وإياك نستعين " يا رب اهدنا يا رحمن، وارزقنا الاستقامة يا رحيم، وأفض علينا سجال فضلك يا مالك.

أخرى: الإنسان مركب من خمسة أشياء: بدن ونفس شيطانية ونفس سبعية ونفس بهيمية وجوهر ملكي عقلي. فتجلى اسم الله للجوهر الملكي فاطمأن إليه

{ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ } [الرعد13: 28]

وتجلى للنفس الشيطانية باسم الرب فلان وانقاد لطاعة الديان

{ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِن هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ } [المؤمنون23: 97]

وتجلى للنفس السبعية باسم الرحمن وهو مركب من القهر واللطف

{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَـنِ } [الفرقان25: 26]

فترك الخصومة والعدوان. وتجلى للنفس البهيمية باسم الرحيم

{ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } [المائدة5: 4]

فترك العصيان، وتجلى للأبدان بصفة القهر والمالكية لأن البدن غليظ كثيف فيحتاج إلى قهر شديد

{ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر40: 16]

فدان. فلمكان هذه التجليات انغلقت له أبواب النيران وفتحت عليه أبواب الجنان ورجع القهقرى كما جاء، فلطاعة الأبدان قال: " إياك نعبد " ولطاعة النفس البهيمية قال: " وإياك نستعين " على ترك اللذات وارتكاب المنكرات، ولطاعة النفس السبعية قال: " اهدنا وأرشدنا وعلى دينك ثبتنا " ولطاعة النفس الشيطانية طلب الاستقامة فقال: { اهدنا الصراط المستقيم } ولجوهره العقلي الملكي طلب مرافقة الأرواح المقدسة لا المدنسة فقال: { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }.


-63-

أخرى: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت فشهادة أن لا إله إلا الله من تجلي نور اسم الله، وإقام الصلاة من تجلي نور اسم الرب لأن الرب من التربية، والعبد يربي أمانة عدد الصلاة، وإيتاء الزكاة من تجلي اسم الرحمن لأن الزكاة سببها الرحمة على الفقراء، وصوم رمضان من تجلي اسم الرحيم لأن الصائم إذا جاع يذكر جوع الفقراء فيعطيهم (يحكى) أن يوسف حين تمكن من مصر كان لا يشبع فقيل له في ذلك؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع. وأيضاً الصائم يرحم نفسه لأنه إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات، فعند الموت يسهل عليه مفارقتها. ووجوب الحج من تجلي اسم " مالك يوم الدين " لأن الحج يوجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد وذلك يشبه سفر القيامة. وأيضاً الحاج يكون عارياً حافياً حاسراً وهو يشبه أحوال القيامة.

أخرى: الحواس خمس ولكل أدب فأدب البصر

{ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى } [النجم53: 17]

{ فَاعْتَبِرُوا يَأُولِي الأَبْصَارِ } [الحشر59: 2]

وأدب السمع

{ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر39: 18]

وأدب الذوق

{ يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ } [المؤمنون23: 51]

وأدب الشم

{ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ } [يوسف12: 94]

وأدب المس

{ واوَالَّذِينَ هُم لِفُرُوجِهِم حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِم أَو مَا مَلَكَت أَيْمَانُهُم } [المؤمنون23: 5-6]

فاستعن بأنوار الأسماء الخمسة: الله الرب الرحمن الرحيم المالك، على تأديب هذه الحواس الخمس.


أخرى: الشطر الأول من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة لله فيفيض أنوارها على الأسرار، والشطر الثاني مشتمل على الصفات الخمس للعبد فتصعد منها أسراره إلى تلك الأنوار ويحصل للعبد معراج في قراءته، وتقرير الأسرار أن حاجة العبد إما لدفع ضر أو جلب خير، وكل منهما إما في الدنيا وإما في الآخرة، فهذه أربعة، وههنا قسم خامس هو الأشرف وذلك الإقبال على طاعة الله وعبوديته لا لأجل رغبة أو رهبة، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب منه شيئاً سوى الله، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة، وإن طالعت نور الرحمن طلبت منه خيرات الدنيا، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه العصمة عن مضار الآخرة، وإن طالعت نور " مالك يوم الدين " طلبت منه الصون عن آفات الدنيا الموقعة في عذاب الآخرة أعاذنا الله منها.

أخرى: للتجلي ثلاث مراتب: تجلي الذات

{قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُم فِي خَوْضِهِم يَلْعَبُونَ } [الأنعام6: 91]

وهذا لعظماء الأنبياء والملائكة المقربين وهذه نهاية الأحوال ويدل عليه اسم الله، وتجلي الصفات وهو في أواسط الأحوال ويكون للأولياء وأولي الألباب

{ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِم وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً } [آل عمران3: 191]

ويدل عليه اسم الرحمن.


-64-

وتجلي الأفعال والآيات وهو في بداية الأحوال ويكون لعامة العباد


أخرى: في الفاتحة كلمتان مضافتان إلى اسم الله " بسم الله " و " الحمد لله " بسم الله لبداية الأمور والحمد لله لخواتيم الأمور، " بسم الله " ذكر " والحمد لله " شكر بسم الله أستحق الرحمة رحمن الدنيا، وبالحمد لله أستحق رحمة أخرى رحيم الآخرة. كلمتان أضيف إليهما اسمان لله " رب العالمين " " مالك يوم الدين " فالربوبية لبداية حالهم

{ أَلَسْتُ بِرَبِّكُم قَالُوا بَلَى } [الأعراف7: 172]

والملك لنهاية حالهم

{ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر40: 16]

وبينهما اسمان مطلقان لوسط حالهم " الراحمون يرحمهم الرحمن ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ".


المنهج العاشر: للخلق خمس أحوال: أولها: الإيجاد والتكوين والإبداع ويدل عليه اسم الله. وثانيها: التربية في مصالح الدنيا ويدل عليه اسم الرب. وثالثها: التربية في معرفة المبدأ ويدل عليها اسم الرحمن. ورابعها: في معرفة المعاد ويدل عليها اسم الرحيم كي يقدم على ما ينبغي ويحجم عما لا ينبغي. وخامسها: نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى المعاد ويدل عليه اسم " مالك يوم الدين " ثم إن العبد إذا انتفع بهذه الأسماء صار من أهل المشاهدة فقال: " إياك نعبد " لأنك أنت الله الخالق " وإياك نستعين " لأنك أنت الرب الرازق " إياك نعبد " لأنك الرحمن " وإياك نستعين " لأنك الرحيم " إياك نعبد " لأنك الملك " وإياك نستعين " لأنك المالك، " إياك نعبد " لأنا ننتقل من دار الشرور إلى دار السرور ولا بد من زاد وخير الزاد العبادة، " وإياك نستعين " لأن الذي نكتسب بقوتنا وقدرتنا لا يكفينا فإن السفر طويل والزاد قليل. ثم إذا حصل الزاد بإعانتك فالشقة شاسعة والطرق كثيرة، فلا طريق إلا أن يطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق { اهدنا الصراط المستقيم }. ثم إنه لا بد لسالك الطريق الطويل من رفيق ودليل { صراط الذين أنعمت عليهم } فالأنبياء أدلاء والصديقون والشهداء والصالحون رفقاء، غير المغضوب عليهم ولا الضالين لأن الحجب قسمان: نارية وهي الدنيا بما فيها، ونورية وهي ما سواها. اللهم ادفع عنا كل ما يحجب بينك وبيننا إنك رب العالمين ومالك يوم الدين.

-65-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #34  
قديم 12-08-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق

تفسير الجواهر الحسان في تفسير القرآن/ الثعالبي (ت 875 هـ) مصنف و مدقق


قال ابن عبَّاس وغيره: إنها مكية؛ ويؤيد هذا أن في سُوَرةِ الحِجْرِ:

{ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي } [الحجر15: 87]

والحجر مكية بإِجماع، وفي حديث أُبَيِّ بن كعب أنَّها السبْعُ المثانِي.

ولا خلاف أن فرض الصلاة كان بمكة، وما حفظ أنه كانت قط في الإسلام صلاةٌ بغير: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، وروي عن عطاء بن يسار وغيره؛................. أنها مدنية، وأما أسماؤها فلا خلاف أنه يقال لها فاتحة الكتاب، واختلف، هل يقال لها أم الكتاب؟ فكره ذلك الحسن بن أبي الحسن، وأجازه ابن عبَّاس وغيره.

وفى تسميتها بـ «أُمِّ الْكِتَاب» حديثٌ رواه أبو هريرة، واختلف هل يقال لها: «أُمَّ القُرْآنِ»؟ فكره ذلك ابن سيرين، وجوزه جمهور العلماء.

وسميت «المَثَانِيَ»؛ لأنها تثنَّى في كل ركعة؛ وقيل: لأنها استثنيت لهذه الأمة.

وأما فضل هذه السورة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبيِّ بن كعب؛ أنَّها لم ينزل في التوراة، ولا في الإِنجيل، ولا في الفرقان مثلها، وروي أنها تعدل ثلثَي القرآن، وهذا العدل إِما أنْ يكون في المعاني، وإِما أنْ يكون تفضيلاً من الله تعالَىٰ لا يعلل؛ وكذلك يجيء عدل:

{ قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [الإخلاص112: 1] وعدل:
{ إِذَا زُلْزِلَتِ } [الزلزلة99: 1] وغيره.


* ت *: ونحو حديث أُبَيٍّ حديث أبي سعيد بن المُعَلَّى؛ إِذ قال له صلى الله عليه وسلم: " أَلاَ أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي القُرْآنِ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }؛ هِيَ السَّبْعُ المَثَانِي، والقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذِي أُوتِيْتُهُ " رواه البخاري، وأبو داود، والنسائيُّ، وابن ماجة. انتهى من «سِلاَح المُؤْمِنِ» تأليف الشيخ المحدِّث أبي الفتح تقي الدين محمَّد بن علي بن همام - رحمه اللَّه -.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #35  
قديم 12-08-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق 1-8

تفسير نظم الدرر في تناسب الآيات والسور/ البقاعي (ت 885 هـ) مصنف و مدقق 1-8



ولما أثبت بقوله: { الحمد لله } أنه المستحق لجميع المحامد لا لشيء غير ذاته الحائز لجميع الكمالات أشار إلى أنه يستحقه أيضاً من حيث كونه رباً مالكاً منعماً فقال: { رب } وأشار بقوله: { العالمين } إلى ابتداء الخلق تنبيهاً على الاستدلالات بالمصنوع على الصانع وبالبداءة على الإعادة كما ابتدأ التوراة بذلك لذلك قال الحرالي: و { الحمد } المدح الكامل الذي يحيط بجميع الأفعال والأوصاف، على أن جميعها إنما هو من الله سبحانه تعالى وأنه كله مدح لا يتطرق إليه ذم، فإذا اضمحل ازدواج المدح بالذم وعلم سريان المدح في الكل استحق عند ذلك ظهور اسم الحمد مكملاً معرفاً بكلمة " أل " وهي كلمة دالة فيما اتصلت به على انتهائه وكماله. انتهى.

ولما كانت مرتبة الربوبية لا تستجمع الصلاح إلا بالرحمة اتبع ذلك بصفتي { الرحمن الرحيم } ترغبياً في لزوم حمده، وهي تتضمن تثنية تفصيل ما شمله الحمد أصلاً؛ وسيأتي سر لتكرير هاتين الصفتين في الأنعام عند

{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام6: 118]

عن الإمام حجة الإسلام الغزالي رحمه الله تعالى أنه لا مكرر في القرآن.


ولما كان الرب المنعوت بالرحمة قد لا يكون مالكاً وكانت الربوبية لا تتم إلا بالمِلك المفيد للعزة المقرون بالهيبة المثمرة للبطش والقهر المنتج لنفوذ الأمر اتبع ذلك بقوله: { مالِك يوم الدين } ترهيباً من سطوات مجده. قال الحرالّي: واليوم مقدار ما يتم فيه أمر ظاهر، ثم قال: و { يوم الدين } في الظاهر هو يوم ظهور انفراد الحق بإمضاء المجازاة حيث تسقط دعوى المدعين، وهو من أول يوم الحشر إلى الخلود فالأبد، وهو في الحقيقة من أول يوم نفوذ الجزاء عند مقارفة الذنب في باطن العامل أثر العمل إلى أشد انتهائه في ظاهره، لأن الجزاء لا يتأخر عن الذنب وإنما يخفى لوقوعه في الباطن وتأخره عن معرفة ظهوره في الظاهر، ولذلك يؤثر عنه عليه الصلاة والسلام: " إن العبد إذا أذنب نكت في قلبه نكتة سوداء " وأيضاً فكل عقاب يقع في الدنيا على أيدي الخلق فإنما هو جزاء من الله وإن كان أصحاب الغفلة ينسبونه للعوائد، كما قالوا:

{ مَسَّ ءَابَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ } [الأعراف7: 95]

ويضيفونه للمعتدين عليهم بزعمهم، وإنما هو كمال قال تعالى:

{ وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَت أَيْدِيكُم } [الشورى42: 30]

وكما ورد عنه عليه الصلاة والسلام: " الحمى من فيح جهنم، وإن شدة الحر والقر من نفسها " وهي سوط الجزاء الذي أهل الدنيا بأجمعهم مضروبون به، ومنهل التجهّم الذي أجمعهم واردوه من حيث لا يشعر به أكثرهم، قال عليه الصلاة والسلام: " المرض سوط الله في الأرض يؤدب به عبادة " وكذلك ما يصيبهم من عذاب النفس بنوع الغم والهم والقلق والحرص وغير ذلك، وهو تعالى مَلِك ذلك كله ومالكه، سواء ادعى فيه مدح أو لم يدع، فهو تعالى بمقتضى ذلك كله ملِك يوم الدين ومالكه مطلقاً في الدنيا والآخرة وإلى الملك أنهى الحق تعالى تنزل أمره العلي لأن به رجع الأمر عوداً على بدء بالجزاء العائد على آثار ما جبلوا عليه من الأوصاف تظهر عليهم من الأفعال كما قال تعالى:


-1-

{ سَيَجْزِيهِم وَصْفَهُم } [الأنعام5: 139] و
{ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [السجدة: 17].

{ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأحقاف46: 14]،
{ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الواقعة56: 24]

وبه تم انتهاء الشرف العلي وهو المجد الذي عبر عنه قوله تعالى: " مجدني عبدي " انتهى، ولما لم يكن فرق هنا في الدلالة على الملك بين قراءة " مَلِك " وقراءة " مالك " جاءت الرواية بهما، وذلك لأن المالك إذا أضيف إلى اليوم أفاد اختصاصه بجميع ما فيه من جوهرة وعرض، فلا يكون لأحد معه أمر ولا معنى للمَلِك سوى هذا، ولما لم تُفد إضافته إلى الناس هذا المعنى لم يكن خلاف في

{ مَلِكِ النَّاسِ } [الناس114: 2].

فلما استجمع الأمر استحقاقاً وتحبيباً وترغيباً وترهيباً كان من شأن كل ذي لب الإقبال إليه وقصر الهمم عليه فقال عادلاً عن أسلوب الغيبة إلى الخطاب لهذا مقدماً للوسيلة على طلب الحاجة لأنه أجدر بالإجابة { إياك } أي يا من هذه الصفات صفاته! { نعبد } إرشاداً لهم إلى ذلك؛ ومعنى { نعبد } كما قال الحرالي: تبلغ الغاية في أنحاء التذلل، وأعقبه بقوله مكرراً للضمير حثاً على المبالغة في طلب العون { وإياك نستعين } إشارة إلى أن عبادته لا تتهيأ إلا بمعونته وإلى أن ملاك الهداية بيدة: فانظر كيف ابتدأ سبحانه بالذات، ثم دل عليه بالأفعال، ثم رقي إلى الصفات، ثم رجع إلى الذات إيماء إلى أنه الأول والآخر المحيط، فلما حصل الوصول إلى شعبة من علم الفعال والصفات علم الاستحقاق للأفراد بالعبادة فعلم العجز عن الوفاء بالحق فطلب الإعانة، فهو كقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم وأبو داود في الصلاة والترمذي وابن ماجه في الدعاء والنسائي وهذا لفظه في التعوذ عن عائشة رضى الله عنها: " أعوذ بعفوك من عقوبتك، وبرضاك من سخطك، وبك منك " ثم أتبعه فيما زاد عن النسائي الاعتراف بالعجز في قوله: " لا أحصي ثناء عليك أنت أثنيت على نفسك " وفي آخر سورة اقرأ شرح بديع لهذا الحديث.


قال الحرالي: وهذه الآيات أي هذه وما بعدها مما جاء كلام الله فيه جارياً على لسان خلقه فإن القرآن كله كلام الله لكن منه ما هو كلام الله عن نفسه ومنه ما هو كلام الله عما كان يجب أن ينطق على اختلاف ألسنتهم وأحوالهم وترقي درجاتهم ورتب تفاضلهم مما لا يمكنهم البلوغ إلى كنهه لقصورهم وعجزهم فتولى الله الوكيل على كل شيء الإنباء عنهم بما كان يجب عليهم مما لا يبلغ إليه وُسع خلقه وجعل تلاوتهم لما أنبأ به على ألسنتهم نازلاً لهم منزلة أن لو كان ذلك النطق ظاهراً منهم لطفاً بهم وإتماماً للنعمة عليهم، لأنه تعالى لو وكلهم في ذلك إلى أنفسهم لم يأتوا بشيء تصلح به أحوالهم في دينهم ودنياهم، ولذلك لا يستطيعون شكر هذه النعمة إلا أن يتولى هو تعالى بما يلقنهم من كلامه مما يكون أداء لحق فضله عليهم بذلك، وإذا كانوا لا يستطيعون الإنباء عن أنفسهم بما يجب عليهم من حق ربهم فكيف بما يكون نبأ عن تحميد الله وتمجيده، فإذاً ليس لهم وصلة إلا تلاوة كلامه العلي بفهم كان ذلك أو بغير فهم، وتلك هي صلاتهم المقسمة التي عبر عنها فيما صح عنه علية الصلاة والسلام من قوله تعالى:

-2-

" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " ثم تلا هذه السورة؛ فجاءت الآيات الثلاث الأول بحمد الله تعالى نفسه، فإذا تلاها العبد قبل الله منه تلاوة عبده كلامه وجعلها منه حمداً وثناء وتمجيداًَ، وجاءت هذه الآيات على لسان خلقه فكان ظاهرها التزام عُهَد العبادة وهو ما يرجع إلى العبد وعمادها طلب المعونة من الله سبحانه وهو ما يرجع إلى الحق، فكانت بينه وبين عبده وتقدمت بينيّته تعالى، لأن المعونة متقدمة على العبادة وواقعة بها وهو مجاب فيما طلب من المعونة، فمن كانت عليه مؤنة شىء فاستعان الله فيها على مقتضى هذه الآية جاءته المعونة على قدر مؤنته، فلا يقع لمن اعتمد مقتضى هذه الآية عجز عن مرام أبداً وإنما يقع العجز ببخس الحظ من الله تعالى والجهل بمقتضى ما أحكمته هذه الآية والغفلة عن النعمة بها، وفي قوله: { نعبد } بنون الاستتباع إشعار بأن الصلاة بنيت على الاجتماع. انتهى. وفي الآية ندب إلى اعتقاد العجز واستشعار الافتقار والاعتصام بحوله وقوته، فاقتضى ذلك توجيه الرغبات إليه بالسؤال فقال: { اهدنا الصراط المستقيم } تلقيناً لأهل لطفه وتنبيهاً على محل السلوك الذي لا وصول بدونه، والهدى قال الحرالي: مرجع الضال إلى ما ضل عنه، والصراط الطريق الخطر السلوك، والآية من كلام الله تعالى على لسان العُلّية من خلقه، وجاء مكملاً بكلمة " أل " لأنه الصراط الذي لا يضل بمهتديه لإحاطته ولشمول سريانه وفقاً لشمول معنى الحمد في الوجود كله وهو الذي تشتت الآراء وتفرقت بالميل إلى واحد من جانبيه وهو الذي ينصب مثاله. وعلى حذو معناه بين ظهراني جهنم يوم الجزاء للعيان وتحفه مثل تلك الآراء خطاطيف وكلاليب، تجري أحوال الناس معها في المعاد على حسب مجراهم مع حقائقها التي ابتداء في يوم العمل، وهذا الصراط الأكمل وهو المحيط المترتب على الضلال الذي يعبر به عن حال من لا وجهة له، وهو ضلال ممدوح لأنه يكون عن سلامة الفطرة لأن من لا علم له بوجهة فحقه الوقوف عن كل وجهة وهو ضلال يستلزم هدى محيطاً منه

-3-
{ وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى } [الضحى93: 6]

وأما من هدى وجهة ما فضلّ عن مرجعها فهو ضلال مذموم لأنه ضلال بعد هدى وهو يكون عن اعوجاج في الجبلة. انتهى. ثم أكد سبحانه وتعالى الإخبار بأن ذلك لن يكون إلا بإنعامه منبهاً بهذا التأكيد الذي أفاده الإبدال على عظمة هذا الطريق فقال: { صراط الذين أنعمت عليهم } فأشار إلى أن الاعتصام به في اتباع رسله، ولما كان سبحانه عام النعمة لكل موجود عدواً كان أو ولياً، وكان حذف المنعم به لإرادة التعميم من باب تقليل اللفظ لتكثير المعنى فكان من المعلوم أن محط السؤال بعض أهل النعمة وهم أهل الخصوصية. يعني لو قيل: اتبع طريق أهل مصر مثلاً لا أهل دمشق، علم أن المنفي غير داخل في الأول لأن شرطه أن يتبعاه متعاطفاه كما صرحوا به، بخلاف ما لو قيل: اتبع طريق أهل مصر غير الظلمة، فإنه يعلم أن الظلمة منهم، فأريد هنا التعريف بأن النعمة عامة ولو لم تكن إلا بالإيجاد، ومن المعلوم أن السلوك لا بد وأن يصادف طريق بعضهم وهم منعم عليهم فلا يفيد السؤال حينئذ، فعرف أن المسؤول إنما هو طريق أهل النعمة بصفة الرحيمية تشوقت النفوس إلى معرفتهم فميزهم ببيان أضدادهم تحذيراً منهم، فعرف أنهم قسمان: قسم أريد للشقاوة فعاند في إخلاله بالعمل فاستوجب الغضب، وقسم لم يرد للسعادة فضل من جهة إخلاله بالعلم فصار إلى العطب فقال مخوفاً بعد الترجية ليكمل الإيمان بالرجاء والخوف معرفاً بأن النعمة عامة والمراد منها ما يخص أهل الكرامة: { غير المغضوب عليهم } أي الذين تعاملهم معاملة الغضبان لمن وقع عليه غضبه، وتعرفت " غير " لتكون صفة للذين بإضافتها إلى الضد فكان مثل: الحركة غير السكون، ولما كان المقصود من " غير " النفي لأن السياق له وإنما عبر بها دون أداة استثناء دلالة على بناء الكلام بادىء بدء على إخراج المتلبس بالصفة وصوناً للكلام عن إفهام أن ما يعد أقل ودون لا { ولا الضالين } فعلم مقدار النعمة على القسم الأول وأنه لا نجاة إلا باتباعهم وأن من حاد عن سبيلهم عامداً أو مخطئاً شقي ليشمّر أولو الجد عن ساق العزم وساعد الجهد في اقتفاء آثارهم للفوز بحسن جوارهم في سيرهم وقرارهم.

قال الحرالي: { المغضوب عليهم } الذين ظهر منهم المراغمة وتعمد المخالفة فيوجب ذلك الغضب من الأعلى والبغض من الأدنى. { الضالين } الذين وجهوا وجهة هدى فزاغوا عنها من غير تعمد لذلك. " أمين " كلمة عزم من الأمن، مدلولها أن المدعو مأمون منه أن يرد من دعاه لأنه لا يعجزه شيء ولا يمنعه وهي لا تصلح إلا لله لأن ما دونه لا ينفك عن عجز أو منع انتهى وهو صوت سمي به الفعل الذي هو استجب وقد انعطف المنتهى على المبتدأ بمراقبة القسم الأول اسم الله فحازوا ثمرة الرحمة وخالف هذان القسمان فكانوا من حزب الشيطان فأخذتهم النقمة، وعلم أن نظم القرآن على ما هو عليه معجز، ومن ثم اشتراط في الفاتحة في الصلاة لكونها واجبة في الترتيب، فلو قدم فيها أو أخر لم تصح الصلاة وكذا لو أدرج فيها ما ليس منها للإخلال بالنظم.
-4-

قال الأصبهاني: فإن القرآن معجز والركن الأبين الإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب. انتهى. والحاصل أنه لما رفعت تلك الصفات العلية لمخاطبها الحجب وكشفت له بسمو مجدها وعلو جدها وشرف حمدها جلائل الستر وأشرقت به رياض الكرم ونشرت له لطائف عواطفها بسط البر والنعم ثم اخترقت به مهامه العظمة والكبرياء وطوت في تيسيرها له مفاوز الجبروت والعز وأومضت له بوارق النقم من ذلك الجناب الأشم وصل إلى مقام الفناء عن الفاني وتمكن في رتبة شهود البقاء للباقي فبادر الخضوع له عن السوى حاكماً على الأغيار بما لها من ذواتها من العدم والتوى فقال: { إياك نعبد } وفي تلك الحال تحقق العجز عن توفية ذلك المقام ما له من الحق فقال: { وإياك نستعين }.

فكشف له الشهود في حضرات المعبود عن طرق عديدة ومنازل سامية بعيدة ورأى أحوالاً جمة وأودية مدلهمة وبحاراً مغرقة وأنواراً هادية وأخرى محرقة، ورأى لكل أهلاً قد أسلكوا فجاء تارة حزناً وأخرى سهلاً، وعلم أن لا نجاة إلا بهدايته ولا عصمة بغير عنايته ولا سعادة إلا برحمته ولا سلامة لغير أهل نعمته؛ فلما أشرق واستنار وعرف مواقع الأسرار بالأقدار كأنه قيل له: ماذا تطلب وفي أي مذهب تذهب؟ فقال: { اهدنا الصراط المستقيم }.

ولما طلب أشرف طريق سأل أحسن رفيق فقال: { صراط الذين أنعمت عليهم } ولما كانت النعمة قد تخص الدنيوية عينها واستعاذ من أولئك الذين شاهدهم في التيه سائرين وعن القصد عائرين جائرين أو حائرين فقال: { غير المغضوب عليهم ولا الضالين }.

وقد أشير في أم الكتاب. كما قال العلامة سعد الدين مسعود ابن عمرو التفتازاني الشافعي. إلى جميع النعم فإنها ترجع إلى إيجاد وإبقاء أولاً وإلى إيجاد وإبقاء ثانياً في دار الفناء والبقاء، أما الإيجاد الأول فبقوله { الحمد لله رب العالمين } فإن الإخراج من العدم إلى الوجود أعظم تربية، وأما الإبقاء الأول فبقوله: { الرحمن الرحيم } أي المنعم بجلائل النعم ودقائقها التى بها البقاء، وأما الإيجاد الثاني فبقوله: { مالك يوم الدين } وهو ظاهر، وأما الإبقاء الثاني فبقوله: { إياك نعبد } إلى آخرها، فإن منافع ذلك تعود إلى الآخرة.
-5-

ثم جاء التصدير بالحمد بعد الفاتحة في أربع سور أشير في كل سورة منها إلى نعمة من هذه النعم ترتيبها. انتهى، وسيأتي في أول كل سورة من الأربع ما يتعلق بها من بقية كلامه إن شاء الله تعالى، وهذا يرجع إلى أصل مدلول الحمد فإن مادته بكل ترتيب تدور على بلوغ الغاية ويلزم منه الاتساع والإحاطة والاستدارة فيلزمها مطأطأة الرأس وقد يلزم الغاية الرضا فيلزمه الشكر وسيبين وينزل على الجزئيات في سورة النحل إن شاء الله تعالى، ثم في أول سبأ تحقيق ما قاله الناس فيه وفي النسبة بينه وبين الشكر فقد بان سر الافتتاح من حيث تصديرها بالحمد جزئياً فكلياً الذي كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه فهو أجذم؛ وتعقبه بمدح المحمود بما ذكر من أسمائه الحسنى مع اشتمالها على جملة معاني القرآن من الحكم النظرية والأحكام العملية فهي أم القرآن لأنها له عنوان وهو كله لما تضمنته على قصرها بسط وتبيان.

قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل في آخر الباب التاسع منه: ولننه هذه الأبواب بذكر القرآن ومحتواه على الكتب وجمعه وقراءته وبيانه وتنزيله وإنزاله وحكيمه ومبينه ومجيده وكريمه وعظيمه ومرجعه إلى السبع المثاني والقرآن العظيم أم القرآن ومحتواها عليه، فنذكر جميع ذلك في الباب العاشر، الباب العاشر في محل أم القرآن من القرآن ووجه محتوى القرآن على جميع الكتب والصحف المتضمنة لجميع الأديان.

اعلم أن الله سبحانه جمع نبأه العظيم كله عن شأنه العظيم في السبع المثاني أم القرآن وأم الكتاب وكنزها تحت عرشه ليظهرها في الختم عند تمام أمر الخلق وظهور بادىء الحمد بمحمد، لأنه تعالى يختم بما به بدأ ولم يظهرها قبل ذلك، لأن ظهورها يذهب وهل الخلق ويمحو كفرهم ولا يتم بناء القرآن إلا مع قائم بمشهود بيان الفعل ليتم الأمر مسمعاً ومرأى وذلك لمن يكون من خلقه كل خلق ليبين به ما من أمره كل أمر، ثم فيما بين بدء الأمر المكنون وخاتم الخلق الكامل تدرج تنَشّؤ الخلق وبدو الأمر على حسب ذلك الأمر صحفاً فصحفاً وكتاباً فكتاباً، فالصحف لما يتبدل سريعاً، والكتاب لما يثبت ويدوم أمداً، والألواح لما يقيم وقتاً.

ففي التوراة أحكام الله على عباده في الدنيا بالحدود والمصائب والضراء والبأساء، وفي القرآن منها ما شاء الله وما يظهره الفقه من الحدود، ومعارف الصوفية من مؤاخذة المصائب؛ وفي الإنجيل أصول تلك الأحكام والإعلام بـأن المقصود بها ليست هي بل ما وراءها من أمر الملكوت، وفي القرآن منها ما شاء الله مما يظهره العلم والحكمة الملكوتية، وفي الزبور تطريب الخلق وجداً وهم عن أنفسهم إلى ربهم، وفي الفرآن منه ما شاء الله مما تظهره الموعظة الحسنة، ثم أنهى الأمر والخلق من جميع وجوهه، فصار قرآناً جامعاً للكل متمماً للنعمة مكملاً للدين

-6-
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُم دِينَكُم } [المائدة5: 3]

الآية، بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. وإن إلى ربك المنتهى.

ووجه فوت أم القرآن للقرآن أن القرآن مقصود تنزيله التفصيل والجوامع، فيه نجوم مبثوثة غير منتظمة، واحدة إثر واحدة، والجوامع في أم القرآن منتطمة واحدة بعد واحدة إلى تمام السبع على وفاء لا مزيد فيه ولا نقص عنه؛ أظهر تعالى بما له سورة صورة تجليه من بدء الملك إلى ختم الحمد، وبما لعبده مصورة تأديه من براءته من الضلال إلى هدى الصراط المستقيم،


وبما بينه وبينه قيام ذات الأمر والخلق فكان ذلك هو القرآن العظيم الجامع لما حواه القرآن المطلق الذكر بما فيه من ذلك تفصيلاً من مبينه وهو ما عوينت آية مسموعة، ومن مجيده وهو ما جربت أحكامه من بين عاجل ما شهد وآجل ما علم، يعلم ما شهد فكان معلوماً بالتجربة المتيقنة بما تواتر من القصص الماضي وما شهد له من الأثر الحاضر وما يتجدد مع الأوقات من أمثاله وأشباهه، ومن كريمه وهو ما ظهرت فيه أفانين إنعامه فيما دق وجل وخفي وبدا، ومن حكيمه وهو ما ظهر في الحكمة المشهورة تقاضيه وانتظام مكتوب خلقه على حسب تنزيل أمره؛ وما كان منه بتدريج وتقريب للأفهام ففاءت من حال إلى حال وحكم إلى حكم كان تنزيلاً، وما أهوى به من علو إلى سفل كان إنزالاً، وهو إنزال حيث لا وسائط وتنزيل حيث الوسائط؛ وبيانه حيث الإمام العامل به مظهره في أفعاله وأخلاقه كان خلقه القرآن، وقرآنه تلفيق تلاوته على حسب ما تتقاضاه النوازل.


آخر آية أنزلت

{ وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ } [البقرة2: 281]

قال صلى الله عليه وسلم في مضمون قوله تعالى

{ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْءَانَهُ } [القيامة75: 17]

" اجعلوها بين آية الدين والآية التي قبلها " لأنه ربما تقدم كيان الآية وتأخر في النظم قرآنها على ما تقدم عليها، آية

{ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } [الأحزاب33: 50 ]

الآية متأخرة الكيان متقدمة القرآن على آية

{ لَّا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِن بَعْد } [الأحزاب33: 52]

فقد يتطابق قرآن الأمر وتطوير الخلق وقد لا يتطابق والله يتولى إقامتهما؛ وأما الجمع ففي قلبه نسبة جوامعه السبع في أم القرآن إلى القرآن بمنزلة نسبة جمعه في قلبه لمحاً واحداً إلى أم القرآن

{ وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ } [القمر54: 50]

فهو جمع في قلبه، وقرآن على لسانه، وبيان في أخلاقه وأفعاله، وجملة في صدره، وتنزيل في تلاوته،

{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } [الفرقان25: 32]

قال الله تعالى: كذلك أي كذلك أنزلناه، إلا ما هو منك بمنزلة سماء الدنيا من الكون

-7-

{ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً } [الإسراء17: 106]

وعلى لسانه في أمد أيام النبوة، وقال في تفسيره: القرآن باطن وظاهره محمد صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة رضى الله عنها: كان خلقه القرآن، فمحمد صلى الله عليه وسلم صورة باطن سورة القرآن، فالقرآن باطنه وهو ظاهره

{ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *عَلَى قَلْبِكَ } [الشعراء: 193-194].


وقال في تفسير الفاتحة: وكانت سورة الفاتحة أمّاً للقرآن، لأن القرآن جميعه مفصل من مجملها، فالآيات الثلاث الأول شاملة لكل معنى تضمنته الأسماء الحسنى والصفات العلى، فكل ما في القرآن من ذلك فهو مفصل من جوامعها، والآيات الثلاث الأخر من قوله: { اهدنا } شاملة لكل ما يحيط بأمر الخلق في الوصول إلى الله والتحيز إلى رحمة الله والانقطاع دون ذلك، فكل ما في القرآن منه فمن تفصيل جوامع هذه، وكل ما يكون وصلة بين مما ظاهرهن هذه من الخلق ومبدؤه وقيامه من الحق فمفصل من آية { إياك نعبد وإياك نستعين } انتهى.

ومن أنفع الأمور في ذوق هذا المشرب استجلاء الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه وأصحاب السنن الأربعة عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولبعدي ما سأل فإذا قال العبد " الحمد لله رب العالمين " قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال " الرحمن الرحيم " قال الله: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: " مالك يوم الدين " قال الله: مجدني عبدي. وقال مرة: فوض إليّ عبدي، وإذا قال: " إياك نعبد وإياك نستعين " قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، وإذا قال: " اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين " قال: " هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " والله أعلم.

-8-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #36  
قديم 12-08-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ) مصنف و مدقق 1-4

تفسير الدر المنثور في التفسير بالمأثور/ السيوطي (ت 911 هـ) مصنف و مدقق 1-4

قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّّهِ }

أخرج عبد الرزاق في المصنف والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والخطابي في الغريب والبيهقي في الأدب والديلمي في مسند الفردوس والثعلبي عن عبد الله بن عمرو بن العاص " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ { الحمد } رأس الشكر، فما شكر الله عبد لا يحمده ".

وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النوّاس بن سمعان قال: سرقت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لئن ردها الله لأشكرن ربي، فوقعت في حي من أحياء العرب فيهم امرأة مسلمة، فوقع في خلدها أن تهرب عليها، فرأت من القوم غفلة فقعدت عليها ثم حركتها فصبحت بها المدينة، فلما رأها المسلمون فرحوا بها، ومشوا بمجيئها حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأها قال { الحمد لله } فانتظروا هل يحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم صوماً أو صلاة؟ فظنوا أنه نسي فقالوا: يا رسول الله قد كنت قلت لئن ردها الله لأشكرن ربي. قال: ألم أقل { الحمد لله }؟ ".

وأخرج ابن جرير والحاكم في تاريخ نيسابور والديلمي بسند ضعيف عن الحكم بن عمير وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قلت { الحمد لله رب العالمين } فقد شكرت الله فزادك ".

وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس قال { الحمد لله } كلمة الشكر إذا قال العبد { الحمد لله } قال الله شكرني عبدي.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال { الحمد } هو الشكر والاستحذاء لله، والاقرار بنعمه، وهدايته، وابتدائه. وغير ذلك.

وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: قال عمر: قد علمنا سبحان الله، ولا إلَه إلا الله، فما الحمد؟ قال علي: كلمة رضيها الله لنفسه، وأحب أن تقال.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن كعب قال { الحمد لله } ثناء على الله.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك قال { الحمد لله } رداء الرحمن.

وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي عبد الرحمن الجبائي قال: الصلاة شكر، والصيام شكر، وكل خير تفعله لله شكر، وأفضل الشكر { الحمد }.

وأخرج الترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي في شعب الإِيمان عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء { الحمد لله } ".

وأخرج ابن ماجة والبيهقي بسند حسن عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنعم الله على عبده نعمة فقال { الحمد لله } إلاَّ كان الذي أعطى أفضل مما أخذه ".

-1-

وأخرج البيهقي في شعب الإِيمان عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من عبد ينعم الله عليه بنعمة إلاَّ كان { الحمد } أفضل منها ".

وأخرج عبد الرزاق والبيهقي في الشعب عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما أنعم الله على عبد نعمة يحمد الله عليها إلاَّ كان حمد الله أعظم منها، كائنة ما كانت ".

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لو أن الدنيا كلها بحذافيرها في يد رجل من أمتي، ثم قال { الحمد لله } لكان الحمد أفضل من ذلك ".

وأخرج أحمد ومسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الطهور شطر الإيمان { والحمد لله } تملأ الميزان، وسبحان الله تملآن ـ أو تملأ ـ مابين السماء والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو. فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها ".

وأخرج سعيد بن منصور وأحمد والترمذي وحسنه وابن مردويه عن رجل من بني سليم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " سبحان الله نصف الميزان، والحمد لله تملأ الميزان، والله أكبر يملأ ما بين السماء والأرض، والطهور نصف الميزان، والصوم نصف الصبر ".

وأخرج الترمذي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التسبيح نصف الميزان، والحمد لله تملأه ولا إله إلا الله ليس لها دون الله حجاب حتى تخلص إليه ".

وأخرج أحمد والبخاري في الأدب المفرد والنسائي والحاكم وصححه وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في شعب الإِيمان عن الأسود بن سريع التميمي قال " قلت: يا رسول الله ألا أنشدك محامد حمدت بها ربي تبارك وتعالى قال: أما أن ربك يحب الحمد ".

وأخرج ابن جرير عن الأسود بن سريع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس شيء أحب إليه الحمد من الله، ولذلك أثنى على نفسه فقال { الحمد لله } ".

وأخرج البيهقي عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " التأنّي من الله، والعجلة من الشيطان، وما شيء أكثر معاذير من الله، وما شيء أحب إلى الله من الحمد ".

وأخرج ابن شاهين في السنة والديلمي من طريق أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " التوحيد ثمن الجنة، و { الحمد لله } ثمن كل نعمة، ويتقاسمون الجنة بأعمالهم ".

وأخرج الخطيب في تالي التلخيص من طريق ثابت عن أنس مرفوعاً " التوحيد ثمن الجنة، والحمد وفاء شكر كل نعمة ".


-2-

وأخرج أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل أمر ذي بال لايبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع ".

وأخرج البخاري في الأدب المفرد عن ابن عباس قال: إذا عطس أحدكم فقال { الحمد لله } قال الملك: رب العالمين فإذا قال رب العالمين قال الملك يرحمك الله.

وأخرج البخاري في الأدب وابن السني وأبو نعيم كلاهما في الطب النبوي عن علي بن أبي طالب قال: من قال عند كل عطسة سمعها { الحمد لله رب العالمين } على كل حال ما كان. لم يجد وجع الضرس والأذن أبداً.

وأخرج الحكيم الترمذي عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من بادر العاطس بالحمد لم يضره شيء من داء البطن ".

وأخرج الحكيم الترمذي عن موسى بن طلحة قال: أوحى إلى سليمان: إن عطس عاطس من وراء سبعة أبحر فاذكرني.

وأخرج البيهقي عن علي قال: " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية من أهله فقال: اللهم لك عليّ إن رددتهم سالمين أن أشكرك حقّ شكرك. فما لبثوا أن جاؤوا سالمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الحمد لله } على سابغ نعم الله فقلت يا رسول الله ألم تقل إن ردهم الله أن أشكره حق شكره فقال أو لم أفعل ".

وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر وابن مردويه والبيهقي من طريق سعد بن إسحق بن كعب بن عجرة عن أبيه عن جده قال " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً من الأنصار وقال: إن سلمهم الله وأغنمهم فإن لله علي في ذلك شكراً. فلم يلبثوا أن غنموا وسلموا فقال بعض أصحابه: سمعناك تقول إن سلمهم الله وأغنمهم فإن لله عليّ في ذلك شكراً قال: قد فعلت! قلت: اللهم شكراً، ولك الفضل المن فضلاً ".

وأخرج أبو نعيم في الحلية والبيهقي عن جعفر بن محمد قال: فقد أبي بغلته فقال: لئن ردها الله عليّ لأحمدنَّه بمحامد يرضاها، فما لبث أن أتى بها بسرجها ولجامها، فركبها فلما استوى عليها رفع رأسه إلى السماء فقال { الحمد لله } لم يزد عليها فقيل له في ذلك.... فقال: وهل تركت شيئاً أو أبقيت شيئاً؟ جعلت الحمد كله لله عز وجل.

وأخرج البيهقي من طريق منصور عن ابراهيم قال: يقال إن { الحمد لله } أكثر الكلام تضعيفاً.

وأخرج أبو الشيخ والبيهقي عن محمد بن حرب قال: قال سفيان الثوري: { الحمد لله } ذكر وشكر، وليس شيء يكون ذكراً وشكراً غيره.

وأخرج ابن أبي الدنيا وأبو نعيم في الحلية عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: إن العبد إذا قال: سبحان الله فهي صلاة الخلائق، وإذا قال { الحمد لله } فهي كلمة الشكر التي لم يشكر الله عبد قط حتى يقولها؛ وإذا قال لا إله إلا الله فهي كلمة الإِخلاص التي لم يقبل الله من عبد قط عملاً حتى يقولها ، وإذا قال: الله أكبر ملأ ما بين السماء والأرض، وإذا قال: لا حول ولا قوّة إلا بالله قال الله: أسلم واستسلم.


-3-

قوله تعالى: رَبِّ الْعَالَمِينَ

أخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وصححه من طرق عن ابن عباس في قوله { رب العالمين } قال: الجن والإِنس.

وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن مجاهد في قوله { رب العالمين } قال: الجن والإِنس.

وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير، مثله.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله { رب العالمين } قال: إله الخلق كله. السموات كلهن ومن فيهن، والأرضون كلهن ومن فيهن ومن بينهن مما يعلم ومما لا يعلم.

وأخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وأبو يعلي في مسنده وابن عدي في الكامل وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي في شعب الإِيمان والخطيب في التاريخ بسند ضعيف عن جابر بن عبد الله قال: قل الجراد في سنة من سني عمر التي ولي فيها، فسأل عنه فلم يخبر بشيء، فاغتم لذلك فأرسل راكباً يضرب إلى كداء، وآخر إلى الشام، وآخر إلى العراق، يسأل هل رؤي من الجراد شيء أو لا؟ فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد، فألقاها بين يديه. فلما رآها كبر ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " خلق الله ألف أمة. ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر، فأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد، فإذا أهلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه ".

وأخرج ابن جريج عن قتادة في قوله { رب العالمين } قال: كل صنف عالم.

وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن تتبع الجهري قال: العالمون ألف أمة.. فستمائة في البحر، وأربعمائة في البر.

وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي العالية في قوله { رب العالمين } قال: الإِنس عالم، والجن عالم، وما سوى ذلك ثمانية عشر ألف عالم من الملائكة، وللأرض أربع زوايا في كل زاوية ثلاثة آلاف عالم وخمسمائة عالم خلقهم لعبادته.

وأخرج الثعلبي من طريق شهر بن حوشب عن أبي كعب قال: العالمون الملائكة وهم ثمانون ثمانية عشر ألف ملك، منهم أربعمائة أو خمسمائة ملك بالمشرق، ومثلها بالمغرب، ومثلها بالكتف الثالث من الدنيا، ومثلها بالكتف الرابع من الدنيا، مع كل ملك من الأعوان ما لا يعلم عددهم إلا الله.

وأخرج أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية عن وهب قال: إن لله عز وجل ثمانية عشر ألف عالم. الدنيا منها عالم واحد.


-4-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #37  
قديم 12-08-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 17

تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 17



(سورة فاتحة الكتاب وهي سبع آيات)

معنى سورة الفاتحة

الفاتحة في الأصل: أولُ ما من شأنه أن يُفتح، كالكتاب والثوب، أُطلقت عليه لكونه واسطةً في فتحِ الكل، ثم أُطلقت على أول كلِّ شيء فيه تدريجٌ بوجه من الوجوه كالكلام التدريجي حصولاً، والسطور والأوراق التدريجية قراءةً وعداً والتاء للنقل من الوصفية إلى الاسمية، أو هي مصدر بمعنى الفتح، أطلقت عليه تسميةً للمفعول باسم المصدر، إشعاراً بأصالته كأنه نفس الفتح، فإن تعلقه به بالذات، وبالباقي بواسطته، لكن لا على معنى أنه واسطة في تعلقه بالباقي ثانياً. حتى يرد أنه لا يتسنى في الخاتمة، لما أن خَتْم الشيء عبارة عن بلوغ آخره، وذلك إنما يتحقق بعد انقطاع الملابسة عن أجزائه الأُوَل، بل على معنى أن الفتح المتعلق بالأول فتح له أولاً وبالذات، وهو بعينه فتح للمجموع بواسطته، لكونه جزءاً منه، وكذا الكلامُ في الخاتمة فإن بلوغَ آخِرِ الشيء يعرِضُ للآخر أولاً وبالذات، وللكل بواسطته، على الوجه الذي تحقَّقْتَه.

والمراد بالأول ما يعُم الإضافيَّ فلا حاجة إلى الإعتذار بأن إطلاقَ الفاتحة على السورة الكريمة بتمامها باعتبار جزئها الأول، والمرادُ بالكتاب هو المجموع الشخصي، لا القدر المشترك بـينه وبـين أجزائه، على ما عليه اصطلاحُ أهل الأصول، ولا ضيرَ في اشتهار السورة الكريمة بهذا الاسم في أوائل عهد النبوة، قبل تحصيل المجموع بنزول الكل، لما أن التسمية من جهة الله عزَّ اسمه أو من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإذن فيكفي فيها تحصُّلُهُ باعتبار تحققه في علمه عزَّ وجل أو في اللوح أو باعتبار أنه أُنزل جُملةً إلى السماء الدنيا، وأملاه جبريل على السَفَرة، ثم كان يُنزِله على النبـي صلى الله عليه وسلم نُجوماً في ثلاثٍ وعشرين سنةٍ كما هو المشهور. والإضافة بمعنى اللام كما في جزء الشيء لا بمعنى مِنْ كما في خاتم فضة، لما عرفت أن المضاف جزء من المضاف إليه، لا جزئي له، ومدار التسمية كونه مبدأً للكتاب على الترتيب المعهود، لا في القراءة في الصلاة، ولا في التعليم ولا في النزول كما قيل.

أما الأول فبـيِّنٌ، إذ ليس المرادُ بالكتاب القدرَ المشترك الصادقَ على ما يقرأ في الصلاة حتى تُعتبرَ في التسمية مبدئيتَها له. وأما الأخيران فلأن اعتبار المبدئية من حيث التعليمُ، أو من حيث النزولُ يستدعي مراعاةَ الترتيب في بقية أجزاء الكتاب من تينك الحيثيتين، ولا ريب في أن الترتيب التعليمي والترتيب النزولي ليسا على نسق الترتيب المعهود.

- وتسمى أمَّ القرآن لكونها أصلاً ومنشأً له، إما لمبدئيتها له، وإما لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله عز وجل، والتعبُّدِ بأمره ونهيه، وبـيانِ وعدِه ووعيده، أو على جملةِ معانيه من الحِكَم النظرية، والأحكام العملية، التي هي سلوكُ الصراط المستقيم، والاطلاعُ على معارج السعداء، ومنازلِ الأشقياء، والمرادُ بالقرآن هو المراد بالكتاب.

-1-

- وتسمى أمَّ الكتاب أيضاً كما يسمَّى بها اللوحُ المحفوظ، لكونِهِ أصلاً لكل الكائنات، والآياتُ الواضحةُ الدالة على معانيها - لكونها بـينةً - تُحْمل عليها المتشابهاتُ، ومناطُ التسمية ما ذُكر في أم القرآن، لا ما أورده الإمامُ البخاري في صحيحه من أنه يُبدأ بقراءتها في الصلاة، فإنه مما لا تعلق له بالتسمية كما أشير إليه، وتسمى سورةَ الكنز، لقوله عليه السلام: " إنَّها أُنْزِلَتْ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ " أو لِمَا ذُكِرَ في أُمِّ القُرآن، كما أنه الوجهُ في تسميتها الأساسَ، والكافية، والوافية، وتسمى سورةَ الحمد والشكر والدعاء وتعليم المسئلة، لاشتمالها عليها، وسورةَ الصلاة لوجوب قراءتها فيها، وسورةَ الشفاء والشافية لقوله عليه السلام: " هي شفاءٌ من كُلِّ داءٍ " ، والسبع المثاني لأنها سبعُ آيات تُثَنَّى في الصلاة، أو لتكرّر نزولِها على ما رُوي أنها نزلت مرة بمكَّة حين فرضت الصلاة وبالمدينة أخرى حين حُوِّلت القبلة، وقد صح أنها مكيةٌ لقوله تعالى:

{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } [الحجر15، الآية 87]

وهو مكي بالنص.


أقوال العلماء في البسملة

{ بِسْمِ الله الرَّحَمنِ الرَّحَيمِ }

اختلف الأئمة في شأن التسمية في أوائل السور الكريمة فقيل: إنها ليست من القرآن أصلاً، وهو قولُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه ومذهبُ مالك، والمشهورُ من مذهب قدماء الحنفية، وعليه قرّاءُ المدينة والبصرة والشام وفقهاؤها. وقيل: إنها آية مفردة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها وهو الصحيحُ من مذهب الحنفية، وقيل: هي آية تامة من كل سورة صُدِّرت بها، وهو قولُ ابن عباس وقد نُسب إلى ابن عمر أيضاً رضي الله عنهم، وعليه يُحمل إطلاقُ عبارة ابن الجوزي في زاد المسير حيث قال: روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنها أنزلت مع كل سورة، وهو أيضاً مذهبُ سعيد بنِ جبـيرٍ والزُّهري وعطاءٍ وعبدِ اللّه بن المبارك، وعليه قُرَّاءُ مكَّة والكوفةِ وفقهاؤهما، وهو القولُ الجديد للشافعي رحمه الله، ولذلك يُجْهر بها عنده، فلا عبرة بما نُقِلَ عن الجصاص من أن هذا القول من الشافعي لم يسبقه إليه أحد، وقيل إنها آية من الفاتحة مع كونها قرآناً في سائر السور أيضاً من غير تعرض لكونها جزأ منها أَوْ لا، ولا لكونها آية تامَّةً أَوْ لا، وهو أحدُ قولَي الشافعي على ما ذكره القرطبـي. ونقل عن الخطابـي أنه قول ابن عباس وأبـي هريرة رضي الله عنهم. وقيل إنها آية تامة في الفاتحة وبعضٌ في البواقي. وقيل بعضُ آية في الفاتحة وآية تامة في البواقي، وقيل إنها بعض آية في الكل، وقيل إنها آياتٌ من القرآن متعددة بعدد السور المُصدّرة بها من غير أن تكون جزأ منها، وهذا القول غير معزى في الكتاب إلى أحد، وهناك قول آخرُ ذكره بعض المتأخرين ولم ينسُبْه إلى أحد وهو إنها آية تامة في الفاتحة وليست بقرآن في سائر السور، ولولا اعتبارُ كونها آيةً تامةً لكان ذلك أحدَ محملَيْ ترددِ الشافعي، فإنه قد نقل عنه أنها بعض آية في الفاتحة، وأما في غيرها فقوله فيها متردد، فقيل: بـين أن يكون قرآناً أَوْ لا، وقيل: بـين أن يكون آيةً تامَّةً أَوْ لا، قال الإمام الغزالي: والصحيح من الشافعي هو التردد الثاني.

-2-

وعن أحمد بنِ حنبلٍ في كونها آيةً كاملة وفي كونها من الفاتحة روايتان ذكرهما ابن الجوزي، ونقل أنه مع مالك، وغيره ممن يقول أنها ليست من القرآن.

هذا والمشهور من هذه الأقاويل هي الثلاث الأُول، والاتفاقُ على إثباتها في المصاحف مع الإجماع على أن ما بـين الدفتين كلام الله عز وجل يقضي بنفي القول الأول، وثبوت القدر المشترك بـين الأخيرين من غير دلالة على خصوصية أحدهما، فإن كونها جزأ من القرآن لا يستدعي كونها جزأ من كل سورة منه، كما لا يستدعي كونها آية منفردة منه. وأما ما رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما " من أن مَنْ تركها فقد ترك مائة وأربعَ عشرةً آيةً من كتاب الله تعالى " وما روي عن أبـي هريرة من أنه صلى الله عليه وسلم قال: " فاتحةُ الكتاب سبعُ آياتٍ أولاهن بسم الله الرحمٰن الرحيم " ، وما روي عن أم سلمة من أنه صلى الله عليه وسلم قرأ سورة الفاتحة وعدَّ بسم الله الرحمٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية، وإن دل كلُ واحد منها على نفي القول الثاني فليس شيء منها نصاً في إثبات القولِ الثالث، أما الأول فلأنه لا يدل إلا على كونها آياتٍ من كتاب الله تعالى متعددةً بعدد السور المصدرة بها، لا على ما هو المطلوبُ من كونها آية تامة من كل واحدة منها، إلا أن يُلْتجأ إلى أن يقال أن كونها آيةً متعددةً بعدد السور المصدّرةِ بها من غير أن تكون جزءاً منها قولٌ لم يقل به أحد، وأما الثاني فساكت عن التعرض لحالها في بقية السور، وأما الثالثُ فناطقٌ بخلافه مع مشاركته للثاني في السكوت المذكور. والباء فيها متعلقةٌ بمضمرٍ يُنبىء عنه الفعلُ المصدَّرُ بها، كما أنها كذلك في تسمية المسافر عند الحلول والارتحال، وتسمية كل فاعل عند مباشرة الأفعال.

تفسير البسملة

ومعناها الإستعانةُ أو الملابسةُ تبركاً، أي باسم الله أقرأ، أو أتلو، وتقديم المعمول للإعتناء به والقصد إلى التخصيص، كما في إياك نعبد، وتقديرُ أبدأ لاقتضائه اقتصارَ التبرك على البداية مُخلّ بما هو المقصودُ، أعني شمولَ البركة للكل، وادعاءُ أن فيه امتـثالاً بالحديث الشريف من جهة اللفظ والمعنى معاً، وفي تقدير أقرأُ من جهة المعنى فقط ليس بشيء، فإن مدارَ الامتثالِ هو البدءُ بالتسمية لا تقديرُ فعله، إذ لم يقل في الحديث الكريم: كلُّ أمرٍ ذي بال لم يُقَل فيه أو لم يُضْمَر فيه أَبدأُ، وهذا إلى آخر السورة الكريمة مقولٌ على ألسنة العباد تلقيناً لهم، وإرشاداً إلى كيفية التبرك باسمه تعالى، وهدايةً إلى منهاج الحمد وسؤالِ الفضل، ولذلك سُميت السورةُ الكريمة بما ذكر من تعليم المسألة، وإنما كُسرت ومن حق الحروف المفردة أن تُفتَحَ لاختصاصها بلزوم الحرفية والجر، كما كسرت لامُ الأمر، ولامُ الإضافة داخلةً على المُظْهَر للفصل بـينهما وبـين لام الابتداء.

-3-

والاسم عند البصريـين من الأسماء المحذوفة الأعْجَاز. المبنية الأوائل على السكون قد أُدخلت عليها عند الابتداء همزة، لأن مِنْ دأبهم البدءَ بالمتحرِّك والوقفَ على الساكن، ويشهد له تصريفُهم على أسماء وسُمَيٌّ وسمَّيتُ، وسُميً كهُدىً لغة فيه قال: [الرجز]

واللَّه أسماكَ سُمى مباركاآثرك اللَّهُ به إيثاركا


والقلبُ بعيدٌ غير مطرد، واشتقاقه من السُمو لأنه رفعٌ للمُسمَّى وتنويهٌ له، وعند الكوفيـين من السِّمة، وأصله وَسَمَ، حذفت الواو وعُوِّضت عنها همزةُ الوصل ليقِلَّ إعلالُها، ورُدَّ عليه بأن الهمزة لم تُعهَدْ داخلةً على ما حُذف صدرُه في كلامهم، ومن لغاتهم سِمٌ وسُمٌ قال: [الرجز]

باسمِ الذي في كلِّ سورةٍ سِمُهْ


وإنما لم يقل باللَّهِ للفرق بـين اليمين والتيمُّن، أو لتحقيق ما هو المقصودُ بالإستعانة هٰهنا، فإنها تكون تارة بذاته تعالى. وحقيقتها طلبُ المعونة على إيقاع الفعل وإحداثه، أي إفاضةُ القدرةِ المفسرةِ عند الأصوليـين من أصحابنا بما يتمكن به العبدُ من أداء مالزِمه، المنقسمةِ إلى ممكِنة وميسِّرة، وهي المطلوبة بإياك نستعين، وتارة أخرى باسمه عز وعلا. وحقيقتها طلبُ المعونة في كون الفعل معتداً به شرعاً فإنه ما لم يُصَدَّر باسمهِ تعالى يكون بمنزلةِ المعدوم. ولما كانت كل واحدة من الإستعانتين واقعةً وجب تعيـينُ المراد بذكر الاسم، وإلا فالمتبادَرُ من قولنا بالله عند الإطلاق لا سيما عند الوصف بالرحمٰن الرحيم هي الإستعانة الأولى.

إن قيل: فليُحمل الباء على التبرك وليستَغْنَ عن ذكر الاسم، لما أن التبرك لا يكون إلا به، قلنا: ذاك فرعُ كون المراد بالله هو الاسم، وهل التشاجرُ إلا فيه، فلا بد من ذكر الاسم لينقطعَ احتمالُ إرادة المسمَّى. ويتَعَينُ حمل الباء على الإستعانة الثانية أو التبرك. وإنما لم يكتب الألف لكثرة الإستعمال قالوا: وطُوِّلتِ الباءُ عوضاً عنها.

(والله) أصله الإله، فحذفت همزته على غير قياس كما يُنْبِىءُ عنه وجوب الإدغام، وتعويض الألف واللام عنها، حيث لزماه وجُرِّدا من معنى التعريف، ولذلك قيل: يالله بالقطع، فإن المحذوف القياسيَّ في حكم الثابت، فلا يحتاج إلى التدارك بما ذُكِرَ من الإدغام والتعويض.

-4-

وقيل: على قياس تخفيف الهمزة، فيكون الإدغام والتعويض من خواص الاسم الجليل، ليمتاز بذلك عما عداه امتياز مسمّاه عما سواه بما لا يوجد فيه من نعوت الكمال. والإله في الأصل اسمُ جنسٍ يقع على كل معبود بحقٍ أو باطل، أي مع قطع النظرِ عن وصف الحقية والبطلان، لا مع اعتبارِ أحدهما بعينه، ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم والصَّعِقْ. وأما الله بحذف الهمزة فعلمٌ مختصٌّ بالمعبود بالحقِّ لم يطلق على غيره أصلاً، واشتقاقه من الإلاهة والأُلوهَة، والأُلوهِية بمعنى العبادة حسبما نص عليه الجوهري، على أنه اسمٌ منها بمعنى المألوه، كالكتاب بمعنى المكتوب، لا على أنه صفة منها، بدليل أنه يوصف ولا يوصف به، حيث يُقال إله واحد، ولا يُقال شيء إلهٌ، كما يُقال كتاب مرقوم، ولا يقال شيء كتاب. والفرق بـينهما أن الموضوع له في الصفة هو الذاتُ المبهمةُ باعتبار اتصافِها بمعنىً معيّنٍ وقيامِهِ بها. فمدلولها مركبٌ من ذاتٍ مُبهمةٍ لم يُلاحظ معها خصوصية أصلاً، ومِن معنىً معينٍ قائمٍ بها على أن مَلاك الأمرِ تلك الخصوصية، فبأيِّ ذاتٍ يقومُ ذلك المعنى يصحّ إطلاقُ الصفة عليها، كما في الأفعال. ولذلك تَعْمَلُ عملها كاسمي الفاعلِ والمفعول. والموضوع له في الاسم المذكور هو الذاتُ المعينة والمعنى الخاص، فمدلوله مركب من ذَيْنِكَ المعنيين من غيرِ رجحانٍ للمعنى على الذات كما في الصفة، ولذلك لم يعمل عملها.

وقيل: اشتقاقه من أَلِه بمعنى تحير، لأنه سبحانه يحارُ في شأنه العقول والأفهام. وأما أَلَهَ كعَبَدَ وزناً ومعنىً فمشتق من الألَه المشتق من أَلِهَ بالكسر، وكذا تألَّه واستَأْلَه اشتقاق: استنوق واستحجر من الناقة والحَجَر. وقيل: من أَلِهَ إلى فلان أي سكن إليه، لاطمئنان القلوب بذكره تعالى وسكون الأرواح إلى معرفته. وقيل: من أَلِهَ إذا فزِع من أمرٍ نزل به، وآلَهَهُ غيرُه إذا أجاره، إذ العائذُ به تعالى يفزَع إليه وهو يُجيره حقيقة أو في زعمه. وقيل: أصله لاهٌ على أنه مصدر من لاهَ يَلِيهُ بمعنى احتجب وارتفع، أطلق على الفاعل مبالغة. وقيل: هو اسمُ علمٍ للذات الجليل ابتداء وعليه مدار أمر التوحيد في قولنا «لا إله إلاَّ الله».

ولا يخفى أن اختصاصَ الاسم الجليل بذاته سبحانه بحيث لا يمكن إطلاقُه على غيره أصلاً كافٍ في ذلك، ولا يقدَح فيه كونُ ذلك الاختصاصِ بطريق الغَلَبة بعد أن كان اسمَ جنسٍ في الأصل، وقيل: هو وصفٌ في الأصل لكنه لما غلب عليه بحيث لا يُطلق على غيره أصلاً صار كالعلم، ويردّه امتناعُ الوصف به.

واعلم أن المراد بالمنَكَّر في كلمة التوحيد هو المعبودُ بالحق، فمعناها: فردَ من أفراد المعبود بالحق إلا ذلك المعبودُ بالحق. وقيل: أصلُه لاَهَا بالسريانية فعُرِّب بحذف الألف الثانية، وإدخال الألف واللام عليه وتفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبله سنة، وقيل: مطلقاً، وحذفُ ألفِه لحنٌ تفسد به الصلاة، ولا ينعقد به صريحُ اليمين، وقد جاء لضرورة الشعر في قوله: [الوافر]

-5-

ألا لا بارك اللَّهُ في سُهيلإذا ما اللَّهُ باركَ في الرجالِ


[تفسير الرحمن الرَّحيم]

و { الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ } صفتان مبنيتان من رَحِمَ «بعد جعله لازماً» بمنزلة الغرائز، بنقله إلى رَحُمَ بالضم كما هو المشهور. وقد قيل: إن الرحيم ليس بصفة مشبَّهة، بل هي صيغة مبالغة، نص عليه سِيبَويه في قولهم: هو رحيمٌ فلاناً. والرحمة في اللغة رقة القلب والانعطاف، ومنه الرَّحِمُ لانعطافها على ما فيها. والمراد هٰهنا التفضل والإحسان، وإرادتهما بطريق إطلاق اسم السبب بالنسبة إلينا على مسَبّبِهِ البعيد أو القريب، فإنَّ أسماء الله تعالى تؤخذ باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادىء التي هي انفعالات. والأولُ من الصفات الغالبة حيث لم يطلق على غيره تعالى، وإنما امتنع صرفُه إلحاقاً له بالأغلب في بابه من غير نظر إلى الاختصاص العارض، فإنه كما حظِر وجود فعلىٰ حُظِر وجود فعلانة، فاعتبارُه يوجب اجتماعَ الصرف وعدمَه، فلزم الرجوع إلى أصل هذه الكلمة قبل الاختصاص، بأن تقاس إلى نظائرها من باب فَعِلَ يَفْعَلُ، فإذا كانت كلها ممنوعة من الصرف لتحقق وجود فَعْلى فيها، علم أن هذه الكلمة أيضاً في أصلها مما تحقق فيها وجود فعلى، فتُمنع من الصرف، وفيه من المبالغة ما ليس في الرحيم ولذلك قيل: يا رحمٰن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا وتقديمه مع كون القياسِ تأخيرَه رعايةً لأسلوب الترقي إلى الأعلى، كما في قولهم فلان عالمٌ نِحْرير، وشجاعٌ باسل، وجَوَادٌ فيَّاض، لأنه باختصاصه به عز وجل صار حقيقاً بأن يكون قريناً للاسم الجليل الخاص به تعالى، ولأن ما يدل على جلائل النعم وعظائمها وأصولها أحقُّ بالتقديم مما يدل على دقائقها وفروعها. وإفراد الوصفين الشريفين بالذكر لتحريك سلسلة الرحمة.

[تفسير الحمد لله]



{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } الحمد هو: النعتُ بالجميل على الجميل، اختيارياً كان أو مبدأً له، على وجه يُشْعِرُ بتوجيهه إلى المنعوت وبهذه الحيثية يمتازُ عن المدحِ، فإنَّهُ خالٍ عنها، يرشدك إلى ذلك ما ترى بـينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول في قولك: حمدته ومدحته، فإن تعلق الثاني بمفعوله على منهاج تعلق عامة الأفعال بمفعولاتها، وأما الأولُ فتعلقه بمفعوله مُنْبىء عن معنى الإنهاء، كما في قولك: كَلَّمْتُه، فإنه مُعْرَبٌ عما تفيده لام التبليغ في قولك: قلتُ له، ونظيرُه وشَكَرْتُه وعبدتُه وخدمتُه، فإن تعلّق كلَ منها منبىء عن المعنى المذكور، وتحقيقُه: أن مفعول كلِّ فعلٍ في الحقيقة هو الحدث الصادرُ عن فاعله ولا يُتصور في كيفية تعلق الفعل به ــ أيَّ فعل كان ــ اختلافٌ أصلاً. وأما المفعولُ به الذي هو محلُّه وموقِعُه، فلما كان تعلقه به ووقوعُه عليه على أنحاءَ مختلفةٍ حسبما تقتضيه خصوصياتُ الأفعال بحسب معانيها المختلفة، فإن بعضها يقتضي أن يلابسه ملابسةً تامَّةً مؤثرة فيه كعامة الأفعال، وبعضها يستدعي أن يلابسَه أدنى ملابسة.

-6-

إما بالانتهاء إليه كالإعانة مثلاً، أو بالإبتداءِ منه كالإستعانة مثلاً، اعتبر في كل نحو من أنحاءِ تعلّقِه به كيفية لائقةٌ بذلك النحو، مغايرةٌ لما اعتبر في النحْوَيْنِ الأخيرين.

فنظمُ القسمِ الأول من التعلق في سلك التعلقِ بالمفعولِ الحقيقي مراعاةً لقوة الملابسة، وجَعلُ كلِّ واحدٍ من القسمين الأخيرين من قبيل التعلق بواسطة الجارّ المناسب له، فإن قولَكَ أعنتُه مشعرٌ بانتهاء الإعانةِ إليه، وقولك استعنتُه بابتدائها منه، وقد يكون لفعلٍ واحدٍ مفعولان يتعلق بأحدهما على الكيفية الأولى، وبالآخَرِ على الثانية أو الثالثة، كما في قولك حدثني الحديث، وسألني المالَ، فإن التحديثَ مع كونه فعلاً واحداً قد تعلّقَ بك على الكيفية الثانية، وبالحديث على الأولى، وكذا السؤال فإنه فعل واحد، وقد تعلّق بك على الكيفية الثالثة وبالمال على الأولى.

ولا ريب في أن اختلافَ هذه الكيفيات الثلاثِ وتبايُنَها واختصاصَ كلِّ من المفاعيلِ المذكورةِ بما نُسِبَ إليه منها مما لا يُتصور فيه تردُّدٌ ولا نَكيرٌ وإن كان لا يتضحُ حقَّ الاتضاح إلا عند الترجمة والتفسير، وإن مدارَ ذلك لاختلاف ليس إلا اختلافَ الفعل أو اختلاف المفعول، وإذ لا اختلاف في مفعول الحمد والمدح تَعَيَّنَ أن اختلافهما في كيفيةِ التعلق، لاختلافهما في المعنى قطعاً. هذا وقد قيلَ: المدحُ مطلقٌ عن قيدِ الإختيار، يُقال: مدحتُ زيداً على حُسْنِهِ ورشاقةِ قَدِّهِ، وأيًّا ما كان فليس بـينهما ترادفٌ، بل أُخوّةٌ من جهةِ الاشتقاق الكبـير، وتناسبٌ تام في المعنى كالنصر والتأيـيد فإنهما متناسبان معنىً من غير ترادفٍ لما ترى بـينهما من الاختلاف في كيفية التعلق بالمفعول، وإنما مرادفُ النصر الإعانة، ومرادف التأيـيد التقوية، فتدبر.

ثم إن ما ذُكِرَ من التفسير هو المشهورُ من معنى الحمد، واللائقُ بالإرادة في مقام التعظيم، وأما ما ذُكِرَ في كُتُبِ اللغةِ من معنى الرضىٰ مطلقاً كما في قوله تعالى:

{ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُودًا } [الإسراء17، الآية: 79]

وفي قولهم: لهذا الأمر عاقبةٌ حميدةٌ، وفي قول الأطباء: بُحْرَانٌ محمود، مما لا يختص بالفاعل فضلاً عن الإختيار فبمعزل عن استحقاق الإرادة هٰهنا استقلالاً، أو استتباعاً بحملِ الحمدِ على ما يعم المعنيـين، إذ ليس في إثباته له عز وجل فائدةٌ يُعْتَدُ بها. وأما الشكْرُ فهو مقابلة النعمة بالثناء وآداب الجوارح، وعقدُ القلبِ على وصفِ المنعم بنعت الكمال كما قال من قال:

أفادتكم النَّعْمَاءُ مني ثلاثةيدي ولساني والضميرَ المُحجبا


فإذن هو أعمُّ منهما من جهة، وأخص من أخرى. ونقيضُهُ الكفران، ولما كان الحمد من بـين شُعَبِ الشكر أَدْخَلَ في إشاعةِ النعمةِ والاعتدادِ بشأنِها، وأدلَّ على مكانها لِما في عمل القلب من الخفاء، وفي أعمال الجوارحِ من الاحتمال، جُعِلَ الحمدُ رأسَ الشكر، ومِلاكاً لأمره في قوله عليه السلام:

-7-

" الحمدُ رأسُ الشُّكرِ، ما شكرَ الله عبدٌ لم يحمدْهُ " وارتفاعُهُ بالابتداء، وخبرُه الظرف، وأصلُه النَصْبُ كما هو شأن المصادر المنصوبة بأفعالها المُضمرة التي لا تكاد تُستعمل معها، نحو شُكراً وعجباً، كأنه قيل: نحمد الله حمداً بنون الحكاية، ليوافق ما في قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة، الآية: 5] لاتحاد الفاعل في الكل، وأما ما قيل من أنه بـيانٌ لحمدِهم له تعالى، كأنَّهُ قيل: كيف تحمَدون؟ فقيل: إياكَ نعبد فمع أنه لا حاجةَ إليه مما لا صحةَ له في نفسِهِ، فإنَّ السؤالَ المقدرَ لا بدَّ أنْ يكون بحيثُ يقتضيهِ انتظامُ الكلامِ وتنساقُ إليه الأذهانُ والأفهامُ، ولا ريبَ في أن الحامد بعد ما ساق حمده تعالى على تلك الكيفيةِ اللائقةِ لا يَخْطُرُ ببالِ أحدٍ أن يسألَ عن كيفيتهِ على أنَّ ما قُدِرَ من السؤال غيرُ مطابقٍ للجواب، فإنه مسوقٌ لتعيـين المعبود، لا لبـيان العبادة، حتى يُتَوَهم كونُه بـياناً لحمدهم والاعتذارُ بأن المعنى نخصك بالعبادة وبه يتبـين كيفيةُ الحمد تعكيسٌ للأمرِ، وتَمَحّلٌ لتوفيق المُنَّزَل المقرَّرِ بالموهومِ المُقدّر.

وبعدَ اللُّتَيا والتي إنْ فُرِضَ السؤال من جهتِهِ عز وجل فأتَتْ نُكْتَةُ الإلتفاتِ التي أجمع عليها السلف والخلف، وإن فُرِضَ من جهةِ الغيرِ يختلُ النظام لابتناءِ الجوابِ على خطابِهِ تعالى، وبهذا يتضحُ فسادَ ما قيل: إنه استئنافٌ جواباً لسؤال يقتضيه إجراءُ تلك الصفات العظامِ على الموصوف بها، فكأنه قيل: ما شأنُكم معه وكيف توجُّهكم إليه، فأجيب بحصْر العبادة والاستعانة فيه، فإن تناسِيَ جانبِ السائل بالكلية وبناءَ الجواب على خِطابه عز وعلا مما يجب تنزيهُ ساحةِ التنزيل عن أمثاله.

والحقُّ الذي لا محيدَ عنه أنَّهُ استئنافٌ صدرَ عن الحامد بمحضِ ملاحظةِ اتصافِهِ تعالى بما ذُكِرَ من النعوت الجليلةِ الموجبة للإقبال الكليّ عليه، من غير أن يتوسط هناك شيء آخرُ كما ستحيط به خُبرا، وإيثارُ الرفعِ على النصب الذي هو الأصلُ للإيذان بأن ثبوتَ الحمد له تعالى لذاته لا لإثبات مُثبت، وأن ذلك أمرٌ دائمٌ مستمرٌ لا حادثٌ متجددٌ كما تفيده قراءةُ النصب، وهو السر في كون تحية الخليل للملائكة عليهم التحيةُ والسلام أحسنَ من تحيتهم له في قوله تعالى:

{ قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } [هود11، الآية 69]

وتعريفُه للجنس، ومعناه الإشارةُ إلى الحقيقة من حيث هي حاضرةٌ في ذهن السامع، والمراد تخصيصُ حقيقةِ الحمدِ به تعالى المستدعي لتخصيص جميعِ أفرادِها به سبحانه على الطريق البرهاني، لكن لا بناءً على أن أفعال العبادِ مخلوقةٌ له تعالى، فتكونَ الأفرادُ الواقعة بمقابلة ما صدر عنهم من الأفعال الجميلة راجعةً إليه تعالى، بل بناءً على تنزيل تلك الأفراد ودواعيها في المقام الخطابـيّ منزلةَ العدم كيفاً وكماً.


-8-

وقد قيل: للإستغراق الحاصل بالقصد إلى الحقيقة من حيث تحققُها في ضمن جميع أفرادها، حسبما يقتضيه المقام، وقرىء: الحمدُ لُلَّهِ بكسر الدال إتباعاً لها باللام، وبضم اللام إتباعاً لها بالدال، بناء على تنزيل الكلمتين لكثرة استعمالهما مقترنتين منزلة كلمةٍ واحدة، مثل المِغِيرة ومُنْحَدُرُ الجبل.

[تفسير رب العالمين]

{ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } بالجر على أنه صفة لله، فإن إضافته حقيقيةً مفيدةٌ للتعريف على كل حال، ضرورةَ تعيُّن إرادة الاستمرار، وقرىء منصوباً على المدح، أو بما دلت عليه الجملةُ السابقة، كأنه قيل: نحمد الله ربَّ العالمين ولا مساغَ لنصبه بالحمد لقلة إعمال المصدر المُحلى باللام، وللزوم الفصل بـين العامل والمعمول بالخبر، والرب: في الأصل مصدرٌ بمعنى التربـية وهي تبليغُ الشيءِ إلى كماله شيئاً فشيئاً، وُصف به الفاعل مبالغةً كالعدل.

وقيل: صفة مشبهة، من ربَّه يرُبُّه، مثل نمَّه يُنمُّه، بعد جعله لازماً بنقله إلى فعُل بالضم، كما هو المشهور، سُمّي به المالكُ لأنه يحفظ ما يملِكه ويربـيه، ولا يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً كربُّ الدار وربُّ الدابة، ومنه قوله تعالى:

{ فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا } [يوسف12، الآية 41] وقوله تعالى:
{ ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ } [يوسف12، الآية 50]

وما في الصحيحين من أنه عليه السلام قال: " لا يَقُل أحدُكم أطعِمْ ربك، وضِّىء ربَّك، ولا يَقُلْ أحدُكم ربِّـي، ولْيَقُل سَيّدي ومولاي "


فقد قيل: إن النهيَ فيه للتنزيه، وأما الأربابُ فحيث لم يمكن إطلاقُه على الله سبحانه جاز في إطلاقه الإطلاق والتقيـيد، كما في قوله تعالى:

{ أأربابٌ مُّتَّفَرّقُونَ خَيْرٌ } [يوسف12، الآية 39] الآية.

و(العالم) اسمٌ لما يُعْلَم به، كالخاتَم والقالَب، غلب فيما يُعْلَم به الصانعُ تعالى من المصنوعات أي في القَدْرِ المشترك بـين أجناسها وبـين مجموعِها، فإنه كما يُطلق على كل جنسٍ جنسٌ منها في قولهم عالم الأفلاك، وعالمُ العناصر، وعالمُ النبات، وعالم الحيوان، إلى غير ذلك، يطلق على المجموع أيضاً، كما في قولنا العالم بجميع أجزائه مُحْدَث، وقيل: هو اسم لأولي العلم من الملائكة والثقلين وتناولُه لما سواهم بطريق الاستتباع.


وقيل: أريد به الناسُ فقط، فإنَّ كلَّ واحدٍ منهم من حيث اشتمالُه على نظائِر ما في العالم الكبـير من الجواهر والأعراض يُعلم بها الصانع، كما يُعلم بما في كل عالَم على حِيالِه، ولذلك أمُر بالنظر في الأنفس كالنظر في الآفاق، فقيل:

{ وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } [الذاريات، الآية 21]

والأول هو الأحق الأظهر، وإيثارُ صيغة الجمع لبـيان شمول ربوبـيته تعالى لجميع الأجناس، والتعريفُ لاستغراق أفراد كلِّ منها بأسرها، إذ لو أفرد لربما تُوهِّم أن المقصود بالتعريف هو الحقيقة من حيث هي، أو استغراقُ أفرادِ جنسٍ واحد على الوجه الذي أشير إليه في تعريف الحمد، وحيث صح ذلك بمساعدة التعريف نُزِّلَ العالم - وإن لم يُطلق على آحاد مدلوله - منزلة الجمع، حتى قيل: إنه جمعٌ لا واحد له من لفظه، فكما أن الجمعَ المعَرَّفَ يستغرق آحادَ مُفرَدِه وإن لم يصدُقْ عليها كما في مثل قوله تعالى:


-9-

{ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران3، الآية 134]

أي كلَّ محسن، كذلك العالمُ يشملُ أفرادَ الجنسِ المسمَّى به، وإن لم يُطلق عليها، كأنها آحادُ مفردِه التقديريّ، ومن قضية هذا التنزيلِ تنزيلُ جمعِه منزلةَ جمعِ الجمع، فكما أن الأقاويلَ تتناول كلَّ واحد من آحادِ الأقوال، يتناول لفظُ العالمين كلَّ واحد من آحادِ الأجناس التي لا تكاد تُحصى.

روي عن وهْب ابن منبه أنه قال: «لله تعالى ثمانيةَ عشرَ ألفَ عالَم، والدنيا عالم منها» وإنما جُمِع بالواو والنون مع اختصاصِ ذلك بصفاتِ العُقلاء وما في حكمها من الأعلام لدلالته على معنى العَلَم، مع اعتبار تغليبِ العقلاء على غيرهم. واعلم أن عدم إطلاقِ اسم العالَم على كل واحد من تلك الآحادِ ليس إلا باعتبار الغلَبة والاصطلاح، وأما باعتبار الأصل فلا ريب في صحة الإطلاقِ قطعاً لتحقّق المصداقِ حتماً، فإنه كما يُستدل على الله سبحانه بمجموع ما سواه، وبكل جنسٍ من أجناسِه يُستدل عليه تعالى بكل جزءٍ من أجزاءِ ذلك المجموع، وبكل فردٍ من أفراد تلك الأجناس، لتحقّق الحاجةِ إلى المؤثِّر الواجب لذاته في الكُلِّ، فإنَّ كل ما ظهرَ في المظاهر - مما عزَّ وهانَ - وحضَرَ في هذه المحاضر كائناً ما كان دليلٌ لائح على الصانع المجيد، وسبـيلٌ واضح إلى عالم التوحيد، وأما شمولُ ربوبـيته عز وجل للكل فمما لا حاجة إلى بـيانه، إذ لا شيءَ مما أحدق به نطاقُ الإمكان والوجود من العُلويات والسُفليات والمجرّدات والماديات والروحانيات والجسمانيات إلا وهو في حدّ ذاته بحيث لو فُرض انقطاعُ آثارِ التربـية عنه آناً واحداً لما استقر له القرار، ولا اطمأنت به الدار، إلا في مطمورة العدم ومهاوي البوار، لكن يُفيضُ عليه من الجناب الأقدس، تعالى شأنُه وتقدس، في كل زمانٍ يمضي، وكل آنٍ يمر وينقضي، من فنون الفيوضِ المتعلقةِ بذاته، ووجودِه وصفاتِه وكمالاتِه مما لا يحيطُ به فَلَكُ التعبـير ولا يعلمه إلا العليمُ الخبـير، ضرورةَ أنه كما لا يستحق شيءٌ من الممكنات بذاتِه الوجودَ ابتداءً لا يستحقه بقاءً، وإنما ذلك من جناب المُبدئِ الأول عز وعلا، فكما لا يُتصور وجودُه ابتداءً ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الأصلي، لا يتصور بقاؤُه على الوجود ــ بعد تحققه بعِلَّته ــ ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الطارىء، لما أن الدوام من خصائص الوجودِ الواجبـي، وظاهرٌ أن ما يتوقف عليهما وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عِلَلُهُ وشرائِطُه وإن كانت متناهيةً لوجوب تناهي ما دخلَ تحتَ الوجود، لكنِ الأمورُ العدميةُ التي لها دخلٌ في وجوده وهي المعبَّر عنها بارتفاع الموانع ليست كذلك، إذْ لا استحالة في أن يكون لشيءٍ واحدٍ موانعُ غيرُ متناهية يتوقف وجودُه أو بقاؤه على ارتفاعها، أو بقائها على العدم مع إمكان وجودها في نفسها، فإبقاءُ تلك الموانِع التي لا تتناهى على العدم تربـيةٌ لذلك الشيءِ من وجوهٍ غيرِ متناهية.

-10-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #38  
قديم 12-08-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق 11-17 من 17

تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق 11-17 من 17




وبالجملة فآثارُ تربـيتِه عز وجل الفائضةُ على كل فرد من أفراد الموجودات في كل آنٍ من آنات الوجود غيرُ متناهية، فسبحانه ما أعظمَ شأنَه لا تلاحظه العيونُ بأنظارها، ولا تطالعُه العقولُ بأفكارها، شأنُه لا يُضاهى، وإحسانُه لا يتناهىٰ، ونحن في معرفته حائِرون، وفي إقامة مراسمِ شكرِه قاصرون، نسألك اللهم الهدايةَ إلى مناهج معرفتِك، والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك، لا نُحصي ثناءً عليك لا إله إلاّ أنت، نستغفرُك ونتوب إليك.

{ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } صفتان لله، فإن أريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين أو ما يَفيضُ على الكل بعد الخروج إلى طوْر الوجودِ من النعم، فوجهُ تأخيرِهما عن وصف الربوبـية ظاهر، وإن أريد ما يعمّ الكلَّ في الأطوار كلِّها حسبما في قوله تعالى:

{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } [الأعراف7، الآية 156]


فوجهُ الترتيب أن التربـية لا تقتضي المقارنة للرحمة، فإيرادُهما في عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضلٌ فيها، فاعلٌ بقضية رحمتِه السابقةِ من غير وجوبٍ عليه، وبأنها واقعةٌ على أحسنِ ما يكون، والاقتصارُ على نعته تعالى بهما في التسمية لما أنه الأنسبُ بحال المتبرِّك المستعين باسمه الجليل، والأوفقُ لمقاصده.

{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } صفةٌ رابعة له تعالى، وتأخيرُها عن الصفات الأُوَل مما لا حاجة إلى بـيان وجهِه، وقرأ أهلُ الحرمَيْن المحترمَيْن (ملِك) من المُلْك الذي هو عبارةٌ عن السلطان القاهر، والاستيلاءِ الباهر، والغلبةِ التامة، والقُدرةِ على التصرف الكليّ في أمور العامة، بالأمر والنهي، وهو الأنسبُ بمقام الإضافة إلى يوم الدين، كما في قوله تعالى:

{ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر40، الآية 16]

وقرىء (مَلْكِ) بالتخفيف و(مَلَكَ) بلفظ الماضي، (ومَالِكَ) بالنصب على المدح، أو الحال، وبالرفع منوناً ومضافاً على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف، (وملِكُ) مضافاً وبالرفع والنصب. واليومُ في العرف عبارةٌ عما بـين طلوعِ الشمس وغروبها من الزمان، وفي الشرع عما بـين طلوعِ الفجرِ الثاني وغروبِ الشمس، والمرادُ ها هنا مطلقُ الوقت. والدينُ الجزاءُ خيراً كان أو شرًّا، ومنه الثاني في المثل السائر كما تَدين تُدان، والأول في بـيت الحماسة: [الهزج]


ولم يبقَ سوى العُدوانِ دِنّاهم كما دانوا


وأما الأول في الأول والثاني في الثاني فليس بجزاءٍ حقيقة، وإنما سُمّي به مشاكلة، أو تسميةٌ للشيء باسم مسبَّبِهِ كما سُميت إرادةُ القيام والقراءة باسمهما في قوله عز اسمه:

-11-

{ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [المائدة5، الآية 6] وقوله تعالى:
{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِاللَّهِ } [النحل16، الآية 98]


ولعله هو السرُّ في بناء المفاعلة من الأفعال التي تقوم أسبابُها بمفعولاتها، نحو عاقبتُ اللصَّ ونظائرِه، فإن قيام السرقة التي هي سببٌ للعقوبة باللص نُزّل منزلةَ قيام المسبَّبِ به، وهي العقوبة، فصار كأنها قامت بالجانبـين، وصدَرَت عنهما، فَبُنيت صيغةُ المفاعلةِ الدالَّةِ على المشاركة بـين اثنين. وإضافةُ اليوم إليه لأدنىٰ ملابسةٍ كإضافة سائرِ الظروفِ الزمانية إلى ما وقع فيها من الحوادث، كيوم الأحزابِ وعامِ الفتح، وتخصيصُه من بـين سائرِ ما يقع فيه من القيامة والجمعِ والحسابِ لكونه أدخلَ في الترغيب والترهيب، فإن ما ذكر من القيامة وغيرِها من مبادىءِ الجزاءِ ومقدِّماته، وإضافةُ (مالك) إلى اليوم [من] إضافة اسم الفاعل إلى الظرف، على نهج الاتساعِ المبنيّ على إجرائه مُجرىٰ المفعولِ به، مع بقاء المعنى على حاله، كقولهم: يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدار. أي: مالِكَ أمورِ العالمين كلِّها في يومِ الدين. وخُلوُّ إضافتِه عن إفادة التعريفِ المسوّغ لوقوعه صفةً للمعرفة إنما هو إذا أُريد به الحالُ، أو الاستقبالُ، وأما عند إرادة الاستمرارِ الثبوتيّ كما هو اللائقُ بالمقام فلا ريب في كونها إضافةً حقيقية كإضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها في قراءة (ملك يوم الدين).

ويومُ الدين وإن لم يكن مستمراً في جميع الأزمنة إلا أنه لتحقق وقوعِه وبقائه أبداً أُجْرِيٍ مُجرىٰ المتحقّقِ المستمر. ويجوز أن يُراد به الماضي بهذا الاعتبار، كما تشهد به القراءةُ على صيغة الماضي، وما ذكر من إجراء الظرف مُجرى المفعولِ به إنما هو من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب، حتى يلزمَ كونُ الإضافة لفظية، ألا ترى أنك تقول في: مالكُ عبدِه أمسِ إنه مضاف إلى المفعول به، على أنه كذلك معنىً، لا أنه منصوب محلاً، وتخصيصُه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله، أو لبـيان تفرّدهِ تعالى بإجراء الأمر فيه، وانقطاعِ العلائق المجازية بـين المُلاَّك والأمْلاَك حينئذٍ بالكلية، وإجراءُ هاتيك الصفاتِ الجليلةِ عليه سبحانه تعليلٌ لما سبق من اختصاص الحمدِ به تعالى، المستلزمِ لاختصاص استحقاقِه به تعالى، وتمهيدٌ لما لَحِقَ من اقتصار العبادةِ والاستعانةِ عليه، فإنَّ كلَّ واحدةٍ منها مفصِحةٌ عن وجوب ثبوتِ كلِّ واحدٍ منها له تعالى، وامتناعِ ثبوتِها لما سواه.

أما الأولى والرابعةُ فظاهرٌ، لأنهما متعرِّضتان صراحةً لكونه تعالى رباً مالكاً وما سواه مربوباً مملوكاً له تعالى.

وأما الثانية والثالثة فلأن اتصافَه تعالى بهما ليس إلا بالنسبة إلى ما سواه من العالمين وذلك يستدعي أن يكون الكلُّ منعماً عليهم، فظهر أن كل واحدةٍ من تلك الصفات كما دلت على وجوب ثبوتِ الأمورِ المذكورةِ له تعالى دلت على امتناع ثبوتِها لما عداه على الإطلاق، وهو المعنى بالاختصاص.

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.

[سر تكرار الفاتحة في الصلاة]

التفات من الغَيْبة إلى الخطاب، وتلوينٌ للنظم من باب إلى باب، جارٍ على نهج البلاغة في افتنان الكلام، ومسلَكِ البراعة حسبما يقتضي المقام، لما أن التنقلَ من أسلوب إلى أسلوب، أدخلُ في استجلاب النفوسِ واستمالةِ القلوب يقع من كل واحدٍ من التكلم والخطاب والغَيبة إلى كل واحد من الآخَرَيْن، كما في قوله عز وجل:

-12-

{ وَٱللَّهُ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَـاباً } [فاطر35، الآية 9] الآية، وقوله تعالى:
{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس10، الآية 22]


إلى غير ذلك من الالتفاتات الواردةِ في التنزيل لأسرارٍ تقتضيها، ومزايا تستدعيها، ومما استَأثر به هذا المقام الجليلِ من النُكت الرائقةِ الدالةِ على أن تخصيصَ العبادةِ والاستعانةِ به تعالى لما أُجريَ عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكملَ تميّز، وأتمَّ ظهورٍ، بحيث تبدّل خفاءُ الغَيبة بجلاءِ الحضور، فاستدعى استعمالَ صيغةِ الخطاب، والإيذانَ بأن حقّ التالي - بعد ما تأمل فيما سَلَف من تفرّده تعالى بذاته الأقدس، المستوجبِ للعبودية، وامتيازِه بذاته عما سواه بالكلية، واستبدادِه بجلائل الصفات وأحكام الربوبـية المميِّزة له عن جميع أفرادِ العالمين، وافتقارِ الكلِّ إليه في الذات والوجودِ ابتداءً وبقاءً، على التفصيل الذي مرَّت إليه الإشارةُ - أن يترقىٰ من رتبة البرهان إلى طبقة العيان، وينتقلَ من عالم الغَيبة إلى معالم الشهود، ويلاحظَ نفسَه في حظائر القدْسِ حاضراً في محاضر الأنس، كأنه واقفٌ لدى مولاه ماثلٌ بـين يديه، وهو يدعو بالخضوع والإخبات، ويقرَعُ بالضَّراعة بابَ المناجاة قائلاً: يا من هذه شوؤنُ ذاتهِ وصفاتهِ، نخصُّك بالعبادة والاستعانة، فإن ما سواك كائناً ما كان بمعزل من استحقاق الوجود، فضلاً عن استحقاق أن يُعبد ويُستعان، ولعل هذا هو السرُ في اختصاص السورةِ الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعةٍ من الصلاة التي هي مناجاةُ العبدِ لمولاه ومِنّتُه للتبتل إليه بالكلية. و(إيا) ضميرٌ منفصلٌ منصوبٌ، وما يلحَقه من الكاف والياءِ والهاءِ حروفٌ زيدت لتعيـين الخطاب، والتكلمُ والغَيبةُ لا محل لها من الإعراب، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتَكَ، وما ادعاه الخليلُ من الإضافة محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب: إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشوابِّ، فمما لا يعول عليه. وقيل: هي الضمائر، وإيا دِعامةٌ لها لتُصيرَها منفصلة، وقيل: الضميرُ هو المجموع، وقُرِىء (إَيَّاك) بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد، وهياك بقلب الهمزة هاء.

[معنى العبادة والعبودية والاستعانة]

والعبادةُ أقصى غايةِ التذلل والخضوع، ومنه طريقٌ معبّدٌ أي مذَلَّل، والعبوديةُ أدنى منها، وقيل: العبادةُ فعلُ ما يرضَى به الله، والعبوديةُ الرضى بما فعلَ الله تعالى، والاستعانةُ طلبُ المعونةِ على الوجه الذي مر بـيانه، وتقديم المفعول فيهما لما ذُكر من القصر والتخصيص، كما في قوله تعالى:

{ وَإِيَّـاىَ فَٱرْهَبُونِ } [البقرة2، الآية 40]

مع ما فيه من التعظيم والاهتمامِ به، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: معناه نعبدك ولا نعبد غيرَك، وتكريرُ الضمير المنصوبِ للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة، ولإبراز الاستلذاذِ بالمناجاة والخطاب، وتقديمُ العبادة لِما أنها من مقتَضَيات مدلولِ الاسم الجليل، وإن ساعدته الصفاتُ المُجْراةُ عليه أيضاً، وأما الاستعانةُ فمن الأحكامِ المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادةَ من حقوق الله تعالى، والاستعانة من حقوق المُستعين، ولأن العبادة واجبة حتماً، والاستعانةُ تابعةٌ للمستعان فيه في الوجوب وعدمِه، وقيل: لأن تقديمَ الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول، هذا على تقدير كونِ إطلاقِ الاستعانةِ [على المفعول فيه] ليتناول كلَّ مستعانٍ فيه، كما قالوا، وقد قيل: إنه لما كان المسؤولُ هو المعونةَ في العبادة والتوفيقَ لإقامة مراسِمِهما على ما ينبغي، وهو اللائقُ بشأن التنزيل، والمناسبُ لحال الحامد، فإن استعانتَه مسبوقةٌ بملاحظة فعلٍ من أفعاله، ليستعينَه تعالى في إيقاعه، ومن البـيِّن أنه عند استغراقه في ملاحظة شؤونه تعالى، واشتغالِهِ بأداء ما تُوجبه تلك الملاحظةُ من الحمد والثناء، لا يكادُ يخطُر بباله من أفعاله وأحواله إلا الإقبالُ الكليُّ عليه، والتوجهُ التامّ إليه، ولقد فَعل ذلك بتخصيص العبادةِ به تعالى أولاً، وباستدعاء الهدايةِ إلى ما يوصِلُ إليه آخِراً، فكيف يُتصور أن يَشتغل فيما بـينهما بما لا يَعنيه من أمور دنياه أو بما يعمُّها وغيرَها، كأنه قيل: وإياك نستعين في ذلك، فإنّا غيرُ قادرين على أداء حقوقِك من غير إعانةٍ منك، فوجهُ الترتيب حينئذٍ واضح، وفيه من الإشعار بعلوّ رُتبةِ عبادته تعالى وعزّةِ منالِها، وبكونها عند العابدِ أشرفَ المباغي والمقاصدِ وبكونها من مواهبهِ تعالى لا من أعمال نفسِه، ومن الملأَمة لما يعقبُه من الدعاء ما لا يخفىٰ.


-13-

وقيل: الواوُ للحال، أي إياك نعبدُ مستعينين بك، وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير في الفعلين للإيذان بقصورِ نفسه، وعدمِ لِياقتِه للوقوف في مواقف الكبرياءِ منفرداً، وعَرْضِ العبادة، واستدعاءِ المعونة والهداية مستقلاً، وأن ذلك إنما يُتصور من عصابةٍ هو من جُملتهم، وجماعةٍ هو من زُمرتهم، كما هو ديدَنُ الملوك، أو للإشعار باشتراك سائر الموحِّدين له في الحالة العارضة له، بناءً على تعاضُد الأدلةِ المُلْجئة إلى ذلك، وقُرىء (نِسْتعين) بكسر النون على لغة بني تميم.

{ ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إفراد - لمعظم أفراد المعونة المسؤولة - بالذكر، وتعيـينٌ لما هو الأهمُ أو بـيان لها، كأنه قيل: كيف أُعينكم فقيل: اهدنا.

[تعريف الهداية وأنواعها]

والهدايةُ دلالةٌ بلطفٍ على ما يوصِلُ إلى البُغية، ولذلك اختصّتْ بالخير، وقوله تعالى:

{ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات، الآية 23]

وارد على نهج التهكّم، والأصلُ تعديتُها بإلى واللام، كما في قوله تعالى:

{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ } [يونس10، الآية 35]

فعومل معاملةَ اختارٍ في قوله تعالى:

{ وَٱخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [الأعراف7، الآية 155] وعليه قولُه تعالى:

{ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت، الآية 69]

-14-

وهدايةُ الله تعالى مع تنوعها إلى أنواع لا تكاد تُحصر منحصرةٌ في أجناس مترتبة، (منها) أنفسيةٌ، كإفاضة القُوى الطبـيعيةِ والحيوانية التي بها يصدُر عن المرء فاعليته الطبـيعية الحيوانية، والقوى المدرِكة، والمشاعرُ الظاهرةُ والباطنة التي بها يتمكن من إقامة مصالِحه المعاشيةِ والمعاديّة، (ومنها) آفاقيةٌ، فإما تكوينيةٌ مُعْرِبة عن الحق بلسان الحال، وهي نصبُ الأدلةِ المُودَعةِ في كل فردٍ من أفراد العالم حسبما لُوِّحَ به فيما سلف، وإما تنزيليةٌ مُفْصِحةٌ عن تفاصيل الأحكامِ النظريةِ والعمليةِ بلسان المقالِ، بإرسال الرسل، وإنزال الكتبِ المنطويةِ على فنون الهدايات التي من جملتها الإرشادُ إلى مسلك الاستدلالِ بتلك الأدلة التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفسية، والتنبـيهُ على مكانها، كما أشير إليه مُجملاً في قوله تعالى:

{ وَفِى ٱلأَرْضِ ءايَـاتٌ لّلْمُوقِنِينَ *وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }
[الذاريات، الآية 20و21] وفي قوله عز وعلا:
{ إِنَّ فِى ٱخْتِلافِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لآيَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [يونس10، الآية 6]

(ومنها) الهدايةُ الخاصة وهي كشفُ الأسرارِ على قلب المُهْدَى بالوحي، أو الإلهام.


ولكل مرتبةٍ من هذه المراتب صاحبٌ ينتحيها، وطالبٌ يستدعيها، والمطلوب إما زيادتُها كما في قوله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد47: الآية 17]


وإما الثباتُ عليها كما روي عن علي وأبـي رضي الله عنهما: إهدنا ثبّتنا، ولفظ الهداية على الوجه الأخير مَجازٌ قطعاً، وأما على الأول فإن اعتُبر مفهومُ الزيادة داخلاً في المعنى المستعمل فيه كان مجازاً أيضاً، وإن اعتُبر خارجاً عنه مدلولاً عليه بالقرائنِ كان حقيقة، لأن الهداية الزائدةَ هداية، كما أن العبادة الزائدةَ عبادة، فلا يلزم الجمعُ بـين الحقيقة والمجاز، وقُرىء أرشِدْنا، والصراطُ الجادةُ وأصلُه السين، قُلبت صاداً لمكان الطاء كمصيطر في مسيطر، من سَرَط الشيء إذا ابتلعه، سُمّيت به لأنها تسترِطُ السابلةَ إذا سلكوها، كما سميت لَقْماً لأنها تلتقمهم وقد تُشَمُّ الصاد صوت الزاي تحرياً للقرب من المبدَل منه. وقد قرىء بهن جميعاً، وفُصحاهن إخلاصُ الصاد، وهي لغة قريش، وهي الثابتةُ في الإمام، وجمعه صُرُط ككتاب وكُتب، وهو كالطريق والسبـيل في التذكير والتأنيث، و(المستقيمُ) المستوي، والمراد به طريقُ الحق وهي الملة الحنيفية السمْحة المتوسطةُ بـين الإفراط والتفريط.

{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدلٌ من الأول بدلَ كل، وهو في حكم تكريرِ العامل من حيث إنه المقصودُ بالنسبة، وفائدتُه التأكيدُ والتنصيصُ على أن طريق الذين أنعم الله عليهم وهم المسلمون هو العَلَمُ في الاستقامة، والمشهودُ له بالاستواء بحيث لا يذهب الوهمُ عند ذكر الطريقِ المستقيم إلا إليه.

وإطلاقُ الإنعامِ لقصد الشمول، فإن نِعمةَ الإسلام عنوانُ النعم كلِّها، فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها. وقيل: المراد بهم الأنبـياءُ عليهم السلام، ولعل الأظهرَ أنهم المذكورون في قوله عز قائلاً:

{ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ } [النساء4، الآية 69] بشهادة ما قبله من قوله تعالى:
{ وَلَهَدَيْنَـاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً } [النساء4، الآية 68]

-15-

وقيل: هم أصحابُ موسى وعيسى عليهما السلام قبل النسخِ والتحريفِ، وقُرىءَ صراطَ مَنْ أنعمتَ عليهم، والإنعامُ إيصالُ النعمة وهي في الأصل الحالةُ التي يستلِذُّها الإنسان، من النعمة وهي اللينُ، ثم أطلقت على ما تستلذّه النَّفسُ من طيّبات الدنيا.

ونِعَمُ الله تعالى مع استحالة إحصائِها تنحصرُ أصولُها في دنيويٍ وأُخروي والأول قسمان: وهبـيّ وكسبـيّ، والوهبـي أيضاً قسمان: روحاني كنفخ الروح فيه، وإمدادِه بالعقل، وما يتبعه من القُوى المدرِكة، فإنها مع كونها من قبـيل الهدايات نعمٌ جليلة في أنفسها، وجُسماني كتخليق البدن والقُوى الحالَّةِ فيه، والهيئاتِ العارضةِ له من الصّحة وسلامةِ الأعضاء، والكسبـيُّ تخليةُ النفسِ عن الرذائل، وتحليتُها بالأخلاقِ السَّنية، والملَكات البهيَّة، وتزيـينُ البدن بالهيئات المطبوعة والحِلىٰ المرضية، وحصول الجاه والمال.

والثاني مغفرةُ ما فَرط منه، والرضى عنه، وتَبْوئتُه في أعلى عليـين، مع المقربـين، والمطلوبُ هو القسم الأخير، وما هو ذريعةٌ إلى نيلِه من القسم الأول، اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك العظيم، ورحمتِك الواسعة.

{ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ } صفةٌ للموصول على أنه عبارةٌ عن إحدى الطوائفِ المذكورةِ المشهورةِ بالإنعام عليهم، وباستقامة المسْلك، ومن ضرورة هذه الشهرةِ شهرتُهم بالمغايَرَة لما أضيف إليه كلمةُ (غير) من المتصفين بضدَّي الوصفين المذكورين، أعني مطلقَ المغضوب عليهم والضالين، فاكتسبت بذلك تَعرُّفاً مصححاً لوقوعها صفةً للمعرفة كما في قولك: عليك بالحركة غيرِ السكون، وُصفوا بذلك تكملةً لما قبله وإيذاناً بأن السلامة مما ابتُلي به أولئك نعمةٌ جليلةٌ في نفسها، أي الذين جمعوا بـين النعمة المُطلقة التي هي نعمةُ الإيمان ونعمةُ السلامة من الغضب والضلال. وقيل: المرادُ بالموصول طائفةٌ من المؤمنين لا بأعيانهم، فيكون بمعنى النكرة كذي اللام إذا أريد به الجنسُ في ضمن بعضِ الأفراد لا بعينه، وهو المسمى بالمعهود الذهني، وبالمغضوب عليهم والضالين اليهودُ والنصارى، كما ورد في مسند أحمدَ والترمذي فيبقى لفظُ (غير) على إبهامه نكرةً مثل موصوفِه، وأنت خبـير بأن جعْلَ الموصول عبارةَ عما ذكر من طائفةٍ غيرِ معيَّنة مُخلٌّ ببدليةِ ما أضيف إليه مما قبله فإن مدارَها كونُ صراطِ المؤمنين علَماً في الاستقامة مشهوداً له بالاستواء على الوجه الذي تحقَّقْتَه فيما سلف، ومن البـيِّن أن ذلك من حيثُ إضافتُه وانتسابُه إلى كلهم لا إلى بعضٍ مُبْهَمٍ منهم، وبهذا تبـين ألاَّ سبـيلَ إلى جعل: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } بدلاً من الموصول، لما عرفت من أن شأنَ البدلِ أن يُفيدَ متبوعَهُ مزيدَ تأكيدٍ وتقرير، وفضلَ إيضاحٍ وتفسيرٍ، ولا ريب في أن قُصارىٰ أمرِ ما نحن فيه أن يكتسبَ مما أضيف إليه نوعَ تعرُّفٍ مصحِّحٍ لوقوعه صفةً للموصول، وأما استحقاقُ أن يكون مقصوداً بالنسبة مفيداً لما ذكر من الفوائد فكلاّ. وقُرىء بالنصب على الحال، والعاملُ أنعمتَ، أو على المدح، أو على الاستثناء إنْ فُسّر النعمةُ بما يعمُّ القليل.

-16-

والغضبُ هيجانُ النفس لإرادة الانتقام، وعند إسنادِه إلى الله سبحانه يُراد به غايتُه بطريق إطلاقِ اسمِ السبب بالنسبة إلينا على مسبّبِهِ القريبِ إنْ أريد به إرادةُ الانتقام، وعلى مسبّبِهِ البعيدِ إن أريد به نفسُ الانتقام، ويجوز حملُ الكلام على التمثيل، بأنْ تُشبَّه الهيئةُ المنتزَعةُ من سَخَطه تعالى للعصاة وإرادةُ الانتقام منهم لمعاصيهم بما يُنتَزَعُ من حال الملِك إذا غضِب على الذين عصَوْه، وأراد أن ينتقم منهم ويعاقِبَهم، وعليهم مرتفِعٌ بالمغضوب، قائم مَقامَ فاعلِه، والعدولُ عن إسناد الغضب إليه تعالى كالإنعام جرَى على منهاج الآداب التنزيلية في نسبة النعمِ والخيرِ إليه عز وجل، دون أضدادها، كما في قوله تعالى:

{ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ *وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ *وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء، الآية 78 - 80] وقوله تعالى:
{ وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [الجن72، الآية 10]

و«لا» مزيدةٌ لتأكيد ما أفاده «غير» من معنى النفي كأنه قيل: لا المغضوبِ عليهم ولا الضالين، ولذلك جاز أنا زيداً غيرُ ضاربٍ، جوازَ أنا زيداً لا ضَارِبٌ وإن امتنع أنا زيداً مثلُ ضاربٍ، والضلالُ هو العدول على الصراط السوي، وقُرىء وغيرِ الضالين، وقُرىء ولا الضأْلين، بالهمزة على لغة مَنْ جدَّ في الهرب عن التقاء الساكنين.


. { أَمِينٌ } اسم فعلٍ هو: استجبْ، " وعن ابن عباس رضي الله عنهما سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمِين، فقال: " افعل " بُني على الفتح كأينَ لالتقاء الساكنين، وفيه لغتان مدُّ ألفه وقصرُها قال: [البسيط]

[يا رب لا تسلبني حبُّها أبداً]ويرحم الله عبداً قال آمينا


وقال: [الطويل]

[تباعد مني فطحلٌ إذ سألته]أمين فزاد الله ما بـيننا بعداً


عن النبـي صلى الله عليه وسلم: " لقّنني جبريلُ آمينَ عند فراغي من قراءة فاتحةِ الكتاب، وقال: إنه كالختم على الكتاب ". وليست من القرآن وِفاقاً، ولكن يسن ختمُ السورة الكريمة بها، والمشهورُ عن أبـي حنيفة رحمه الله أن المصلّيَ يأتي بها مخافتةً، وعنه أنه لا يأتي بها الإمامُ لأنه الداعي وعن الحسنِ مثلُه، وروَى الإخفاءَ عبدُ اللَّه بنُ مغفّل، وأنسُ بنُ مالك، عن النبـي عليه الصلاة والسلام، وعند الشافعيِّ رحمه الله يُجهر بها، لما روىٰ وائلُ بنُ حجر " أن النبـي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ولا الضالين قال: " آمين " ، ورفع بها صوته " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبـيّ بنِ كعب: " ألا أخبرك بسورة لم ينزِلْ في التوراة والإنجيل والقرآن مثلُها؟ قلت: بلى، يا رسول الله قال: فاتِحةُ الكتاب إنها السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذي أوتيتُه " وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: " إن القومَ ليبعثُ الله عليهم العذابَ حتماً مقضياً، فيقرأ صبـيٌّ من صبـيانهم في الكتاب الحمدُ لله رب العالمين، فيسمعه الله تعالى فيرفعُ عنهم بذلك العذابَ أربعين سنة ".
-17-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #39  
قديم 12-08-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 13

تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 13

قوله: { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

اعلم أنّ هذه الباء زائدة، وهي تسمّى باء التضمين أو باء الإلصاق، كقولك: كتبت بالقلم، فالكتابة لاصقة بالقلم. وهي مكسورة أبداً؛ والعلة في ذلك أن الباء حرف ناقص ممال. والإمالة من دلائل الكسر، قال سيبويه: لما لم يكن للباء عمل إلاّ الكسر كسرت.

وقال المبرّد: العلّة في كسرها ردّها إلى الأصل، ألا ترى أنك إذا أخبرت عن نفسك فإنك قلت: بَيْبَيْت، فرددتها إلى الياء والياء أُخت الكسرة كما أن الواو أُخت الضمة والألف أُخت الفتحة، وهي خافضة لما بعدها فلذلك كسرت ميم الاسم.

وطوّلت هاهنا وشبهت بالألف واللام؛ لأنهم لم يريدوا أن يفتتحوا كتاب الله إلاّ بحرف مفخّم معظّم. قاله القيسي.

قال: وكان عمر بن عبد العزيز (رحمه الله) يقول لكتّابه: (طوّلوا الباء، وأظهروا السين، وفرّجوا بينهما، ودوّروا الميم تعظيماً لكلام الله تعالى).

وقال أبو...... خالد بن يزيد المرادي: العلّة فيها إسقاط الألف من الاسم، فلما أسقطوا الألف ردّوا طول الألف الى الباء ليكون دالاًّ على سقوط الألف منها. ألا ترى أنهم لمّا كتبوا:

{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ } [العلق96: 1]

بالألف ردّوا الباء إلى صيغتها، فإنما حذفوا الألف من (اسم) هنا فالكثرة دورها على الألسن عملا بالخفّة، ولمّا لم يكثر أضرابها كثرتها أثبتوا الألف بها.


وفي الكلام إضمار واختصار تقديره: قل، أو ابدأ بسم الله.

وقال آدم: الاسم فيه صلة، مجازهُ: بالله الرَّحْمن الرحيم هو، واحتجوا بقول لبيد:

تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهماوهل أنا إلاّ من ربيعةَ أو مضرْ
إلى الحول ثم اسم السلام عليكماومن يبكِ حولا كاملا فقد اعتذرْ


أي ثم السلام عليكما.

ومعناه: بالله تكوّنت الموجودات، وبه قامت المخلوقات. وأدخلوا الاسم فيه ليكون فرقاً بين المتيمِّن والمتيمَّن به. فأمّا معنى الاسم، فهو المسمى وحقيقة الموجود، وذات الشيء وعينه ونفسه واسمه، وكلها تفيد معنىً واحداً. والدليل على أن الاسم عين المسمّى قوله تعالى:

{ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ } [مريم19: 7]،

فأخبر أنّ اسمه يحيى، ثمّ نادى الاسم وخاطبه فقال:

{ يٰيَحْيَىٰ } [مريم19: 12].

فيحيى هو الاسم، والإسم هو يحيى.


وقوله تعالى:

{ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ } [يوسف12: 40]

وأراد الأشخاص المعبودة؛ لأنهم كانوا يعبدون المسمّيات.


وقوله تعالى:

{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [الأعلى87: 1]، و
{ تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ } [الرَّحمن55: 78].


وقوله صلى الله عليه وسلم: " لَتَضْرِبَنَّ مُضَرُ عِبادَ اللهِ حتّى لا يُعبَد له إسمٌ " أي حتى لا يعبد هو.

ثم يقال: رأينا للتسمية اسم، واستعمالها في التسمية أشهر وأكثر من استعمالها في المسمّى، ولعل الاسم أشهر، وجمعه: أسماء، مثل قنو وأقناء، وحنو وأحناء، فحذفت الواو للاستثقال، ونقلت حركة الواو إلى الميم فأُعربت الميم، ونقل سكون الميم إلى السين فسكنت، ثم أُدخلت ألف مهموزة لسكون السين؛ لأجل الابتداء يدلّك عليه التصغير والتصريف يقال: سُميّ وسميّة؛ لأن كل ما سقط في التصغير والتصريف فهو غير أصلي.

-1-

واشتقاقه من (سما) (يسمو)، فكأن المخبر عنه بأنه معدوم ما دام معدوماً فهو في درجة يرتفع عنها إذ وجد، ويعلو بدرجة وجوده على درجة عدمه. والإسم الذي هو العبارة والتسمية للمخبر والصفة للمنظر. وأصل الصفة ظهور الشيء وبروزه، والله أعلم.

فأمّا ما ورد في تفسيرها بتفصيلها فكثير، ذكرت جلّ أقاويلها في حديث وحكاية.

أخبرنا الأستاذ أبو القاسم بن محمد بن الحسن المفسّر، حدّثنا أبو الطيّب محمد بن أحمد ابن حمدون المذكر، أخبرنا أبو بكر محمد بن حمدون بن خالد بن يزيد، حدّثنا أحمد بن هشام الأنطاكي، حدّثنا الحكم بن نافع عن إسماعيل بن عبّاس عن إسماعيل عن يحيى عن أبي مليكة عن مسعود بن عطيّة العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن عيسى بن مريم أسلمته أمّه إلى الكُتّاب ليتعلّم، فقال له المعلّم: قل باسم الله. قال عيسى: وما باسم الله؟ فقال له المعلّم: ما أدري. قال: الباء: بهاء الله، والسين: سناء الله، والميم: مملكة الله ".

وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمد يقول: سمعت أبا إسحاق بن ميثم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو يقول: سمعت أبا عبد الله ختن أبي بكر الوراق يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عمر الورّاق يقول في { بسم ٱلله }: إنها روضة من رياض الجنة لكل حرف منها تفسير على حدة:

فالباء على ستة أوجه:



بارىء خلقه من العَرش الى الثرى، ببيان قوله:

{ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } [الطور52: 28].


بصير بعباده من العرش الى الثرى، بيانه:

{ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } [الملك67: 19].


باسط الرزق من العرش الى الثرى، بيانه:

{ ٱللَّهُ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } [الرعد13: 26].


وباق بعد فناء خلقه من العرش إلى الثرى: بيانه:

{ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ *وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [الرَّحمن55: 26-27].


باعث الخلق بعد الموت للثواب والعقاب، بيانه:

{ وَأَنَّ ٱللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي ٱلْقُبُورِ } [الحج22: 7].


بارّ بالمؤمنين من العرش إلى الثرى، بيانه قوله:

{ إِنَّهُ هُوَ ٱلْبَرُّ ٱلرَّحِيمُ } [الطور52: 28].


والسين على خمسة أوجه:

سميع لأصوات خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه قوله تعالى:

{ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [الزخرف43: 80].


سيّد قد بلغ سؤدده من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ ٱللَّهُ ٱلصَّمَدُ } [الإخلاص112: 2].


سريع الحساب مع خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [البقرة2: 202].


سلم خلقه من ظلمه من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ ٱلسَّلاَمُ ٱلْمُؤْمِنُ } [الحشر59: 23].

غافر ذنوب عباده من العرش إلى الثرى، بيانه قوله:

{ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ } [غافر40: 3].


والميم على اثني عشر وجهاً:

ملك الخلق من العرش إلى الثرى، بيانه:

-2-

{ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ } [الحشر59: 23].

مالك خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ } [آل عمران3: 26].


منّان على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ } [الحجرات49: 17].


مجيد على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ } [البروج85: 15].


مؤمّن آمن خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه قوله:

{ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [سورة قريش106: 4].


مهيمن اطّلع على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ ٱلْمُؤْمِنُ ٱلْمُهَيْمِنُ } [الحشر59: 23].


مقتدر على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } [القمر54: 55].


مقيت على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } [النساء4: 85].


متكرّم على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ } [الإسراء17: 70].


منعم على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه قوله:

{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان31: 20].


متفضّل على خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْعَالَمِينَ } [البقرة2: 251].


مصوّر خلقه من العرش إلى الثرى، بيانه:

{ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } [الحشر59: 24].


وقال أهل الحقائق:..... في { بسم ٱلله } التيمّن والتبرّك وحثّ الناس على الابتداء في أقوالهم وأفعالهم بـ { بسم ٱلله } لمّا افتتح الله عزّ وجلّ كتابه به، والله أعلم.

{ ٱلله } ، اعلم أن أصل هذه الكلمة (إله) في قول أهل الكوفة، فأُدخلت الألف واللام فيها تفخيماً وتعظيماً لما كان اسم الله عزّ وجلّ، فصار (الإله)، فحذفت الهمزة استثقالا لكثرة جريانها على الألسن، وحوّلت هويتها إلى لام التعظيم فالتقى لامان، فأُدغمت الأولى في الثانية، فقالوا (الله).

وقال أهل البصرة: أصلها (لاه)، فأُلحقت بها الألف واللام، فقالوا: (الله). وأنشدوا:

كحلفة من أبي رباحيسمعها الآهه الكبار


فأخرجه على الأصل.

وقال بعضهم: أُدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة المحذوفة في (إله)، فلزمتا الكلمة لزوم تلك الهمزة لو أُجريت على الأصل، ولهذا لم يدخل عليه في النداء ما يدخل على الأسماء المعرّفة من حروف التشبيه، فلم يقولوا: يا أيها الله.

دفع أقاويل أهل التأويل في هذا الاسم مبنيّة على هذين القولين... ثمة، واختلفوا فيه؛ فقال الخليل بن أحمد وجماعة: (الله) اسم علم موضوع غير مشتق بوجه، ولو كان مشتقّاً من صفة كما لو كان موصوفاً بتلك الصفة أو بعضها، قال الله:

{ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [مريم19: 65].


(الله): اسم موضوع لله تعالى لا يشركه فيه أحد، قال الله تعالى: { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } ، يعني: أن كل اسم مشترك بينه وبين غيره؛ له على الحقيقة ولغيره على المجاز إلاّ هذا الاسم فإنه مختص به لأن فيه معنى الربوبيّة. والمعاني كلها تحته، ألا ترى أنك إذا أسقطت منه الألف بقي لله، وإذا أسقطت من لله اللام الأولى بقي (له)، وإذا أسقطت من (له) اللام بقي هو.

قالوا: وإذا أُطلق هذا الاسم على غير الله فإنما يقال بالإضافة كما يقال: لاه كذا أو ينكر فيقال: لله كما قال تعالى إخباراً عن قوم موسى عليه السلام:

-3-

{ ٱجْعَلْ لَّنَآ إِلَـٰهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [الأعراف7: 138].

وأما (الله)، و (الإله) فمخصوصان لله تعالى. وقال قوم: أصله (لاها) بالسريانية، وذلك أن في آخر أسمائهم مدّة، كقولهم للروح: (روحا)، وللقدس: (قدسا)، وللمسيح: (مسيحا)، وللابن: (ابنا)، فلما طرحوا المدّة بقي (لاه)، فعرّبه العرب وأقرّوه.

ولا اشتقاق له، وأكثر العلماء على أنه مشتق؛ واختلفوا في اشتقاقه، فقال النضر بن إسماعيل: هو من التألّه، وهو التنسّك والتعبّد، قال رؤبة:

لله در الغانيات المدّهِسبحن واسترجعن من تألهي


ويقال: أله إلاهة، كما يقال: عبد عبادة. وقرأ ابن عباس: (ويذرك وإلهتك) أي عبادتك؛ فمعناه عبادتك المعبود الذي تحقّ له العبادة.

وقال قوم هو من (الإله)، وهو الاعتماد، يقال: ألهت إلى فلان، آلَهُ إلهاً، أي فزعت إليه واعتمدت عليه، قال الشاعر:

ألهت إليها والركائب وقّف


ومعناه: أن الخلق يفزعون ويتضرعون إليه في الحوادث والحوائج، فهو يألههم، أي يجيرهم، فسمي إلهاً، كما يقال: إمام للذي يؤتم به، ولحاف ورداء وإزار وكساء للثوب الذي يلتحف به، ويرتدى به، وهذا معنى قول ابن عباس والضحّاك.

وقال أبو عمرو بن العلاء: هو من (ألهت في الشيء) إذا تحيّرت فيه فلم تهتدِ إليه، قال زهير:

..... يأله العين وسطها


مخفّفة وقال الأخطل:

ونحن قسمنا الأرض نصفين نصفهالنا ونرامي أن تكون لنا معا
بتسعين ألفاً تأله العين وسطهامتى ترَها عين الطرامة تدمعا


ومعناه: أن العقول تتحيّر في كنه صفته وعظمته والإحاطة بكيفيته، فهو إله كما قيل للمكتوب: كتاب، وللمحسوب: حساب.

وقال المبرّد: هو من قول العرب: (ألهت إلى فلان) أي سكنت إليه، قال الشاعر:

ألهت إليها والحوادث جمّة


فكأن الخلق يسكنون إليه ويطمئنون بذكره، قال الله تعالى:

{ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد13: 28].

وسمعت أبا القاسم الحسن: سمعت أبا الحسن علي بن عبد الرحيم القناد يقول: أصله من (الوله)، وهو ذهاب العقل لفقدان من يعزّ عليك. وأصله (أله) - بالهمزة - فأُبدل من الألف واو فقيل الوله، مثل (إشاح، ووشاح) و (وكاف، وإكاف) و (أرّخت الكتاب، وورّخته) و (ووقّتت، وأُقّتت). قال الكميت:

ولهت نفسي الطروب إليهمولها حال دون طعم الطعام


فكأنه سمّي بذلك؛ لأن القلوب تولّه لمحبّته وتضطرب وتشتاق عند ذكره.

وقيل: معناه: محتجب؛ لأن العرب إذا عرفت شيئاً، ثم حجب عن أبصارها سمّته إلهاً، قال: لاهت العروس تلوه لوهاً، إذ حجُبت.

قال الشاعر:

لاهت فما عرفت يوماً بخارجةيا ليتها خرجت حتّى رأيناها


والله تعالى هو الظاهر بالربوبيّة [بالدلائل والأعلام] وهو المحتجب من جهة الكيفيّة عن الأوهام.

وقيل: معناه المتعالي، يقال: (لاه) أي ارتفع.

وقد قيل: من (إلا هتك)، فهو كما قال الشاعر:

تروّحنا من اللعباء قصراًوأعجلنا الألاهة أن تؤوبا


وقيل: هو مأخوذ من قول العرب: ألهت بالمكان، إذا أقمت فيه، قال الشاعر:

-4-

ألهنا بدار ما تبين رسومهاكأن بقاياها وشام على اليدِ


فكأن معناه: الدائم الثابت الباقي.

وقال قوم: (ان يقال) ذاته وهي قدرته على الإخضاع.

وقال الحارث بن أسد المجلسي، أبو عبد الله البغدادي: الله من (ألههم) أي أحوجهم، فالعباد مولوهون إلى بارئهم أي محتاجون إليه في المنافع والمضارّ، كالواله المضطرّ المغلوب.

وقال شهر بن حوشب: الله خالق كل شيء، وقال أبو بكر الوراق: هو.

وغلّظ بعض بقراءة اللام من قوله: (الله) حتى طبقوا اللسان به الحنك لفخامة ذكره، وليصرف عند الابتداء بذكره وهو الرب.

{ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، قال قوم: هما بمعنىً واحد مثل (ندمان، ونديم) و (سلمان، وسليم)، وهوان وهوين. ومعناهما: ذو الرحمة، والرحمة: إرادة الله الخير بأهله، وهي على هذا القول صفة ذات. وقيل: هي ترك عقوبة من يستحق العقوبة، (وفعل) الخير إلى من لم يستحق، وعلى هذا القول صفة فعل، يجمع بينهما للاتّساع، كقول العرب: جاد مجد. قال طرفة:

فما لي أراني وابن عمي مالكاًمتى أدنُ منه ينأ عني ويبعدِ


وقال آخر:

وألفى قولها كذباً ومينا


وفرّق الآخرون بينهما فقال: بعضهم الرَّحْمن على زنة فعلان، وهو لا يقع إلاّ على مبالغة القول. وقولك: رجل غضبان للممتلئ غضباً، وسكران لمن غلب عليه الشراب. فمعنى (الرَّحْمن): الذي وسعت رحمته كل شيء.

وقال بعضهم: (الرَّحْمن) العاطف على جميع خلقه؛ كافرهم ومؤمنهم، برّهم وفاجرهم بأن خلقهم ورزقهم، قال الله تعالى:

{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف7: 156]،

و(الرحيم) بالمؤمنين خاصّة بالهداية والتوفيق في الدنيا، والجنة والرؤية في العقبى، قال تعالى:

{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [الأحزاب33: 43].

فـ (الرَّحْمن) خاصّ اللفظ عامّ المعنى، و (الرحيم) عامّ اللفظ خاصّ المعنى. و (الرَّحْمن) خاص من حيث إنه لا يجوز أن يسمى به أحد إلاّ الله تعالى، عامّ من حيث إنه يشمل الموجودات من طريق الخلق والرزق والنفع والدفع. و (الرحيم) عامّ من حيث اشتراك المخلوقين في المسمّى به، خاص من طريق المعنى؛ لأنه يرجع إلى اللطف والتوفيق. وهذا قول جعفر بن محمد الصادق (رضي الله عنه).


الرَّحْمن اسم خاص بصفة عامة، والرحيم اسم عام بصفة خاصة، وقول ابن عباس: هما اسمان رقيقان أحدهما أرقّ من الآخر.

وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسّر، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الدّقاق، حدّثنا الحسن بن محمد بن جابر، حدّثنا عبد الله بن هاشم، أخبرنا وكيع عن سفيان عن منصور عن مجاهد قال: الرَّحْمن بأهل الدنيا، والرحيم بأهل الآخرة. وجاء في الدعاء: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة.

وقال الضحّاك: الرَّحْمن بأهل السماء حين أسكنهم السماوات، وطوّقهم الطاعات، وجنّبهم الآفات، وقطع عنهم المطاعم واللذات. والرحيم بأهل الأرض حين أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب، وأعذر إليهم في النصيحة وصرف عنهم البلايا.

وقال عكرمة: الرَّحْمن برحمة واحدة، والرحيم بمائة رحمة وهذا المعنى قد اقتبسه من قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي حدّثناه أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري، حدّثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي بمرو، حدّثنا أبو هريرة وأحمد بن محمد بن شاردة الكشي، حدّثنا جارود ابن معاذ، أخبرنا عمير بن مروان عن عبد الملك أبي سليمان عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

-5-

" إن لله تعالى مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وأخّر تسعة وتسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة ".

وفي رواية أخرى: " إن الله تعالى قابض هذه إلى تلك فمكملها مائة يوم القيامة، يرحم بها عباده ".

وقال ابن المبارك: (الرَّحْمن: الذي إذا سُئل أعطى، والرحيم إذا لم يُسأل غضب. يدلّ عليه ما حدّثنا أبو القاسم المفسّر، حدّثنا أبو يوسف رافع بن عبد الله بمرو الروذ، حدّثنا خلف ابن موسى: حدّثنا محمود بن خداش، حدّثنا هارون بن معاوية، حدّثنا أبو الملج وليس الرقّي عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من لم يسأل الله يغضب عليه " ، نضمه الشاعر فقال:

إن الله يغضب إن تركت سؤالهوبنيُّ آدم حين يُسأل يغضب


وسمعت الحسن بن محمد يقول: سمعت إبراهيم بن محمد النسفي يقول: سمعت أبا عبد الله ـ وهو ختن أبي بكر الوراق ـ يقول: سمعت أبا بكر محمد بن عمر الورّاق يقول: (الرَّحْمن: بالنعماء وهي ما أعطي وحبا، والرحيم بالآلاء وهي ما صرف وزوى).

وقال محمد بن علي المزيدي: الرَّحْمن بالإنقاذ من النيران، وبيانه قوله تعالى:

{ وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } [آل عمران3: 103]،

والرحيم بإدخالهم الجنان، بيانه:

{ ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ } [الحجر15: 46].


وقال المحاسبي: (الرَّحْمن: برحمة النفوس، والرحيم برحمة القلوب).

وقال السريّ بن مغلس: (الرَّحْمن بكشف الكروب، والرحيم بغفران الذنوب).

وقال عبد الله بن الجرّاح: (الرَّحْمن بـ..... الطريق، والرحيم بالعصمة والتوفيق).

وقال مطهر بن الوراق: (الرَّحْمن بغفران السيّئات وإن كن عظيمات، والرحيم بقبول الطاعات وإن كنّ [قليلات]).

وقال يحيى بن معاذ الرازي: (الرَّحْمن بمصالح معاشهم، والرحيم بمصالح معادهم).

وقال الحسين بن الفضل: (الرَّحْمن الذي يرحم العبد على كشف الضر ودفع الشر، والرحيم الذي يرقّ وربما لا يقدر على الكشف).

وقال أبو بكر الوراق أيضاً: (الرَّحْمن بمن جحده والرحيم بمن وحّده، والرَّحْمن بمن كفر والرحيم بمن شكر، والرَّحْمن بن قال ندّاً والرحيم بمن قال فردا).

في أن التسمية من الفاتحة أو لا؟

واختلف الناس في أنّ التسمية؛ هل هي من الفاتحة؟ فقال قرّاء المدينة والبصرة وقرّاء الكوفة: إنها افتتاح التيمّن والتبرّك بذكره، وليست من الفاتحة ولا من غيرها من السور، ولا تجب قراءتها وأن الآية السادسة قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.

-6-

وهو قول مالك بن أنس والأوزاعي وأبي حنيفة - رحمهم الله - ورووا ذلك عن أبي هريرة.

أخبرنا أبو القاسم الحسين بن محمد بن الحسن النيسابوري، حدّثنا أبو الحسن محمد بن الحسن الكابلي، أخبرنا علي بن عبد العزيز الحلّي، حدّثنا أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي، حدّثنا الحجاج عن أبي سعيد الهذلي عن..... عن أبي هريرة قال (أنعمت عليهم) الآية السادسة، فزعمت فرقة أنها آية من أمّ القرآن، وفي سائر السور فصل، فليست هاهنا أنها يجب قراءتها.

[وقال قوم: إنها آية من فاتحة الكتاب] رووا ذلك عن سعيد بن المسيب، وبه قال قرّاء مكة والكوفة وأكثر قرّاء الحجاز، ولم يعدّوا { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية.

وقال الشافعي والشعبي وهو رأي عبد الله أنها نزلت في الآية الأُولى من فاتحة الكتاب، وهي من كل سورة آية إلاّ التوبة. والدليل عليه الكتاب والسنة؛ أمّا الكتاب سمعت أبا عثمان بن أبي بكر الزعفراني يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن موسى يقول: سمعت الحسن بن المفضّل يقول: رأيت الناس....... في النمل أن { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } فيها من القرآن فوجدتها بخطها ولو أنها مكرّرات في القرآن، فعرفنا أماكنها منه بل حتى

{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرَّحمن55: 13]،
{ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [المرسلات: 15]


لما كانا في القرآن كانت مكرّراتهما من القرآن.

وبلغنا " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في بدء الأمر على رسم قريش: " باسمك اللهم " حتى نزلت: { وَقَالَ ٱرْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ ٱللَّهِ مَجْريٰهَا وَمُرْسَاهَا } [سورة هود: 41] فكتب: { بِسْمِ ٱللَّهِ } حتى نزلت: { قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [سورة الإسراء: 110] فكتب: " بسم الله الرَّحْمن " ، حتى نزلت: { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [سورة النمل: 30]، فكتب مثلها فلمّا كانت..... هذه.... وحيث أن يكون.... منه ثم افتخر النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الآية " ، وحقّ له ذلك.

حدّثنا عبد الله بن حامد بن محمد الوراق: أخبرنا أبو بكر أحمد بن اسحاق الفقيه حدّثنا محمد ابن يحيى بن سهل، حدّثنا آدم بن أبي إياس، حدّثنا سلمة بن الأحمر عن يزيد بن أبي خالد عن عبد الكريم بن أمية عن أبي بريدة عن أبيه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أخبرك بآية لم تنزل على أحد بعد سليمان بن داود غيري؟ ". فقلت: بلى. قال: " بأي شيء تفتتح إذا افتتحت القرآن؟ ". قلت: { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فقال: " هي هي ".

وفي هذا الحديث دلّ دليل على كون التسمية آية تامّة من الفاتحة وفواتح السور؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين لفظ الآية كلها، والتي في سورة النمل ليست بآية وإنما هي بعض الآية، وبالله التوفيق.

-7-
وأمّا الأخبار الواردة فيه، فأخبرنا أبو القاسم السدوسي، حدّثنا أبو زكريا يحيى بن محمد ابن عبد الله العنبري، حدّثنا إبراهيم بن إسحاق الأنماطي حدّثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، حدّثنا أبو سفيان المعمري عن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينار: إن الفضل الرقاشي زعم أن { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ليس من القرآن؟ قال: سبحان الله ما أجرأ هذا الرجل سمعت سعيد بن جبير يقول: سمعت ابن عباس يقول: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزلت آية { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } علم أن السورة قد ختمت وفتح غيرها ".

وحدّثنا الحسن بن محمد: حدّثنا أبو الحسن عيسى بن زيد العقيلي: حدّثنا أبو محمد إسماعيل ابن عيسى الواسطي: حدّثنا عبد الله بن نافع عن جهم بن عثمان عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كيف تقول إذا قمت إلى الصلاة؟ " قال: أقول: الحمد لله رب العالمين. قال: " قل: { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ".

وحدّثنا الحسن بن محمد، أخبرنا أبو الحسين...، حدّثنا علي بن عبد العزيز، حدّثنا أبو عبيد، حدّثنا عمر بن هارون البلخي عن أبي صالح عن أبي مليكة عن مسلمة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ: { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ * ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ * مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } " يعني يقطّعها آية آية حتّى عدّ سبع آيات عدّ الأعراب.

أخبرنا أبو الحسين محمّد بن أحمد، حدّثنا أبو أحمد عبد الله بن عدي الحافظ، حدّثنا محمد ابن جعفر، حدّثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدّثنا الحسين بن عبد الله عن أبيه عن جدّه عن علي بن أبي طالب (كرّم الله وجهه) أنه كان إذا افتتح السورة في الصلاة يقرأ { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } ، وكان يقول: " من ترك قراءتها فقد نقص ". وكان يقول: " هي تمام السبع المثاني والقرآن العظيم ".

وأخبرنا الحسين بن محمد بن جعفر، حدّثنا أبو العباس الأصم، حدّثنا أحمد بن عبد الجبار العطاردي، حدّثنا جعفر بن حيّان عن عبد الملك بن جريح عن أبيه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى:

{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } [الحجر15: 87]


قال: فاتحة الكتاب.

وقيل لابن عباس: أين السابعة؟ قال: { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } وعدّها في يديه ثم قال: أُخرجها لكم، وما أجد فيها أمركم.

أخبرنا [محمّد بن الحسين] حدّثنا عبد الله بن محمد بن مسلم، حدّثنا يزيد بن سنان، حدّثنا أبو بكر الحنفي، حدّثنا نوح بن أبي بلال قال: سمعت المقبري عن أبي هريرة أنه قال: إذا قرأتم أمّ القرآن فلا تبرحوا { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } فإنها إحدى آياتها وإنها السبع المثاني.
-8-

وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد بن عبد الله العنبري، حدّثنا جعفر بن أحمد بن نصر الحافظ، حدّثنا أحمد بن نصر، حدّثنا آدم بن إياس عن أبي سمعان عن العلا، عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبادي نصفين؛ فإذا قال العبد: { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } قال الله: مجّدني عبدي، وإذا قال العبد { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } قال: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } قال الله: فوّض إليّ أمره عبدي، وإذا قال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال الله: هذا بيني وبين عبدي، وإذا قال: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سأل ".

وأخبرنا علي بن محمد بن الحسن المقري، أخبرنا أبو نصر أحمد بن محمد القصّار، حدّثنا محمد بن بكر البصري، حدّثنا محمد بن علي الجوهري، حدّثنا... حدثني أبو إسماعيل بن يحيى...، حدّثنا سفيان الثوري عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يحدّث أصحابه؛ إذ دخل رجل يصلّي، وافتتح الصلاة، وتعوّذ، ثم قال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }. فسمع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رجل، قطعت على نفسك الصلاة، أما علمت أن { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } من الحمد؟ فمن تركها فقد ترك آية، ومن ترك آية منه فقد قطعت عليه صلاته " لا تكون الصلاة إلاّ بفاتحة الكتاب، ومن ترك آية فقد بطلت صلاته.

وأخبرنا أبو الحسين علي بن محمد الجرجاني، حدّثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، حدّثنا أبو بكر محمد بن عمر بن هشام، أخبرنا محمد بن يحيى، حدّثنا حكيم بن الحسين، حدّثنا سليمان بن مسلم المكّي عن نافع عن أبي مليكة عن طلحة بن عبيد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ترك { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } فقد ترك آية من كتاب الله ".

وقد عدّها علي عليه السلام فيما عدّ من أمّ الكتاب.

وأما الإجماع، فأخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الورّاق، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الضبعي، حدّثنا عبد الله بن محمد، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا علي بن المديني، حدّثنا عبدالوهّاب بن فليح،عن عبدالله بن ميمون عن عبيد بن رفاعة أن معاوية بن أبي سفيان قدم المدينة فصلّى بالناس صلاة يجهر فيها، ولمّا قرأ أم القرآن ولم يقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } وقضى صلاته، ناداه المهاجرون والأنصار من كل ناحية: أنسيت أين { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } حين استفتحت القرآن؟ فأعادها لهم معاوية فقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }.

-9-
الكلام في جزئية البسملة من باقي السور

هذا في الفاتحة، فأما في غيرها من السور، فأخبرنا أبو القاسم الحبيبي، حدّثنا أبو العباس الأصم، حدّثنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز، عن ابن جريج، عن عبد الله بن عثمان بن خيثم، أن أبا بكر بن حفص بن عاصم قال: صلى معاوية بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة، وقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } لأم القرآن ولم يقرأ للسورة التي بعدها حتى قضى صلاته، فلمّا سلّم ناداه المهاجرون من كل مكان: يا معاوية، أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فصلى بهم صلاة أخرى وقرأ فيها للسورة التي بعدها.

وما... النظر بآيات [السور] مقاطع القرآن على ضربين متقاربة ومتشاكلة. والمتشاكلة نحو ما في سورة القمر والرَّحْمن وأمثالهما، والمتقاربة قيل: في سورة

{ قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ *بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ } [ق: 1-2]،

وما ضاهاها. ثم نظرنا في قوله: { قبلهم } ، فلم يكن من المتشاكلة ولا من المتقاربة، ووجدنا أواخر آي القرآن على حرفين: ميم ونون أو حرف صحيح قبلها نا مكسورة فأوّلها، أو واو مضموم ما قبلها، أو ألف مفتوح ما قبلها، ووجدنا سبيلهم هو هو مخالف لنظم الكتاب.


هذا ولم نرَ غير مبتدأ آية في كتاب الله.... إذ يقول أيضاً: إن التسمية لا [تخلو]؛ إما أن تكون مكتوبة للفصل بين السور، أو في آخر السور، أو في أوائلها أو حين نزلت كتبت، وحيث لم تنزل لم تكتب، فلو كتبت للفصل لكتبت... وتراخ، ولو كتبت في الابتدا لكتبت في (براءة)، ولو كتبت في الانتهاء لكتبت في آخر

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } [الناس114: 1].

فلمّا أبطلت هذه الوجوه علمنا أنها كتبت حيث نزلت، وحيث لم تنزل لم تكتب.


يقول أيضاً: إنا وجدناهم كتبوا ما كان غير قرآن من الآي والأخرى، أو خضرة، وكتبوا التسمية بالسواد فعلمنا أنها قرآن، وبالله التوفيق.

حكم الجهر بالبسملة في الصلاة

ثم الجهر بها في الصلاة سنّة لقول الله تعالى:

{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ } [العلق96: 1]

(فأمر) رسوله أن يقرأ القرآن بالتسمية، وقال:

{ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } [الأعلى: 14 و 15]

فأوجب الفلاح لمن صلّى بالتسمية.


وأخبرنا أبو القاسم [الحسن بن محمّد بن جعفر] حدّثنا أبو صخر محمد بن مالك السعدي بمرو، حدّثنا عبد الصمد بن الفضل الآملي، حدّثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي بغوطة [دمشق] قال: صليت خلف المهديّ أمير المؤمنين فجهر بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، فقلت: ما هذه القراءة يا أمير المؤمنين؟ [فقال: ] حدثني أبي عن أبيه عن عبد الله بن عباس
-10-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #40  
قديم 12-08-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق 11-13 من 13

تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق 11-13 من 13

" أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } " ، قلت: أآثرها عنك؟ قال: نعم.

وحدّثنا الحسن بن محمد بن الحسن قال: حدّثنا أبو أحمد محمد بن قريش بن حابس بمرو الروذ إملاءً، حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن عباد الدّيري، حدّثنا عبد الرزاق عن عمر بن دينار، أن ابن عمر وابن عباس كانا يجهران بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }.

وحدّثنا الحسن بن محمد بن زكريا العنبري، حدّثنا محمد بن عبد السلام، حدّثنا إسحاق ابن إبراهيم، أخبرنا خَيْثَمة بن سليمان قال: سمعت ليثاً قال: كان عطاء وطاووس ومجاهد يجهرون بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }.

وحدّثنا الحسن بن محمد: حدّثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرَّحْمن المروزي، حدّثنا الحسن ابن علي بن نصير الطوسي، حدّثنا أبو ميثم سهل بن محمد، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخزاعي، عن عمّار بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، أن العبادلة كانوا يستفتحون القراءة بـ بسم { ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } يجهرون بها: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن صفوان.

وحدّثنا الحسن بن محمد، حدّثنا أبو نصر منصور بن عبد الله الاصفهاني، حدّثنا أبو القاسم الاسكندراني، حدّثنا أبو جعفر الملطي عن علي بن موسى الرضا عن أبيه عن جعفر بن محمد أنه قال: " اجتمع آل محمد على الجهر بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، وعلى أن يقضوا ما فاتهم من صلاة الليل بالنهار، وعلى أن يقولوا في أبي بكر وعمر أحسن القول وفي صاحبهما ".

وبهذا الإسناد قال: سئل الصادق عن الجهر بالتسمية، فقال: " الحق الجهر به، وهي التي التي ذكر الله عزّ وجلّ:

{ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي ٱلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَىٰ أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } [الإسراء17: 46] ".


وحدّثنا الحسن، حدّثنا أبو محمد عبد الله بن محمد بن موسى بن كعب العدل، حدّثنا الحسين ابن أحمد بن الليث، حدّثنا محمد بن المعلّى المرادي، حدّثنا أبو نعيم عن خالد بن إياس عن سعيد ابن أبي سعيد المقرىء عن أبي هريرة قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتاني جبريل فعلمني الصلاة " ، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبّر فجهر بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ".

وحدّثنا الحسن بن محمد، حدّثنا أبو الطيب محمد بن أحمد بن حمدون، حدّثنا الشرقي، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا ابن أبي مريم عن يحيى بن أيوب ونافع بن أيوب قالا: حدّثنا عقيل عن الزهري قال: من سنّة الصلاة أن تقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } في فاتحة الكتاب (فإن) لم يقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } لم يقرأ السورة.

-11-

وقال: إن أوّل من ترك { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } عمرو ابن سعيد بن العاص بالمدينة، واحتجّ من أنّ إتيان التسمية أنها من الفاتحة، والجهر بها في الصلاة بما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن الحسين بن الحسن بن الخليل النيسابوري القطّان، حدّثنا محمد بن إبراهيم الجرجاني، حدّثنا إبراهيم بن عمّار عن سعيد بن أبي عروبة عن الحجاج بن الحجاج عن قتادة عن أنس بن مالك قال: صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }.

وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن إسماعيل العماريّ، حدّثنا يزيد بن أحمد بن يزيد، حدّثنا أبو عمرو، حدّثنا محمد بن عثمان، حدّثنا سعيد بن بشير، عن قتادة عن أنس، " أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان كانوا لا يجهرون، ويخفون { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ".

فعلم بهذا الحديث أنه لم ينفِ كون هذه الآية من جملة السورة، لكنه تعرّض لترك الجهر فقط، على أنه أراد بقوله: (لا يجهرون): أنهم لا يتكلفون في رفع الصوت ولم يرد الإسراء والتخافت أو تركها أصلا.

ويدل عليه ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد الحبيبي، أخبرنا أبو زكريا يحيى بن محمد العنبري، حدّثنا محمد بن عبد السلام الوراق وعبد الله بن محمد بن عبد الرَّحْمن قالا: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، أخبرنا يحيى بن آدم، أخبرنا شريك، عن ياسر، عن سالم الأفطس، عن ابن أبي ليلى، عن سعيد، عن ابن عباس، قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بـ { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } جهر بها صوته، فكان المشركون يهزؤون بمكّة ويقولون: يذكر إله اليمامة، يعنون مسيلمة الكذاب، ويسمونه الرَّحْمن، فأنزل الله: { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } فيسمع المشركون فيهزؤون، { وَلاَ تُخَافِتْ } عن أمتك ولا تسمعهم { وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً } [الإسراء: 110] ".

واحتجّوا أيضاً بما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري، حدّثنا بشر ابن مطر [عن سفيان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة] عن أبيه عن قتادة عن أنس " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون القراءة بـ { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } " ، وإنما عنى بها أنهم كانوا يستفتحون الصلاة بسورة (الحمد)، فعبّر بهذه الآية عن جميع السورة كما يقول: قرأت { الحمد لله } و (البقرة)، أي سورة { الحمد لله } وسورة (البقرة).

-12-

.. أي رويناها نحكم على هذين الحديثين وأمثالهما وبالله التوفيق.

قوله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ }

... على نفسه، نعيماً منه على خلقه. ولفظه خبر ومعناه أمر، تقريره: قولوا: الحمد لله. قال ابن عباس: يعني: الشكر منه، وهو من الحمد.... والحمد لله نقيض الذم. وقال ابن الأنباري: هو مقلوب عن المدح كقوله: جبل وجلب، و: بض وضبّ.

واختلف العلماء في الفرق بين الحمد والشكر، فقال بعضهم: الحمد: الثناء على الرجل بما فيه من الخصال الحميدة، تقول: حمدت الرجل، إذا أثنيت عليه بكرم أو [حلم] أو شجاعة أو سخاوة، ونحو ذلك. والشكر له: الثناء عليه أو لآله.

فالحمد: الثناء عليه بما هو به، والشكر: الثناء عليه بما هو منه.

وقد يوضع الحمد موضع الشكر، فيقال: حمدته على معروفه عندي، كما يقال: شكرته، ولا يوضع الشكر موضع الحمد، [فـ] لا يقال: شكرته على علمه وحلمه.

والحمد أعمّ من الشكر؛ لذلك ذكره الله فأمر به، فمعنى الآية: الحمد لله على صفاته العليا وأسمائه الحسنى، وعلى جميع صنعه وإحسانه إلى خلقه.

وقيل: الحمد باللسان قولاً، قال الله:

{ وَقُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } [الإسراء17: 111]، وقال:
{ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰ } [النمل27: 59]

والشكر بالأركان فعلاً، قال الله تعالى:

{ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [سبأ34: 13].


وقيل: الحمد لله على ما حبا وهو النعماء، والشكر على ما زوى وهو اللأواء.

وقيل: الحمد لله على النعماء الظاهرة، والشكر على النعماء الباطنة، قال الله تعالى:

{ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [لقمان31: 20].


وقيل: الحمد ابتداء والشكر....

حدّثنا الحسن بن محمد بن جعفر النيسابوري لفظاً، حدّثنا إبراهيم بن محمد بن يزيد النسفي، حدّثنا محمد بن علي الترمذي، حدّثنا عبد الله بن العباس الهاشمي، حدّثنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة عن عبد الله بن عمرو (بن العاص) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الحمد رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده ".

وحدّثنا الحسن بن محمد، أخبرنا أبو العباس أحمد بن هارون الفقيه، حدّثنا عبد الله بن محمود السعدي، حدّثنا علي بن حجر، حدّثنا شعيب بن صفوان عن مفضّل بن فضالة عن علي بن يزيد عن يوسف بن مهران عن ابن عباس أنه سئل عن { الحمد لله } قال: كلمة شكر أهل الجنة.

-13-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع
ابحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 03:19 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.