سكاي فليكس يوفر لك كل احتياجاتك الخاصه في مكان واحد  آخر رد: الياسمينا    <::>    دعوة لحضور لقاء "القانون وريادة الأعمال" للتعريف بالإجراءات ...  آخر رد: الياسمينا    <::>    مكتب انجاز استخراج تصاريح الزواج  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي : حكم لصالح موكلنا بأحقيتة للمبالغ محل ...  آخر رد: الياسمينا    <::>    منتجات يوسيرين: رفع مستوى روتين العناية بالبشرة مع ويلنس سوق  آخر رد: الياسمينا    <::>    اكتشفي منتجات لاروش بوزيه الفريدة من نوعها في ويلنس سوق  آخر رد: الياسمينا    <::>    منتجات العناية بالبشرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    استكشف سر جمال شعرك في ويلنس سوق، الوجهة الأولى للعناية بالش...  آخر رد: الياسمينا    <::>    ويلنس سوق : وجهتك الأساسية لمنتجات العناية الشخصية والجمال  آخر رد: الياسمينا    <::>    موقع كوبون جديد للحصول على اكواد الخصم  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم
التسجيل التعليمات الملحقات التقويم مشاركات اليوم البحث

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #51  
قديم 01-06-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 11-20 من

تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 11-20 من 28



{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

الثالث: من بلغتهم الرسالة وصدّقوا بها، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها فكانت عقائدهم نابعة من أهوائهم، وهم أصحاب البدع المنحرفون في إعتقادهم عن هداية الوحي، وهم الذين مزّقوا شمل الأمّة، لإِنحرافهم عن نهج سلفها الصالح، وأشار الإِمام محمد عبده إلى طَرَفٍ من آثار هؤلاء في الناس، فذكر أن الرجل منهم يأتي إلى دوائر القضاة، فيستحلف بالله العلي العظيم أنه لم يفعل ما نسب إليه فيحلف وعلامة الكذب بادية على وجهه فإذا أتاه المستحلف من طريق آخر وحمله على الحلف بشيخ من المشايخ الذين يعتقد لهم الولاية، لم يلبث أن يتغير لونه وتتزلزل أركانه ويرجع في قسمه ويقول الحق، مقرا بأنه فعل ما حلف أولا بالله أنه لم يفعله، تكريما لاسم ذلك الشيخ وخوفا منه أن يسلب عنه نعمة أو ينزل به نقمة إذا حلف باسمه كاذبا، ويرد الإِمام محمد عبده هذا الضلال إلى الضلال في الإِيمان بالله وما يجب له من الوحدانية في الأفعال، ثم أشار بعد ذلك إلى الضلالات المتنوعة التي عرضت على دين الإِسلام وسلكت بهذه الأمة سبلا معوجة، لا توصل إلى حق ولا رشدٍ، وذكر أن من أشنع هذه الضلالات أثرا وأشدها ضررا خوض رؤساء الفرق منهم في مسائل القضاء والقدر والاختيار والجبر والوعد والوعيد وتهوين مخالفة الله على النفوس، ثم ذكر أنه لا بد لمن أراد تمحيص الإِعتقاد ومعرفة ما فيه من الضلال والرشاد من تنزيه القرآن عن إدخال أي شيء مما في أدمغة الناس من المعتقدات فيه وبدون ذلك لا يمكن معرفة الهداية من الضلال، لاختلاط الموزون بالميزان، فلا يُدرى ما هو الموزون به، ثم أوضح أن معنى ذلك أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين، لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها، ويُرجع بالتأويل أو التحريف إليها كما جرى عليه المخذولون وتاه فيه الضالون.


الرابع: الذين ضلوا في الأعمال وحرفوا الأحكام عما وضعت له نتيجة الخطأ في فهم مقاصد الشعائر الدينية والواجبات الاجتماعية التي فرضت في الإِسلام وضرب الإِمام محمد عبده لذلك مثلا: الإِحتيال في الزكاة بتحويل المال إلى ملك الغير قبل حلول الحول ثم استرداده بعد مضي جزء من الحول الثاني هروبا من الزكاة المفروضة، ويظن المحتال أنه بحيلته قد خلص من أداء الفريضة ونجا من غضب من لا تخفى عليه خافية، ولا يعلم أنه بذلك يهدم ركنا من أركان دينه ويعمل عمل من يعتقد أن الله قد فرض فرضا وشرع بجانب ذلك الفرض ما يذهب به ويمحو أثره وذلك محال على الله سبحانه وتعالى.

ومثل هذا التحايل الذي ذكره الأستاذ الإِمام، الحيل الرِّبَويّةِ التي كثيرا ما يستخدمها الذين لا يرعون للدين حرمة ولا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، نحو ما تعارف عليه الناس من بيوع الإِقالة، فتجد أحدهم إذا احتاج يبيع عقاراً للآخر بثمن معلوم ولا يشترط الإِقالة إلى مدة معلومة ويتفق البائع والشاري على أن يستأجر البائع المبيع من المشتري في كل شهر بقدر معلوم من غير أن يتخلى عنه ويقبضه المشتري، وفي هذا العقد حُرَم متعددة:-

الأولى: حرمة التذرع إلى الربا والتحايل على من لا تخفى عليه خافية، وحرمة الربا لما فيه من الاستغلال وابتزاز ثروات المحتاجين، وهذا المعنى حاصل في هذه المعاملة.
-11-

الثانية: حرمة بيع ما لم يقبض وربح ما لم يضمن، وقد صح النهي عن ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.

الثالثة: حرمة بيعين في بيع، وللإِيجار حكم البيع، فاجتماع عقدته وعقدة البيع معاً يُضفي على هذا العقد هذا الحكم نفسه.

الرابعة: حرمة الشرطين في بيع، وهذا العقد ليس منطويا على شرطين فحسب، بل على ثلاثة شروط: أولها شرط الإِقالة، ثانيها شرط الاستئجار، ثالثها اشتراط كون الاستئجار بثمن معلوم، ومثل هذا قد تفشى في معاملات الناس، نتيجة الجهل والإِسخفاف بأحكام الله تعالى.

وذكر الأستاذ الإِمام أن ثلاثة أقسام من هذا الضلال، أولها وثالثها ورابعها يظهر أثرها في الأمم، فتختل فيها قوى الإِدراك، وتفسد الأخلاق وتضطرب الأعمال، ويحل بها الشقاء عقوبة من الله، لا بد من نزولها بهم، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تحويلا، وذكر أن حلول الضعف ونزول البلاء بأمة من الأمم، من العلامات والدلالات على غضب الله تعالى، بما أحدثته في عقائدها وأعمالها ما يخالف سننه، لهذا علمنا الله تعالى كيف ندعوه بأن يهدينا طريق الذين ظهرت نعمته عليهم، بالوقوف عند حدوده وتقويم العقول والأعمال بفهم ما هدانا إليه، وأن يجنبنا طرق أولئك الذين ظهرت فيهم آثار نقمه، بالإِنحراف عن شرائعه، سواءً كان ذلك عمداً وعناداً أو غواية وجهلاً، وذكر أن الأمة إذا ضلت سبيل الحق ولعب الباطل بأهوائها فسدت أخلاقها واعتلت أعمالها وقعت في الشقاء لا محالة، وسلط الله عليها من يستذلها ويستأثر بشئونها ولا يؤخر لها العذاب إلى يوم الحساب وإن كانت ستلاقى منه نصيبا أيضا، فإذا تمادى بها الغي، وصل بها إلى الهلاك ومحا أثرها من الوجود، لهذا علمنا الله تعالى كيف ننظر في أحوال من سبقنا، ومن بقيت آثارهم بين أيدينا من الأمم لنعتبر ونميز بين ما تكون به سعادة الأمة أو شقاؤها، أما في الأفراد فلم تجر سنة الله بلزوم العقوبة لكل ضال في هذه الحياة الدنيا، فقد يُستدرج الضال من حيث لا يعلم ويدركه الموت قبل أن تزول النعمة عنه وإنما يلقى جزاءه
-12-

{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الإنفطار82: 19]

انتهى كلامه وهو بحث نفيس ولأجل نفاسته حرصت على إيراد أقسام الضالين التي ذكرها وإن كنت أجنح إلى تفسير الضالين في الآية بما أثر النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف.

ويرى السيد محمد رشيد رضا الجمع بين التفسير المأثور والتفسير الذى عزاه إلى المحققين - ومنهم شيخه الإِمام محمد عبده - بما حاصله، أنّ ما ذكره المحققون ليس مخالفا للمأثور، لورود المأثور مورد التمثيل لا التخصيص والحصر.

ونستفيد أمرين جليلين من قوله تعالى { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }:

أولها: وجوب الترابط والتلاحم بين المؤمنين بحيث يكوّن أفرادهم كتلة منيعة، وتأتي أجيالهم حلقات متتابعة في سلسلة واحدة، يواصل كل جيل منها ما بدأه الجيل الذي تقدمه.

ثانيهما: وجوب نفرة المؤمنين عن أعداء الدين ومنابذتهم بحيث لا يلتقون معهم على فكر ولا خلق ولا سلوك.

وهذان الأمران هما المعروفان عند العلماء - وخاصة أصحابنا - بالولاية والبراءة ولأجل أهميتهما جاءت هذه السورة التي هي أكثر تكرارا على ألسنة المسلمين في الصلاة وغيرها، مؤكدة عليهما، فالله تعالى يُعَلِّم عباده أن يطلبوا منه، بأن يهديهم صراط الذين أنعم عليهم، من سلفهم الصالحين الذين استقاموا على الطريقة وقاوموا الإِنحراف، وأن يطلبوا بأن يوفقهم لمجانبة طرق أضدادهم من المغضوب عليهم والضالين، وما أجملته الآية الكريمة هنا قد فصّلته وأكدته آيات أخرى في سائر القرآن منها قوله عز وجل:

{ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ ٱللَّهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة9: 71] وقوله:
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ *وَٱلَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي ٱلأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } [الأنفال8: 72- 73] وقوله تعالى:
{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ *إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } [الممتحنة60: 1- 2]

وضرب الله مثلا لعباده المؤمنين ابراهيم عليه السلام ومن معه الذين أعلنوا براءتهم من القوم الكافرين وإن كانوا من ذوي قرباهم حيث قال:

{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ *رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } [الممتحنة60: 4- 5]
-13-

ثم تلا ذلك ما يدل على وجوب التأسي بهم وعلى أن ذلك لازم الإِيمان بالله واليوم الآخر، حيث قال:

{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } [الممتحنة60: 6]

ومفهوم هذا أن من لم يتأس بهم ليس من الذين يرجون الله واليوم الآخر، وفي خاتمة الآية ما لا يخفى من الوعيد لمن أعرض عن هذا الأمر واستخف بهذا الواجب، وبين سبحانه أنه ليس من شأن المؤمن أن يوالي أحدا ممن عرف عداوته لله ولدينه، ولو كان أقرب قريب، فقد قال عز وجل:

{ فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } [المائدة5: 52]

وحذّر في هذا السياق من الإِرتداد تعريضا بالذين إتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين وتنبيها على أن هذه الموالاة تؤدي إلى الردة والعياذ بالله وذلك في قوله:

{ وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْغَالِبُونَ } [المائدة5: 56]

ثم أتبع ذلك كله تأكيد التحذير من ولاية جميع القوم الكافرين في قوله:
-14-

وفي هذا ما يكفي العاقل تنفيرا وتحذيرا من الإِندفاع وراء خطوات الكافرين وهم الذين لا يضمرون لهذه الأمة إلا الحقد الأسود الدفين ولا يريدون لها إلا الذوبان في بوتقة الإِلحاد، أو الغرق في خِضِمِّ الفساد، ولذلك ينصبون كل ما يمكن من شراك المكائد، لاصطياد مرضى القلوب وضعاف الإِيمان من هذه الأمة الذين يعيشهم بريق المظهر وتستهويهم نغمة التضليل والإِفساد، وما الغاية من ذلك إلا ترغيبها في سفاسف الأمور، وتزهيدها في معاليها، هذا بجانب التآمر عليها في استقلالها وثرواتها.

ولا ريب أن غفلة هذه الأمة عن ذلك كله، هو الداء العضال المستعصي على العلاج، وإذا ألقينا نظرة على طريقة السلف الصالح، الذين مكّن الله لهم في الأرض واستخلفهم فيها، نجد حياتهم تنم عن عمق فهمهم لمقاصد هذه التوجيهات الربانية، ولذلك كانوا ينأوْن بأنفسهم ويربأون عن الدنو حول ما يوهم مودة لأعدائهم أو إعجابا بشيء من أمرهم وذلك كله نتيجة التربية العملية التي رُبوا بها على هداية القرآن، وإرشاده ونصحه وتعاليمه، وكان على رأس من قام بهذه التربية في هذه الأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

كما يتجلى ذلك في أقواله وأفعاله صلى الله عليه وسلم فقد بلغ الحال أن كانت صلوات الله وسلامه عليه يحرص على مخالفة الكفار حتى في الأمور العادية، ومن ذلك ما يروى أنه عليه أفضل الصلاة والسلام، كان واقفا في حال دفن ميت وكان أصحابه وقوفا معه، فمر بهم يهودي وقال: هكذا تصنع أحبارنا، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأمر أصحابه بالقعود، مخالفة لمسلك اليهود، وكثيرا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه في معرض الأمر والنهي، " خالفوا اليهود أو خالفوا المشركين " وذلك لئلا يتأثر السلوك فتتأثر بالتالي العقيدة، وهنا لا يملك المؤمن إلا أن يقف خاشعا أمام عظمة الإِسلام وعمق حكمته وسلامة تربيته ولكن يا للأسف الشديد، أين هذه التعاليم القرآنية والتوجيهات النبوية من أمة اليوم؟ التي أخذت تلهث وراء بهرجة الجاهلية الحديثة، واطئة بأقدامها على قيمها وأخلاقها وعقيدتها، فما أكثر أولئك الذين يقيسون التقدم الحضاري بمقياس التأثر بحياة الغرب الجاهلية، فأصبحوا يتأسون بالغربيين في مأكلهم ومشربهم وملبسهم ونومهم وحديثهم، وجميع أمورهم المعاشية معتقدين بأن ذلك رمز الوعي وعنوان الترقي ولا يدري هؤلاء البله أن ذلك إن دل على شيء، فإنما يدل على الحماقة والتخلف والإِنحطاط والذوبان.

هذا وقد بلغ الإِسلام من دقته في هذه الأمور أن كل ما أراد أن يصل إلى هذه الأمة من مواريث النبوات السابقة، أوصله إليها بطريق الوحي لا بطريق العادات الجاهلية، بل قطع أولا صلتهم بالجاهلية رأسا، لئلا تبقى هذه الأمة عالة على غيرها من الأمم، في شيء من عقيدتها، ولا في شيء من عباداتها وعاداتها، ويكفي مثلا لذلك تعظيم البيت الحرام، الذي بقي عند العرب مما ورثوه عن أبي الأنبياء ابراهيم عليه السلام، ولكن بما أن ذلك قد تلوث بلوثات الجاهلية، صرف الله تعالى هذه الأمة أولاً، حتى عن الإِتجاه إلى البيت الحرام في صلاتها، لتتلقى جميع أمور دينها عن ربها سبحانه، من طريق الوحي، لا من طريق العادات الجاهلية ولما استقرت عقيدتها ورسخ إيمانها وصارت لا تتلقى إلا عن الله تعالى، أُمرت من جديد باستقبال البيت الحرام، وشُرعت لها المناسك العظام، بعدما محصتهم هداية الله ونجحوا في مرحلة الامتحان، ولذلك يقول الله تعالى:
-15-

{ وَمَا جَعَلْنَا ٱلْقِبْلَةَ ٱلَّتِي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ ٱلرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ } [البقرة2: 143]

وفي هذا ما يكفي لأن يكون عبرة لأولى الألباب، نسأل الله العون والتوفيق والتأييد والتسديد، وهو حسبنا وكفى.

تلاوة الفاتحة في الصلاة

فاتحة الكتاب هي أم القرآن، بالنص الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم وبما ذكرناه من اشتمالها على مجمل معاني القرآن، ولذلك شُرعت تلاوتها في الصلاة، لتذكير المصلي بما تحتويه من المعاني القيمة، التى أنزل القرآن لتبيانها، ولا خلاف بين الامة في مشروعية تلاوة الفاتحة في الصلاة، ولكنهم اختلفوا في فرعين من فروع هذه المسألة، نقسم الحديث عنهما إلى مبحثين:-

المبحث الأول: في وجوب تلاوة الفاتحة في الصلاة، لقد جاءت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دالة على مشروعية تلاوة الفاتحة في الصلاة، بل على وجوبها منها ما أخرجه الربيع رحمه الله عن أبي عبيدة، عن جابر بن زيد عن أنس بن مالك رضى الله عنهم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " ورواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " رواه أحمد وابن ماجه، ورواه البيهقي من طريق علي مرفوعا بلفظ " كل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " ، وفسّر الربيع رحمه الله الخداج بالناقصة وهي غير التمام، ومنها ما أخرجه أحمد وأبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يخرج فينادي: (لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد) وهو وإن أعل بجعفر ابن ميمون الذي قال النسائي عنه: ليس بثقة، وقال أحمد: ليس بقوي، وقال ابن عدي يكتب حديثه في الضعفاء، فإنه يعتضد بما أخرجه مسلم وأبو داود وابن حبّان عن عبادة بن الصامت، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
-16-

" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب فصاعدا " والحديث مروي عند الجماعة بدون لفظة (فصاعدا) وإنما تفرد بها منهم مسلم وأبو داود، وأخرجه الدارقطني بلفظ " لا تجزيء صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وقال إسناده صحيح وصححه ابن القطان أيضا، ويعتضد بشاهد من حديث أبي هريرة مرفوعا بهذا اللفظ، أخرجه ابن خزيمة وابن حبان وغيرهما، ورواه أحمد بلفظ " لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " والأحاديث في ذلك كثيرة يعزز بعضها بعضا، منها حديث أنس عند أحمد والترمذي، وحديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي، وابن عمر عند ابن ماجه، وأبي سعيد عند أحمد وأبي داود وابن ماجه، وأبي الدرداء عند النسائي وابن ماجه، وجابر عند ابن ماجه.

وجمهور الأمة يحملون هذه الأحاديث على الوجوب، حتى أن الفخر الرازي نقل عن ابي حامد الإِسفرائينى أنه حكى إجماع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من الصلاة، وذكر جماعة عن أبي حنيفة والثوري والأوزاعي ما يدل على عدم وجوب قراءتها، وذلك أنهم قالوا: إن تركها عامدا في صلاته كلها وقرأ غيرها أجزأه على اختلاف عن الأوزاعي في ذلك، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن صاحبا أبي حنيفة: أقله ثلاث آيات، أو آية طويلة، كآية الديْن، وذكر عن محمد بن الحسن أيضا أنه قال: أسوغ الإِجتهاد في مقدار آية ومقدار كلمة مفهومة نحو الحمد لله، ولا أسوغه في حرف لا يكون كلاما.

وذكر القرطبي عن الطبري أنه قال: يقرأ المصلي بأم القرآن في كل ركعة فإن لم يقرأ بها لم يجزه إلا مثلها في القرآن عدد آياتها وحروفها، ونقل القرطبي عن ابن عبد البر قوله: وهذا لا معنى له، لأن التعيين لها والنص عليها قد خصها بهذا الحكم دون غيرها، ومحال أن يجيء بالبدل منها من وجبت عليه فتركها وهو قادر عليها، وإنما عليه أن يجيء بها ويعود إليها كسائر المفروضات المتعينات في العبادات، وذكر الحافظ ابن حجر في الفتح، أن الحنفية يتفقون مع غيرهم على وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة، لكن بنوا على قاعدتهم أنها مع الوجوب ليست شرطا في صحة الصلاة، لأن وجوبها إنما ثبت بالسنة والذي لا تتم الصلاة إلا به هو فرض، والفرض عندهم لا يثبت بما يزيد على القرآن، وقد قال تعالى:

{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل73: 20]

فالفرض قراءة ما تيسر، وتعيين الفاتحة إنما ثبت بالحديث فيكون واجبا يأثم من يتركه وتجزيء الصلاة بدونه.


وَأَتْبَعَ الحافظ ذلك قولُه: وإذا تقرر ذلك، لا ينقضي عجبي ممن يتعمد ترك قراءة الفاتحة منهم وترك الطمأنينة، فيصلي صلاة يريد أن يتقرب بها إلى الله تعالى وهو يتعمد ارتكاب الإِثم فيها مبالغة في تحقيق مخالفته لمذهب غيره، والذي نسبه إلى الحنفية من وجوب الفاتحة في الصلاة، نص عليه الكاساني منهم في بدائع الصنائع وإنما حصر الوجوب في الركعتين الأوليين من ذوات الأربع والثلاث، وفي كلتا الركعتين من ذات الركعتين وذكر أن من تركها عمدا كان مسيئا، ومن تركها سهوا لزمه سجود السهو، قال: وهذا يعني عندنا - يعني الحنفية -.
-17-

وهذا التفصيل نسبه الفخر الرازي إلى أبي حنيفة نفسه وقال في الركعتين الأخيرتين، يخير المصلي إن شاء قرأ وإن شاء سبّح وإن شاء سكت، ونسب الفخر إلى صاحب كتاب الاستحباب أن القراءة واجبة في الركعتين من غير تعيين، وحكى عن ابن الصبَّاغ أنه نقل في كتاب الشامل عن سفيان، وجوب القراءة في الركعتين الأوليين وكراهتها في الأخريين، والقول بالاكتفاء بالتسبيح في الأخريين منسوب في بعض كتب أصحابنا إلى الإِمام أبي معاوية عزان بن الصقر رحمه الله، وحكى الفخر عن الأصم وابن عليّة أن القراءة غير واجبة أصلا، وذهب الحسن البصري والحسن بن صالح بن حي إلى أن قراءتها في ركعة واحدة مجزئة، سواء كانت الصلاة ثنائية، أو ثلاثية أو رباعية، ونسبه القرطبي إلى المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي المدني، وإلى أكثر أهل البصرة. وحاصل المقام أن في المسألة أقوالا:-

أولها: قول الجمهور، وهو اشتراط الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، وحكى الإِسفرائيني إِجماع الصحابة عليه، وذكر أنه قال به أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود، ونسبه غيره إلى ابن عباس وأبي هريرة وابن عمر وأبي بن كعب وأبي أيوب الإِنصاري وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي سعيد الخدري وعثمان بن أبي العاص وخوات بن جبير، وعليه جمهور أصحابنا، وبه قال مالك والشافعي، وهو المشهور عن أحمد، ونسبه القرطبي إلى مشهور مذهب الأوزاعي ونسبه الشوكاني إلى العترة.

ثانيها: عدم وجوب القراءة في الصلاة أصلا، وهو قول الأصم وابن عليَّة.

ثالثها: وجوبها في ركعة من ركعات الصلاة فقط وهو قول الحسن البصري ومن تابعه، ونُسب إلى داود وإِسحاق والهادي والمؤيَّد بالله.

رابعها: وجوبها في الركعتين الأوليين والإِجتزاء بالتسبيح في الأخريين وهو رأي الحنفية وبه يقول أبو معاوية عزان بن الصقر من أصحابنا، غير أن الحنفية لا يرون بطلان الصلاة بدونها، كما تقدم، بناءً على تفرقتهم بين الفرض والواجب.

خامسها: الاستغناء عن الفاتحة بغيرها من القرآن نحو ثلاث آيات أو آية طويلة كآية الديْن، وهو رأي أبي يوسف ومحمد بن الحسن، وسوّغ محمد بن الحسن الاجتهاد في آية أو كلمة مفهومة نحو { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } دون حرف لا يكون كلاما، وذكر ابن قدامة في المغني عن أحمد رواية أنها لا تتعين وتجزىء قراءة آية من القرآن من أي موضع كان.
-18-

سادسها: اشتراط قراءة الفاتحة أو مثلها من القرآن في عدد آياتها وحروفها نسبه القرطبي إلى الطبري.

سابعها: وجوب قراءتها في الركعتين الأوليين، وكراهتها في الأخريين، وهو قول سفيان حسبما نقله الفخر الرازي، عن كتاب الشامل لابن الصبّاغ.

والصحيح من هذه الآراء القول بوجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، وهو الذي تقتضيه الأحاديث التي أسلفنا ذكرها، ويعضده إجماع الصحابة الذي حكاه أبو حامد الإِسفرائيني، أما القول بإسقاط وجوب القراءة رأسا فهو منافٍ لدلالة قوله تعالى:

{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل73: 20]

ومصادم لنصوص الأحاديث التي أسلفنا ذكرها.


وأما القائلون بالإِجتزاء بتلاوتها في ركعة من ركعات الصلاة فيرد عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: " ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " ، بعد أن أمره بالقراءة. رواه الجماعة من طريق أبي هريرة رضي الله عنه، وفي رواية لأحمد وابن حبان والبيهقي في قصة المسيء صلاته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: " ثم افعل ذلك في كل ركعة " كما يرد عليهم فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري عن إبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب.. والنبي عليه أفضل الصلاة والسلام تأتي أفعاله في العبادات، تشريعا لأمته يستوضح بها ما انبهم ويستبان بها ما أجمل، وقد قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " ولا متعلق لهم في نحو قوله صلى الله عليه وسلم " لا تقبل صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن " اعتبارا أن الاستثناء من النفي إثبات، فإذا حصلت قراءة الفاتحة في الصلاة مرة واحدة صحت الصلاة، لأن سنته صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية بينت أن هذه القراءة المطلوبة يجب أن تكون في كل ركعة من ركعات الصلاة، لا في ركعة واحدة فحسب، فاتضح بذلك أن صحة الصلاة موقوفة على تلاوة الفاتحة في كل ركعة، وبهذا يُرد على القائلين بالاجتزاء بها في الركعتين الأوليين من صلاة رباعية أو ثلاثية.

وأما القائلون بكفاية غيرها عنها - سواء القائلون بكفاية آية أو ثلاث آيات أو مثل الفاتحة في مثل عدد آياتها وحروفها - فأحاديث اشتراط الفاتحة كافية في هدم رأيهم والكشف عن ضعفه، ولا حجة لهم في إطلاق قوله تعالى { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي المسيء صلاته: " ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن " ، لأن المجمل يحمل على المبين والمطلق يرد إلى المقيد، على أنه ورد في حديث المسيء أيضا، عند أحمد وأبي داود وابن حبان بلفظ:
-19-

" ثم اقرأ بأم القرآن " وروى الشافعي بإسناده عن رفاعة بن رافع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: " ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ " وفي مثل هذا دليل على تعين الفاتحة وأن ما تيسر محمول على ما زاد عليها، مع احتمال أنه لم يكن يحسن الفاتحة، والآية الكريمة جاءت في سياق أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقيام الليل، وليست في الصلوات الخمس، وذكر بعض العلماء احتمال أنها نزلت قبل نزول الفاتحة، لأنها نزلت بمكة المكرمة في صدر زمن الرسالة، فليس فيها ما يدل على معارضة الأحاديث، أما ما يتعلقون به من حديث أبي سعيد بلفظ: " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب أو غيرها " فإن ابن سيد الناس يقول: لا يدرى بهذا اللفظ من أين جاء وقد صح عن أبي سعيد عند أبي داود أنه قال: أمرنا أن نقرأ بفاتحة الكتاب وما تيسر.. وإسناده صحيح ورواته ثقات.

وأما تعلقهم بحديث أبي هريرة عند أبي داود بلفظ: " لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب " فيجاب عنه بأنه من رواية جعفر بن ميمون وقد سبق أن ذكرنا عن النسائي وأحمد وابن عدي تضعيفه وهو أيضا مردود بأن أبا داود أخرج من طريقه عن أبي هريرة بلفظ: " أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أخرج فأنادي، أنه لا صلاة إلا بقراءة فاتحة الكتاب فما زاد " وليست تلك الرواية بأولى من هذه، بل هذه أولى بما يشدها من الروايات الأخرى، التي هي أقوى سندا وأصح متنا، على أنه يحتمل أن المراد بقوله عليه أفضل الصلاة والسلام - لو صحت الرواية - " لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب " الاجتزاء بقراءة الفاتحة وحدها، في بعض الصلوَات كصلاة السر، كما هو المذهب عندنا.

وبالجملة فإن كل ما يتعلق به المخالف في هذه المسألة، إما رواية واهية أو ذات احتمال، والدليل إذا طرقه الإِحتمال سقط به الاستدلال، أما أدلتنا على وجوب الفاتحة في كل ركعة فهي أقوى من أن تُغمز، وأظهر من أن تؤوّل، وإن حاول جماعة قلب الاستدلال بها لصالح رأيهم، ومن ذلك دعواهم أن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " يدل على صحة الصلاة بدونها، لأن غاية ما في الحديث أن الصلاة دونها ناقصة، وهو لا يدل على بطلانها، ويُجاب عن ذلك بأن الصلاة المطلوبة شرعاً هي الصلاة المستكملة لشروطها وأركانها، فإذا اختل شيء منها انهدم جميعها، والخداج هو في الأصل، اسم لإِلقاء الناقة ولدها لغير تمام الحمل، كما قال اللغويون، وهو سبب من أسباب هلاك الحمل، على أن الروايات الأخرى التي جاءت تارة بلفظ
-20-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #52  
قديم 01-06-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 21-28 من 28

تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 21-28 من 28




{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

" لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "
وأخرى بلفظ " لا تجزىء صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " صريحة في بيان المقصود بالخداج.


وحاولوا كذلك قلب الأدلة - من قوله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " زاعمين بأن المراد نفي الكمال لا نفي الذات، لأن الذات قائمة غير منتفية، ونفي الكمال يدل بمفهومه على وجود الحقيقة، وأجاب عن ذلك الحافظ ابن حجر في الفتح بما حاصله: إما أن يدعى هؤلاء أن المراد بالصلاة حقيقتها اللغوية، وإما أن يسلّموا أن المراد بها معناها الشرعي، والأول غير مُسَلّم لأن ألفاظ الشرع محمولة على مصطلحاته، إذ هي المستوجبة للبيان ولم يُبعث الشارع لبيان الموضوعات اللغوية ولكنه بُعث لبيان الحقائق الشرعية، وإذا ثبت أن الصلاة المنفية هنا هى الصلاة الشرعية اتضح نفي حقيقتها، من غير احتياج إلى إضمار الإِجزاء ولا الكمال، لأنه يؤدى إلى الإِجمال، كما نُقل عن القاضى أبي بكر وغيره حتى مال إلى التوقف لأن نفي الكامل يُشعر بحصول الإِجزاء، فلو قدر الإِجزاء منتفيا لأجل العموم قدر ثابتا لأجل إشعار نفي الكمال بثبوته، فيؤدي إلى التناقض ولا سبيل إلى إضمارهما معا، لأن الاضمار إنما احتيج إليه للضرورة وهي تندفع باضمار فرد فلا حاجة إلى أكثر منه ودعوى إضمار أحدهما ليست بأولى من الآخر، قاله ابن دقيق العيد، وتعقبه الحافظ ابن حجر بأن في هذا الأخير نظرا، لأنا إن سلمنا تعذر الحمل على الحقيقة، فالحمل على أقرب المجازين إليها أولى من الحمل على أبعدهما، ونفى الاجزاء أقرب إلى نفي الحقيقة وهو السابق إلى الفهم، ولأنه يستلزم نفي الكمال من غير عكس، فيكون أولى، وأيد الحافظ ذلك برواية " لا تجزىء " التي ذكرناها، وبرواية " لا تقبل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن " وإذا علمت وجوب قراءتها في كل ركعة من الصلاة، فاعلم أن تركها عمداً أو نسياناً، أو ترك شيء منها، مفض إلى بطلان الصلاة على الصحيح، وهو قول أصحابنا في العمد، ونسيان أكثرها، وقول أكثرهم في نسيان الأقل منها، ووافقنا عليه الشافعي في الجديد، وعليه ابن حزم الظاهرى في المحلّى، وذهب الشافعي في قديمه إلى أن نسيانها لا يفسد الصلاة، واحتج بما روى عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: صلى بنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه المغرب، فترك القراءة، فلما انقضت الصلاة قيل له: تركت القراءة، قال: كيف كان الركوع والسجود، قالوا: حسنا، قال: فلا بأس، واعتبر الشافعي حدوث هذه الواقعة بمحضر الصحابة من غير نكير منهم في حكم الإِجماع، ثم رجع عنه في الجديد، كما ذكرنا، أخذا بالأدلة العامة التي تشمل العمد والسهو، وأجاب عن قصة عمر بجوابين:

أولهما: أن الشعبي روى أن عمر رضي الله عنه أعاد الصلاة.
-21-

وهي زيادة من الثقة حكمها القبول، والمثبت مقدم على النافي عند التعارض.

ثانيهما: احتمال أن يكون عمر رضى الله عنه لم يترك نفس القراءة وإنما ترك الجهر بها، قال الشافعي: هذا هو الظن بعمر.

وضعّف القرطبي ما رُوى عن عمر أنه اعتد بالصلاة التي لم يقرأ فيها بعدم إعادته لها، وقال عنه: منكر اللفظ، منقطع الإِسناد، لأنه يرويه ابراهيم بن حارث التيمي عن عمر، ومرة يرويه ابراهيم عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عمر، وكلاهما منقطع لا حجة فيه، وقد ذكره مالك في الموطأ، وهو عند بعض الرواة وليس عند يحيى وطائفة معه، لأنه رماه مالك من كتابه بأخره، وقال ليس عليه العمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل صلاة لا يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج " ثم ذكر القرطبي ما رُوى عن عمر، أنه أعاد تلك الصلاة، وقال: وهو الصحيح عنه، روى يحيى بن يحيى النيسابورى قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش: عن ابراهيم النخعي عن همام بن الحارث، أن عمر نسي القراءة في المغرب، فأعاد بهم الصلاة، قال ابن عبد البرّ: وهذا حديث متصل شهده همام بن عمر، رُوى ذلك من وجوه، وروى أشهب عن مالك قال: سُئل مالك عن الذي نسى القراءة، أيعجبك ما قال عمر، قال: أنا أنكر أن يكون عمر فعله - وأنكر الحديث - وقال: يرى الناس عمر يصنع هذا في المغرب ولا يسبحون به، أرى أن يعيد الصلاة من فعل هذا.

والمفهوم من كلام المالكية أن مالكا يرى رأينا في من يتركها عمدا وهو خلاف ما ذكره عنه ابن حزم وغيره، والاعتماد على ما يرويه عنه أصحابه أولى، أما في حالة النسيان، فذكر ابن خويزمنداد البصري المالكي، عدم اختلاف قول مالك، في بطلان صلاة من تركها في ركعة من صلاة ركعتين ولزوم الإِعادة عليه، واختلف قوله من تركها ناسيا في ركعة من صلاة رباعية أو ثلاثية، فقال مرة يعيد الصلاة، وقال مرة أخرى يسجد سجدتي السهو، وهي رواية ابن عبد الحكم وغيره عن مالك، قال ابن خويزمنداد: وقد قيل إنه يعيد تلك الركعة، ويسجد للسهو بعد السلام، قال ابن عبد البر: الصحيح من القول إلغاء تلك الركعة، والاتيان بركعة بدلا منها كمن أسقط سجدةً سهوا، وهو اختيار ابن القاسم.

في تلاوة الفاتحة للإِمام والمأموم والمنفرد

فاتحة الكتاب جامعة لما لم يجمعه غيرها من مجملات معاني القرآن، وهذا سر مشروعية قراءتها في الصلاة كما أسلفنا، ومن هنا أطلق عليها اسم الصلاة. أخرج الإِمام الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
-22-

" يقول الله عزّ وجل قُسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، نصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قال العبد الحمد لله فيقول الله حمدني عبدي، فإذا قال العبد: الرحمن الرحيم فيقول الله أثنى علىّ عبدي، وإذا قال العبد: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } فيقول الله: مجدني عبدي، فيقول: العبد إياك نعبد وإياك نستعين، فيقول الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فيقول العبد: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فيقول الله: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل ".

وأخرج الحديث الجماعة إلا البخاري وإبن ماجه بلفظ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج " ، فقيل لأبي هريرة إِنا نكون وراء الإِمام فقال: إقرأ بها في نفسك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عز وجل قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين، قال الله: حمدني عبدي.. إلخ ".

والحديث الأول هنا حديث مستقل، أخرجه الإِمام الربيع رحمه الله، من طريق أنس رضي الله عنه كما سبق، وإطلاق إسم الصلاة على الفاتحة يدل على أهميتها في الصلاة، وضرورة قراءتها، لتوقف صحة الصلاة عليها، فهي بمثابة العمود الفقري فيها، وفي هذا ما يكفي حجة لإِيجابها على كل مصل، إماما كان أو مأموما أو منفردا، فإن الفاتحة في الصلاة لا تقل أهمية عن الركوع والسجود، بل الحديث يدل على سبق أهميتها، وإذا كان الركوع والسجود لا يحملهما إمام عن المأموم، فأجدر أن يكون هذا الحكم على الفاتحة، ووجوب قراءتها على المأموم كالإمام والمنفرد مروي عن جماعة الصحابة رضي الله عنهم، منهم عمر بن الخطاب، فقد روى الدار قطني عن يزيد بن شريك قال: سألت عمر عن القراءة خلف الإِمام فأمرني أن أقرأ، قلت: وإن كنت أنت، قال: وإن كنت أنا، قلت، وإن جهرت، قال: وإن جهرت.

قال الدارقطني هذا إسناد صحيح، وأخرجه ابن حزم مسندا في المحلّى عن يزيد بن شريك وعباية بن رداد وخيثمة بن عبد الرحمن عن عمر رضي الله عنه وذكر الترمذي في جامعه أن أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين يقولون بذلك، وعزاه إلى مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد واسحق، وصحح هذا الرأي القرطبي من المالكية في تفسيره، وعليه جمهور أصحابنا، ونُسب إلى الناصر من أهل البيت ورجّحه الشوكاني.

وقيل: بعدم القراءة مطلقا خلف الإِمام سواءً أسَرَّ أو جهر، وهو قول: أبي حنيفة وأصحابه، وبه قال: ابن وهب وأشهب وابن الحكم وابن حبيب من أصحاب مالك، وقال: بعض سلف مشارقتنا، حتى قال بعضهم: جمرة في عينه أحب إليه من أن يقرأ الفاتحة خلف الإِمام، وعزي هذا القول إلى الإِمام ابن محجوب رحمه الله، وعزا إليه القطب رحمه الله في الشامل وشرح النيل رجوعه عنه.
-23-

وقيل بالتفرقة بين الجهرية السرية، فينصت لها المأموم من إمامه في الجهر ويقرؤها في السر، وهو مشهور مذهب مالك، ونسبه الشوكاني إلى زيد بن على والهادي والقاسم وأحمد بن عيسى وعبيد الله بن الحسن العنبري واسحاق بن راهويه وأحمد، وذكر ابن قدامة في المغني أنه رواية الجماعة عن أحمد، وعزاه أيضا إلى الزهري والثوري وابن عيينه وإلى إسحاق، واعتمده، من قبله سلفه الخرقي في مختصره.

وذكر ابن حزم الظاهري اختلاف أصحابه الظاهرية في ذلك، فمنهم من رأى وجوب القراءة مطلقا خلف الإِمام، كما هو القول الأول ورجحه هو وعُزِي إلى سلفه داود، ومنهم من فرق بين قراءتي السر والجهر كما هو القول الثالث، ويؤيد القول الأول، ما أخرجه الربيع عن عبادة بن الصامت رضي الله، عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: (لعلكم تقرأون خلف إمامكم) قلنا أجل، قال: " لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة إلا بها " والحديث أخرجه عن عبادة أيضا أحمد والبخاري في جزء القراءة، وصححه ابو داود والنسائي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي، من طريق ابن اسحاق قال: حدثني مكحول عن محمود بن ربيعه، عن عبادة، وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول، وأخرجه أبو داود عن نافع بن محمود بن الربيع الأنصاري قال: أبطأ عبادة بن الصامت عن صلاة الصبح، فأقام أبو نعيم المؤذن الصلاة فصلى أبو نعيم بالناس، وأقبل عبادة ابن الصامت وأنا معه حتى صففنا خلف أبي نعيم، وأبو نعيم يجهر بالقراءة، فجعل عبادة يقرأ بأم القرآن فلما انصرف قلت: لعبادة سمعتك تقرأ بأم القرآن وأبو نعيم يجهر، قال: أجل " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات التي يجهر فيها بالقراءة فالتبست عليه، فلما انصرف أقبل علينا بوجهه فقال: هل تقرأون إذا جهرت بالقراءة فقال: بعضنا: إنا نصنع ذلك، قال: " فلا وأنا أقول مالي ينازعني القرآن فلا تقرأوا بشيء من القرآن إذا جهرت إلا بأم القرآن " وأخرجه أبو عيسى الترمذي من حديث محمد بن اسحاق بمعناه وحسنه، وقال الدارقطني: هذا إسناد حسن ورجاله كلهم ثقات، وجاء في كثير من روايات الحديث " لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها "
-24-

، وذكر الشوكاني من شواهده، ما رواه أحمد من طريق خالد الحذّاء، عن ابي قلابة بن أبي عائشة، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لعلكم تقرأون والإِمام يقرأ " ، قالوا: إنا لنفعل، قال: " لا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب " ، قال الحافظ: إسناده حسن، ورواه ابن حبان من طريق أيوب عن أبي قلابة عن أنس، وزعم أن الطريقتين محفوظتان، وخالفه البيهقي فقال: إن طريق أبي قلابة عن أنس ليست محفوظة، وفي لفظ للدارقطني عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقرأ أحد منكم شيئا من القرآن إذا جهرت بالقراءة إلا بأم القرآن " قال الدارقطني: رِجاله كلهم ثقات.

فهذه الأحاديث ناصة على أن للفاتحة حكما خاصا في الصلاة، فلا يكتفي فيها بسماعها من الإِمام بخلاف غيرها، وهذا لتوغلها في الوجوب، لأنها ركن من أركان الصلاة، ولذلك أطلق عليها اسم الصلاة بالنص الصريح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكيه رب العالمين، لأنها بمثابة القلب منها.

واحتج القائلون بعدم القراءة خلف الإِمام مطلقا أو فيما يُجْهر به بعموم قوله تعالى

{ وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } [الأعراف7: 204]

وبعموم روايات، منها ما أخرجه الربيع عن أبي عبيدة عن جابر بن زيد عن أبي هريرة قال: انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاة جهر فيها بالقرأ، فقال: " هل قرأ معي أحد منكم آنفا؟ " قالوا: بلى يا رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا فيما جهر به من الصلاة " ، ورواه مالك في الموطأ والشافعي وأحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسّنه، وابن ماجة وابن حبان بلفظ: " فإني أقول مالي أُنازع القرآن " وزيادة فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه سلم فيما يجهر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلوات بالقراءة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الزيادة مدرجة في الخبر كما نقله الشوكاني عن الخطيب، وذكر أنه اتفق على ذلك البخاري في التاريخ وأبو داود ويعقوب بن سفيان والذهلي والخطابي وغيرهم.


قال النووي: وهذا مما لا خلاف فيه بينهم، ومنها حديث أبي هريرة عند الخمسة إلا الترمذي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إنما جُعل الإِمام لِيؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا " ونُسب إلى مسلم تصحيحه، ولكن أبا داود قال في زيادة قوله (وإذا قرأ فأنصتوا)، ليست بمحفوظة، ونسب الوهم فيها إلى أبي خالد، ورد عليه المنذري بأن أبا خالد هذا هو سليمان ابن حيان الأحمر وهو من الثقات الذين احتج بهم البخاري ومسلم في صحيحهما، وأجاب عنه الإِمام نور الدين السالمي رحمه الله، بأن ذلك لا ينافي وقوع الوهم منه، لأن أبا داود لم يدّع كذبه، وإنما ادّعى وهمه، وهو غير الكذب بل هو في معنى الغلط، غير أن المنذري عزز ثبوت هذه الزيادة، ونفي الوهم عن راويها أبي خالد، بعدم تفرده بها، فقد تابعه عليها أبو سعيد محمد بن سعد الأنصاري الأشهلي المدني نزيل بغداد، وقد سمع من عجلان وهو ثقة وثَّقَهُ يحيى بن معين ومحمد بن عبد الله المحزمي وأبو عبد الرحمن النسائي وقد أخرج النسائي هذه الزيادة في سننه من حديث أبي خالد الأحمر ومحمد بن سعد، ونسب المنذري إلى مسلم إخراج هذه الزيادة في حديث أبي موسى الأشعري من رواية جرير ابن عبد الحميد، عن سليمان التَّيمي عن قتادة وأقر الشوكاني نسبتها إلى رواية مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري، ورأيت جماعة من العلماء عزوا إخراجها إلى مسلم من حديث أبي موسى، منهم القرطبي في تفسيره، والحافظ ابن حجر في فتح الباريء، وعزا إليه ابن قدامة في المغنى إخراج حديث أبي هريرة الذي تقدم ذكره، وقد راجعت أبواب القراءة في الصلاة وأبواب صلاة الجماعة من صحيح مسلم بابا بابا، وتأملت ما فيها حديثا حديثا، فلم أجد ما عزوه اليه من رواية أبي موسى، ولا من رواية أبي هريرة، ولا من رواية غيرهما، وإنما رأيت في باب ائتمام المأموم بالإِمام أربعة أحاديث أخرحها مسلم من رواية أنس وعائشة، وجابر بن عبد الله، وأبي هريرة رضي الله عنهم أما حديث أنس فلفظه
-25-

" إنما جعل الإِمام ليؤتم به فإذا كبّر فكبِّروا، فإذا سجد فاسجدوا، وإذا رفع فارفعوا وإذا قال: سمع الله لمن الحمده فقولوا ربنا ولك الحمد، وإذا صلى قعودا فصلوا قعودا أجمعون " وفي بعض طرقه عنه زيادة " فإذا صلى قائما فصلوا قياما " ولفظ حديث عائشة " إنما جعل الإِمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا " ولفظ حديث جابر " إئتموا بأئمتكم إن صلى قائما فصلوا قياما وإن صلى قاعدا فصلوا قعودا " ولفظ حديث أبي هريرة " إنما الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه، فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد وإذا سجد فاسجدوا وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعون " وفي بعض الطرق في نفس صحيح مسلم زيادة بعض ألفاظ في رواية أبي هريرة منها " إذا صلى قائما فصلوا قياما " وليس في شيء منها " وإذا قرأ فأنصتوا " ولم تأت رواية في هذا الباب عن أبي موسى الأشعري، ولست أدري أين تقع هذه الرواية التي نسبوها إليه، مع العلم أن هؤلاء الذين عزوا إخراج مسلم لهذا الحديث عن أبي موسى وتصحيحه حديث أبي هريرة معدودون في مقدمة أئمة الحديث رواية ودراية، هذا وقد أعلّ الدارقطني زيادة " وإذا قرأ فأنصتوا " الواردة في رواية سليمان التيمي عن قتادة بأن الحفاظ من أصحاب قتادة لم يذكروها منهم شعبة وهشام وسعيد بن أبي عروبة وهمام وأبو عوانة ومعمر وعدي بن أبي عمارة، قال الدارقطنى: فإجماعهم يدل على وهمه، وقد روي عن عبد الله بن عامر عن قتادة متابعة التيمي، ولكن ليس هو بالقوي تركه القطان، لكن روى بعضهم تصحيحها عن أحمد بن حنبل وابن المنذر.
-26-

ومنها حديث " من كان له إمام فقراءة الإِمام له قراءة " وهو حديث مرسل من طريق عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أسنده عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم الحسن بن عماره: وأبو حنيفه وقد ضعفهما الدارقطنى الراوى للحديث قال: وروي هذا الحديث سفيان الثوري، وشعبة وإسرائيل بن يونس وشريك وأبو خالد الدالاني وأبو الأحوص وسفيان بن عيينه وحريث ابن عبد الحميد وغيرهم عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصواب. وذكر الحافظ وغيره أنه مشهور من كلام جابر بن عبد الله موقوفا عليه، وقد رواه مالك عن وهب بن كيسان عن جابر، قال ابن عبد البر: " ورواه يحيى بن سلام، صاحب التفسير عن مالك عن أبي نعيم وهب بن كيسان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وصوابه موقوف على جابر كما في الموطأ ".

وليس في شيء مما احتجُّوا به ما يدل على صحة ما ذهبوا إليه، أما الآية الكريمة فإنها ليست نصا في الموضوع، إذ يحتمل أن تكون القراءة المقصودة فيها خارج الصلاة وهي مكية، وتحريم الكلام في الصلاة كان في المدينة، كما قال زيد بن الأرقم: وليس ببعيد أن يكون المقصود بها المشركين الذين يرفعون أصواتهم عند تلاوة القرآن حذر أن يصل إلى نفوسهم إن أنصتوا إليه فيستولى عليها، وقد رُوي مثل ذلك عن سعيد بن المسيب ويشهد له قول الله تعالى:

{ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [فصلت41: 26]

ولو سُلِّم أنها نزلت في قراءة الصلاة، فهي مخصصة بالأحاديث الناصة على وجوب قراءة الفاتحة على المأموم، والخصوص إذا ثبت قُدِّم على العموم ولو كان قرآنًا، لأن العام ظني الدلالة - وإن كان قطعي المتن - بخلاف الخصوص، وأما الأحاديث فهي أيضا عمومات محمولة على ما فوق الفاتحة، لوجوب تقديم الخاص على العام، ولا تقوى هذه العمومات على معارضة الخصوصات الصريحة الواضحة، وقد علمت ما في بعض تلك الأحاديث من مطاعن لأئمة الحديث في أسانيدها، فكيف تقوى على معارضة الروايات الصحيحة الصريحة في إيجاب تلاوة الفاتحة على كل مصلٍّ؟.

-27-

هذا وإذا ثبت الأمر بقراءة الفاتحة خلف الإِمام فإن ذلك لا يتقيد بحال سكوته إذ ليس في تلك الأحاديث ما يدل عليه، وقد اختلفت الشافعية في قراءة الفاتحة، هل تكون عند سكتات الإِمام وعند قراءته، قال الشوكاني: وظاهر الأحاديث أنها تقرأ عند قراءة الإمام، وفعلها حال سكوت الإِمام إن أمكن أحوط، لأنه يجوز عند أهل القول الأول فيكون فاعل ذلك آخذاً بالإِجماع - قال - وأما اعتياد قراءتها حال قراءة الإِمام للفاتحة فقط، أو حال قراءته للسورة فقط، فليس عليه دليل بل الكل جائز وسنة، نعم حال قراءة الإِمام للفاتحة مناسب، من جهة عدم الاحتياج إلى تأخير الإِستعاذة عن محلها، أو تكريرها عند إرادة قراءة الفاتحة إن فعلها في محلها أول وآخر الفاتحة إلى حال قراءة الإِمام للسورة. إنتهى كلامه بتصرف.

ثم ذكر الشوكاني عن بعض الشافعية أنه بالغ، فصرح بأنه إذا اتفقت قراءة الإِمام والمأموم في آية خاصة من آي الفاتحة بطلت صلاته، وذكر عن صاحب البيان من الشافعية، أنه رواه عن بعض أهل الوجوه منهم، قال: وهو من الفساد بمكان يغني عن رده، وللحافظ ابن حجر بحث قيم في هذه المسألة في الفتح، فبعد أن ذكر حديث " وإذا قرأ فأنصتوا " أتى باحتمالين في المقصود به:-

أولهما: أن الإِنصات المطلوب فيما عدا الفاتحة.

ثانيهما: أن ينصت إذا قرأ الإِمام ويقرأ إذا سكت، قال: وعلى هذا فيتعين على الإِمام السكوت في الجهرية ليقرأ المأموم، لئلا يوقعه في ارتكاب النهي، حيث لا ينصت إذا قرأ الإِمام، ثم قال: وقد ثبت الإِذن بقراءة المأموم الفاتحة في الجهرية بغير قيد، وذلك فيما أخرجه البخاري في جزء القراءة والترمذي وابن حبّان وغيرهما، من رواية مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم ثقلت عليه القراءة في الفجر.. وأورد حديث عبادة الذي ذكرناه، ثم قال: وله شاهد من حديث أبي قتادة عند أبي داود والنسائي ومن حديث أنس عند ابن حبّان.

ويمكنك بهذا استظهار رجحان القول بقراءة الفاتحة، ولو في حال قراءة الإِمام، وهو الذي عليه العمل عندنا، وذكر صاحب الإِيضاح وغيره عن بعض أصحابنا اختيار ما عليه بعض الشافعية من قراءتها في سكتات الإِمام.

وتلاوة الفاتحة في الصلاة أو في غيرها يجب أن تكون بحسب ألفاظها المنزلة، فلا تَصِح ترجمتها إلى أي لغة أخرى، كالفارسية مثلا، لأن ذلك يسلبها قرآنيتها، وذهب أبو حنيفة إلى جواز قراءتها في الصلاة وغيرها باللغة الفارسية، وهو رأي غير سديد، وقد أطال العلماء في الرد عليه، وقد كنت أرغب في بحث هذا الموضوع هنا، ولكني رجحت تأخيره إلى موضعه وهو ترجمة القرآن إلى اللغات الأخرى، وأرجو أن أوفق لذلك عندما أصل في التفسير إن شاء الله إلى الآيات التي تنص علي عربية القرآن، وقول أبي حنيفة مهجور عملا إذ لم يعمل به أي أحد حتى من أصحابه الذين يرون رأيه، وبهذا كان الإِجماع العَملي من الأمة مخالفا لرأيه، وهذا ما يسر الله إملاءه في هذا الجزء المشتمل على مقدمات مهمة في التفسير والإِعجاز، بجانب تفسير الفاتحة، أسأل الله أن يتقبله مني، وأن يجزي الخير كل من أعانني عليه، وأن يوفقني لمواصلة العمل الذي بدأته إلى نهايته، إنه سبحانه ولي التوفيق، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
-28-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #53  
قديم 01-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-8

تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-8


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.

بدل أو عطف بيان من { الصراط المستقيم } ، وإنما جاء نظم الآية بأسلوب الإبدال أو البيان دون أن يقال: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم المستقيم، لفائدتين: الأولى: أن المقصود من الطلب ابتداء هو كون المهدى إليه وسيلة للنجاة واضحة سمحة سهلة، وأما كونها سبيل الذين أنعم الله عليهم فأمر زائد لبيان فضله. الفائدة الثانية: ما في أسلوب الإبدال من الإجمال المعقب بالتفصيل ليتمكن معنى الصراط للمطلوب فضل تمكن في نفوس المؤمنين الذين لقنوا هذا الدعاء فيكون له من الفائدة مثل ما للتوكيد المعنوي، وأيضاً لما في هذا الأسلوب من تقرير حقيقة هذا الصراط وتحقيق مفهومه في نفوسهم فيحصل مفهومه مرتين فيحصل له من الفائدة ما يحصل بالتوكيد اللفظي واعتبار البدلية مساوٍ لاعتباره عطف بيان لا مزية لأحدهما على الآخر خلافاً لمن حاول التفاضل بينهما، إذ التحقيق عندي أن عطف البيان اسم لنوع من البدل وهو البدل المطابق وهو الذي لم يفصح أحد من النحاة على تفرقة معنوية بينهما ولا شاهداً يعين المصير إلى أحدهما دون الآخر.

قال في «الكشاف»: «فإن قلت ما فائدة البدل؟ قلت فائدته التوكيد لما فيه من التثنية والتكرير» ا هـ فأفهم كلامه أن فائدة الإبدال أمران يرجعان إلى التوكيد وهما ما فيه من التثنية أي تكرار لفظ البدل ولفظ المبدل منه وعنى بالتكرير ما يفيده البدل عند النحاة من تكرير العامل وهو الذي مهد له في صدر كلامه بقوله: «وهو في حكم تكرير العامل كأنه قيل: اهدنا الصراط المستقيم اهدنا صراط الذين، وسماه تكريراً لأنه إعادة للفظ بعينه، بخلاف إعادة لفظ المبدل منه فإنه إعادة له بما يتحد مع ما صدقه فلذلك عبر بالتكرير وبالتثنية، ومراده أن مثل هذا البدل وهو الذي فيه إعادة لفظ المبدل منه يفيد فائدة البدل وفائدة التوكيد اللفظي، وقد علمت أن الجمع بين الأمرين لا يتأتى على وجه معتبر عند البلغاء إلا بهذا الصوغ البديع.

وإن إعادة الاسم في البدل أو البيان لِيُبنى عليه ما يُراد تعلقه بالاسم الأول أسلوبٌ بهيج من الكلام البليغ لإشعار إعادة اللفظ بأن مدلولَه بمحلِّ العناية وأنه حبيب إلى النفس، ومثله تكرير الفعل كقوله تعالى:

{ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً } [الفرقان25: 72] وقوله:
{ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُم كَمَا غَوَيْنَا } [القصص28: 63]

فإن إعادة فعل { مروا } وفعل { أغويناهم } وتعليق المتعلِّق بالفعل المعاد دون الفعل الأول تَجِدُ له من الروعة والبهجة ما لا تجده لتعليقه بالفعل الأول دون إعادة، وليست الإعادة في مثله لمجرد التأكيد لأنه قد زيد عليه ما تعلق به. قال ابن جني في «شرح مشكل الحماسة» عند قول الأحوص:

-1-

فإذَا تزولُ تزول عن مُتَخَمِّطٍتُخْشَى بَوَادِرُه على الأَقرانِ


محالٌ أن تقول إذا قُمتَ قُمتَ وإذا أقْعُدُ أقعد لأنه ليس في الثاني غير ما في الأول وإنما جاز أن يقول فإذَا تزولُ تزولِ لما اتصل بالفعل الثاني من حَرْف الجر المفادة منه الفائدةُ، ومثله قول الله تعالى: { هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } وقد كان أبو علي (يعني الفارسي) امتنع في هذه الآية مما أخذناه ا هـ.

قلت: ولم يتضح توجيه امتناع أبي علي فلعله امتنع من اعتبار { أغويناهم } بدلاً من { أغوينا } وجعله استئنافاً وإن كان المآل واحداً. وفي استحضار المنعم عليهم بطريق الموصول، وإسناد فعل الإنعام عليهم إلى ضمير الجلالة، تنويه بشأنهم خلافاً لغيرهم من المغضوب عليهم والضالين.

ثم إن في اختيار وصف الصراط المستقيم بأنه صراط الذين أنعمتَ عليهم دون بقية أوصافه تمهيداً لبساطة الإجابة فإن الكريم إذا قلت له أعطني كما أعطيتَ فلاناً كان ذلك أَنْشَطَ لكرمه، كما قرره الشيخ الجد قدس الله سره في قوله صلى الله عليه وسلم «كما صليتَ على إبراهيم»، فيقول السائلون: إهدنا الصراط المستقيم الصراط الذين هديت إليه عبيد نعمك مع ما في ذلك من التعريض بطلب أن يكونوا لاحقين في مرتبة الهدى بأولئك المنعم عليهم، وتهمماً بالاقتداء بهم في الأخذ بالأسباب التي ارتقوا بها إلى تلك الدرجات، قال تعالى:

{ لَقَدْ كَانَ لَكُم فِيهِم أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [الممتحنة60: 6]،

وتوطئةً لما سيأتي بعد من التبرىء من أحوال المغضوب عليهم والضالين فتضمن ذلك تفاؤلاً وتعوذاً.


والنعمة - بالكسر وبالفتح - مشتقة من النعيم وهو راحة العيش ومُلائم الإنسان والترفه، والفعل كسمع ونصر وضرب. والنعمة الحالة الحسنة لأن بناء الفعلة بالكسر للهيئات ومتعلق النعمة اللذاتُ الحسية ثم استعملت في اللذات المعنوية العائدة بالنفع ولو لم يحس بها صاحبها. فالمراد من النعمة في قوله: { الذين أنعمت عليهم } النعمةُ التي لم يَشُبْها ما يكدرها ولا تكون عاقبتها سُوأَى، فهي شاملة لخيرات الدنيا الخالصة من العواقب السيئة ولخيرات الآخرة، وهي الأهم، فيشمل النعم الدنيوية الموهوبيَّ منها والكسبيَّ، والرُّوحانيَّ والجثماني، ويشمل النعم الأخروية. والنعمة بهذا المعنى يرجع معظمها إلى الهداية، فإن الهداية إلى الكسبي من الدنيويّ وإلى الأخرويّ كلِّه ظاهرة فيها حقيقة الهداية، ولأن الموهوب في الدنيا وإن كان حاصلاً بلا كسب إلا أن الهداية تتعلق بحسن استعماله فيما وُهب لأجله.

فالمراد من المنعم عليهم الذين أفيضت عليهم النعم الكاملة ولا تخفى تمام المناسبة بين المنعم عليهم وبين المهديين حينئذٍ فيكون في إبدال { صراط الذين } من { الصراط المستقيم } معنى بديع وهو أن الهداية نعمة وأن المنعَم عليهم بالنعمة الكاملة قد هُدوا إلى الصراط المستقيم. والذين أنعم الله عليهم هم خيار الأمم السابقة من الرسل والأنبياء الذين حصلت لهم النعمة الكاملة. وإنما يلتئم كون المسؤول طريق المنعم عليهم فيما مضى وكونه هو دينَ الإسلام الذي جاء من بعدُ باعتبار أن الصراط المستقيم جار على سَنن الشرائع الحقة في أصول الديانة وفروع الهداية والتقوى، فسألوا ديناً قويماً يكون في استقامته كصراط المنعم عليهم فأجيبوا بدين الإسلام، وقد جمع استقامة الأديان الماضية وزاد عليها، أو المراد من المنعم عليهم الأنبياءُ والرسل فإنهم كانوا على حالة أكمل مما كان عليه أممهم، ولذلك وصف الله كثيراً من الرسل الماضين بوصف الإسلام وقد قال يعقوب لأبنائه:
-2-

{ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُسْلِمُونَ } [البقرة2: 132]

ذلك أن الله تعالى رفق بالأمم فلم يبلغ بهم غاية المراد من الناس لعدم تأهلهم للاضطلاع بذلك ولكنه أمر المرسلين بأكمل الحالات وهي مراده تعالى من الخلق في الغاية، ولْنمثل لذلك بشرب الخمر فقد كان القدرُ غيرُ المسكر منه مباحاً وإنما يحرم السُّكر أوْ لا يحرم أصلاً غير أن الأنبياء لم يكونوا يتعاطون القليل من المسكرات وهو المقدار الذي هدى الله إليه هذه الأمة كلها، فسواء فسرنا المنعم عليهم بالأنبياء أو بأفضل أَتْبَاعهم أو بالمسلمين السابقين فالمقصد الهداية إلى صراط كامل ويكون هذا الدعاء محمولاً في كل زمان على ما يناسب طرق الهداية التي سبقت زمانَه والتي لم يبلغ إلى نهايتها.

والقول في المطلوب من { اهدنا } على هذه التقادير كلها كالقول فيما تقدم من كون { اهدنا } لطلب الحصول أو الزيادة أو الدوام.

والدعاء مبني على عدم الاعتداد بالنعمة غير الخالصة، فإن نعم الله على عباده كلهم كثيرة والكافر منعم عليه بما لا يمترَى في ذلك ولكنها نعم تحفها آلام الفكرة في سوء العاقبة ويعقبها عذاب الآخرة، فالخلاف المفروض بين بعض العلماء في أن الكافر هل هو منعم عليه خلاف لا طائل تحته فلا فائدة في التطويل بظواهر أدلة الفريقين.

{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.

كلمة غير مجرورة باتفاق القراء العشرة، وهي صفة للذين أنعمت عليهم، أو بدل منه والوصف والبدلية سواء في المقصود، وإنما قدم في «الكشاف» بيان وجه البدلية لاختصار الكلام عليها ليفضي إلى الكلام على الوصفية، فيورد عليها كيفية صحة توصيف المعرفة بكلمة (غير) التي لا تتعرف، وإلا فإن جعل { غير المغضوب } صفة للذين هو الوجه وكذلك أعربه سيبويه فيما نقل عنه أبو حيان ووجهه بأن البدل بالوصف ضعيف إذ الشأن أن البدل هو عين المبدل منه أي اسم ذات له، يريد أن معنى التوصيف في { غير } أغلب من معنى ذات أخرى ليست السابقة، وهو وقوف عند حدود العبارات الاصطلاحية حتى احتاج صاحب «الكشاف» إلى تأويل { غير المغضوب } بالذين سلموا من الغضب، وأنا لا أظن الزمخشري أراد تأويل (غير) بل أراد بيان المعنى. وإنما صح وقوع (غير) صفة للمعرفة مع قولهم: إن (غير) لتوغلها في الإبهام لا تفيدها الإضافة تعريفاً أي فلا يكون في الوصف بها فائدة التمييز فلا توصف بها المعرفة لأن الصفة يلزم أن تكون أشهر من الموصوف، (فغير) وإن كانت مضافة للمعرفة إلا أنها لما تضمنه معناها من الإبهام انعدمت معها فائدة التعريف، إذ كل شيء سوى المضاف إليه هو غير، فماذا يستفاد من الوصف في قولك مررت بزيد غير عمرو، فالتوصيف هنا إما باعتبار كون { الذين أنعمت عليهم } ليس مراداً به فريق معين فكان وزان تعريفه بالصلة وزان المعرف بأل الجنسية المسماة عند علماء المعاني بلام العهد الذهني، فكان في المعنى كالنكرة وإن كان لفظه لفظ المعرفة فلذلك عرف بمثله لفظاً ومعنى، وهو { غير المغضوب } الذي هو في صورة المعرفة لإضافته لمعرفة وهو في المعنى كالنكرة لعدم إرادة شيء معين، وإما باعتبار تعريف (غير) في مثل هذا لأن (غير) إذا أريد بها نفي ضد الموصوف أي مساوي نقيضه صارت معرفة، لأن الشيء يتعرف بنفي ضده نحو عليك بالحركة غير السكون، فلما كان من أُنعم عليه لا يعاقب كان المعاقب هو المغضوب عليه، هكذا نقل ابن هشام عن ابن السراج والسيرافي وهو الذي اختاره ابن الحاجب في أماليه على قوله تعالى:
-3-

{ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ } [النساء4: 95]

ونقل عن سيبوبه أن (غيراً) إنما لم تتعرف لأنها بمعنى المغاير فهي كاسم الفاعل وألْحَقَ بها مِثْلاً وسِوى وحَسب وقال: إنها تتعرف إذا قصد بإضافتها الثبوت. وكأن مآل المذهبين واحد لأن (غيراً) إذا أضيفت إلى ضد موصوفها وهو ضد واحد أي إلى مساوي نقيضه تعينت له الغيرية فصارت صفة ثابتة له غير منتقلة، إذ غيرية الشيء لنقيضه ثابتة له أبداً فقولك: عليك بالحركة غيرِ السكون هو غير قولك مررت بزيد غيرِ عمرو وقوله: { غير المغضوب عليهم } من النوع الأول.

ومن غرض وصف { الذين أنعمتَ عليهم } بأنهم { غير المغضوب عليهم ولا الضالين } التعوذُ مما عرض لأمم أنعم الله عليهم بالهداية إلى صراط الخير بحسب زمانهم بدعوة الرسل إلى الحق فتقلدوها ثم طرأ عليهم سوء الفهم فيها فغيروها وما رعَوْها حق رعايتها، والتبرُّؤ من أن يكونُوا مثلهم في بَطَر النعمة وسوء الامتثال وفساد التأويل وتغليب الشهوات الدنيوية على إقامة الدين حتى حق عليهم غضب الله تعالى، وكذا التبرؤ من حال الذين هُدوا إلى صراط مستقيم فما صرفوا عنايتهم للحفاظ على السير فيه باستقامة، فأصبحوا من الضالين بعد الهداية إذْ أساءوا صفة العلم بالنعمة فانقلبت هدايتهم ضلالاً.

والظاهر أنهم لم يحق عليهم غضب الله قبل الإسلام لأنهم ضلوا عن غير تعمد فلم يسبق غضب الله عليهم قديماً واليهود من جملة الفريق الأول، والنصارى من جملة الفريق الثاني كما يعلم من الاطلاع على تاريخ ظهور الدينين فيهم. وليس يلزم اختصاص أول الوصفين باليهود والثاني بالنصارى فإن في الأمم أمثالَهم وهذا الوجه في التفسير هو الذي يستقيم معه مقام الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم ولو كان المراد دين اليهودية ودين النصرانية لكان الدعاء تحصيلاً للحاصل فإن الإسلام جاء ناسخاً لهما.
-4-

ويشمل المغضوب عليهم والضالون فِرَق الكفر والفسوق والعصيان، فالمغضوب عليهم جنس للفرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد أو عن تأويل بعيد جداً، والضالون جنس للفِرَق التي أخطأت الدين عن سوء فهم وقلة إصغاء؛ وكلا الفريقين مذموم لأننا مأمورون باتباع سبيل الحق وصرف الجهد إلى إصابته، واليهود من الفريق الأول والنصارى من الفريق الثاني. وما ورد في الأثر مما ظاهره تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى فهو إشارة إلى أن في الآية تعريضاً بهذين الفريقين اللذين حق عليهما هذان الوصفان لأن كلاً منهما صار عَلَماً فيما أريد التعريض به فيه. وقد تبين لك من هذا أن عطف { ولا الضالين } على { غير المغضوب عليهم } ارتقاء في التعوذ من شر سوء العاقبة لأن التعوذ من الضلال الذي جلب لأصحابه غَضَبَ اللَّهِ لا يغني عن التعوذ من الضلال الذي لم يبلغ بأصحابه تلك الدركات وذلك وجه تقديم { المغضوب عليهم } على { ولا الضالين } ، لأن الدعاء كان بسؤال النفي، فالتدرج فيه يحصل بنفي الأضعف بعد نفي الأقوى، مع رعاية الفواصل.

والغضب المتعلق بالمغضوب عليهم هو غضبُ اللَّهِ. وحقيقة الغضب المعروفِ في الناس أنه كيفية تعرض للنفس يتبعها حركة الروح إلى الخارج وثورانها فتطلب الانتقام، فالكيفيةُ سبب لطلب الانتقام وطلب الإنتقام سبب لحصول الانتقام. والذي يظهر لي أن إرادة الانتقام ليست من لوازم ماهية الغضب بحيث لا تنفك عنه ولكنها قد تكون من آثاره، وأن الغضب هو كيفية للنفس تعرض من حصول ما لا يلائمها فتترتب عليه كراهية الفعل المغضوب منه وكراهية فاعله، ويلازمه الإعراض عن المغضوب عليه ومعاملتُه بالعُنف وبقطع الإحسان وبالأذى وقد يفضى ذلك إلى طلب الانتقام منه فيختلف الحد الذي يثور عند الغضب في النفس باختلاف مراتب احتمال النفوس للمنافرات واختلاف العادات في اعتبار أسبابه، فلعل الذين جعلوا إرادة الانتقام لازمة للغضب بنَوا على القوانين العربية.

وإذْ كانت حقيقة الغضب يستحيل اتصاف الله تعالى بها وإسنادُها إليه على الحقيقة للأدلة القطعية الدالة على تنزيه الله تعالى عن التغيرات الذاتية والعرضية، فقد وجب على المؤمن صَرف إسناد الغضب إلى الله عن معناه الحقيقي، وطريقةُ أهل العلم والنظر في هذا الصرف أن يصرف اللفظ إلى المجاز بعلاقة اللزوم أو إلى الكناية باللفظ عن لازم معناه فالذي يكون صفة لله من معنى الغضب هو لازمه، أعني العقاب والإهانة يوم الجزاء واللعنة أي الإبعاد عن أهل الدين والصلاح في الدنيا أو هو من قبيل التمثيلية.

وكان السلف في القرن الأول ومنتصفِ القرن الثاني يمسكون عن تأويل هذه المتشابهات لما رأوا في ذلك الإمساك من مصلحة الاشتغال بإقامة الأعمال التي هي مراد الشرع من الناس فلما نشأ النظر في العلم وطَلَبُ معرفة حقائق الأشياء وحدَث قول الناس في معاني الدين بما لا يلائم الحق، لم يجد أهل العلم بداً من توسيع أساليب التأويل الصحيح لإفهام المسلم وكبت الملحد، فقام الدين بصنيعهم على قواعِده، وتميز المخلص له عن ماكِره وجاحده.
-5-

وكلٌّ فيما صنعوا على هُدى. وبعد البيانِ لا يُرْجَع إلى الإجمال أبداً. وما تأوَّلوه إلا بما هو معروف في لسان العرب مفهوم لأهله.

فغضَبُ الله تعالى على العموم يرجع إلى معاملته الحائدين عن هديه العاصين لأوامره ويترتب عليه الانتقام وهو مراتب أَقصاها عقاب المشركين والمنافقين بالخلود في الدرك الأسفل من النار ودون الغضب الكراهية فقد ورد في الحديث: «ويَكْرَهُ لكم قيلَ وقال وكثرةَ السؤال»، ويقابلهما الرضى والمحبة وكل ذلك غيرُ المشيئة والإرادةِ بمعنى التقدير والتكوينِ،


واعلم أن الغضب عند حكماء الأخلاق مبدأ من مجموع الأخلاق الثلاثة الأصلية التي يعبر عن جميعها بالعدالة وهي: الحكمة والعفة والشجاعة، فالغضب مبدأ الشجاعة إلا أن الغضب يعبر به عن مبدأ نفساني لأَخلاق كثيرة متطرفةٍ ومعتدلة فيلقِّبون بالقوة الغضبية ما في الإنسان من صفات السَّبُعِية وهي حب الغلبة ومن فوائدها دفع ما يضره ولها حد اعتدال وحد انحراف فاعتدالها الشجاعة وكِبَر الهمة، وثباتُ القلب في المخاوف، وانحرافُها إما بالزيادة فهي التهور وشدة الغضب من شيء قليل والكبرُ والعُجب والشراسةُ والحِقْد والحَسَد والقَساوة، أو بالنقصان فالجبن وخور النفس وصغر الهمة فإذا أُطلق الغضب لغةً انصرف إلى بعض انحراف الغضبية، ولذلك كان من جوامع كَلِم النبي صلى الله عليه وسلم " أن رجلاً قال له أوصني قال: لا تغضب فكرَّرَ مِراراً فقال: لا تغضب " رواه الترمذي. وسُئل بعض ملوك الفرس بم دام ملككم؟ فقال: لأنا نعاقب على قدر الذنب لا على قدر الغضب. فالغضب المنهى عنه هو الغضب للنَّفس لأنه يصدر عنه الظلم والعدوان، ومن الغضب محمودٌ وهو الغضب لحماية المصالح العامة وخصوصاً الدينية وقد ورد أن النبي كان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت حرمة من حرمات الله غضب لله.

وقوله: { ولا الضالين } معطوف على { المغضوب عليهم } كما هو متبادر، قال ابن عطية: قال مكي ابن أبي طالب: إن دخول (لا) لدفع توهم عطف (الضالين) على (الذين أَنْعَم عليهم)، وهو توجيه بعيد فالحق أن (لا) مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من لفظ (غير) على طريقة العرب في المعطوف على ما في حيز النفي نحو قوله:
-6-

{ أَن تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ } [المائدة5: 19]

وهو أسلوب في كلام العرب. وقال السيد في «حواشي الكشاف» لئلا يتوهم أن المنفي هو المجموع فيجوِّز ثبوتَ أحدهما، ولما كانت (غير) في معنى النفي أجريت إعادة النفي في المعطوف عليها، وليست زيادة (لا) هنا كزيادتها في نحو:

{ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذ أَمَرْتُكَ } [الأعراف7: 12]

كما توهمه بعض المفسرين؛ لأن تلك الزيادة لفظية ومعنوية لأن المعنى على الإثبات والتي هنا زيادة لفظية فحسب والمعنى على النفي.


والضلال سلوك غير الطريق المراد عن خطإٍ سواء علم بذلك فهو يتطلب الطريق أم لم يعلم، ومنه ضالة الإبل، وهو مقابل الهُدى وإطلاقُ الضال على المخطىء في الدين أو العلم استعارة كما هنا. والضلال في لسان الشرع مقابل الاهتداء والاهتداء هو الإيمان الكامل والضلال ما دون ذلك، قالوا وله عَرض عريض أدناه ترك السنن وأقصاه الكفر. وقد فسرنا الهداية فيما تقدم أنها الدلالة بلطف، فالضلال عدم ذلك، ويطلق على أقصى أنواعه الختمُ والطبعُ والأَكِنَّةُ.

والمراد من المغضوب عليهم والضالين جنسَا فِرَق الكفر، فالمغضوب عليهم جنس للفِرق التي تعمدت ذلك واستخفت بالديانة عن عمد وعن تأويل بعيد جداً تَحمِل عليه غلبة الهوى، فهؤلاء سلكوا من الصراط الذي خط لهم مسالك غير مستقيمة فاستحقوا الغضب لأنهم أخطأوا عن غير معذرة إذ ما حملهم على الخطأ إلا إيثار حظوظ الدنيا.

والضالون جنس للفِرق الذين حرفوا الديانات الحق عن عمد وعن سوء فهم وكلا الفريقين مذموم معاقب لأن الخلق مأمورون باتباع سبيل الحق وبذل الجهد إلى إصابته والحذر من مخالفة مقاصده.

وإذ قد تقدم ذكر المغضوب عليهم وعلم أن الغضب عليهم لأنهم حادُوا عن الصراط الذي هُدوا إليه فحرموا أنفسهم من الوصول به إلى مرضاة الله تعالى، وأن الضالين قد ضلوا الصراط، فحصل شِبْه الاحتباك وهو أن كلا الفريقين نال حظاً من الوصفين إلا أن تعليق كل وصف على الفريق الذي علق عليه يرشد إلى أن الموصوفين بالضالين هم دون المغضوب عليهم في الضلال فالمراد المغضوب عليهم غضباً شديداً لأن ضلالهم شنيع. فاليهود مَثَلٌ للفريق الأول والنصارى من جملة الفريق الثاني كما ورد به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في «جامع الترمذي» وحسَّنه. وما ورد في الأثر من تفسير المغضوب عليهم باليهود والضالين بالنصارى، فهو من قبيل التمثيل بأشْهَر الفرق التي حق عليها هذان الوصفَانِ، فقد كان العرب يعرفون اليهود في خيبر والنضير وبعض سكان المدينة وفي عرب اليمن. وكانوا يعرفون نصارى العرب مثل تغلب وكلب وبعض قضاعة، وكل أولئك بدلوا وغيروا وتنكبوا عن الصراط المستقيم الذي أرشدهم الله إليه وتفرقوا في بنيات الطرق على تفاوت في ذلك.

فاليهود تمردوا على أنبيائهم وأحبارهم غير مرة وبدلوا الشريعة عمداً فلزمهم وصفُ المغضوب عليهم وعَلِقَ بهم في آيات كثيرة.
-7-

والنصارى ضلوا بعدَ الحواريين وأساءوا فهم معنى التقديس في عيسى عليه السلام فزعموه ابن الله على الحقيقة قال تعالى:

{ قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُم غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَد ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ } [المائدة5: 77].

وفي وصف الصراط المسؤول في قوله: { اهدنا الصراط المستقيم } بالمستقيم إيماء إلى أن الإسلام واضح الحجة قويم المحجة لا يَهْوى أهلُه إلى هُوة الضلالة كما قال تعالى:

{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً } [الأنعام6: 161] وقال:
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام6: 153]،

على تفاوت في مراتب إصابة مراد الله تعالى ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم " من اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد " ولم يترك بيانُ الشريعة مجاريَ اشتباه بين الخلافِ الذي تحيط به دائرة الإسلام والخلافِ الذي يَخرج بصاحبه عن محيط الإسلام قال تعالى:


واختلف القراء في حركة هاء الضمير من قوله: { أنعمت عليهم } ، وقوله: { غير المغضوب عليهم } ، وما ضاهاهما من كل ضمير جمع وتثنية مذكر ومؤنث للغائب وقع بعد ياء ساكنة، فالجمهور قرأوها بكسر الهاء تخلصاً من الثقل لأن الهاء حاجز غير حصين فإذا ضمت بعد الياء فكأن ضمتها قد وليت الكسرة أو الياء الساكنة وذلك ثقيل وهذه لغة قيس وتميم وسعد بن بكر. وقرأ حمزة عليهم وإليهم ولديهم فقط بضم الهاء وما عداها بكسر الهاء نحو إليهما وصياصيهم وهي لغة قريش والحجازيين. وقرأ يعقوب كل ضمير من هذا القبيل مما قبل الهاء فيه ياء ساكنة بضم الهاء. وقد ذكرنا هذا هنا فلا نعيد ذكره في أمثاله وهو مما يرجع إلى قواعد علم القراءات في هاء الضمير.

واختلفوا أيضاً في حركة ميم ضمير الجمع الغائب المذكر في الوصل إذا وقعت قبل متحرك فالجمهور قرأوا: { عليهم غير المغضوب عليهم } بسكون الميم وقرأ ابن كثير وأبو جعفر وقالون في رواية عنه بضمة مشبعة: { غير المغضوب عليهمو } وهي لغة لبعض العرب وعليها قول لبيد:

وهمو فوارسها وهمْ حكامها


فجاء باللغتين، وقرأ ورش بضم الميم وإشباعها إذا وقع بعد الميم همز دون نحو: { غير المغضوب عليهم } وأجمع الكل على إسكان الميم في الوقف.
-8-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #54  
قديم 01-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 34

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 34


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


قوله جل اسمه:

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }

صفة للأول أو بدلٌ عنه بدل الكلّ

والفرق بين الصفة والبدل، أنّ البدل في حكم تكرير العامل من حيث انّه المقصود بالنسبة، كتكرير الجار في قوله تعالى:

{ قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ } [الأعراف7: 75].

بخلاف الصفة، فكأنّه قال: اهدنَا صراطَ الذين أنعمت عليهم. وفائدته التوكيد المنفهم من التثنية، والتنصيص على أنّ طريق المؤمنين هو المشهود عليه بالاستقامة المُفضي لسالكه إلى المطلوب على أبلغ وجه وآكده، فإنّك إذا قلت مثلاً: " هل ادلّك على أعلم الناس وأفضلهم؛ فلان " فكأنّك قد ثنّيت ذكرَه أولاً إجمالاً، وثانياً تفصيلاً، وجعلت اسمه كالتفسير والبيان لنعته المذكور، أولاً إشعاراً بأنّه من البيّن الذي لا خفاء فيه، فجعلته علَماً في العِلم والفضيلة فيكون ذلك أبلغ من قولك: هل أدلّك على فلانٍ الأعلم الأفضل.


فها هنا قد وقع الإشعار بأن الطريق المنعوت بالاستقامة هو طريق المؤمنين المنعَم عليهم على أبلغ الوجوه وآكده.

و " الذين " موصول و " أنعمت عليهم " صلته. وقد تمّ بها إسماً مفرداً يكون في موضع الجرّ باضافة صراطٍ اليه، ولا يقال في موضع الرفع " اللذون " لأنّه اسم غير متمكّن.

وقد حكى ذلك شاذاً، كما حكي " الشياطون " في حال الرفع، وقرأ عمر بن الخطاب وعمرو بن عبد الله الزبيري: صراط من أنعمت عليهم، وهو المروي عن أهل بيت النبيّ عليه وعليهم السلام.

وقيل: المراد بالمنعَم عليهم هم الأنبياء. وقيل: النبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته (عليهم السلام). وعن ابن عباس: هم أصحاب موسى (عليه السلام). وقيل: أصحاب موسى وعيسى (عليهما السلام) قبل التحريف والنسخ.

وقرأ ابن مسعود: صراطَ من أنعمت عليهم.

وأصل النَعمة، هي الحالة التي يستلذّها الإنسان، فاطلقت لما يستلذّه من النَعمة وهي اللّين.

وفي مجمع البيان: أصلها المبالغة والزيادة يقال دققت الدواء فأنعمت دقّة.

وأما ما يراد في العرف من النعمة، ويسمى به، فكلّ خير ولذّة وسعادة، بل كلّ مطلوب ومؤثَر يسمّى نَعمةً عند الناس، وهذه تختلف بالإضافة، فَرُبّ نعيم لأحد يكون أليماً لآخر.

وأما النعمة الحقيقية، فهي السعادة الأخرويّة، وأصلها المعرفة بالله وملكوته، ولها صورةٌ وروحٌ وسرٌّ، فصورتها الإسلام والإذعان، وروحها الايمان والإحسان، وسرّها التوحيد والايقان.

فحكم الاسلام متعلّقٌ بظاهر الدنيا، والايمان بباطنها وباطن النشأة الظاهرة، والإحسان للحكم البرزخي ونشأته، وإليه الاشارة بقوله (صلّى الله عليه وآله): " الإحسانُ أن تعبدَ الله كأنكَ تَراه " ، هذا هو المشهود في الاستحضار البرزخي، وسرّ التوحيد وعين اليقين مختصّ بالآخرة، فافهم ما أدرجتُ لك من أسرار الشريعة في طيّ هذه الكلمات الوجيزة، تعلم أنّ كلّ شيء فيه كلّ شيء والله المرشد.
-1-

وقد يكون اسم النعمة لغيرها صدقاً، ولكن من حيث يفضي إلى النعمة الحقيقيّة من الأسباب المعينة واللذّات المسماة نعمة مما نوضحها ونشرحها بهذه التقاسيم.

القسمة الأولى: إن الأشياء كلّها بالاضافة إلينا على أربعة اقسام: الضروري النافع، والنافع الغير الضروري، وعكسه، والذي لا ضرورة فيه ولا نفع.

أما الأول: فهو إما في الدنيا، وهو كالنَفس، فإنه لو انقطع منك لحظةً واحدة مات القلبُ. وإما في الآخرة، وهو معرفةُ الله فإنها إن زالت عن القلب المعنوي لحظة مات القلبُ واستوجب العذاب الابدي.

وأما الثاني: فهو كالمال في الدنيا، وسائر العلوم والمعارف في الآخرة.

وأما الثالث: فهو كالمضارُ التي لا بدّ منها، كالموت والهرم والمرض، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة، فإن منافع تلك الدار لا يلزمها شيء من المضارّ.

وأما الرابع: فهو كالفقر في الدنيا، والجهل والعذاب في الآخرة.

إذا عرفت هذا التقسيم فنقول: أعظم نِعَم الله علينا الهداية بالمعرفة، فإنّا قد ذكرنا أنّه كما انّ النَفَس في الدنيا ضروريٌّ نافع، وبانقطاعه يموت القلب، فكذا المعرفة في الآخرة، فلو زالت عن القلب لحظة لهلَك، لكن الموت الأول أسهل من الثاني، لأنّه لا يتألّم فيه إلا ساعة واحدة، وأما الموت الثاني فإنّه يبقى أبد الآباد فأى نعمة أعظم وأشرف من نعمة الايمان.

ثمَّ ها هنا دقيقة؛ لا تخفى عليك انّه كما انّ التنفّس له أثران: إدخال النسيم الطيّب على القلب، وإبقاء اعتداله وسلامته، وإخراج الهواء الفاسد الردي الحارّ المحترق عن القلب؛ كذلك الفكر، له أثران: أحدهما: ايصال نسيم الحجّة وروح البرهان وبرْد اليقين الى القلب الحقيقي، وابقاء اعتدال الايمان والمعرفة عليه، والثاني: إخراج الأهوية الفاسدة والإعتقادات المؤلمة المتولَّدة من نيران الشبهات عنه، وما ذلك إلاّ بأن يعرف أنّ هذه المحسوسات الدنيويّة فانية منتهية إلى الفناء بعد وجودها، فمَن وقفَ على هذا علم إنّ أجلّ ما أنعمه الله على عبده، تجريده عن المحسوسات، وتنوير قلبه بالمعارف الإلهيات.

الثانية: إنّ الأمور كلّها بالنسبة إلينا تنقسم الى ما هو نافع في الدنيا والآخرة جميعاً كالعلم وحُسْن الخُلْق، وإلى ما هو ضار فيهما كالجهل وسوء الخُلْق، وإلى ما ينفع في الحال ويضرّ في المآل كالتلذّذ باتّباع الشهوات، وإلى ما هو عكس ذلك كقمْع الشهوات ومخالفة النفْس.

الثالثة: إعلم أنّ النعم والخيرات باعتبار آخر، تنقسم الى ما هي مؤثَرة لِذَاتها، وإلى ما هي مؤثَرةٌ لغيرها، وإلى ما هي مؤثرة لذاتها ولغيرها.

فالأول: كلذّة النظر إلى وجه الله، وسعادة لقائه، وبالجملة سعادة الآخرة التي لا انقضاء لها، فإنّها لا تُطلب ليُتوصّل بها الى غاية اخرى مقصودةٍ وراءَها، بل تطلب لِذَاتِها.

والثاني: كالدراهم والدنانير، إذ لا فائدة فيها إلاّ كونها وسيلةً لأمر آخر.
-2-

الثالث: كالصّحة والسلامة، فإنّها تقصد ليقدر بسببها على التفكّر والتذكّر الموصلَين الى لقاء الله، وليتوصّل بها إلى الذّات الدنيا، وتقصد أيضاً لِذاتِها، فإنّ الإنسان وإن استغنى عن المشي الذي يراد سلامة الرِجْل لأجله، فيريد أيضاً سلامة الرِجْل من حيث إنّها سلامة، لأنها أمر وجودي بلا ضرر، فيكون مطلوباً، إذ الوجود الذي لا ضرر فيه خيرٌ محض مؤثر لذاته. فاذن المؤثر لِذَاتِهِ فقط هو الخير والنعمة تحقيقاً، وما يؤثَر لذاته ولغيره فهو نعمة أيضاً، ولكن دون الأول، إذ المؤثَر لأجل أمر آخر لا يخلو من نقص، لأن ما لا نقص له أصلاً لو أريد لشيء آخر - ولو بوجه - لكان ذلك الشيء خيراً منه من ذلك الوجه، فلم يكن بريئاً من كل نقص بكلّ وجهٍ، وقد فرضنا كذلك وهذا خُلْفٌ، وأما ما لا يؤثَر إلا لغيره كالنقدين، فلا يوصفان في أنفسهما من حيث إنّهما جوهران بأنّهما نعمة، بل من حيث هما وسيلتان، وربما لا يكونان وسيلة في حق بعض بل بلاء وآفة، فلا يكونان نعمة، وكذلك أمور هذا العالَم.

الرابعة: إنّ الخيرات باعتبار آخر، تنقسم إلى نافعٍ وجميلٍ ولذيذٍ، فاللذيذُ هو الذي تُدرك راحته في الحال، والنافع هو الذي يفيد في المآل، والجميل هو الذي يستحسن في سائر الأحوال.

والشر أيضاً قد ينقسم إلى ضارّ وقبيح ومؤلم، وكل واحد من القسمين ضربان: مطلقٌ ومقيّد. فالمطلق؛ هو الذي اجتمعت فيه الأوصاف الثلاثة، أما في الخير فكالعلم والحكمة، فإنّها نافعة وجميلة ولذيذة عند أهل العلم والحكمة، وأما في الشرّ فكالجهل المركّب، فإنّه ضارّ وقبيح ومؤلم، وإنّما لا يحس الجاهل بألم جهله، لشواغل الدنيا وغطاء الطبيعة. والمقيّد؛ هو الذي فيه بعض هذه الأوصاف دون بعض.

فربّ نافعٍ مؤلمٍ كقطع الإصبع المتآكلة، وربّ نافع قبيح كالحُمق، فإنّه يوجب استراحة الأحمق في الحال إلى أن يجيء وقتُ هلاكه في المآل، ولذلك قيل: استراح من لا عقل له.

الخامسة: وهي الحاوية لمجامع النعم. اعلم أنّ النعَم تنقسم إلى ما هي غاية مطلوبة لذاتها، وإلى ما هي مطلوبة لغيرها. أما الغاية فهي السعادة، ويرجع حاصلها إلى أربعة أمور: بقاءٌ لا فناء له، وسرورٌ لا غمّ فيه، وعلمٌ لا جهل معه، وغنىً لا فقر معه؛ وهي النعمة الحقيقية. وغيرها يراد لأجلها ولذلك قال النبي (صلّى الله عليه وآله): " لا عيش إلاّ عيش الآخرة ".

وأما الوسائل؛ فتنقسم الى الأقرب الأخصّ، كفضائل النفس. وإلى ما يليه في القُرب، كفضائل البدن. وإلى ما يليه في القُرب ويجاوز إلى غير البدن كالأسباب المطيفة بالبدن من المال والأهل والعشيرة. والى ما يجمعُ بين هذه الأسباب الخارجة عن النفس وبين الحاصلة لها، كالتوفيق والهداية. فهي إذن من أربعة أنواع.
-3-

أما النوع الأول: فيرجع حاصلها - مع انشعاب أطرافها - إلى الايمان والعدالة. أما الايمان فهو العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأما العدالة وهي حسن صورة الباطن، فعبارة عن تهذيب الأخلاق، وتصفية القلب عن الرذائل، وصرْف القُوى الشهويّة والغضبية والوهميّة فيما خلقت لأجله حتى يكون شجاعاً لا متهوّراً، ولا جباناً، ويكون عفيفاً لا فاجراً ولا خاملاً، ويكون حكيماً لا مكّاراً ولا أبله، فالفضائل المختصّة بالنفس المقرّبة الى الله علم مكاشفة وعلمُ معاملةٍ، وحسْن خُلْقٍ وحُسْن سياسةٍ. ولا تتمّ هذه النعمة في غالب الأمر إلاّ بالنوع الثاني وهي الفضائل البدنيّة. وهي أربعة: الصحّة، والقوّة، والجمال، وطول العمْر، ولا تتهيّأ هذه الأمور البدنيّة إلا بالنوع الثالث وهي النعم الخارجة المطيفة بالبدن وهي أربعة: المال والأهل والجاه وكرم العشيرة. ولا يُنتفع بشيء من هذه الأسباب الخارجة البدنيّة إلاّ بالنوع الرابع من النعم، وهي أربعة: هداية الله ورشده وتسديده وتأييده.

فمجموع مجامع النعم ستّة عشر، وهذه الجملة يحتاج البعض منها إلى الآخر، إمّا حاجة ضروريّة، أو نافعة. ولو أخذنا في بيان الحاجة لطريق الآخرة إلى كلّ واحد واحد من الأقسام التي ذكرناها من النعم النفسية والبدنيّة والخارجة عنها كالمال والجاه والأهل والنسب، لطال الكلامُ، لكن أخفى النعم البدنية في كونها محتاجاً إليها هو الجمال، وأخفى النعم الخارجة في ذلك هو النسب، فلنبيّن وجهَ الحاجة إليهما.

أما الجمال؛ فلا يخفى نفعه في الدنيا، فإنّ الطبائع من القبيح مستنفرة، وحاجات الجميل أقرب الى الإجابة، وجاهه أوسع في الصدور، وكلّ معينٍ في الدنيا معينٌ في الآخرة، ولأن الجمال في الأكثر يدلّ على فضيلة النفس، لأن نور النفس إذا تمّ اشراقُه تأدّى الى البدن، فالمنظَر والمخبَر كثيراً ما يتلازمان، ولذلك عوّل أصحابُ الفراسة في معرفة مكارم النفس على هيئات البدن وقالوا: الوجهُ والعين مرآة الباطن، وقيل: الروح إن أشرقَ على الظاهر فصباحةٌ، وإن أشرقَ على الباطن ففصاحةٌ. ولذلك قال (صلّى الله عليه وآله): " اطلبوا الخيرَ عند حِسان الوجوه " وقال الفقهاء: إذا تساوت درجاتُ المُصَلّين، فأحسنهم وجهاً أولاهم بالامامة. وقال سبحانه ممتناً بذلك:

{ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ } [البقرة2: 247].

وليس المعنى ما يحرّك الشهوة، فإنّ ذلك أنوثيّة، بل تناسب الأعضاء واعتدال الخِلقة.


وأمّا النَسَب، فكرم العشيرة نعمة جليلة، ولذلك قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) " الأئمّةُ من قريش " ، ولذلك كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) من أَكْرم ارُومَة في نسب آدم. ولذلك قال (صلّى الله عليه وآله): " تخيَّروا لنُطفِكم " ، وقال: " وإيّاكم وخضْراءُ الدمن فقيل: وما خضراءُ الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء ".

فإن قلت: فما معنى النعم التوفيقية الراجعة إلى الهداية والرشد والتأييد والتسديد؟. فنقول: التوفيق، عبارة عن التأليف بين إرادة العبد وبين قضاء الله وقدَره، ويستعمل في الخير والسعادة، ولا خفاء في الحاجة إليه، ولذلك قيل:
-4-

إذا لم يكن عونٌ من الله للفتىفأكثر ما يجني عليه اجتهاده


وأمّا الهداية، فلا سبيل لأحد الى سعادة الآخرة إلاّ بها، لأن داعية الإنسان قد تكون مائلةً إلى ما فيه صلاح آخرته، ولكن إذا كان جاهلاً به فمِن أين ينفعه مجرد الإرادة؟ فلا فائدة في الإرادة والقُدرة وسائر الأسباب إلاّ بعد الهداية، ولذلك قال تعالى:


وللهُدى ثلاث مراتب:

الأولى: معرفة طريق الخير والشرّ المشار إليه بقوله تعالى:

{ وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد90: 10].

وقد أنعم الله به على كافّة الخَلْق، بعضه بالعقل، وبعضه على لسان الكتب والرسل ولذلك قال:

{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت41: 17].

فأسباب ٱلهدىٰ هي الكتب والرسل وبصائر العقول، وهي مبذولة للجميع، ولهذا كُلّفوا بتكليف واحدٍ، وتساووا في أسباب سلوك طريق النجاة بهذه الهداية العامّة.


المرتبة الثانية: هي التي يمدّ الله بها العبد حالاً بعد حالٍ، وهي ثمرة المجاهدة حيث قال:


والمرتبة الثالثة: وراء الثانية، وهي النور الذي يشرق في عالَم الولاية بعد كمال المجاهدة، فيهتدي بها الى ما لا يهتدى إليه بالعقل الذي يحصل به التكليف، وامكان تعلّم العلوم، وهو الهُدى المطلق، وما عداه حجابٌ له، ومقدمات، وهو الذي شرّفه الله تعالى بتخصيص الإضافة إليه، وإن كان الكلّ من جهته فقال:

{ قُلْ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلْهُدَىٰ } [البقرة2: 120].

وهو المسمّى حياة في قوله:


ووجه انحصار مراتب الهدى في الثلاث: انّ كلّ مقامٍ من مقامات الايمان ومنزلٍ من منازل السالكين ينتظم من أمورٍ ثلاثة: أعمال، وأحوال، وأنوار هي معارف. ولا بدّ لكلّ منها من هداية تخصّ به.

وأما الرشد، فيعني به العناية الإلهيّة التي تعين الإنسان عند توجّهه إلى مقاصده فيقوّيه على ما فيه صلاحه، ويفترّه عمّا فيه فسادُه، ويكون ذلك من جانب الباطن كما قال تعالى:

{ وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [الأنبياء21: 51].

فالرشْد عبارة عن هداية باعثة الى جهة السعادة، محرّكة للعبد إيّاها، فهو بهذا الاعتبار أكمل من مجرّد الهداية الى وجوه الأعمال، وكم من مهتدٍ غير رشيدٍ، فهي نعمةٌ عظيمة.


وأمّا التسديد؛ فهو توجيه حركاته الى صوب المطلوب، وتيسيرها عليه ليشتدّ في صوب الصواب في أسرع وقت، فكما أنّ أصل الهداية لا يكفي، بل لا بدّ من هدايةٍ محركّةٍ للداعية، وهي الرشد، فكذا الرشْدُ، لا يكفي، بل لا بدّ من تيسير الحركات بمساعدة الآلات حتّى يتّصلَ بما انبعثت الداعية إليه، فالهداية محض التعريف، والرشد هو تنبية الداعية لتستيقظ وتتحرك، والتسديد إعانة ونُصرة بتحريك الأعضاء في صوب السداد.
-5-

وأمّا التأييد؛ فكأنه جامع للكلّ، وهو عبارة عن تقوية أمره بالبصيرة من داخل، وتقوية البطش ومساعدة الأسباب من خارج، وهو المعنيّ بقوله تعالى:


وتقرُبُ منه العصمة، وهي عبارة عن جوهر إلهي يسنح في الباطن، يقوى به الإنسان على تحرّي الخير وتجنّب الشرّ، حتّى يصير كمانع من باطنه غير محسوس، وإيّاه عنى بقوله:

{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } [يوسف12: 24].


فهذه هي مجامع النعم، ولن تستتبّ إلاّ بما يخوّله الله من الفهم الثاقب، والذهنا الصافي، والسمع الواعي، والقلب البصير، والطبع المتواضع، والمعلّم الناصح، والمال الزائد على ما يقصر عن المهمات بقلّته، القاصر عمّا يشغل عن الدين بكثرته، والعزّ الذي يصونه عن سفه السفهاء وتسلّط الأعداء، ويستدعي كلّ واحد من هذه النعم الستة عشر أسباباً، وتستدعي تلك الأسباب أسباباً، وهكذا إلى أن تنتهي بالآخرة إلى مسبّب الأسباب وربّ الأرباب، دليل المتحيّرين ملجأ المضطرّين.

وإذا كانت تلك الأسباب متسلسلة طويلة لا يمكن الاستقصاء فيها، فلنصرف عنان القلم عن ذكرها لخروجها عن الحصر والإحصاء، فإنّ صحّة البدن من جملتها نعمة من النعم الواقعة في الرتبة المتأخّرة، ولو أردنا أن نستقصي الأسباب التي بها تمّت هذه النعمة، لم نقدر عليها، لأنّ الأكل مثلاً، أحد أسباب الصحّة، وهو متوقّف على أسباب غير محصورة بها تتمّ نعمة الأكل، إذ لا يخفى انّ الأكْل فِعْلٌ، وكل فعَلٍ من هذا العالَم حركة إرادية، وكل حركة إرادية لا بدّ لها من جسمٍ متحرّك هو آلتها، ولا بدّ لها من قدرة على الحركة، ولا بدّ لها من إرادة والإرادة متوقّفة على العلم بالمراد، والعلم صورة نفسانيّة ونقش باطنيّ لا بدّ لها من قابل ومنقوش به، وهو لوح النفس، ومن فاعل ناقش، وهو مَلَك روحانيٌ مستفيد من مَلَك فوقه، وهكذا إلى مالك الملكوت.

ثمّ لا بدّ للآكْل من مأكول، وهو جسمٌ مركب من أصول متخالفة الطبائع والأمكنة والأحوال، ولا بدّ لها من أسباب تجمعها وتجبرها على الالتيام، وتحفظها على مزاج تتهيّأ صورة التمام، ولا بدّ لتلك الأصول من أمكنة تتكوّن فيها، وجَهاتٍ تتوجّه إليها عند خروجها، وأزمنةٍ تتحرّك فيها، ولا بدّ للأمكنة والأزمنة الموجودة للأجسام المستقيمة الحركة من محدّد مطيف بها تتعيّن به جهات أمكنتها، وحدود أزمنتها، فيكون المحدد من جنس جملة الأجرام الأكريّة الدائمة الحركة إلى أن يشاء الله.

ولا بدّ لها من أسباب محرّكة على سبيل المباشرة والمزاولة، ولأسبابها أسباب اخرى محرّكة على سبيل التشويق والامداد والعناية، إذ ليست حركتها شهويّة أو غضبيّة لتكون حيوانيّة محضة، ولا مجازفة أو وهميّة محضة طلباً لثناءٍ أو حُسْنِ ذكْر أو صيت، أو نفعاً للسافل، بل حركة شوقيّة علويّة، وخدمة إلهيّة، وطاعة ربّانية، فلها ملائكة تديرها، وفوقها ملائكة أخرى تدبّرها وتشوّقها طلباً لبارئ الكلّ وتشوّقاً إليه، وطاعة له على وجه يلزمها رشح الخَير الدائم على الأداني والأسافل.
-6-

ثمّ لا بدّ للمأكول من صانعٍ يُصلحه، ولا بدّ من أسباب لإصلاحه، من أرضٍ ينبت فيها، وهواءٍ يصلح لها، وحرارةٍ تنضجها، وماء يسقيها، والماء لا يتحرّك بنفسه من مكانه كالبحْر، فلا بدّ لحركته من أسباب، بعضها طبيعيّة عنصريّة، وبعضها نفسانيّة فلكيّة، وبعضها قدَرية إلهيّة، كما يعلمه العلماء الإلهيّون، ولذلك قال:


ثمّ لا يكفي وجود الماء والتراب والهواء، إذ لو تُركت الحبَّة في أرض نديّة صُلبة لم تنبت، لفقْد نفوذ الهواء في باطنها، فلا بدّ من أرضٍ متخلخلة مشقوقة لدخول الماء فيها وخروج النبت منها، لا يتمّ شيء منها إلاّ بأسباب علويّة وراء أسباب سفليّة منتهية إلى الله، كما قال:

{ ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً *فَأَنبَتْنَا فِيهَا } [عبس80: 26 - 27] الآية.

ولا بدّ أيضاً لحركة الهواء في باطن الأرض من محرّكٍ شديدٍ يحرّكه ويَضربُه بعُنفٍ على الأرض حتّى ينفذ فيها، فيحتاج بمثْل ما ذكرنا الى أسباب منتهيةٍ الى الله تعالى، كما أشار إليه بقوله:


فانظر في نعم الله في خلْق البحار والأمطار، وتحريك السُحب إلى أرض الزراعة، ثمّ الأرض، ربما كانت مرتفعةً والمياه لا ترتفع إليها، فانظر كيف خلَق الله الغيومَ فسلّط الرياح عليها ليسوقها بإذنه إلى أقطار العالَم وهي سُحبٌ ثِقالٌ بالماء، ثمّ انظر كيف يرسله مدراراً على الأرض. ثمّ انظر كيف خلَق الجبال حافظةً للمياه تنفجر منها العيون والأنهار تدريجاً، فلو خرجت دفعة، لخربت البلاد، وهلكت الزروع والمواشي.

وأما الحرارة، فإنّها لا تنزل من الأثير بطبيعتها، ولا تحصل من الماء والأرض وهما باردان؛ فانظر كيف سخَّر الشمس، وكيف أسكنها الله في موضعٍ لائقٍ لا يتضرّر أهلُ الأرض بقُربها المفرط للتحليل والتسخين، ولا ببُعدها المفرط للتجميد والتبريد، وجعلها دائرة حول الأرض شمالاً في فصل، وجنوباً في فصل، ومتوسّطاً فيما بينهما في فصلين آخرين من الفصول الأربعة، لتنتفع بها جميعُ النواحي، وتتسخّن بها في وقت دون وقت، فيحصل البرْد عند الحاجة إليه، والحرارة عند الحاجة إليها، فهذه إحدى حِكَم الشمس، والحِكَم فيها أكثر من أن يحصى.

وكذا في القمر الذي هو كالخليفة لها، وكذا سائر الكواكب مع انّها في أنفسها موجودات شريفة مطيعة لله تعالى، خُلقَت للخدمة والطاعة لله، والتقرّب اليه في صلواتها الدائمة، وسجودها وركوعها، ولو لم تكن كذلك، لكان خلْقها عبثاً وباطلاً، ولم يصح قوله تعالى:
[الدخان44: 38]. وقوله:
{ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران3: 191].


ولهذا لما نظر رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله) إلى السماء، قرأ هذه الآية ثمّ قال: " ويلٌ لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته.. " معناه أن يقرأها ويترك التأمّل في أحوال ملكوت السماء، ويقتصر من فهْم ملكوت السموات على أن يعرف لونَ الفلك وضوءَ الكواكب، وذلك مما يشترك في معرفته الدوابّ أيضاً.

فللّه في ملكوت السموات والأرض والآفاق والأنفس عجائب عظيمة يطلب معرفتها المحبّون لله، المشتاقون إلى لقائه. فإنّ من أحبّ عالِماً فلا يزال مشغوفاً بطلب تصانيفه ودقائق معانيه.

فكذلك الأمر في عجائب صنع الله وملكوت بدائعه، فإنّ العالَم كلّه من تصنيفه، بل تصنيف المصنفّين من تصنيفه الذي صنّفه بواسطة قلوب عباده، فلا يتعجّب من المصنّف بل من الذي سخّره لتأليفه بما أنعم عليه من هدايته وتعليمه، وإرشاده وتسديده. فالمقصود؛ أنّ غذاء النبات الذي يتوقّف عليه غذاء الإنسان، لا يتمّ بالعناصر الأربعة والشمس والقمر والكواكب، ولا تتمّ تلك إلاّ بالأفلاك التي مركوزة فيها، ولا تتمّ الأفلاك إلاّ بحركاتها. ولا تتمّ حركاتها إلاّ بملائكة سماويّة يحرّكونها، وكذلك يتمادى إلى أسباب بعيدةٍ تركنا ذكرَها تنبيهاً بما ذكر على ما اهمل.

روى الشيخ الجليل محمد بن عليّ بن بابويه القمّي رحمه الله في عيون أخبار الرضا مسنداً عن الإمام محمد بن علي، عن أبيه الرضا عليّ بن موسى، عن أبيه موسى بن جعفر بن محمّد، عن جده (عليهم السلام). قال: دعا سلمانُ أبا ذرَ رحمة الله عليهما إلى منزله، فقدّم إليه رغيفين، فأخذ أبو ذر الرغيفين يقلّبهما، فقال سلمان: يا أبا ذر، لأيّ شيء تقلّبهما؟ قال: خفتُ ألاّ يكونا نضيجين. فغضبَ سلمانُ من ذلك غضباً شديداً، ثم قال: ما أجرأك حيث تقلّب هذين الرغيفين، فوالله لقد عمِل في هذا الخبز الماءُ الذي تحت العرش، وعملت فيه الملائكةُ حتى ألقوه الى الريح، وعملت فيه الريحُ حتّى ألقته الى السحاب، وعمل فيه السحابُ حتّى أمطره الى الأرض، وعمل فيه الرعدُ والملائكةُ حتّى وضَعوه مواضعَه، وعملت فيه الأرضُ والخشبُ والحديدُ والبهائمُ والنارُ والحطَبُ والمِلحُ وما لا أحصيه أكثر، فكيف لك أن تقوم بهذا الشكر؟ فقال أبو ذر: إلى الله أتوبُ، وأستغفر الله مما أحدثتُ، وإليك اعتذر مما كرهت.

فهذا من نعم الله في خلْق الأسباب لأجل غذاء النبات، ولا يخفى أنّ ما ذكرناه بعض من أسباب غذائه الجليّة منها، إذ قد طوَينا ذكرَ تفاصيل القوى النباتيّة الباطنة عن الأبصار، كالغاذية مع فروعها - من الجاذبةِ والماسكةِ والهاضمةِ والدافعةِ - وكالنامية مع خدمها، والمولّدة مع جنودها ولَواحِقها. ولكلّ منها مواضع وأسباب وملائكة تسخّره وتحرّكه لأجل فعله المخصوص، لو أردنا ذكرَها لأدّى الى التطويل قبل حصول الاستقصاء فيها، فلنصرف عن ذكرها، ولنذكر شيئاً من نعمه تعالى في خلْق الأسبابِ الموصلة للأطعمة إلى جوف الإنسان.
-8-

فمنها الإدراك والحركة، فمن نعم الله عليك أن خلَق لك آلة الإحساس وآلة الحركة في طلب الغذاء، فانظر الى ترتيب حكمته في خلق الحواسّ الخمس التي هى آلة للادراك.

فأولها حاسّة اللمس، التي تعمّ الحيوانات، لكونها واقعة في عالَم الأضداد، فيقع بها الاحتراز عن الحرّ الشديد والبرْد الشديد مثلاً، وخصوصاً في الأكل، وهذه لا تكفي لاقتصار إدراكها على القريب، ولا تقدر بها على طلب الغذاء من حيث يبعُد عنك. فافتقرتَ الى حسّ تدرك به ما بعُد عنك، فخلَق الله فيك حسّ الشمّ، إلاّ انّك تدرك به الرائحة ولا تدري انّها جاءت من أيّ ناحية، فتحتاج الى أن تطوف كثيراً من الجوانب، فخلَق لك البصَر لتدرك ما بعُد عنك وجهته معاً فتقصده، ولا تدرك به ما وراء الجدران والحجب، فخلَق لك السمْع حتّى تدرك به الأصوات من وراء الجِدار عند جريان الحركات، ولأنّك لا تدرِك بالبصَر إلاّ موجوداً حاضراً وأمّا الغائب فلا يمكنكَ معرفته إلاّ بكلام ينتظم من حروف وأصوات، فأنعم الله عليك بهذه الحاسّة، وميّزك بفهْم الكلام عن سائر الحيوانات.

وكلّ ذلك ما كان يغنيكَ لو لم يكن لكَ حسُّ الذوق لتدرك أنّ غذاءك موافق لك أو مخالف فتأكله فتهلك، ثمّ هذه كلّها لا تكفيك لو لم يخلق في مقدّم دماغك حسّ آخر يجتمع عنده مدركات هذه الخمس، فتحتاج الى هذا الحسّ، وإلى الحافظة لتحفظ عندك صورة ما ادّخرته من الغذاء الى وقت الحاجة، وإلى مدرك للمعاني المتعلّقة بأفراد نوعك وجنسك التي تحتاج الى صداقتها ودفع عداوتها في تحصيل الغذاء الذي يحصل لك بالصناعة لا بالطبيعة، وإلى حافظٍ لها، وإلى متصرّفٍ فيها وفي الصور المخزونة بالتفصيل والتركيب والاستحضار، وهذه كلّها تشاركك فيها الحيوانات.

فلو لم يكن لك إلا هي لكنتَ ناقصاً لعدم ادراكك عواقب الأمور، فميّزك الله وأكرمك بصفةٍ أخرى هي أشرف من الكلّ وهو العقل، فتدرك مضرّة الأطعمة ومنفعتها الجليّة والخفية بحسب الحال والمآل جميعاً.

وبه تدرك كيفيّة طبخ الأطعمة وإصلاحها، وذلك أخسّ فوائد العقل، وأقلّ الحكمة في انشائه، بل الحكمة الكبرى فيه معرفة الله، ومعرفة أفعاله، ومعرفة الحكمة في عالمه.

وعند ذلك تنقلب فوائدُ الحواسّ في حقك إلى ما ينفعك في طلب الخَير الأقصى، فتكون الحواسّ الخمس كالجواسيس وأصحاب الأخبار والموكّلين بنواحي المملكة لاقتناص الأخبار المختلفة من الأقطار، وتسليمها إلى الحسّ المشترك القاعد في سرير مقدّم الدماغ، كصاحب القصص والكتب للملك، فيأخذها وهي مختومة إذ ليس له إلاّ اخذها وحفظها، وأما حقائق ما فيها فلا، ولكن الملك يسلّم إليه هذه الإنهاءآت مختومة فيفتحها ويطّلع منها على أسرار المملكة، ويحكم فيها بأحكام عجيبةٍ لا يمكن استقصاؤها في هذا المقام، وبحسب ما يلوح له يحرك الجنود.
-9-

فهذه سياقة نعمة الله عليك في الإدراكات، ولا يمكن استيفاؤها وما يتوقّف عليها من الأسباب، فإنّ الحواسّ الظاهرة بعض المدارك، والبصر واحد من جملتها، والعين آلة واحدة لها، وقد ركّبت على عشر طبقات مختلفة، بعضها رطوبات، وبعضها أغشية، وبعض تلك الأغشية كأنّها نسج العنكبوت، وبعضها كالمشيمة، وبعض تلك الرطوبات كبياض البيض، وبعضها كأنه الجمد، ولكل منها صفةٌ وصورةٌ وهيئة وشكل وتدوير، ولكل منها أمساح وأجزاء وقُوى وكيفيات، لكل منها أحكام من الصحّة والمرض والسلامة والآفة لا يعلمها إلاّ الله.

ولو اختلّت طبقةٌ واحدة بل شيء من أسبابها، لاختلّ البصرُ وعجَز عنه الأطباء والكحّالون.

وقد صُنِّفت في تشريح العين مجلدات كثيرة، مع انّ حجمها لا يزيد على جوزة صغيرة، وأعجب من هذا دخول الأفلاك وطبقاتها وما تحويه من جملة العناصر في هذه الجوزة الصغيرة، من غير أن يتضايق ولا يتصاغَر ذلك الكبير ويتعاظم هذا الصغير، وقس بما ذُكر حاسّة السمع وسائر الحواسّ الظاهرة، ولا نسبة لها في الصنع والحكْمة إلى الحواسّ الباطنة، كما لا نسبة للباطنة إلى العقل الذي هو وراء كلّها.

فهذه نعم الله في أسباب الإدراك، فقسْ عليها حالَ نعم الله في خلْق أسباب التحريك الذي هو قرين الإدراك في كلّ نفس، كما قال تعالى:

{ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق50: 21]

فالسائق هو مبدء مبادي الإدراك، والشهيد هو مبدء مبادي التحريك، فإنّك بعد خلق الإدراكات فيك لا يكفيك مشاهدة الطعام، بل تفتقر الى شهوة الأكل والميل إليه تستحثّك على الحركة والطلَب، فخلَق الله فيك شهوةَ الطعام وسلّطها عليك كالمتقاضي. ثمّ هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدارَ الحاجة منك، أهلكتَ نفسَك. فخلَق فيك الكراهةَ عند الشَبَع. ثمَّ خلق فيك شهوةَ المجامعة لبقاء نوعك ودوام نسلك، وفي خلْق أسباب التوليد من الانثيين والرحِم ودمِ الحيض والمني والمجاري والعروق والأوعية، وكيفيّة توليد النُطفة وتشكّلها، وكيفية إدارتها في أطوار الخلْقة إلى تمام الأعضاء، من العجائب ما لا يحصى.

ثمّ الشهوةُ والغضبُ، لا يدعوان الا إلى ما ينفع ويضرّ في الحال. وهما لا يكفيانك، فميّزك الله عن الحيوانات بقوّة أخرى هي الإرادة العقليّة إكراماً لك وإفراداً عن البهائم، كما أفردك بمعرفة العواقب.

ثمّ هذه القوى لا تكفيك، فكمْ من زَمِن مدرِكٍ مشتاقٍ إلى شيء بعيدٍ منه لا يقدر على المشي إليه، فخلَق لك قدرةً على المشي والطلب لمشتهياتك، وآلات مُعِينَةٍ عليهما، وعلى الدفع والهرب لما يمنعك وعما يضادّك، وتلك الآلات بعضها طبيعيّة كالأعضاء، وبعضها خارجيّة كالاسلحة والمراكب والدوابّ والفنّ وآلات الزرْع ومباديها وأسبابها وفواعلها من الصنّاع والمُصلحين وغير ذلك.

وفي كل ذلك من نِعَم الله وحكمته ما لا يعدّ ولا يحصى، فلتعتبر رغيفاً واحداً ولتنظر ما تحتاج إليه حتّى يصلح للأكل من بعد إلقاء البذر إلى الأرض.
-10-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #55  
قديم 01-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 11-20 من 34

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 11-20 من 34



{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


فانظر إلى أعمال الصنّاع في إصلاح آلات الحراثة والطحْن والخبز من نجّار وحداد وغيره، وانظر إلى حاجة الحدّاد إلى الحديد والرصاص والنُحاس، وانظر كيف خلَق الله الجبالَ والأحجار والمعادن، فإن فتّشتَ علمتَ انّ رغيفاً واحداً لا يستدير ما لم يعمل عليه أكثر من ألف صانع، ابتداؤها من المَلَك الذي يزجي السحاب لينزل الماء، الى آخر الأعمال من جهة الملائكة، حتّى تنتهي النوبةُ إلى الإنسان، فإذا استدير طلبه قريب من سبعة آلاف صانع، كلّ صانع أصل من أصول الصنائع التي بها تتمّ مصلحة الخلْق، ثم تأمّل في كثرة أعمال الإنسان في تلك الآلات.

حتّى أن الإبرة الصغيرة التي فائدتها خياطة اللباس الذي يمنع عنك البرْد، لا يكمل صورتها إلاّ بعد أن تمرّ على يد الإبريّ خمسة وعشرين مرّة.

ثمّ اعلم أنّ هؤلاء الصنّاع، لو تفرّقت آراؤهم، وتنافروا تنافر طباع الوحش وتبدّدها بحيث لا يحويهم مكانٌ واحدٌ ولا يجمعهم غرَضٌ واحد، فانظر كيف ألّف الله بين قلوبهم، فلأجل الإلْف وتعارف الأرواح اجتمعوا وائتلفوا، وبنوا البلدان والمُدن، ورتَّبوا المساكن والدور والأسواق والخانات وما أشبهها مما يطولُ شرحُه.

ثمّ هذه المحبّة تزولُ بأغراض يزاحمون عليها، ويتنافسون فيها، حتّى ينجرّ إلى الحسَد والغَيظ، وذلك يؤدّي الى التقابل والتفاسد، فانظر كيف سلّط الله عليهم السلاطين وأيّدهم بالقوّة والشوكة والعدّة والأسباب، وألقى رُعبهم في قلوبُ الرعايا حتّى أذعنوا لها طَوعاً وكُرهاً، وكيف هَدى الله السلاطين إلى طريق إصلاح البلاد، حتّى رتّبوا أجزاء المدينة كأنّها أزاء شخص واحد تتعاون تلك الأجزاء على غرضٍ واحدٍ يتبع البعض منا بالبعض، ورتّبوا الرؤساء والقضاة والحكّام وزعماء الأسواق، واضطرّوا الخَلْق الى قانون العدل، وألزموهم للتساعد والتعاون بذلك القانون.

فانظر كيف بعث الأنبياء حتّى أصلحوا السلاطين المصلحين للرعايا، وعرّفوهم قوانين الشرع في حفظ العدْل بين الخَلق، وقوانين السياسة في ضبطهم، وكشفوا من أحكام الإمامة والإمارة وأحكام الفقه والقضاء ما اهتدوا به الى إصلاح الدنيا، فضلاً عما أرشدوهم إليه من إصلاح الدين.

فانظر كيف أصلح الله الأنبياء بالملائكة، وكيف أصلح الملائكة بعضهم ببعض، إلى أن ينتهي إلى الملَك المقرّب الذي لا واسطة بينه وبين الله، فينتهي إلى حضرة الربوبيّة التي هي ينبوع كلّ نظام، ومطلع كلّ حسْن وجمال، ومنشأ كلّ كمال واعتدال.

وكل ذلك الذي عدّدناه قطرةٌ من بحار كرمه ونعمه، ولولا فضله ورحمته إذ قال:

{ وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت29: 69]،

لما اهتدينا إلى معرفة هذه النبذة اليسيرة. ولولا عزله إيّانا لكمال رأفته عن أن نطمح بعين الطمع إلى الاحاطة بكنْه نعمه، لتشوّقنا إلى طلب الاحاطة والاستقصاء، لكنّه عزلنا عن ذلك إذ قال:

-11-

{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم14: 34].

فبإذنه انبسطنا، وبمنعه انقبضنا، لأنّه القابض والباسط لأزمّة أفكارنا، وهو الممسك والمرسل لأعِنّة عقولنا واختيارنا.

فهذا ما أردنا ايرادَه من بيان حقيقة النعمة وتقسيمها، وذكْر أقسامها ودرجاتها ومجامعها وأصنافها، والإشعار بأنّها متسلسلة، وأنّ الإحاطة بها ليس بمقدور البشر وإنّما هو شأن من خلَق القُوى والقدر.

وليعذرني إخوان الحقيقة في اطناب الكلام في هذا المقام، وايراد نكات لخّصتها وجرّدتها من صُحف الكرام، تكثيراً لفوائد هذا الباب، وتشبّهاً بالبرَرة الكتّاب، ومنه البداية وإليه المآب.

قوله جل اسمه:

{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

قرئ " غيرَ " بالنصب في الشواذّ ورويت عن ابن كثير وهي قراءة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقرئ " غير الضالين " وروي ذلك عن عليّ (عليه السلام).

وأما النصب فعلى الحاليّة عن الضمير المجرور، والعامل فيه " أنعمْتَ " ، أو بإضمار " أعْني " أو بالإستثناء، إن فسّر النعم بما يشمل القبيلين ويعمّ.

وفي الجرّ ثلاثةُ وجوهٍ: كونه بدلاً من ضمير " عليهم " ، وكونه بدلاً من الموصول، وكونه صفة له موضحة أو مخصصة على معنى كونهم جامعين بين أسباب النعمة والكمال، وبين أسباب السلامة من مظاهر الغضَب والضلال، وإن كان الأصل في " غير " أن يكون صفة للنكرة فذلك إنّما يستصح بأحد وجهين:

جعل الموصوف مجرى النكرة، بأن لم يُقصد بهذا الموصول موقّت معهود كالمحلّى في قوله: وَلقد أمرّ على اللئيم يسبّني.

أو جعل الصفة مجرى المعرفة لكون " غير " مضافاً إلى ما له ضدٌّ واحد، فإنّ للمغضوب عليه ضداً واحداً هو المنعمَ عليه. فيكون متعيّناً معروفاً عندك تعريف الحركة بغير السكون، فإذا قلت: عليك بالحركة غير السكون، فوصفت المعرفة بالمعرفة، بل وصفتَ الشيء بنفسه لأنّها عينه، فكأنك كرّرت الحركة تأكيداً.

و " عليهم " الاول في محلّ النصب على المفعولية، والثاني في محلّ الرفع على الفاعليّة بالنيابة.

و " لا " زائدة تأكيداً لما في " غير " من معنى النفي الحرفيّ، ولهذا تقول: أنا زيداً غير ضارب، كما تقول: أنا زيداً لا ضارب. ولا تقول: أنا زيداً مثل ضارب.

والغضَب - ها هنا - بمعنى إرادة إنزال العقوبة على من يستحقّها في صورة الانتقام حكمةً من الله، لا بمعنى كيفيّة نفسانية توجب ثَوران الدم للانتقام تشفّياً عن حالة الغيظ كما في الحيوان. فاطلاق الغضَب ونحوه على الله تعالى باعتبار غاياته الفعليّة لا باعتبار مباديه الإنفعالية كما مرّ في معنى الرحمة. هذا ما أدّى إليه النظر العقلي، وتحقيق ذلك ونحوه مما يُحوج إلى نور المكاشفة كما وقعت الإشارة إليه.

والضلال؛ هو العدول والذهاب عن طريق التوحيد ومنهج الحقّ، وأصله الهلاك، ومنه قوله تعالى:
-12-

{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [السجدة32: 10].

أي هلكنا، ومنه قوله تعالى:

{ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [محمد47: 8].

أي أهلكها.


وللعدول جهاتٌ وشُعبٌ كثيرة، ولكلّ منها عرض عريض، وبازاء كلّ ضرب من العدول ضرب من الغضب.

وعند المفسّرين: المغضوب عليهم اليهود لقوله تعالى فيهم:


وقال الحسن البصري: إنّ الله لم يبرئ اليهود عن الضلالة بإضافتها الى النصارى، ولم يبرئ النصارى عن الغضب بإضافته الى اليهود، بل كلّ من الطائفتين مغضوبٌ عليهم وهم ضالّون، إلاّ انّه تعالى قد خصّ كلَّ فريق بسِمةٍ تُعرفُ بها مع كونهم مشتركين في صفات كثيرة.

وقال عبد القاهر: حقّ اللفظ فيه خروجُه مخرج الجنس وأن لا يُقصد به قوم بأعيانهم كما تقول: اللهمّ اجعلني ممّن انعمتَ عليهم ولا تجعلني ممن غضبتَ عليهم، فإنك لا تريد أنّ ها هنا قوماً باعيانهم هذه صفتهم. وفيه موضع تأمّل كما لا يخفى على من عرف العُرف.

ويتّجه لأحد أن يقول: إنّ المغضوب عليهم هم العُصاة والفسقةُ، والضّالّين هم الجهّال والكفّرةُ، لأنّ المهتدى بنور الحقّ الى الصراط المسقيم، والفائز بكرامة الوصول الى النعيم، من جمع الله له بين تكميل عقله النظري بنور الايمان، وتكميل عقله العملي بتوفيق العمل بالأركان، فكان المقابل له في الجملة من اختلّ إحدى كريمتيه وقوّتيه العاقلةُ والعاملةُ فالمخلّ بالعمل فاسقٌ مغضوبٌ عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً:

{ َغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } [النساء4: 93].

والمخلّ بالعلْم والإدراك للحقّ جاهلٌ كافر لقوله تعالى:


وإنما لم يقلْ: غير الذين غضبتَ عليهم، على وفاق: الذينَ أنعَمْتَ عَلَيْهِم، ترجيحاً لجانب النعمة على جانب النقمة، بنسبة الفعل إليه تعالى في الأولى صريحاً، وفي الثانية بخلاف ذلك، كما هو دأب كرمه وجرْيُ عادته في سَوق كلامه المجيد، مثل قوله تعالى:

{ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [إبراهيم14: 7].

حيث لم يقل: لأعذبنّكم في مقابلة: " لأزيدنّكم " ، ومراعاة للأدب في الخطاب، واختياراً لحسْن اللفظ المستطاب.


مكاشفة

[استعارة الالفاظ للايصال الى المعانى العرفانية]

اعلم أنّ تمام التحقيق في هذه الآية، يحتاج الى الاستمداد من بحر عظيم من بحار علوم المكاشفة، فنقول على طبق ما حقّقه صاحب البصيرة المكحّلة بنور الهداية: إنّ لله في جلاله وكبريائه صفةٌ بها يفيض على الخلْق نورَ حكمته وجُوده تكويناً واختراعاً، يعبّر عنها بلفظ، جلّت عظمة تلك الصفة أن تكون في عالم الألفاظ عبارة تدلّ على كنه حقيقتها، لعلوّ شأنها، وانحطاط رتبة واضعي اللغات أن يمتدّ طرفُهم إلى مبادي إشراقاتها، فانخفضت عن ذُروتها أبصارُهم انخفاض أبصار الخفافيش عن ذُروة الشمس، فاضطرّ الذين فُتحت أبصارُهم لملاحظة جلالها، إلى ان يستعيروا من حضيض عالَم الظلمات عبارةً توهِم من مبادي أنوار حقيقتها شيئاً ضعيفاً جداً، فاستعاروا لها لفظ " القدرة " فتجاسَرنا بتوقيفٍ من جانب الشرع أنّ لله صفةً يصدر عنها الخَلْق والاختراع، ثمّ الخَلْق ينقسم في الوجود تقسيماً عقلياً إلى أقسام، لتنوّعات فصول ومبادي انقسام، فاستُعير لمصدَر هذه الأقسام ومبدء هذه التخصيصات بمثل تلك الضرورة الواقعة في عالَم الألفاظ والأصوات عبارة " المشيّة " ، ثمّ انقسمت الأفعال الصادرة من القُدرة المنبعثة عن المشيّة الناشية عن الحكمة التي هي علمُه بالنظام الأكمل وهو عين ذاته، إلى ما ينساق الى المنتهى الذي هو غاية حكْمتها الى ما يوقف به دون الغاية، وكان لكلّ منهما نسبة الى صفة المشيّة لرجوعها إلى الاختصاصات التي بها يتمّ الاختلاف والقسمة، فاستُعير لنسبة البالغ غايته عبارة المحبوب، وهو المنعَم عليه، ولنسبة الواقف دون غايته عبارة المكروه، وهو المغضوب عليه.
-13-

وقيل: إنّهما جميعاً داخلان تحت المشيّة، إلاّ انّ لكلّ منهما خاصيّة أخرى في النسبة، يوهِم لفظ المحبّة والكراهةُ منهما أمراً مجملاً عند طلاّب اكتساب العلوم من اطلاقات الألفاظ واللغات.

ثمّ نقول: لمّا كان لكلّ منهما خاصيّة لازمة تكون مقتضى ذاته من غير تخلّل جعل مستأنف بينه وبينها، وهي مستدعيةٌ لأن تنزل إليه من سلطان الأزل لباساً يناسبه ويردّ عليه من المشية السابقة كسوة ملائمة، فانقسَم عبادُه الذين هم أيضاً من خلْقه واختراعه، إلى من سبقت له في المشيّة الأزليّة أن يستعمله لاستيقاف حكمته دون غايتها، ويكون ذلك قهراً في حقّهم بتسليط الدواعي والبواعث عليهم، وإلى من سبقت لهم في الأزل أن يستعملهم لسياقة حكمته الى غايتها في بعض الأمور، ويكون ذلك لطفاً في حقّهم.

فكان لكلّ من الفريقين نسبةٌ خاصّة إلى المشيّة، فاستعير لإحداهما عبارةُ " الرضا " وللأخرى عبارة " الغضب ".

وظهَر على من غضب عليه في الأزل فعلٌ وقفت الحكمة به دون غايتها، فاستعير له " الكفران " ، واردف ذلك بنقمة اللعن زيادة في النكال.

وظهر على من ارتضاه في الأزل فعلٌ انساقت به الحكمة الى غايتها، فاستعير له الشكْر، واردف بخلعة الثناء زيادة في الرضاء والقبول.

فكان الحاصل انّه أعطى الجمال ثم أثنى عليه، وأعطى النكال ثمّ قبّح وأردى، فيكون بالحقيقة هو المجمِل والمُثني على الجمال، والمثنى عليه بكلّ حال.

وكأنّه لم يثن إلا على نفسه، وإنما العبد هدف الثناء من حيث الظاهر، فهكذا كانت الأمور في أزل الآزال، وهكذا تسلسلت الأسباب بتقدير ربّ الأرباب، ولم يكن شيء من ذلك عن اتّفاق وبخت كما زعمَه أصحابُ ذيمقراطيس. ولا عن إرادة بحت من دون غاية وحكمة كما عليه أصحاب الأشعري، بل عن إرادةٍ وحكمةٍ وحكْمٍ جزْمٍ، وأمرٍ حتْمٍ، استُعير له لفظ " القضاء ".

وقيل: إنّه كلمحٍ بالبصر، ففاضت بحار المقادير بحكم ذلك القضاء المبرم بما سبق به التقديرُ، فاستُعير لترتّب آحاد المقدورات بعضها على بعض، لفظ " القَدَر " ، فكان لفظ القضاء بإزاء ذلك الأمر العقلي الكلّي، ولفظ القدَر بإزاء ذلك الأمر التفصيلي القدَري المتمادي إلى غير النهاية.
-14-

وقيل: ليس شيء من ذلك بخارجٍ عن قانون القضاء والقدَر، فخطَر لبعض العباد أنّ القسمة لِماذا اقتضت هذا التفصيل؟ وكيف انتظم العدل مع هذا التفاوت في الايجاد والتكميل؟

وكأنّ بعضهم لقصورهم لم يطيقوا ملاحظةَ كُنْه الأمر والإحتواء على مجَامعه، فأُلجموا عمّا لم يطيقوا خوض غمرته بلجام المنع، وقيل لهم: اسكتوا، فما لهذا خلقتم " لا يُسألُ عما يفعلَ وهمْ يُسألون " ، عليكم بدين العجائز والزَمنى عن سلوك عالَم السماء، وقُصارى إيمانكم أن تؤمنوا بالغيب ايمانَ الأكمه بالألوان، اسكتوا، وأنّى للعميان والسؤال عن حقائق الألوان.

وأما من امتلأت مشكاة عقلهم المنفعل من نور الله النافذ في السموات والأرض، وكان زيتهم أولاً صافياً يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فمسّته نارُ العقل الفعّال فاشتعل نوراً على نور، فأشرقت أقطار الملكوت بين أيديهم بنور ربّها فأدركوا الأمور كما هي عليه، فقيل لهم: تأدّبوا بأدب الله، واسكتوا، واذا ذُكر القدَر فأَمسكوا فإنّ للحيطان آذان، وحواليكم ضعفاءُ الأبصار فسيروا بسَير أضعفكم، ولا تكشفوا حجاب الشمس لأبصار الخفافيش، فيكون ذلك سبب هلاكهم، فتخلّقوا بأخلاق الله، وانزلوا إلى السماء الدنيا من منتهى علوِّكم ليأنس بكم الضعفاء، ويقتبسوا من بقايا أنواركم المشرِقة من وراء حجابكم، كما يقتبس الخفّاش من بقاء نور الشمس والكواكب في جنح الليل، فيحيى به حياة تحتملها شخصُه وحالُه لا حياة المتردّدين في كمال نور الشمس، وكونوا كما قيل:

شرِبنا وأهرَقنا على الأرضِ فضلةًوللأرضِ من كأسِ الكِرامِ نَصيبٌ


تمثيل نوري

[بيان أن لا مؤثر في الوجود إلا الله، والحكمة في أفعاله]

وقد ضرَب الله مثلاً لهذا المرام تقريباً إلى أفهام الأنام، وقد عرّف أنه ما خلَق الجِنَّ والإنس إلاّ ليعبدون، وكانت عبادتهم ومعرفتهم غاية الحكمة في حقِّهم، فأخبَر انّ له عبدين يُحبّ أحدَهما واسمه جبرائيل وروح القدس والروح الأمين، وهو عنده محبوب مطاع مكين، ويُبغض الآخر واسمه إبليس، وهو اللعين المنظَر إلى يوم الدين.

ثمّ أحال الإرشاد والتعليم إلى جبرائيل فقال:


وأحال الإغواء والإضلال على إبليس فقال: { لِيضِلَّهُمْ عَنْ سَبيله }.

والهداية: تبليغ العباد وسياقتهم الى غاية الحكمة، فانظر كيف نسبَها الى العبد الذي أحبّه.

والإغواءُ: استيقافهم دون بلوغ غاية الحكمة، فانظُر كيف نسبَه إلى العبد الذي غضِب عليه مع انّه لا فاعِل ولا حاكِم إلاّ هو كما قال:
-15-

{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } [الشمس91: 7 - 8].

وهذا محض العدل وحُسن الترتيب في النظام.

ولهذا الأمر، يوجَد لك في الشاهد مثال، فالملك إذا كان له عبدان، ويريد أن يسقيه أحدهما، ويكنس الآخر فناءَ منزلة من القاذورات، لا يفوّض سقي الشراب الطيّب إلاّ إلى أحسنهما وأطيبهما منظراً وأحبهما إليه، ولا يعيّن للكُنْس إلاّ أقبحهما صورة وأخسّهما، ولا ينبغي لك أن تقول: هذا فعلي، فلم يكن فعله على مذاق فعلي، فإنّك أخطأت إذا أضفت ذلك الى نفسك، بل هو الذي صرفك وداعيتك لتخصيص الفعلِ المكروه بالشخصِ المكروهِ، والفعْل الحسَن بالشخص المحبوب، إتماماً للعدل، فإنّ عدلَه تارةً يتمّ بما لا مدخل لك فيه وتارةً يتمّ فيك أو بمالَكَ فيه مدخلٌ فإنّك ايضاً من أفعاله.

فداعيتُك وعلمُك وقدرتُك وسائرُ أسباب حركتك في التعيين هو فِعْله الذي رتّبه بالعدْل والحكْمة ترتيباً تصدر منه الأفعال المعتدلة، إلاّ انّك لا ترى إلاّ نفسك، فتظنّ إنّ ما يظهر عليك في عالَم الشهادة ليس له سببٌ من عالَم الغيب والملكوت، فلذلك تضيفه الى نفسك.

وإنّما أنتَ مِثْل الصَبيّ الذي ينظر ليلاً الى لعب المشعبِذ الذي يُخرج صوراً من وراء حجاب، يرقص ويَزْعق ويقوم ويقعد، فيتعجّب لظنّه أنّ هذه الأفعال إنّما تصدُر من تلك الصوَر. ولم يعلم أنّها لا تتحرّك بأنفسها، وإنّما تحركها خيوطٌ شَعريّة دقيقة لا تظهر في ظلام الليل، ورؤوسها في يد المشعبِذ، وهو محتجب عن الصبيان فيفرحون ويتعجّبون.

وأما العقلاء، فإنّهم يعلمون أنّ ذلك يُحرَّك وليس يتحرَّك، ولكنّهم ربما لم يعلموا تفصيله، والذي يعلم بعضَ تفصيله لا يعلمه كما يعلم المشعبِذ الذي يعود الأمرُ إليه، والجاذبة بيديه، فكذلك صبيان الدنيا والخَلْق كلُّهم صبيانٌ، إلاّ العلماء، إلاّ إنّهم لا يعرفون كيفيّة التحريك، وهم الأكثرون، إلاّ الراسخون في العلم، فإنّهم أدركوا بحدّة أبصارهم خيوطاً ورباطاتٍ دقيقةً معلقةً من السماء، متشبّثة الأطراف بأشخاص أهل الأرض، لا تُدرَك تلك الخيوط لدقّتها بهذه الأنظار الظاهرة، ثمّ شاهَدوا رؤوسَ تلك الخيوط في مناطات لها هي معلّقة منها، ولها أيضاً مقابضٌ وعُرىً هي في أيدي الملائكة المحرّكين للسماوات، وشاهَدوا أبصار ملائكة السموات مصروفةً إلى حمَلةِ العرْشِ ينتظرون منهم ما ينزل إليهم من الأمر من حضرة الربوبيّة، كي لا يعصون الله ما أمرَهم ويفعلون [ما يؤمرون].

وعبّر عن هذه المكاشفات في القرآن:

{ وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [الذاريات51: 22].

وعبّر عن انتظار الملائكة لما ينزل إليهم من الأمر والقُدرَة بقوله تعالى:


مكاشفة أخرى

[مظاهر الرحمة والغضب]

إنّ لله مع تقدّس ذاته وتنزّه صفاته عن الأجزاء والأعضاء، يدَين مقدّستين كلتاهما يمين الله، وهما في الأفعال العاليَة بإزاء الصفَتين المتقابلتين؛ كالرحمة والغضب، والرضاء والسخط في الصفات.
-16-

ولهما قبضتان، كما يدل عليه قوله تعالى:


ووَرد في الحديث عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله): " يطوي الله السمواتِ يومَ القيامة ثمّ يأخذهنّ بيده اليُمنى ثمّ يقول: أنا الملِك، أين الجبَّارون؟ أين المتكبّرون؟ ثم يطوي الأرَضين بشماله ".

وفي رواية يأخذهنّ بيده الأخرى ثمّ يقول: أين الجبّارون، أين المتكبرون؟

وله أيضاً عند إستوائه على العرش قدَمان متدلّيتان إلى الكرسي، إحداهما ما يعبّر عنه بقدَم الصدْق يعطي ثبوت أهل الجنّات في جنّاتهم، والأخرى ما يعبَّر عنه بقدَم الجبروت، يعطي ثبوت أهل جهنّم في جهنّم.

فهذه الأمور من المراتب الإلهيّة، ولوازمها من الأمور العامّة، وهي التي تعرض للموجودات الإمكانية لقصور درجتها عن درك المراتب الإلهيّة.

فاعلم انّ حكم الغضبَ الإلهي تكميل مرتبة قبضة الشمال، فإنّه وإن كانت كِلتا يدَيه المقدّستين يميناً مباركة، لكن حكْم كلّ واحدة منهما يُخالف الأخرى، والشماليّة واليمينيّة، باعتبار أصحابهما فلهذا قال:


فلليدِ الواحدة - المضاف إليها عموم السعداء - الرحمة والجنان، وللأخرى العذاب والنيران.

ولكلٍّ منهما دولة وسلطنة يظهر حكمها في السعداء القائمين بشروط العبوديّة وحقوق الربوبيّة حسَب المقدور، وفي الأشقياء المعتدين الجائرين المنحرفين عن سنن الاستقامة ومسلك الاعتدال، المفرَطين في حقوق الإلهية، والمضيفين إلى أنفسهم ما لا يستحقّونه.

وغاية حظّهم من تلك الأحكام ما اتّصل لهم بشفاعة ظاهر الصورة الإنسانية المحاكية لصورة الإنسان الحقيقي، وشفاعة نسبة الجمعيّة والقدْر المشترك الظاهر بعموم الرحمة الظاهرة الحكْم في هذه الدار، فلما جهلوا كنْه الأمر فاغترّوا وادّعوا وأشركوا وأخطأوا في الإضافة، فلا جرَم استعدّوا بتلك الأحكام الغضبَ والانتقام، فالحقّ يطالبهم بحقّه في القيامة.

ولولا سبق الرحمةِ الغضب، ما تأخّرت عقوبة مَنْ شأنُهُ ما ذكرناه، مع انّه ما ثمَّ من سُلم من الجور بالكليّة، ولو لم يكن إلاّ جورنا في ضمن أبينا آدم حين مخالفته فلكلّ منّا نصيبٌ من ذلك، يجني ثمرته عاجلاً بالمحن، وآجلاً بحكم:


وإلى عموم الجور وقعت الإشارة في قوله:

{ وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ } [النحل16: 61].

ولكن الرحمة العامّة أخّرت سلطنة الحكم العدْل إلى يوم القيامة، الذي هو يومَ الكشف، ويومُ الفصل والقضاء، فهناك يظهر الأمر تماماً، ولهذا قال: { مَالِكِ يَومِ الدِّين } ، لأنّه يوم المجازات بالعدل الحقيقي، والسرّ فيه أنّه لو ظهَر الحكم العدل ها هنا، ما جارَ أحدٌ على أحدٍ ولا تجاسَر على ظلْمه، ولا افترى على الله وعلى غيره، ولكان الناس أمّة واحدةً، ولم تكمل مرتبة القبضتين وحكم القدَمين ولا مظاهر الأسماء المتقابلة، فأين إذاً:

{ كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [الإسراء17: 20]،

-17-

أي: ممنوعاً، فالرحمة العامّة تستلزم العطاءَ الشامل لكل شيءٍ، لا جرم وقع الأمر هكذا، فحقّت الكلمة، وعمّت النعمة، وظهَر حكم الغضب، ثمّ غلبت الرحمة، فلا يخلو منها شيء من الممكنات، كلّ منها على حسب حاله وقدْر منزلته.

فكما انّ رحمتُه تعالى شاملة واسعة لكلّ شيءٍ، فكذلك غضبُه، إلاّ انّ جانب الرحمة ارجح لكونها ذاتيّة، والغضب عارض، لقصور الممكن لإمكانه عن قبول النور الأتمّ.

وإليه الإشارة في قول أمير المؤمنين (عليه السلام): سبحانَ مَن أتّسعت رحمتُه لأوليائه في شدة نقمته، واشتدّت نقمته لأعدائه في سعة رحمته.

وكذا الوعد والايعاد شاملٌ للكلّ، إذ وعده في الحقيقة عبارةٌ عن ايصال كلّ واحد منّا إلى غايته وكماله المعيّن له أزلاً، فكما انّ الجنّة موعودٌ بها، كذلك النار. ووعيده هو العذاب الذي يتعلّق بالإسم المنتقم، فأهل الجنّة إنما يدخلونها بالايعاد والابتلاء بأنواع المصائب والمحَن، كما ورَد في الخبر عنه (صلّى الله عليه وآله): " أشدّ الناس بلاءً في الدنيا الأنبياء، ثمّ الأولياء، ثمّ الصالحون، ثمّ الأمثلُ فالأمثَلُ وقال أيضاً: ما أوذي نبيٌّ مثل ما أوذيت ".

ثمّ فوق هذا سرٌّ عزيزٌ جداً قلّما يجد له ذائقاً، وهو انّ الكمّل من أهل الله كالانبياء والأولياء ومن شاركهم في بعض صفات الكمال، إنّما امتازوا عن من سواهم أولاً بسعة الدائرة الوجوديّة، وصفاء جوهر الروح، والاستيعاب الذي هو من لوازم الجمعيّة، كما نبّهت عليه في حقيقة الإنسان الكامل، الذي هو برزخ الحضرتين ومرآتهما، وحضرة الحق مشتملة على جميع الأسماء والصفات، بل هي منبعٌ لسائر النِسب والإضافات، والغضب من امّهاتها، والمحاذاة الشريفة الصفاتية إنّما قامت بين الغضب والرحمة.

فمَن ظهر بصورة الحضرة الجمعيّة بتمامها، وكانت ذاته مرآة كاملة، لا بدّ وأن يظهر فيها كلُّ ما اشتملت الحضرة، وما اشتمل عليه الإمكان على الوجه الأتمّ الأشرف، فلا جرم وقع الأمر كما مرّ من سرّ قوله: ما أوذي نبيٌّ مثلَ ما أوذيت. وما يجري مجرى ذلك.

ولولا سبق الرحمة الغضب، كان الأمر أشدّ، فكما ان حظّهم من النعيم أشدّ، فكذا في الطرف الآخر، لكن في الدنيا، لأن هذه النشأة هي الظاهرة بأحكام حضرة الإمكان المقتضية للنقائص والآلام، ولذا قال: نحنُ معاشر الأنبياء أشدّ الناس بلاءً في الدنيا.

ومن بُعث رحمةً للعالمين فدى بنفسه - في الأوقات الشديدة كالغَزوات المقتضية عموم العقوبة لسلطنة الغضب - ضعفاء الخلق.

وكذا نبّه على هذا السرّ (صلّى الله عليه وآله) أهلَ الذوق، الأتمّ لمّا رأى جهنّم وهو في صلاة الكسوف يتّقي حرَّها عن وجهه وثوبه، ويتأخّر عن مكانه، ويتضرّع ويقول: ألم تعدني يا ربّ أنّك لا تعذّبهم وأنا فيهم؟ ألم ألم حتّى حجبت عنه فأفهم واغتنم.
-18-

وأهل النار إنّما يدخلونها بالجاذب والسائق والجاذب إلى النار المناسبةُ الواقعةُ بينها وبين أهلها. والسائق لهم هو الشيطان، كما أنّ الجاذبَ لأهل الجنّة إلى الجنّة المناسبةُ بينهما، والسائق لهم المَلَك، فالوعْد والوعيد كلاهما شاملان لكلّ العبيد وفيه سرّ قوله (صلى الله عليه وآله): " حُفَّت الجنّةُ بالمكاره وحُفّت النارُ بالشهوات " بل الجنّة نفسُ المكاره عند من كره لقاءَ الله وكره الله لقائهم. والنار مبدأ الشهوات وصورتها الأخرويّة لمن يستحقّها، وهي نعيمهم، كما أنّ الجنَة نعيمُ أهلها، ويملأ الله جهنَّم بغضبه المشوب وقضائه، ويملأ الجنّة برحمته المشوبة ورضاه، فيعم الوجود رحمة، ويبسط النعمة فيكون الخَلق كما هم في الدنيا كلُّ حزبٍ بما لدَيهم فرِحون، لأنّهم أفعاله الصادرة منه.

وقد ورد في الخبر: إنّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، وهو صانعُ العالَم وأوجده على شاكلته كما قال:

{ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ } [الإسراء17: 84]

فَربُّكُم الغفُورُ ذُو الرَّحْمةِ. فالعالَم كلّه على غاية الجمال لأنّه مرآة الحق. ولهذا هَامَ فيه العارفون، وتحقّق بمحبّته المتحقّقون، لأنه المنظور إليه في كل عين، والمحبوب بكلّ محبّة، والمعبود بكلّ عبادة، والمقصود في الغيب والشهود، وجميع العالم له مصلٍّ وحامد ومسبّح.


فيتحوّلون لتحوّله في الأحكام والآثار، وآخر صورة يتحوّل إليها في الحكم في عباده صورةُ الرضا. فيتحوّل الحقّ في صورة النعيم، فإن الرحيم والمعافي أول من رحم ويعفو وينعم على نفسه بإزالة ما كان فيه من الحرَج والكرَب والغضَب على من أغضبه، ثمّ سرى ذلك في المغضوب عليه، فمن فهم هذا فقد أمِنَ من غضبه، ولم يأمن من مكر الله، ومن لم يفهَم، فسيَعلمُ ويفهم، فإنّ المآل إليه.

هذا نظر البالغين من الرجال بنور الرياضة والمجاهدة الى مقام الولاية والمحبّة والأحوال، وأمّا الذي وردت به الأخبار، وأعطاه الايمان والعلْم، إنّما هي أحوالٌ تظهر ومقامات تتشخّص ومعانٍ تتجسّد، ليعلم الله عباده معنى الإسم الإلهي الظاهر، وهو ما بدا من هذا كلّه، والإسم الإلهي الباطن، وهو هويّته، وقد تسمّى لنا بهما.

وأما قوله:

{ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } [مريم19: 71].

فإنّ الطريق الى الجنّة عليها، فلا بدّ من الورود.


ولما تقرّرت هذه المكاشفات فنقول: لمّا خلَق الله العرشَ وجعله محل استواء الرحمة الوجوديّة، وأحديّة كلمة الايجاديّة التي هي قول " كن " ، وخلَق الكرسي وانقسمت فيه الكلمة إلى أمرين: أمر وخَلْق ليخلق من كلّ شيء زوجين. وظهرت الشفعيّة من الكرسي بالفعل، وكانت قبله بالقوّة، وبحسب الوهم، إذ كل ممكن زوج تركيبي كما قالته الحكماء، وهما جهتا الإمكان والوجوب، أو الماهية والوجود، أو الفقر والمحبّة، باختلاف العبارات، ليعلم أنّ الحق مستأثرٌ بالأحديّة وإنّ الموجدَ الأول وإن كان واحد العين فله حكم نسبة إلى ما ظهر عنه، فهذا أصل شفعيّة العالَم، فتدلّت إلى الكرسي القدمان حتّى انقسمت فيه الكلمةُ الروحانيّة، لأنه الثاني بعد العرش في الصورة، والشكل فيه حصل شكلان في جسم العالَم الطبيعي، فتدلّت اليه القدمان، فاستقرّت كلّ قدم في مكان، فسمّي المكان الواحد جنّة والآخر جهنّماً.
-19-

وليس بعدهما مكان تنتقل اليه هاتان القدمان، وهما لا يستمدّان إلاّ من الأصل الذي ظَهَرَتا منه وهو الرحمن، فلا يعطيان إلاّ الرحمة، فإن النهاية ترجع الى البداية بالحكمة، غير أن بين البداية والنهاية طريقاً، وإلاّ لم يكن بدؤ ولا نهاية، والسفر مظنّة التعب والشقاء واللغوب. فهذا سبب ظهور ما ظهر في العالم دنياً وآخرةً، وبرزخاً، من الشقاء، وعند انتهاء الاستقرار يلقي عصى التسيار، وتقع الراحة في دار القرار والبوار.

ولأحد أن يقول: فكان ينبغي عند الحلول في الدار الواحدة المسمّاة ناراً أن توجد الراحة وليس الأمر كذلك.

فيقال له: صدقتَ، ولكن فاتك النظر التمام، وذلك انّ المسافرين على نوعين: مسافر يكون سفره مما هو فيه مترفهاً، من كونه محبوباً مخدوماً، حاصلاً له جميع أغراضه في محفّة محمولة على أعناق الرجال، محفوظاً عن تغير الأهواء، فهذا مثلَه في الوصول الى المنزل، مثَل أهل الجنّة في الجنّة.

ومسافر يقطع الطريق على قدميه، قليل الزاد، ضعيف المؤنة، إذا وصَل إلى المنزل بقيت معه بقيّة التعب والمشقّة زماناً، حتى تذهب عنه، ثمّ يجد الراحة، فهذا مثَل من يتعذّب ويشقى في النار التي هي منزله، ثمّ تعمّه الراحة التي وسعت كلّ شيء.

ومسافر بينهما ليست له رفاهيّة صاحب الجنّة، ولا عذاب صاحب النار التي منزله، فهو بين راحة وتعب، فهي الطائفة التي تخرج من النار بشفاعة الشافعين، وبإخراج أرحم الراحمين.

وهم على طبقات بقدر ما يبقى عنهم من التعب فيزول في النار شيئاً فشيئاً، فإذا انتهت مدّته، خرج الى الجنة وهو محلّ الراحة.

وآخر من بقي هم الذين ما عملوا خيراً قط، لا من جهة الايمان، ولا بإتيان مكارم الأخلاق، غير انّ العناية سبقت لهم أن يكونوا من أهل تلك الدار وهم من أهل الدار، الذين هم أهلها، فغلّقت الأبواب، واطبقت النار، ووقع اليأس من الخروج، فحينئذ تعمّ الراحة لأهلها، لأنّهم قد يئسوا من الخروج منها كما يئس الكفّار من أصحاب القبور.

وقد جعلهم على مزاج يصلح ساكن تلك الدار، فلما يئسوا فرِحوا، فنعيمُهم هذا القدر، وهو أول نعيم يجدونه، وحالهم فيها كما قدمنا بعد فراغ مدّة الشقاء، انّهم يستعذبون العذاب فتزول الآلام، ويصير العذاب عذباً كما يستحلي صاحبُ الجرَب من يحكّه، هذا ما أدّى اليه نظر صاحب المشرب الختمي والمقام الجمعي، حيث ذكر بعد ما نقَلناه من مكاشفاته. فافهم نعيم كل دار تستعذبه إنشاء الله.

ألا ترى صدق ما قلناه، النار لا تزال متألّمة لما فيها من النقص وعدم الإمتلاء حتّى يضع الجبّارُ قدمَه فيها كما ورد في الحديث، وهي إحدى تينك القدَمين المذكورتين في الكرسي.
-20-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #56  
قديم 01-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 21-34 من 34

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 21-34 من 34

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ
}

والاخرى التي مستقرّها الجنّة قوله:

{ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } [يونس10: 2]

والاسم " الربّ " مع هؤلاء، و " الجبار " مع هؤلاء الآخرين. لأنها دار جلال وجبروت وهيبة، والجنّة دار جمال وانس ومنزل إلهي لطيف، وهما بأزاء القبضتين المذكورتين في الحديث القدسي: الواحد لأهل النار ولا يبالي، والآخرة لأهل الجنّة ولا يبالي، لأن مآلهما الى الرحمة الواسعة.

ولو كان الأمر كما يتوهّمه مَن لا علْم له من عدم المبالاة، ما وقع الأمر بالجرائم والحدود، ولا وصَف نفسَه بغضَب، ولا البطش الشديد، فهذا كلّه من المبالاة والهمّ بالمأخوذ المحدود، إذ لو لم يكن له قدْر ما عذّب ولا استعذب، وقد قيل في أهل التقوى: إنّ الجنّة اعدّت للمتّقين. وقال في أهل الشقاء:

{ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [الإنسان76: 31]

فلولا المبالاة ما ظهر هذا الحكم.

فللأمور والأحكام مواطن عرفها أهلها، ولم يتعدّ بكل حكم موطنه، والعالَم لا يزال يتأدّب مع الله وبعالَمه في كل موطن بما يريد الحقّ، ومن لا يعلم ليس كذلك، فبالقدمين أغنى وأفقر، وبهما أمات وأحيى، وبهما خلق الزوجين الذكر والأنثى، وبهما أعزّ وأذلّ، وأعطى ومنع، وأضرّ ونفع، ولولاهما ما وقَع في العالم شركٌ، فانهما اشتركتا في الحكم والعالَم، فلكل منهما دارٌ يحكم فيها، وأهلٌ يحكم فيهم بما شاء الله من الحُكم.

مكاشفة اخرى

[درجات غضبه تعالى]

اعلم أنّ النعيم والعذاب ثمرةُ الرضا والغضَب، ولكل منهما ثلاث مراتب كما في باقي الصفات. فأول درجات الغضب يقضي بالحرمان وقطع الإمداد العلمي المستلزم لتسلّط الجهل والهوى والنفس والشيطان. لكن كلّ ذلك موقتاً إلى أجل معلوم عند الله في الدنيا، إلى النفس التي قبل آخر الانفاس في حق من يختم له بالسعادة الأخرويّة، كما ثبت في الحديث، سواء كانت سلطنة ما ذكر ظاهراً أو باطناً، أو هما معاً. ولا شك في أن كلاّ من الأمور المذكورة مبادي كمالات دنيويّة، ولذّات عاجلية لمن في حزبها. والرتبة الثانية تقضي بانسحاب الحكم المذكور باطناً ها هنا، وظاهراً في الآخرة برهة من الزمان الأخروي، أو يتّصل الحكم إلى حين دخول جهنّم وفتح باب الشفاعة، وآخر مدّة الحكم حال ظهور حكم أرحم الراحمين بعد انتفاء حكم شفاعة الشافعين.

والرتبة الثالثة تقتضي التأبيد ودوام حكم التبعيد، كما في قوله (صلّى الله عليه وآله): " انّ الله لم ينظر الى الأجسام مذ خلقها " ، وكمال حكم هذا الغضب يظهر يوم القيامة، كما أخبر الرسل عن ذلك قاطبة بقولهم الذي حكاه نبيّنا (صلّى الله عليه وآله) وعليهم: إن الله غضب اليومَ غضَباً لم يغضب قبله، ولن يغضب بعده مثله. فشهدت بكماله شهادة يستلزم بشارة لو عرفت لم تيأس من رحمة الله، ولو جاز إفشاء ذلك، وكذا سرّ تردّد الناس إلى الأنبياء (عليهم السلام)، وابتهالهم الى نبيّنا عليه وعليهم السلام، وسرّ فتح الله باب الشفاعة، وسرّ وضع الجبّار قدمَه فيها - يعني في جهنّم - فينزوي بعضها الى بعض وتقول قطّ قطّ - أي حسبي حسبي - وسرّ السجدات الأربع، وما يخرج من النار كلّ دفعة، وما تلك المعاودة، وسرّ قول مالك خازن جهنّم لنبيّنا (صلّى الله عليه وآله) في آخر مرّة يأتيه لاخراج آخر من يخرج بشفاعته: يا محمّد ما تركتَ لغضَب ربك شيئاً، وسرّ قوله: شفعت الملائكة وشفع النبيّون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، وسرّ قوله سبحانه لنبيه عند شفاعته في أهل لا إله إلاّ الله: ليس ذلك لك.

-21-

الذي يقول في أثره شفعت الملائكة الحديث، وغير ذلك من الأسرار التي رمزت واجمل ذكرها مما يبهر العقول ويحيّر الألباب كما قيل:

وما كلُّ معلومٍ يُباح مصونةوما كلّ ما املتْ عيونُ الظبا يُروى


مكاشفة اخرى

[باطن الغضب]

وكلّ صفة إلهيّة واسم ربّاني - كما ان لها مظاهر ولوازم ايجادية - فلها أيضاً غايات وحِكَم مترتّبة عليها، وثمرات أخرويّة تنبعث عنها، فنقول: حِكمة الغضَب وباطنُه الذي ينسحب عليه حكم الرحمة العامّة، وتظهر منه الغاية الوجوديّة في المغضوب عليهم كما قال

{ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ } [الحديد57: 13]

أمور ثلاثة: وقايةٌ وتطيرٌ وتكميلٌ.


اما النوع الأول: هو الوقاية، فكصاحب الآكِلة إذا ظهرت في عضو، وقدّر أن يكون الطبيبُ والده أو صديقه، فإنّه مع فرط محبته يبادر لقطع العضو المعتلّ، لمّا لم يكن فيه قابليّة الصلاح والمعالجة، فستراه يباشر الايذاء الظاهر، وهو شريك المتأذّي، ولا مندوحة، لتعذّر الجمع بين العافية وترك القطع، لمّا لم يساعد استعداد العضو على ذلك، وكذا في يد من لسعته الحيّة، والمعاصي بمنزلة الآلام والآفات الحاصلة لباطن الإنسان من لذع حيّة الهوى وعقارب الشهوات الكامنة، التي ستظهر بصورها الخاصّة في نشأة القبر والبرزخ وغيرها، فافهم ذلك، وتذكّر: " ما تردّدت في شيء أنا فاعله كتردّدي في قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مسإته ولا بدّ له من ذلك " والوالد يُظهر الغضبَ لولده رعايةً لمصلحة، وهو في ذاته غير غاضبٍ، وإنّما يظن الولد والده مغضباً لما يشاهد من الآثار الدالّة على الغضَب عادة، والأمر بخلافه في نفس الأمر، وإنّما ذلك لقصور نظر الولَد، قال الله تعالى:

{ وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [آل عمران3: 131].
{ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } [البقرة2: 24].


ألا ترى أنّ النار قد يتخذ دواء لبعض الأمراض في الدنيا، فهي وقاية وهو الداء الذي لا يشفى إلاّ بالكَيّ من النار.

فكما جعل الله النار وقاية في هذا الموطن من داء هو أشدّ منها في حقّ المبتلى به فكذلك جعل في الآخرة النار دواء كالكيّ من داء، وأيّ داء أكبر من الكبائر، فدفع بدخولهم يوم القيامة داء عظيماً أعظم من النار، وهو البُعد عن حضرته، كما في الحدود الدنيويّة وقاية من عذاب الآخرة.

-22-

وأما النوع الثاني، وهو التطهير، فمثالُه لو أنّ ذهباً مزج برصاص ونحاس لمصلحة لا يمكن حصولها إلا بالمجموع ثم إذا انقضى الوقت المراد لأجله هذا الجمع والتركيب، وحصل المطلوب، وقصد تميز الذهب ممّا مازجه من غير جنسه، لا بدّ وأن يجعل في النار الشديدة لينفرد الذهب عن غير جنسه، ويظهر كماله الذاتي، ويذهب ما جاورَه مما لم يطلب لنفسه وإنّما اريد لمعنى فيه يتّصل بالذهب، وقد اتّصل، كماء الورد، كان أصله ماءً فعاد الى أصله لكن بمزيد عطريّة وكيفيّات مطلوبة.

وهكذا الأمر في الغذاء، توصله الغاذية، وتضمّه الى الإنسان، فإذا استخلصت الطبيعة منه المراد، رمت بالثفل إذ لا غرض فيه، وإليه الإشارة بقوله تعالى:

{ لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ ٱلْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [الأنفال8: 37].


وقال أيضاً في هذا المعنى ببيان أوضح وأتمّ تفصيلاً:

{ أَنَزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَٱحْتَمَلَ ٱلسَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي ٱلنَّارِ ٱبْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلْحَقَّ وَٱلْبَاطِلَ فَأَمَّا ٱلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ ٱلنَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي ٱلأَرْضِ كَذٰلِكَ يَضْرِبُ ٱللَّهُ ٱلأَمْثَالَ *لِلَّذِينَ ٱسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ ٱلْحُسْنَىٰ } [الرعد13: 17 - 18]. الآيات، فتدبّر.


ففيها تنبيهاتٌ شريفةٌ على أحوال أهل قبضة الغضب وأهل قبضة الرحمة.

وأما النوع الثالث: وهو التكميل وهو الأصل في الغاية وما سبق من التوقّي والتطهير كان لأجله، فمشارٌ إليه في تبديل السيّئات حسنات. وأنت إذا تدبّرت وفتّشت حالَ الموجودات عند شدائدها وآلامها، وانقلاباتها الطبيعيّة والذاتيّة، التي بحسب الأسباب الباطنة، لا تجد منها أحداً إلاّ وقد ولاّه الله إلى ما هو خيرٌ له مما كان أولاً، ووجّهه إلى أصله وكماله.

هذا ما اقيم عليه البرهان كما أشرنا من قبل، وحكَم به الاستقراء والتجربةُ والوجدانُ، وفيه سرُّ الربوبيّة وأحدِيّة الفعل من حيث الأصل والفاعل والغاية، مع أنّه لا مُكرِه ولا مُغضِب ولا مُزاحِم ولا رادّ له تعالى من خارج.

وكان أصل ايجاده للعالَم على أكمل وجهٍ اقتضته حكمتُه ومشيّته، فليس في الوجود جهةٌ من الجهات، ولا وجهٌ من الوجوه الوجوديّة، إلاّ وهو أصله ومبدأه ومنشأه فافهم وارْقَ، فإنّك إن علوتَ من هذه النمط، استحليت بسرّ القدَر المتحكّم في العلم والعالم والمعلوم. ومن رقا فوقَ ذلك رأى غلط الإضافات الشائعة في الأفعال والأسماء والصفات والأحوال، وإن رَقا فوق ذلك، رأى الجمالَ المطلق الذي لا قُبح عنده، ولا شرّ فيه، ولا غلظ ولا نقص ولا تخويف.

وإن رقا فوقَ ذلك، رأى الجورَ والعدلَ، والظُلَم والحِلَم والتعظيمَ والإهانةَ، والكتمانَ والإبانَة، والوعْدَ الوعيدَ، كلَّها محترقةً بنور السَبَحات الوجهيّة مستهلكةً في عرصة الحضرة الذاتيّة الأحديّة، فإن رقا عن ذلك، سكتَ فلم يفصح، وعمي فلم ينظر، وذهب فلم يظهر، فإن أعيد ظهرَ بكل وصفٍ، وكان المعنى المحيط بكل حرف.

-23-

فصل

في بيان نبذ من فضائل سورة الفاتحة

اعلم أنّ المقصد الأقصى واللباب الأصفى من إنزال القرآن وتنزيله على أشرف خَلْق الله (صلّى الله عليه وآله) أولاً، وعلى أمّته الذين هم خير الأمم ثانياً، هو هداية الخلْقِ وإرشادهم وتكميلهم بسياقتهم إلى الله ودار كرامته، على أتمّ وجهٍ وأشرفه.

وذلك إنّما يحصل بتزيين نفوسهم بأنوار الحكمة والمعرفة، وتجريدها عن رقّ الطبيعة، وأسْر قواها الشهويّة والغضبيّة والوهميّة، التي هي مداخل الشيطان في باطن الإنسان، وتطهيرها عن أرجاس العنصريّات وقاذوراتها، وتخليصها عن مكائد الشياطين وجنودها الداخليّة والخارجيّة.

فالقرآن مشتملٌ من الحكمة والمعرفة على عظائمها وأصولها، التي عجزت عن دركها أفهام السابقين واللاحقين، ومن الشريعة والطريقة على لطائفها ولبابها، التي خلت عنها زُبر المتقدّمين والمتأخّرين.

ولعمري، إنّه كصورة جمعيّة العالَم المخلوق على صورة الرحمن، الدالّ بهيئته ونِظامه، واشتماله على مَظاهر الصفات الجماليّة من الملائكة وأنوارها ومَن ضاهاها، والصفات الجلاليّة من الأجسام وقواها وما شابَهها، على وجود مَن له الخلْق والأمر.

ونسبة سورة الفاتحة الى القرآن كلّه، كنسبة الإنسان - وهو العالَم الصغير - إلى العالَم - وهو الإنسان الكبير-.

وكما أنّ الإنسان الكامل كتابٌ وجيزٌ ونسخةٌ منتخبةٌ، يوجَد فيه كلّ ما في الكتاب الكبير الجامع الذي لا رطب ولا يابس إلاّ ويوجد فيه، ولا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها. كما قيل:

من كلّ أمرٍ لبُّه ولطيفُهمستودَعٌ في هذه المجموعة


فكذلك فاتحة الكتاب، مع قِصرها ووجازتها، توجَد فيها مجامع مقاصد القرآن، وأسرارها وأنوارها، وليس لغيرها من سائر السور القرآنيّة هذه الجامعيّة، كما ليس لواحد من صوَر أجزاء العالَم ما للإنسان من صورة الجمعيّة الإلهيّة على ما قيل:

ليسَ من الله بمستنكرٍأن يجمعَ العالَم في واحدٍ


والعارف المحقّق، يفهم من هذه السورة الواحدة جميعَ المعارف والعلوم الكليّة المنتشرة في آيات القرآن وسوَره، كما وقعَ التنبهُ عليه، ومن لم يفهم هذه السورة على وجه يستنبط منها عمدة أسرار العلوم الإلهيّة والمعالم الربّانية؛ من أحوال المبدَعو المَعاد، وعلم النفس وما بعدها وما فوقها، الذي هو مفتاحُ سائر العلوم كلّها، فليس هو بعالِم ربّاني، ولا مهتدٍ بتفسيرها على وجهه.

ولو لم تكن هذه السورة مشتملة كما قلنا على أسرار المبدء والمعاد، وعلم سلوك الإنسان إلى ربّه، لما وردت الأخبار على فضلها، وأنّها تُعادل كلَّ القرآن، إذ لا مرتبة ولا فضيلة لشيءٍ بالحقيقة إلاّ بسبب اشتماله على الأمور الإلهيّة وأحوالها كما مرّ مراراً.

ولو أن إنساناً أراد أن يعلم انّ أي الأشياء هو أفضل ما به يتقرّب العبدُ الى الله تعالى، وأيّها اكسير السعادة الأخرويّة التي يجعل حديد قلب الإنسان ذهباً خالصاً وإبريزاً صافيا يليق أن تتختم به يد الملك ويختم به خزائنه الشريفة، فليتأمّل وليذعن ان ذلك يجب أن يكون من الأمور التي أنزلها الله على قلب بشر، ويجب أن يكون ذلك الشيء من قبيل ما يوجَد في كتب الأنبياء سلام الله عليهم وخزائن أسرارهم، والذي أفاض على قلوبهم من العلوم والمعارف.

-24-

ولا بدّ أن يكون النبيّ الذي أوحى الله إليه بهذا الأمر الذي هو أشرف ما يستكمل به جوهر الإنسان، هو أشرف الأنبياء وأفضلهم وخاتمهم عليه وآله أفضل التحيّات وأنور التحميدات.

ولا بدّ أن يكون المكانُ والزمانُ الذي وقع الايحاء والتكليم والهدايةُ له (صلّى الله عليه وآله) بهذا أعلى الأمكنة، وأسعد الأزمنة، فلا بدّ أن يكون ذلك الإنعام عليه عند عروجه إليه تعالى ليلة المعراج، والذي نزلَ ليلة المعراج على النبي (صلّى الله عليه وآله) من السوَر والآيات، كان هذه السورة وخواتيم سورة البقرة.

فهذا مما دلّ على أن أفضل السوَر سورة الفاتحة، وأفضل الآيات خواتيم سورة البقرة، ولهذا لا بدّ وأن يكون كلاً منهما مشتملاً على غاية الكمال الإنساني.

وسبب ذلك، أن سعادة الدارين، إنّما تتمّ بدعوة الخلْق من قِبَله تعالى بواسطة متوسّطٍ مؤيَّدٍ شريفٍ مطاعٍ أمينٍ كما قال تعالى:

{ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ *مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [التكوير81: 20- 21].

ولكلّ مؤيَّد مطاع في الروحانيات مطاع في الجسمانيات، بل المطاع في الروحانيّات ثمرة المطاع في الجسمانيّات، فإنّ الدنيا بحذافيرها مظاهر وفروع لِما في الروحانيات، لأنّ نسبة عالَم الغيب إلى عالَم الشهادة نسبة الأصل إلى الفرع، ونسبة النور الى الظلّ، فكلّ شاهد فله في الغائب أصل، وإلاّ لكان كسراب زايل وخيال باطل، وكلّ غائب فله في الشاهد مثال، وإلاّ لكان الشاهد كشجرة بلا ثمرةٍ، ودليل بلا مدلولٍ، فالمطاعُ ها هنا صورةُ المطاعِ هناك، والمطاعُ في عالَم الأرواح هو المصدر، والمطاع في عالَم الأجسام هو المظهر، وبينهما ملاقاة واتّصال، وبهما تتمّ سعادة الدارَين، لأنهما يدعوان الى الله بالرسالة.


وحاصل الدعوة والرسالة أمور سبعة تشتمل عليها خواتيم سورة البقرة، منها أربعةٌ متعلقةٌ بأسرار المبدء وهي: معرفة الربوبيّة وعلم المفارقات من الحكمة الإلهيّة، أعني معرفة الله وملائكته وكتبه ورسله:

{ آمَنَ ٱلرَّسُولُ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَٱلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِٱللَّهِ وَمَلاۤئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [البقرة2: 285].


ومنها ما يتعلّق بالوسط وهو إثنان: أحدهما معرفة العبوديّة:

{ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [البقرة2: 285].

والثاني كمال العبوديّة، وهو الإلتجاء الى الله تعالى وطلب المغفرة منه:

{ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } [البقرة2: 285]،

وواحد يتعلق بالمعاد، وهو الذهاب الى الملك الجواد:

{ وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ } [البقرة2: 285]

فكذلك تشتمل هذه السورة على هذه الأمور السبعة:


فقوله: { بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } ، مشتملٌ على توحيد الذات والصفات.

-25-

وقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، فيه توحيد الأفعال وهي قسمان: عالم الأمر، وفيه الملائكة المقرّبون، وعالَم الخلْق، وأصله وصفوته الأنبياء والمرسلون ومن يتلوهم.

وقوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ، إشارة إلى عالم التحميد والتقديس والتسبيح، وفيه الملائكة المسبّحون بحمده تعالى.

وقوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، إشارة الى كُمَّل أهل العلم والعرفان، وهم الأنبياء والأولياء ومن يتلوهم.

وقوله: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، أي رحمـٰن الدنيا ورحيم الآخرة، فيه إشارة الى أهل الرحمة الإلهية في كِلا العالَمين، وهم الملائكة والرسل.

وقوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } ، إشارة الى حقيقة المعاد، ورجوع الكل إليه تعالى، لأنه غاية الغايات.

وقوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } ، إشارة الى كيفية العبودية بتهذيب الأخلاق وتصفية الباطن، وإلى طلب الالتجاء الى الله، وهي حالة الإنسان فيما بين البداية والنهاية.

وقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، إشارة الى العلم بكلمات الله وآياته.

وقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، إلى آخر السورة، إشارة الى القرآن المجيد الذي هو أشرف الكتب السماوية، وهي الألواح النفسية النازلة على الأنبياء السابقين، لأن الجوهر النفسي العقلي من النبي (صلّى الله عليه وآله) الذي هو جوهر النبوة، كلمة إلهية بوجه، وكتاب مبين فيه آيات الحكمة والمعرفة بوجه، هو بعينه صراط الله العزيز الحميد، إذ لا يمكن وصول العبد الى الله إلا بعد الوصول الى معرفة ذاته، وكذا من ينوب عنه (ع)، كما دلّ عليه الحروف المقطّعات القرآنية: " عليٌّ صراط حقّ نُمسكه ".

وتنبعث من هذه المراتب سبع مقامات في المكالمة الحقيقية مع الله بالدعاء:

أولها: الذِكْر:

{ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [البقرة2: 286].

فضد النسيان وهو الذكر،

{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } [الكهف18: 24].

وهذا الذكر إنما يحصل بقوله: { بسم الله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }.


وثانيها:

{ رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِنَا } [البقرة2: 286]،

ورفع الإصْر والمشقّة في الحمل يوجب الحمد: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }.


وثالثها:

{ رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [البقرة2: 286]،

وذلك إشارة الى كمال رحمته: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }.


ورابعها:

{ وَٱعْفُ عَنَّا } [البقرة2: 286]

لأنك أنت المالك للقضاء والحكومة يوم الآخرة: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }.


وخامسها:

{ وَٱغْفِرْ لَنَا } [البقرة2: 286]،

لأنا التجأنا بكليّتنا إليك، وتوكّلنا في جميع الأمور عليك: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.


وسادسها:

{ وَٱرْحَمْنَآ } [البقرة2: 286]،

لأنا طلبنا الهداية منك { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }.


وسابعها:

{ أَنتَ مَوْلاَنَا فَٱنْصُرْنَا عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } [البقرة2: 286]،

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.


فهذه المراتب ذكَرها محمد (صلّى الله عليه وآله) في عالم الأرواح عند صعوده إلى المعراج، فلمّا نزل من المعراج الجسماني السماوي، فاض أثر المصدر على المظهر، فوقع التعبير عنها بالمكالمة الصورية في عالم السماء الدنيا بينهما بسورة الفاتحة، فمن قرأها في صلاته، صعدت هذه الانوار من المظهَر إلى المصدَر، كما نزلت في عهد محمّد (عليه وآله السلام) من المصدَر الى المظهرَ، ولهذا السبب قال صلوات الله عليه وآله:

-26-

الصَلاةُ معراجُ المؤمنِ ".

وأما الاخبار الدالّة على فضلها فكثيرة. منها ما روي مسنداً الى أبيّ بن كعب قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): " أيّما مسلم قرءَ فاتحةَ الكتاب، أُعطي من الأجر كأنّما قرءَ ثُلثَي القرآن. وفي رواية: كأنّما قرءَ القرآن ".

وروي عنه بسند آخر قال: قرأتُ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاتحة الكتاب، فقال: " والذي نفسي بيده، ما أنزل الله في التوراة والإنجيل ولا في الزبور ولا في القرآن مثلَها. هي أمّ الكتابِ. وهي السبع المثاني. وهي مقسومةٌ بين الله وبين عبده ولعبده ما سأل ".

وفي كتاب محمد بن مسعود العيّاشي، باسناده عن النبي (عليه وآله السلام) قال لجابر بن عبد الله: " يا جابِر، ألا اعلّمك بفضل سورةٍ أنزلها الله في كتابه؟ قال: فقال له جابر: بلى بأبي أنت وأمّي يا رسول الله، علّمنيها، قال: فعلّمه الحمدَ، أمّ الكتابِ، ثمّ قال: يا جبر، ألا أُخبِركَ عنها؟ قال: بلى بأبي أنت وأمّي، فأخبرني. فقال: هي شفاءٌ من كلّ داءٍ إلاّ السام " ، والسام الموت.

وعن جعفر الصادق (عليه السلام) قال: من لم يبرأه الحمدِ لم يبرأه شيء.

وروي عن امير المؤمنين (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): " إنّ الله عزَّ وجلّ قال: يا محمد، { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثاني والقُرْآنُ الْعظيم }. فأفرد الامتنان عليَّ بفاتحة الكتاب، وجعلها بإزاء القرآن " وإنّ فاتحةَ الكتاب أشرفُ ما في كنوز العرشِ، وإنّ الله خصَّ محمداً وشرَّفه بها، ولم يشرك فيها أحداً من أنبيائه، ما خلا سليَمان (عليه السلام)، فإنّه أعطاه منها: { بِسْمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيم } ، أَلاَ ترى يحكى عن بلقيس حين قالت:

{ إِنِّيۤ أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ *إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [النمل27: 29 - 30].

ألا فمَن قرأها معتقداً لموالاة محمد وآله، منقاداً لأمرها، مؤمناً بظاهرها وباطنها، أعطاه الله بكلّ حرفٍ منها حسنةً، كلّ واحدٍ منها أفضل له من الدنيا بما فيها، ومن استمع الى قارئ يقرأها كان له قدْر ثُلث ما للقاري، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرّض له، فإنّه غنيمةٌ لا يذهبن أوانُه فيبقى في قلوبكم الحسرة.


وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، أنّ النبي (صلّى الله عليه وآله) قال: إنّ القوم ليبعثُ الله عليهم العذابَ حتماً مقضيّاً، فيقرأ صبيٌّ من صِبيانهم في الكتاب: الحمدُ لله ربِّ العالمين فيسمعه الله تعالى، فيرفع عنهم العذابَ أربعين سنة.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بَينا نحنُ عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، إذ أتاه مَلَك فقال: ابشر بنورَين اوتيتَهما، لم يؤتهما نبيٌّ قبلَك: فاتحةُ الكتاب وخواتيم سورة البقرة، لن يقرأ [أحد] حرفاً منها إلا اعطيته (ما يتضمّنه - ن).

-27-

أقول: وفي طيِّ هذه الأخبار - سيما هذا الأخير - إشاراتٌ علميّةٌ، وتعريفات سرّية، ورموز معنويّة، وتنبيهات عرفانيّة على جوامع الكمالاتِ العقليّة، والمعارج الإلهية المندرجة في هذه السورة، لا يعرفُ قدرَها، ولا يفهم غورَها إلاّ الراسخون في العلم والدين، والسالكون طرقَ الكشف واليقين. لا المتشبثّون بذيل العبارات، والمتردّدون كالخفافيش في ظلمات هذه الاستعارات.

تتمة استبصارية

[جامعية السورة لأهم المعارف]

ومن فضائل هذه السورة، إنّها جامعةٌ لكلّ ما يفتقرُ إليه الإنسان في معرفة المبدء والوسط والمعاد:

الحَمدُ لله: إشارة الى إثبات الصانع المختار العليم الحكيم، المستحقّ للحمدِ والتعظيم.

ربِّ العَالَمين: يدلّ انّ ذلك الإله واحدٌ، وانّ كل العالمين ملكه، وليس في العالَم إله سواه ولهذا جاء في القرآن الاستدلال بخَلْق الخلائق كثيراً:

{ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [البقرة2: 258].
{ ٱلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } [الشعراء26: 78].
{ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه20: 50].
{ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ ٱلأَوَّلِينَ } [الشعراء26: 26].
{ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } [البقرة2: 21]
{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق96: 1 - 2].


وهذه الحالة، كما انّها في نفسها دليلٌ على وجود الربّ، فكذلك هي في نفسها إنعامٌ عظيمٌ، وذلك لأنّ تولّد الأعضاء المختلفة الطبائع والصوَر من النطفة المتشابهة الأجزاء، لا يمكن، إلاّ إذا قصَد الخالِق ايجادَ تلك الأجزاء على تلك الصوَر والطبائع، وكلٌّ منها مطابقٌ للمطلوب، موافقٌ للغرض، كما يشهد به علم تشريح الأبدان، فلا أحقَّ بالحمْد والثناء من هذا المنعِم المنّان الكريم، الرحمن الرحيم، الي شمل إحسانُه وعمَّ امتنانه قبل الموت وبعد الموت.

مَالِكِ يَومِ الدين: يدلّ على أن من لوازم حكمته ورحمته، أن يقدّر بعد هذا اليوم يوماً آخر يظهر فيه تمييز المُحسِن من المُسيء، وانتقام المظلومِ من الظالِم، وها هنا تمّت معرفة الربوبيّة.

ثمّ من قوله: { إيَّاك نَعبُدُ } ، اشارة الى الأمور التي لا بدّ من معرفتها في تقرير العبوديّة وهي نوعان: والآثار المتفرّعة على الأعمال، كالأحوال، ثمّ الأعمال لها رُكنان، أحدهما: الإتيان بالعبادة وهو قوله: { إيَّاكَ نعبُدُ } ، والثاني: علمه بأنّه لا يمكنه ذلك إلاّ بإعانة الله، وهو قوله: { وَإيَّاكَ نَستَعينُ }.

وأما الآثار والأحوال المتفرّعة على الأعمال، فهي حصول الهداية، والتحلّي بالأخلاق الفاضلة المتوسّطة بين الطرفين، المستقيمة بين المنحرفين { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقيمِ } إلى آخره.

وفي قوله: { صِرَاطَ الّذينَ أنْعَمْتَ عَلَيْهِم } ، دليلٌ على أن الاستضاءَة بأنوار أرباب الكمال وأهل الحقّ، خلّةٌ محمودةٌ، وشيمةٌ مرضيّةٌ: هم القوم لا يشقى جليسهم.


{ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران3: 31].

وفي قوله: { غَيْر المَغْضُوبِ عَلَيهِم وَلاَ الضّالّين } ، إشارة الى أنّ التجنّب عن مرافقة أصحاب البِدعِ والأهواء أمرٌ واجب. شعر:

الجمْر يوضَع في الرمادِ فيخمدهفكلّ قرينٍ بالمقارِن يقتدي



فصل

في نظم هذه السورة وترتيبها

إنّ العاقل الفِهم المميّز، لما نظَر في وجودات هذا العالَم، علم بالمشاهدة والقياس افتقار بعضها إلى بعض، تحقّق وتيقّن أنّها في سلسلة الحاجة منتهية الى موجودٍ قديمٍ قادرٍ يفعل الخيرات كلّها، ويرحم على خلقه في الآخرة والأولى، فابتدء بآية التسمية تبرّكاً واستفتاحاً باسمه، واعترافاً بآلهيّته، واسترواحاً الى ذكر فضله ورحمته وكرمه ورأفته.

-28-

ولمّا كان الاعتراف بالحقّ، والعلم بالله الفرد الأحد الذي هو مبدء الخيرات كلّها، وفاتح المهمات جلّها، نعمة جليلة، اشتغل بالشكر له والحمد فقال: الحَمْدُ لله، ولما رأى سراية نور التوحيد ونفوذ رحمة الوجود على غيره واضحة بنور الحجّة والبرهان، كما شاهَد آثارها على نفسه لائحةً بقوّة الكشف والعيان؛ عرف انّه ربّ الخلائق أجمعين فقال: رَبِّ العَالَمين.

ثمّ لما رأى شمول فضله للمربوبين ثابتاً بعد إفاضة أصل الوجود عليهم، وعموم رزقه للمرزوقين حاصلاً بعد إكمال الصورة في أطوار الخلقة لهم، قال: الرَّحْمٰن

فلما رأى تفريطهم في حقّه وواجب شكره، وتقصيرهم في عبادته والانزجار عند زجره، واجتناب نهيه، وامتثال أمره، وأنّه تعالى يتجاوز بالغفران، ولا يؤاخذهم عاجلاً بالعصيان، ولا يسلبهم نعمَه بالكفران، قال: الرحيم.

ولما رأى ما بين العباد من التباغي والتظالم، والتكالم والتلاكم، وأن ليس بعضهم من شرّ بعضهم بسالمٍ، علِم أنّ وراءَهم يوماً ينتصف فيه للمظلوم من الظالِم فقال: { مَالِك يَومِ الدّين }.

وإذا عرف هذه الجملة، فقد علم أنّ له خالقاً رازقاً رحيماً، يحيي ويميت، ويبدئ ويعيد وهو الحي الذي لا يموت، والإله الذي لا يستحق العبادة سواه والمستعان الذي لا يستعين بغيره من عرفه ووالاه، وعلم أنّ الموصوف بهذه الأوصاف كالمدرَك بالعيان والمشهود بالبرهان، تحوّل عن لفظ الغيبة الى لفظ الخطاب فقال: ايّاكَ نَعبُد.

ولما رأى اعتراض الأهواء والشبهات، وتعاور الآراء المختلفات، ولم يجد مُعِيناً غير الله، سأله الإعانة على الطاعات بجمع الأسباب لها والوصلات فقال: ايّاكَ نَستَعينُ. ولما عرف هذه الجملة، وتبيّن أنّه بلغ في معرفة الحقّ المدى، واستقام على منهج الهُدى، ولا يأمن العثْرة لارتفاع العصْمة، سأل الله تعالى التوفيق للدوام عليه، والثبات والعصْمة من الزلاّت فقال: { اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقيم }. وهذا لفظ جامع كما علمتَ، مشتمل على مجامع أسباب التوفيق والتسديد، ولطائف نعم الله في حق من يختاره للنهاية ويريد، وأوجب الله طاعتهم بعد طاعته من الأئمة الهادين والأولياء المرضيين.

وإذا علم ذلك، علم أنّ لله عباداً خصّهم بنعمته، واصطفاهم على بريّته وجعلهم حُججاً على عباده، ومناراً في بلاده، فسأله أن يلحقه بهم ويسلم به سبيلهم فقال: صِرَاطَ الّذينَ انْعَمْتَ عَلَيْهِم.

وسأله أيضاً أن يعصمه عن مثل أحوال الذين زلّت أقدامُهم فضلّوا، وعدلت أفهامُهم فأضلّوا، ممن عانَد الحقّ وعمي عن طريق الرشد وخالَف سبيلَ القصد، فغضب الله عليه ولعنَه وأعدّ له عذاباً أليماً وخزياً مقيماً.

-29-

إذ قد شكّ في واضح الدليل فضلّ عن سواء السبيل، فقال: { غيْرِ الْمَغضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضّالّين }.

منهج آخر

في نظم فاتحة الكتاب

وهو إن للإنسان أيّاماً ثلاثة:

الأمس: والبحث عنه يسمّى بمعرفة المبدء واليوم الحاضر: والبحث عنه يسمى بالوسيط والغد: والبحث عنه يسمى بعلم المعاد. والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب وتعليم هذه المعارف الثلاثة التي كمال النفس الإنسانية منوط بمعرفتها، ونفس الأعمال البدنيّة إنّما تراد لأجلها، لأنّ غايتها تصفية مرآة القلب عن الغواشي البدنيّة، والظلمات الدنيويّة، لأن يستعدّ لحصول هذه الأنوار العقليّة، وإلاّ فنفس هذه الأعمال الحسَنة ليس إلا من باب الحركات والمتاعِب، ونفس التصفية المترتبة عليها ليست إلا أمراً عدميّاً لو لم يكن معها استنارة صفحة القلب بأنوار الهداية، وتصوّرها بصورة المطالِب الحقّة الإلهيّة، والقرآن متضمّن لها وهي العمدة الوثقى فيه لما ذكرنا.

ولمّا كانت هذه السورة مع وجازتها متضمنة لمعظم ما في الكتب الإلهيّة من المسائل الحقّة، والمقاصد اليقينيّة المتعلّقة بتكميل الإنسان، وسياقته إلى جوار الرحمن، فلا بد أن يتحقّق فيها جميع ما يحتاج اليه الإنسان منها، فنقول هي هكذا.

أمّا اشتمالها على علم المبدء، فقوله تعالى: { الْحَمْدُ لله رَبِّ العَالَمين } ، إشارةٌ الى العلم بوجود الحقّ الأول، وأنّه مبدأ سلسلة الموجودات، وموجِد كلّ العوالِم والمخلوقات.

وقوله: { الرَّحْمٰنِ الرَّحيـم } إشارة إلى العلم بصفاته الجلاليّة وأسمائه الحُسنى.

وقوله: { مَالِكِ يَومِ الدّين } هو إثبات كونه سبباً غائيّاً للمخلوقات كلّها، كما انّه سببٌ فاعليٌ لها جميعاً، ليدلّ على أنّ فاعليّته على غاية الحِكْمة والتمام، ورعاية المصلحة للأنام.

وأما اشتمالها على علْم الوسط فلأن قوله: { ايّاكَ نَعبُدُ وايّاكَ نَستَعين } ، إشارة الى الأعمال والأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عاملاً بها ومديماً عليها، ما دام كونه في هذه الحياة الدنيا. وهي قسمان: بدنيّة وقلبيّة. فالبدني: تهذيب الظاهر عن النجاسة، وتزيينه بالعبادة، كالصلاة والصيام وغيرها.

والقلبي: تهذيب الباطن عن الغشاوات وخبائث الملكات، بإعانة الله وتوفيقه، لتستعدّ نفسه بذلك لأن تتنوّر بأنوار المعارف الإلهية، وتستكمل بالحقائق الربّانية، ليتقرّب بذلك الى الله ويحشر الى دار كرامته كما دلّ عليه قوله تعالى: { اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمِ } ، أي علّمنا طريق الوصول إليك.

وأما اشتمالها على علم المعاد، وهو العلم بأحوال النفس الإنسانيّة الكاملة في العلم والعمل، المبرأة عن آفة الجهل ونقص العصيان، فقوله: { صِرَاطَ الّذينَ انْعَمْتَ عَلَيْهِم } إلى آخراها؛ إشارة الى علم النفس، وهي صراط الله العزيز الحميد، وباب الله المؤتى منه الى الحق، فبالنفس الإنسانيّة العالِمة العامِلة المهتدية بنور الله، يُساق الخلْق الى الحقّ، ويدخل الخلائق كلهم في طريق العود من هذا الباب الى الخالِق، فإنّ الوجود في صورة دائرة انعطف آخرها على أولها، فكما أنّ الوجود في الابتداء كان أولاً العقل، ثمّ النفس الكليّة، ثمّ الطبيعة الكليّة، ثمّ الأبعاد والأجرام كلّها، ففي الإنتهاء كان أولاً جماداً، ثمّ نباتاً، ثمّ حيواناً، ثمّ إنسانا، وله مراتب باطنيّة، كان أولاً في مقام الطبيعة والنفس الكليّة، ثمّ الطبيعة الكليّة، ثمّ الأبعاد والأجرام كلّها، ففي الإنتهاء كان أولاً جماداً، ثمّ نباتاً، ثمّ حيواناً، ثمّ إنساناً، وله مراتب باطنيّة، كان أولاً في مقام الطبيعة والنفس، ثمّ في مقام القلب والعقل، ثمّ في مقام الروح والسرّ، وإذا بلغ الى هذا المقام، اتّصل بغاية الكمال والتمام.

-30-

تذييل

ثمّ إنّ لهذه الكريمة نكاتٍ ووجوهاً أخرى من التأويل كثيرة، مذكور بعضها في التفاسير المعتبرة لأهل العلم والتحصيل، كالكبير والنيسابوري وغيرهما، اخترت منها وجوهاً ثلاثة فأردت ايرادها هاهنا تكميلاً للكتاب، وتكثيراً للفوائد في هذا الباب.

الوجه الاول

إن آيات الفاتحة سبعٌ، وأعمال الصلاة المحسوسة الواجبة بالإتّفاق سبعةٌ، إذ النيّة فعلُ القلب وليس بمحسوس، ومراتب خلقة الإنسان وأطوارها سبع، كما قال تعالى:

{ وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ *ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ *ثُمَّ خَلَقْنَا ٱلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا ٱلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا ٱلْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا ٱلْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ ٱللَّهُ أَحْسَنُ ٱلْخَالِقِينَ } [المؤمنون23: 12 - 14].


وكذلك مراتب جوهر باطنه وأطواره سبعٌ وهي الطبعُ والنفسُ والقلبُ والروحُ والسروُّ والخفيُّ والأخفى، فنور آيات الفاتحة يسري من ألفاظها المسموعة الى الأعمال السبعة المحسوسة، ومنها الى هذه المراتب الخلقيّة، ومن معانيها الى النيّات المتعلّقة بتلك الأعمال، ومنها الى هذه المراتب الباطنيّة الأمريّة، فيحصل للقلب أنوارٌ روحانيةٌ ثمّ ينعكس منه الى ظاهر المؤمن: مَن كثُر صلاتُه بالليلِ حسُن وجهُه بالنهار.

الوجه الثاني

كان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) معراجان من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، ثمّ من المسجد الأقصى الى ملكوت السماء، هذا في عالَم الحسّ، وأمّا في عالَم الروح، فمن الشهادة الى الغيب، ثمّ من الغيب الى غيب الغيب، هذا بمنزلة قوسين متلاصقين. فتخطّاهما محمّدٌ (صلّى الله عليه وآله)، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ، وقوله: او ادْنىٰ، إشارة الى فنائه في نفسه.

والمراد بعالَم الشهادة، كلّ ما يتعلق بالجسم والجسمانيات.

وبعالَم الأرواح، ما فوق ذلك من الأرواح السفليّة، ثمّ المتعلّقة بسماءٍ سماءٍ إلى الملائكة الحافّين من حول العرش، ثمّ الى حَمَلة العرش من عند الله الذين طعامهم وشرابهم محبّته تعالى، وانسهم بالثناء عليه، ولذّتهم في خدمته، لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون، يسبّحون الليل والنهار لا يفترون.

وهكذا يتصاعد إلى نور الأنوار وروح الأرواح، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله أو من ارتضاه.

والمقصود؛ أنّ نبيّنا (صلّى الله عليه وآله)، لما عرج وأراد أن يرجع، قال ربّ العزة: المسافرُ إذا عادَ إلى وطنه أتحف أصحابَه. وإنّ تحفةَ أمّتك الصلاة الجامعة بين المعراجين: الجسمانيّ بالأفعال، والروحاني بالأذكار والنيّات.

فليكن المصلّي ثوبه طاهراً وبدنه طاهراً، لأنه بالواد المقدس طُوى، ويصفي النفس عن الكدورات الشيطانيّة، والهواجس البشريّة، لأنه بين يدي الله.

-31-

والصلاة هي التعبّد للمعبود الأعظم، والتعبّد هو عرفان الحقّ الأول بالسرّ الصافي والقلب النقيّ.

وأيضاً، عنده مَلَكٌ وشيطانٌ ودينٌ وعقلٌ وهوىً، وخيرٌ وشرٌّ وصدقٌ وكذبٌ، وحقّ وباطلٌ، وقناعةٌ، وحِرصٌ وحِلم وطيْشٌ، وسائر الأخلاق المتضادّة والصفات المتنافية، فلينظر أيّها يختار، فإنّه إذا استحكم المرافقة تعذّرت المفارقة، قال تعالى:

{ يَـۤأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ } [التوبة9: 119].


ثمّ إذا تطهَّر وتجرَّد، فليرفع يدَيه إشارة الى توديع الدنيا والآخرة، وليوجّه قلبَه وروحَه وسرَّه الى الله تعالى، ثم ليقُل: الله أكبرَ، أي من كلّ الموجودات، بل هو أكبر من أن يقاس إليه غيره.

وقل: وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذي فَطَرَ السَّماواتِ والارْضَ حَنيفاً، فقولك: وَجَّهتُ وجهي؛ هو معراج الخليل على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام. كما انّ قولك: سُبْحَانَكَ اللّهمَ وبِحمْدِك، معراج الملائكة حيث قالوا: نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ، وقولك: انّ صلاتي وَنُسُكي وَمَحْيَايَ وَمَماتي لله رَبِّ العَالَمِين، معراج الحبيب محمّد (صلّى الله عليه وآله).

فقد جمع المصلّي بين معراج الملائكة المقرّبين، ومعراج عظماء الأنبياء المرسلين.

ثمّ إذا فرغتَ من هذه الحالة فقل: اعُوذُ بالله منَ الشّيطانِ الرَجيم، حذرَاً عن مَكْره وإغوائه، ودفعاً لإعجابك عن نفسك، وفي هذا المقام يُفتح لك أحدُ أبواب الجنّةِ وهو بابُ المعرفة.

وبقولك: { بِسْم الله الرّحمنِ الرَّحيم } ، يُفتح باب الذِكْر.

وبقولك: { الحَمدُ لله ربِّ العالَمين } ، يُفتح باب الشكْر.

وبقولك: { الرّحمٰن الرَّحيـم } ، يُفتح باب الرَجاء.

وبقولك: { مَالِك يَوم الدينِ } ، يُفتح باب الخوف.

وبقولك: { ايَّاك نعبدُ وايّاكَ نستعين } ، يفتح باب الإخلاص المتولّد من معرفة العبوديّة.

وبقولك: { اهدِنَا الصرَاطَ المستقيم } ، يفتح باب الدعاء والتضرّع، ادْعوني اسْتَجِب لَكُمْ.

وبقولك: { صِرَاطَ الذينَ أنْعَمتَ علَيهِم } إلى آخره، يفتح بابُ الإقتداء بالأرواح الطيّبة، والإهتداء بأنوارهم.

فجنّات المعارف الربّانية انفتحت لك أبوابُها الثمانية بهذه المقاليد الروحانيّة، فهذا بيان المعراج الروحاني في الصلاة.

وأمّا الجسماني، فأولى المراتب أن يقومَ بين يدَي الله كقيام أصحاب الكهف:

{ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ } [الكهف18: 14]،

بل قيام أهل القيامة يوم يقوم الناس لربّ العالَمين.


ثمّ اقرء: سبحانَك اللهم وبحمدِك، ثمّ وجَّهت وجهي، ثمّ الفاتحة، وبعدها ما تيسّر لك من القرآن، واجتهد في أن تنظر من الله إلى عبادتك، حتّى تستحقرها، وايّاك وأن تنظر من عبادتك الى الله، فإنّك إن فعلتَ ذلك صرتَ من الهالكين، وهذا سرّ قوله: { ايّاكَ نَعْبدُ وايَّاكَ نَستَعينُ } ، كما ذكر.

واعلم أنّ نفسك إلى الآن جارية مجرى خشبَة عرضتَها على نار خوف الجلال، فلانَت، فاجعَلْها منحنيةً بالركوع، ثمّ اتركها لتستقيم مرّة أخرى، فإنّ هذا الدين متينٌ فأَوْغِل فيه بالرفْق، فلا تبغّض طاعةَ الله الى نفسك، فان المُنْبَتّ لا أرضاً قطَعَ ولا ظهْراً أبقى.

-32-

فإذا عادت الى استقامتها فانحدر الى الأرض بغاية التواضع، واذكُر ربّك بغاية العلوّ وقل: سُبحان ربّي الأعلى، فإذا سجدتَ ثانية فقد حصل ثلاثة أنواع من الطاعة، ركوع واحد، وسجدتان، فبالركوع تنجو من عقبة الشهوات.

وبالسجود الأول من عقبة الغضب الذي هو رئيس المؤذيات.

وبالسجود الثاني تنجو من عقبة الهوى الداعي الى كل المضلاّت، فإذا تجاوزت عن هذه الدركات وصلتَ الى الدرجات العاليات، وملكت الباقيات الصالحات، وانتهيتَ الى عتبة باب الجلال والإكرام، مدبّر عالَمي النور والظلام، فقل: أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له؛ لتتمّ لك بهذه الشهادة معرفة المبدأ، وأشهدُ أنّ محمداً عبده ورسوله، لتتمّ لك معرفةُ المعاد، وليصعد إليه نورُ روحك، وينزل اليك روح محمّد (صلّى الله عليه وآله)، فيتلاقى الروحان، ويحصل هناك الرَوْح والريحان، فقل: السلامُ عَلَيكَ أيّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته، فعند ذلك يقول محمد (صلّى الله عليه وآله): السلامُ علَينَا وعَلَى عِبادِ الله الصَّالِحين.

ثمّ إذا ذكرتَ الله في صلاتك بهذه الأثنية والمَحامد، ذكَر الله ايّاك في محافل الملائكة كما قال …………………: مَن ذكَرني في ملاءٍ ذكرتُه في مَلاءٍ خيرٍ من مَلائِه.

وإذا سمع الملائكةُ ذلك اشتاقوا الى العبد، فقال الله: إن الملائكة اشتاقوا الى زيارتك، وقد جاؤوك زائرين، فابدأ بالسلام عليهم لتكون من السابقين، فقل: السلامُ عَليكُمْ ورحمةُ الله وبركاتُه، كلام أهل الجنة الذين تحيّتهم فيها سلام، فلا جَرَم إذا دخَل المصلّون الجنةَ { يَدخُلُونَ عليْهمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقَبى الدَّارِ }.

الوجه الثالث

إنّ آياتِ الفاتحة سبعٌ، والأعمال المحسوسة في الصلاة غير القراءة والأذكار سبعةٌ: القيامُ، والركوعُ، والانتصابُ منه، والسجودُ الأول، والانتصاب منه، والسجودُ الثاني، والقَعْدةُ.

فهذه الأعمال كالشخص، والفاتحةُ لها كالروح، وإنّما يحصل الكمال والحياة عند اتّصال الروح بالجسَد. فقوله: { بِسمِ الله الرَّحمنِ الرَّحيمِ } ، بإزاء القيام، ألاَ ترى أنّ الباء في بِسْمِ الله، لمّا اتّصل باسم الله حصَل قائماً مرتفعاً.

وأيضاً، التسمية لبداية الأمور، كلّ امرٍ ذي بالٍ يُبدأ فيه باسم الله فهو أبتر والقيام أيضاً أول الأعمال.

وقوله: { الحمدُ لله ربِّ العَالَمين } ، بإزاء الركوع، لأنّ الحمد في مقام التوحيد نظراً إلى الحقّ وإلى الخلْق، والمنعم والنعمة. لأنّه الثناء على الله بسبب الإنعام الصادر منه إلى العبد، فهو حالةُ متوسّطة بين الإعراض والإستغراق، كما انّ الركوع حالةٌ متوسّطة ين القيام والسجود، وأيضاً ذكْر النعمة الكثيرة مما يثقل الظَهْر فينحني.

وقوله: الرحمٰنِ الرحيـم، مناسب للانتصاب، لأنّ العبد لمّا تضرّع الى الله بالركوع، فاللائق برحمته أن يردّه الى الانتصاب، ولهذا قال (صلّى الله عليه وآله): إذا قال العبدُ: " سمِع الله لِمنْ حَمِدَه " نظَر إليه بالرحمة.

وقوله: مَالِك يوم الدين مناسبٌ للسجدة الأولى، لدلالته على كمال القهر والجلال والكبرياء، وذلك يوجب الخوف الشديد المستتبع لغاية الخضوع.

-33-

وقوله: { ايَّاكَ نعبدُ واياكَ نَستعين } ، مناسب للقعدة بين السجدتين، لأن إيّاك نعبدُ إخبار عن السجدة التي تقدّمت، وإيّاك نَستعينُ، إستعانة بالله في أن يوفّقه للسجدة الثانية.

وقوله: { اهدِنا الصِّرَاطَ المُستَقيمِ } ، سؤالٌ لأهم الأشياء، فتليق به السجدة الثانية لتدلّ على نهاية الخضوع.

وقوله: { صِرَاطَ الذينَ انْعَمْتَ عَلَيْهِم } إلى آخره، مناسبٌ للقعود، لأنّ العبدَ لمَا أتى بغاية التواضع، قابلَه الله بالإكرام والقعود بين يديه، وحينئذ يقرأ ما قرأه محمّد (صلّى الله عليه وآله) في معراجه، فالصلاة معراجُ المؤمن.

وجه رابع

إنّ المداخل التي يأتي الشيطان من قِبلَها ثلاثة: الشهوةُ والغضبُ والهوى والشهوةُ بهيمةٌ والغضب سَبْعٌ والهوى شيطان، فالشهوة آفة عظيمة، لكن الغضب أعظم منها. والغضب آفة عظيمة، لكن الهوى أعظم منه، قال سبحانه:

{ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَاءِ وَٱلْمُنْكَرِ وَٱلْبَغْيِ } [النحل16: 90].


الفحشاء: الشهوة والمنكَر: الغضب والبغي: الهوى. وبهذه الثلاثة وقع المسخ في أمّة موسى (عليه السلام):

{ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّاغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً } [المائدة5: 60].


فبالشهوة يصير الإنسان ظالماً لنفسه، وبالغضب ظالماً لغيره، وبالهوى [ظالماً] لربه، ولهذا قال (صلّى الله عليه وآله): " الظلمُ ثلاثةٌ ظلم لا يُغفَر وظلم لا يُترَك وظلم عسى الله أن يتركه ".

فالظُلم الذي لا يُغفَر هو الشرك بالله:

{ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان31: 13].

والظلم الذي لا يُترك هو ظلم العباد بعضهم بعضاً. والظُلم الذي عسى الله أن يتركه، هو ظلم الإنسان نفسه.


ونتيجة الشهوة الحرص والبخل، ونتيجة الغضب العُجب والكِبر، ونتيجة الهوى الكفر والبِدْعَة، ويحصل من اجتماع هذه الستّة في بني آدم خصلةٌ سابعة، هي العُدوان المستلزم للبُعد عن رحمة الله، أي الاحتجاب عنه، وهي نهاية الأخلاق الذميمة، كما انّ الشيطان هو النهاية في الأشخاص المذمومين.

فإذا تقرَّر هذا نقول: الأسماء الثلاثة في التسمية دافعةٌ للأخلاق الثلاثة الأصليّة، والآيات السبع التي هي الفاتحة دافعة للأخلاق السبعة.

بيان ذلك: انّ من عرف الله تباعَد عنه شيطانُ الهوى:

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية45: 23].

يا موسى، خالِف هواكَ فإنّي ما خلقتُ خلقاً نازَعَني في ملكي إلاّ هواك.


ومن عرف انّه رحمٰن لم يغضب، لأن منشأ الغضب طلبُ الولاية والولاية للرحمن:

{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } [الفرقان25: 26].


ومن عرف انّه رَحيمٌ، صحّح نسبتَه إليه، فلا يظلم نفسه، ولا يلطخها بالأفعال البهيميّة.

وأما الفاتحة، فإذا قال { الحمدُ لله } فقد شكَر الله واكتفى بالحاصل فزالت شهوته. ومن عرف انّه { رب العالمين } زالَ حرصُه فيما لم يجد، وبخله فيما وجَد، ومن عرف انّه { مالك يومِ الدين } بعد أن عرف انّه { الرحمن الرحيم } زال غضبه.

ومن قال: { ايّاكَ نعبدُ وايّاك نستعينِ } زال كِبْره بالأول، وعُجْبه بالثاني.

وإذا قال: { اهدِنا الصِّراط المُستَقيم } اندفع عنه شيطانُ الهوى، وإذا قال: { صِراطَ الّذينَ انعَمتَ عَلَيْهِم } زالَ عنه كفرُه، وإذا قال: { غَيرِ المَغضُوبِ علَيهِم وَلاَ الضَّالّين } اندفعت بِدْعَتُه، وإذا زالت عنه الأخلاق الستّة التي هي مجامع الشرور كلّها، زالَ عنه حجابُه وبُعده عن جناب القدس.

-34-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #57  
قديم 01-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير أيسر التفاسير/ أبو بكر الجزائري (مـ1921م- ) مصنف

تفسير أيسر التفاسير/ أبو بكر الجزائري (مـ1921م- ) مصنف


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


{ صرَاطَ الذينَ أنْعَمتَ عَلَيهِم }

شرح الكلمات:

{ الصراط }: تقدم بيانه.

{ الذين أنعمت عليهم }: هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، وكل من أنعم الله عليهم بالإيمان به تعالى ومعرفته، ومعرفة محابه، ومساخطه، والتوفيق لفعل المحاب وترك المكاره.

معنى الآية:

لما سأل المؤمن له ولاخوانه الهداية الى الصراط المستقيم، وكان الصراط مجملاً بيّنه بقوله صراط الذين أنعمت عليهم وهو المنهج القويم المفضى بالعبد إلى رضوان الله تعالى والجنة وهو الاسلام القائم على الإيمان والعلم والعمل مع اجتناب الشرك والمعاصى.

هداية الآية: من هداية الآية ما يلى:

1- الاعتراف بالنعمة.

2- طلب حسن القدوة.

{ غير المَغْضُوبِ عَلَيـهَمْ ولاَ الضَّـالِّينَ }

شـرح الكلمـات:

{ غيـر }: لفظ يستثنى به كإلاّ.

{ المغضوب عليهم }: من غضب الله تعالى عليهم لكفرهم وافسادهم فى الأرض كاليهود.

{ الضـاليـن }: من اخطأوا طريق الحق فعبدوا الله بما لم يرعه كالنصارى.

معنى الآية:

لما سأل المؤمن ربَّه الصراط المستقيم وبينه بأنه صراط من أنعم عليهم بنعمة الإيمان والعلم والعمل. ومبالغة فى طلب الهداية إلى الحق، وخوفاً من الغواية استثنى كلاً من طريق المغضوب عليهم، والضالين.

هداية الآية:

من هداية الآية:

الترغيب في سلوك سبيل الصالحين: والترهيب من سلوك سبيل الغوين.

ـ [تنبيه أول]: كلمة آمين ليست من الفاتحة: ويستحب أن يقولها الإمام إذا قرأ الفاتحة يمد بها صوته ويقولها المأموم، والمنفرد كذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم إذا أمن الإِمام فأمنوا أي قولوا آمين بمعنى اللهم استجب دعاءنا، ويستحب الجهر بها؛ لحديث ابن ماجة: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين قال آمين حتى يسمعها أهل الصف الأول فيترج بها المسجد.

[تنبيه ثان]: قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة من الصلاة، أمَّا المنفرد والإِمام فلا خلاف في ذلك، وأمَّا المأموم فإن الجمهور من الفقهاء على أنه يسن له قراءة ويكون مخصصاً لعموم حدث: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #58  
قديم 01-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير أيسر التفاسير/ أسعد حومد مصنف و مدقق

تفسير أيسر التفاسير/ أسعد حومد مصنف و مدقق


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


{ صِرَاطَ }

(7) - وَهُوَ طَرِيقُ عِبَادِكَ الَّذِينَ وَفَّقتَهُمْ إلى الإِيمَانِ بِكَ، وَوَهَبْتَ لَهُمُ الهِدَايَةَ والرِّضَا مِنْكَ، لاَ طَرِيقُ الَّذِينَ اسْتَحَقُّوا غَضَبَكَ، وَضَلُّوا طَرِيقَ الحَقِّ والخَيْرِ لأَِنَّهُمْ أَعْرَضُوا عَنِ الإِيمَانِ بِكَ، والإِذْعَانِ لِهَدْيِكَ.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #59  
قديم 01-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق 1-6

تفسير الدر المصون/السمين الحلبي (ت 756 هـ) مصنف و مدقق 1-6


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ }: بدلٌ منه بدلُ كلٍ من كل، وهو بدلُ معرفةٍ من معرفة، والبدلُ سبعة أقسام، على خلافٍ في بعضها، بدلُ كلٍ من كل، بدلُ بعض من كل، بدلُ اشتمال، بدل غلط، بدل نسيان، بدل بَداء، بدل كل من بعض. أمّا الأقسامُ الثلاثة الأُوَلُ فلا خلافَ فيها، وأمّا بَدَلُ البَدَاء فأثبته بعضهم مستدلاً بقوله عليه السلام: " إنَّ الرجل ليصلي الصلاةَ، وما كُتب له نصفُها ثلثُها ربعُها إلى العُشْر " ، ولا يَرِدُ هذا في القرآن، وأمّا الغَلطُ والنِّسيانُ فأثبتهما بعضُهم مستدلاً بقول ذي الرمة:

72ـ لَمْياءُ في شفَتْيها حُوَّةٌ لَعَسٌوفي اللِّثاثِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ


قال: لأنَّ الحُوَّة السوادُ الخالص، واللَّعَسُ سوادٌ يَشُوبه حمرة. ولا يَرِدُ هذان البدلان في كلامٍ فصيحٍ، وأمَّا بدلُ الكلِّ من البعضِ فأثبته بعضُهم مستدلاً بظاهر قوله:

73ـ رَحِم اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهابسجِسْتَان طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ


وفي روايةِ مَنْ نَصَبَ " طلحة " قال: لأن الأعظُمَ بعضُ طلحة، وطلحة كلٌ، وقد أُبْدِل منها، واستدلَّ على ذلك أيضاً بقول امرئ القيس:

74ـ كأني غداةَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلوالدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنْظَلِ


فغذاةَ بعضُ اليوم، وقَد أبدل " اليومَ " منها. ولا حُجَّة في البيتين، أمَّا الأولُ: فإن الأصل: أعظُماً دفنُوها أعظمَ طلحة، ثم حُذِفَ المضافُ وأُقيم المضاف إليه مُقامه، ويَدُلُّ على ذلك الروايةُ المشهورة وهي جر " طلحة " ، على أن الأصل: أعظُمَ طلحة، ولم يُقِم المضافَ إليه مُقامَ المضاف، وأمَّا الثاني فإن اليوم يُطلق على القطعة من الزمان كما تقدَّم. ولكلِّ مذهبٍ من هذه المذاهب دلائلُ وإيرادات وأجوبةٌ، موضوعُها كتب النحو.

وقيل: إن الصراطَ الثاني غيرُ الأول والمرادُ به العِلْمُ بالله تعالى، قاله جعفر بن محمد، وعلى هذا فتخريجُه أن يكونَ معطوفاً حُذِف منه حرفُ العطفِ وبالجملةِ فهو مُشْكِلٌ.

والبدلُ ينقسِمُ أيضاً إلى بدلِ معرفةٍ من معرفة ونكرةٍ من نكرة ومعرفةٍ من نكرة ونكرة من معرفة، وينقسم أيضاً إلى بدلِ ظاهرٍ من ظاهرٍ ومضمرٍ من مضمرٍ وظاهرٍ من مضمر ومضمرٍ من ظاهر. وفائدةُ البدلِ: الإِيضاحُ بعد الإِبهام، ولأنه يُفيد تأكيداً من حيث المعنى إذ هو على نيَّةِ تكرارِ العاملِ.

و " الذين " في محلِّ جرٍّ بالإِضافة، وهو اسمٌ موصولٌ لافتقارِه إلى صلةٍ وعائدٍ وهو جمع " الذي " في المعنى، والمشهورُ فيه أن يكون بالياء رفعاً ونصباً وجراً، وبعضهم يرفعه بالواو جَرْياً له مَجْرى جمعِ المذكر السالم ومنه:

75ـ نحن اللذونَ صَبَّحوا الصَّباحايومَ النُّخَيْلِ غَارةً مِلْحاحَا


وقد تُحْذف نونه استطالةً بصلتِه، كقوله:

76ـ وإنَّ الذي حَانَتْ بفَلْجٍ دماؤُهُمْهم القومُ كلُّ القومِ يا أمَّ خالدِ


ولا يقع إلا على أولي العلم جَرْياً به مَجْرى جمعِ المذكرِ السالمِ، بخلاف مفرده، فإنه يقع على أولي العلمِ وغيرهم.
-1-

وأَنْعَمْتَ: فعلٌ وفاعلٌ صلةُ الموصول، والتاءُ في " أنعمتَ " ضميرُ المخاطبِ ضميرٌ مرفوعٌ متصلٌ. و " عليهم " جارٌّ ومجرور متعلقٌ بأَنْعمت، والضميرُ هوالعائد وهو ضميرُ جمعِ المذكَّرِين العقلاءِ، ويستوي لفظُ متصلهِ ومنفصلهِ.

والهمزة في " أَنْعمت " لجَعْلِ الشيء صاحبَ ما صيغ منه فحقُّه أن يتعدَّى بنفسه ولكنه ضُمِّن معنى تفضَّل فتعدَّى تعديَتَه. ولأفعل أربعةٌ وعشرون معنى، تقدَّم واحدٌ، والباقي: التعديةُ نحو: أخرجته، والكثرة نحو: أَظْبىٰ المكان أي كَثُر ظِباؤه، والصيرورة نحو: أَغَدَّ البعير صار ذا غُدَّة، والإِعانة نحو: أَحْلَبْتُ فلاناً أي أَعَنْتُه على الحَلْب، والسَّلْب نحو: أَشْكَيْتُه أي: أَزَلْتُ شِكايته، والتعريض نحو: أَبَعْتُ المتاعَ أي: عَرَضْتُه للبيع، وإصابة الشيء بمعنىٰ ما صيغ منه نحو: أَحْمدته أي وجدتُه محموداً، وبلوغُ عدد نحو: أَعْشَرَتِ الدراهم، أي: بَلَغَتْ عشرةً، أو بلوغُ زمانٍ نحو أَصْبح، أو مكان نحو: أَشْأَمَ، وموافقهُ الثلاثي نحو: أَحَزْتُ المكانِ بمعنى حُزْته، أو أغنى عن الثلاثي نحو: أَرْقَلَ البعير، ومطاوعة فَعَل نحو: قَشَع الريحُ فَأقْشع السحابُ، ومطاوعة فَعَّل نحو: قَطَّرْته فَأَقْطَرَ، ونفي الغزيرة نحو: أَسْرع، والتسمية نحو: أخْطَأْتُه أي سَمَّيْتُه مخطئاً، والدعاء نحو: أَسْقيته أي قلت له: سَقاك الله، والاستحقاق نحو: أَحْصَدَ الزرعُ أي استحق الحصاد، والوصولُ نحو: أَعْقَلْته، أي: وَصَّلْتُ عَقْلِي إليه، والاستقبال نحو/: أفَفْتُه أي استقبلته بقولي أُفّ، والمجيء بالشيء نحو: أكثرتُ أي جئتُ بالكثير، والفرقُ بين أَفْعَل وفَعَل نحو: أشرقت الشمس أضاءت، وشَرَقَتْ: طَلَعت، والهجومُ نحو: أَطْلَعْتُ على القوم أي: اطَّلَعْتُ عليهم.

و " على " حرف استعلاء حقيقةً أو مجَازاً، نحو: عليه دَيْنٌ، ولها معانٍ أُخَرُ، منها: المجاوزة كقوله:

77ـ إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قُشَيْرلَعَمْرُ الله أعجبني رضاها


أي: عني، وبمعنى الباء:

{ حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ } [الأعراف7: 105]

أي بأَنْ، وبمعنى في:

{ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } [البقرة2: 185]،

أي: لأجل هدايته إياكم، وبمعنى مِنْ:

{ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ } [المؤمنون23: 5 - 6]

أي: إلا من أزواجهم، والزيادة كقوله:

78ـ أبى الله إلاَّ أنَّ سَرْحَةَ مالكٍعلى كلِّ أَفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ


لأن " تروق " يتعدَّى بنفسه، ولكلِّ موضعٍ من هذه المواضع مجالٌ للنظر.

وهي مترددةٌ بين الحرفية والاسمية، فتكونُ اسماً في موضعين، أحدُهما: أَنْ يدخلَ عليها حرفُ الجر كقوله:

79ـ غَدَتْ مِنْ عليه بعد ما تَمَّ ظِمْؤُهاتَصِلُ وعن قَيْضٍ بزَيْزَاءَ مَجْهَلِ


ومعناها معنى فوق، أي من فوقه، والثاني: أن يُؤَدِّيَ جَعْلُها حرفاً إلى تعدِّي فعلِ المضمرِ المنفصل إلى ضميرِه المتصلِ في غيرِ المواضعِ الجائزِ فيها ذلك كقوله:

80ـ هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَبكفِّ الإِلهِ مقاديرُها


ومثلُها في هذين الحكمين: عَنْ، وستأتي إن شاء الله تعالى.
-2-

وزعم بعضُهم أنَّ " على " مترددة بين الاسم والفعل والحرف: أمَّا الاسمُ والحرفُ فقد تقدَّما، وأمَّا الفعلُ قال: فإنك تقول: " علا زيدٌ " أي ارتفع وفي هذا نظرٌ، لأنَّ " على " إذا كان فعلاً مشتقٌ من العلوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً فلا اشتقاقَ له فليس هو ذاك، إلا أنَّ هذا القائلَ يَرُدُّ هذا النظرَ بقولهم: إن خَلاَ وعدا مترددان بين الفعلية والحرفية، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر.

والأصل في هاء الكناية الضمُّ، فإنْ تقدَّمها ياءٌ ساكنة أو كسرة كسرها غيرُ الحجازيين، نحو: عَلَيْهِم وفيهم وبهم، والمشهورُ في ميمها السكونُ قبل متحرك والكسرُ قبل ساكنٍ، هذا إذا كَسَرْتَ الهاءَ، أمّا إذا ضَمَمْتَ فالكسرُ ممتنعٌ إلا في ضرورة كقوله: " وفيهُمِ الحكام " بكسر الميم.

وفي " عليهم " عشر لغات قُرئ ببعضها: عليهِمْ الهاء وضمِّها مع سكون الميم، عليهِمي، عَلَيْهُمُ، عليهِمُو: بكسر الهاء وضم الميم بزيادة الواو، عليهُمي بضم الهاء وزيادة ياء بعد الميم أو بالكسر فقط، عليِهِمُ بكسر الهاء وضم الميم، ذكر ذلك أبو بكر ابن الأنباري.

و " غيرِ " بدلٌ من " الذين " بدلُ نكرة من معرفة، وقيل: نعتٌ للذين وهو مشكلٌ لأن " غير " نكرةٌ و " الذين " معرفةٌ، وأجابوا عنه بجوابين: أحدهما: أن " غير " إنما يكون نكرةً إذا لم يقع بين ضدين، فأمَّا إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغَيْريَّةُ فيتعرَّفُ " غير " حينئذٍ بالإِضافة، تقول: مررتُ بالحركة غير " السكون " والآيةُ من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب ابن السراج وهو مرجوح. والثاني: أن الموصولَ أَشْبَهَ النكرات في الإِبهام الذي فيه فعومل معاملةَ النكراتِ، وقيل: إنَّ " غير " بدلٌ من الضمير المجرور في " عليهم " ، وهذا يُشْكِلُ على قول مَنْ يرى أن البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه، ويُنوَى بالأول الطرحُ، إذ يلزم منه خَلوُّ الصلة من العائدِ، ألا ترى أنَّ التقديرَ يصير: صراطَ الذين أنعمت على غيرِ المغضوبِ عليهم.

و " المغضوب ": خفضٌ بالإِضافةِ، وهو اسمُ مفعول، والقائمُ مقامَ الفاعلِ الجارُّ والمجرور، فـ " عَليهم " الأولى منصوبةُ المحلِّ والثانيةُ مرفوعتُه، وأَلْ فيه موصولةٌ والتقديرُ: غيرِ الذين غُضِبَ عليهم. والصحيحُ في ألْ الموصولة أنها اسمٌ لا حرفٌ.

واعلَمْ أنَّ لفظَ " غير " مفردٌ مذكرٌ أبداً، إلا أنه إنْ أريد به مؤنثٌ جاز تأنيثُ فعلِه المسندِ إليه، تقول: قامت غيرُك، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفةٌ بمعنى اسم الفاعل وهو مغايرٌ، ولذلك لا يتعرَّف بالإِضافة، وكذلك أخواتُها، أعني نحوَ: مثل وشِبْه وشبيه وخِدْن وتِرْب، وقد يُستثنى بها حَمْلاً على " إلاّ " ، كما يوصف بإلاّ حَمْلاً عليها، وقد يُرَاد بها النفيُ كـ لا، فيجوز تقديمُ معمولِ معمولها عليها كما يجوز في " لا " تقول: أنا زيداً غيرُ ضاربٍ، أي غير ضاربٍ زيداً، ومنه قول الشاعر:
-3-

81ـ إنَّ امرأً خَصَّني عَمْداً مودَّتَهعلى التنائي لَعِنْدي غيرُ مَكْفورِ


تقديرُه: لغيرُ مكفورٍ عندي، ولا يجوز ذلك فيها إذا كَانَتْ لغير النفي، لو قلت: جاء القومُ زيداً غيرَ ضاربٍ، تريد: غيرَ ضاربٍ زيداً لم يَجُزْ، لأنها ليست بمعنى " لا " التي يجوز فيها ذلك على الصحيح من الأقوالِ في " لا ". وفيها قولٌ ثانٍ يمنعُ ذلك مطلقاً، وقولٌ ثالثٌ: مفصِّلٌ بين أن تكونَ جوابَ قَسَمٍ فيمتنعَ فيها ذلك وبين أن لا تكونَ فيجوزَ.

وهي من الألفاظ الملازمة للإِضافة لفظاً أو تقديراً، فإدخالُ الألفِ واللامِ عليها خطأٌ.

وقرئ " غيرَ " نصباً، فقيل: حالٌ من " الذين " وهو ضعيفٌ لمجيئهِ من المضافِ إليه في غير المواضعِ الجائزِ فيها ذلك، كما ستعرِفُه إن شاء الله تعالى، وقيل: من الضمير في " عليهم " وقيل: على الاستثناءِ المنقطعِ، ومنعه الفراء قال: لأن " لا " لا تُزاد إلا إذا تقدَّمها نفيٌ، كقوله:

82ـ ما كان يَرْضَىٰ رسولُ الله فِعْلَهماوالطيبان أبو بكرٍ ولا عُمَرُ


وأجابوا بأنَّ " لا " صلةٌ زائدةٌ، مِثْلُها في قوله تعالى:

{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف7: 12]

وقول الشاعر:

83ـ وما ألومُ البيضَ ألاَّ تَسْخَرا.................................


وقول الآخر:

84ـ وَيلْحَيْنَني في اللهو ألاَّ أُحِبُّهوللَّهوِ داعٍ دائبٌ غيرُ غافلِ


وقول الآخر:

85ـ أَبَىٰ جودُه لا البخلَ واستعجلتْ نَعَمْبه مِنْ فتىً لا يمنعُ الجودَ نائِلُه


فـ " لا " في هذه المواضع صلةٌ. وفي هذا الجواب نظرٌ، لأن الفراء لَمْ يَقُلْ إنها غيرُ زائدة، فقولُهم: إن " لا " زائدةٌ في هذه الآية وتنظيرهُم لها بالمواضع المتقدمة لا يفيد/، وإنما تحريرُ الجواب أن يقولوا: وُجِدَتْ " لا " زائدةً من غير تقدُّم نفي كهذه المواضعِ المتقدمة. وتحتملُ أن تكونَ " لا " في قوله: " لا البخلَ " مفعولاً به لـ " أبىٰ " ، ويكونَ نصبُ " البخلَ " على أنه بدلٌ من " لا " ، أي أبىٰ جودُه قولَ لا، وقولُ لا هو البخلُ، ويؤيِّدُ هذا قولُه: " واستعجَلَتْ به نَعَمْ " فَجَعَلَ " نَعَم " فاعلَ " استعجَلَتْ " ، فهو من الإِسناد اللفظي، أي أبىٰ جودُه هذا اللفظ، واستعجل به هذا اللفظُ.

وقيل: إنَّ نَصْبَ " غيرَ " بإضمار أعني، ويُحكى عن الخليل. وقدَّر بعضُهم بعد " غير " محذوفاً، قال: التقديرُ: غيرَ صراطِ المغضوبِ، وأَطْلَقَ هذا التقديرَ، فلم يقيِّدْه بجرِّ " غير " ولا نصبِه، ولا يتأتَّى إلا مع نصبها، وتكون صفةً لقوله: { ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } ، وهذا ضعيفٌ، لأنه متى اجتمع البدلُ والوصفُ قُدِّم الوصفُ، فالأوْلَىٰ أن يكون صفةً لـ " صراطَ الذين " ويجوز أن تكونَ بدلاً من { ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أو من { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ } إلا انه يلزم منه تكرارُ البدل، وفي جوازِه نظرٌ، وليس في المسألة نقلٌ، إلا انهم قد ذكروا ذلك في بدلِ البَداء خاصة، أو حالاً من " الصراط " الأول أو الثاني.
-4-

.. واعلم أنه حيث جَعَلْنَا " غير " صفةً فلا بد من القول بتعريف " غير " أو بإبهامِ الموصوف وجريانه مَجْرى النكرةِ، كما تقدَّم تقريرُ ذلك في القراءة بجرِّ " غير ".

و " لا " في قوله: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } زائدةٌ لتأكيد معنى النفي المفهومِ من " غير " لئلا يُتَوَهَّم عَطْفُ " الضالِّين " على { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ } وقال الكوفيون: هي بمعنى " غير " ، وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صُرِّح بـ " غير " كانَتْ للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخطاب.

و " الضَّالين " مجرورٌ عطفاً على " المغضوب " ، وقُرِئَ شاذاً: الضَّأَلِّين بهمز الألف، وأنشدوا:

86ـ وللأرضِ أمَّا سُودُها فَتَجلَّلَتْبياضاً وأمَّا بِيضُها فادْهََأمَّتِ


قال أبو القاسم الزمخشري: " فعلوا ذلك للجَدّ في الهرب من التقاء الساكنين " انتهى وقد فعلوا ذلك حيث لا ساكنان، قال الشاعر:

87ـ فخِنْدِفٌ هامةُ هذا العَألَمِ.....................................


بهمز " العَأْلَمِ " وقال آخر:

88ـ ولَّى نَعامُ بني صفوانَ زَوْزَأَةً...................................


بهمز ألف " زَوْزأة " ، والظاهر أنها لغةٌ مُطَّردةٌ، فإنهم قالوا في قراءة ابن ذكوان: " مِنْسَأْتَه " بهمزة ساكنة: إن أصلَها ألفٌ فقُلِبَتْ همزةً ساكنةً.

فإن قيل: لِمَ أتى بصلة الذين فعلاً ماضياً؟ قيلٍ: لِيَدُلَّ ذلِك على ثبوتِ إنعام الله عليهم وتحقيقه لهم، وأتى بصلة أل اسماً ليشمل سائرَ الأزمانِ، وجاء به مبنياً للمفعول تَحْسِيناً للفظ، لأنَّ مَنْ طُلِبتْ منه الهدايةُ ونُسِب الإِنعامُ إليه لا يناسِبُه نسبةُ الغضبِ إليه، لأنه مَقامُ تلطُّفٍ وترفُّق لطلبِ الإِحسانِ فلا يُحْسُنُ مواجَهَتُه بصفةِ الانتقام.

والإِنعام: إيصالُ الإِحسان إلى الغير، ولا يُقال إلا إذا كان الموصَلُ إليه الإِحسانُ من العقلاءِ، فلا يقال: أَنْعم فلانٌ على فرسِه ولا حماره.

والغضبُ: ثَورَان دم القلب إرادَة الانتقامِ، ومنه قولُه عليه السلام: " اتقوا الغضبَ فإنه جَمْرةٌ تُوقَدُ في قلب ابن آدم، ألم تَرَوْا إلى انتفاخ أَوْداجه وحُمْرةِ عينيه " ، وإذا وُصف به الباري تعالى فالمرادُ به الانتقام لا غيره، ويقال: فلانٌ غَضَبة " إذا كان سريعَ الغضبِ.

ويقال: غضِبت لفلانٍ [إذا كان حَيًّا]، وغضبت به إذا كان ميتاً، وقيل: الغضبُ تغيُّر القلبِ لمكروهٍ، وقيل: إن أريدَ بالغضبِ العقوبةُ كان صفةَ فِعْلٍ، وإنْ أريدَ به إرادةُ العقوبةِ كان صفةَ ذاتٍ.

والضَّلال: الخَفاءُ والغَيْبوبةُ، وقيل: الهَلاك، فمِن الأول قولُهم: ضَلَّ الماءُ في اللبن، وقوله:
-5-

89ـ ألم تسأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيارُعن الحيِّ المُضَلَّلِ أين ساروا


والضَّلْضَلَةُ: حجرٌ أملسُ يَردُّه السيلُ في الوادي. ومن الثاني:

{ أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [السجدة: 10]،

وقيل: الضلالُ: العُدول عن الطريق المستقيم، وقد يُعَبَّر به عن النسيان كقوله تعالى:

{ أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا } [البقرة2: 282]

بدليلِ قوله: { فَتُذَكِّرَ }.


القول في " آمين ": ليست من القرآن إجماعاً، ومعناها: استجِبْ، فهي اسمُ فعلٍ مبنيٌ على الفتحِ، وقيل: ليس باسم فِعْل، بل هو من أسماءِ الباري تعالى والتقدير: يا آمين، وضَعَّفَ أبو البقاء هذا بوجهين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لكان ينبغي أن يُبنى على الضم لأنه منادى مفردٌ معرفةٌ، والثاني: أن أسماءَ الله تعالى توقيفيةٌ. ووجَّه الفارسي قولَ مَنْ جعله اسماً لله تعالى على معنى أنَّ فيه ضميراً يعودُ على اللهِ تعالى: لأنه اسمُ فعلٍ، وهو توجيهٌ حسنٌ، نقله صاحب " المُغْرِب ".

وفي آمين لغتان: المدُّ والقصرُ، فمن الأول قوله:

90ـ آمينَ آمينَ لا أرضىٰ بواحدةٍحتى أُبَلِّغَهَا ألفينِ آمينا


وقال الآخر:

91ـ يا رَبِّ لا تَسْلُبَنِّي حُبَّها أبداًويَرْحمُ اللهُ عبداً قال آمينا


ومن الثاني قوله:

92ـ تباعَدَ عني فُطْحُلٌ إذ دعوتُهآمينَ فزاد الله ما بيننا بُعْدا


وقيل: الممدودُ اسمٌ أعجمي، لأنه بزنة قابيل وهابيل. وهل يجوز تشديدُ الميم؟ المشهورُ أنه خطأ نقله الجوهري، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفَر الصادق التشديدُ، وهو قولُ الحسين بن الفضل من أمِّ إذا قصد، أي نحن قاصدون نحوك، ومنه

{ وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } [المائدة5: 2].

-6-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #60  
قديم 01-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق

تفسير مختصر تفسير ابن كثير/ الصابوني (مـ 1930م -) مصنف و مدقق



{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسّر للصراط المستقيم، والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء:

{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [النساء4: 69]،

وعن ابن عباس: صراط الذين أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصدّيقين والشهداء والصالحين، وذلك نظير الآية السابقة، وقال الربيع بن أنَس: هم النبيّون، وقال ابن جريج ومجاهد: هم المؤمنون، والتفسير المتقدم عن ابن عباس أعم وأشمل.


وقوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } بالجر على النعت، والمعنى: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمتَ عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين علموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام بـ (لا) ليدل على أن ثَمَّ مسلكين فاسدين وهما: طريقة اليهود، وطريقة النصارى، فجيء بـ (لا) لتأكيد النفي وللفرق بين الطريقتين ليجتنب كل واحدٍ منهما، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهودُ فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى، لكن أخصُّ أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم:

{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة5: 60]،

وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم:

{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة5: 77]،

وبهذا وردت الأحاديث والآثار، فقد روي عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } قال: هم اليهود { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال: النصارى. ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: (آمين) ومعناه: اللهم استجب، لما روي عن أبي هريرة أنه قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول ".



__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 05:36 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.