المحامية رباب المعبي : حكم لصالح موكلنا بأحقيتة للمبالغ محل ...  آخر رد: الياسمينا    <::>    منتجات يوسيرين: رفع مستوى روتين العناية بالبشرة مع ويلنس سوق  آخر رد: الياسمينا    <::>    اكتشفي منتجات لاروش بوزيه الفريدة من نوعها في ويلنس سوق  آخر رد: الياسمينا    <::>    منتجات العناية بالبشرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    استكشف سر جمال شعرك في ويلنس سوق، الوجهة الأولى للعناية بالش...  آخر رد: الياسمينا    <::>    ويلنس سوق : وجهتك الأساسية لمنتجات العناية الشخصية والجمال  آخر رد: الياسمينا    <::>    موقع كوبون جديد للحصول على اكواد الخصم  آخر رد: الياسمينا    <::>    إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم
التسجيل التعليمات الملحقات التقويم مشاركات اليوم البحث

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #31  
قديم 01-04-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 251-259 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 251-259 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

" ما في السموات موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو قاعد " واستحضر جميع الملائكة الحافين حول العرش وجميع حملة العرش الكرسي ثم انتقل منها إلى ما هو خارج هذا العالم كما قال تعالى:

{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّكَ إِلاَّ هُوَ } [المدثر74: 31]

فإذا استحضرت جميع هذه الأقسام من الروحانيات والجسمانيات فقل: الله أكبر، وتريد بقولك: «الله» الذات التي حصل بإيجادها وجود هذه الأشياء وحصلت لها كمالاتها في صفاتها وأفعالها، وتريد بقولك أكبر أنه منزه عن مشابهتها ومشاكلتها، بل هو منزه عن أن يحكم العقل بجواز مقايسته بها ومناسبته إليها فهذا هو المراد من قوله في أول الصلاة الله أكبر.


والوجه الثاني: في تفسير هذا التكبير: أنه عليه الصلاة والسلام قال: " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فتقول: الله أكبر من أن لا يراني ومن أن لا يسمع كلامي.

والوجه الثالث: أن يكون المعنى الله أكبر من أن تصل إليه عقول الخلق وأوهامهم وأفهامهم، قال علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه: التوحيد أن لا تتوهمه.

الوجه الرابع: أن يكون المعنى الله أكبر من أن يقدر الخلق على قضاء حق عبوديته، فطاعاتهم قاصرة عن خدمته، وثنائهم قاصر عن كبريائه، وعلومهم قاصرة عن كنه صمديته.

واعلم أيها العبد أنك لو بلغت إلى أن يحيط عقلك بجميع عجائب عالم الأجسام والأرواح فإياك أن تحدثك نفسك بأنك بلغت مبادىء ميادين جلال الله فضلاً عن أن تبلغ الغور والمنتهى ونعم ما قال الشاعر:

أساميا لم تزده معرفةوإنما لذة ذكرناها

ومن دعوات رسول الله عليه السلام وثنائه على الله: " لا ينالك غوص الفكر، ولا ينتهي إليك نظر ناظر، ارتفعت عن صفة المخلوقين صفات قدرتك، وعلا عن ذلك كبرياء عظمتك " وإذا قلت الله أكبر فاجعل عين عقلك في آفاق جلال الله وقل: سبحانك اللهم وبحمدك، ثم قل: وجهت وجهي، ثم انتقل منها إلى عالم الأمر والتكليف واجعل سورة الفاتحة مرآة لك تبصر فيها عجائب عالم الدنيا والآخرة، وتطالع فيها أنوار أسماء الله الحسنى وصفاته العليا والأديان السالفة والمذاهب الماضية، وأسرار الكتب الإلهية والشرائع النبوية، وتصل إلى الشريعة، ومنها إلى الطريقة، ومنها إلى الحقيقة، وتطالع درجات الأنبياء والمرسلين، ودركات الملعونين والمردودين والضالين، فإذا قلت بسم الله الرحمن الرحيم فابصر به الدنيا إذ باسمه قامت السموات والأرضون وإذا قلت الحمد لله رب العالمين أبصرت به الآخرة إذ بكلمة الحمد قامت الآخرة كما قال:

-251-

{ وَءَاخِرُ دَعْوَاهُم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس10: 10]

وإذا قلت الرحمن الرحيم فابصر به عالم الجمال، وهو الرحمة والفضل والإحسان، وإذا قلت مالك يوم الدين فأبصر به عالم الجلال وما يحصل فيه من الأحوال والأهوال، وإذا قلت إياك نعبد فأبصر به عالم الشريعة، وإذا قلت وإياك نستعين فابصر به الطريقة، وإذا قلت اهدنا الصراط المستقيم فابصر به الحقيقة، وإذا قلت صراط الذين أنعمت عليهم فابصر به درجات أرباب السعادات وأصحاب الكرامات من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وإذا قلت غير المغضوب عليهم فابصر به مراتب فساق أهل الآفاق، وإذا قلت ولا الضالين فابصر به دركات أهل الكفر والشقاق والخزي والنفاق على كثرة درجاتها وتباين أطرافها وأكنافها.

ثم إذا انكشفت لك هذه الأحوال العالية والمراتب السامية فلا تظنن أنك بلغت الغور والغاية، بل عد إلى الإقرار للحق بالكبرياء، ولنفسك بالذلة والمسكنة، وقل: الله أكبر، ثم أنزل من صفة الكبرياء إلى صفة العظمة، فقل: سبحان ربي العظيم، وإن أردت أن تعرف ذرة من صفة العظمة فاعرف أنا بينا أن العظمة صفة العرش، ولا يبلغ مخلوق بعقله كنه عظمة العرش وإن بقي إلى آخر أيام العالم، ثم اعرف أن عظمة العرش في مقابلة عظمة الله كالقطرة في البحر فكيف يمكنك أن تصل إلى كنه عظمة الله؟ ثم ههنا سر عجيب وهو أنه ما جاء سبحان ربي الأعظم وإنما جاء سبحان ربي العظيم، وما جاء سبحان ربي العالي وإنما جاء سبحان ربي الأعلى، ولهذا التفاوت أسرار عجيبة لا يجوز ذكرها، فإذا ركعت وقلت سبحان ربي العظيم فعد إلى القيام ثانياً، وادع لمن وقف موقفك وحمد حمدك وقل: سمع الله لمن حمده، فإنك إذا سألتها لغيرك وجدتها لنفسك وهو المراد من قوله عليه السلام: " لا يزال الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه المسلم "

فإن قيل: ما السبب في أنه لم يحصل في هذا المقام التكبير؟.

قلنا: لأن التكبير مأخوذ من الكبرياء وهو مقام الهيبة والخوف، وهذا المقام مقام الشفاعة، وهما متباينان.

ثم إذا فرغت من هذه الشفاعة فعد إلى التكبير وانحدر به إلى صفة العلو وقل سبحان ربي الأعلى، وذلك لأن السجود أكثر تواضعاً من الركوع، لا جرم الذكر المذكور في السجود هو بناء المبالغة ـ وهو الأعلى ـ والذكر المذكور في الركوع هو لفظ العظيم من غير بناء المبالغة، روي أن لله تعالى ملكاً تحت العرش اسمه حزقيل أوحى الله إليه: أيها الملك، طر فطار مقدار ثلاثين ألف سنة ثم ثلاثين ثم ثلاثين فلم يبلغ من أحد طرفي العرش إلى الثاني، فأوحى الله إليه لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ الطرف الثاني من العرش، فقال الملك عند ذلك: سبحان ربي الأعلى.

-252-

فإن قيل: فما الحكمة في السجدتين؟ قلنا: فيه وجوه: الأول: أن السجدة الأولى للأزل، والثانية للأبد، والارتفاع فيما بينهما إشارة إلى وجود الدنيا فيما بين الأزل والأبد، وذلك لأنك تعرف بأزليته أنه هو الأول لا أول قبله فتسجد له، وتعرف بأبديته أنه الآخر لا آخر بعده فتسجد له ثانياً. الثاني: قيل: إعلم بالسجدة الأولى فناء الدنيا في الآخرة، وبالسجدة الثانية فناء عالم الآخرة عند ظهور نور جلال الله. الثالث: السجدة الأولى فناء الكل في نفسها والسجدة الثانية بقاء الكل بإبقاء الله تعالى:

{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص28: 88]

الرابع: السجدة الأولى تدل على انقياد عالم الشهادة لقدرة الله، والسجدة الثانية تدل على انقياد عالم الأرواح لله تعالى، كما قال:

{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأمْرُ } [الأعراف7: 54]

والخامس: السجدة الأولى سجدة الشكر بمقدار ما أعطانا من معرفة ذاته وصفاته، والسجدة الثانية سجدة العجز والخوف مما لم يصل إليه من أداء حقوق جلاله وكبريائه.


واعلم أن الناس يفهموم من العظمة كبر الجثة، ويفهمون من العلو علو الجهة، ويفهمون من الكبر طول المدة، وجل الحق سبحانه عن هذه الأوهام، فهو عظيم لا بالجثة، عالٍ لا بالجهة، كبير لا بالمدة، وكيف يقال ذلك وهو فرد أحد، فكيف يكون عظيماً بالجثة وهو منزه عن الحجمية، وكيف يكون عالياً بالجهة وهو منزه عن الجهة؟ وكيف يكون كبيراً بالمدة والمدة متغيرة من ساعة إلى ساعة فهي محدثة فمحدثها موجود قبلها فكيف يكون كبيراً بالمدة؟ فهو تعالى عالٍ على المكان لا بالمكان، وسابق على الزمان لا بالزمان، فكبرياؤه كبرياء عظمة، وعظمته عظمة علو، وعلوه علو جلال، فهو أجل من أن يشابه المحسوسات، ويناسب المخيلات، وهو أكبر مما يتوهمه المتوهمون، وأعظم مما يصفه الواصفون، وأعلى مما يجده الممجدون، فإذا صور لك حسك مثالاً: فقل الله أكبر، وإذا عين خيالك صورة فقل: سبحانك الله وبحمدك، وإذا زلق رجل طلبك في مهواة التعطيل فقل: وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض، وإذا جال روحك في ميادين العزة والجلال ثم ترقى إلى الصفات العلى والأسماء الحسنى وطالع من مرقومات القلم على سطح اللوح نقشاً وسكن عند سماع تسبيحات المقربين وتنزيهات الملائكة الروحانيين إلى صورة فاقرأ عند كل هذه الأحوال:

{ سُبْحَـٰنَ رَبّكَ رَبّ ٱلْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ *وَسَلَـٰمٌ عَلَىٰ ٱلْمُرْسَلِينَ *وَٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } [الصافات37: 180 ـ 182].


الفصل السابع:

في لطائف قوله الحمد لله، وفوائد الأسماء الخمسة.

المذكورة في هذه السورة.

لطائف الحمد لله:

أما لطائف قوله الحمد لله فأربع نكت: النكتة الأولى: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن إبراهيم الخليل عليه السلام سأل ربه وقال: يا رب، ما جزاء من حمدك فقال: الحمد لله؟ فقال تعالى: الحمد لله فاتحة الشكر وخاتمته، قال أهل التحقيق: لما كانت هذه الكلمة فاتحة الشكر جعلها الله فاتحة كلامه، ولما كانت خاتمته جعلها الله خاتمة كلام أهل الجنة فقال:

-253-

{وَءَاخِرُ دَعْوَاهُم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [يونس10: 10].

روي عن علي عليه السلام، أنه قال: خلق الله العقل من نور مكنون مخزون من سابق علمه، فجعل العلم نفسه، والفهم روحه، والزهد رأسه، والحياء عينه، والحكمة لسانه، والخير سمعه، والرأفة قلبه، والرحمة همه، والصبر بطنه، ثم قيل له تكلم، فقال: الحمد لله الذي ليس له ند ولا ضد ولا مثل ولا عدل، الذي ذل كل شيء لعزته فقال الرب: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أعز عليّ منك وأيضاً نقل أن آدم عليه السلام لما عطس فقال: الحمد لله، فكان أول كلامه ذلك، إذا عرفت هذا فنقول: أول مراتب المخلوقات هو العقل، وآخر مراتبها آدم، وقد نقلنا أول كلام العقل هو قوله: الحمد لله وأول كلام آدم هو قوله: الحمد، فثبت أن أول كلام لفاتحة المحدثات هو هذه الكلمة، وأول كلام لخاتمة المحدثات هو هذه الكلمة، فلا جرم جعلها الله فاتحة كتابه فقال: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } وأيضاً ثبت أن أول كلمات الله قوله: الحمد لله، وآخر أنبياء الله محمد رسول الله، وبين الأول والآخر مناسبة، فلا جرم جعل قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } أول آية من كتاب محمد رسوله، ولما كان كذلك وضع لمحمد عليه السلام من كلمة الحمد اسمان: أحمد ومحمد؛ وعند هذا قال عليه السلام: " أنا في السماء أحمد، وفي الأرض محمد " فأهل السماء في تحميد الله، ورسول الله أحمدهم والله تعالى في تحميد أهل الأرض كما قال تعالى:

{ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [الإسراء17: 19]

ورسول الله محمدهم.


والنكتة الثانية: أن الحمد لا يحصل إلا عند الفوز بالنعمة والرحمة، فلما كان الحمد أول الكلمات وجب أن تكون النعمة والرحمة أول الأفعال والأحكام، فلهذا السبب قال: " سبقت رحمتي غضبي " النكتة الثالثة: أن الرسول اسمه أحمد، ومعناه أنه أحمد الحامدين أي: أكثرهم حمداً، فوجب أن تكون نعم الله عليه أكثر لما بينا أن كثرة الحمد بحسب كثرة النعمة والرحمة، وإذا كان كذلك لزم أن تكون رحمة الله في حق محمد عليه السلام أكثر منها في حق جميع العالمين، فلهذا السبب قال:

{ وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء21: 107].


النكتة الرابعة: أن المرسل له اسمان مشتقان من الرحمة، وهما الرحمن الرحيم، وهما يفيدان المبالغة، والرسول له أيضاً اسمان مشتقان من الرحمة، وهما محمد وأحمد، لأنا بينا أن حصول الحمد مشروط بحصول الرحمة، فقولنا محمد وأحمد جار مجرى قولنا مرحوم وأرحم.

-254-

وجاء في بعض الروايات أن من أسماء الرسول: الحمد، والحامد، والمحمود، فهذه خمسة أسماء للرسول دالة على الرحمة؛ إذا ثبت هذا فنقول: إنه تعالى قال:

{ نَبّىء عِبَادِى أَنّى أَنَا ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ } [الحجر15: 49]

فقوله: نبىء إشارة إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهو مذكور قبل العباد، والياء في قوله: عبادي ضمير عائد إلى الله تعالى والياء في قوله: أني عائد إليه، وقوله: أنا عائد إليه، وقول: الغفور الرحيم، صفتان لله فهي خمسة ألفاظ دالة على الله الكريم الرحيم، فالعبد يمشي يوم القيامة وقدامه الرسول عليه الصلاة والسلام مع خمسة أسماء تدل على الرحمة، وخلفه خمسة ألفاظ من أسماء الله تدل على الرحمة، ورحمة الرسول كثيرة كما قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَـٰكَ إِلاَّ رَحْمَةً لّلْعَـٰلَمِينَ } ورحمة الله غير متناهية كما قال تعالى:

{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْء } [الأعراف7: 156]

فكيف يعقل أن يضيع المذنب مع هذه البحار الزاخرة العشرة المملوءة من الرحمة؟.


وأما فوائد الأسماء الخمسة المذكورة في هذه السورة فأشياء: النكتة الأولى: أن سورة الفاتحة فيها عشرة أشياء، منها خمسة من صفات الربوبية، وهي: الله، والرب، والرحمن، والرحيم، والمالك؛ وخمسة أشياء من صفات العبد وهي: العبودية، والاستعانة، وطلب الهداية، وطلب الاستقامة، وطلب النعمة كما قال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فانطبقت تلك الأسماء الخمسة على هذه الأحوال الخمسة، فكأنه قيل: إياك نعبد لأنك أنت الله، وإياك نستعين لأنك أنت الرب، إهدنا الصراط المستقيم لأنك أنت الرحمن، وارزقنا الاستقامة لأنك أنت الرحيم، وأفض علينا سجال نعمك وكرمك لأنك مالك يوم الدين.

النكتة الثانية: الإنسان مركب من خمسة أشياء: بدنه، ونفسه الشيطانية، ونفسه الشهوانية، ونفسه الغضبية، وجوهره الملكي العقلي، فتجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب الخمسة فتجلى اسم الله للروح الملكية العقلية الفلكية القدسية فخضع وأطاع كما قال:

{ أَلاَ بِذِكْرِ ٱللَّهِ تَطْمَئِنُّ ٱلْقُلُوبُ } [الرعد13: 28]

وتجلى النفس الشيطانية بالبر والإحسان ـ وهو اسم الرب ـ فترك العصيان وانقاد لطاعة الديان، وتجلى للنفس الغضبية السبعية باسم الرحمن وهذا الاسم مركب من القهر واللطف كما قال:

{ ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } [الفرقان25: 26]

فترك الخصومة وتجلى للنفس الشهوانية البهيمية باسم الرحيم وهو أنه أطلق المباحات والطيبات كما قال:

{ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيّبَـٰتُ } [المائدة5: 5]

فلان وترك العصيان، وتجلى للأجساد والأبدان بقهر قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } فإن البدن غليظ كثيف، فلا بدّ من قهر شديد، وهو القهر الحاصل من خوف يوم القيامة، فلما تجلى الحق سبحانه بأسمائه الخمسة لهذه المراتب انغلقت أبواب النيران، وانفتحت أبواب الجنان. ثم هذه المراتب ابتدأت بالرجوع كما جاءت فأطاعت الأبدان وقالت: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وأطاعت النفوس الشهواينة فقالت: { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } على ترك اللذات والإعراض عن الشهوات، وأطاعت النفوس الغضبية فقالت: { ٱهْدِنَا } وأرشدنا وعلى دينك فثبتنا، وأطاعت النفس الشيطانية وطلبت من الله الاستقامة والصون عن الانحراف فقالت: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وتواضعت الأرواح القدسية الملكية فطلبت من الله أن يوصلها بالأرواح القدسية العالية المطهرة المعظمة فقالت: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ }.


-255-

النكتة الثالثة: قال عليه السلام " بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت " فشهادة أن لا إله إلا الله حاصلة من تجلي نور اسم الله، وإقام الصلاة من تجلي اسم الرب؛ لأن الرب مشتق من التربية والعبد يربي إيمانه بمدد الصلاة، وإيتاء الزكاة من تجلى اسم الرحمن، لأن الرحمن مبالغة في الرحمة، وإيتاء الزكاة لأجل الرحمة على الفقراء، ووجوب صوم رمضان من تجلي اسم الرحيم؛ لأن الصائم إذا جاع تذكر جوع الفقراء فيعطيهم ما يحتاجون إليه، وأيضاً إذا جاع حصل له فطام عن الالتذاذ بالمحسوسات فعند الموت يسهل عليه مفارقتها، ووجوب الحج من تجلي اسم مالك يوم الدين؛ لأن عند الحج يجب هجرة الوطن ومفارقة الأهل والولد، وذلك يشبه سفر يوم القيامة، وأيضاً الحاج يصير حافياً حاسراً عارياً وهو يشبه حال أهل القيامة وبالجملة فالنسبة بين الحج وبين أحوال القيامة، كثيرة جداً.

النكتة الرابعة: أنواع القبلة خمسة: بيت المقدس، والكعبة، والبيت المعمور، والعرش وحضرة جلال الله: فوزع هذه الأسماء الخمسة على الأنواع الخمسة من القبلة.

النكتة الخامسة: الحواس خمس: أدب البصر بقوله:

{ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِى أُوْلِى ٱلأبْصَـٰرِ } [الحشر59: 2]

والسمع بقوله:

{ ٱلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقَوْلَ فَيَـتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } [الزمر39: 18]

والذوق بقوله:

{ يأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً } [المؤمنون23: 51]

والشم بقوله:

{ إِنّى لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنّدُونِ } [يوسف12: 94]

واللمس بقوله:

{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ } [المعارج70: 29]
{ وَٱلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـٰفِظُونَ } [المؤمنون23: 5]

فاستعن بأنوار هذه الأسماء الخمسة على دفع مضار هذه الأعداء الخمسة.


النكتة السادسة: اعلم أن الشطر الأول: من الفاتحة مشتمل على الأسماء الخمسة فتفيض الأنوار على الأسرار، والشطر الثاني: منها مشتمل على الصفات الخمسة لعبد فتصعد منها أسرار إلى مصاعد تلك الأنوار، وبسبب هاتين الحالتين يحصل للعبد معراج في صلاته: فالأول: هو النزول، والثاني: هو الصعود، والحد المشترك بين القسمين هو الحد الفاصل بين قوله: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } وبين قوله: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } وتقرير هذا الكلام أن حاجة العبد إما في طلب الدنيا وهو قسمان: إما دفع الضرر، أو جلب النفع، وإما في طلب الآخرة، وهو أيضاً قسمان: دفع الضرر وهو الهرب من النار؛ وطلب الخير وهو طلب الجنة، فالمجموع أربعة، والقسم الخامس ـ وهو الأشرف ـ طلب خدمة الله وطاعته وعبوديته لما هو هو لا لأجل رغبة ولا لأجل رهبة، فإن شاهدت نور اسم الله لم تطلب من الله شيئاً سوى الله، وإن طالعت نور الرب طلبت منه خيرات الجنة، وإن طالعت منه نور الرحمن طلبت منه خيرات هذه الدنيا، وإن طالعت نور الرحيم طلبت منه أن يعصمك عن مضار الآخرة، وإن طالعت نور مالك يوم الدين طلبت منه أن يصونك عن آفات هذه الدنيا وقبائح الأعمال فيها لئلا تقع في عذاب الآخرة.

-256-

النكتة السابعة: يمكن أيضاً تنزيل هذه الأسماء الخمسة على المراتب الخمس المذكورة في الذكر المشهور ـ وهو قوله سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ـ أما قولنا سبحان الله فهو فاتحة سورة واحدة وهي:

{ سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [الإسراء17: 1]

وأما قولنا الحمد لله فهو فاتحة خمس سور، وأما قولنا لا إله إلا الله فهو فاتحة سورة واحدة وهي قوله:

{ الم *ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [آل عمران3: 1، 2]

وأما قولنا الله أكبر فهو مذكور في القرآن لا بالتصريح في موضعين مضافاً إلى الذكر تارة وإلى الرضوان أخرى فقال:

{ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [التوبة9: 72] وقال:
{ وَرِضْوٰنٌ مّنَ ٱللَّهِ أَكْبَرُ } [العنكبوت29: 45]

وأما قولنا: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فهو غير مذكور في القرآن صريحاً، لأنه من كنوز الجنة، والكنز يكون مخفياً ولا يكون ظاهراً، فالأسماء الخمسة المذكورة في سورة الفاتحة؟ لهذه الأذكار الخمسة، فقولنا: الله مبدأ لقولنا سبحان الله، وقولنا: رب مبدأ لقولنا الحمد لله، وقولنا الرحمن مبدأ لقولنا لا إله إلا الله، فإن قولنا: لا إله إلا الله إنما يليق بمن يحصل له كمال القدرة وكمال الرحمة، وذلك هو الرحمن؛ وقولنا: الرحيم مبدأ لقولنا الله أكبر ومعناه أنه أكبر من أن لا يرحم عباده الضعفاء، وقولنا: مالك يوم الدين مبدأ لقولنا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، لأن الملك والمالك هو الذي لا يقدر عبيده على أن يعملوا شيئاً على خلاف إرادته، والله أعلم.


الفصل الثامن:

في السبب المقتضي لاشتمال بسم اللّه الرحمن الرحيم

على الأسماء الثلاثة

السبب في اشمال البسملة على الأسماء الثلاثة:

وفيه وجوه: الأول: لا شك أنه تعالى يتجلى لعقول الخلق، إلا أن لذلك التجلي ثلاث مراتب: فإنه في أول الأمر يتجلى بأفعاله وآياته، وفي وسط الأمر يتجلى بصفاته، وفي آخر الأمر يتجلى بذاته، قيل إنه تعالى يتجلى لعامة عباده بأفعاله وآياته، قال:

{ وَمِنْ ءايَـٰتِهِ ٱلْجَوَارِ فِى ٱلْبَحْرِ كَٱلأعْلَـٰمِ } [الشورى42: 32] وقال:
{ إِنَّ فِي خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأرْضَ وَٱخْتِلَـٰفِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ لاَيَـٰتٍ }[آل عمران3: 190]

ثم يتجلى لأوليائه بصفاته، قال:

{ وَيَتَفَكَّرُونَ فِى خَلْقِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَـٰطِلاً }[آل عمران3: 191]

ويتجلى لأكابر الأنبياء ورؤساء الملائكة بذاته

{ قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِى خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } [الأنعام6: 91]

إذا عرفت هذا فنقول: اسم الله عزّ وجلّ أقوى الأسماء في تجلي ذاته، لأنه أظهر الأسماء في اللفظ، وأبعدها معنى عن العقول، فهو ظاهر باطن، يعسر إنكاره.


-257-

وأما اسمه الرحمن فهو يفيد تجلي الحق بصفاته العالية، ولذلك قال:

{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأسْمَاء ٱلْحُسْنَىٰ } [الإسراء17: 110]

وأما اسمه الرحيم فهو يفيد تجلى الحق بأفعاله وآياته ولهذا السبب قال:

{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً } [غافر40: 7].


الفصل التاسع:

في سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة

سبب اشتمال الفاتحة على الأسماء الخمسة:

السبب فيه أن مراتب أحوال الخلق خمسة: أولها: الخلق، وثانيها: التربية في مصالح الدنيا، وثالثها: التربية في تعريف المبدأ، ورابعها: التربية في تعريف المعاد، وخامسها: نقل الأرواح من عالم الأجساد إلى دار المعاد، فاسم الله منبع الخلق والإيجاد والتكوين والإبداع واسم الرب يدل على التربية بوجوه الفضل والإحسان، واسم الرحمن يدل على التربية في معرفة المبدأ، واسم الرحيم في معرفة المعاد حتى يحترز عما لا ينبغي ويقدم على ما ينبغي، واسم الملك يدل على أنه ينقلهم من دار الدنيا إلى دار الجزاء، ثم عند وصول العبد إلى هذه المقامات انتقل الكلام من الغيبة إلى الحضور فقال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } كأنه يقول: إنك إذا انتفعت بهذه الأسماء الخمسة في هذه المراتب الخمس وانتقلت إلى دار الجزاء صرت بحيث ترى الله، فحينئذٍ تكلم معه على سبيل المشاهدة لا على سبيل المغايبة، ثم قل: إياك نعبد وإياك نستعين، كأنه قال: إياك نعبد لأنك الله الخالق، وإياك نستعين لأنك الرب الرازق، إياك نعبد لأنك الرحمن، وإياك نستعين لأنك الرحيم، إياك نعبد لأنك الملك، وإياك نستعين لأنك المالك.

واعلم أن قوله مالك يوم الدين دل على أن العبد منتقل من دار الدنيا إلى دار الآخرة، ومن دار الشرور إلى دار السرور، فقال: لا بدّ لذلك اليوم من زاد واستعداد، وذلك هو العبادة، فلا جرم قال: إياك نعبد، ثم قال العبد: الذي اكتسبته بقوتي وقدرتي قليل لا يكفيني في ذلك اليوم الطويل فاستعان بربه فقال، ما معنى قليل، فأعطني من خزائن رحمتك ما يكفيني في ذلك اليوم الطويل فقال: وإياك نستعين، ثم لما حصل الزاد ليوم المعاد قال: هذا سفر طويل شاق والطرق كثيرة والخلق قد تاهوا في هذه البادية فلا طريق إلا أن أطلب الطريق ممن هو بإرشاد السالكين حقيق فقال: اهدنا الصراط المستقيم، ثم أنه لا بدّ لسالك الطريق من رفيق ومن بدرقة ودليل فقال: صراط الذين أنعمت عليهم، والذين أنعم الله عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون، فالأنبياء هم الأدلاء، والصديقون هم البدرقة، والشهداء والصالحون هم الرفقاء، ثم قال: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، وذلك لأن الحجب عن الله قسمان: الحجب النارية ـ وهي عالم الدنيا ـ ثم الحجب النورية ـ وهي عالم الأرواح ـ فاعتصم بالله سبحانه وتعالى من هذين الأمرين، وهو أن لا يبقى مشغول السر لا بالحجب النارية ولا بالحجب النورية.

-258-

الفصل العاشر:

في هذه السورة كلمتان مضافتان إلى اسم الله، واسمان مضافان إلى غير الله: أما الكلمتان المضافتان إلى اسم الله فهما قوله: بسم الله، وقوله: الحمد لله فقوله بسم الله لبداية الأمور، وقوله الحمد لله لخواتيم الأمور، فبسم الله ذكر، والحمد لله شكر، فلما قال بسم الله استحق الرحمة، ولما قال الحمد لله استحق رحمة أخرى، فبقوله بسم الله استحق الرحمة من اسم الرحمن، وبقوله الحمد لله استحق الرحمة من اسم الرحيم، فلهذا المعنى قيل: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة. وأما قوله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يو م الدين فالربوبية لبداية حالهم بدليل قوله:

{ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ } [الأعراف7: 172]

وصفة الرحمن لوسط حالهم، وصفة الملك لنهاية حالهم بدليل قوله:

{ لّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوٰحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر40: 16].


والله أعلم بالصواب، وهو الهادي إلى الرشاد.

-259-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #32  
قديم 01-04-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق 1-7

تفسير تفسير القرآن الكريم/ ابن كثير (ت 774 هـ) مصنف و مدقق 1-7


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


وقد تقدم الحديث فيما إذا قال العبد:

{ ;هْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة1: 6]

إلى آخرها أن الله يقول: " هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " وقوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسر للصراط المستقيم، وهو بدل منه عند النحاة، ويجوز أن يكون عطف بيان، والله أعلم. والذين أنعم الله عليهم المذكورون في سورة النساء، حيث قال تعالى:

{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } [النساء4: 69] الآية.

وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } قال: هم النبيّون. وقال ابن جريج عن ابن عباس: هم المؤمنون، وكذا قال مجاهد. وقال وكيع: هم المسلمون. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هم النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه. والتفسير المتقدم عن ابن عباس رضي الله عنهما أعم وأشمل، والله أعلم.


وقوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قرأ الجمهور (غير) بالجر على النعت، قال الزمخشري: وقرىء بالنصب على الحال، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر بن الخطاب، ورويت عن ابن كثير. وذو الحال الضمير في عليهم. والعامل أنعمت. والمعنى: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة والطاعة لله ورسله وامتثال أوامره وترك نواهيه وزواجره، غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين فسدت إرادتهم، فعلموا الحق، وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين، وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة، لا يهتدون إلى الحق. وأكد الكلام بلا؛ ليدل على أن ثَمّ مسلكين فاسدين، وهما طريقة اليهود والنصارى، وقد زعم بعض النحاة أن غير ههنا استثنائية، فيكون على هذا منقطعاً؛ لاستثنائهم من المنعم عليهم، وليسوا منهم، وما أوردناه أولى؛ لقول الشاعر:

كَأَنَّكَ مِنْ جِمال بَني أُقَيْشٍيُقَعْقَعُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ بِشَن


أي كأنك جمل من جمال بني أقيش، فحذف الموصوف، واكتفى بالصفة. وهكذا غير المغضوب عليهم، أي: غير صراط المغضوب عليهم، اكتفى بالمضاف إليه عن ذكر المضاف، وقد دل عليه سياق الكلام، وهو قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ثم قال تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ومنهم من زعم أن (لا) في قوله تعالى: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } زائدة، وأن تقدير الكلام عنده: غير المغضوب عليهم والضالين، واستشهد ببيت العجاج:

في بئرٍ لا حَوَرسعى وما شَعَر


أي: في بئرحور، والصحيح ما قدمناه، ولهذا روى أبو القاسم بن سلام في كتاب فضائل القرآن عن أبي معاوية عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقرأ غير المغضوب عليهم، وغير الضالين، وهذا الإسناد صحيح، وكذلك حكي عن أبي بن كعب أنه قرأ كذلك، وهو محمول على أنه صدر منهما على وجه التفسير، فيدل على ما قلناه من أنه إنما جيء لتأكيد النفي؛ لئلا يتوهم أنه معطوف على الذين أنعمت عليهم، وللفرق بين الطريقتين؛ ليجتنب كل واحد منهما؛ فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهود فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا الغضب لليهود، والضلال للنصارى؛ لأن من علم وترك استحق الغضب، خلاف من لم يعلم، والنصارى لما كانوا قاصدين شيئاً، لكنهم لا يهتدون إلى طريقه؛ لأنهم لم يأتوا الأمر من بابه، وهو اتباع الحق، ضلوا، وكل من اليهود والنصارى ضال مغضوب عليه، لكن أخص أوصاف اليهود الغضب؛ كما قال تعالى عنهم:
-1-

{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة5: 60]

وأخص أوصاف النصارى الضلال؛ كما قال تعالى عنهم:

{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة5: 77]

وبهذا جاءت الأحاديث والآثار، وذلك واضح بين فيما قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت سماك بن حرب يقول: سمعت عباد بن حبيش يحدث عن عدي بن حاتم، قال: " جاءت خيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا عمتي وناساً، فلما أتوا بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوا له، فقالت يا رسول الله: نأى الوافد، وانقطع الولد، وأنا عجوز كبيرة ما بي من خدمة، فمنّ علي منّ الله عليك، قال: من وافدك؟ قالت: عدي بن حاتم، قال: الذي فر من الله ورسوله؟ قالت: فمنّ علي، فلما رجع، ورجل إلى جنبه ترى أنه علي، قال: سليه حملاناً فسألته، فأمر لها، قال: فأتتني، فقالت: لقد فعلت فعلة ما كان أبوك يفعلها؛ فإنه قد أتاه فلان فأصاب منه، وأتاه فلان فأصاب منه، فأتيته، فإذا عنده امرأة وصبيان، وذكر قربهم من النبي صلى الله عليه وسلم قال: فعرفت أنه ليس بملك كسرى ولا قيصر، فقال: يا عدي ما أفرك؟ أن يقال: لا إله إلا الله؟ فهل من إله إلا الله؟ ما أفرك؟ أن يقال: الله أكبر، فهل شيء أكبر من الله عز وجل؟ قال: فأسلمت، فرأيت وجهه استبشر، وقال: إن المغضوب عليهم اليهود، وإن الضالين النصارى " ، وذكر الحديث. ورواه الترمذي من حديث سماك بن حرب، وقال: حسن غريب لا نعرفه إلا من حديثه (قلت): وقد رواه حماد بن سلمة عن مُرَي بن قَطَريّ عن عدي بن حاتم قال:

-2-

" سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } قال: هم اليهود { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال: النصارى هم الضالون " وهكذا رواه سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم به، وقد روي حديث عدي هذا من طرق، وله ألفاظ كثيرة يطول ذكرها. وقال عبد الرزاق: أخبرنا معمر عن بديل العقيلي أخبرني عبد الله بن شقيق أنه أخبره من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرسه، وسأله رجل من بني القين، فقال: يا رسول الله من هؤلاء؟ قال: " المغضوب عليهم - وأشار إلى اليهود - والضالون هم النصارى " وقد رواه الجريري وعروة وخالد الحذاء عن عبد الله بن شقيق، فأرسلوه، ولم يذكروا من سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ووقع في رواية عروة تسمية عبد الله بن عمرو. فا لله أعلم، وقد روى ابن مردويه من حديث إبراهيم بن طهمان عن بديل بن ميسرة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المغضوب عليهم قال: " اليهود " قلت: الضالين قال: " النصارى " ، وقال السدي عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود، وعن أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم غير المغضوب عليهم هم اليهود، ولا الضالين هم النصارى، وقال الضحاك وابن جريج عن ابن عباس: غير المغضوب عليهم هم اليهود، ولا الضالين النصارى، وكذلك قال الربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم وغير واحد، وقال ابن أبي حاتم: ولا أعلم بين المفسرين في هذا اختلافاً. وشاهد ما قاله هؤلاء الأئمة من أن اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون، الحديث المتقدم، وقوله تعالى في خطابه مع بني إسرائيل في سورة البقرة:

{ بِئْسَمَا ٱشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ وَلِلْكَـٰفِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [البقرة2: 90] وقال في المائدة:
{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَ أُوْلَـٰئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ } [المائدة5: 60] وقال تعالى:
{ لُعِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِىۤ إِسْرَٰءِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ *كَانُواْ لاَ يَتَنَـٰهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } [المائدة5: 78 - 79]

وفي السيرة عن زيد بن عمرو بن نفيل أنه لما خرج هو وجماعة من أصحابه إلى الشام يطلبون الدين الحنيف، قالت له اليهود: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله، فقال: أنا من غضب الله أفر، وقالت له النصارى: إنك لن تستطيع الدخول معنا حتى تأخذ بنصيبك من سخط الله، فقال: لا أستطيعه، فاستمر على فطرته، وجانب عبادة الأوثان ودين المشركين، ولم يدخل مع أحد من اليهود ولا النصارى، وأما أصحابه فتنصروا، ودخلوا في دين النصرانية؛ لأنهم وجدوه أقرب من دين اليهود إذ ذاك، وكان منهم ورقة بن نوفل حتى هداه الله بنبيه، لما بعثه آمن بما وجد من الوحي، رضي الله عنه.

-3-

[مسألة] والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء؛ لقرب مخرجيهما، وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا، ولأن كلاً من الحرفين من الحروف المجهورة، ومن الحروف الرخوة، ومن الحروف المطبقة، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك، والله أعلم. وأما حديث: أنا أفصح من نطق بالضاد، فلا أصل له، والله أعلم.

[فصل] اشتملت هذه السورة الكريمة، وهي سبع آيات، على حمد الله، وتمجيده، والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد، وهو يوم الدين، وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرؤ من حولهم وقوتهم إلى إخلاص العبادة له، وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم، وتثبيتهم عليه، حتى يفضي بهم ذلك إلى جواز الصراط الحسي يوم القيامة المفضي بهم إلى جنات النعيم في جوار النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة؛ ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل؛ لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون. وما أحسن ما جاء إسناد الإنعام إليه في قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وحذف الفاعل في الغضب في قوله تعالى { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وإن كان هو الفاعل لذلك في الحقيقة؛ كما قال تعالى:

{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم } [المجادلة58: 14] الآية.

وكذلك إسناد الضلال إلى من قام به، وإن كان هو الذي أضلهم بقدره؛ كما قال تعالى:

{ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا } [الكهف18: 17] وقال:
{ مَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِى طُغْيَـٰنِهِمْ يَعْمَهُونَ } [الأعراف7: 186]

إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه سبحانه هو المنفرد بالهداية والإضلال، لا كما تقول الفرقة القدرية ومن حذا حذوهم من أن العباد هم الذين يختارون ذلك ويفعلون، ويحتجون على بدعتهم بمتشابه من القرآن، ويتركون ما يكون فيه صريحاً في الرد عليهم، وهذا حال أهل الضلال والغي، وقد ورد في الحديث الصحيح:

-4-

" إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمى الله، فاحذروهم " يعني في قوله تعالى:

{ فَأَمَّا الَّذِينَ فى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـٰبَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَآءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ } [آل عمران3: 7]

فليس، بحمد الله، لمبتدع في القرآن حجة صحيحة؛ لأن القرآن جاء ليفصل الحق من الباطل، مفرقاً بين الهدى والضلال، وليس فيه تناقض ولا اختلاف؛ لأنه من عند الله تنزيل من حكيم حميد.


[فصل] يستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: آمين، مثل: يس، ويقال: أمين بالقصر أيضاً، ومعناه: اللهم استجب. والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي عن وائل ابن حجر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } فقال: " آمين " مد بها صوته، ولأبي داود: رفع بها صوته، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وروي عن علي وابن مسعود وغيرهم. وعن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال: " آمين " حتى يسمع من يليه من الصف الأول، رواه أبو داود وابن ماجه، وزاد فيه: فيرتج بها المسجد. والدارقطني، وقال: هذا إسناد حسن. وعن بلال أنه قال: يا رسول الله لا تسبقني بآمين، رواه أبو داود، ونقل أبو نصر القشيري عن الحسن وجعفر الصادق أنهما شددا الميم من آمين مثل { ءَامِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ }. قال أصحابنا وغيرهم: ويستحب ذلك لمن هو خارج الصلاة، ويتأكد في حق المصلي، وسواء كان منفرداً أو إماماً أو مأموماً، وفي جميع الأحوال؛ لما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أمن الإمام فأمنوا؛ فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة، غفر له ما تقدم من ذنبه " ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال أحدكم في الصلاة: آمين، والملائكة في السماء: آمين، فوافقت إحداهما الأخرى، غفر له ما تقدم من ذنبه " قيل: بمعنى من وافق تأمينه تأمين الملائكة في الزمان، وقيل: في الإجابة، وقيل: في صفة الإخلاص. وفي صحيح مسلم عن أبي موسى مرفوعاً: " إذا قال - يعني الإمام -: ولا الضالين، فقولوا: آمين، يجبكم الله " وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: قلت: يا رسول الله ما معنى آمين؟ قال: " رب افعل " وقال الجوهري: معنى آمين: كذلك فليكن. وقال الترمذي: معناه لا تخيب رجاءنا. وقال الأكثرون: معناه اللهم استجب لنا. وحكى القرطبي عن مجاهد وجعفر الصادق وهلال بن يساف أن آمين اسم من أسماء الله تعالى. وروي عن ابن عباس مرفوعاً، ولا يصح، قاله أبو بكر بن العربي المالكي.
-5-

وقال أصحاب مالك: لا يؤمن الإمام، ويؤمن المأموم؛ لما رواه مالك عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " وإذا قال - يعني الإمام - ولا الضالين، فقولوا: آمين " الحديث. واستأنسوا أيضاً بحديث أبي موسى عند مسلم " وإذا قرأ: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } فقالوا آمين " وقد قدمنا في المتفق عليه: " إذا أمن الإمام فأمنوا " وأنه عليه الصلاة والسلام كان يؤمن إذا قرأ: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

وقد اختلف أصحابنا في الجهر بالتأمين للمأموم في الجهرية. وحاصل الخلاف أن الإمام إن نسي التأمين، جهر المأموم به، قولاً واحداً، وإن أمن الإمام جهراً، فالجديد أن لا يجهر المأموم، وهو مذهب أبي حنيفة، ورواية عن مالك؛ لأنه ذكر من الأذكار، فلا يجهر به كسائر أذكار الصلاة. والقديم أنه يجهر به، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل، والرواية الأخرى عن مالك؛ لما تقدم: «حتى يرتج المسجد» ولنا قول آخر ثالث: أنه إن كان المسجد صغيراً، لم يجهر المأموم؛ لأنهم يسمعون قراءة الإمام، وإن كان كبيراً، جهر؛ ليبلغ التأمين من في أرجاء المسجد، والله أعلم. وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت عنده اليهود، فقال: " إنهم لن يحسدونا على شيء كما يحسدونا على الجمعة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله لها، وضلوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام: آمين " ورواه ابن ماجه، ولفظه: " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين " وله عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على قول: آمين، فأكثروا من قول: آمين " وفي إسناده طلحة بن عمرو، وهو ضعيف، وروى ابن مردويه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين " وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت آمين في الصلاة، وعند الدعاء، لم يعط أحد قبلي إلا أن يكون موسى، كان موسى يدعو، وهارون يؤمن، فاختموا الدعاء بآمين، فإن الله يستجيبه لكم " (قلت) ومن هنا نزع بعضهم في الدلالة بهذه الآية الكريمة، وهي قوله تعالى:

{ وَقَالَ مُوسَىٰ رَبَّنَآ إِنَّكَ ءاتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا ٱطْمِسْ عَلَىٰ أَمْوَٰلِهِمْ وَٱشْدُدْ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلاَْلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فَٱسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } [يونس10: 88 - 89]

-6-

فذكر الدعاء عن موسى وحده، ومن سياق الكلام ما يدل على أن هارون أمّن، فنزل منزلة من دعا؛ لقوله تعالى:

{ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } [يونس10: 89]

فدل ذلك على أن من أمّن على دعاء فكأنما قاله، فلهذا قال من قال: إن المأموم لا يقرأ؛ لأن تأمينه على قراءة الفاتحة بمنزلة قراءتها، ولهذا جاء في الحديث: " من كان له إمام، فقراءة الإمام له قراءة " رواه أحمد في مسنده. وكان بلال يقول: لا تسبقني بآمين يا رسول الله. فدل هذا المنزع على أن المأموم لا قراءة عليه في الجهرية والله أعلم. ولهذا قال ابن مردويه: حدثنا أحمد بن الحسن حدثنا عبد الله بن محمد بن سلام حدثنا إسحاق بن إبراهيم حدثنا جرير عن ليث بن أبي سليم عن كعب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا قال الإمام: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقال: آمين، فوافق آمين أهل الأرض آمين أهل السماء، غفر الله للعبد ما تقدم من ذنبه، ومثل من لا يقول آمين كمثل رجل غزا مع قوم، فاقترعوا، فخرجت سهامهم، ولم يخرج سهمه، فقال: لمَ لم يخرج سهمي؟ فقيل: إنك لم تقل آمين ".

-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #33  
قديم 01-04-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق 1-2

تفسير انوار التنزيل واسرار التأويل/ البيضاوي (ت 685 هـ) مصنف و مدقق 1-2


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } بدل من { ٱلَّذِينَ } على معنى أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من الغضب والضلال. أو صفة له مبينة أو مقيدة على معنى أنهم جمعوا بين النعمة المطلقة، وهي نعمة الإيمان، وبين السلامة من الغضب والضلال وذلك إنما يصح بأحد تأويلين، إجراء الموصول مجرى النكرة إذا لم يقصد به معهود كالمحلى في قوله:

ولَقَد أَمرُّ على اللئيمِ يَسُبُّني


وقولهم: إني لأمر على الرجل مثلك فيكرمني. أو جعل غير معرفة بالإضافة لأنه أضيف إلى ماله ضد واحد وهو المنعم عليهم، فيتعين تعين الحركة من غير السكون.

وعن ابن كثير نصبه على الحال من الضمير المجرور والعامل أنعمت. أو بإضمار أعني. أو بالاستثناء إن فسر النعم بما يعم القبيلين، والغضب: ثوران النفس إرادة الانتقام، فإذا أسند إلى الله تعالى أريد به المنتهى والغاية على ما مر، وعليهم في محل الرفع لأنه نائب مناب الفاعل بخلاف الأول، ولا مزيدة لتأكيد ما في غير من معنى النفي، فكأنه قال: لا المغضوب عليهم ولا الضالين، ولذلك جاز أنا زيداً غير ضارب، كما جاز أنا زيداً لا ضارب، وإن امتنع أنا زيداً مثل ضارب، وقرىء { وَغَيْرُ ٱلضَّالّينَ } والضلال: العدول عن الطريق السوي عمداً أو خطأ، وله عرض عريض والتفاوت ما بين أدناه وأقصاه كثير.

قيل: { ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } اليهود لقوله تعالى فيهم:

{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة5: 60]

و { ٱلضَّالّينَ } النصارى لقوله تعالى:

{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } [المائدة5: 77]

وقد روي مرفوعاً، ويتجه أن يقال: المغضوب عليهم العصاة والضالين الجاهلون بالله، لأن المنعم عليه من وفق للجمع بين معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، وكان المقابل له من اختل إحدى قوتيه العاقلة والعاملة. والمخل بالعمل فاسق مغضوب عليه لقوله تعالى في القاتل عمداً

{ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ } [النساء4: 93]

والمخل بالعقل جاهل ضال لقوله: { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ }. وقرىء: ولا «الضألين» بالهمزة على لغة من جد في الهرب من التقاء الساكنين.


ـ آمين ـ اسم الفعل الذي هو استجب. وعن ابن عباس قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معناه فقال: " افعل بني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين " وجاء مد ألفه وقصرها قال:

ويرحَمُ الله عبداً قالَ آمِينا


وقال:

أمينَ فزادَ الله ما بيننا بُعدا


وليس من القرآن وفاقا، لكن يسن ختم السورة به لقوله عليه الصلاة والسلام " علمني جبريل آمين عند فراغي من قراءة الفاتحة وقال إنه كالختم على الكتاب ". وفي معناه قول علي رضي الله عنه: آمين خاتم رب العالمين، ختم به دعاء عبده.
-1-

يقوله الإمام ويجهر به في الجهرية لما روي عن وائل بن حجر " أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا قرأ ولا الضالين قال آمين ورفع بها صوته ".

وعن أبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا يقوله، والمشهور عنه أنه يخفيه كما رواه عبد الله بن مغفل وأنس، والمأموم يؤمن معه لقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا قال الإمام { وَلاَ ٱلضَّالّينَ } فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه ". وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ " ألا أخبرك بسورة لم يُنَزَّل في التوراة والإنجيل والقرآن مثلها ". قال: قلت بلى يا رسول الله. قال: " فاتحة الكتاب إنها السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته ".

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أتاه ملك فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أعطيته ". وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن القوم ليبعث الله عليهم العذاب حتماً مقضياً فيقرأ صبي من صبيانهم في الكتاب: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } فيسمعه الله تعالى فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة ".
-2-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #34  
قديم 01-04-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تفسير الجلالين/ المحلي و السيوطي (ت المحلي 864 هـ) مصنف و مدقق



{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بالهداية ويبدل من الذين بصلته { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } وهم اليهود { وَلاَ } وغير { ٱلضَّالّينَ } وهم النصارى ونكتة البدل إفادة أن المهتدين ليسوا يهوداً ولا نصارى

والله أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا، وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #35  
قديم 01-04-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق 1-2

تفسير زاد المسير في علم التفسير/ ابن الجوزي (ت 597 هـ) مصنف و مدقق 1-2


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


قوله تعالى: { الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهمْ }

قال ابن عباس: هم النبيُّون، والصديقون، والشهداء، والصالحون. وقرأ الأكثرون «عليهم» بكسر الهاء، وكذلك «لديهم» و «إِليهم» وقرأهنَّ حمزة بضمها. وكان ابن كثير يصل [ضم] الميم بواو. وقال ابن الأنباري: حكى اللغويون في «عليهم» عشر لغات، قرى بعامتها «عليهُمْ» بضم الهاء وإِسكان الميم و«عليهِمْ» بكسر الهاء وإِسكان الميم، و«عليهمي» بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة، و«عليهُمو» بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة، و«عليهمو» بضم الهاء والميم وإِدخال واو بعد الميم و«عليهُمُ» بضم الهاء والميم من غير زيادة واو، وهذه الأوجه الستة مأثورة عن القراء، وأوجه أربعة منقولة عن العرب «عليهُمي» بضم الهاء وكسر الميم وإِدخال ياء، و«عليهُمِ» بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياءٍ، و«عليهِمُ» بكسر الهاء وضم الميم من غير إِلحاق واو، و «عليهِمِ» بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم.

فأما «المغضوب عليهم» فهم اليهود؛ و «الضالون»: النصارى.

رواه عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن قتيبة: والضلال: الحيرة والعدول عن الحق.

فصل

ومن السنة في حق قارىء الفاتحة أن يعقبها بـ «آمين». قال شيخنا أبو الحسن علي ابن عبيد الله: وسواء كان خارج الصلاة أو فيها، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا قال الامام { غَيْرِ المغْضُوبِ عَليْهم ولا الضَّالين } فقال من خلفه: آمين، فوافق ذلك قول أهل السماء، غفر له ما تقدم من ذنبه "

وفي معنى آمين: ثلاثة أقوال.

أحدها: أن معنى آمين: كذلك يكون. حكاه ابن الأنباري عن ابن عباس، والحسن.

والثاني: أنها بمعنى: اللهم استجب. قاله الحسن والزجاج.

والثالث: أنه اسم من أسماء الله تعالى. قاله مجاهد، وهلال بن يساف، وجعفر ابن محمد.

وقال ابن قتيبة: معناها: يا أمين أجب دعاءنا، فسقطت يا، كما سقطت في قوله:

{ يُوسُفُ أَعْرِض عَن هَذَا } [يوسف12: 29]

تأويله: يا يوسف. ومن طوَّل الألف فقال: آمين، أدخل ألف النداء على ألف أمين، كما يقال، آزيد أَقبل. ومعناه: يا زيد. قال ابن الأنباري: وهذا القول خطأ عند جميع النحويين، لأنه إِذا أدخل «يا» على« آمين» كان منادىً مفرداً، فحكم آخره الرفع، فلما أجمعت العرب على فتح نونه، دل على أنه غير منادى، وإنما فتحت نون «آمين» لسكونها وسكون الياء التي قبلها، كما تقول العرب: ليت، ولعل. قال: وفي «آمين» لغتان: «أمين» بالقصر، «وآمين» بالمد، والنون فيهما مفتوحة.


أنشدنا أبو العباس عن ابن الاعرابي:

سقى الله حياً بين صارة والحمى(حمى) فيْدَ صوبَ المُدْجِنات المواطر
أمين وأَدى الله ركباً إليهمُبخير ووقَّاهم حِمام المقادر

-1-

وأَنشدنا أبو العباس أيضاً:

تباعد مني فُطْحُل وابن أمهأَمين فزاد الله ما بيننا بعدا


وأنشدنا أبو العباس أيضاً:

يا رب لا تسلبنّي حبها أبداًويرحم الله عبداً قال آمينا


وأَنشدني أَبي:

أمين ومن أعطاك مني هوداةرمى الله في أطرافه فاقفعلَّت


وأنشدني أبي:

فقلت له قد هجت لي بارح الهوىأصَاب حمام الموت أَهوننا وجدا
أمين وأضناه الهوى فوق ما بهأمين ولاقى من تباريحه جهدا


فصل

نقل الأكثرون عن أحمد أن الفاتحة شرط في صحة الصلاة، فمن تركها مع القدرة عليها لم تصح صلاته، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تتعين، وهي رواية عن أحمد، ويدل على الرواية الأولى ما روي في «الصحيحين» من حديث عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "

والله تعالى أعلم بالصواب.

-2-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #36  
قديم 01-04-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ) مصنف و مدقق

تفسير تفسير القرآن/ ابن عبد السلام (ت 660 هـ) مصنف و مدقق


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


{ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }: اليهود، والضالون، النصارى. اتفاقاً خُصت اليهود بالغضب لشدة عداوتها، والغضب هو المعروف من العباد، أو إرادة الانتقام، أو ذمه لهم، أو نوع من العقاب سماه غضباً كما سمى نعمته رحمة.


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #37  
قديم 01-04-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ) مصنف و مدقق

تفسير التفسير/ ابن عرفة (ت 803 هـ) مصنف و مدقق



{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ... }.

دليل على أن الهداية إلى الطّاعة محض نعمة وتفضل من الله تعالى (لا باستحقاقه) بوجه، والمراد بالهداية خلق القدرة على الطاعة وعند المعتزلة (تيسير) أسباب الفعل والتمكن منه (ومنح الألطاف) لأنهم يقولون: إن العبد يستقل بأفعاله ويخلقها.

قال الزمخشري: فإن قلت ما أفاد الوصف بغير المغضوب مع أنه معلوم من الأول؟

فأجاب: بأن الإنعام يشمل الكافر والمسلم فبين أن المراد به المسلم. وردّه ابن عرفة بما تقدم لنا من أن المراد الإنعام الأخص.

قال: وإنّما الجواب أنه وصف به تنبيها وتحريضا للإنسان على استحضار مقام الخوف والرّجاء خشية أن يستغرق في استحضار مقام الإنعام فيذهل عن المقام الآخر وأشار إليه ابن الخطيب هنا.

قال ابن عرفة: وغضب الله تعالى إما راجع لإرادته من العبد المعصية والكفر أو راجع لخلقه الكفر والمعصية في قلبه، هَذَا عِنْدنَا. وعند المعتزلة راجع لإرادته الانتقام منه لأنهم يقولون أن الله تعالى لم يخلق الشر ولا أراده ووافقونا في (الدّاعى) أنه مخلوق لله تعالى.

فإن قلت لم قال: { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بلفظ الفعل، و { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } بلفظ الاسم وهلاّ قال صِرَاطَ المنعم عليهم كَما قال { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ }؟

قلت: (فالجواب أنه) قصد التنبيه على التأدب مع الله تعالى بنسبة الإنعام إليه وعدم (نسبة) الشر إليه بل أتى به بلفظ المفعول الذي لم يتم فاعله فلم ينسب الغضب إليه على معنى الفاعلية وإن كان هو الفاعل المختار لكل شيء لكن جرت العادة في مقام التأدب أن ينسب للفاعل الخير دون الشر.

وأجاب القاضي العماد بوجوه:

-الأول: من (ألطاف) الله (أنه) إذا ذكر نعمة أسندها (إليه) فقال:

{ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } (الشعراء26: 80)

- الثاني: إنما قال: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ } (ليدخل غضبه) وغضب الملائكة والأنبياء والمؤمنين فهو أعمّ/ فائدة.


- الثالث: إنما لم يقل صراط المنعم عليهم لأن إبراز (ضمير) فاعل النعمة ذِكْر وشكر له باللّسان وبالقلب، فيكون (دعاء) مقرونا بالشكر والذكر.

-الرابع: فيه فائدة بيانية، وهو أنه من (التفنن) في الكلام لأنه (لو أجري) على أسلوب واحد لم يكن فيه تلك (اللّذاذة) وإذا اختلف أسلوبه ألقى السامع إليه سمعه (وهو تنبيه) وطلب إحضار ذهنه من قريب ومن بعيد.

(قلت): وإشارة إلى قوله تعالى:


قلت: ونقل بعضهم أن القاضي (محمد) بن عبد السلام الهواري سئل ما السر في أن قيل: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ } بنُون العظمة والداعي واحد وهو محل تضرع وخضوع، وهلا قال: اهدِنِي؟

فأجاب بأنّ المصلّي إن كان واحدا فهو طالب لنفسه ولجميع المسلمين.

قال: أو تقول إنّ المصلي لما حصّل (مناجاة) الله وهي من أعظم الأشياء عظم لذلك وهو الجواب في " نَعْبُدُ - ونَسْتَعِينُ " والله أعلم بالصواب.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #38  
قديم 01-05-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 21

تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 21


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


قولُه تَعَالَى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.

" صِرَاطَ الذِيْنَ " بدل منه، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ.

والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها:

بدلُ كُلّ من كُلّ، وبدل بَعْضٍ من كُلّ، وبدلُ اشْتِمَالٍ، وبدلُ غَلَطٍ، وبدل نِسْيَان، وبدل بَدَاء، وبدل كُلّ من بعض.

أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ، فلا خلافَ فِيها.

وأما بدلُ البدَاء، فأثبته بعضُهم؛ مستدلاًّ بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: " وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلاَة، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُهَا إلى العُشُرِ " ولا يَرِدُ هذا في القرآن الكريمِ.

وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ، فأثبتهما بعضُهم؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ: [البسيط]

75- لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌوَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ


قال: لأنَّ " الحُوّة " السّوادُ الخالِصُ، و " اللَّعَسُ " سواد يشوبه حُمْرَة، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلاَمٍ فصيحٍ.

وأما بدل الكُلّ من البعض، فأثبته بعضهُم، مُسْتَدِلاًّ بظاهِر قوله: [الخفيف]

76- نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَابِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ


في رواية مَنْ نَصَبَ " طَلْحَةَ " ، قال: لأنَّ " الأَعْظُمَ " بعضُ " طَلْحَةَ " ، و " طَلْحَةَ " كُلّ وقد أُبْدِلَ منها؛ واستدلّ - أيضاً - بقول امرىء القيس [الطويل]

77- كَأَنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوالَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ


فـ " غَدَاةَ " بعضُ " اليوم " ، وقد أُبْدِلَ " اليوم " منها.

ولا حُجَّةَ في البيتيْنِ، أما الأولُ: فإنَّ الأَصْلَ " أعظماً دفنوها أَعْظُمَ طلحة " ثم حُذِفَ المضافُ، وأقيم المُضَافُ إليهِ مُقَامه؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ " طَلْحَةَ " على أنَّ الأصل: " أعظم طلحة " ولم يُقَم المضاف إليه مقامَ المضاف.

وأما الثاني: فإنَّ " اليَوْمَ " يُطلقُ على القطعةِ من الزمان، كما تقدّم، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن.

وقيل: " الصراط " الثاني غير الأول، والمرادُ به: العلمُ بالله تعالى. قاله جَعْفَرُ بنُ محمد رحمه الله تعالى: وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ.

والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى:

بدل مَعرفةٍ، ونكرةٍ منْ نكرةٍ، ومعرفةٍ منْ نكرةٍ، ونكرةٍ مِنْ معرفةٍ.

ويَنْقَسمُ أيضاً إلى:

بدل ظاهِر من ظاهرٍ: ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ، وظاهرٍ مِنْ مضمر، ومضمرٍ من ظاهر.

وفائدةُ البَدلِ: الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل.

و " الذين " في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة، وهو اسمُ موصولٍ، لافتقاره إلى صِلَةٍ وعائدٍ، وهو جمع " الذي " في المعنى، والمشهور فيه أن يكونَ بالياءِ، رفعاً، ونصباً، وجرًّا؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم؛ ومنه: [الرجز]
-1-

78- نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحَايَوْمَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا


وقد تُحْذَفُ نُونُه اسْتِطَالةً بصلته؛ كقوله: [الطويل]

79- وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْهُمُ الْقَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ


ولا يقع إلاَّ على أُولي العلمِ، [ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم] وغيرهم.

و " أَنْعَمْتَ ": فِعْلٌ، وفاعلٌ، صِلَة المَوْصُولِ.

والتاء في " أنعمتَ " ضميرُ مرفوعٍ مُتَّصل. و " عليهم " جار ومجرور متعلّق بـ " أنعمتَ " ، والضميرُ هو العائدُ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِه ومُنْفَصِلِهِ.

والهمزةُ في " أنعمتَ "؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ ما صِيَغَ منه، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه، ولكن ضُمِّنَ معنى " تَفَضَّلَ " فَتَعَدَّى تَعْدِيَتَهُ.

وقرأ عمر بنُ الخَطّابِ، وابنُ الزُّبَيْرِ رضي الله - تعالى - " صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ ".

ولـ " أَفْعَلَ " أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى، تقدّمَ وَاحِدٌ.

والتعدِيَةُ؛ نحو: " أَخْرَجتُه ".

والكثرةُ؛ نحو: " أَظْبَى المَكَانُ " أَيْ: " كَثُرَ ظِبَاؤُه ".

والصَّيرورةُ؛ نحو: " أَغَدَّ البَعِيرُ " صار ذا غُدّة.

والإعانة؛ نحو: " أَحْلَبْتُ فُلاَناً " أي: أعنتُه على الحَلْبِ.

والتَّشْكِيَةُ؛ نحو: " أَشكيتُه " أي: أزلتُ شِكَايَتَهُ.

والتَّعرِيضُ؛ نحو: " أبعتُ المبتاعَ " ، أي: عرضتُه للبيع.

وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه؛ نحو: " أحمدتُه " أي: وجدتُه محموداً.

وبلوغُ عَدَدٍ؛ نحو: " أعْشَرتِ الدَّرَاهِمُ " ، أي: بلغتِ العَشَرَة.

أو بلوغُ زَمانٍ؛ نحو " أصبح " ، أو مَكَانٍ؛ نحو " أَشْأَمَ ".

وموافقَةُ الثّلاثي؛ نحو: " أحزتُ المكانَ " بمعنى: حُزْتُهُ.

أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي؛ نحو: " أَرْقَلَ البعيرُ ".

ومطاوعةُ " فَعَلَ "؛ نحو قَشَع الريح، فَأَقْشَع السّحابُ.

ومطاوعَةُ " فَعَّلَ "؛ نحو: " فَطَّرْتُه، فَأَفْطَرَ ".

ونَفْيُ الغريزَةِ؛ نحو: " أسرع ".

والتَّسميةُ؛ نحو: " أخطأتهُ " ، أَيْ: سَمَّيْتُه مخْطِئاً.

والدعاءُ؛ نحو: " أسقيتُه " ، أَي: قلتُ له: سَقَاكَ الله تعالى.

والاستحقاقُ؛ نحو " أَحْصَدَ الزرعُ " ، أَيْ: استحقَّ الحصادَ.

والوصولُ؛ نحوه: " أَعْقَلْتُهُ " ، أَيْ: وَصَّلْتُ عقلي إليه.

والاستقبالُ نحو: " أَفَفْتُه " ، أَي: استقبلتُه بقول: أُفٍّ.

والمجيءُ بالشيء؛ نحو: " أكثرتُ " أَيْ: جئتُ بالكثير.

والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَل، نحو: أَشْرَقَتِ الشَّمسُ: أضاءتْ، وشَرَقَتْ: طَلَعَتْ.

والهجومُ؛ نحو: أَطْلَعْتُ على القوم، أيْ: اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ.

و " على " حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً؛ نحو: عليه دَيْنٌ: ولها معانٍ أُخَرُ، منها: المُجَاوزة؛ كقوله: [الوافر]

80- إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍلَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا

أيْ: عَنِّي.

وبمعنى " الباءِ "

{ حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ } [الأعراف7: 105]،

أي: بأَنْ، وبمعنى " فِي "؛

-2-

{ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَٰنَ } [البقرة2: 102]

أيْ: فِي [مُلْكِ]،


والتعليلُ:

{ وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } [البقرة2: 185]؛

أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم.


وبمعنى " مِن ":

{ حَافِظُونَ *إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ } [المؤمنون23: 5، 6]،

أيْ: إلاّ مِنْ أَزواجهم.


والزيادة كقوله: [الطويل]

81- أبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍعَلَى كُلِّ أَفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ


لأنَّ " تُروقُ " يتعدى بنفسِه، ولكل موضع من هذه المواضعِ مَجَالٌ للنظر.

وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ، والاسْمِيَّةِ؛ فتكون اسماً في موضعين:

أحدهُما: أن يدخلَ عليها حَرْفُ الجَرّ؛ كقول الشاعر: [الطويل]

82- غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَاتَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ


ومعناها " فَوْق " ، أيْ: من فوقه.

والثاني: أنْ يؤدي جعلُه حرفاً، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المُتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها؛ ومن ذلك قوله: [المتقارب]

83- هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَبِكَفِّ الإِلهِ مَقَادِيرُهَا


ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيْن " عَنْ " ، وستأتي إنْ شاء الله تعالى.

وزعم بعضُهم أنَّ " على " مترددةٌ بين الاسم، والفِعْلِ، والحرفِ.

أما الاسمُ والحرفُ، فقد تقدما.

وأما الفعلُ: قال: فإنك تقولُ: " عَلاَ زيدٌ " أي: ارتفع. وفي هذا نَظَرٌ؛ لأن " عَلاَ " إذا كان فِعْلاً، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً، فلا اشتقاقَ له، فليس هو ذَاكَ، إلاَّ أنَّ هذا القَائِلَ يَرُدُّ هذا النظرَ، [بقولهم: إنَّ " خَلاَ " ، " وَعَدا " مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر].

والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ، فإنْ تقدمها ياءٌ ساكنة، أو كسرةٌ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين؛ نحو: عَلَيْهِم وفِيهِمْ وَبِهِمْ.

والمشهورُ في مِيمِهَا السكونُ قبل متحرك، والكسرُ قبلَ ساكن، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء، أما إذا ضممتَ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة؛ كقوله: " وفِيهُمِ الحكام " بِكَسْرِ المِيمِ.

وفي " عَلَيْهِمْ " عشرُ لُغاتٍ:

قُرِىءَ بِبَعْضِها: " عَلَيْهُِمْ " بكسر الهاء وضمها، مع سُكُون الميم.

" عَلَيْهِمِي " ، بكسر الهاء، وزيادة الياء، وبكسر الميم فقط.

" عليهُمُو " بضم الميم، وزيادة واو، أو الضم فقط.

" عليهِمُو " بِكَسْرِ الهاءِ، وضم الميمِ، بزيادة الواو.

" عليهُمِي " بِضَمِّ الهاء، وزيادة ياء بعد الميم.

أو الكسر فقط " عليهِمُ " بكسر الهاء، وضم الميم، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَارِي.

والتفسيرُ، قال البَغَويُّ - رحمه الله تعالى -: صراط الذين أنعمت عليهم أي: مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق، وقال عِكْرَمة - رضي الله تعالى عنه -: مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَة وعلى الأنبياء عليهم السلام.

وقِيل: على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله - تعالى - من النَّبِيِّين والمُؤْمنين الذي ذكرهم الله - تَعَالَى - في قوله:

{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَ } [النساء4: 69]

-3-

وقال ابنُ عباس - رضي الله تعالى عنهما - هُمْ قومُ مُوسَى، وعِيسَى - عليهما الصلاة والسلام، قبل أن غيروا دينهم.

وقال أَبُو العَالِيَةَ: هم آلُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.

وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ - رضي الله عنه -: هم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل بَيْتِهِ.

وقرأ حَمْزَةُ " عَلَيْهُمْ " ، و " إلَيْهُمْ " ، و " لَدَيْهُمْ " بضم الهاء.

ويضم يَعْقُوب كُلَّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً، إلاّ قولَه تعالى:

{ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [الممتحنة60: 12].

والآخرُونَ: بكسرها. فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الانفراد.

ومَنْ كسرها، فالأصل الياءُ السَّاكنة، والياءُ أختُ الكسرة.

وضم ابنُ كَثِير، وأَبُو جَعْفَر كُلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصْلِ، إذا لم يلقها ساكن، فإنْ لقيها ساكِنٌ فلا يُشْبِع.

ونَافِعٌ يُخَيِّرُ، ويضمُّ وَرْش عند ألِفِ القطع.

وإذا تلقته ألفُ الوصلِ، وقبل الهاء كسرٌ، أو ياءٌ ساكنةٌ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي - رحمهما الله - وكسرَهُما أَبُو عَمْرو، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله.

والآخرون: بضمّ الميم، وكسرِ الهاء؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها، وضمّ الميم على الأصل، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه -: " صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ".

قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله تعالى -: اخْتُلِفَ في حَدّ النّعْمَةِ:

فقال بعضُهم: إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ.

[ومنهم مَنْ يقولُ: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلى الغير].

قالوا: وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان]، وإنْ كان فعله محظوراً؛ لأن جهةَ استحقاقِ الشكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما؟ أَلاَ ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ، والذَّمَّ بمعصيةِ الله تعالى، فلا يجوزُ أنْ يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك.

ولنرجع إلى تفسير الحَدّ: فنقول: أما قَولُنا: " المنفعة "؛ فلأن المَضَرّةَ المحضةَ لا تكون نِعْمَةً.

وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان؛ لأنه لو كان نفعاً حقًّا وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه، نَفْعَ المفعولِ به، فلا يكون نِعْمَةً، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ، ليربَحَ عليها.

وها هنا فوائدُ:

الفائِدَةُ الأُوْلَى: أَنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع، ودفع الضَّرر، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى:

{ وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل16: 53]،

ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ:


أحدُها: نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله - تعالى - بإيجَادِهَا، نحو: أنْ خَلَق ورَزَقَ.

وثانيها: نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غير الله - تعالى - في ظاهرِ الأَمْرِ، وفي الحقيقة فهي - أيضاً - إنّما وصلتْ من الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأنه - تعالى - هو الخالقُ لتلك النعمةِ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ، كان ذلك العبدُ مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله - تعالى - ولهذا قال تعالى:
-4-

{ أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان31: 14]

فبدأ بنفسِه، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى.

وثالثها: نِعمٌ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه لولا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - وَفّقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأَزَاحَ الأعذار عَنا، وإِلاَّ لَمَا وَصَلْنَا إلى شَيْءٍ منها، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة من الله تَعَالى.

الفائدةُ الثَّانيةُ: اختلفوا [في أنه] هل لله - تعالى - نعمةً على الكافرِ أَم لاَ؟ فقال بعضُ أصحابنا: ليس لله - تعالى - على الكافر نعمة.

وقالت المعتزلةُ: لله - تعالى - على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية.

واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم، بالقرآن [الكريم]، والمعقول.

أما القرآنُ؛ فقوله تبارك وتعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }؛ وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمةٌ، لكانوا داخِلِينَ تحت قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فيكون طلباً لصراطِ الكُفّارِ، وذلك بَاطِلٌ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله - تعالى - على الكافر نعمةٌ.

فإن قَالُوا: إنَّ قَوْله: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } يدفعُ ذَلكَ.

قلنا: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل مِنْ قَوْلِه: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }؛ فكان التَّقْدِير: " اهْدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم " ، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوفُ المذكورُ.

وقوله تبارك وتعالى:


وأما المَعْقُولُ: فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مُقَابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام، كالقَطْرة في البحر، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً، بدليل أنَّ مَنْ جعل السُّمَّ في الحَلْوَى لم يَعُدِ النفعُ الحاصلُ منه نعمةً؛ لأجل أن ذلك النفع حقيرٌ في مُقابلةِ ذلك الضَّرر الكبير، فكذا ههُنا.

وأما الَّذِين قالوا: إن لله على الكافر نعمةً، فقد احتجُّوا بقوله تعالى:

{ يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ *ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءً } [البقرة2: 21، 22]،

على أنه يَجبُ على الكُلِّ طاعةُ الله - تعالى - لأجلِ هذه النعم، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً؛ وقولِه تعالى:

{ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [البقرة2: 28]،

ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ، وشرحِ النعم.


وقولِه تعالى:


وقولِه تعالى:


وقول إبليس:


ولو لم تحصل النعمة، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاَّ عند حصول النعمة.
-5-

الفائدة الثالثةُ: قال ابنُ الخَطِيب - رحمه الله -: قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامةِ أبي بكر - رضي الله عنه؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية: " اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم " والله - تعالى - قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من هم؛ بقوله تعالى:

{ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ } [النساء4: 69]

ورئيسهم أبو بكر الصّديق - رضي الله تعالى عنه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - أمرنا أن نطلب الهداية [التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - غيرَ إمامٍ، لما جَازَ الاقتداء به]، فثبت [بما ذكرناه دلالة هذه الآية على] إمامة أبي بكر رضي الله عنه.


الفائدة الرابعة: قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يتناول كُلّ من كان لله - تعالى - عليه نعمة، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا، أو نعمة الدين، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين.

فنقول: كل نعمة ديِنِيّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيْمَان، فرجع حاصل القول في قوله تعالى: { 1649;هْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل، فيتفرع عليه أحكام:

الأول: أنه لما ثبت أن المُرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله - تعالى - هو المنعم بالنعمة، ثبت أنّ الخالق للإيمان، والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدلّ على فساد قول المعتزلة، وكان الإيمان أعظم النعم، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى، ولو كان كذلك لما حسن من الله - تعالى - أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.

الحكم الثاني: يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار؛ لأن قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التَّعْظيم بهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة، فما كان يحسن من الله - تعالى - ذكره في معرض التَّعْظيم.

الحكم الثالث: دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله - تعالى - رعاية [الصلاح والأصلح] في الدين؛ لأنه لو كان الإرْشاد على الله - تعالى - واجباً لم يكن ذلك إنعاماً، وحيث سماه الله - تعالى - إنعاماً علمنا أنه غير واجب.

الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قدر المكلف عليه، وأرشده إليه، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ، لأن كل ذلك حاصل في حَقّ الكفار، فلما خص - تعالى - بعض المكلفين بهذا الإنعام، مع أن الإقدار، وإزاجة العلل حاصل في حَقّ الكل، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار، وإزاحة الموانع.
-6-

قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

" غير " بدل من " الذين " بدل نكرة من معرفة.

وقيل: نعت لـ " الذين " ، وهو مشكل؛ لأن " غير " نكرة و " الذين " معرفة، وأجابوا عنه بجوابين:

أحدهما: أن " غير " إنما يكون نكرة إذا لم يقع بين ضدّين، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية، فيتعرف " غير " حينئذ بالإضافة، تقول: " مررت بالحركة غير السكون " والآية من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج، وهو مرجوح.

والثاني: أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه، فعومل معاملة النكرات.

وقيل: إن " غير " بدل من المضمر المجرور في " عليهم " ، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محلّ المبدل منه، وينوي بالأول الطّرح؛ إذ يلزم منه خلو الصّلة من العائد، ألا ترى أن التقدير يصير: " صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم ".

و " المغضوب " خفض بالإضافة، وهو اسم مفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور، فـ " عليهم " الأولى منصوبة المَحَلّ، والثانية مرفوعته، و " أل " فيه موصولة، والتقدير: " غير الذين غُضِب عليهم ".

والصحيح في " أل " الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ.

واعلم أن لفظ " غير " مفرد مذكر أبداً، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه، نقول: " قامت غيرك " ، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل، وهو مغاير، ولذلك لا تتعرف بالإضافة، وكذلك أخواتها، أعني نحو: " مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِدْن وتِرْب ".

وقد يستثنى بها حملاً على " إلاّ " كما يوصف بـ " إلاّ " حملاً عليها، وقد يراد بها النفي كـ " لا " ، فيجوز تقديم معمول معمولها عليها، كما يجوز في " لا " تقول: " أنا زيداً غَيْرُ ضارب " أي: غير ضارب زيداً؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]

84- إِنَّ امْرَءًا خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُعَلَى التَّنَائِي لَعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ


تقديره: غير مكفور عندي، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي.

لو قلت: " جاء القوم زيداً غير ضارب " ، تزيد: غير ضارب زيداً لم يجز؛ لأنها ليست بمعنى " لا " التي يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في " لا ".
-7-

وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً.

وقول ثالث: يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ، فيمتنع فيها ذلك، وبين ألاّ يكون فيجوز.

وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً، فإدْخَال الألف واللام عليها خَطَأ.

واختلفوا هل يجوز دخول " أل " على " غير وبعض وكل " والصحيح جوازه.

قال البغوي - رحمه الله تعالى -: " غير " ها هنا بمعنى " لا " و " لا " بمعنى " غير " ، ولذلك جاز العَطْفُ عليها، كما يقال: " فلان غير مُحْسن ولا مجمل " ، فإذا كان " غير " بمعنى " لا " ، فلا يجوز العَطْفُ عليها بـ " لا "؛ لا يجوز في الكلام: " عندي سوى عبد الله ولا زيد ".

وقرىء: " غَيْرَ " نصباً، فقيل: حال من " الَّذِين " وهو ضعيف؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى: وقيل: من الضمير في " عليهم ".

وقيل على الاستثناء المنقطع، ومنعه الفَرَّاء؛ قال: لأن " لا " لا تُزَادُ إلاَّ إذا تقدمها نفي، كقول الشاعر: [البسيط]

85- مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَاوَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ


وأجابوا بأن " لا " صلة زائدة مثلها في قوله تعالى:

{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف7: 12]؛

وقول الشَّاعر: [الرجز]

86- فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا


وقول الآخر: [الطويل]

87- وَيَلْحَيْنَني في اللَّهْوِ أَلاَّ أُحِبَّهُولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ


وقول الآخر: [الطويل]

88- أَبَى جُودُهُ لاَ البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِنَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ


فـ " لا " في هذه المواضع كلها صلةٌ.

وفي هذا الجواب نظر؛ لن الفَرَّاء لم يقل: إنها غير زائدة، وقولهم: إن " لا " زائدة في الآية، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا: وجدت " لا " زائدةً من غير تقدّم نفي، كهذه المواضع المتقدمة.

ويحتمل أن تكون " لا " في قوله: " لا البُخْلَ " مفعولاً به لـ " أَبَى " ، ويكون نصب " البُخْلَ " على أنه بدل من " لا " أي: أبى جُودُهُ قَوْلَ لا، وقول: لا هو البخل، ويؤيد هذا قوله: " واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ " فجعل " نَعَمْ " فاعل " اسْتَعْجَلَتْ " ، فهو من الإِسْنَادِ اللَّفْظي، أي: إلى جود هذا اللَّفظ، واستعجل به هذا اللفظ.

وقيل: إن نصب " غير " بإضمار أعني. ويحكى عن الخليل، وقدّر بعضهم بعد " غير " محذوفاً قال: التقدير: " غير صِرَاط المَغْضُوب " ، وأطلق هذا التَّقدير، فلم يقيده بِجَرّ " غير " ، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلاَّ مع نصبها، وتكون صفةً لقوله تعالى: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهذا ضعيف؛ لأنه متى اجتمع البدل والوصف قدم الوصف، فالأولى أن تكون صفةً لـ " صراط الذين " ، ويجوز أن تكون بدلاً من " الصراط المستقيم " ، أو من " صراط الذين " إلا أنه يلزم منه تكرار البدل، وفي جوازه نَظَر، وليس في المَسْألة نقل، إلاّ أنهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة، أو حالاً من " الصراط " الأول أو الثاني.
-8-

واعلم أنّه حيث جعلنا " غير " صفةً فلا بد من القول بتعريف " غير " ، أو إبهام الموصوف، وجريانه مجرى النكرة، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ " غير ".

و " لا " في قوله تعالى: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من " غير " لئلا يتوهّم عطف " الضَّالين " على " الذين أنعمت ".

وقال الكوفيون: هي بمعنى " غير " وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صرح بـ " غير " كانت للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيٌّ رضي الله عنهما.

و " الضَّالين " مجرور عطفاً على " المغضوب " ، وقرىء شاذاً " الضَّأَلِّينَ " ، بهمز الألف؛ وأنشدوا: [الطويل]

89- وَلِلأَرْضِ أَمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّلََتْبَيَاضاً، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ


قال الزَّمَخْشَرِي: " وفعلوا ذلك، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين ".

وقد فعلوا ذلك حتى لا سَاكِنَانِ؛ قال الشاعر: [الرجز]


90- وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ


بهمز " العألم ".

وقال آخر: [البسيط]

91- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً..................


بهمز ألف " زَوْرَأَة " ، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ؛ فإنهم قالوا في قراءة ابن ذَكْوَان: " مِنْسَأَتَهُ " بهمز ساكنة: إنّ أصلها ألف، فقلبت همزة ساكنة.

فإن قيل: لم أتى بصلة " الذين " فعلاً ماضياً؟

قيل: ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله - تبارك وتعالى - عليهم وتحقيقه لهم، وأتى بصلة " أل " اسماً ليشمل سائر الأزمان، وجاء مبنيًّا للمفعول؛ تحسيناً للفظ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه، لأنه مقام تلطُّف، وترفّق لطلب الإحسان، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام.

والإنعام: إيصال الإحسان إلَى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاَء، فلا يقال: أنعم فلان على فَرَسِهِ، ولا حماره.

والغضب: ثَورَان دم القلب إرادة الانتقام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه ".

وإذا وصف به الباري - تبارك وتعالى - فالمراد به الانتقام لا غيره.

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: هنا قاعدة كليةٌ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية - أعني الرحمة، والفرح، والسُّرور، والغضب، والحَيَاء، والعُتُوّ، والتكبر، والاستهزاء -لها أوائل ولها غايات.
-9-

ومثاله: الغضب: فإنّ أول غليان دم القلب، وغايته: إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار، وأيضاً الحَيَاءُ] له أول وهو انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.

ويقال: فُلاَن غُضبَّة: إذا كان سريع الغَضَبِ.

ويقال: غضبت لفلان إذا كان حيًّا وغضبت به إذا كان ميتاً.

وقيل: الغضب تغيُّر القلب لمكروه.

وقيل: إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل، وإن أريد به إرادة العقوبة كان صفة ذاتٍ.

والضلال: الخَفَاء والغيبوبة.

وقيل: الهلاك، فمن الأول قولهم: ضَلَّ الماءُ في اللبن.

[وقال القائل]: [الوافر]

92- أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُعَن الحَيِّ المُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا؟


" والضَّلضلَة ": حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي.

ومن الثاني:

{ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [السجدة32: 10]،

وقيل: الضّلال: العُدُول عن الطريق المستقيم، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسْيان كقوله تعالى:

{ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } [البقرة2: 282]

بدليل قوله:

{ فَتُذَكِّرَ } [البقرة2: 282].


التفسير: قيل: " المغضوب عليهم " هم اليهود.

وقيل: " الضالون " هم النصارى؛ لأن الله - تعالى - حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى:

{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة5: 60]،

وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى:


وقيل: هذا ضعيف؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز من دينهم أولى.

وقيل: " المغضوب عليهم ": هم: الكُفّار، و " الضّالون ": هم المنافقون.

وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنهما: " غير المغضوب عليهم " بالبِدْعَةِ، " والضّالين " عن السُّنَّة.

والأَوْلَى أن يحمل " المغضوب عليهم " على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد؛ لأن اللفظ عام، والتقييد خلاف الأصل.

فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: " غير المغضوب عليهم " يدلُّ على أن أحداً من الملائكة، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلّ عن الحق، لقوله تعالى:

{ فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [يونس10: 32]،

ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم، ولا بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.


فَصْلٌ في إضافة الغضب لله

قالت المعتزلة: غَضَبُ الله - تعالى - عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم، وإلاَّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله - تعالى - عليهم.
-10-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #39  
قديم 01-05-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق 11-21 من

تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق 11-21 من 21



{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }
وقال أصحابنا - رحمهم الله تعالى -: لما ذكر غضب الله عليهم، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله - تعالى - عليهم علّة لكونهم ضالين، وحينئذ تكون صفة الله - تعالى - مؤثرةً في صفة العبد.

أما لو قلنا: إن كونهم ضالين يوجب غضب الله - تعالى - عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى، وذلك مُحَال.

فَصْلٌ

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق:

أهل الطاعة، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.

وأهل البغي والعدوان، وهم المراد بقوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }.

وأهل الجهل في دين الله، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.

فإن قيل: لم قدم ذكر العُصَاة على ذكر الكَفَرَةِ؟

قلنا: لأن كل أحد يحترز عن الكفر، أما قد لا يحترز عن الفِسْق، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك.

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: ها هنا سؤال، وهو أن غضب الله إنما تولَّد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه، فهذا العلم إما أن يقال: إنه قديم، أو محدث، فإن كان قديماً فلم خلقه، ولم أخرجه من العَدَمِ إلى الوجود، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العَذَاب الدَّائم، ولأنه من كان غضبان على الشَّيء كيف [يعقل] إقدامه على إيجَادِهِ وتكوينه؟ فإن كان ذلك العلم حادثاً لكان الباري - تعالى - محلاًّ للحوادث، إلاَّ أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سَبْقِ علمٍ آخر، وتسلسل، وهو مُحَال.

والجواب: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.

سؤال آخر

وهو أن من أنعم الله - تعالى - عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه، وأن يكون من الضَّالين، فلما ذكر قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فما الفائدة في أن ذكر عقيبه: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }؟

والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرَّجَاء والخوف، كما قال عليه الصلاة والسلام: " لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِن وَرَجَاؤُهُ لاعتْدَلا " ، فقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يوجب الرَّجَاء الكامل، وقوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } يوجب الخوف الكامل، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حَدِّ الكمال.

سؤال آخر

ما الحكمة في أنه - تَعَالَى - جعل المقبولين طائفةً واحدةً، وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضَّالين؟

فالجواب: أنّ الذين كملت نعم الله - تَعَالَى - عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقّ لذاته، والخير لأجل العمل به، فهؤلاء هم المُرَادون بقوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ، وهم المغضوب عليهم، كما قال تعالى:

-11-

وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى:


فصل في حروف لم ترد في هذه السورة

قالوا: إنّ هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف، وهو الثاء، والجيم، والخاء، والزاي، والشين، والظاء، والفاء، والسبب فيه أن هذه الحروف مُشْعرة بالعذاب، فالثناء أوّل حروف الثبور.

والجيم أوّل حروف جهنم.

والخاء: أول حروف الخِزْي.

والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق، والزّقوم والشّقاوة.

والظَّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب، ويدل أيضاً على لَظَى الظاء.

والفاء أول حروف الفراق قال تعالى:


قلنا: فائدته أنه - تعالى - وصف جَهَنّم بأن

{ لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [الحجر15: 44]

فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العَذَاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة، وآمن بها، وعرف حقائقها أمن من دَرَكَاتِ جهنم السّبعة.


القول في " آمين ": ليست من القرآن إجماعاً، ومعناها: اللَّهم اسمع واستجب.

وقال ابن عباس وقتادة - رضي الله تعالى عنهما -: معناه كذلك يكون، فهي اسم فعل مَبْنِيّ على الفَتْحِ.

وقيل: ليس باسم فعل، بل هو من أسماء البَارِي تعالى، والتقدير: يا آمين، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين:

أحدهما: أنه لو كان كذلك لَكَانَ ينبغي أن يبني على الضَّمِّ، لأنه منادى مفرد معرفة.

والثاني: أن أسماء الله - تعالى - توقيفيةٌ.

ووجه الفارسي قول من جعله اسماً لله - تعالى - على معنى: أن فيه ضميراً يعود على الله تعالى؛ لأنه اسم فعل، وهو توجيه حسن نقله صاحب " المُغْرِب ".

وفي " آمين " لغتان: المَدّ، والقَصْر، فمن الأول قول القائل: [البسيط]

93- آمِينَ آمِينَ لاَ أَرْضَى بِوَاحِدةٍحَتَّى أُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا


وقال الآخر: [البسيط]

94- يَا رَبِّ لاَ تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَداًوَيَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ: آمِينَا


ومن الثاني قوله: [الطويل]

95- تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحُلٌ إِذْ رَأَيْتُهُأَمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا


وقيل: الممدود: اسم أَعْجَمِيّ، لأنه بِزِنَةِ قَابِيل وهَابِيل.

وهل يجوز تشديد الميم؟

المشهور أنه خطأ، نقله الجَوْهَرِيّ - رحمه الله تعالى -، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفر الصّادق - رضي الله تعالى عنهما - التشديد، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ، من أمَّ: إذا قصد، أي: نحن قاصدون نحوك.

ومنه:


وقيل: معناه: هو طابع الدعاء.

وقيل: هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفسادِ، وظهور ما فيه. وقال النَّووي - رحمه الله تعالى - في " التهذيب ": وقال عطية العوفي: [ " آمين " ] كلمة عبرانية، أو سُرْيانية، وليست عربية.

وقال عَبْدُ الرَّحمن بن زيد: " آمِينَ " كَنْزٌ من كنوز العَرْشِ لا يعلم أحد تأويله إلاّ الله تعالى.

-12-

وروي فيها الإِمَالَة مع المَدّ عن حَمْزَةَ والكِسَائي، والنون فيها مفتوحة أبداً مثل: أَيْنَ وَكَيْفَ.

وقيل: آمين درجة في الجَنَّة تجب لقائلها.

وقيل: معناه: اللَّهم آمنا بخير.

وقال بعضهم: بنيت لأنها ليست عربية، وأنها سم فعل [كـ " صَهٍ " " ومَهٍ " أَلاَ ترى أن معناها: " اللهم استجب، وأعطنا ما سألناك ".

وقالوا: إن مجيء " آمِين " دليلٌ على أنها ليست عربيةً]؛ إذ ليس في كلام العرب " فَاعِيل ".

فأما " آري " فليس بـ " فَاعِيل " ، بل هو عند جماعة " فَاعُول ".

وعند بعضهم " فَاعِلي ".

وعند بعضهم [ " فَاعِي " ] بالنقصان.

وقال بعضهم: إن " أمين " المقصورة لم يجىء عن العرب، والبيت الذي ينشد مقصوراً لا يصح على هذا الوجه إنما هو: [الطويل]


96-..........................فآمِينَ زَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا


روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إِذَا قَالَ الإمَامُ: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ، فقولوا: آمِين، فإنّ المَلائِكَةَ تقول: آمين، فمن وافق تَأْمِينُهُ تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذَنْبِهِ ".

فصل في وجوب القراءة في الصلاة

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبةٌ في الصلاة.

وعن الأَصَمّ والحسن بن صالح - رضي الله تعالى عنهما - أنهما قالا: لا تجب لنا [أن كلّ دليل نذكره في بيان أن] قراءة الفاتحة واجبة، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب، ونزيد - ها هنا - وجوهاً:

الأول: فهو قوله تبارك وتعالى:

{ أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ } [الإسراء17: 78].


والمراد بالقرآن القراءة، والتقدير: أقم قراءة الفجر، وظاهر الأمر الوجوب.

الثاني: عن أبي الدَّرْدَاء - رضي الله تعالى عنه - " أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفي الصَّلاَةِ قِراءةٌ فقال: " نَعَمْ " فقال السَّائل: وجبت، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل على قوله: " وَجَبَتْ " ".

الثالث: عن ابن مَسْعُودٍ - رضي الله تعالى عنه - " أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيقرأ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: " أتَكُونُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ " ، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي أحمد الإسفرايني.

وحجّة الأصم - رحمه الله تعالى - قوله عليه الصلاة والسلام: " صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلّي " جعل الصلاة من الأشياء المرئية، والقراءة ليست مرئية، فوجب كونها خارجةً عن الصلاة، والجواب: أنّ الرؤية إذا كانت متعديةً إلى مفعولين كانت بمعنى العلم.

فصْلٌ

قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: قراءة الفاتحة واجبةٌ في الصلاة، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصحّ صلاته، وبه قال الأكثرون.

-13-

وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: لا تجب قراءة الفَاتِحَةِ.

لنا وجوه:

الأول: أنه - عليه الصّلاة والسلام - وَاظَبَ طول عمره على قراءة الفاتحة في الصَّلاة، فوجب علينا ذلك، لقوله تعالى:

{ وَٱتَّبِعُوهُ } [الأعراف7: 158]، ولقوله:
{ فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [النور24: 63]، ولقوله تعالى:
{ فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران3: 31].

ويا للعجب من أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أنه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحدٍ، في أنه - عليه الصلاة والسلام - مسح على النّاصية، فجعل ذلك القَدْرَ من المسح شرطاً لصحة الصلاة، وها هنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب على قراءة الفاتحة، ثم قال: إن صحّة الصَّلاة غير موقوفةٍ عليها، وهذا من العَجَائب.

الثاني: قوله تعالى:

{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } [البقرة2: 43]،

والصلاة لفظ مُحَلّى بالألف واللام، فيكون المراد منها المعهود السَّابق، وليس عند المسلمين معهودٌ سابق من لفظ الصَّلاة إلى الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها.

وإذا كان كذلك كان قوله تعالى:

{ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } [البقرة2: 43]

جارياً مجرى أمره بقراءة الفاتحة، وظاهر الأمر [الوجوب]، ثم إنّ هذه اللَّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفَاتحَةِ في الصَّلاةِ.

الثالث: أنّ الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم - واظبوا على قراءتها طول عمرهم، ويدلُّ عليه ما روي في " الصّحيحين " " أن النَّبي - عليه الصلاة والسلام - وأبا بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - كانوا يستفتحون القراءة بـ { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، وإذا ثبت هذا وجَبَ علينا ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام: " عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ من بَعْدِي " ".

ولقوله عليه الصلاة والسلام: " اقْتَدُوا باللَّذينِ مِنْ بَعْدِي: أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ " رضي الله عنهما.

والعجب من أبي حنيفة - رحمه الله - أنه تمسَّك بطلاق الفَارّ بأثر عثمان - رضي الله عنه - مع أن عبد الرحمن، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - كانا يخالفانه - ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرْث، فلم يتمسّك بعمل [كل] الصحابة - رضي الله عنهم - على سبيل الإطباق، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة، مع أن هذا القول على وَفْقِ القرآن، والإخبار، والمعقول!

الرابع: أن الأمّة [وإن] اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا؟ لكنهم اتفقوا عليه في العَمَلِ فإنك لا ترى أحداً من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصَّلاة، وإذا ثَبَتَ هذا فنقول: إنَّ من صَلَّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين، فيدخل تحت قوله تعالى:

-14-

{ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النساء4: 115]

فإن قالوا: إنَّ الذين اعتقدوا أنَّهُ لا يَجِب قراءتها قَرَءُوهَا لا عن اعتقاد الوجوب، بل على اعتقاد النّدبية، فلم يحصل الإجماع على وجوب قرَاءتها.

فنقول: أعمال الجوارح غير أعمال القلوب، ونحن قد بَيَّنَّا إطباق الكُلّ على الإتيان بالقراءة، فمن لم يَأْتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العَمَلِ فدخل تَحْتَ الوَعِيدِ، وهذا القدر يكفينا في الدَّلِيلِ، ولا حاجة في تقرير هذا الدَّليل إلى ادِّعَاء الإجماع في اعتقاد الوجوب.

الخامس: قوله عَزَّ وجَلَّ: " قسمتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن، فإذا قَالَ العَبْدُ: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } يقول الله تَعَالى: حَمِدَنِي عَبْدِي... " ، إلى آخر الحديث.

وجه الاستدلال: أنه - تَعَالَى - حكم على كلّ صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلاّ بسبب هذه السورة، ولازم اللازم لازم، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا: قراءة الفاتحة شرط في صِحّة الصلاة.

السَّادس: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ ".

قالوا: حرف النفي دخل على الصَّلاة، ودخل على غير مُمْكِنٍ، فلا بُدّ من صرفه إلى حكم من أحكام الصَّلاة، وليس صرفه إلى الصِّحة أولى من صرفه إلى الكمال.

والجواب من وجوه:

الأول: أنه جاء في بعض الرِّوَايات: " لا صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ " ، وعلى هذه الرواية فالنَّفي ما دخل على الصَّلاة، وإنما دخل على حصولها للرَّجل، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها، وخروجه عن عُهْدَةِ التَّكْليف بسببها، وعلى هذا التَّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النَّفي على ظاهره.

الثاني: من اعتقدوا أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة، فعند عدم القراءة لا توجد ماهية الصلاة؛ لأنّ الماهية تمنع حصولها حال عدم بعض أجزائها، وإذا ثبت هذا فقولهم: إنه لا يمكن إدخال حرف النَّفي على مُسَمَّى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفَاتحَةَ ليست جزءاً من الصّلاة، وهذا [هو] أول المسألة، فثبت أن قولنا: يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه متى تعذّر العمل بالحقيقة، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما: أقرب إلى الحقيقة، والثاني: أبعد؛ فإنه يجب حمل اللَّفظ على المَجَاز الأقرب.

إذا ثبت هذا فنقول: المُشَابهة بين المعدوم، وبين الموجود الذي يكون صحيحاً [أتم من المُشابَهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحاً]، لكنه لا يكون كاملاً، فكان حمل هذا اللَّفظ على نفي الصِّحة أولى.

الحُجَّة السَّابعة: عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " كُلّ صَلاَةٍ لم يقرأ فيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاج، فهي خداج " أي غير تمام، قالوا: الخِدَاجُ هو النقصان، وذلك لا يدل على عدم الجواز.

-15-

قلنا: بل هذا يدلّ على عدم الجواز؛ لأن التكليف بالصَّلاة دائم، والأصل في الثابت، البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصَّلاة على صفة الكَمَالِ، فعند الإتيان بها على سبيل النُّقصان يوجب ألاّ يخرج عن العُهْدَةِ، والذي يقوي هذا أنَّ عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه قال: لو صام يوم العِيدِ قضاء عن رَمَضَان لم يصح؛ لأن الواجب عليه هو الصَّوم الكامل، والصوم في هذا اليوم ناقص، فوجب ألا يفيد هذا القضاء الخروج عن العُهْدَةِ.

وإذا ثبت هذا فنقول: فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا؟

الحُجّة الثامنة: نقل الشيخ أبو حامد في " تعليقه " عن ابن المُنْذِرِ أنه روى بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تُجْزِىء صَلاَةٌ لا يُقْرأ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ ".

الحُجّة التاسعة: روى رفاعة بن مالك - رضي الله عنه - أن رَجُلاً دخل المَسْجِد فصلّى، فلما فرغ من صلاته، ذكر في الخبر أن الرجل قال: علّمني الصَّلاة يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: " إذا تَوَجَّهْتُم إلى القِبْلَةِ فَكَبِّرُوا، واقْرَءُوا بفاتحة الكِتَابِ " ، وهذا أمر، والأمر للوجوب.

الحُجّة العاشرة: " روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ألا أخبركم بِسُورَةٍ ليس في التَّوْرَاة ولا في الإِنْجِيل ولا في الزَّبُور مثلها " ، قالوا: نعم، قال: " فما تقرءونه في صَلاَتكم "؟ فقالوا: الحمد لله ربّ العالمين، قال: " هِيَ هِيَ " ".

وجه الدليل: " أنه - عليه الصلاة والسلام - لما قال: " ما تَقْرَءُونَهُ في صلاتكم "؟ قالوا: الحمد لله رب العالمين " ، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة - رضي الله عنهم - أنه لا يصلي أحد إلاّ بهذه السورة، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم.

الحُجّة الحادية عشرة: التمسُّك بقوله تعالى:

{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل73: 20]

فهذا أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تَيَسَّرَ من القرآن واجبةٌ.


فنقول: المراد بما تيسّر من القرآن، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة، وذلك باطل بالإجماع، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع، لأن الأمّة مجمعةٌ على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها.

وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خِدَاجٌ ناقصة، والتخيير بين النقائص والكامل لا يجوز.

واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة لما تيسّر من القرآن؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين، فهي متيسّرة للكل، أما سائر السُّور فقد تكون محفوظة، وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسّرة للكلّ.

-16-

الحُجّة الثَّانية عشرة: الأصل بقاءُ التكليف، فالقولُ بأنَّ الصَّلاةَ بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة، إما أنْ يعرف بالنَّص أو بالقياس.

أما الأول فباطل.

[لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى:

{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل73: 20]

وقد بينا أنه دليلنا.


وأما القياس] فباطل؛ لأن التعبدّات غالبة على الصَّلاة، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس.

الحُجّة الثالثة عشرة: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وَاظَبَ على الصَّلاة بها طول عمره، فيكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع، وذلك حرام لقوله صلى الله عليه وسلم: " اتَّبِعُوا وَلاَ تَبْتَدِعُوا " ، و " أَحْسَن الهَدْي هَدْيُ مُحَمّدٍ، وَشَرّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ".

واحتج أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بالقرآن والخبر.

أما القرآن الكريم فقوله تبارك وتعالى:

{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل73: 20].


وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما - قال " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي: لا صَلاَةَ إلا بِقَرَاءَةٍ، ولو بفاتحة الكِتَاب ".

والجواب عن الأول: أنا بَيّنا أنّ هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا.

وعن الثاني: أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة، وأيضاً لا يجوز أن يقال: المراد من قوله: " لا صَلاَةَ إلا بقراءة، ولو بفاتحة الكتاب " وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى.

فصل في بيان هل التسمية آية من الفاتحة أم لا؟

قال الشافعي - رضي الله عنه -: التّسمية آية من الفاتحة، ويجب قراءتها مع الفاتحة، وقال مالك والأوزاعي، - رضي الله تعالى عنهما -: إنها ليست من القرآن إلاّ في سورة النَّمل، ولا يجب قراءتها سرّا ولا جهراً، إلاّ في قيام شهر رمضان، فإنه يقرؤها.

وأما أبو حنيفة - رحمه الله - فلم ينص عليها، وإنما قال: يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ويُسِرّ بها، ولم يقل: إنها آية من أول السورة أم لا.

قال: سُئل محمد بن الحسن - رحمه الله - عن " بسم الله الرحمن الرحيم " فقال: ما بين الدّفَّتَيْنِ كلام الله - عز وجل - القرآن.

قلت: فَلِمَ يُسَرّ بها؟ فلم يجبني.

وقال الكَرْخي - رحمه الله تعالى -: لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدّمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة.

وقال بعض الحنفية - رحمهم الله -: تورّع أبو حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - عن الوقوع في هذه المسألة؛ لأن الخوض في أن التسمية من القرآن، أو ليست من القرآن أمر عظيم، فالأولى السّكوت عنه.

حُجّة من قال: إن التسمية من الفاتحة:

روى الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت:

-17-

" قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، فعد بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم آية منها والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ آية، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ آية، إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ آية، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ آية، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ آية " ، وهذا نَصّ صريح.

وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ألا أُخْبِرُكَ بآية لم تنزل على أَحَدٍ بعد سُلَيْمَانَ بن داود - عليهما السلام - غيري "؟ فقلت: بلى قال:

" بأي شيء يُفْتَتَحُ القرآن إذا افتتحت الصَّلاَة؟ " قلت: ببسم الله الرحمن الرحيم قال: " هِيَ هِي " وهذا يدل على أنَّ التسمية من القرآن.

وروى الثَّعْلبي بإسناده عن جعفر بن مُحَمَّدٍ عن أبيه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - " أنّ النبي - عليه الصّلاة والسلام - قال له: " كيف تَقُول إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة "؟ قال: أقول: الحمد لله رب العالمين، قال: " قل: بسم الله الرحمن الرحيم " ".

وروى أيضاً بإسناده عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تبارك وتعالى:

{ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } [الحجر15: 87]

قال: فاتحة الكتاب، فقيل للنابغة، أين السَّابعة؟ فقال: { بسم الله الرحمن الرحيم }.


وبإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، والنبي يحدث أصحابه، إذ دخل رجل يصلّي، فافتتح الصَّلاة وتعوّذ، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رجل، قَطَعْتَ عَلى نَفْسِكَ الصَّلاة، أما علمت أن بسم الله الرَّحمن الرحيم من الحَمْد؟ من تركها فقد تركها فقد تَرَكَ آيةً منها، ومن ترك أيةً منها فقد قطع عليه صلاته، فإنه لا صَلاَةَ إلا بِهَا ".

وروى بإسنادة عن طَلْحَةَ بن عبيد الله - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: " مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالَى ".

وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كَعب - رضي الله عنهما -: " " مَا أعظم آيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى "؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدقة النبي صلى الله عليه وسلم ".

ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل، فتعيّن أن تكون آية تامةً في أوّل الفاتحة.

-18-

وروي أن معاوية - رضي الله عنه - لما قدم " المدينة " فصلّى بالناس صَلاَةً يجهر فيها، فقرأ أمّ القرآن، ولم يقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ، فلما قضى صلاته نَادَاهُ المُهَاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين اسْتَفْتَحْتَ القرآن؟

فأعاد معاوية الصَّلاة؟ وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.

وهذا يدلّ على إجماع الصَّحَابة على أنها من القُرْآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجَهْرُ بقراءتها.

فصل في بيان عدد آيات الفاتحة

حكي عن الزَّمخشري: الاتفاق على كَوْن الفاتحة سَبْعَ آيات.

وحكى ابن عطية قولين آخرين:

أحدهما: هي ستّ آيات، فأسقط البَسْمَلَة، وأسقط " أنعمت عليهم ".

والثاني: أنها ثماني آيات فأثبتهما.

قال ابن الخطيب - رحمه الله تعالى -: رأيت في بعض الروايات الشَّاذة أن الحسن البَصْري - رضي الله تعالى عنه - كان يقول: إنّ هذه السورة ثماني آيات، فأما الرواية المشهورة التي عليها الأكثرون أنها سبع آيات، وبه فسّروا قوله تعالى:


{ وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } [الحجر15: 87].


إذا ثبت هذا، فنقول: إنَّ الذين قالوا: إن البَسْمَلَة آية من الفاتحة قالوا: قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] إلى آخرها آية تامة منها.

وأما أبو حنيفة - رضي الله عنه - فإنه لما أسقط البَسْمَلَة قال: قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية، وقوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } آية أخرى.

ودليل الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - أن مقطع قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لا يشابه مقطع الآيات المتقدمّة، ورعاية التَّشابه في المَقَاطع لازم، لأنَّا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين: مُتَقَاربة، ومُتَشَاكلة. فالمتقاربة كَسُورَةِ " ق ".

والمُتشَاكلَة في سورة " القمر " ، وقوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ليس من القسمين، فامتنع جعله من المَقَاطع.

وأيضاً إذا جعلنا قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ابتداء آية، فقد جعلنا أول الآية لفظ " غير " ، وهذا اللفظ إمّا أن يكون صفةً لما قبله، أو استثناء مما قبله، والصّفة مع الموصوف كالشَّيءِ الواحد، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كالشيء الواحد، وإيقاع الفَصْل [بينهما] على خلاف الدليل، أما إذا جعلنا قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إلى آخر السورة آية واحدة [كُنّا قَدْ جعلنا الموصوف مع الصّفة، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً، وآية واحدة]، وذلك أقرب إلى الدّليل.

فَصْلٌ هل البَسْمَلَةُ آية من أوائل السور أم لا؟

وللشافعي قولان:

قال ابن الخطيب: " والمُحَقّقون من أصحابنا اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السّور، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من كل سورة، أو هي مع ما بعدها آية ".

-19-

وقال بعض الحنفية: إنّ الشّافعي خالف الإجماع في هذه المسألة؛ لأن أحداً ممن قبله لم يقل: إن بسم الله آية من أوائل سائر السُّور.

ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخطّ القرآن، فوجب كونه قرآناً، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال في سورة " الملك " إنها ثلاثون آية، وفي سورة " الكوثر " إنها ثلاث آيات، ثم أجمعوا على أنَّ هذا العدد حاصل بدون التسمية، فوجب ألاّ تكون التسمية آية من هذه السّور.

والجَوَاب أنا إذا قلنا: بسم الله الرحمن الرحيم مع ما بعدها آية واحدة، فالإشْكَال زائل.

فإن قالوا: لما اعترفتم بأنها آية تامةٌ من أول الفاتحة، فكيف يمكنكم أن تقولوا: إنها بعض آية من سائر السور؟

قلنا: هذا غير بعيدٍ، ألا ترى أن قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } آية تامة؟ ثم صار مجموع قوله تعالى:


وأيضاً فقوله: سورة " الكوثر " ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات، وأما التسمية فهي كالشّيء المشترك فيه بين جميع السُّور، فسقط هذا السُّؤال، والله أعلم.

فصل في الجهر بالتسمية والإسرار بها

يروى عن أحمد بن حَنْبَل - رضي الله عنه - أن التسمية آية من الفاتحة إلاّ أنه يُسرّ بها في كل ركعة.

وأما الشافعي - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال: ليست آية من الفاتحة ويجهر بها.

وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: ليست آية من الفاتحة، ولا يجهر بها.

والاستقراء دلّ على أن السورة الواحدة، إما أن تكون بتمامها سريةً أو جهريةً، وإما أن يكون بعضها سرياً، وبعضها جهرياً، فهذا مفقودٌ في جميع السور، وإذا ثبت هذا كان الجَهْرُ بالتسمية شروعاً في القراءة الجهرية.

وقالت الشِّيعة: السُّنة هي الجَهْر بالتسمية، سواء كانت الصلاة [جهرية أو سرية].

والذين قالوا: إن التسمية ليست من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المُصْحَف في أول كل سورة، وفيه قولان:

الأول: أن التسمية ليست من القرآن، وهؤلاء فريقان:

منهم من قال: كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّور، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً، فلا حاجة إلى إثبات التسمية، فعلى هذا لو لم تكتب لَجَازَ.

ومنهم من قال: إنه يجب إثباتها في المُصْحف، ولا يجوز تركها أبداً.

والقول الثاني: أنها من لقرآن، وقد أنزلها الله تعالى، ولكنها آية مستقلة بنفسها، وليست بآية من السورة، وهؤلاء أيضاً فريقان:

منهم من قال: إن الله - تعالى - كان ينزلها في أول كل سورة على حِدَةٍ.

-20-

ومنهم من قال: لا، أنزلها مرة واحدة، وأمَرَ بإثباتها في [أول] كل سورة.

والذي يدلّ على أن الله - تعالى - أنزلها، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد " بسم الله الرحمن الرحيم " آية فاصلةً.

وعن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينار: إنّ الفضل الرقاشي يزعم أن " بسم الله الرحمن الرحيم " ليست من القرآن، فقال: سبحان الله ما أَجْرَأَ هذا الرجل! سمعت سعيد بن جُبَيْرٍ يقول: سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا أنزل عليه " بسم الله الرحمن الرحيم " على أن تلك السُّورة ختِمَتْ وفُتِحَ غيرها.

وعن عبد الله بن المُبارك أنه قال: من ترك " بسم الله الرحمن الرحيم " فقد ترك مائةً وثلاث عشرة آيةً.

فَصْلٌ

قال ابن الخطيب - رحمه الله -: نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان ينكر كَوْنَ سورة الفاتحة من القرآن الكريم، وكان ينكر كون المُعَوّذتين من القرآن.

واعلم أن هذا في غاية الصعوبة؛ لأنا إن قلنا: إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بِكَوْنِ سورة الفاتحة من القرآن، فحينئذٍ كان ابن مسعود - رضي الله عنه - عالماً بذلك فإنكاره يوجب الكُفْر أو نقصان العقل.

وإن قلنا: النقل المتواتر ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال: إن نقل القرآن ليس بمتواترٍ في الأصل، وذلك يخرج القرآن عن كونه حُجَّةً يقينية.

والأغلب على الظن أن يقال: هذا المذهب عن ابن مسعود نَقْلٌ كاذِبٌ باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العُقْدَةِ، والله الهادي إلى الصواب، إليه يرجع الأمر كله في الأول والمآب.

-21-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #40  
قديم 01-05-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق 1-11

تفسير الكشف والبيان / الثعلبي (ت 427 هـ) مصنف و مدقق 1-11


{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


{ صِرَاطَ } بدل من الأول { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يعني: طريق الذين أنعمت عليهم بالتوفيق والرعاية، والتوحيد والهداية، وهم الأنبياء والمؤمنون الذين ذكرهم الله تعالى في قوله:


قال ابن عباس: هم قوم موسى وعيسى من قبل أن يغيّروا نعم الله عليهم.

وقال شهر بن حوشب هم أصحاب الرسول صلى الله عليه ورضي عنهم وأهل بيته (عليهم السلام). وقال عكرمة: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ) بالثبات على الإيمان والإستقامة.

وقال علي بن الحسين بن داود: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بالشكر على السرّاء والصبر على الضرّاء. وقال.... بن....: بما قد سنّه محمد صلى الله عليه وسلم وقال الحسين بن الفضل: يعني أتممت عليهم النعمة فكم من منعم عليه.....

وأصل النعمة المبالغة والزيادة، يقال: دققت الدواء فأنعمت دقّه أي بالغت في دقه، ومنه قول العرب النبي صلى الله عليه وسلم " إن أهل الجنة يتراءون الغرفة منها كما يتراءون الكوكب الدرّي الشرقي أو الغربي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما ".

أي زادا عليه. وقال أبو عمرو: بالغاً في الخير.

وقرأ الصادق: (صراط من أنعمت عليهم)، وبه قرأ عمرو بن الزبير وعلي، حرف اللام يجر ما بعده. وفي { عَلَيْهِمْ } سبع قراءات:

الأولى: عليهم ـ بكسر الهاء وجزم الميم ـ وهي قراءة العامّة.

والثانية: عليهم ـ بضم الهاء وجزم الميم ـ وهي قراءة الأعمش وحمزة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعمر (رضي الله عنه).

والثالثة: عليهم ـ بضم الهاء والميم وإلحاق الواو ـ وهي قراءة عيسى بن عمر وابن أبي إسحاق.

والرابعة: عليهمو - بكسر الهاء وضم الميم وإلحاق الواو ـ وهي قراءة ابن كثير والأعرج.

والخامسة: عليهم ـ بكسر الهاء والميم وإلحاق الياء ـ وهي قراءة الحسن.

والسادسة: عليهم ـ بكسر الهاء وضم الميم مضمومة مختلسة ـ وهي رواية عبد الله بن عطاء الخفّاف عن أبي عمرو.

والسابعة: عليهم ـ بكسر الهاء والميم ـ وهي قراءة عمرو بن حامد.

فمن ضمّ الهاء ردّه إلى الأصل لأنه لو أفرد كان مضموماً عند الابتداء به، ومن كسره فلأجل الياء الساكنة. ومن كسر الهاء وجزم الميم فإنه يستثقل الضمّ مع مجاورة الياء الساكنة، والياء أخت الكسرة والخروج من الضم إلى الكسر ثقيل. ومن ضمّ الهاء والميم أتبع فيه الضمّة. ومن كسر الهاء وضمّ الميم فإنه كسر الهاء لأجل الياء وضمّ الميم على الأصل، والاختلاس للاستخفاف، وإلحاق الواو والياء للإتباع والله أعلم. قال الشاعر في الميم المختلسة:

والله لولا شعبة من الكرموسطة في الحي من خال وعم
لكنت فيهم رجلا بلا قدم

-1-

{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ } غير: صفة الذين. والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف إلاّ إن الذين ليس بمعرفة موقتة ولكنّه بمنزلة قولك: إني لأمرُّ بالصادق غير الكاذب، كأنك قلت: من يصدق لا من يكذب. ولا يجوز: مررت بعبد الله غير الظريف.

ومعنى كلامه: غير صراط الذين غضبت { عَلَيْهِم }.

في معنى الغضب

واختلفوا في معنى الغضب من الله عزّ وجلّ، فقال قوم: هو إرادة الانتقام من العصاة. وقيل: هو جنس من العقاب يضادّ والرضا. وقيل: هو ذم العصاة على قبح أفعالهم.

ولا يلحق غضب الله تعالى العصاة من المؤمنين بل يلحق الكافرين.

{ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن الهدى.

وأصل الضلال الهلاك، يقال ضلَّ الماء في اللبن إذا خفي وذهب، و: رجل ضالّ إذا أخطأ الطريق، و: مضلِّل إذا لم يتوجّه لخير، قال الشاعر:

ألم تسأل فتخبرك الديارعن الحي المضلل أين ساروا


قال الزجاج وغيره: وإنما جاز أن يعطف بـ (لا) على غير؛ لأن غير متضمِّن معنى النفي؛ فهو بمعنى لا، مجازه: غير المغضوب عليهم وغير الضالين كما تقول: فلان غير محسن ولا مجمل. فإذا كان (غير) بمعنى سوى لم يجز أن يعطف عليها ب (لا)؛ لأنه لا يجوز في الكلام عندي سوى عبد الله ولا زيد. وروى الخليل بن أحمد عن ابن كثير: { غَيْرَ ٱلْمَغْضُوبِ } نصباً.

وقرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهما ـ: (وغير الضالين)، وقرأ السختياني (ولأ الضالئين) بالهمزة؛ لالتقاء الساكنين، والله أعلم. فأما التفسير:

فأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أحمد بن عبد الله المزني، حدّثنا محمد بن عبد الله بن سليمان، أخبرنا أحمد بن حنبل ومحمد بن دينار قالا: حدّثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن سماك قال: سمعت عباد بن حبيش عن عديّ بن حاتم " عن النبي صلى الله عليه وسلم { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } قال: " اليهود " ، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال: " النصارى ".

وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي، أخبرنا أبو زكريا العنبري، حدّثنا محمد بن عبد الله الوراق، أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن عبد الله بن بديل العقيلي عن عبد الله بن شقيق " أنه أخبره من سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى على فرسه فسأله رجل من القيْن، فقال: يا رسول الله، من هؤلاء الذين يقاتلونك؟ قال: " المغضوب عليهم " ، وأشار إلى اليهود. فقال: من هؤلاء الطائفة الأخرى؟ فقال: " الضالون " ، وأشار إلى النصارى ".

وتصديق هذا الحديث حكم الله تعالى بالغضب على اليهود في قوله:

{ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة5: 60]،

وحكم الضلال على النصارى في قوله:


-2-

{ وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ } [المائدة5: 77].

وقال الواقدي: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } بالمخالفة والعصيان، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن الدين والإيمان.

وقال التستري: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } البدعة، { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } عن السنة.

فصل في آمين

والسنّة المستحبة أن يقول القارئ بعد فراغه من قراءة فاتحة الكتاب: آمين؛ سواء كان في الصلاة أو غير الصلاة؛ لما أخبرنا عبد الله بن حامد الاصفهاني، أخبرنا محمد بن جعفر المطيري، حدّثنا الحسن بن علي بن عفان العامري، حدّثنا أبو داود عن سفيان، وأخبرنا عبد الله قال: وأخبرنا عبدوس بن الحسين، حدّثنا أبو حاتم الرازي، حدّثنا ابن كثير، أخبرنا سفيان عن سلمة عن حجر أبي العنبس الحضرمي عن أبي قايل بن حجر قال: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } ، قال: " آمين " ، ورفع بها صوته ".

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: " " لقّنني جبرائيل عليه السلام آمين عند فراغي من فاتحة الكتاب ".

وقال " إنّه كالخاتم على الكتاب " وفيه لغتان: أمين بقصر الألف، وأنشد:

تباعد منّي فعطل إذ سألتهأمين فزاد الله ما بيننا بعداً


وآمين بمد الألف وأنشد:

يا ربّ لا تسلبني حبّها أبداًويرحم الله عبداً قال آمينا


وهو مبني على الفتح مثل أين.

واختلفوا في تفسيره فأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر، أخبرنا أبو العباس محمد ابن إسحاق بن أيوب، أخبرنا الحسن بن علي بن زياد، حدّثنا عبيد بن يعيش عن محمد ابن الفضل عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: " سألت رسول الله صلى الله عليه وآله عن معنى " آمين " قال: " ربِّ افعل ".

وقال ابن عباس وقتادة: معناه: كذلك يكون.

وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزّان، أخبرنا مكي بن عبدان، حدّثنا عبد الله بن حاتم، حدّثنا عبد الله بن نمير، أخبرنا سفيان عن منصور عن هلال بن يساف قال: آمين اسم من أسماء الله تعالى، و(بذلك) قال مجاهد.

وقال سهل بن عبد الله: معناه: لا يقدر على هذا أحد سواك. وقال محمد بن علي النهدي: معناه لا تخيّب رجانا.

وقال عطية العوفي: آمين كلمة ليست بعربية، إنما هي عبرية أو سريانية ثمّ تكلمت به العرب فصار لغة لها. وقال عبد الرَّحْمن بن زيد: آمين كنز من كنوز العرش لا يعلم تأويله أحد إلاّ الله عزّ وجلّ.

وقال أبو بكر الورّاق: آمين قوة للدعاء واستنزال للرحمة.

وقال الضحّاك بن مزاحم: آمين أربعة أحرف مقتطعة من أسماء الله تعالى، وهو خاتم رب العالمين يختم به براءة أهل الجنة وبراءة أهل النار، وهي الجائزة التي منها يجوزون إلى الجنة والنار.

يدلّ عليه ما أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر، حدّثنا أبو الحسن محمد بن محمود بن عبد الله، حدّثنا محمد بن علي الحافظ، حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حمويه، حدّثنا سعيد بن جبير، حدّثنا المؤمل بن عبد الرَّحْمن بن عياش الثقفي، عن أبي أمية بن يعلى الثقفي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة

-3-

" أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " آمين خاتم رب العالمين على عباده المؤمنين ".

أخبرنا محمد بن عبد الله بن حمدون بن الفضل بقراءتي عليه في صفر سنة ثمان وأربعمائة أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين بن الشرقي، حدّثنا محمد بن يحيى وعبد الرَّحْمن بن بِشْرْ وأحمد بن يوسف قالوا: حدّثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمّر عن همّام بن منبّه قال: حدّثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال أحدكم آمين والملائكة في السماء فوافق إحداهما الأخرى غُفر له ما تقدم من ذنبه ".

وحدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمّد بن جعفر، أخبرنا محمّد أبو الحسن محمد بن الحسن بهراة، حدّثنا رجاء بن عبد الله، حدّثنا مالك بن سليم، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج عن عطاء قال: آمين دعاء [وعنه عن] النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما حسدكم اليهود على شيء، كما حسدوكم على آمين، وتسليم بعضكم على بعض ".

وقال وهب بن منبه: آمين على أربع أحرف، يخلق الله تعالى من كل حرف ملكاً يقول: اللهم اغفر لمن قال: آمين.

فصل في أسماء هذه السورة

هي عشرة، وكثرة الأسماء تدلّ على شرف المسمّى:

الأول: فاتحة الكتاب، سمّيت بذلك لأنه يفتتح بها في المصاحف والتعليم والقراءة في الصلاة، وهي مفتتحة بالآية التي تفتتح بها الامور تيمّناً وتبرّكاً وهي التسمية. وقيل: سمّيت بذلك لأن الحمد فاتحة كل كتاب كما هي فاتحة القرآن. وقال الحسين بن الفضل: لأنها أول سورة نزلت من السماء.

والثاني: سورة الحمد، لأن فيها ذكر الحمد، كما قيل: سورة (الأعراف) و(الأنفال) و(التوبة) ونحوها.

والثالث: أُمّ الكتاب والقرآن؛ سمّيت بذلك لأنها أوّل القرآن والكتب المنزلة، فجميع ما أودعها من العلوم مجموع في هذه السورة؛ فهي أصل لها كالأم للطفل، وقيل: سمّيت بذلك؛ لأنها أفضل سور القرآن كما أن مكة سميت أُم القرى لأنها أشرف البلدان. وقيل: سمّيت بذلك لأنها مقدّمة على سور القرآن، فهي أصل وإمام لما يتلوها من السور، كما أن أُم القرى أصل جميع البلدان دحيت الأرض من تحتها. وقيل: سمّيت بذلك لأنها مجمع العلوم والخيرات، كما أن الدماغ يسمى أُمّ الرأس؛ لأنها مجمع الحواس والمنافع.

وسمعت أبا القاسم الحسن بن محمّد المفسّر يقول: سمعت أبا بكر القفّال يقول: سمعت أبا بكر البريدي يقول: الأُم في كلام العرب: الراية ينصبها العسكر.

-4-

قال قيس بن الخطيم:

نصَبنا أُمّنا حتى ابذعرّواوصاروا بعد إلفتهم شلالا


فسمّيت أُم القرآن؛ لأن مفزع أهل الإيمان إليها كمفزع العسكر إلى الراية. والعرب تسمي الأرض أُمّاً؛ لأنّ معاد الخلق إليها في حياتهم وبعد مماتهم، قال أُمية بن أبي الصلت:

والأرض معقلنا وكانت أُمّنافيها مقابرنا وفيها نولد


وأنشدني أبو القاسم قال: أنشدنا أبو الحسين المظفّر محمد بن غالب الهمداني قال: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدنا أبي قال: أنشدني أحمد بن عبيدة:

نأوي إلى أُمّ لنا تعتصبكما وَلِها أنف عزيز وذنب
وحاجب ما إن نواريها الغصبمن السحاب ترتدي وتنتقب


يعني: نصبه كما وصف لها. وسميت الفاتحة أُمّاً لهذه المعاني. وقال الحسين بن الفضل: سميت بذلك؛ لأنها إمام لجميع القرآن تقرأ في كل [صلاة و] تقدم على كل سورة، كما أن أُمّ القرى إمام لأهل الإسلام. وقال ابن كيسان: سميت بذلك؛ لأنها تامة في الفضل.

والرابع: السبع المثاني، وسيأتي تفسيره في موضعه إن شاء الله.

والخامس: الوافية، حدّثنا أبو القاسم الحسن بن محمد النيسابوري، حدّثنا أبي عن أمّه عن محمد بن نافع السنجري، حدّثنا أبو يزيد محبوب الشامي، حدّثنا عبدالجبار بن العلاء قال: كان يسمي سفيان بن عُيينة فاتحة الكتاب: الوافية، وتفسيرها لأنها لا تنصف ولا تحتمل الاجتزاء إلاّ أن كل سورة من سور القرآن لو قرئ نصفها في ركعة والنصف الآخر في ركعة كان جائزاً، ولو نصفت الفاتحة وقرئت في ركعتين كان غير جائز.

والسادس: الكافية، أخبرنا أبو القاسم السدوسي، أخبرنا أبو جعفر محمد بن مالك المسوري، حدّثنا أبو عبد الله محمد بن عمران قال: حدّثنا سهيل بن (محمّد)، حدّثنا عفيف بن سالم قال: سألت عبد الله بن يحيى بن أبي كثير عن قراءة الفاتحة خلف الإمام فقال: عن الكافية تسأل؟

قلت: وما الكافية؟ قال: أما علمت أنها تكفي عن سواها، ولا يكفي سواها عنها. إياك أن تصلي إلاّ بها.

وتصديق هذا الحديث ما حدّثنا الحسن بن محمد بن جعفر المفسر، حدّثنا عبد الرَّحْمن بن عمر ابن مالك الجوهري بمرو، حدّثنا أبي، حدّثنا أحمد بن يسار، عن محمد بن عباد الاسكندراني عن أشهب بن عبد العزيز، عن ابن عيينة، عن الزهري، عن محمود بن الربيع، عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أمّ القرآن عوض عن غيرها وليس غيرها منها عوضاً ".

والسابع: الأساس، حدّثنا أبو القاسم الحسين بن محمد المذكر، حدّثنا أبو عمرو بن المعبّر محمد بن الفضل القاضي بمرو، حدّثنا أبو هريرة مزاحم بن محمد بن شاردة الكشي، حدّثنا جارود بن معاد، أخبرنا وكيع قال: إن رجلا أتى الشعبي فشكا إليه وجع الخاصرة، فقال: عليك بأساس القرآن. قال: وما أساس القرآن؟ قال: فاتحة الكتاب.

-5-

قال الشعبي: سمعت عبد الله بن عباس غير مرّة يقول: إن لكل شيء أساساً وأساس العمارة مكة؛ لأنها منها دُحيت الأرض وأساس السماوات غريباً، وهي السماء السابعة، وأساس الأرض عجيباً، وهي الأرض السابعة السفلى، وأساس الجنان جنة عدن، وهي سرّة الجنان، وعليها أُسّست الجنان، وأساس النار جهنم، وهي الدركة السابعة السفلى وعليها أُسست الدركات، وأساس الخلق آدم عليه السلام، وأساس الأنبياء نوح عليه السلام، وأساس بني اسرائيل يعقوب، وأساس الكتب القرآن، وأساس القرآن الفاتحة، وأساس الفاتحة { بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }. فإذا اعتللت أو اشتكيت فعليك بالفاتحة تشفى.

والثامن: الشفاء، حدّثنا أبو القاسم بن أبي بكر المكتّب لفظاً، حدّثنا أبو علي حامد بن محمد بن عبد الله الرفّاء، أخبرنا محمد بن أيوب الواقدي، حدّثنا أبو عمرو بن العلاء، حدّثنا سلام الطويل، عن زيد العمي، عن محمد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فاتحة الكتاب شفاء من كل سمّ ".

وأخبرنا محمد بن القاسم الفقيه، حدّثنا أبو الحسين محمّد بن الحسن الصفار الفقيه، حدّثنا أبو العباس السرّاج، حدّثنا قتيبة بن سعيد، حدّثنا معاوية بن صالح، عن أبي سليمان قال: " مرّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواتهم على رجل مقعد متربّع فقرأ بعضهم في أذنه شيئاً من القرآن فبرئ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي أُمّ القرآن، وهي شفاء من كل داء ".

أخبرنا أحمد بن أُبيّ الخوجاني، أخبرنا الهيثم بن كليب الشامي، حدّثنا عيسى بن أحمد العسقلاني، أخبرنا النضر بن شميل، أخبرنا سعيد بن الحجاج، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي عن خارجة بن الصلت التميمي، عن عمّه قال: " جاء عمي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرّوا بحيّ من الأعراب، فقالوا: انّا نراكم قد جئتم من عند هذا الرسول، إنّ عندنا رجلا مجنوناً مخبولا، فهل عندكم من دواء أو رقية؟ فقال عمّي: نعم. فجيىء به، فجعل عمي يقرأ أُمّ القرآن وبزاقه فإذا فرغ منها بزق فجعل ذلك ثلاثة أيام، فكأنّما أهبط من جبال، قال عمي: فأعطوني عليه جعلا، فقلت: لا نأكله حتى نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله، فقال: " كُلهُ، فمن الحلّ تُرقيه بذلك. لقد أكلت بِرُقية حق ".

والتاسع: الصلاة، قد تواترت الأخبار بأن الله تعالى سمّى هذه السورة، وهو ما يعرف انّه لا صلاة إلاّ بها.

أخبرنا عبد الله بن حامد وأحمد بن يوسف بقراءتي عليهما قالا: أخبرنا مكي بن عبد الله، حدّثنا محمد بن يحيى قال: وفيما قرأته على ابن نافع، وحدّثنا مطرف عن مالك بن أنس عن العلاء بن عبد الرَّحْمن أنه سمع أبا السائب مولى هشام بن زهرة يقول: سمعت أبا هريرة يقول:

-6-

" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عزّ وجلّ: قسمت الصلاة ـ يعني هذه السورة ـ بيني وبين عبدي نصفين؛ فنصفها لي ونصفها لعبدي، فإذا قرأ العبد: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } يقول الله: حمدني عبدي. وإذا قال العبد: { الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } يقول الله تعالى: أثنى عليّ عبدي. وإذا قال العبد: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } يقول الله: مجّدني عبدي. وإذا قال العبد: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } قال الله: هذه الآية بيني وبين عبدي، ولعبدي ما سأل. فإذا قال العبد: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إلى آخرها قال: هذه لعبدي ولعبدي ما سأل ".

والعاشر: سورة تعلم المسألة؛ لأن الله تعالى علّم فيه عباده آداب السؤال، فبدأ بالثناء ثم الدعاء، وذلك سبب النجاح والفلاح.

القول في وجوب قراءة هذه السورة في الصلاة.

أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر الطبري، حدّثنا بشر بن مطير، حدّثنا سفيان، حدّثنا العلاء بن عبد الرَّحْمن عن أبيه أنه سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من صلّى صلاة فلم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ـ ثلاث مرات ـ غير تمام ".

وأخبرنا عبد الله قال: أخبرنا ابن عباس، حدّثنا عبد الرَّحْمن بن بشر، حدّثنا ابن عيينة عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا صلاة لمن لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ".

أخبرنا عبد الله، أخبرنا عبدوس بن الحسين، حدّثنا أبو حاتم الرازي، حدّثنا أبو قبيصة، حدّثنا سفيان عن جعفر بن علي بيّاع الأنماط عن أبي هريرة قال: " أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنادي: " لا صلاة إلاّ بقراءة فاتحة الكتاب ".

وأخبرنا عبد الله، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق، أخبرنا أبو المثنى، حدّثنا مسدِّد، حدّثنا عبدالوارث بن حنظلة السدوسي قال: قلت لعكرمة: إنّي ربّما قرأت في المغرب

{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلْفَلَقِ } [الفلق113: 1] و
{ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ ٱلنَّاسِ } [الناس114: 1]

وأنّ الناس يعيبون عليَّ ذلك، فقال: سبحان الله إقرأ بهما فإنّهما من القرآن، ثمّ قال: حدّثنا ابن عبّاس " أنّ النبي صلى الله عليه وسلم خرج فصلّى ركعتين لم يقرأ فيهما إلاّ بفاتحة الكتاب لم يزد على ذلك غيره ".


وأخبرنا أبو القاسم الحبيبي، حدّثنا أبو العبّاس الأصمّ، أخبرنا الربيع بن سليمان، حدّثنا الشافعي، حدّثنا سفيان عن الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب " واحتجّ من أجاز الصلاة بغيرها بقوله:

-7-

{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل73: 20].

وأخبرنا أبو محمّد عبد الله بن حامد بقراءتي عليه أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه أخبرنا أبو المثنّى حدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عمر قال: حدّثنا سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة " أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فدخل رجل وصلّى ثم جاء فسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ " حتى فعل ذلك ثلاث مرات. قال الرجل: والذي بعثك بالحق نبياً ما أحسن غير هذا، فعلِّمني. قال: " إذا قمت إلى الصلاة فكبّر ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن ثم اركع ".

وهذه اللفظة يحتمل أنه أراد أن كل ما وقع عليه اسم قرآن وجهل إنما يراد سورة بعينها، فلمّا احتمل الوجهين نظرنا فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم صلى بفاتحة الكتاب وأمر بها (وشدّد على) من تركها، فصار هذا الخبر مجملا، والأخبار التي رويناها مفسرة، والمجمل يدل على المفسر، وهذا كقوله:

{ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ } [البقرة2: 196]

ثم لم يجز أحد (ترك الهدي) بل ثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفة أن لا يكون أعور ولا أعرج ولا معيوباً، فكذلك أراد بقوله عزّ وجلّ وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فسّر بالصفة التي بينها أن تكون سورة الحمد إذا أحسنها، وقدرها إذا لم يحسنها. فبالعلة التي أوجبوا قراءة آية تامة مع قوله: " ما تيسّر " له وجه ظاهره العلم، والله أعلم.


ذكر وجوب قراءتها على المأموم كوجوبها على الإمام واختلاف الفقهاء فيه:

قال مالك بن أنس: يجب عليه قراءتها إذا خَافَتَ الإمام، فأمّا إذا جهر فليس عليه [شيء]. وبه قال الشافعي في القديم وقال في الجديد: يلزمه القراءة أسرَّ الإمام أو جَهَر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يلزمه القراءة خافت أو جهر.

واتّفق المسلمون على أن صلاته [صحيحة] إذا قرأ خلف الإمام.

والدليل على وجوب القراءة على المأموم كوجوبها على الإمام ما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا مكي بن عبد الله، حدّثنا أبو الأزهر، حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدّثنا أبي عن أبي إسحاق، حدّثنا مكحول، وأخبرنا عبد الله، أخبرنا أحمد بن عبد الرَّحْمن بن سهل، حدّثنا سهل بن عمار، حدّثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود ابن الربيع عن عبادة ابن الصامت قال: " صلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح فثقلت عليه القراءة فلمّا انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته أقبل علينا بوجهه وقال: " إني لأراكم تقرؤون خلفي؟ ". قلنا: أجل والله يا رسول الله هذا. قال: " فلا تفعلوا إلاّ بأُمّ الكتاب فإنّه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ".

-8-

وهو قول عمر وعثمان وعلي وابن عباس وجابر وابن مسعود وعمران بن حصين وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وهشام بن عامر ومعاذ بن جبل وأبي بن كعب وعبد الله بن عمر وأبي الدرداء وعائشة وأبي هريرة وجماعة كبيرة من التابعين وأئمة المسلمين روي عنهم جميعاً أنهم رأوا القراءة خلف الإمام واجبة.

ووجه القول القديم ما روى سفيان عن عاصم بن أبي النجود، عن ذكوان، عن أبي هريرة وعائشة أنهما كانا يأمران بالقراءة وراء الإمام إذا لم يجهر. واحتج أبو حنيفة وأصحابه بما أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إسحاق الفقيه، أخبرنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدّثنا الوليد ابن حمّاد اللؤلؤي: حدّثنا الحسن بن زياد اللؤلؤي: حدّثنا أبو حنيفة عن الحسن عن عبد الله بن شدّاد بن الماد عن جابر بن عبد الله قال: " قال النبي صلى الله عليه وسلم " من صلّى خلف امام فإنّ قراءة الإمام له قراءة ".

وأخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر بن إسحاق، أخبرنا محمد بن أيوب، أخبرنا أحمد بن يونس، حدّثنا الحسن بن صالح، عن جابر الجعفي، عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من كان له إمام فقراءته له قراءة ".

فأمّا حديث عبد الله بن شدّاد فهو مرسل، رواه شعبة وزائدة وابن عينية وأبو عوانة وإسرائيل وقيس وجرير وأبو الأحوص مرسلا، والمرسل لا تقوم به حجّة، والوليد بن حماد والحسن لا يدرى من هما. وأما خبر جابر الجعفي فهو ساقط، قال زائدة: جابر كذاب، وقال أبو حنيفة: ما رأيت أكذب من جابر. وقال ابن عينية: كان جابر لا يوقن بالرجعة.

وقال شعبة: قال لي جابر: دخلت إلى محمد بن علي فسقاني شربة وحفظت عشرين ألف حديث. ولا خلاف بين أهل النقل في سقوط الاحتجاج بحديثه.

وقد روي عن جابر بن عبد الله ما خالف هذه الأخبار، أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا أبو بكر ابن إسحاق، حدّثنا عبد الله بن محمد، حدّثنا محمد بن يحيى، أخبرنا سعد بن عامر، عن شعبة، عن مسعر عن يزيد بن الفقير، عن جابر بن عبد الله، قال: كنا نقرأ في الظهر والعصر خلف الإمام، ومحال أن يروي جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أن قراءة الإمام قراءة المأموم ثم يقرأ خلف الإمام ويأمر به مخالفة للنبي صلى الله عليه وسلم.

واحتجوا أيضاً بما روي عن عاصم بن عبد العزيز عن أبي سهيل عن عوان عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

-9-

" يكفيك قراءة الإمام جَهَرَ أو لم يجهر ".

وهذا الحديث أيضاً لا يثبته أهل المعرفة بالحديث؛ لأنه غير متن الحديث، وإنما الخبر الصحيح فيه عن أبي هريرة ما أخبرنا أبو عمرو الفراتي، أخبرنا الهيثم بن كليب، حدّثنا العباس ابن محمد الدوري، حدّثنا بشر بن كلب، حدّثنا شعبة، عن العلاء بن عبد الرَّحْمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج غير تمام ". قال: فقلت له: إذا كان خلف الإمام؟ قال: فأخذ بذراعي وقال: " يا فارسي ـ أو قال: يا بن الفارسي ـ اقرأ بها في نفسك ".

واحتجوا أيضاً بما روى أبو إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: كانوا يقرؤون خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " خلطتم عليّ القرآن ".

وهذا الخبر فيه نظر، ولو صحّ لكان المنع من القراءة كما رواه النضر بن شميل.

أخبرنا يونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله، " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقوم يقرؤون القرآن ويجهرون به: " خلطتم عليّ القرآن " ، فليس في نهيه عن القراءة خلف الإمام جهراً ما يمنع عن القراءة سرّاً. ونحن لا نجيز الجهر بالقراءة خلف الإمام؛ لما فيه من سوء الأدب والضرر الظاهر. وقد روى يحيى بن عبد، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي حازم، عن البياضي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قام أحدكم يصلّي، فإنه يناجي ربّه، فلينظر بما يناجيه، ولا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن ".

ودليل هذا التأويل حديث عبد الله بن زياد الأشعري قال: صليت إلى جنب عبد الله بن مسعود خلف الإمام فسمعته يقرأ في الظهر والعصر. وكذلك الجواب عن إحتجاجهم بخبر عمران بن الحصين قال: " صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر فلما انصرف قال: أيّكم قرأ (سبح اسم ربك الأعلى)، قال رجل: أنا ولم أرد به إلاّ الخير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قد عرفت أن بعضكم خالجنيها ".

واحتجّوا أيضاً بحديث أبي هريرة: فإذا قرأ فأنصتوا، وليس الانصات بالسكوت فقط إنّما الإنصات أن تحسن استماع الشيء ثم يؤدى كما سمع، يدل عليه قوله تعالى في قصّة الجن:

{ وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ ٱلْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوۤاْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ *قَالُواْ يٰقَوْمَنَآ }
[سورة الأحقاف: 29-30].


وقد يسمى الرجل منصتاً وهو قارىء مسبّح إذا لم يكن جاهراً به، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

-10-

" من أتى الجمعة فأنصت ولم يلغ حتى يصلي الإمام كان له كذا وكذا ".

فسمّاه منصتاً وإن كان مصليّاً ذاكراً، " وقيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم ما تقول أيضاً؟ قال: " أقول اللّهمّ اغسلني من خطاياي " فدلّ أنّ الإنصات وهو ترك الجهر بالقراءة دون المخافتة بها، يدل عليه ما أخبرنا به أبو القاسم الحسين، حدّثنا أبو العباس الأصم، حدّثنا أبو الدرداء هاشم بن محمد، حدّثنا عبيد بن السكن، حدّثنا إسماعيل بن عباس، أخبرنا محمد بن الصباح، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صلّى صلاةً مكتوبة أو سبحة فليقرأ بأُمّ القرآن ".

قال: قلت: يا رسول الله، إني ربما أكون وراء الإمام.

قال صلى الله عليه وسلم " اقرأ إذا سكت إنما جعل الإمام ليؤتمّ به ".

قد رواه الثقات الأثبات عن أبي هريرة مثل الأعرج وهمام بن منبّه وقيس بن أبي حازم وأبي صالح وسعيد المقبري والقاسم بن محمد وأبي سلمة، ولم يذكروا: (وإذا قرأ القرآن فأنصتوا).

وأمّا احتجاجهم بقوله تعالى:

{ وَإِذَا قُرِىءَ ٱلْقُرْآنُ فَٱسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ } [الأعراف7: 204]،

فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.


-11-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
إضافة رد

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:13 PM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.