إيجار ليموزين في مطار القاهرة  آخر رد: الياسمينا    <::>    ليموزين المطار في مصر الرفاهية والراحة في خدمة المسافرين  آخر رد: الياسمينا    <::>    حفل تكريم أوائل الثانوية العامة للعام الدراسي 2023.  آخر رد: الياسمينا    <::>    دورة البادل، كانت فكرة وبالجهد نجحت  آخر رد: الياسمينا    <::>    لاونج بموقع مميز ودخل ممتاز للتقبيل في جدة حي الخالدية  آخر رد: الياسمينا    <::>    تورست لايجار السيارات والليموزين في مصر  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    كود خصم تويو 90% خصم 2024  آخر رد: الياسمينا    <::>    المحامية رباب المعبي تحاضر عن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإر...  آخر رد: الياسمينا    <::>    مساعدة عائلة محاصرة في قطاع غزة يواجهون مخاطر الموت  آخر رد: الياسمينا    <::>   
 
العودة   منتدى المسجد الأقصى المبارك > القرآن الكريم > آيات القرآن الكريم

 
إضافة رد
 
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
 
  #71  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق 71-82 من 82

تفسير روح المعاني/ الالوسي (ت 1270 هـ) مصنف و مدقق 71-82 من 82



وقيل إنه جمع بينهما للتأكيد كما يقال الدار بين زيد وبين عمرو وفيه أن التكرير إنما يكون تأكيداً إذا لم يكن معمولاً لفعل ثان وإياك الثاني في الآية معمول لنستعين مفعول له فكيف يكون تأكيداً، وقيل إنه تعليم لنا في تجديد ذكره تعالى عند كل حاجة، وعندي أن التكرار للإشعار أن حيثية تعلق العبادة به تعالى غير حيثية تعلق طلب الاستعانة منه سبحانه ولو قال: إياك نعبد ونستعين لتوهم أن الحيثية واحدة والشأن ليس كذلك إذ لا بد في طلب الإعانة من توسط صفة ولا كذلك في العبادة فلاختلاف التعلق أعاد المفعول ليشير بها إليه.

البحث السادس: في سر إطلاق الاستعانة فقيل ليتناول كل مستعان فيه فالحذف هنا مثله في قولهم فلان يعطي في الدلالة على العموم ورجح بلزوم الترجيح بلا مرجح في الحمل على البعض وأيضاً قرينة التقييد خفية وبأنه المروي عن ترجمان القرآن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وبأن عموم المفعول متضمن لنفي الحول والقوة عن نفسه والانقطاع بالكلية إليه تعالى عمن سواه فهو أولى بمقام العبادة وإلى ترجيحه يشير صنيع العلامة البيضاوي، وقال صاحب «الكشاف»: الأحسن أن يراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة ويكون قوله تعالى: { ٱهْدِنَا } بياناً للمطلوب من المعونة/ كأنه قيل كيف أعينكم فقالوا اهدنا الصراط المستقيم وإنما كان أحسن لتلاؤم الكلام وأخذ بعضه بحجزة بعض انتهى، ووجه التخصيص حينئذٍ كمال احتياج العبادة إلى طلب الإعانة لكونها على خلاف مقتضى النفس.

{ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لامَّارَةٌ بِٱلسُّوء إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبّى } [يوسف12: 53]

والقرينة مقارنة العبادة ولا خفاء في وضوحها وكون عموم المفعول متضمناً لما ذكر معارض بنكتة التخصيص والرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لعلها لم تثبت كذا قيل، والإنصاف عندي أن الحمل على العموم أولى ليتوافق ألفاظ هذه السورة الكريمة في المعنى المطلوب منها ولأن التوسل بالعبادة إلى تحصيل مرام يستوعب جميع ما يصح أن يستعان فيه ليدخل فيه التوفيق دخولاً أولياً أولى من مجرد التوفيق ويلائمه الصراط المستقيم فإنه أعم من العبادات والاعتقادات والأخلاق والسياسات والمعاملات والمناكحات وغير ذلك من الأمور الدينية والنجاة من شدائد القبر والبرزخ والحشر والصراط والميزان ومن عذاب النار والوصول إلى دار القرار والفوز بالدرجات العلى وكلها مفتقر إلى إعانة الله تعالى وفضله. وأيضاً طرق الضلالات التي يستعاذ منها بغير المغضوب عليهم ولا الضالين لا نهاية لها وباستعانته يتخلص من مهالكها. وأيضاً لا يخفى أن المراد بالعبادة في { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } هي وما يتعلق بها وما تتوقف عليه فإذاً توافق الاستعانة في العموم. وأيضاً قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مطلق شامل كل إنعام، وأيضاً لو كان المراد الاستعانة به وبتوفيقه على أداء العبادة يبقى حكم الاستعانة في غيرها غير معلوم في أم الكتاب ولا أظن أحداً يقول إنه يعلم من هذا التخصيص فلا أختار أنا إلا العموم وقد ثبت في " الصحيح " عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لابن عباس:


-71-

" إذا استعنت فاستعن بالله " الحديث وهو ظاهر فيه ولعل ابن عباس من هنا قال به في الآية إذا قلنا بثبوت ذلك عنه وهو الظن الغالب فمن استعان بغيره في المهمات بل وفي غيرها فقد استسمن ذا ورم ونفخ في غير ضرم أفلا يستعان به وهو الغني الكبير أم كيف يطلب من غيره والكل إليه فقير؟ وإني لأرى أن طلب المحتاج من المحتاج سفه من رأيه وضلة من عقله فكم قد رأينا من أناس طلبوا العزة من غيره فذلوا وراموا الثروة من سواه فافتقروا وحاولوا الارتفاع فاتضعوا فلا مستعان إلا به ولا عون إلا منه:

إليك وإلا لا تشد الركائبومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيعوعنك وإلا فالمحدث كاذب


وقد قرأ عبيد بن عمير الليثي وزيد بن حبيش ويحيـى بن وثاب والنخعي نعبد ـ بكسر النون ـ وهي لغة قيس وتميم وأسد وربيعة وهذيل وكذلك حكم حروف المضارعة في هذا الفعل وما أشبهه كنستعين مما لم ينضم ما بعدها فيه سوى الباء لاستثقال الكسرة عليها على أن بعضهم قال يجل بكسر ياء المضارعة من وجل وقرأ بعضهم يعلمون وقرأ الحسن وابن المتوكل وأبو محلف يعبد بالياء مبنياً للمفعول وهو غريب وعن بعض أهل مكة أنه قرأ نعبد بإسكان الدال وقرأ الجمهور نعبد ـ بفتح النون وضم الدال ـ وهي لغة أهل الحجاز وهي الفصحى.

{ ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } الهداية دلالة بلطف لدلالة اشتقاقه ومادته عليه ولذا أطلق على المشيء برفق تهاد وسميت الهداية لطفاً وقوله تعالى:

{ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرٰطِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات: 23]

وارد على الصحيح مورد التهكم على حد

{ فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [الإنشقاق84: 24]

ويقال هداه لكذا وإلى كذا فتعديه باللام وإلى إذا لم يكن فيه وهداه كذا بدونهما محتمل للحالين حتى لا يجوز في

{ وَٱلَّذِينَ جَـٰهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت29: 69]

لسبلنا أو إلى سبلنا إلا بإرادة الإرادة في جاهدوا أو إرادة تحصيل المراتب العلية في سبلنا ومن ثم جمعها وقد ورد " من عمل بما علم ورثة الله تعالى علم ما لم يعلم " وقد يقال المراد بيان الاستعمال الحقيقي وأما باب التجوز فواسع وهل يعتبر في الدلالة الإيصال أم لا/ فيه اختلاف المتأخرين من أهل اللسان ففريق خصها بالدلالة الموصلة وآخرون بالدلالة على ما يوصل، وقليل قال إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال ولا تسند إلا إليه تعالى كما في الآية وإن تعدت باللام أو إلى كانت بمعنى إراءة الطريق فكما تسند إليه سبحانه تسند إلى القرآن كقوله تعالى:


-72-

{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْءانَ يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ } [الإسراء17: 9]

وإلى النبـي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى:

{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِى إِلَىٰ صِرٰطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الشورى42: 52]

والكل من هذه الآراء غير خال عن خلل، أما الأول فيرد عليه قوله تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَـٰهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } والجواب بجواز وقوعهم في الضلال بالارتداد بعد الوصول إلى الحق لا يساعده ما في التفاسير والتواريخ فإنها ناطقة بأن الجم الغفير من قوم ثمود لم يتصفوا بالإيمان قطعاً ومن آمن من قومه إلا قليل وقد بقوا على إيمانهم ولم يرتدوا على أن صاحب الذوق يدرك من نفس الآية خلاف الفرض كما لا يخفى. وأما الثاني فيرد عليه قوله تعالى لحبيبه صلى الله عليه وسلم:

{ إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ } [القصص28: 56]

وما يقال إنه على حد قوله تعالى:

{ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ رَمَىٰ } [الأنفال8: 17]

أو أن المعنى أنك لا تتمكن من إراءة الطريق لكل من أحببت بل إنما يمكنك إراءته لمن أردنا لا يخلو عن تكلف، وأما الثالث فإن كلام أهل اللغة لا يساعده بل ينادي بما ينافيه ومع ذلك فالقول بأن المتعدية لا تسند إلا إلى الله تعالى منتقض بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:

{ يٰأَبَتِ إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِى أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } [مريم19: 43]

وعن مؤمن آل فرعون

{ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُونِ أَهْدِكُـمْ سَبِيـلَ ٱلرَّشَـادِ } [غافر40: 38]

ولهذا الخلل قال طائفة بالاشتراك والبحث لغوي لا دخل للاعتزال فيه وسيأتي إن شاء الله تعالى تتمته.


{ وٱلصّرَاطَ } الطريق وأصله بالسين من السرط وهو اللقم ولذلك يسمى لقماً كأن سالكه يبتلعه أو يبتلع سالكه ففي الأزهري أكلته المفازة إذا نهكته لسيره فيها وأكل المفازة إذا قطعها بسهولة قال أبو تمام:

رعته الفيافي بعد ما كان حقبةرعاها وماء المزن ينهل ساكبه


وبالسين على الأصل قرأ ابن كثير برواية قنبل ورويس اللؤلؤي عن يعقوب وقرأ الجمهور بالصاد وهي لغة قريش وقرأ حمزة باشمام الصاد زاياً والزاي الخالصة لغة لعذرة وكعب والصاد عندي أفصح وأوسع وأهل الحجاز يؤنثون الصراط كالطريق والسبيل والزقاق والسوق وبنو تميم يذكرون هذا كله وتذكيره هو الأكثر ويجمع في الكثرة على صرط ككتاب وكتب وفي القلة قياسه أصرطة هذا إذا كان الصراط مذكراً وأما إذا أنث فقياسه أفعل نحو ذراع وأذرع.

و { ٱلْمُسْتَقِيمَ } المستوى الذي لا اعوجاج فيه واختلف في المراد منه فقيل الطريق الحق. وقيل ملة الإسلام. وقيل القرآن وردهما الرازي قدس سره بأن قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلِيم } يدل على الصراط المستقيم وهم المتقدمون من الأمم وما كان لهم القرآن والإسلام وفيه ما لا يخفى والعجب كل العجب من هذا المولى أنه ذكر في أحد الوجوه المرضية عنده أن الصراط المستقيم هو الوسط بين طرفي الإفراط والتفريط في كل الأخلاق وفي كل الأعمال وأكد ذلك بقوله تعالى:

-73-

{ وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَـٰكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } [البقرة2: 143]

فياليت شعري ماذا يقول لو قيل له لم يكن هذا للمتقديمن من الأمم وتلونا عليه الآية التي ذكرها وسبحان من لا يرد عليه وقيل المراد به معرفة ما في كل شيء من كيفية دلالته على الذات والصفات وقيل المراد منه صراط الأولين في تحمل المشاق العظيمة لأجل مرضاة الله تعالى وقيل العبادة لقوله تعالى:

{ وَأَنِ ٱعْبُدُونِى هَـٰذَا صِرٰطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [يس36: 61]

والقرآن يفسر بعضه بعضاً وفيه نظر، وقيل هو الإعراض عن السوي والإقبال بالكلية على المولى وقال الشيخ الأكبر قدس سره: هو ثبوت التوحيد في الجمع والتفرقة ولهم أقوال غير ذلك قريبة وبعيدة، وعندي بعد الاطلاع على ما للعلماء و

{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم30: 32]

أن الصراط المستقيم بتنوع إلى عام للناس وخاص بخواصهم والكل منهما صراط المنعم عليهم على اختلاف درجاتهم فالأول جسر بين العبد وبين الله/ سبحانه ممدود على متن جهنم الكفر والفسق والجهل والبدع والأهواء وهو الاستقامة على ما ورد به الشرع الشريف القويم علماً وعملاً وخلقاً وحالاً وهو الذي يظهر في الآخرة على متن جهنم الجزاء ممثلاً مصوراً بالتمثيل الرباني والتصوير الإلهي على حسب ما عليه العبد اليوم " فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد دون ذلك فلا يلومن إلا نفسه " وللتذكير بذلك الصراط لم يقل السبيل ولا الطريق وإن كان الكل واحداً، الثاني طريق الوصول إلى الله تعالى ومن شهد الخلق لا فعل لهم فقد فاز ومن شهدهم لا حياة لهم فقد جاز ومن شهدهم عين العدم فقد وصل وتم سفره إلى الله تعالى ثم يتجدد له السفر فيه سبحانه وهو غير متناه لأن نعوت جماله وجلاله غير متناهية ولا يزال العبد يرقى من بعضها إلى بعض كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم: " إنه ليغان على قلبـي فأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة " وهناك يكون عز شأنه يده وسمعه وبصره فبه يبطش وبه يسمع وبه يبصر ووراء ذلك ما يحرم كشفه فمتى قال العامي اهدنا الصراط المستقيم أراد أرشدنا إلى الاستقامة على امتثال أوامرك واجتناب نواهيك ومتى قال ذلك أحد الخواص أراد ثبتنا على ما منحتنا به وهو المروي عن يعسوب المؤمنين كرم الله تعالى وجهه وأبـيّ رضي الله تعالى عنه وذلك لأن طالب هداية الطريق المستقيم ليسلكه له في سلوكه مقامات وأحوال ولكل منها بداية ونهاية ولا يصل إلى النهاية ما لم يصحح البداية ولا ينتقل إلى مقام أو حال إلا بعد الرسوخ فيما تحته والثبات عليه فما دام هو في أثناء المقام أو الحال ولم يصل إلى نهاية يطلب الثبات على ما منح به ليرسخ له ذلك المقام ويصير ملكه فيرقى منه إلى ما فوقه وذلك هو الفضل الكبير والفوز العظيم.


-74-

وللمحققين في معنى اهدنا وجوه دفعوا بها ما يوشك أن يسأل عنه من أن المؤمن مهتد فالدعاء طلب لتحصيل الحاصل. أحدها أن معناه ثبتنا على الدين كيلا تزلزلنا الشبه وفي القرآن

{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } [آل عمران3: 8]

وفي الحديث: " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " وثانيها: أعطنا زيادة الهدى كما قال تعالى:

{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد47: 17]

وثالثها: أن الهداية الثواب كقوله تعالى:

{ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } [يونس10: 9]

فالمعنى اهدنا طريق الجنة ثواباً لنا وأيد بقوله تعالى:

{ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِى هَدَانَا لِهَـٰذَا } [الأعراف7: 43]

ورابعها: أن المراد دلنا على الحق في مستقبل عمرنا كما دللتنا عليه في ماضيه ولهم بعد أيضاً كلمات متقاربة غير هذا ولعله يغنيك عن الكامل ما ذكره الفقير فتدبره ولا تغفل.


بقي الكلام في ربط هذه الجملة بما قبلها وقد قيل إن عندنا احتمالات أربعة لأن طلب المعونة إما في المهمات كلها أو في أداء العبادة والصراط المستقيم إما أن يؤخذ بمعنى خاص كملة الإسلام أو بمعنى عام كطريق الحق خلاف الباطل فعلى تقديري عموم الاستعانة والصراط وخصوصهما يكون اهدنا بياناً للمعونة المطلوبة كأنه قال كيف أعينكم في المهمات أو في العبادة فقالوا اهدنا طريق الحق في كل شيء أو ملة الإسلام فيكون الفصل لشبه كمال الاتصال وعلى تقدير عموم الاستعانة وخصوص الصراط يكون اهدنا إفراداً للمقصود الأعظم من جميع المهمات فيكون الفصل حينئذٍ لكمال الاتصال، وأما على تقدير خصوص الاستعانة وعموم الصراط فلا ارتباط، وما عندي غير خفي عليك إن أحطت خبراً بما قدمناه لديك. وقد قرأ الحسن والضحاك وزيد بن علي (صراطاً مستقيماً) دون تعريف وقرأ جعفر الصادق (صراط المستقيم) بالإضافة والمتواتر ما تلوناه.

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من { ٱلصِّرَاطَ } الأول بدل الكل من الكل وهو الذي يسميه ابن مالك البدل الموافق أو المطابق تحاشياً من إطلاق الكل على الله تعالى في مثل

{ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ *ٱللَّهِ } [إبراهيم14: 1-2].

وفائدة الإبدال تأكيد النسبة بناءً على أن البدل في حكم تكرير العامل والإشعار بأن الصراط المستقيم بيانه وتفسيره صراط المسلمين فيكون ذلك شهادة لاستقامة صراطهم على أبلغ وجه وآكده، وقيل صفة له. ومن غريب المنقول أن الصراط الثاني غير الأول وكأنه نوى فيه حرف/ العطف وفي تعيين ذلك اختلاف، فعن جعفر بن محمد هو العلم بالله والفهم عنه وقيل موافقة الباطن للظاهر في إسباغ النعمة وقيل التزام الفرائض والسنن ولا يخفى أن هذا القول خروج عن الصراط المستقيم فلا نتعب جواد القلم فيه.


-75-

وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي { صراط من أنعمت عليهم } وهو المروي عن عمر وأهل البيت رضي الله تعالى عنهم. قال الشهاب: وفيه دليل على جواز إطلاق الأسماء المبهمة { كَمَنْ } على الله تعالى انتهى. وهو خبط ظاهر إذ الإضافة إلى المفعول لا الفاعل.

والإنعام إيصال الإحسان إلى الغير من العقلاء كما قاله الراغب فلا يقال أنعم على فرسه ولذا قيل إن النعمة نفع الإنسان من دونه لغير عوض، واختلف في هؤلاء المنعم عليهم فقيل المؤمنون مطلقاً وقيل الأنبياء وقيل أصحاب موسى وعيسى عليهما السلام قبل التحريف والنسخ. وقيل أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل محمد صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما. وقيل الأولى ما أخرجه ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المراد بالذين أنعمت عليهم الأنبياء والملائكة والشهداء والصديقون ومن أطاع الله تعالى وعبده وإليه يشير قوله تعالى:

{ فأُولَـئِكَ مع ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّيْنَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً } [النساء4: 69]

فما في هاتيك الأقوال اقتصار على بعض الأفراد. ولم يقيد الأنعام ليعم

{ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا } [إبراهيم14: 34]

وقيل أنعم عليهم بخلقهم للسعادة. وقيل بأن نجاهم من الهلكة. وقيل بالهداية وفي بناء أنعمت للفاعل استعطاف فكأن الداعي يقول أطلب منك الهداية إذ سبق إنعامك فاجعل من إنعامك إجابة دعائنا وإعطاء سؤالنا وسبحانه ما أكرمه كيف يعلمنا الطلب ليجود على كل بما طلب:

لو لم ترد نيل ما نرجو ونطلبهمن فيض جودك ما علمتنا الطلبا


وحكى اللغويون في { عَلَيْهِمْ } عشر لغات ضم الهاء وإسكان الميم وهي قراءة حمزة، وكسرها وإسكان الميم وهي قراءة الجمهور، وكسر الهاء والميم وياء بعدها وهي قراءة الحسن، قيل وعمر بن خالد وكذلك بغير ياء وهي قراءة عمر بن فائد، وكسر الهاء وضم الميم بواو بعدها - وهي قراءة ابن كثير وقالون - بخلاف عنه وضم الهاء والميم وواو بعدها - وهي قراءة الأعرج ومسلم بن جندب وجماعة - وضمهما بغير واو ونسبت لابن هرمز وكسر الهاء وضم الميم بغير واو ونسبت للأعرج والخفاف عن أبـي عمرو وضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها وكذلك بغير ياء وقرىء بهما أيضاً. وحاصلها ضم الهاء مع سكون الميم أو ضمها بإشباع أو دونه أو كسرها بإشباع أو دونه وكسر الهاء مع سكون الميم أو كسرها بإشباع أو دونه أو ضمها بإشباع أو دونه. وحجج كل في " كتب العربية ".

{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّالّينَ } بدل من { ٱلَّذِينَ } بدل كل من كل. وقيل من ضمير { عَلَيْهِمْ } ولا يخلو من الركاكة بحسب المعنى وأما أنه يلزم عليه خلو الصلة عن الضمير فلا لأن المبدل منه ليس في نية الطرح حقيقة والقول بأن { غَيْرِ } في الأصل صفة بمعنى مغاير والبدل بالوصف ضعيف ضعيف لأنها غلبت عليها الإسمية ولذا لم تجر على موصوف في الأكثر.

-76-

وعن سيبويه أنها صفة { ٱلَّذِينَ } مبينة أو مقيدة ولا يرد أن { غَيْرِ } من الأسماء المتوغلة في الإبهام فلا تتعرف بالإضافة فلا توصف بها المعرفة بل ولا تبدل منها على المشهور لأنا نقول الموصوف هنا معنى كالنكرة فيصح أن يوصف بها وذلك لأن الموصول بعد اعتبار تعريفه بالصلة يكون كالمعرف باللام في استعمالاته فإذا استعمل في بعض ما اتصف بالصلة كان كالمعرف باللام للعهد الذهني فكما أن المعرف المذكور لكون التعريف فيه للجنس يكون معرفة بالنظر إلى مدلوله وفي حكم النكرة بالنظر إلى قرينة البعضية المبهمة ولذا يعامل به معاملتهما/ كذلك الموصول المذكور بالنظر إلى التعيين الجنسي المستفاد من مفهوم الصلة معرفة وبالنظر إلى البعضية المستفادة من خارج كالنكرة فيعامل به معاملتهما أيضاً فالذين أنعمت عليهم إذا لم يقصد به معهود كذلك إذ لا صحة لإرادة جنس المنعم عليهم من حيث هو إذ لا صراط له ولا غرض يتعلق بطلب صراط من أنعم عليهم على سبيل الاستغراق سواء أريد استغراق الأفراد والجماعات أو المجموع من حيث المجموع فالمطلوب صراط جماعة ممن أنعم عليهم بالنعم الأخروية أعني طائفة من المؤمنين لا بأعيانها فإن نظر إلى البعضية المبهمة المستفادة من إضافة الصراط إليهم كان كالنكرة وإن نظر إلى مفهومه الجنسي أعني المنعم عليهم كان معرفة قاله العلامة السيالكوتي وغيره ولا يخلو عن دغدغة أو يقال وهو المعول عليه عند من يعول عليه أن { غَيْرِ } هنا معرفة لأن المحققين من علماء العربية قالوا إنها قد تتعرف بالإضافة وذلك إذا وقعت بين متضادين معرفتين نحو عليك بالحركة غير السكون، وقال ابن السري وغيره: إذا أضيفت { غَيْرِ } إلى معرف له ضد واحد فقط تعرفت لانحصار الغيرية وهنا المنعم عليهم ضد لما بعده ولا يرد على هذا قوله تعالى:

{ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَـٰلِحاً غَيْرَ ٱلَّذِى كُـنَّا نَعْمَلُ } [فاطر35: 37]

لجواز أن يكون { صَـٰلِحاً } حالاً قدمت على صاحبها وهو { غير الذي } أو { غير الذي } بدلاً من { صالحاً } ولو قيل ضد الصالح الطالح والذي كانوا يعملون فرد من أفراده فليس بضد لم يبعد، وقرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه { غَيْرِ } بالنصب وروي ذلك شاذاً عن ابن كثير وهو حال من ضمير { عَلَيْهِمْ } والعامل فيه { أَنْعَمْتَ } ويضعف أن يكون حالاً من { ٱلَّذِينَ } لأنه مضاف إليه والصراط لا يصح بنفسه أن يعمل في الحال وقيل يجوز والعامل فيه معنى الإضافة، وجوز الأخفش أن يكون النصب على الاستثناء المنقطع أو المتصل إن فسر الإنعام بما يعم ومنعه الفراء لأنه حينئذٍ بمعنى سوى فلا يجوز أن يعطف عليه (بلا) لأنها نفي وجحد ولا يعطف الجحد إلا على مثله، وأجيب بزيادة لا مثلها في قوله تعالى:

-77-

{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف7: 12]

وفي قول الأخوص:

ويلحينني في اللهو أن لا أحبهوللهو داع دائب غير غافل


واعترض بأنه لم تسمع زيادتها بعد واو العطف والكلام فيه، وحكى بعضهم عن الأخفش أن الاستثناء في معنى النفي فيجوز العطف عليه (بلا) حملاً على المعنى فحينئذٍ لا يرد ما ورد، وعند الخليل النصب بفعل محذوف أعني أعني وبه أقول لأن الاستثناء كما ترى والحالية تقتضي التنكير ولا يتحقق إلا بعدم تحقق التضاد أو يجعل { غَيْرِ } بمعنى مغاير لتكون إضافته لفظية وكلاهما غير مرضي لما علمت وقال بعضهم في الآية حذف والتقدير غير صراط المغضوب عليهم وهو ممكن على هذه القراءة فيكون { غَيْرِ } حينئذٍ إما صفة لقوله الصراط وهو ضعيف لتقدم البدل على الوصف إذا قلنا به والأصل العكس أو بدل أو صفة للبدل أو بدل منه أو حال من أحد الصراطين والصراط السوي عدم التقدير.

والغضب أصله الشدة ومنه الغضبة الصخرة الصلبة الشديدة المركبة في الجبل والغضوب الحية الخبيثة والناقة العبوس وفسر تارة بحركة للنفس مبدؤها إرادة الانتقام كما في «شرح المفتاح» للسعد وتارة بإرادة الانتقام كما في «شرح الكشاف» له وأخرى بكيفية تعرض للنفس فيتبعها حركة الروح إلى خارج طلباً للانتقام كما في «شرح المقاصد». ويقرب منه ما قيل تغير يحدث عند غليان دم القلب، وفي الحديث: " اتقوا الغضب فإنه جمرة تتوقد في قلب ابن آدم ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمرة عينيه " وفي «الكشاف» معنى غضب الله تعالى إرادة الانتقام من العصاة وإنزال العقوبة بهم وأن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده وأنا أقول كما قال سلف الأمة هو صفة لله تعالى لائقة بجلال ذاته لا أعلم حقيقتها ولا كيف هي والعجز عن درك الإدراك إدراك والكلام فيه كالكلام في الرحمة حذو القذة بالقذة فهما صفتان قديمتان له سبحانه وتعالى.

/ وحديث " سبقت رحمتي غضبـي " محمول على الزيادة في الآثار أو تقدم ظهورها.

وأصل الضلال الهلاك ومنه قوله تعالى:

{ أَءذَا ضَلَلْنَا فِى ٱلأَرْضِ } [السجده32: 10] أي هلكنا وقوله تعالى:
{ وَأَضَلَّ أَعْمَـٰلَهُمْ } [محمد47: 8]

أي أهلكها والضلال في الدين الذهاب عن الحق، وقرأ أبو أيوب السختياني { وَلاَ ٱلضَّالّينَ } بإبدال الألف همزة فراراً من التقاء الساكنين مع أنه في مثله جائز. وحكى أبو زيد دأبة وشأبة وعلى هذه اللغة قراءة عمرو بن عبيد:

{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْـئَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ } [الرحمن55: 39]

قوله:

والأرض أما سودها فتجللتبياضاً وأما بيضها فادهأمت


-78-

وهل يقاس عليه أم لا؟ قولان وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعبد الله بن الزبير أنهما كانا يقرآن (وغير الضالين) والمتواتر لا كما في الإمام وهو سيف خطيب أتى بها لتأكيد ما في { غَيْرِ } من معنى النفي والكوفيون يجعلونها هنا بمعناها والمراد بالمغضوب عليهم اليهود وبالضالين النصارى وقد روى ذلك أحمد في «مسنده» وحسنه ابن حبان في «صحيحه» مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخرجه ابن جرير عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، وقال ابن أبـي حاتم: لا أعلم فيه خلافاً للمفسرين فمن زعم أن الحمل على ذلك ضعيف لأن منكري الصانع والمشركين أخبث ديناً من اليهود والنصارى فكان الاحتراز منهم أولى بل الأولى أن يحمل المغضوب عليهم على كل من أخطأ في الأعمال الظاهرة وهم الفساق ويحمل الضالون على كل من أخطأ في الاعتقاد لأن اللفظ عام والتقييد خلاف الأصل فقد ضل ضلالاً بعيداً إن كان قد بلغه ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلا فقد تجاسر على تفسير كتاب الله تعالى مع الجهل بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاله في منكري الصانع لا يعتد به لأن من لا دين له لا يعتد بذكره، والعجب من الإمام الرازي أنه نقل هذا ولم يتعقبه بشيء سوى أنه زاد في الشطرنج بغلاً فقال ويحتمل أن يقال المغضوب عليهم هم الكفار والضالون هم المنافقون وعلله بما في أول البقرة من ذكر المؤمنين ثم الكفار ثم المنافقين فقاس ما هنا على ما هناك وهل بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم الصادق الأمين قول لقائل أو قياس لقائس هيهات هيات دون ذلك أهوال.

واستدل بعضهم على أن المغضوب عليهم هم اليهود بقوله تعالى:

{ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ } [المائدة5: 60]

وعلى أن الضالين النصارى بقوله تعالى:

{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ } [المائد5ة: 77]

والأولى الاستدلال بالحديث لأن الغضب والضلال وردا جميعاً في القرآن لجميع الكفار على العموم فقد قال تعالى:

{ وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مّنَ ٱللَّهِ } [النحل16: 106]

وقال تعالى:

{ إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلَـٰلاَ بَعِيداً } [النساء4: 167]

ووردا لليهود والنصارى جميعاً على الخصوص كما ذكره المستدل وإنما قدم سبحانه المغضوب عليهم على الضالين ـ مع أن الضلال في بادىء النظر سبب للغضب إذ يقال ضل فغضب عليه ـ لتقدم زمان المغضوب عليهم وهم اليهود على زمان الضالين وهم النصارى أو لأن الإنعام يقابل بالانتقام ولا يقابل بالضلال فبينهما تقابل معنوي بناءً على أن الأول إيصال الخير إلى المنعم عليه والثاني إيصال الشر إلى المغضوب عليه أو لأن اليهود أشد في الكفر والعناد وأعظم في الخبث والفساد و أشد عداوة للذين آمنوا ولذا ضربت عليهم الذلة والمسكنة.


-79-

وورد في الحديث: " من لم يكن عنده صدقة فليلعن اليهود " رواه السلفي والديلمي وابن عدي، والنصارى دون ذلك وأقرب للإسلام منهم ولذا وصفوا بالضلال لأن الضال قد يهتدي، ومما يدل على أن اليهود أسوأ حالاً من النصارى أنهم كفروا بنبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعيسى عليه السلام والنصارى كفروا بنبـي واحد وهو نبينا صلى الله عليه وسلم وفضائحهم وفظائعهم أكثر مما عند النصارى كما ستقرؤه وتراه إن شاء الله تعالى، وقول النصارى/ بالتثليث ليس أفظع من قول اليهود

{ إِنَّ ٱللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء } [آل عمران3: 181] وقولهم:
{ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } [المائدة5: 64] وقولهم:
{ عُزَيْرٌ ٱبْنُ ٱللَّهِ } [التوبة9: 30]

فمن زعم أن النصارى أسوأ حالاً متوكئاً على ما في " دلائل الأسرار " لم يعرف أسرار الدلائل وهي بعد العيوق عنه وليست المسألة من الفروع ليكتفي مثلنا فيها بالتقليد المحض لا سيما وفضل الله تعالى ليس بمقصور على البعض. وقال بعضهم: تأخير الضالين لموافقة رؤوس الآي ولا بأس بضمه إلى تلك الوجوه وإلا فالاقتصار عليه من ضيق العطن وإنما أسند النعمة إليه تعالى تقرباً والمقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله تعالى عليه وتحقق، ولذلك أتى بالفعل ماضياً وانحرف عن ذلك عند ذكر الغضب إلى الغيبة تأدباً ولأن من طلب منه الهداية ونسب الإنعام إليه لا يناسب نسبة الغضب إليه لأنه مقام تلطف وترفق وتذلل لطلب الإحسان فلا يناسب مواجهته بوصف الانتقام.


وقد عد ابن الأثير في «كنز البلاغة» والتنوخي في «الأقصى القريب» بناء الفعل للمفعول بعد خطاب فاعله نوعاً غريباً من الالتفات فإن كان الالتفات كما في استعمال الأدباء والمتقدمين بمعنى الافتنان فلا غبار عليه وإن كان بالمعنى المتعارف فلك أن تقول على رأي السكاكي الذي لا يشترط تعدد التعبير بل مخالفة مقتضى الظاهر أن المخاطب إذا ترك خطابه وبنى ما أسند إليه للمفعول والمحذوف كالغائب فلا مانع من أن يسمى التفاتاً فكما يجري في الانتقال من مقدر إلى محقق يجري في عكسه وهو معنى بديع كما قاله الشهاب.

ويسن بعد الختام أن يقول القارىء: آمين فقد روى ابن أبـي شيبة في «مصنفه» والبيهقي في «الدلائل» عن أبـي ميسرة: «أن جبريل أقرأ النبـي صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب فلما قال { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } قال له قل آمين فقال آمين» ويقولها المأموم لقراءة إمامه فقد أخرج مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه وابن أبـي شيبة عن أبـي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إذا قرأ ـ يعني الإمام ـ { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } فقولوا آمين يحبكم الله "

-80-

وإخفاؤها مذهب ساداتنا الحنفية وهو مذهب أمير المؤمنين علي كرم الله تعالى وجهه وعبد الله بن مسعود، وعند الشافعية يجهر بها. وعن الحسن لا يقولها الإمام لأنه الداعي. وعن أبـي حنيفة في رواية غير مشهورة مثله والمشهور أنه يخفيها، وروى الإخفاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مغفل وأنس رضي الله تعالى عنهما كما في «الكشاف» ورواية الجمهور محمولة على التعليم والبحث فقهي، وهذا القدر يكفي فيه.

وليست من القرآن إجماعاً ولذا سن الفصل بينها وبين السورة بسكتة لطيفة وما قيل إنها من السورة عند مجاهد فمما لا ينبغي أن يلتفت إليه إذ هو في غاية البطلان إذ لم يكتب في الإمام ولا في غيره من المصاحف أصلاً حتى ذكر غير واحد أن من قال: إن آمين من القرآن كفر، وهي اسم فعل مبني على الفتح كأين لالتقاء الساكنين والبحث عن أسماء الأفعال مفروغ عنه في «كتب النحو» والصحيح أنها كلمة عربية ومعناها استجب وقيل موضوعة لما هو أعم منه ومن مرادفه ومن الغريب ما قيل إنه عجمي معرب همين لما أن فاعيل كقابيل ليس من أوزان العرب وردّ بأنه يكون وزناً لا نظير له وله نظائر ولذا قيل إنه في الأصل مقصور ووزنه فعيل فأشبع، ومن العجيب ما قيل إنه اسم الله تعالى والقول في توجيهه أنه لما كان مشتملاً على الضمير المستتر الراجع إليه تعالى قيل إنه من أسمائه أعجب منه وقد تمد ألفه وتقصر وإلى أصالة كل ذهب طائفة، وأما تشديد ميمه فذكر الواحدي أنه لغة فيه، وقيل إنه جمع آم بمعنى قاصد منصوب باجعلنا ونحوه مقدراً، وقيل إنه خطأ ولحن وحيث إنه ليس من القرآن بل دعاء ومعناه صحيح قال بعضهم: لا تفسد به الصلاة وإن كان لحناً.

وفضل هذه السورة مما لا يخفى ويكفي في فضلها ما روي بأسانيد صحيحة عن أبـي هريرة رضي الله تعالى عنه: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أبـي بن كعب فقال: يا أبـيّ وهو يصلي فالتفت أبـيّ فلم يجبه فصلى أبـيّ فخفف ثم انصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ فقال: يا رسول الله إني كنت في الصلاة قال: أفلم تجد فيما أوحى الله إليّ { ٱسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ }؟ قال: بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى قال تحب أن أعلمك سورة لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها؟ قال: نعم يا رسول الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تقرأ في الصلاة فقرأ بأم القرآن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده ما نزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها وإنها للسبع من المثاني ـ أو قال السبع المثاني ـ والقرآن العظيم الذي أعطيته "

-81-

والأحاديث في ذلك كثيرة ولا بدع فهي أم الكتاب والحاوية من دقائق الأسرار العجب العجاب حتى إن بعض الربانيين استخرج منها الحوادث الكونية وأسماء الملوك الإسلامية وشرح أحوالهم وبيان مآلهم، وبالجملة هي كنز العرفان بل اللوح المحفوظ لما يلوح في عالم الإمكان. نسأل الله تعالى أن يمن علينا بإشراق أنوارها والاطلاع على مخزونات أسرارها إنه ولي التوفيق والهادي إلى معالم التحقيق.


-82-


__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #72  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير في ظلال القرآن/ سيد قطب (ت 1387 هـ) مصنف و مدقق 1-7

تفسير في ظلال القرآن/ سيد قطب (ت 1387 هـ) مصنف و مدقق 1-7





يردد المسلم هذه السورة القصيرة ذات الآيات السبع، سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة على الحد الأدنى؛ وأكثر من ضعف ذلك إذا هو صلى السنن؛ وإلى غير حد إذا هو رغب في أن يقف بين يدي ربه متنفلاً، غير الفرائض والسنن. ولا تقوم صلاة بغير هذه السورة لما ورد في الصحيحين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حديث عبادة بن الصامت: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ".

إن في هذه السورة من كليات العقيدة الإسلامية، وكليات التصور الإسلامي، وكليات المشاعر والتوجيهات، ما يشير إلى طرف من حكمة اختيارها للتكرار في كل ركعة، وحكمة بطلان كل صلاة لا تذكر فيها..

تبدأ السورة: { بسم الله الرحمن الرحيم }.. ومع الخلاف حول البسملة: أهي آية من كل سورة أم هي آية من القرآن تفتتح بها عند القراءة كل سورة، فإن الأرجح أنها آية من سورة الفاتحة، وبها تحتسب آياتها سبعاً. وهناك قول بأن المقصود بقوله تعالى:

{ ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم } (الحجر15: 87)

هو سورة الفاتحة بوصفها سبع آيات { من المثاني } لأنها يثنى بها وتكرر في الصلاة.

والبدء باسم الله هو الأدب الذي أوحى الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - في أول ما نزل من القرآن باتفاق، وهو قوله تعالى:

{ اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } (القلم96: 1)

وهو الذي يتفق مع قاعدة التصور الإسلامي الكبرى من أن الله

{ هُوَ الأَوَّلُ وَالأَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ } (الحديد57: 3)

فهو - سبحانه - الموجود الحق الذي يستمد منه كلُّ موجود وجودَه، ويبدأ منه كل مبدوء بدأه. فباسمه إذن يكون كل ابتداء. وباسمه إذن تكون كل حركة وكل اتجاه.

ووصفه - سبحانه - في البدء بالرحمن الرحيم، يستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها.. وهو المختص وحده باجتماع هاتين الصفتين، كما أنه المختص وحده بصفة الرحمن. فمن الجائز أن يوصف عبد من عباده بأنه رحيم؛ ولكن من الممتنع من الناحية الإيمانية أن يوصف عبد من عباده بأنه رحمن. ومن باب أولى أن تجتمع له الصفتان.. ومهما يختلف في معنى الصفتين: أيتهما تدل على مدى أوسع من الرحمة، فهذا الاختلاف ليس مما يعنينا تقصيه في هذه الظلال؛ إنما نخلص منه إلى استغراق هاتين الصفتين مجتمعتين لكل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها.

وإذا كان البدء باسم الله وما ينطوي عليه من توحيد الله وأدب معه يمثل الكلية الأولى في التصور الإسلامي.. فإن استغراق معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها في صفتي { الرحمن الرحيم } يمثل الكلية الثانية في هذا التصور، ويقرر حقيقة العلاقة بين الله والعباد.

وعقب البدء باسم الله الرحمن الرحيم يجيء التوجه إلى الله بالحمد ووصفه بالربوبية المطلقة للعالمين: { الحمد لله رب العالمين }

والحمد لله هو الشعور الذي يفيض به قلب المؤمن بمجرد ذكره لله.

-1-

فإن وجوده ابتداء ليس إلا فيضاً من فيوضات النعمة الإلهية التي تستجيش الحمد والثناء. وفي كل لمحة وفي كل لحظة وفي كل خطوة تتوالى آلاء الله وتتواكب وتتجمع، وتغمر خلائقه كلها وبخاصة هذا الإنسان.. ومن ثم كان الحمد لله ابتداء، وكان الحمد لله ختاماً قاعدة من قواعد التصور الإسلامي المباشر:

{ وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالأَخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (القصص28: 70)

ومع هذا يبلغ من فضل الله - سبحانه - وفيضه على عبده المؤمن، أنه إذا قال: الحمد لله. كتبها له حسنة ترجح كل الموازين.. في سنن ابن ماجه عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثهم أن " عبداً من عباد الله قال: " يا رب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ". فعضلت الملكين فلم يدريا كيف يكتبانها. فصعدا إلى الله فقالا: يا ربنا، إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها. قال الله - وهو أعلم بما قال عبده -: " وما الذي قال عبدي؟ " قالا: يا رب، أنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك. فقال الله لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها ".

والتوجه إلى الله بالحمد يمثل شعور المؤمن الذي يستجيشه مجرد ذكره لله - كما أسلفنا- أما شطر الآية الأخير: { رب العالمين } فهو يمثل قاعدة التصور الإسلامي، فالربوبية المطلقة الشاملة هي إحدى كليات العقيدة الإسلامية.. والرب هو المالك المتصرف، ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح والتربية.. والتصرف للإصلاح والتربية يشمل العالمين - أي جميع الخلائق - والله - سبحانه - لم يخلق الكون ثم يتركه هملاً. إنما هو يتصرف فيه بالإصلاح ويرعاه ويربيه. وكل العوالم والخلائق تحفظ وتُتعهد برعاية الله رب العالمين. والصلة بين الخالق والخلائق دائمة ممتدة قائمة في كل وقت وفي كل حالة.

والربوبية المطلقة هي مفرق الطريق بين وضوح التوحيد الكامل الشامل، والغبش الذي ينشأ من عدم وضوح هذه الحقيقة بصورتها القاطعة. وكثيراً ما كان الناس يجمعون بين الاعتراف بالله بوصفه الموجد الواحد للكون، والاعتقاد بتعدد الأرباب الذين يتحكمون في الحياة. ولقد يبدو هذا غريباً مضحكاً. ولكنه كان وما يزال. ولقد حكى لنا القرآن الكريم عن جماعة من المشركين كانوا يقولون عن أربابهم المتفرقة:

{ مَا نَعْبُدُهُم إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } (الزمر39: 3)

كما قال عن جماعة من أهل الكتاب:

{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُم وَرُهْبَانَهُم أَرْبَاباً مِن دُونِ اللَّهِ } (التوبة9: 31)

وكانت عقائد الجاهليات السائدة في الأرض كلها يوم جاء الإسلام، تعج بالأرباب المختلفة، بوصفها أرباباً صغاراً تقوم إلى جانب كبير الآلهة كما يزعمون!

فإطلاق الربوبية في هذه السورة، وشمول هذه الربوبية للعالمين جميعاً، هي مفرق الطريق بين النظام والفوضى في العقيدة.

-2-

لتتجه العوالم كلها إلى رب واحد، تقر له بالسيادة المطلقة، وتنفض عن كاهلها زحمة الأرباب المتفرقة، وعنت الحيرة كذلك بين شتى الأرباب.. ثم ليطمئن ضمير هذه العوالم إلى رعاية الله الدائمة وربوبيته القائمة. وإلى أن هذه الرعاية لا تنقطع أبداً ولا تفتر ولا تغيب، لا كما كان أرقى تصور فلسفي لأرسطو مثلاً يقول بأن الله أوجد هذا الكون ثم لم يعد يهتم به، لأن الله أرقى من أن يفكر فيما هو دونه! فهو لا يفكر إلا في ذاته! وأرسطو - وهذا تصوره - هو أكبر الفلاسفة، وعقله هو أكبر العقول!

لقد جاء الإسلام وفي العالم ركام من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار.. يختلط فيها الحق بالباطل، والصحيح بالزائف، والدين بالخرافة، والفلسفة بالأسطورة.. والضمير الإنساني تحت هذا الركام الهائل يتخبط في ظلمات وظنون، ولا يستقر منها على يقين.

وكان التيه الذي لا قرار فيه ولا يقين ولا نور، هو ذلك الذي يحيط بتصور البشرية لإلهها، وصفاته وعلاقته بخلائقه، ونوع الصلة بين الله والإنسان على وجه الخصوص.

ولم يكن مستطاعاً أن يستقر الضمير البشري على قرار في أمر هذا الكون، وفي أمر نفسه وفي منهج حياته، قبل أن يستقر على قرار في أمر عقيدته وتصوره لإلهه وصفاته، وقبل أن ينتهي إلى يقين واضح مستقيم في وسط هذا العماء وهذا التيه وهذا الركام الثقيل.

ولا يدرك الإنسان ضرورة هذا الاستقرار حتى يطلع على ضخامة هذا الركام، وحتى يرود هذا التيه من العقائد والتصورات والأساطير والفلسفات والأوهام والأفكار التي جاء الإسلام فوجدها ترين على الضمير البشري، والتي أشرنا إلى طرف منها فيما تقدم صغير. (و سيجيء في استعراض سور القرآن الكثير منها، مما عالجه القرآن علاجاً وافياً شاملاً كاملاً).

ومن ثم كانت عناية الإسلام الأولى موجهه إلى تحرير أمر العقيدة، وتحديد التصور الذي يستقر عليه الضمير في أمر الله وصفاته، وعلاقته بالخلائق، وعلاقة الخلائق به على وجه القطع واليقين.

ومن ثم كان التوحيد الكامل الخالص المجرد الشامل، الذي لا تشوبه شائبة من قريب ولا من بعيد.. هو قاعدة التصور التي جاء بها الإسلام، وظل يجلوها في الضمير، ويتتبع فيه كل هاجسة وكل شائبة حول حقيقة التوحيد، حتى يخلصها من كل غبش. ويدعها مكينة راكزة لا يتطرق إليها وهم في صورة من الصور.. كذلك قال الإسلام كلمة الفصل بمثل هذا الوضوح في صفات الله وبخاصة ما يتعلق منها بالربوبية المطلقة. فقد كان معظم الركام في ذلك التيه الذي تخبط فيه الفلسفات والعقائد كما تخبط فيه الأوهام والأساطير.

-3-

مما يتعلق بهذا الأمر الخطير، العظيم الأثر في الضمير الإنساني. وفي السلوك البشري سواء.

والذي يراجع الجهد المتطاول الذي بذله الإسلام لتقرير كلمة الفصل في ذات الله وصفاته وعلاقته بمخلوقاته، هذا الجهد الذي تمثله النصوص القرآنية الكثيرة.. الذي يراجع هذا الجهد المتطاول دون أن يراجع ذلك الركام الثقيل في ذلك التيه الشامل الذي كانت البشرية كلها تهيم فيه.. قد لا يدرك مدى الحاجة إلى كل هذا البيان المؤكد المكرر، وإلى كل هذا التدقيق الذي يتتبع كل مسالك الضمير.. ولكن مراجعة ذلك الركام تكشف عن ضرورة ذلك الجهد المتطاول، كما تكشف عن مدى عظمة الدور الذي قامت به هذه العقيدة - وتقوم في تحرير الضمير البشري وإعتاقه؛ وإطلاقه من عناء التخبط بين شتى الأرباب وشتى الأوهام والأساطير!

وإن جمال هذه العقيدة وكمالها وتناسقها وبساطة الحقيقة الكبيرة التي تمثلها.. كل هذا لا يتجلى للقلب والعقل كما يتجلى من مراجعة ركام الجاهلية من العقائد والتصورات، والأساطير والفلسفات! وبخاصة موضوع الحقيقة الإلهية وعلاقتها بالعالم.. عندئذ تبدو العقيدة الإسلامية رحمة. رحمة حقيقية للقلب والعقل، رحمة بما فيها من جمال وبساطة، ووضوح وتناسق، وقرب وأنس، وتجاوب مع الفطرة مباشر عميق.

{ الرحمن الرحيم }.. هذه الصفة التي تستغرق كل معاني الرحمة وحالاتها ومجالاتها تتكرر هنا في صلب السورة، في آية مستقلة، لتؤكد السمة البارزة في تلك الربوبية الشاملة؛ ولتثبت قوائم الصلة الدائمة بين الرب ومربوبيه. وبين الخالق ومخلوقاته.. إنها صلة الرحمة والرعاية التي تستجيش الحمد والثناء. إنها الصلة التي تقوم على الطمأنينة وتنبض بالمودة، فالحمد هو الاستجابة الفطرية للرحمة الندية.

إن الرب الإله في الإسلام لا يطارد عباده مطاردة الخصوم والأعداء كآلهة الأولمب في نزواتها وثوراتها كما تصورها أساطير الإغريق. ولا يدبر لهم المكائد الانتقامية كما تزعم الأساطير المزورة في " العهد القديم " كالذي جاء في أسطورة برج بابل في الإصحاح الحادي عشر من سفر التكوين.

{ مالك يوم الدين }.. وهذه تمثل الكلية الضخمة العميقة التأثير في الحياة البشرية كلها، كلية الاعتقاد بالآخرة.. والملك أقصى درجات الاستيلاء والسيطرة. ويوم الدين هو يوم الجزاء في الآخرة.. وكثيراً ما اعتقد الناس بألوهية الله، وخلقه للكون أول مرة؛ ولكنهم مع هذا لم يعتقدوا بيوم الجزاء.. والقرآن يقول عن بعض هؤلاء:

{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَن خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } (لقمان31: 25)

ثم يحكي عنهم في موضع آخر:

{ بَل عَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُنذِرٌ مِنْهُم فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ *أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } (ق50: 2-3)

والاعتقاد بيوم الدين كلية من كليات العقيدة الإسلامية ذات قيمة في تعليق أنظار البشر وقلوبهم بعالم آخر بعد عالم الأرض؛ فلا تستبد بهم ضرورات الأرض. وعندئذ يملكون الاستعلاء على هذه الضرورات. ولا يستبد بهم القلق على تحقيق جزاء سعيهم في عمرهم القصير المحدود، وفي مجال الأرض المحصور.

-4-

وعندئذ يملكون العمل لوجه الله وانتظار الجزاء حيث يقدره الله، في الأرض أو في الدار الآخرة سواء، في طمأنينة لله، وفي ثقة بالخير، وفي إصرار على الحق، وفي سعة وسماحة ويقين.. ومن ثم فإن هذه الكلية تعد مفرق الطريق بين العبودية للنزوات والرغائب، والطلاقة الإنسانية اللائقة ببني الإنسان. بين الخضوع لتصورات الأرض وقيمها وموازينها والتعلق بالقيم الربانية والاستعلاء على منطق الجاهلية. مفرق الطريق بين الإنسانية في حقيقتها العليا التي أرادها الله الرب لعباده، والصور المشوهة المنحرفة التي لم يقدر لها الكمال.

وما تستقيم الحياة البشرية على منهج الله الرفيع ما لم تتحقق هذه الكلية في تصور البشر. وما لم تطمئن قلوبهم إلى أن جزاءهم على الأرض ليس هو نصيبهم الأخير. وما لم يثق الفرد المحدود العمر بأن له حياة أخرى تستحق أن يجاهد لها، وأن يضحي لنصرة الحق والخير معتمداً على العوض الذي يلقاه فيها..

وما يستوي المؤمنون بالآخرة والمنكرون لها في شعور ولا خلق ولا سلوك ولا عمل. فهما صنفان مختلفان من الخلق. وطبيعتان متميزتان لا تلتقيان في الأرض في عمل ولا تلتقيان في الآخرة في جزاء.. وهذا هو مفرق الطريق..

{ إياك نعبد وإياك نستعين }.. وهذه هي الكلية الاعتقادية التي تنشأ عن الكليات السابقة في السورة. فلا عبادة إلا لله، ولا استعانة إلا بالله.

وهنا كذلك مفرق طريق.. مفرق طريق بين التحرر المطلق من كل عبودية، وبين العبودية المطلقة للعبيد! وهذه الكلية تعلن ميلاد التحرر البشري الكامل الشامل. التحرر من عبودية الأوهام. والتحرر من عبودية النظم، والتحرر من عبودية الأوضاع. وإذا كان الله وحده هو الذي يُعبد، والله وحده هو الذي يُستعان، فقد تخلص الضمير البشري من استذلال النظم والأوضاع والأشخاص، كما تخلص من استذلال الأساطير والأوهام والخرافات..

وهنا يعرض موقف المسلم من القوى الإنسانية، ومن القوى الطبيعية..

فأما القوى الإنسانية - بالقياس إلى المسلم - فهي نوعان: قوة مهتدية، تؤمن بالله، وتتبع منهج الله... وهذه يجب أن يؤازرها، ويتعاون معها على الخير والحق والصلاح.. وقوة ضالة لا تتصل بالله ولا تتبع منهجه. وهذه يجب أن يحاربها ويكافحها ويغير عليها.

ولا يهولن المسلم أن تكون هذه القوة الضالة ضخمة أو عاتية. فهي بضلالها عن مصدرها الأول - قوة الله - تفقد قوتها الحقيقة. تفقد الغذاء الدائم الذي يحفظ لها طاقتها. وذلك كما ينفصل جرم ضخم من نجم ملتهب، فما يلبث أن ينطفىء ويبرد ويفقد ناره ونوره، مهما كانت كتلته من الضخامة. على حين تبقى لأية ذرة متصلة بمصدرها المشع قوتها وحرارتها ونورها:

{ كَم مِن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ } (البقرة2: 249)

غلبتها باتصالها بمصدر القوة الأول، وباستمدادها من النبع الواحد للقوة وللعزة جميعاً.

-5-

وأما القوى الطبيعية فموقف المسلم منها هو موقف التعرف والصداقة، لا موقف التخوف والعداء. ذلك أن قوة الإنسان وقوة الطبيعة صادرتان عن إرادة الله ومشيئته، محكومتان بإرادة الله ومشيئته، متناسقتان متعاونتان في الحركة والاتجاه.

إن عقيدة المسلم توحي إليه أن الله ربه قد خلق هذه القوى كلها لتكون له صديقاً مساعداً متعاوناً؛ وأن سبيله إلى كسب هذه الصداقة أن يتأمل فيها. ويتعرف إليها، ويتعاون وإياها، ويتجه معها إلى الله ربه وربها. وإذا كانت هذه القوى تؤذيه أحياناً، فإنما تؤذيه لأنه لم يتدبرها ولم يتعرف إليها، ولم يهتد إلى الناموس الذي يسيرها.

ولقد درج الغربيون - ورثة الجاهلية الرومانية - على التعبير عن استخدام قوى الطبيعة بقولهم: " قهر الطبيعة ".. ولهذا التعبير دلالته الظاهرة على نظرة الجاهلية المقطوعة الصلة بالله، وبروح الكون المستجيب لله. فأما المسلم الموصول القلب بربه الرحمن الرحيم، الموصول الروح بروح هذا الوجود المسبحة لله رب العالمين.. فيؤمن بأن هنالك علاقة أخرى غير علاقة القهر والجفوة. أنه يعتقد أن الله هو مبدع هذه القوى جميعاً. خلقها كلها وفق ناموس واحد، لتتعاون على بلوغ الأهداف المقدرة لها بحسب هذا الناموس. وأنه سخرها للإنسان ابتداء ويسر له كشف أسرارها ومعرفة قوانينها. وأن على الإنسان أن يشكر الله كلما هيأ له أن يظفر بمعونة من إحداها. فالله هو الذي يسخرها له، وليس هو الذي يقهرها:

{ وَسَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً } (الجاثية45: 13)

وإذن فإن الأوهام لن تملأ حسه تجاه قوى الطبيعة؛ ولن تقوم بينه وبينها المخاوف.. إنه يؤمن بالله وحده، ويعبد الله وحده، ويستعين بالله وحده. وهذه القوى من خلق ربه. وهو يتأملها ويألفها ويتعرف أسرارها، فتبذل له معونتها، وتكشف له عن أسرارها. فيعيش معها في كون مأنوس صديق ودود.. وما أروع قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو ينظر إلى جبل أُحد: " هذا جبل يحبنا ونحبه " ففي هذه الكلمات كل ما يحمله قلب المسلم الأول محمد - صلى الله عليه وسلم - من ود وألفة وتجاوب، بينه وبين الطبيعة في أضخم وأخشن مجاليها.

وبعد تقرير تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي؛ وتقرير الاتجاه إلى الله وحده بالعبادة والاستعانة.. يبدأ في التطبيق العملي لها بالتوجه إلى الله بالدعاء على صورة كلية تناسب جو السورة وطبيعتها:

{ اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين }..

{ اهدنا الصراط المستقيم }.. وفقنا إلى معرفة الطريق المستقيم الواصل؛ ووفقنا للاستقامة عليه بعد معرفته.. فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته. والتوجه إلى الله في هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين. وهذا الأمر هو أعظم وأول ما يطلب المؤمن من ربه العون فيه.

-6-

فالهداية إلى الطريق المستقيم هي ضمان السعادة في الدنيا والآخرة عن يقين.. وهي في حقيقتها هداية فطرة الإنسان إلى ناموس الله الذي ينسق بين حركة الإنسان وحركة الوجود كله في الاتجاه إلى الله رب العالمين.

ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم: { صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين }.. فهو طريق الذين قسم لهم نعمته. لا طريق الذين غضب عليهم لمعرفتهم الحق ثم حيدتهم عنه. أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلاً إليه.. إنه صراط السعداء المهتدين الواصلين..

وبعد فهذه هي السورة المختارة للتكرار في كل صلاة، والتي لا تصح بدونها صلاة. وفيها على قصرها تلك الكليات الأساسية في التصور الإسلامي؛ وتلك التوجهات الشعورية المنبثقة من ذلك التصور.

وقد ورد في صحيح مسلم من حديث العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة عن أبيه، عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين. فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل.. إذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين. قال الله: حمدني عبدي. وإذا قال الرحمن الرحيم. قال الله أثنى عليّ عبدي. فإذا قال: مالك يوم الدين. قال الله: مجدني عبدي. وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين. قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: اهدنا الصراط المستقيم. صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. قال:هذا لعبدي ولعبدي ما سأل ".

ولعل هذا الحديث الصحيح - بعدما تبين من سياق السورة ما تبين - يكشف عن سر من أسرار اختيار السورة ليرددها المؤمن سبع عشرة مرة في كل يوم وليلة؛ أو ما شاء الله أن يرددها كلما قام يدعوه في الصلاة.

-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #73  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 13

تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 13


{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

البسملة اسم لكلمة باسم الله، صيغ هذا الاسم على مادَّةٍ مؤلفة من حروف الكلمتين (باسم) و (الله) على طريقة تسمى النَّحْت، وهو صوغ فعلِ مُضِيٍ على زنة " فَعْلَل " مؤلفةٍ مادِّتُه من حروف جملة أو حروفِ مركَّب إِضَافِيَ، مما ينطق به الناس اختصاراً عن ذكر الجملة كلها لقصد التخفيف لكثرة دوران ذلك على الألسنة. وقد استعمل العرب النحت في النَّسَب إلى الجملة أو المركب إذا كان في النسبِ إلى صدر ذلك أو إلى عَجزه التباس، كما قالوا في النسبة إلى عبد شمس - عَبْشَمِيّ - خشية الالتباس بالنسب إلى عبدٍ أو إلى شمس، وفي النسبة إلى عبد الدار - عَبْدَرِيّ - كذلك وإلى حضرموت حضرمي قال سيبويه في باب الإضافة (أي النسَب) إلى المضاف من الأسماء: «وقد يجعلون للنسب في الإضافة اسماً بمنزلة جَعْفَري ويجعلون فيه من حروف الأول والآخر ولا يخرجونه من حروفهما ليُعْرَف» ا هـ، فجاء من خلفهم من مولدي العرب واستعملوا هذه الطريقة في حكاية الجمل التي يكثر دورانها في الألسنة لقصد الاختصار، وذلك من صدر الإسلام فصارت الطريقة عربية. قال الراعي:

قَومٌ على الإسلام لَمَّا يمنعواما عونَهم ويُضيِّعوا التَهْلِيلا


أي لم يتركوا قول: لا إلٰه إلا الله. وقال عُمر بن أبي ربيعة:

لقد بسملت ليلَى غداةَ لقيتُهاألا حَبَّذا ذاك الحبيبُ المُبَسْمِلُ


أي قالت بسم الله فَرَقاً منه، فأصل بسمل قال: بسم الله ثم أطلقه المولدون على قول: بسم الله الرحمٰن الرحيم، اكتفاء واعتماداً على الشهرة وإن كان هذا المنحوتُ خِليَّاً من الحاء والراء اللذين هما من حروف الرحمان الرحيم، فشاع قولهم بسمل في معنى قال بسم الله الرحمٰن الرحيم، واشتق من فعل بسمل مصدر هو " البسملة " كما اشتق من هَلَّل مصدر هو " الهيللة " وهو مصدر قياسي لفعلل. واشتق منه اسم فاعل في بيت عمر بن أبي ربيعة ولم يسمع اشتقاق اسم مفعول.

ورأيت في «شرح ابن هارون التونسي على مختصر ابن الحاجب» في باب الأذان عن المطرز في كتاب «اليواقيت»: الأفعالُ التي نحتت من أسمائها سبعة: بَسْمَلَ في بسم الله، وسَبْحَلَ في سبحان الله، وحَيْعَلَ في حي على الصلاة، وحَوْقَلَ في لا حول ولا قوة إلا بالله، وحَمْدَلَ في الحمدُ لله، وهَلَّل في لا إلٰه إلا الله، وجَيْعَل إذا قال: جُعلت فِداك، وزاد الطَّيْقَلَة في أَطال الله بقاءك، والدَّمْعَزَةَ في أدام الله عزك.

ولَما كان كثير من أيمة الدين قائلاً بأنها آية من أوائل جميع السور غير براءة أو بعض السور تعين على المفسر أن يفسر معناها وحكمها وموقعها عند من عدوها آية من بعض السور.

-1-

وينحصر الكلام عليها في ثلاثة مباحث. الأول: في بيان أهي آية من أوائل السور أم لا؟. الثاني: في حكم الابتداء بها عند القراءة. الثالث في تفسير معناها المختص بها.

فأما المبحث الأول فهو أن لا خلاف بين المسلمين في أن لفظ { بسم الله الرحمٰن الرحيم } هو لفظ قرآني لأنه جزء آية من قوله تعالى:

{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ } [النمل27: 30]

كما أنهم لم يختلفوا في أن الافتتاح بالتسمية في الأمور المهمة ذوات البال ورد في الإسلام، وروي فيه حديث: " كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بسم الله الرحمٰن الرحيم فهو أقطع " لم يروه أصحاب «السنن» ولا «المستدركات»، وقد وصف بأنه حسن، وقال الجمهور إن البسملة رسمها الذين كتبوا المصاحف في أوائل السور ما عدا سورة براءة، كما يؤخذ من محادثة ابن عباس مع عثمان، وقد مضت في المقدمة الثامنة، ولم يختلفوا في أنها كتبت في المصحف في أول سورة الفاتحة وذلك ليس موضع فصل السورة عما قبلها، وإنما اختلفوا في أن البسملة هل هي آية من سورة الفاتحة ومن أوائل السور غير براءة، بمعنى أن الاختلاف بينهم ليس في كونها قرآناً، ولكنه في تكرر قرآنيتها كما أشار إليه ابن رشد الحفيد في «البداية»، فذهب مالك والأوزاعي وفقهاء المدينة والشام والبصرة - وقيل باستثناء عبد الله بن عمرو ابن شهاب من فقهاء المدينة - إلى أنها ليست بآية من أوائل السور لكنها جزء آية من سورة النمل، وذهب الشافعي في أحد قوليه وأحمد وإسحاق وأبو ثور وفقهاء مكة والكوفة غير أبي حنيفة، إلى أنها آية في أول سورة الفاتحة خاصة، وذهب عبد الله بن مبارك والشافعي في أحد قوليه وهو الأصح عنه إلى أنها آية من كل سورة. ولم ينقل عن أبي حنيفة من فقهاء الكوفة فيها شيء، وأخذ منه صاحب «الكشاف» أنها ليست من السور عنده فعَدَّه في الذين قالوا بعدم جزئيتها من السور وهو الصحيح عنه. قال عبد الحكيم لأنه قال بعدم الجهر بها مع الفاتحة في الصلاة الجهرية وكره قراءتها في أوائل السور الموصولة بالفاتحة في الركعتين الأوليين. وأَزِيدُ فأقول إنه لم ير الاقتصار عليها في الصلاة مجزئاً عن القراءة.

أما حجة مذهب مالك ومن وافقه فلهم فيها مسالك: أحدها من طريق النظر، والثاني من طريق الأثر، والثالث من طريق الذوق العربي.

فأما المسلك الأول: فللمالكية فيه مقالة فائقة للقاضي أبي بكر الباقلاني وتابَعَه أبو بكر ابن العربي في «أحكام القرآن» والقاضي عبد الوهاب في كتاب «الإشراف»، قال الباقلاني: «لو كانت التسمية من القرآن لكان طريق إثباتها إما التواتر أو الآحاد، والأول: باطل لأنه لوثبت بالتواتر كونها من القرآن لحصل العلم الضروري بذلك ولامتنع وقوع الخلاف فيه بين الأُمَّة، والثاني: أيضاً باطل لأن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن فلو جعلناه طريقاً إلى إثبات القرآن لخرج القرآن عن كونه حجة يقينية، ولصار ذلك ظنياً، ولو جاز ذلك لجاز ادعاء الروافض أن القرآن دخله الزيادة والنقصان والتغيير والتحريف» ا هـ وهو كلام وجيه والأقيسة الاستثنائية التي طواها في كلامه واضحة لمن له ممارسة للمنطق وشرطياتها لا تحتاج للاستدلال لأنها بديهية من الشريعة فلا حاجة إلى بسطها.

-2-

زاد أبو بكر بن العربي في «أحكام القرآن» فقال: يكفيك أنها ليست من القرآن الاختلافُ فيها، والقرآن لا يُختلف فيه ا هـ. وزاد عبد الوهاب فقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القرآن بياناً واحداً متساوياً ولم تكن عادته في بيانه مختلفة بالظهور والخفاء حتى يختص به الواحد والاثنان؛ ولذلك قطعنا بمنع أن يكون شيء من القرآن لم ينقل إلينا وأبطلنا قول الرافضة إن القرآن حِمْل جَمَل عند الإمام المعصوم المنتظر فلو كانت البسملة من الحمد لبيّنها رسول الله بياناً شافياً» ا هـ. وقال ابن العربي في «العارضة»: إن القاضي أبا بكر بن الطيب، لم يتكلم من الفقه إلا في هذه المسألة خاصة لأنها متعلقة بالأصول.

وقد عارض هذا الدليل أبو حامد الغزالي في «المستصفى» فقال: «نُفي كون البسملة من القرآن أيضاً إن ثبت بالتواتر لزم أن لا يبقى الخلاف (أي وهو ظاهر البطلان) وإن ثبت بالآحاد يصير القرآن ظنياً، قال: ولا يقال: إن كون شيء ليس من القرآن عدم والعدم لا يحتاج إلى الإثبات لأنه الأصل بخلاف القول بأنها من القرآن، لأنّا نجيب بأن هذا وإن كان عدماً إلا أن كون التسمية مكتوبة بخط القرآن يوهن كونها ليست من القرآن فهٰهنا لا يمكننا الحكم بأنها ليست من القرآن إلا بالدليل ويأتي الكلام في أن الدليل ما هو، فثبت أن الكلام الذي أورده القاضي لازم عليه ا هـ، وتبعه على ذلك الفخر الرازي في «تفسيره» ولا يخفى أنه آل في استدلاله إلى المصادرة إذ قد صار مرجع استدلال الغزالي وفخر الدين إلى رسم البسملة في المصاحف، وسنتكلم عن تحقيق ذلك عند الكلام على مدرك الشافعي. وتعقب ابن رشد في «بداية المجتهد» كلام الباقلاني والغزالي بكلام غير محرر فلا نطيل به.

وأما المسلك الثاني: وهو الاستدلال من الأثر فلا نجد في صحيح السنة ما يشهد بأن البسملة آية من أوائل سور القرآن والأدلة ستة:

الدليل الأول: ما روى مالك في «الموطأ» عن العلاء بن عبد الرحمٰن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " قال الله تعالى قسمت الصلاة نصفين بيني وبين عبدي فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل، يقول العبد: { الحمد لله رب العالمين } ، فأقول: حمدني عبدي "

-3-

الخ، والمراد في الصلاة القراءة في الصلاة ووجه الدليل منه أنه لم يذكر بسم الله الرحمٰن الرحيم.

الثاني: حديث أُبيّ بن كعب في «الموطأ» و«الصحيحين» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " ألا أعلمك سورة لم يُنْزَل في التوراة ولا في الإنجيل مثُلها قبل أن تخرج من المسجد " قال: بلى، فلما قارب الخروج قال له: كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة؟ قال أبيٌّ فقرأت { الحمد لله رب العالمين } حتى أتيت على آخرها، فهذا دليل على أنه لم يقرأ منها البسملة.

الثالث: ما في «صحيح مسلم» و«سنن أبي داود» و«سنن النسائي» عن أنس بن مالك من طرق كثيرة أنه قال: صليت خلف رسول الله وأبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون (بسم الله الرحمٰن الرحيم)، لا في أول قراءة ولا في آخرها.

الرابع: حديث عائشة في «صحيح مسلم» و«سنن أبي داود» قالت: كان رسول الله يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءةَ بالحمد لله رب العالمين.

الخامس: ما في «سنن الترمذي والنسائي» عن عبد الله بن مغفل قال: صليت مع النبي وأبي بكر وعمر وعثمان، فلم أسمع أحداً منهم يقول: (بسم الله الرحمٰن الرحيم)، إذا أنت صليت فقل { الحمد لله رب العالمين }.

السادس - وهو الحاسم -: عمل أهل المدينة، فإن المسجد النبوي من وقت نزول الوحي إلى زمن مالك صلى فيه رسول الله والخلفاء الراشدون والأمراء وصلى وراءهم الصحابة وأهل العلم ولم يسمع أحد قرأ (بسم الله الرحمٰن الرحيم) في الصلاة الجهرية، وهل يقول عالم أن بعض السورة جهر وبعضها سر، فقد حصل التواتر بأن النبي والخلفاء لم يجهروا بها في الجهرية، فدل على أنها ليست من السورة ولو جهروا بها لما اختلف الناس فيها.

وهناك دليل آخر لم يذكروه هنا وهو حديث عائشة في بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتبر مرفوعاً إلى النبي، وذلك قوله: «ففَجِئَه الملَك فقال: اقرأ قال رسول الله فقلت ما أنا بقارىء ــــ إلى أن قال ــــ فغطني الثالثة ثم قال:

{ اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ } [العلق96: 1]

الحديث. فلم يقل فقال لي بسم الله الرحمٰن الرحيم { اقرأ بسم ربك } ، وقد ذكروا هذا في تفسير سورة العلق وفي شرح حديث بدء الوحي.

وأما المسلك الثالث وهو الاستدلال من طريق الاستعمال العربي فيأتي القول فيه على مراعاة قول القائلين بأن البسملة آية من سورة الفاتحة خاصة، وذلك يوجب أن يتكرر لفظان وهما { الرحمٰن الرحيم } في كلام غير طويل ليس بينهما فصل كثير وذلك مما لا يحمد في باب البلاغة، وهذا الاستدلال نقله الإمام الرازي في «تفسيره» وأجاب عنه بقوله: إن التكرار لأجل التأكيد كثير في القرآن وإن تأكيد كونه تعالى رحماناً رحيماً من أعظم المهمات.

-4-

وأَنَا أَدْفع جوابه بأن التكرار وإن كانت له مواقع محمودة في الكلام البليغ مثل التهويل، ومقام الرثاء أو التعديد أو التوكيد اللفظي، إلا أن الفاتحة لا مناسبة لها بأغراض التكرير ولا سيما التوكيد لأنه لا منكر لكونه تعالى رحماناً رحيماً، ولأن شأن التوكيد اللفظي أن يقترن فيه اللفظان بلا فصل فتعين أنه تكرير اللفظ في الكلام لوجود مقتضى التعبير عن مدلوله بطريق الاسم الظاهر دون الضمير، وذلك مشروط بأن يبعد ما بين المكرَّرَيْن بُعداً يقصيه عن السمع، وقد علمتَ أنهم عدوا في فصاحة الكلام خلوصه من كثرة التكرار، والقربُ بين الرحمٰن والرحيم حين كررا يمنع ذلك.

وأجاب البيضاوي بأن نكتة التكرير هنا هي تعليل استحقاق الحمد، فقال السلكوتي أشار بهذا إلى الرد على ما قاله بعض الحنفية: إن البسملة لو كانت من الفاتحة للزم التكرار وهو جواب لا يستقيم لأنه إذا كان التعليل قاضياً بذكر صفتي { الرحمٰن الرحيم } فدفع التكرير يقتضي تجريد البسملة التي في أول الفاتحة من هاتين الصفتين بأن تصير الفاتحة هكذا: (بسم الله الحمد لله الخ).

وأنا أرى في الاستدلال بمسلك الذوق العربي أن يكون على مراعاة قول القائلين بكون البسملة آية من كل سورة فينشأ من هذا القولِ أَنْ تكون فواتح سور القرآن كلُّها متماثلة وذلك مما لا يحمد في كلام البلغاء إذ الشأن أن يقع التفنن في الفواتح، بل قد عد علماء البلاغة أَهَمَّ مواضع التأنق فاتحةَ الكلام وخاتمتَه، وذكروا أن فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن وجوه البيان وأكملها فكيف يسوغ أن يُدَّعَى أَن فواتح سوره جملةٌ واحدة، مع أن عامة البلغاء من الخطباء والشعراء والكتاب يتنافسون في تفنن فواتح منشآتهم ويعيبون من يلتزم في كلامه طريقة واحدة فما ظنك بأبلغ كلام.

وأما حجة مذهب الشافعي ومن وافقه بأنها آية من سورة الفاتحة خاصة فأمور كثيرة أنهاها فخر الدين إلى سبع عشرة حجة لا يكاد يستقيم منها بعد طرح المتداخل والخارج عن محل النزاع وضعيف السند أو واهيه إلا أمران: أحدهما أحاديث كثيرة منها ما روى أبو هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: " فاتحة الكتاب سبع آيات أولاهن { بسم الله الرحمٰن الرحيم } " وقول أم سلمة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الفاتحة وعدَّ: { بسم الله الرحمٰن الرحيم الحمد لله رب العالمين } آية. الثاني: الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله.

والجواب: أما عن حديث أبي هريرة فهو لم يخرجه أحد من رجال الصحيح إنما خرجه الطبراني وابن مردويه والبيهقي فهو نازل عن درجة الصحيح فلا يعارض الأحاديث الصحيحة، وأما حديث أم سلمة فلم يخرجه من رجال الصحيح غير أبي داود وأخرجه أحمد بن حنبل والبيهقي، وصحح بعض طرقه وقد طعن فيه الطحاوي بأنه رواه ابن أبي مليكة، ولم يثبت سماع ابن أبي مليكة من أم سلمة، يعني أنه مقطوع، على أنه روى عنها ما يخالفه، على أن شيخ الإسلام زكرياء قد صرح في «حاشيته على تفسير البيضاوي» بأنه لم يرو باللفظ المذكور وإنما روي بألفاظ تدل على أن { بسم الله } آية وحدها، فلا يؤخذ منه كونها من الفاتحة، على أن هذا يفضي إلى إثبات القرآنية بغير المتواتر وهو ما يأباه المسلمون.

-5-

وأما عن الإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله، فالجواب أنه لا يقتضي إلا أن البسملة قرآن وهذا لانزاع فيه، وأما كون المواضع التي رسمت فيها في المصحف مما تجب قراءتها فيها، فذلك أمر يتبع رواية القراء وأخبار السنة الصحيحة فيعود إلى الأدلة السابقة.

وهذا كله بناء على تسليم أن الصحابة لم يكتبوا أسماء السور وكونها مكية أو مدنية في المصحف وأن ذلك من صنع المتأخرين وهو صريح كلام عبد الحكيم في «حاشية البيضاوي»، وأما إذا ثبت أن بعض السلف كتبوا ذلك كما هو ظاهر كلام المفسرين والأصوليين والقراء كما في «لطائف الإشارات» للقسطلاني وهو مقتضى كتابة المتأخرين لذلك لأنهم ما كانوا يجرأون على الزيادة على ما فعله السلف فالاحتجاج حينئذٍ بالكتابة باطل من أصله ودعوى كون أسماء السور كتبت بلون مخالف لحِبْر القرآن، يرده أن المشاهد في مصاحف السلف أن حبرها بلون واحد ولم يكن التلوين فاشياً.

وقد احتج بعضهم بما رواه البخاري عن أنس أنه سئل كيف كانت قراءة النبي؟ فقال كانت مدًّا ثم قرأ { بسم الله الرحمٰن الرحيم } يمد { بسم الله } ويمد بالرحمٰن ويمد بالرحيم، ا هـ، ولا حجة في هذا لأن ضمير قرأ وضمير يمد عائدان إلى أنس، وإنما جاء بالبسملة على وجه التمثيل لكيفية القراءة لشهرة البسملة.

وحجةُ عبد الله بن المبارك وثاني قولي الشافعي ما رواه مسلم عن أنس قال: «بينا رسول الله بين أظهرنا ذات يوم إذْ أغفَى إِغفَاءَةً ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا ما أضحكك يا رسول الله؟ قال: أنزلت عليَّ سورة آنفاً فقرأ بسم الله الرحمٰن الرحيم

{ إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [الكوثر108: 1]

السورة، قالوا وللإجماع على أن ما بين الدفتين كلام الله ولإثبات الصحابة إياها في المصاحف مع حرصهم على أن لا يدخلوا في القرآن ما ليس منه ولذلك لم يكتبوا (آمين) في الفاتحة.

والجواب عن الحديث أنا نمنع أن يكون قرأ البسملة على أنها من السورة بل افتتح بها عند إرادة القراءة لأنها تغني عن الاستعاذة إذا نوى المبسمل تقديرَ أستعيذ باسم الله وحذَفَ متعلق الفعل، ويتعين حمله على نحو هذا لأن راويه أنساً بن مالك جزم في حديثه الآخر أنه لم يسمع رسول الله بسمل في الصلاة.

-6-

فإن أبوا تأويله بما تأولناه لزم اضطراب أنس في روايته اضطراباً يوجب سقوطها.

والحق البين في أمر البسملة في أوائل السور، أنها كتبت للفصل بين السور ليكون الفصل مناسباً لابتداء المصحف، ولئلا يكون بلفظ من غير القرآن، وقد روى أبو داود في «سننه» والترمذي وصححه عن ابن عباس أنه قال: قلت لعثمان بن عفان: «ما حملكم أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين وإلى الأنفال وهي من المثاني فجعلتموهما في السبع الطوال ولم تكتبوا بينهما سطراً بسم الله الرحمٰن الرحيم»، قال عثمان كان النبي لما تنزل عليه الآياتُ فيدعو بعض من كان يكتب له ويقول له ضع هذه الآية بالسورة التي يذكر فيها كذا وكذا، أو تنزل عليه الآية والآيتان فيقول مثل ذلك، وكانت الأنفال من أول ما أنزل عليه بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما أنزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها فقُبِض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها، فظننتُ أنها منها، فمن هناك وضعتُها في السبع الطوال ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمٰن الرحيم».

وأرى في هذا دلالة بينة على أن البسملة لم تكتب بين السور غيرِ الأنفال وبراءةَ إلا حينَ جُمع القرآن في مصحف واحد زمن عثمان، وأنها لم تكن مكتوبة في أوائل السور في الصحف التي جمعها زيد بن ثابت في خلافة أبي بكر إذ كانت لكل سورة صحيفة مفردة كما تقدم في المقدمة الثامنة من مقدمات هذا التفسير.

وعلى أن البسملة مختلف في كونها آية من أول كل سورة غيرِ براءة، أو آية من أول سورة الفاتحة فقط، أو ليست بآية من أول شيء من السور؛ فإن القراء اتفقوا على قراءة البسملة عند الشروع في قراءة سورة من أولها غير براءة. ورووا ذلك عمن تلقَّوْا، فأما الذين منهم يروون اجتهاداً أو تقليداً أن البسملة آية من أول كل سورة غيرِ براءة، فأمرهم ظاهر، وقراءة البسملة في أوائل السور واجبة عندهم لا محالة في الصلاة وغيرها، وأما الذين لا يروون البسملة آية من أوائل السور كلها أو ما عدا الفاتحة فإن قراءتهم البسملة في أول السورة عند الشروع في قراءة سورة غير مسبوقة بقراءة سورة قبلها تُعلَّل بالتيمن باقتفاء أثر كُتَّاب المصحف، أي قصد التشبُه في مجرد ابتداء فعل تشبيهاً لابتداء القراءة بابتداء الكتابة. فتكون قراءتهم البسملة أمراً مستحباً للتأسي في القراءة بما فعله الصحابة الكاتبون للمصحف، فقراءة البسملة عند هؤلاء نظير النطْق بالاستعاذة ونظير التهليل والتكبير بين بعض السور مِن آخر المفصَّل، ولا يبسملون في قراءة الصلاة الفريضة، وهؤلاء إذا قرأوا في صلاة الفريضة تجري قراءتهم على ما انتهى إليه فهمهم من أمر البسملة من اجتهاد أو تقليد.

-7-

وبهذا تعلم أنه لا ينبغي أن يؤخذ من قراءتهم قولٌ لهم بأن البسملة آية من أول كل سورة كما فعل صاحب «الكشاف» والبيضاوي.

واختلفوا في قراءة البسملة في غير الشروع في قراءة سورةٍ من أولها، أي في قراءة البسملة بين السورتين.

فورد عن نافع في أشهر الروايات عنه وابنُ عامر، وأبو عمرو، وحمزة، ويعقوبُ، وخلف، لا يبسملون بين السورتين وذلك يعلل بأن التشبُّه بفعل كتَّاب المصحف خاص بالابتداء، وبحملهم رسمَ البسملة في المصحف على أنه علامة على ابتداء السورة لا على الفصل، إذ لو كانت البسملة علامة على الفصل بين السورة والتي تليها لما كتبت في أول سورة الفاتحة، فكان صنيعُهم وجيهاً لأنهم جمعوا بين ما روَوه عن سلفهم وبين دليلِ قصد التيمن، ودليل رأيهم أن البسملة ليست آية من أول كل سورة.

وقالون عن نافع وابنُ كثير وعاصمٌ والكسائي وأبو جعفر يبسملون بين السورتين سوى ما بين الأنفال وبراءة، وعدوه من سنة القراءة، وليس حظهم في ذلك إلا اتباع سلفهم، إذ ليس جميعهم من أهل الاجتهاد، ولعلهم طردوا قصد التيمن بمشابهة كُتَّاب المصحف في الإشعار بابتداء السورة والإشعار بانتهاء التي قبلها.

واتفق المسلمون على ترك البسملة في أول سورة براءة وقد تبين وجه ذلك آنفاً، ووجَّهه الأئمة بوجوه أخر تأتي في أول سورة براءة، وذكر الجاحظ في «البيان والتبيين» أن مُؤرِّجاً السَّدُوسي البصري سمع رجلاً يقول: «أميرُ المؤمنين يَرُدُّ على المظلوم» فرجع مؤرج إلى مُصحفه فردَّ على براءة بسم الله الرحمٰن الرحيم، ويحمل هذا الذي صنعه مُؤَرج - إن صح عنه - نما هو على التمليح والهزل وليس على الجد.

وفي هذا ما يدل على أن اختلاف مذاهب القراء في قراءة البسملة في مواضع من القرآن ابتداء ووصلاً كما تقدم لا أثر له في الاختلاف في حكم قراءتها في الصلاة، فإن قراءتها في الصلاة تجري على أحكام النظر في الأدلة، وليست مذاهب القراء بمعدودة من أدلة الفقه، وإنما قراءاتهم روايات وسنة متبعة في قراءة القرآن دون استناد إلى اعتبار أحكام رواية القرآن من تواتر ودونه، ولا إلى وجوب واستحباب وتخيير، فالقارىء يقرأ كما روى عن معلميه ولا ينظر في حكم ما يقرأه من لزوم كونه كما قرأ أو عدم اللزوم، فالقراء تجري أعمالهم في صلاتهم على نزعاتهم في الفقه من اجتهاد وتقليد، ويوضح غلط من ظن أن خلاف الفقهاء في إثبات البسملة وعدمه مبني على خلاف القراء، كما يوضح تسامح صاحب «الكشاف» في عده مذاهب القراء في نسق مذاهب الفقهاء. وإنما اختلف المجتهدون لأجل الأدلة التي تقدم بيانها، وأما الموافقة بينهم وبين قراء أمصارهم غالباً في هاته المسألة فسببه شيوع القول بين أهل ذلك العصر بما قال به فقهاؤه في المسائل، أو شيوع الأدلة التي تلقاها المجتهدون من مشائخهم بين أهل ذلك العصر ولو من قبل ظهور المجتهد مثل سَبْق نافِعِ بن أبي نعيم إلى عدم ذكر البسملة قبل أن يقول مالك بعدم جزئيتها؛ لأن مالكاً تلقى أدلة نفيِ الجزئية عن علماء المدينة وعنهم أو عن شيوخهم تلقى نافع بن أبي نعيم، وإذ قد كنا قد تقلدنا مذهب مالك واطمأننا لمداركه في انتفاء كون البسملة آية من أول سورة البقرة كان حقاً علينا أن لا نتعرض لتفسيرها هنا وأن نرجئه إلى الكلام على قوله تعالى في سورة النمل (30):

-8-

{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ } (النمل27: 30)
غير أننا لما وجدنا من سلفنا من المفسرين كلهم لم يهملوا الكلام على البسملة في هذا الموضع اقتفينا أثرهم إذ صار ذلك مصطلح المفسرين.

واعلم أن متعلق المجرور في { بسم الله } محذوف تقديره هنا أقرأ، وسبب حذف متعلق المجرور أن البسملة سنت عند ابتداء الأعمال الصالحة فَحُذف متعلق المجرور فيها حذفاً ملتزماً إيجازاً اعتماداً على القرينة، وقد حكى القرآن قول سحرة فرعون عند شروعهم في السحر بقوله:

{ فَأَلْقَوْا حِبَالَهُم وَعِصِيَّهُم وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ } [الشعراء26: 44]

وذكر صاحب «الكشاف» أن أهل الجاهلية كانوا يقولون في ابتداء أعمالهم: «باسم اللاتِ باسم العُزَّى» فالمجرور ظرف لغو معمول للفعل المحذوف ومتعلق به وليس ظرفاً مستقراً مثل الظروف التي تقع أخباراً، وَدليل المتعلق ينبىء عنه العمل الذي شُرع فيه فتعين أن يكون فعلاً خاصاً من النوع الدال على معنى العمل المشروع فيه دون المتعلِّق العام مثل: أبتَدِىء لأن القرينة الدالة على المتعلق هي الفعل المشروع فيه المبدوء بالبسملة فتعين أن يكون المقدر اللفظ الدال على ذلك الفعل، ولا يجري في هذا الخلاف الواقع بين النحاة في كون متعلق الظروف هل يقدر اسماً نحو كائن أو مُستقر أم فعلاً نحو كان أو استقر لأن ذلك الخلاف في الظروف الواقعة أخباراً أو أحوالاً بناء على تعارض مقتضى تقدير الاسم وهو كونه الأصل في الأخبار والحالية، ومقتضى تقدير الفعل وهو كونه الأصل في العمل لأن ما هنا ظرف لغو، والأصل فيه أن يعدى الأفعال ويتعلق بها، ولأن مقصد المبتدىء بالبسملة أن يكون جميع عمله ذلك مقارناً لبركة اسم الله تعالى فلذلك ناسب أن يقدر متعلق الجار لفظاً دالاً على الفعل المشروع فيه. وهو أنسب لتعميم التيمن لإجزاء الفعل، فالابتداء من هذه الجهة أقل عموماً، فتقدير الفعل العام يخصص وتقدير الفعل الخاص يعمم وهذا يشبه أن يلغز به. وهذا التقدير من المقدرات التي دلت عليها القرائن كقول الداعي للمُعَرِّس «بالرفاء والبنين» وقول المسافر عند حلوله وترحاله «باسم الله والبركات» وقول نساء العرب عندما يَزفُفْنَ العروس «باليُمْنِ والبركة وعلَى الطائر الميمون» ولذلك كان تقدير الفعل هٰهنا واضحاً.

-9-

وقد أسعف هذا الحذف بفائدة وهي صلوحية البسملة ليَبتَدِىءَ بها كلُّ شارع في فعل فلا يلجأ إلى مخالفة لفظ القرآن عند اقتباسه، والحذف هنا من قبيل الإيجاز لأنه حذف ما قد يصرح به في الكلام، بخلاف متعلقات الظروف المستقرة نحو عندك خير، فإنهم لا يظهرون المتعلق فلا يقولون خير كائن عندك ولذلك عدوا نحو قوله:

فإنك كالليل الذي هو مُدركي

من المساواة دون الإيجاز (يعني مع ما فيه من حذف المتعلق). وإذ قد كان المتعلق محذوفاً تعين أن يقدر في موضعه متقدِّماً على المتعلِّق به كما هو أصل الكلام؛ إذ لا قصد هنا لإفادة البسملة الحَصر، ودعوى صاحب «الكشاف» تقديره مُؤخراً تعمق غير مقبول، لا سيما عند حالة الحذف، فالأنسب أن يقدر على حسب الأصل.

والباء باء الملابسة والملابسة، هي المصاحبة، وهي الإلصاق أيضاً فهذه مترادفات في الدلالة على هذا المعنى وهي كما في قوله تعالى:


وقولهم: «بالرفاء والبنين» وهذا المعنى هو أكثر معاني الباء وأشهرها، قال سيبويه: الإلصاق لا يفارق الباء وإليه ترجع تصاريف معانيها ولذلك قال صاحب «الكشاف»: «وهذا الوجه (أي الملابسة) أعْرَبُ وأحسن» أي أحسن من جعل الباء للآلة أي أدخل في العربية وأحسن لما فيه من زيادة التبرك بملابسة جميع أجزاء الفعل لاسمه تعالى.

والاسم لفظ جُعِل دالاً على ذات حسية أو معنوية بشخصها أو نوعها، وجعله أئمة البصرة مشتقاً من السمو وهو الرفعة لأنها تتحقق في إطلاقات الاسم ولو بتأويل فإن أصل الاسم في كلام العرب هو العلم ولا توضع الأعلام إلا لشيء مهتم به، وهذا اعتداد بالأصل والغالب، وإلا فقد توضع الأعلام لغير ما يهتم به كما قالوا فَجَارِ علم للفَجْرة. فأصل صيغته عند البصريين من الناقص الواوي فهو إما سِمْو بوزن حِمْل، أو سُمْو بوزن قفل فحذفت اللام حذفاً لمجرد التخفيف أو لكثرة الاستعمال ولذلك جرى الإعراب على الحرف الباقي، لأنه لو حذفت لامه لعلة صرفية لكان الإعراب مقدراً على الحرف المحذوف كما في نحو قاضٍ وجَوارٍ، فلما جرى الإعراب على الحرف الباقي الذي كان ساكناً نقلوا سكونه للمتحرك وهو أول الكلمة وجلبوا همزة الوصل للنطق بالساكن؛ إذ العرب لا تستحسن الابتداء بحرف ساكن لابتناء لغتهم على التخفيف، وقد قضوا باجتلاب الهمزة وطراً ثانياً من التخفيف وهوعود الكلمة إلى الثلاثي لأن الأسماء التي تبقى بالحذف على حرفين كيدٍ ودمٍ لا تخلو من ثِقل، وفي هذا دليل على أن الهمزة لم تجتلب لتعويض الحرف المحذوف وإلا لاجتلبوها في يدٍ ودمٍ وغدٍ.

وقد احتجوا على أن أصله كذلك بجمعه على أسماء بوزن أفعال، فظهرت في آخره همزة وهي منقلبة عن الواو المتطرفة إثر ألف الجمع، وبأنه جمع على أساميّ وهو جمع الجمع بوزن أفاعيل بإدغام ياء الجمع في لام الكلمة ويجوز تخفيفها كما في أثافِي وأَماني، وبأنه صُغِّر على سُمَي.

-10-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم

آخر تعديل بواسطة admin ، 12-11-2010 الساعة 02:30 PM
رد مع اقتباس
 
 
  #74  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 11-13 من 13

تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 11-13 من 13

{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

وأن الفعل منه سمَّيْت، وهي حجج بينة على أن أصله من الناقص الواوي. وبأنه يقال سُمىً كهدى؛ لأنهم صاغوه على فُعَل كرُطَب فتنقلب الواو المتحركة ألفاً إثر الفتحة وأنشدوا على ذلك قول أبي خالد القَنَاني الراجز:

واللَّهُ أَسْمَاكَ سُمًى مُبارَكاً
آثَرَكَ اللَّهُ بِهِ إِيثَارَكا


وقال ابن يعيش: لا حجة فيه لاحتمال كونه لغة من قال سُم والنصب فيه نصب إعراب لا نصب الإعلال، ورده عبد الحكيم بأن كتابته بالإمالة تدل على خلاف ذلك. وعندي فيه أن الكتابة لا تتعلق بها الرواية فلعل الذين كتبوه بالياء هم الذين ظنوه مقصوراً، على أن قياسها الكتابة بالألف مطلقاً لأنه واوي إلا إذا أريد عدم التباس الألف بألف النصب. ورَأْيُ البصريين أرجح من ناحية تصاريف هذا اللفظ. وذهب الكوفيون إلى أن أصله وِسْم بكسر الواو لأنه من السمة وهي العَلامة، فحذفت الواو وعوضت عنها همزة الوصل ليبقى على ثلاثة أحرف ثم يتوسل بذلك إلى تخفيفه في الوصل، وكأنهم رأوا أن لا وجه لاشتقاقه من السمو لأنه قد يستعمل لأشياء غير سامية وقد علمتَ وجه الجواب، ورأي الكوفيين أرجح من جانب الاشتقاق دون التصريف، على أن همزة الوصل لم يعهد دخولها على ما حذف صدره وردوا استدلال البصريين بتصاريفه بأنها يحتمل أن تكون تلك التصاريف من القلب المكاني بأن يكون أصل اسم وسم، ثم نقلت الواو التي هي فاء الكلمة فجعلت لاماً ليتوسل بذلك إلى حذفها ورد في تصرفاته في الموضع الذي حذف منه لأنه تنوسي أصله، وأجيب عن ذلك بأن هذا بعيد لأنه خلاف الأصل وبأن القلب لا يلزم الكلمة في سائر تصاريفها وإلا لما عرف أصل تلك الكلمة. وقد اتفق علماء اللغة على أن التصاريف هي التي يعرف بها الزائد من الأصلي والمنقلب من غيره. وزعم ابن حزم في كتاب «الملل والنحل» أن كلا قولي البصريين والكوفيين فاسد افتعله النحاة ولم يصح عن العرب وأن لفظ الاسم غير مشتق بل هو جامد وتطاول ببذاءته عليهم وهي جرأة عجيبة، وقد قال تعالى:

{ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل16: 43].

وإنما أقحم لفظ اسم مضافاً إلى علم الجلالة إذ قيل: (بسم الله) ولم يقل بالله لأن المقصود أن يكون الفعل المشروع فيه من شؤون أهل التوحيد الموسومة باسم الإلٰه الواحد فلذلك تقحم كلمة اسم في كل ما كان على هذا المقصد كالتسمية على النسك قال تعالى:

{ فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام6: 118] وقال:
{ وَمَا لَكُم أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ } [الأنعام6: 119]

وكالأفعال التي يقصد بها التيمن والتبرك وحصول المعونة مثل:

-11-

{ اقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ } [العلق96: 1]

فاسم الله هو الذي تمكن مقارنته للأفعال لا ذاته، ففي مثل هذا لا يحسن أن يقال بالله لأنه حينئذٍ يكون المعنى أنه يستمد من الله تيسيراً وتصرفاً من تصرفات قدرته وليس ذلك هو المقصود بالشروع، فقوله تعالى:

{ فَسَبِّح بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ } [الواقعة56: 74]

أَمْرٌ بأن يقول سبحان الله، وقوله:

{ وَسَبِّحْهُ } [الإنسان76: 26]

أمْرٌ بتنزيه ذاته وصفاته عن النقائص، فاستعمال لفظ الاسم في هذا بمنزلة استعمال سمات الإبل عند القبائل، وبمنزلة استعمال القبائل شعار تعارفهم، واستعمال الجيوش شعارهم المصطلح عليه. والخلاصة أن كل مقام يقصد فيه التيمن والانتساب إلى الرب الواحد الواجب الوجود يعدى فيه الفعل إلى لفظ اسم الله كقوله:

{ وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرِيهَا وَمُرْسَاهَا } [هود11: 41]

وفي الحديث في دعاء الاضطجاع: " باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك أرفعه " وكذلك المقام الذي يقصد فيه ذكر اسم الله تعالى كقوله تعالى: { فسبح باسم ربك العظيم } أي قل سبحان الله:

{ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى } [الأعلى87: 1]

وكل مقام يقصد فيه طلب التيسير والعون من الله تعالى يعدى الفعل المسؤول إلى علم الذات باعتبار ما له من صفات الخلق والتكوين كما في قوله تعالى:

{ فَاسْجُد لَهُ } [الإنسان76: 26]

وقوله في الحديث: " اللهم بك نصبح وبك نمسي " أي بقدرتك ومشيئتك وكذلك المقام الذي يقصد فيه توجه الفعل إلى الله تعالى كقوله تعالى: { فاسجد له } { وسبحه } أي نزه ذاته وحقيقته عن النقائص. فمعنى (بسم الله الرحمٰن الرحيم) أقرأ قراءة ملابسة لبركة هذا الاسم المبارك.

هذا وقد ورد في استعمال العرب توسعات في إطلاق لفظ الاسم مرة يعنون به ما يرادف المسمى كقول النابغة:

نبئتُ زُرعة والسفاهةُ كاسمهايُهدى إليَّ غرائبَ الأَشعار


يعني أن السفاهة هي لا تُعرَّف للناس بأكثر من اسمها وهو قريب من استعمال اسم الإشارة في قوله تعالى:

{ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُم أُمَّةً وَسَطاً } [البقرة2: 143].

أي مثل ذلك الجعل الواضح الشهير ويطلقون الاسم مقحماً زائداً كما في قول لبيد:

إلى الحولِ ثم اسم السلام عليكُما


يعني ثم السلام عليكما وليس هذا خاصاً بلفظ الاسم بل يجىء فيما يرادفه مثل الكلمة في قوله تعالى:

{ وَأَلْزَمَهُم كَلِمَةَ التَّقْوَى } [الفتح48: 26]

وكذلك «لفظ» في قول بشار هاجياً:

وكذاك، كان أبوك يؤثر بالهُنَىويظل في لَفْظِ النَّدى يتَرَدَّد


وقد يطلق الاسم وما في معناه كنايةً عن وجود المسمى، ومنه قوله تعالى:

{ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُم } [الرعد13: 33]

والأمر للتعجيز أي أثبتوا وجودهم ووضعَ أسماء لهم. فهذه اطلاقات أخرى ليس ذكر اسم الله في البسملة من قبيلها، وإنما نبهنا عليها لأن بعض المفسرين خلط بها في تفسير البسملة، ذكرتها هنا توضيحاً ليكون نظركم فيها فسيحاً فشدوا بها يداً ولا تتبعوا طرائق قدداً.

وقد تكلموا على ملحظ تطويل الباء في رسم البسملة بكلام كله غير مقنع، والذي يظهر لي أن الصحابة لما كتبوا المصحف طولوها في سورة النمل للإشارة إلى أنها مبدأ كتاب سليمان فهي من المحكي، فلما جعلوها علامة على فواتح السور نقلوها برسمها، وتطويل الباء فيها صالح لاتخاذه قدوة في ابتداء الغرض الجديد من الكلام بحرف غليظ أو ملون.

-12-

والكلام على اسم الجلالة ووصفه يأتي في تفسير قوله تعالى:

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة1: 2، 3].

ومناسبة الجمع في البسملة بين علم الجلالة وبين صفتي الرحمٰن الرحيم، قال البيضاوي إن المُسمِّي إذا قصَد الاستعانة بالمعبود الحق الموصوف بأنه مُولي النعم كلها جليلها ودقيقها يذكر عَلَم الذات إشارة إلى استحقاقه أن يستعان به بالذات، ثم يذكر وصف الرحمٰن إشارة إلى أن الاستعانة على الأعمال الصالحة وهي نعم، وذكر الرحيم للوجوه التي سنذكرها في عطف صفة الرحيم على صفة الرحمٰن.

وقال الأستاذ الإمام محمد عبده: إن النصارى كانوا يبتدئون أدعيتهم ونحوها باسم الأب والابن والروح القدس إشارة إلى الأقانيم الثلاثة عندهم، فجاءت فاتحة كتابِ الإسلام بالرد عليهم موقظة لهم بأن الإلٰه الواحد وإن تعددت أسماؤه فإنما هو تعدد الأوصاف دون تعدد المسميات، يعني فهو رد عليهم بتغليظ وتبليد. وإذا صح أن فواتح النصارى وأدعيتهم كانت تشتمل على ذلك - إذ الناقل أمين - فهي نكتة لطيفة.

وعندي أن البسملة كان ما يرادفها قد جرى على ألسنة الأنبياء من عهد إبراهيم عليه السلام فهي من كلام الحنيفية، فقد حكى الله عن إبراهيم أنه قال لأبيه:

{ يَاأَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَـنِ } [مريم19: 45]، وقال:
{ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم19: 47]

ومعنى الحفي قريب من معنى الرحيم. وحُكِي عنه قوله:

{ وَتُب عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة2: 128].

وورد ذكر مرادفها في كتاب سليمان إلى ملكة سبأ:

{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ *أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } [النمل27: 30، 31].

والمظنون أن سليمان اقتدى في افتتاح كتابه بالبسملة بسنة موروثة من عهد إبراهيم جعلها إبراهيم كلمة باقية في وارثي نبوته، وأن الله أحيا هذه السنة في الإسلام في جملة ما أوحى له من الحنيفية كما قال تعالى:

{ مِلَّةَ أَبِيكُم إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } [الحج22: 78].

-13-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم

آخر تعديل بواسطة admin ، 12-11-2010 الساعة 03:21 PM
رد مع اقتباس
 
 
  #75  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 29

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 29


{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

أعلموا - أيّها المعتنون بفهم معاني الكتاب هداكم الله طريق الصواب - أنّ هاهنا أبحاثاً لفظية بعضها متعلقة بنقوش الحروف وهيئآتها الكَتبيّة، وصُوَر الألفاظ وصفاتها السمعيّة، قد نصب الله لها أقواماً من الكُتّاب والقُرّاء والحفّاظ، وجعلَ غايةَ سعيهم معرفة تجويد قراءتها وتحسين كتابتها وبعضها متعلّقة بمعرفة أحوال الأبنية والاشتقاقات، وأحوال الإعراب والبناء للكلمات، وبعضها متعلّقة بمعرفة أوائل مفهومات اللغات المفردة والمركّبة.

وهذه كلها دون ما هو المقصد الأقصى والمنزل الأسنى. وقد بلغتْ في كل منها طائفة حد المنتهى، وعرجت فيها غاية المدى، قد نصبهم الله لكسب هذه العلوم الجزئية المتوقّف عليها فهم حقائق القرآن، لتكون درجتهم درجة الخوادم والآلات لِما هو بالحقيقة الثمرة والتمام، وما به كمال نوع الإنسان.

فاعلموا أن الكلام مشتمل على عبارة وإشارة، كما أن الإنسان متألّف الوجود من غيب وشهادة، فالعبارةُ لأهل الرعاية، والاشارة لأهل العناية، فالعبارة كالميّت المستتر فى طيّ الأكفان، والاشارة كاللطيفة الذاكرة العارفة التي هي حقيقة الإنسان، والعبارة من عالَم الشهادة، والاشارة من عالَم الغيب، والشهادة ظلّ الغيب، كما أنّ تشخّص الإنسان ظلّ حقيقته.

أما أهل العبارة والكتابة، فقد صرَفوا أعمارَهم في تحصيل الألفاظ والمباني، وغرقت عقولُهم في إدراك البيان والمعاني. وأما اهل القرآن والكلام وأهل الله خاصّة بالمحبّة الإلهية والجذبة الربانية والقرابة النبوية، فقد يسّر الله لهم السبيل، وقَبِل منهم قليل العَمَل للرحيل، وذلك لخلوص نيّتهم، وصفاءِ سريرتهم، فهم لا يحتاجون في فهم حقائق القرآن وغرائب معانيه إلى أن يخوضوا في البحث عن ظواهر ألفاظ الكلام وغرائب القرآن، وضبط هيئاته ومبانيه، وبصرف العمر في معرفة الاشتقاق والإعراب ليصيروا فُرساناً في علم الإعراب، مقدَّمين في جملة الكتاب، ويفرغوا غاية جهدهم في الأوقات والأزمان في تحصيل ما يسمّونه علم المعاني والبيان، وما يجري هذا المجرى في الرتبة والشّأن، بل كفاهم طرف يسير من كل فنّ منها، وجرعة قليلة من كل دنّ من دنّها، أخذاً للزاد، وتعجيلاً لسفر المعاد.

فمن أراد أن يقف على أنه لِمَ طُوِّلت الباءُ في " بسم الله " ومُدّت السين؟ أو لِمَ حُذفت الألف في الخطّ هنا، واثبتت في قوله " باسم ربّك " أو لِمَ أسقطت الألف بعد اللام في " الله " أو هل تفخم لام الجلالة أم لا، فليرجع إلى أهل الخط والقراءة.

ومن أراد أن يقف على أن البسملة ما شأنها في أوائل السور الكريمة. هل هي هناك جزء من كلّ واحدة، أو أنّها جزء من الفاتحة وحدها لا غير، أو أنّها ليست جزء من شيء منها، بل هي آية فذّة من القرآن، أو انزلت للفصل بها بين السور، أو أنها لم تنزل إلا بعض آية في سورة النمل، وليست جزءً من غيرها، وإنما يأتي بها التالي والكاتب في أوائلهن تبرّكاً باسمه تعالى.

-1-

أو أنها آيات من القرآن أنزلت بعَدَد السوَر المصدّرة بها من دون الجزئية لهن، فليرجع إلى أصحاب النقل وأهل الرواية.

ومن أراد أن يعرف بِمَ تعلّقت الباء، وبأي محذوف ارتبطت، ولِمَ قدّر المحذوف متأخّراً مَن قال: إن المراد بسم الله أقرأ أو أتلوا، وقد قدّمه تعالى في قوله إقْرأ بِاسْمِ رَبِّكَ وما معنى تعلق اسم الله بالقراءة. أو كيف يقدر كذلك والقائل هو الله أو كيف بُنيت الباء على الكسرة ومن حقّ حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تُبنى على الفتحة التي هي أخت السكون، نحو كاف التشبيه، ولام الابتداء، وواو العطف، وفائه، وغير ذلك، وأن كلمة الجلالة إسم هي أو صفة مشتقة، أم جامدة، فليرجع إلى مطالعة التفاسير المشهورة، سيّما الكشّاف، فإنه كامل في بابه فائق على أترابه، وإن لكلّ طائفة فيما يعدّونه تقرّباً إلى الله وعبودية له رأياً ومذهباً، والكل باختلاف مشاربهم ومذاهبم إيّاه يطلبون، ونحوه يقصدون، وبما لديهم فرحون، وبما جاء به غيرهم - وإن كان على بيّنة من ربه - يستهزئون " وللناس فيما يعشقون مذاهب " إلا أنّ مذهب أهل الله شيء آخر، ودينهم دين خالص، بل لا مذهب لهم إلا الله ولا دين لهم سواه:

{ أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [الزمر39: 3].

مذاهب شتّى للمحبّين في الهوىولي مذهب فرد أعيشُ به وحدي


وهم عِبادُ الرَّحمنِ بالحقيقة، وغيرهم عَبدَة المذاهب والآراء، وطلاّب النفس والهَوى، لأنّ عبادة الرب وطاعته فرعُ معرفته، وطلب قربته، إذ طلب المجهول محال، فمَن لم يكن عارفاً بالله ولا عارفاً بملكوته، فكيف يحبّه ويطلبه ويقصد التقرّب إليه ويتولاّه. ولكن الحق لكمال رأفته ورحمته لعباده وشمول عاطفته وانبساط نور وجوده على الممكنات، وتجلّي وجه ذاته لسائر الموجودات، جعل لكل منهم مثالاً يحتذونه، ومثابة يقصدونها، ومنهاجاً يسلكونه، ووجهة يتولّونها، وقبلة يرضونها، وشريعة يعملون بها فقال:

{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً } [البقرة2: 148]. وقال:
{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [المائدة5: 48]. الآية، وقال:
{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم30: 32].


وهكذا حكم اختلاف المشتغلين بعلم القرآن، وتفاوت مراتبهم في بطونه وظهوره، ولُبابه وقشوره، لأن كلام الله لَمعة من لمعات ذاته، فكما وقع الاختلاف والتفاوت في مذاهب الخلْق واعتقاداتهم لله بين مجسِّمٍ ومنزِّهٍ ومتفلسِفٍ ومعطِّلٍ ومشرِكٍ وموحِّدٍ، فكذا وقع الاختلاف والتفاوت بينهم في الفهوم، فهذا مما دلّ على كمال القرآن، لأنه بحر عميق غرق في تيّاره الأكثرون، وما نجا منه إلاّ الأقلّون، ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون، سواء وقع الوقفُ على الله أم لا، إذ الراسخون إذا علموا تأويله لم يعلموا إلا بالله، ولم يحيطوا به علماً إلا بعد فناء ذواتهم عن ذواتهم، واندكاك جبل هويّاتهم، ولا يحيطون بعلمه إلاّ بما شاء.

-2-

والغرض من هذا الكلام أن علم القرآن مختلف. والأذواق فيه متفاوتة حسب اختلاف أهل الاسلام في المذاهب والأديان، وكل حزب بما لديهم فرِحُون، إلا ان سائر المشتغلين به منهم في وادٍ وأهل القرآن - وهم أهل الله وحزبه - في وادٍ لأنهم من أهل القول والعبارة، وهؤلاء من أهل الكشف والاشارة، ومن أراد أن يتقحّم لجّة هذا البحر العميق، ويخوض غمرته خوض الجَسور لا خوض الجبان الحَذور، كان يجب عليه أولاً أن يطلع على سائر التفاسير، ويتفحّص عن عقيدة كل فِرقة من الفرق الإثنتين والسبعين. ويستكشف أسرار مذاهب كل طائفة من طوائف المسلمين، ليميز بين محقّ ومبطل، ومتديّن ومبتدع، ويكون كما حكى الشيخ أبو حامد عن نفسه: لا يغادر باطنيّا إلاّ ويريد أن يطّلع على بطانته، ولا ظاهرياً الاّ ويقصد أن يعلم حاصل ظهارته، ولا فيلسوفاً إلا ويتحرّى الوقوف على كنه فلسفته ولا متكلّماً إلا ويجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيّاً إلا ويحرص على العثور على سرّ صفوته، ولا زنديقاً أو معطّلاً إلا ويتجسس للتنبّه لأسباب جرأته في زندقته أو تعطيله، وكان لم يزل التعطّش إلى درك حقائق الأمور دأبه وديدنه وغريزياً له، فطرة من الله في جِبِلّته لا باختياره وحيلته، حتّى انحلّت عن قلبه رابطة التقليد، وانكسرت عليه سفينة العقائد الموروثة على قرب الصُبى من الآباء والأساتيذ. إذ قد رأى صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصّر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهوّد، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم على الإسلام، كما دل عليه الحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " كُلّ مولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ فَأبَواهُ يُهودانَه وَينصّرانَه ويُمجّسانه " فإذا بلغ إلى هذا المقام من التحيّر والانضجار والانكسار، والتهبت نارُ نفسه الكامنة فيه لغاية الاضطرار، واشتَعل كبريتُ قلبه ناراً من حدّة غضبه على نفسه لمّا رآها بعين النقص والاحتقار، وكان زيت نور الايمان في قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فوقع عليه نور الأنوار، وانكشف له سرُّ من عالم الأسرار، رأى بذلك النور الجلىّ أصل كل نظر دقيق، وشاهَد بذلك السرّ الخفيّ غاية كلّ شك وتحقيق، ونهاية كلّ مبحث عميق، وبه يحصل له الاقتدار على معرفة أسرار القرآن العظيم واستيضاح لطائف كتاب الله العليم، ومعجزة رسوله الكريم عليه وآله الصلاة والتسليم.

فعند ذلك يخوض فيه ويغوص في بحار معانيه، ويستخرج درراً ويواقيت ينعكس لمعانها على أعين الناظرين في سواحله، وأسماع الواقفين على حواليه، وما ينكشف منها للآدميّين فهو قدْر يسير بالاضافة إلى ما لم ينكشف، لأنه مما استأثره الله بعلمه، فربما تجد أيّها الناظر بعين المروّة والاشفاق من هذا الجنس في هذه الأوراق إن كنت من أهله، وإلاّ فغضّ بصرَك عن ملاحظة أسرار معرفة الله، ولا تنظر إليها ولا تنسرح في ميدان معرفة معاني الوحي والقرآن، واشتغِل بأشعار شعراء العرب وغرائب النحو وعلوم الأدب والفروع، ونوادر الطلاق والعتاق، وحِيَل المجادلة في البحث والمراوغة في الكلام، وسائر الحكايات والمواعظ التي فيها مصيَدةُ العوام، ومجلَبةُ الجاه والحُطام، والغلبة في الخصام، فذلك أليق بك، فإنّ قيمتك على مقدار همّتك، وقصدك على سمْت رتبتك، ولا ينفعكم نصحي ان اردت ان انصح لكم إن كان الله يريد أن يغويَكم من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم.

-3-

فصل

[الاسم]

إسم الإسم موضوع في اللغة للَفظٍ دالٍ على معنى مستقل، لأنّه مشتقٌّ من السِمَة وهي العلامة، فكأنّه كان منقولاً لغوياً نقل من مطلق العلامة للشيء إلى علامة خاصّة، وهو اللفظ الدّال عليه بالاستقلال، ولمّا كان نظرُ العرفاء إلى أصل كلّ شيء وملاك أمره من غير احتجابهم بالخصوصيات ومواد الأوضاع، كان الاسم عندهم أعمّ وأشمل من أن يكون لفظاً مسموعاً، أو صورة معلومة، أو عيناً موجوداً.

ويشبه أن يكون عرفهم يطابق عرف القرآن والحديث، فإنّ الاسم في قوله تعالى:

{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [الأعلى87: 1]. وقوله:
{ تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [الرحمن55: 78]،


مستبعد أن يكون المراد به الحرف والصوت وما يلتئم منهما، لانهما من عوارض الأجسام، وما هو كذلك يكون أخسّ الأشياء، فكيف يكون مسبّحاً مقدّساً، والقول بكونه من قبيل مجاز الحذف، أو المجاز في التشبيه، بعيد من غير ضرورة داعية مع وجود معنى حقيقي، فاسم الله عندهم معنى مقدّس عن وصْمة الحدوث والتجدّد، منزّه عن نقيصة التكوّن والتغيّر، فلهذا وقعت الاستعانة والتبرّك باسمه تعالى في مثل قولك: بِاسْمِ الله اقْرَءُ وبِسْمِ الله اكتُبُ، وجرت العادة بالتوسّل إلى اسم الله لطلب الحوائج وكفاية المهمّات، في مثل: بِسْمِ اللهِ الشَافي بِسْمِ الله الكَافي، وفي الأدعية النبويّة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمِه شيء في الأرضِ ولا في السَّماءِ.

وقد ثبت عند محققي العلماء، أن المؤثّر في جواهر الأكوان ليس إلاّ الباري جلّ اسمه، أو مَلَك مقرّب من ملائكته بإذنه، فلا تأثير للعوارض الجسمانية في الأشياء الجوهريّة ايجاداً وإعداماً، نعَم الأذكار والأدعيّةُ إنّما تؤثّر من جهة معانيها واتّصال النفس عند التذكّر بمباديها الفعّالة، فعالَم الذكر الحكيم منبع إنجاح المهمّات، ومبدأ استيجاب الدعوات، لا مقارعة الحروف والأصوات، وتحرّك الشفتين بالالفاظ والعبارات، وقد مرّ في المفاتيح ما يكشف عن بعض الأسرار المتعلقة بأسماء الله.
فصل

[اسم الله تعالى]

فاسم الله عند أكابر العرفاء، عبارة عن مرتبة الالوهيّة الجامعةِ لجميع الشؤون والاعتبارات، والنعوت والكمالات، المندرجة فيها جميع الأسماء والصفات التي ليست إلاّ لمعات نوره وشؤون ذاته وهي أول كثرة وقعت في الوجود، برزخ بين الحضرة الأحديّة وبين المظاهر الأمريّة والخَلقيّة، وهذا الاسم بعينه جامع بين كلّ صفتين متقابلتين أو اسمين متقابلين، لِما علِمتَ سابقاً أن الذات مع كلّ صفةٍ اسم، وهذه الأسماء الملفوظة أسماء الأسماءِ، والتكثّر فيها بحسب تكثّر النعوت والصفات، وذلك التكثّر إنما يكون باعتبار مراتبه الغيبيّة وشؤونه الإلهية التي مفاتيح الغيب، وتقع عكوسها وأظلالها على الأشياء الكونية.

-4-

فكلّ ما في عالَم الإمكان صورة اسم من أسماء الله، ومظهر شأن من شؤونه، فأسماء الله معان معقولة في غيب الوجود الحقّ، بمعنى انّ الذات الأحدية التي لا سبيل للعقل إلى إدراكها، بحيث لو وجدت في العقل، أو أمكن له أن يلحظها، لكان ينتزع منها هذه المعاني ويصفها بها فالذاتُ الأحدية مع أحديتها وبساطتها مصداق لحمْل هذه المعاني عليها من غير وجود صفة زائدة كما مرّ.

وهذه المعاني - كسائر المفهومات الكليّة - ليست من حيث هي هي موجودة ولا معدومة، ولا عامّةً ولا خاصّةً، ولا كليّة ولا جزئيّة، وليست هي كالهويّات الوجوديّة التي هي موجودات بذواتها، متشخّصات بهويّتها، لأنّها بمنزلة الأشعّة والروابط لوجود الحقّ، متى عُقلت عُقلت مرتبطةً بذاته تعالى، موجودةً بوجوده، واجبةً بوجوبه، بخلاف المعاني الكليّة، لأنّها قد تصير كليّة في الذهن جزئيّة في الخارج، وقد تكون موجودةً في العقل معدومةً في العين، ولها الحكم والأثر فيما له الوجود العيني، بل تنسحب عليها أحكام الوجود بالعرَض، وتتنوّر بنوره، وتنصبغ بصبغه من الوجوب والوحدة والأزلية.

قال بعض أهل الله: الوجود الحق هو الله خاصّة من حيث ذاته وعينه، لا من حيث أسمائه، لأن الأسماء لها مدلولان: أحدهما: عينه، وهو عين المسمّى. والآخر: ما يدلّ عليه مما ينفصل الإسم به عن اسم آخر ويتميّز في العقل، فقد بان لك بما هو كلّ اسم عين الآخر وبما هو غيرُه، فبما هو عينهُ، هو الحقّ، وبما هو غيرُه، هو الحق المتخيَّل الذي كنا بصدده، فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه، ولا يثبت كونه إلا بعينه - انتهى كلامه.

نقولُ: مرادُه من الحقِّ المتخيّل، ما لوّحناه إليك، من أنّ كلاًّ من مفهومات الأسماء الإلهية وإن كان بحسب نفس معناه معرّى عن صفة الوجود الحقيقي من الوجوب والقِدَم والأزلية، إلا أنّه ممّا تجري عليه في نفس الأمر تلك الأحكام، وينصبغ بنور الوجود الأحدي بالعرَض، لأن صفاته عين ذاته، وهذا النحو من العينيّة والاتّحاد بالعَرَض غير ما ألِفَه الجمهور وجَرى عليه اصطلاحهم في الكتب العقلية فيما حكموا عليه بالاتّحاد بالعرَض، لان ذلك عندهم جارٍ في اتّحاد العَرَضيات والمشتقّات المحمولة على موضوعاتها، كاتّحاد مثل الأبيض والأعمى مع زيد مما يشترط فيه قيام معنى المشتق منه ووجوده حقيقة أو إنتزاعاً.

-5-

ومعنى هذا الاتّحاد أنّ الوجود المنسوب أولاً وبالذات إلى زيد مثلاً، هو بعينه منسوب إلى العرَضي المشتق ثانياً وبالعرض، أي على سبيل المجاز، مع تجويز أن يكون لهذا العَرضي نحو آخر من الوجود يوجد به بالذات غير هذا الوجود الذي قد وجد به بالعَرَض، فإنّ مفهوم الأبيض وإن كان متّحداً مع زيد، موجوداً بوجوده، إلا انّ له نحواً آخر من الوجود الخاصّ به في نفسه، فإنّه جوهرُ موجود بالعَرَض، وعَرَض موجود بالذات لِما قد حقّق في مقامه من انّ العرضي عين العرَض الذي هو مبدء اشتقاقه بالذات، فيكون موجوداً بوجوده الجوهري بالعَرَض.

وليس من هذا القبيل اتّحاد المعاني والأعيان الكليّة بحقيقة الوجود، إذ لا يمكن لها ضَرْب آخر من الوجود معرّى عن الوجود، أو منحازاً عنه، لا في نفس الأمر، ولا عند العقل.

فالمعيّة بين ذات الله وأسمائه الحُسنى ليست كالمعيّة بين العَرَضي والذاتي، فضلاً عمّا هو بين العَرَض والجوهر، ولا كمعيّة الذاتيات في الماهيات الامكانية، لأن الحقّ ليس ذا مهية كلية، بل حقيقته ليست إلا وجوداً مقدساً بسيطاً صِرفاً، لا اسم له ولا رسم، ولا إشارة إليه إلا بصريح العرفان، ولا حدّ له ولا برهان عليه إلا بنور العيان، وهو البرهان على كلّ شيء والشاهد في كل عين، فمعنى كون أسمائه وصفاته عين ذاته كما مرّ أنّ الذات الأحديّة بحسب نفس هويّته الغيبيّة، ومرتبة إنّيته الوجوديّة، مع قطع النظر عن انضمام أي معنى أو اعتبار أيّ أمر كان، بحيث تصدق في حقّه هذه الأوصاف الكماليّة والنعوت الجماليّة، وتظهر من نور ذاته في حد ذاته هذه المَحامد القدسية، وتتراءى في شمس وجهه هذه الجلايا النوريّة، والأخلاق الكريمة العليّة، وهي في حدود أنفسها مع قطع لنظر عن نور وجهه وشعاع ذاته، لا ثبوت لها ولا شيئيّة أصلاً، فهي بمنزلة ظلال وعكوس تتمثّل في الأوهام والحواسّ من شيء، وكذلك حكم الأعيان الثابتة وحكم المعاني الذاتيّة لكل موجود.

فجميع الأعيان المعقولة والطبائع الكلية، ما هي عند التحقيق إلاّ نقوش وعلامات دالّة على أنحاء الوجودات الإمكانية، التي هي من رشحات بحر الحقيقة الواجبيّة وأشعّة شمس الوجود المطلق، ومَظاهر أسمائه وصفاته، ومجالي جماله وجلاله، وأمّا نفس تلك الأعيان والماهيات منحازة عن الوجودات الخاصّة، فلا وجود لها أصلاً لا عيناً ولا عقلاً. بل أسماء فقط كما في قوله:

{ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [النجم53: 23].

ولعلّ الكلام انجرّ إلى ما لا تطيق سماعه أسماع الأنام، ويضيق عن فهمه نطاقُ الأفهام.


فصل

[اسم الجلالة]

فإن قلت: هل لمعنى اسم الجلالة حدّ أم لا؟ قلت: الحدّ عند الحكماء قول دالٌّ على تصور أجزاء الشيء ومقوّماته، فما لا جزء له ولا مقوّم لذاته فلا حدّ له، وما لا حدّ له لا برهان عليه، لأنّ الحدّ والبرهان متشاركان في الحدود كما بُيّن في علم الميزان، وإذا تقرّر هذا فلا شبهة في أن ذات الباري لتقدّسه عن شوائب التركيب أصلاً، سواء كان من الأجزاء الوجوديّة أو الحمليّة أو غير ذلك - على ما اقتضاه برهان التوحيد والأحدية -، فلا حدّ له كما لا برهان عليه.

-6-

وأما انّ مفهوم لفظ الله هل له حدّ أم لا؟ فالحقّ هو الأول، لأن معناه الموضوع له معنى مجمل متضمن لمعاني جميع الصفات الكماليّة، فكلّ معنى من معاني أسماء الله يكون جزءاً لمعنى هذا الاسم عند التفصيل، وقد تقرّر أن الفرق بين الحدّ والمحدود ليس إلا بالإجمال والتفصيل، وأن التفاوت بين المعنى الإجمالي والمعنى التفصيلي له ليس إلاّ بحسب الإدراك ومن جهة الملاحظة دون المدرَك والملحوظ؛ فإن الألفاظ المذكورة في حد الشيء، تدل على ما دل عليه لفظ المحدود بعينه بدلالة تفصيلية.

وليس من شرط الحدّ أن يكون مؤلَّفاً من جنسٍ وفصلٍ من أجزاء الشيء، سواء كان بعضها أعم من بعضٍ مطلقاً، أو من وجه، أو كانت متساوية، وسواء كانت أجزاء محمولة أو متباينة، إلا انّ المشهور أنّ الحدّ لا يكون إلا من جنس وفصل لما رأو ان الطبائع النوعيّة الواقعة تحت إحدى المقولات العشر المشهور حدودها لا تكون إلاّ كذلك.

والحقّ أن كلّ اسم وُضِع لمعنى واحد جمليّ متألّف من معانٍ متعددة عند التفصيل بالفعل أو بحسب - التحليل، يدلّ عليها ألفاظ متعددة، يكون الأول محدوداً والثاني حداً، وهكذا معنى اسم الله بالقياس إلى معاني جميع الأسماء الحسنى، فإنّ نسبتها إليه نسبة الحدّ إلى المحدود، إذ التفاوت ليس إلا بنحو الملاحظة مرّة إجمالاً ومرّة تفصيلاً، وهذا مما لا يخلّ ببساطة الذات المقدسة، وأحديّة الوجود القيّومي تعالى عن التصوّر والتمثّل والتخيّل والتعقّل لغيره فإنّ كل ما يدركه العقل من معاني الأسماء بحسب مفهوماتها اللغوية أو الإصطلاحيّة، فهي خارجة عن ساحة جناب العزّ والكبرياء، وانّما يجد الذهن سبيلاً إليها من ملاحظة مَظاهرها ومَجاليها، ومن مشاهدة مربوباتها ومَحاكيها.

قال في الفصّ النحوي: إن للحقّ في كلّ خلْق ظهوراً خاصّاً. فهو الظاهر في كلّ مفهوم وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال إنّ العالَم صورته وهويّته. وهو الاسم الظاهر، كما أنّه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الاسم الباطن، فنسبته لما ظهر من صورة العالَم نسبة الروح المدبّر للصورة، فيؤخذ في حدّ الإنسان - مثلاً - باطنه وظاهره، وكذلك كلّ محدود، فالحقّ محدود بكل حدّ وصوَر العالَم لا تنضبط ولا يُحاط بها، ولا يعلم حدود كلّ صورة منها إلا على حدّ ما حصل لكل عالَم من صَوره، فلذلك يجهل حدّ الحقّ، فإنه لا يعلم إلا من يعلم حدّ كل صورة، وهذا محال، فحدّ الحقّ محال.

-7-

ثم قال: فحدّ الألوهيّة له بالحقيقة لا بالمجاز - انتهت ألفاظه.

ويتلخّص من كلماته: أن مسمّى لفظ الله هو المنعوت بميع الأوصاف الكماليّة والنعوت الإلهيّة، لما تقرّر عندهم، أنّه ما من نعْتٍ إلاّ وله ظلٌّ ومظهر في العالَم، وثبت أيضاً أن الإشتراك بين معنى كلّ اسم ومظهره ليس بمجرّد اللفظ فقط، حتّى تكون الألفاظ العلم والقدرة وغيرهما موضوعة في الخالِق لمعنى وفي المخلوق لمعنى آخر، وإلا لم تكن - هذه المعاني فينا دلائل وشواهد على تحقّقها في الباري على وجه أعلى وأشرف، والمتحقّق خلافه، فبطل كون الإشتراك لفظيّاً فقط، بل يكون معنويّاً، إلا انّ هذه المعاني تكون هنا في غاية القصور والنقص، وهناك في غاية العظمة والجلالة.

فتكون الأسماء الإلهيّة مع مظاهرها ومجاليها الكونيّة متّحدة المعنى، سواء كانت المظاهر من الصوَر الحسيّة الموجودة في عالَم الشهادة، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الإسم " الظاهر " كالسميع والبصير والمتكلم، ومظاهرها المختلفة المدرَكة بإدراك الحواسّ الظاهرة، أو كانت من الصوَر العقليّة الموجودة في عالَم الغيب العقلي، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الاسم " الباطن " كالسبّوح والقدّوس، ومظاهرها المتنوّعة المندرجة في عالم الأمر، المدركة بالمدارك الباطنية العقلية.

وقد عرفت أنّ حدّ الشيء عبارة عن صوَر عقليّة تفصيليّة يدلّ عليها بألفاظ متعدّدة دالّة على ما يدلّ عليه لفظ واحد، بأن يكون لحقيقة واحدة كالإنسان مثلاً صورتان إدراكيّتان، إحداهما موجودة بوجود واحد إجمالي، والأخرى موجودة بوجودات متعدّدة تفصيليّة، فيقال للمفصّلة إنّها حدّ، وللمجمل إنّه محدود، فعلى هذا يلزم أن تكون مفهومات جميع الأسماء الإلهيّة ومظاهرها الكونيّة التي هي أجزاء العالَم ظاهراً وباطناً على كثرتها حدّاً حقيقيّاً لمفهوم اسم الله، فيلزم أن يكون جميع معاني حقائق العالَم حداً لاسم الله، كما انّ جميع معاني الأسماء الإلهيّة حدّ له، إلاّ انّ سائر الحدود للأشياء المحدودة يمكن إحاطة العقل البشري لأجزائها، بخلاف معاني أجزاء هذا الحدّ، لأنّها غير محصورة، والمراد من لفظ الحقّ في قوله فالحقّ محدود بكلّ حدّ هو مفاد لفظ الله باعتبار معناه الكلي ومفهومه العقلي، لا باعتبار حقيقة معناه التي هي الذات الأحديّة وغيب الغيوب، إذ لا نعت له ولا حدّ ولا اسم ولا رسم ولا سبيل إليه للإدراك العقلي، ولا ينال أهل الكشف والشهود لمعة من نوره إلا بعد فناء هويّتهم واندكاك جَبَل إنيّتهم.

ويؤيّد هذا ما ذكره في الفصّ الاسماعيلي: اعلم أنّ مسمّى لفظة الله أحديٌّ بالذات، كلٌّ بالأسماء، وكلّ موجود فما له من الله إلاّ ربّه خاصّة، يستحيل أن يكون له الكلّ.

وأمّا الأحديّة الإلهيّة فما لواحد فيها قدم لا أنه ينال الواحد منها شيئاً والآخر منها شيئاً، لأنّها لا تقبل التبعيض، فأحديّته مجموع كلّه بالقوّة.
انتهى.


-8-

فصل

[الانسان الكامل هو العبد الحقيقي]

اعلم يا وليي - نوّر الله قلبك بالايمان - أنّ أكثر الناس لا يعبدون الله من حيث هو الله، وإنّما يعبدون معتقداتهم في ما يتصوّرونه معبوداً لهم، فآلهتهم في الحقيقة أصنام وهميّة يتصوّرونها وينحتونها بقوة اعتقاداتهم العقليّة أو الوهميّة، وهذا هو الذي أشار إليه عالم من أهل البيت (عليهم السلام) وهو محمّد بن علي الباقر (عليه السلام): كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مصنوع مثلكم مردود إليكم - الحديث.

اي فلا يعتقد معتقِدٌ من المحجوبين الذين جعلوا الإله في صوَر معتقَدهم فقط إلهاً، إلاّ بما جعل في نفسه وتصوّره بوهمه، فإلهه بالحقيقة مجعول لنفسه، منحوتٌ بيد قوّته المتصرّفة، فلا فرق بين الأصنام التي اتّخذت إلهاً وبينه في أنه مصنوع لنفوس، سواء كانت في خارجها أو في داخلها، بل الأصنام الخارجيّة أيضاً إنّما عبدت من جهة اعتقاد الألوهيّة مِن عابِدها في حقّها، فالصَور الذهنيّة معبودة لهم حينئذ بالذّات، والصورة الخارجيّة معبودة لهم بالعرَض، فمعبود عبدّة الأصنام كلّهم ليست إلاّ صوَر معتقداتهم وأهواء أنفسهم، كما أشير إليه في قوله تعالى:

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية45: 23].

فكما أنّ أصحاب الأصنام الجسميّة يعبدون ما عملته أيديهم، فكذلك أصحاب الإعتقادات الجزئية في حقّ الحقّ يعبدون ما كسبته أيدي عقولهم، فحقَّ عليهم وعلى معبودهم قوله:

{ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [الأنبياء21: 67].

وكذا قوله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ }.


وابن الزبعري لقصوره عن إدراك هذا المعنى، اعترض على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأنّه قد عبدت الملائكة والمسيح، ولم يعلم هو ومن في مرتبته إن معبود عبدَة الملائكة والمسيح هو من عمَل الشيطان، وأمّا الكمّل من العرفاء، فهم الذين يعبدون الحقّ المطلَق المسمى باسم الله من غير تقييد باسم خاصّ وصفة مخصوصة، فيتجلى لهم الحقّ المنعوت بجميع الأسماء، وهم لا ينكرونه في جميع التجلّيات الأسمائية والأفعاليّة والآثاريّة، بخلاف المحجوب المقيّد الذي يعبُد الله على حرْفٍ فإنْ أصابه خير اطمأنّ به وإن اصابتْه فتنة انقلب عَلى وجهِه.

وذلك لغلبة أحكام بعض المواطن واحتجاب بعض المَجالي عن بعض في نظره، ومن هذا الاحتجاب ينشأ الإختلاف بين الناس في العقائد، فينكر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، وكلّ أحد يثبت للحقّ ما ينفيه الآخر، ويظنّ ما يراه، ويعتقد غاية الإجلال والتعظيم له تعالى وينكر غير ذلك، وقد أخطأ وأساء الأدب في حقّ الحقّ وهو عند نفسه أنّه قد بلغ الغاية في المعرفة والتأدّب، وكذلك كثير من أهل التنزيه، لغلبة أحكام التجرّد عليهم، فهم محتجبون كبعض الملائكة بنور التقديس، وهم في مقابلة المشبّهة المحتجبة بظُلَم التجسيم كالحيوانات.

وأما الإنسان الكامل، فهو الذي يعرف الحقّ بجميع المشاهد والمشاعرَ، ويعبده في جميع المواطن والمظاهر، فهو عبدُ الله يعبده بجميع أسمائه وصفاته، ولهذا سمّي بهذا الاسم أكمل أفراد الإنسان محمّد (صلى الله عليه وآله)، فإنّ الاسم الإلهي، كما هو جامع لجميع الأسماء، وهي تتّحد بأحديّته الجمعيّة، كذلك طريقه جامع طُرق الأسماء كلّها وإن كان كلّ واحد من تلك الطُرق مختصّاً باسم يربّ مظهره ويعبد ذلك المظهر من ذلك الوجه، ويسلك سبيله المستقيم الخاصّ به، وليس الطريق الجامع لطُرق سائر المظاهر إلا ما سلكه المظهر الجامع النبوي الختمي - على الشارع فيه وآله أفضل صلوات الله وتسليماته - وسلكه خواصّ أمّته الذين هم خير الأمم، وهو طريق التوحيد الذي عليه جميع الأنبياء والأولياء سلام الله عليهم أجمعين.

-9-

ويؤيّد ذلك ما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انّه لما أراد أن يبيّن ذلك للنّاس، خطَّ خطّاً مستقيماً، ثم خطَّ من جانبيه خطوطاً خارجة من ذلك الخط، وجعل الأصل الصراط المستقيم الجامع، وجعل الخطوط الخارجة منها سُبل الشيطان، كما قال تعالى:

{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام6: 153].

يعني السبيل التي لكم فيها السعادة والنجاة، وإلا فالسُبل كلها إليه لأن الله منتهى كلّ قصد وغاية كل مقصود، ولكن ما كلُّ من رجع إليه وآب سعد ونجى عن التفرقة والعذاب فسبيل السعادة واحدة،

{ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [يوسف12: 108]


وأما سائر السُبل، فغايتها كلها إلى الله أولاً ثم يتولاّه الرحمن آخراً ويبقى حكم الرحمن فيها إلى الأبد الذي لا نهاية لبقائه وهذه مسألة عجيبة لم أجد على وجه الأرض من عرفها حقّ المعرفة.


فصل

الله و " هو "

اعلم إن نسبة اسم " هو " إلى اسم " الله " كنسبة الوجود إلى المهيّة في الممكن إلا انّ الواجب تعالى لا مهيّة له سوى الإنيّة وقد مرّ انّ مفهوم اسم الله ممّا له حدّ حقيقي إلا انّ العقول قاصرة عن الإحاطة بجميع المعاني الداخلة في حدّه لأنه إنّما عرفت صورة حدّه إذا عرفت صور حدود جميع الموجودات، وإذ ليس فليس وأما إسم " هو " فلا حدّ له ولا إشارة إليه، فيكون أجلّ مقاماً وأعلى مرتبة، ولهذا يختص بمداومة هذا الذكر الشريف الكُمّلُ الواصلون.

والنكتة فيه؛ أنّ العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته، لم يكن مستغرقاً في معرفة الله، لأنه إذا قال " يا رحمن " فحينئذ يتذكّر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها، فيكون طالباً لحظّه، وكذا إذا قال: يا كريم يا محسن يا غفّار يا وهّاب يا منتقم. وإذا قال: يا مالك، فحينئذ يتذكّر ملكَه وملكوتَه وما فيه من أقسام النعَم ولطائف القِسَم، فيميل طبعُه إليها ويطلب شيئاً منها، وقس عليه سائر الأسماء.

-10-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #76  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 11-20 من 29

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 11-20 من 29



{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

وأما إذا قال " يا هو " وانّه يعرف انّه تعالى هويّة صرْفة لا يشوبه عموم ولا خصوص، ولا تكثّر وتعدد، ولا تناه وحدّ، فهذا الذكر لا يدلّ على شيء ألبتّة، إلا محض الإنيّة التامّة التي لا يشوبه معنى يغايره، فحينئذ يحصل في قلبه نورُ ذكرِه، ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولّدة عن ذكر غير الله، وهنالك النور التامّ والكشف الكامل.

نكتة اخرى

[الاسم " هو " ]

انّ جميع صفات الله المعلومة عند الخلق، إما صفات الجلال، وإما صفات الإكرام. أما الأولى: فكقولنا: إنّه ليس بجسمٍ ولا جوهرٍ ولا عرَضٍ، ولا في مكان، وهذا فيه وقيعة، كمن خاطَب السلطان بأنك لستَ أعمى ولا أصمّ ولا كذا وكذا وصار يعدّ أنواع المعائب والنقائص، فإنّه يُنسب إلى إساءَة الأدب، ويستوجب الزجْر والتأديب.

وأما صفات الإكرام: فككونه خالقاً للخلائق، رازقاً للعباد، وهذا ايضاً فيه وقيعة من وجهين.

الأول: إنّ كمال الصانع أجلّ وأعلى من أن يوصف بصنعه، وخصوصاً الفيّاض الذي ليس فعله إلاّ على سبيل الرشح والفيض.

والثاني: إن الرجل إذا أخذ يمدح سلطاناً قاهراً يملك وجه الأرض برّاً وبحراً بأنّه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز وقطرة ماء، فإنّه يستوجب المقْت والزجْر والحَجْر، ومعلوم انّ نسبة جميع المخلوقات - من الفْرش إلى العرش - إلى ما في خزائن الله - لكونها نسبة متناهٍ إلى غير متناهٍ - أقلّ من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا، فإذا كان ذلك سوء أدب، فهذا بالطريق الأولى، إلا انّ هنا سبباً يرخّص في ذكر هذه المدائح، وهو انّ النفس صارت مستغرقة في عالَم الحسّ والخيال، وإذا اريد جذبها إلى عتبة عالَم القدس، احتيج إلى أن يتنبّه على كمال الحضرة المقدّسة، ولا سبيل إلى معرفة كمال الله وجلاله إلاّ بهذين الطريقين، أعني ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام.

ثمّ إذا واظَب الإنسان على هذين النوعين من الأذكار حتى يعرض عن عالَم الحسّ، ويستأنس الوقوف على عتبة القُدس، فبعد ذلك تنبّه لما في هذين النوعين من الاعتراضات المذكورة والحجُب الظلمانيّة، فعند ذلك يترك الأذكار ويقول: يَا هُو، يَا مَنْ لا هُو إلاّ هُو.

كأنّه يقول: حضرتُك أجلّ من أن أمدحكَ بشيء غيرك، فلا اثني عليك إلا بهويّتك من حيث هي، ولا اخاطبك بلفظ أنتَ، لأنّه يفيد الفخْر والكِبر، حيث تقول الروح: إنّي قد بلغت مبلغاً صرتُ كالحاضر في حضرة واجب الوجود، ولكنّي لا ازيد على قولي: هو، ليكون إقراراً بأنّه هو الممدوح لذاته في ذاته، وإقراراً بأنّ حضرته أعلى وأجلّ من أن يناسبه حضور المخلوقات، ولو فرض عند حضرته حضور عبدٍ أو مَلَك مقرّب أو نبيّ مرسَل، فحيث يمتنع له الإحاطة والإكتناه به تعالى إذ بقدر قوّة وجوده يشاهد ذاته تعالى، وذاته في شدة النوريّة فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى، فما غاب عنه من ذاته أكثر بما لا يتناهى ممّا هو مشهودٌ له، فهو سبحانه غائب بحقيقته التامّة البسيطة عن الكلّ، مع فرض شهودها إيّاه، فلهذا يكون هذا الذكر أشرف الأذكار، لاحتوائه على هذه الأسرار لكن بشرط التنبّه لها.

-11-

نكتة اخرى

يا مَنْ هُوَ الاّ هُوَ

إنّ المواظبة على هذا الذكر، يفيد العبدَ شوقاً إلى الله تعالى، والشوق إليه تعالى أجلّ الأحوال لذّة وأعظمها سبباً للبهجة والسعادة، فإنّ الشوق إكسير الانجذاب والوصول، فالأشدّ شوقاً أشدّ انجذاباً، وذلك لأنّ كلمة " هو " ضمير الغائبين، فالعقل اذا ذكر هذه الكلمة، علِم أنّه غائب عن الحق سبحانه، ثمّ يعلم أنّ هذه الغيبة ليست من قِبَل الله تعالى بسبب المكان والزمان، وإنّما كانت بسبب انّه موصوف بصفات النقصان ومَثالب الحدْثان، فإذا تنبّه لهذه الدقيقة، علِم أنّ هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدَثاتِ على حسَب تضاعُف امكاناتها، وترادف نقائصها وأعدامها الحاصلة لها بحسب مراتب بُعدها عن عالَم الوحدة الخالصة، ونزولها عن ساحَة الحقّ المحض، وعِلم أنّ ما هو أقرب إلى الحضرة الواجبة كان النقائص والأعدام فيه أقلّ، فأخذ في طلب القُرب إليه تعالى.

وكلّما وصَل العبدُ إلى مقام أعلى، كان شوقه إلى الترقّى عن تلك الدرجة أقوى وأكمل، كما تحكم به كلّ فطرة سليمة، وإذ لا نهاية لتلك المراتب والدرجات - كما سبق - فكذا لا نهاية لمراتب هذا الشوق، فثبَت أنّ المواظبة على ذكر كلمة " هو " تورث شوقاً إلى الله، وأنّ الشوق إليه تعالى أجلّ الأحوال والمقامات بهجة وسعادة، لأنّه ملزوم الوصول إليه تعالى.

وممّا يدلّ على أنّ الشوق يستلزم الوصول، أن الشوق عبارة عن الحركة إلى تتميم الكمال، وما من موجود إلاّ وله ضرب من الخيريّة والكمال، إذ له حظٌّ من الوجود، والوجود قد ثبت أنّه خير ومؤثَر، ففي كل موجود عشق إلى ذاته، وما من موجود في عالم الإمكان إلاّ ولوجوده غاية كماليّة، وشوق إلى تحصيل تلك الغاية، كما بيّن في مباحث الغايات في العِلم الإلهي.

وقد ثبَت أيضاً هناك أنّ الله لا يودع في غريزة موجود من الموجودات وجِبَلّته شيئاً فيكون عبثاً معطّلاً، فكلّ موجود وُجِدَ له شوق إلى كمالٍ بالقياس إليه، فلا بدّ من أن يكون ممكن الحصول له، وكلّ ممكن الحصول لشيء بالإمكان العامّ، يجب حصوله له ووصوله إليه عند عدم الموانع ورفع العوائق والقواسر.

وثبت أيضاً في مقامه، انّ وجود الموانع والقواسر للأشياء الجِبلِّية غير دائم ولا أكثريّ في هذا العالَم الذي يوجَد فيه بعض الشرور، وأمّا في العالِم الأعلى وما فوق الكون، فالأشياء كلّها على مقتضى دواعيها وأشواقها الأصلية، فكلّ مشتاق إلى شيء شوقاً غريزياً سواء كان في فطرته الأولى أو في فطرته الثانية التي قد صار متجوهراً بها متصوّراً بصورتها الجوهريّة، كالنبات إذا صار حيواناً، أو الحيوان إذا صار إنساناً، فهو واصل أو سيصل إليه وقتاماً.

-12-

فثبت أن من أحبّ الله واشتاق إليه، فهو مما يصل إلى حضرته يوماً، كما دلّ عليه قوله (عليه السلام): من أحبّ لقاء الله أحبّ الله لقائه، ومن كَره لقاءَ الله كره الله لقاءَه.
نكتة أخرى

[في أن الذكر أشرف المقامات للسالك]


قال (صلّى الله عليه وآله) [حكاية عن الله تعالى]: " إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خيرٍ من ملأه " فإذا ثبت هذا، فأفضل الأذكار ذكر الله الخالي عن ملاحظة الأغيار.

ثمّ إنّ العبد فقيرٌ كثير الحاجة، والمحتاجُ إذا نادى مخدومَه المنعم بنداءٍ يناسب الطلبَ والسؤال، كان ذلك محمولاً على الطلب مُشعراً بالسؤال، فإذا قال: " يا كريم " كان معناه: أَكْرِم وإذا قال " يا رجيم " كان معناه: " إرْحَم ". وإذا قال " يا غفور، يا عفوّ " كان معناه: اغفِرْ واعْفُ. فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال، فيجول في خاطره غير الله، وتتمثّل له صوَر حاجاته فيكون مشغول السرّ بغير الله ولم يكن في خلاء، بل في ملأ، إذ الشاغل له عن ذكر الله عند المعاشرة مع الخلق أيضاً الصورُ الحاضرة في نفسه، وهي الحاضرة بالذات، دون الصور الخارجيّة إلا بالعَرَض.

فمن حضَرتْ عنده صوَر الأشياء والتفت إليها، فهو في صحبة الأغيار، سواء كان في بيته الخالي، أو في محتَشدٍ من الخلْق. وقد بيّن انّ الذكر إنّما يعظم شرفه إذا كان خالياً من السؤال، ومن تصور الصوَر والأمثال، وذلك يتحقق عندما قال " هو ".

ومن نوادر الأذكار الشريفة الممدوحة في كتب أصحاب القلوب: يا هو يا من لا هو إلاّ هو. يا من لا إله إلاّ هو. يا أزلُ يا أبدُ. يا دهْر يا ديهار. يا ديهور. يا من هو الحي الذي لا يموت.

قال النيسابوري في تفسيره: ولقد لقّنني بعض المشائخ من الذكر: يا هو، يا من هو، يا من لا هو إلاّ هو، يا من لا هو بلا هو إلا هو. وقال:

فالأول فناء عمّا سوى الله.

والثاني فناء في الله.

والثالث فناء عمّا سوى الذات.

والرابع فناء عن الفناء عمّا سوى الذات.

وقال صاحب التفسير الكبير: ومن لطائف هذا انّ الشيخ الغزالي رحمه الله كان يقول: " لا إله إلاّ الله " توحيد العوام، و " لا إله إلاّ هو " توحيد الخواصّ، و " لا هو إلاّ هو " توحيد أخصّ الخواصّ ولقد استحسنتُ هذا الكلام وقرّرته بالقرآن والبرهان.

-13-

أمّا القرآن فإنّه تعالى قال:

{ وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } [القصص28: 88]. ثمّ قال بعد ذلك
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ } [القصص28: 88] معناه " لا هو " ، وقوله
{ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص28: 88]

" الا هو " فقد ذكر " لا هو إلاّ هو " بعد قوله: لا إله إلاّ هو، يدلّ على أنّ غاية التوحيد هي هذه الكلمة.


وأما البرهان: فهو أنّ من الناس مَن قال: تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها، بل لا تأثير له إلاّ في إعطاء صفة الوجود لها. فقلت: فالوجود أيضاً ماهية فوجب أن لا يكون الوجود واقعاً بتأثيره فإن التزموا ذلك وقالوا: الواقع بتأثير الفاعل هو موصوفيّة الماهية بالوجود فنقول: تلك الموصوفيّة إن لم تكن مفهوماً مغايراً للماهية والوجود امتنع إسنادها إلىالفاعل. وإن كان مفهوماً مغايراً فذلك المفهوم لا بدّ وأن يكون له ماهية، وحينئذ يعود الكلام، فثبت انّ المؤثر مؤثّر في الماهيّة وكلّ ما بالغير فإنّه يرتفع بارتفاع الغير، فلولا المؤثّر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة، فبقدرته صارت الماهيّات ماهيّات وصارت الحقائق حقائق. وقيل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجو ولا حقيقة ولا ثبوت، وعند هذا يظهر صدق قولنا: لا هو إلا هو. أي لا تقرّر لشيء من الحقائق إلاّ بتقريره وتحقيقه، فثبت أنّه لا هو إلاّ هو.

أقول وبالله التوفيق:

اعلم أنّ مقام التوحيد الخاصّ الذي عليه الأولياء الكاملون والعرفاء المحقّقون، أعلى درجةً وأشمخ شهوقاً من أن ينالَه أربابُ الأنظار الجزئيّة بقوّة أنظارهم، وأصحاب المباحث الكلاميّة بدقّة أفكارهم، ومَن زعم أنّه بقوّة مهارته في تحرير المقالات، وتقرير الاشكالات والأجوبة عن بعض الايرادات، وبيان بعض المسائل والشُبهات، يمكنه الوصولُ إلى فهم مسائل هذا التوحيد، ومكاشفات إخوان التجريد، فقد استسمَن ذاوَرَم، ومثلُه كالزَمِن إذا أراد أن يطيرَ في الجوّ، ومثَلُ مَن أراد أن يثبت هذا المقصد الغالي، ويصل إلى هذا المصعَد العالي بمثْل هذا القياس المرتب في زاوية قلبه من هذه المقدّمات الواهية الواهنة الأساس، كمثل العنكبوت إذا أراد أن يصيدَ العنقاءَ بشبكة ينسجها في زوايا البيوت.

ولولا مخافة التطويل والاطناب، لاستقصينا الكلام في هذا الباب، فأخذنا أولاً في إقامة البراهين القطعيّة على أنّ شيئاً من الماهيات لا يمكن أن يكون أثراً للجاعل ومجعولة له، ثمّ على إثبات أن أثرَ الجاعل وما يترتب عليه في الخارج، هو نحو من أنحاء الوجودات الخاصّة. ثم على أن ما ذكره هذا القائل، يناقض ويخالف عقلاً ولفظاً لما هو بصدده من إثبات هذا التوحيد، وأنّ كلمة " لا هو إلاّ هو " تدل عليه. ثم بعد ذلك نشير إلى لمعة من لوامع مسألة التوحيد الخاصّي، وإلى كيفيّة استنباطها من هذه الكلمة ولكن جاء في المثل: " ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه " فلنذكر هذه المقاصد ها هنا على طريقة الاختصار، وطيّ بعض مباديها ومقدماتها البعيدة، ليكون الناظر في هذا المقام على بصيرة في طلب ما ادّعيناه من غير تعَب وكَلال.

-14-

ويكون الاستقصاء البالغ مرجوعاً الى مواضع اخرى من مسفوراتنا المطوّلة.

وهي مشتملة على فصول خمسة.

فصل

في أنّ الوجود هو المجعول بالذات

اعلم إنّ للوجود صورة في الخارج، وليس مجرد معنى مصدري انتزاعي - كما يقول الظالِمون - إذ لا شكّ في أنّ للأشياء حقائق. وحقيقة كلّ شيء هي خصوص وجوده الذي تترتب عليه أحكامه المخصوصة وآثاره المطلوبة منه.

وكون الشيء ذا حقيقة، معناه انّه ذا وجود، فحينئذ لا بدّ أن يكون في الأعيان ما يصدق عليه هذا المعنى، أي معنى الحقيقة، وليس مصداقه نفس الماهية من حيث هي، سواء كان بعد الصدور أو قبل الصدور، بل مصداقها إمّا نفس الوجود للشيء، أو الماهية الموجودة بما هي موجودة لا بما هي ماهية، فالوجود أَوْلى بأن يكون حقيقة أو ذا حقيقة من غيره، إذ غيره به يكون ذا حقيقة. لست أريد من هذا أن مفهوم الحقيقة يجب أن يصدق عليه هذا العنوان، بل إنّ هنا شيئاً يصدق عليه بحسب الخارج مفهوم الحقيقة وليس هو نفس الماهية الموجودة، بل وجودها.

فالوجود يجب أن يكون بنفسه موجوداً في الواقع، لأنّه يصدق عليه هذا المفهوم، فله لا محالة صورة عينيّة مع قطع النظر عن اعتبار العقل، وهو المعنيُّ بكون الوجود موجوداً، لا أنّ له وجوداً زائداً كما توهمه العبارة، حتّى تلزمَ منه المحذورات المشهورة، فإذا كان الوجود موجوداً، فهو إمّا واجبٌ - إن كان غير متعلق بغيره - أو ممكن إن كان متعلقاً بغيره، وهو المعنيُّ بكون الوجود مجعولاً أو صادراً. هذا هو المطلوب.

حجة اخرى

لو لم يكن الوجود للاشياء موجوداً أي واقعاً في الأعيان، لم يوجد شيء من الأشياء، والتالي باطل فكذا المقدّم.

بيان الشرطيّة: أن الماهيّة قبل انضمام الوجود إليها، أو اعتباره معها، أو ما شئتَ فسمّه، غير موجود، وهو ظاهر، وكذلك أيضاً إذا اعتبرت الماهيّة من حيث هي لا مع اعتبار الوجود، فهي غير موجودة ولا معدومة، فإذن لو لم يكن الوجود موجوداً، لم يمكن ثبوت مفهوم أحدهما للآخر، فإنّ ثبوت شيء لشيء، أو إنضمامه إليه، أو اعتباره معه، أو انتزاعه منه، فرع لثبوت المثبَت له، أو مستلزم له لا أقلّ، للمغايرة بينهما في الثبوت، وليس للماهيّة من حيث هي هي - مع قطع النظر عن الوجود - وجود وثبوت أصلاً، فكيف يتحقّق هناك اتّصاف بالوجود وليست الماهيّة في نفسها موجودة، ولا الوجود في نفسه موجوداً، فلا تكون الماهيّة معروضة للوجود - كما اشتهر وذهب إليه جمهور الحكماء - ولا عارضة له - كما ذهب إليه طائفة من العرفاء - إذ كل من راجع وجدانَه وأنصَف من نفسه، أدرك انّ انضمام معدومٍ لمعدومٍ في الخارج، أو انضمام مفهومٍ لمفهومٍ من غير وجود أحدهما للآخر، أو قيامه به، أو قيامهما بموجود آخر، غير صحيح، ولا مما يجوّزه العقل، بل يقضي بامتناعه، ولهذا قال بعض العلماء: إنّ الفطرةَ شاهدة بأنّ الماهيّة إذا كانت موجودةً بنفس وجودها لا قبله، كان الموجود بالذات ها هنا هو نفس الوجود لا الماهيّة.

-15-

كما انّ المضاف بالحقيقة نفس الإضافة لا ما هو المضاف المشهوري، فعلم انّ المجعول الصادر من الفاعل هو الوجود، وما قيل من انّ الماهيّة موجوديّتها باعتبار انتسابها الى الجاعل التامّ، فهو هوس محض، فإنّ غير المنتسب الى شيء إذا انتسَب فهو لا محالة بشيء يلحقه انتسب، فلا محالة يتغيّر عما كان ويستحيل إلى حالةٍ وصفةٍ لم تكن حاصلةً له من قبل، فهو بذلك الشيء صار منتسباً، فيكون المنتسب بالحقيقة ذلك الشيء دونه، فعلى هذا يلزم أن يكون المنتسب إلى الجاعل التامّ هو وجود الماهيّةِ دونها.

برهان آخر

إنّ موجوديّة الأشياء، إمّا بانضمام الوجود الى الماهيّة، أو بصيرورتها موجودة، أو باتّصافها به أو ما يجرى هذا المجرى كما هو المشهور من الحكماء المشّائين، وإما بمجعوليّة نفس الماهيّات جعلاً بسيطاً كما عليه أتباعُ الرِواقيّين، وتبعهم هذا القائل، والشيخ المقتول وجماعة من المتأخّرين، وإما بنفس الوجودات الخاصّة الفائضة عن الباري الحيّ القيّوم كما ذهب هذه الفقراء، والأول مقدوحٌ مردودٌ بوجوه مذكورة في موضعها، والثاني أيضاً؛ والإلزام أن لا يتحقّق موجود ما في الخارج، والا لزم ظاهر البطلان، فكذا الملزوم، فبقي المذهب الثالث حقاً.

وأما بيان الملازمة في هذه الشرطيّة، فبأنّ الوجود على هذا الرأي، إن كان نفس الماهيّة من غير اعتبار قيد زائد وشرط، فيكون كلّ من تصوَّرَ الإنسان مثلاً تصوّر أنّه موجود، ولم يكن فرقٌ بين كون الإنسان إنساناً وبين كونه موجوداً، ولكان قولُنا: الإنسان معدوم تناقضاً، والتالي باطل فالمقدّم مثلُه، وإن كان الوجود عبارةً عن انتساب الماهيّة الى الجاعل، والنسبة لا تتحقّق إلا بعد تحقّق الطرفين فننقل الكلام في وجود معروضه، فيعود المحذور جذعاً.

فإن قيل: موجوديّة الماهيّة ليست بانتسابها الى الجاعل، بل بكونها بحيث تنتسب اليه وترتبط به.

قلنا: فيكون المجعول وما هو أثرُ الجاعل هو كونها على هذه الحيثيّة لانفس الماهيّة بما هي هي، وهو خلاف المفروض، على أن المجعول ها هنا هو الكون المذكور. ونحن لا نعني بالوجود الا هذا الكون، فثبت المطلوب بالخلف والاستقامة معاً.

الفصل الثاني

في أن الماهيّة يستحيل أن تكون أثراً للجاعل ومجعولة له، وعليه براهين:

الأول: أن أثر الفاعل لو كان ماهيّة شيء كماهية الإنسان من حيث هي دون وجودها، لَما أمكن لأحد أن يتصوّر تلك الماهيّة قبل صدورها عن الفاعل، لِما تقرّر أنّ العلْم بذي السبب لا يحصل إلاّ من جهة العلم بسببه، والمقدر خلافُه إذ كثيراً ما نتصوّر الماهيّات ولا يخطر ببالنا جاعلُها أصلاً، بل للعقل أن يتصوّر ماهيّة كلّ شيء من حيث هي هي، أو مجرّدة عن ما عداها، حتّى عن هذه الملاحظة، فليست هي من هذه الحيثيّة - أي بما هي هي - موجودة ولا مجعولة، ولا لا موجودة ولا لا مجعولة.

-16-

وأيضاً، فلو كانت هي بما هي هي مجعولة، لكان مفهوم المجعوليّة ذاتيّاً لها، ولكانت الماهيّات كلّها من مقولة المضاف، والتوالي بأسرها ظاهرة البطلان، فالمقدم مثلُه، والملازمة تظهر بالتأمّل الصادق.

فإن قلت: هذا يلزمك على القول بمجعوليّة الوجود.

قلت: إنّ وجود كل شيء نفس هويّته العينيّة وحقيقته الخارجيّة، فلا يمكن العلم بها إلاّ بالمشاهدة الحضوريّة والانكشاف النوريّ، إذ كلّ ما حصلت صورته في الذهن فهو أمرٌ كلّي، وإن تخصّصت بمخصّصات كثيرة. والوجود هويّةٌ عينيّة متشخصّة بذاتها صادرة عن هويّة جاعله إيّاها جعلاً بسيطاً، فلا يمكن انكشافه وحضوره إلاّ من جهة حضور هويّة جاعله، وهذا المفهوم العامّ المشترك الانتزاعي الاثباتي، وجهٌ من وجوهه، وهو بمعزل عن الهويّة الخارجية، وهذه الهويات الوجوديّة مجعولات بأنفسها ومنتسبات بذواتها الى مفيضها التامّ، ومع ذلك، ليست واقعة تحت مقولة المضاف، لأنّ مقولة المضاف قسمٌ من أقسام الماهيّات التي هي زائدة على الوجود، أَوَلاَ ترى أنّ الهويّة الإلهيّة مع كونها مبدأ جميع الأشياء، ليست واقعةٌ تحت مقولة المضاف؟ فكذا ساير الهويّات الوجوديّة.

برهان آخر

لو كانت الجاعليّة والمجعوليّة متحققتين بين الماهيّات لا بين الوجودات، يلزم التشكيك بالأقدميّة وعدمها بين أفراد مقولة الجوهر عند سببيّة جوهرٍ لجوهر آخر، وهذا باطلٌ عند محصّلي الحكماء، حيث بيّنوا أن لا أولويّة ولا تقدّم لماهيّة جوهر على ماهيّة جوهر آخر، لا في تجوهره، ولا في جوهريّته، أي في كونه محمولاً عليه معنى الجوهر الجنسيّ، فلا يتقدّم الإنسان الذي هو الأب على الإنسان الابن في حدّه ومعناه، ولا في صدق الإنسانية عليه، بل تقدّمه عليه إمّا بالوجود أو بالزمان.

برهان آخر عرشي

إنّ الصادر الأول مثلاً له ماهيّة نوعيّة محتملة الصدق على كثيرين، وليس الصادر من الباري عندهم إلاّ شخصاً واحداً من أعداد نوعه المشتركة فيه، فكون الصادر هذا الشخص الواحد دون غيره، لو كان بمجرّد صدور ماهيّته النوعيّة، يوجب الترجيح من غير مرجّح؛ إذ الجاعل واحد والماهيّة واحدةٌ، والنسبة بينها وبين اشخاصها متماثلة، فكونها هذا الفرد دون غيره، مما يتساوى نسبته، غير صحيحة، وكذا موجوديّة هذا الشخص دون سائر الأسخاص، بمجرد ابداع الباري نفس الماهيّة النوعيّة المتواطئة مع اشتراكها بين الجميع، غير صحيح.

-17-

فالحقّ الحريّ بالتحقيق والتصديق أنّ أول الصوادر هو هويّة الصادر الأول المتشخّصة بذاته، المتميّزة بنفسه عن ما عداها، دون ماهيّته، فهذه الهويّة الوجودية هي المجعولة بالذات، والماهيّة تابعةٌ لها اتّباع الظلّ للشخص.

وهنا استبصارات كثيرةٌ ذكرناها في كتبنا وجمعناها في رسالة مفردة:

منها: كون الوجود هو الخير بالذات، والعدم هو الشرّ، والصادر عن الخير الأول هو الخيرات، وهي وجودات الأشياء دون ماهيّاتها الكليّة، إذ لا خيريّة ولا كمال في مفهوم العلْم والقدرة والصحّة والجمال واللذائذ والشهوات الدنيويّة والأخرويّة، بل في حقائقها الوجوديّة، وليس كل من تصوَّر ماهيّة السعادة سعيداً، ولا كلّ من تصور ماهيّة البَهجة مبتهجاً، بل من نال وجود السعادةِ ووجود البَهجة.

ومنها: أنّ الجاعليّة والمجعوليّة لو كانتا بين المهيّات، لكانت جميع الموجودات - ما سوى المعلول الأول - من لوازم الماهيّات، وهي أمور اعتباريّة كما حقّق في مقامه؛ والتالي باطل بديهةً واتّفاقاً، فإنّ أحداً لم يقل بأنّ السماء والأرض وما بينهما أمورٌ اعتباريّة، ونسبة هذا الأمر الشنيع الى العرفاء، افتراءٌ محضٌ تتحاشى عنه أسرارهم.

ومنها: أنّه قد تقرّر في علم الميزان، انّ مطلب " ما " الشارحة، غير مطلب " ما " الحقيقية، وليست المغايرة بينهما في مفهوم الجواب، لأنه الحدّ التامّ عند المحقّقين، بل باعتبار الوجود في أحدهما وعدمه في الآخر، فلو لم يكن للوجود صورةٌ في الخارج، لم يكن بين المطلبين والجوابين فرقٌ يعتدّ به كما لا يخفى.

أوهام وتنبيهات

ثمّ إن للقائلين باعتباريّة الوجود ومجعوليّة الماهيّات شُبهاً قويّة فككنا عقدتَها بحمد الله، وطردنا ظلماتِ هذه الأوهام بنور الهداية والإلهام، فلنُشر الى أجوبة بعض منها، وهي هذه.

الأول: إن الوجود لو كان موجوداً لكان له وجودٌ، ولوجوده وجود. وهكذا الى غير نهاية.

والجواب: إنّ الماهيّة لمّا لم تكن في نفسها موجودة، فموجوديّتها لا بد وأن تكون بأمر زائد عليها، وأما الوجود، فهو بنفسه موجودٌ لا بأمر زائد عليه إلا بحسب الاعتبار العقلي، رعايةً لمفهوم الاشتقاق، والتسلسل في الاعتباريات منقطعٌ بانقطاع الاعتبار منها، ولهذا المعنى نظائر كثيرة، كالإضافة، فإنّها بنفسها مضافةٌ وغيرها بها مضافٌ، وكالنور، فإنّه منيرٌ بذاته، وكاجزاء الزمان فإنّها بذواتها متقدّمة ومتأخّرة.

والثاني: إن الوجود لو كان موجوداً بذاته، لكان واجب الوجود بذاته، إذ لا معنى للواجب بالذات إلا ما يكون وجوده ضروريّاً لذاته، وأيّ ضرورة أشدّ من كون الشيء عين نفسه؟

والجواب: إنّ الوجود الإمكاني بحسب هويّته متقوّمٌ بغيره، واجبٌ به، وإذا قطع النظر عن موجِده يكون باطلاً محضاً، ومعنى كونه ضروريّ الوجود، انّه بعدما صدر ذاتُه عن العلّة، لا يفتقر الى وجود زائد عليه في كونه موجوداً، بخلاف الماهيّة، فإنّها في حدّ ذاتها غير موجودة ولو في وقت صدورها عن الفاعل، ومعنى الإمكان في الوجودات، انّها بأنفسها متعلّقة الذوات بغيرها، وليست الماهيّات متعلقة الذوات بغيرها، فإمكانُها عبارةٌ عن تساوي نسبتها الى الوجود والعدم، وبالجملة، هذه الشُبهة إنّما نشأت من الخَلط بين معنى الضرورة الأزلية والضرورة الذاتيّة.

-18-

الثالث: إنّه إن كان الوجود في الأعيان صفة للماهيّة وهي قابلة، فهي إمّا أن تكون موجودة بعد الوجود، فحصَل الوجود مستقلاً دونها، فلا قابليّة ولا صفتية، أو قبله؛ فهي قبل الوجود موجودةٌ؛ أو معه، فالماهية موجودة مع الوجود لا بالوجود، ولها وجودٌ آخر، وأقسام التالي باطلةٌ كلّها، فالمقدّم كذلك.

والجواب: إنّا نختارُ أن الماهيّة موجودةٌ معه في الأعيان، وما به المعيّة نفس الوجود الذي هي به موجودة، فلا يلزم الإحتياج الى وجود آخر، كما انّ المعيّة الزمانيّة حاصلةٌ بين الحركة والزمان الذي حصلت فيه بنفس ذلك الزمان بلا زمان آخر، حتّى يكونَ للزمان زمانٌ آخر على أنّ الحقّ انّ اتّصاف الماهيّة بالوجود أمرٌ عقليّ، كاتّصاف الموضوع بما يقوم به فلا قابلية في الحقيقة ولا اتصاف، بل ما في الواقع أمرٌ واحدٌ بلا تقدّم بينها ولا معيّة بالمعنى المذكور، وتفصيل هذا الكلام مما يطلب في مقامه.

الرابع: إنّ الوجود لو كان في الأعيان، لكان قائماً بالماهيّة، فقيامه إمّا بالماهية الموجودة، فيلزم وجودُها قبل وجودِها، أو بالمعدومةِ، فيلزم اجتماعُ النقيضين، أو بالماهيّة المجرّدة عن الوجود والعدم، فيلزم ارتفاع النقيضين.

والجواب: إنّه إن أريد بالماهيّة الموجودة ما هي موجودةٌ بحسب نفس الأمر، وبالمعدومة ما يقابلها، فنختار انّ الوجود قائمٌ بالماهية الموجودة بهذا الوجود، لا بوجود سابق عليه، كما انّ البياضَ قائمٌ بالجسم الأبيض بهذا البياض القائم به لا ببياضٍ آخر، وإن أُريد بالموجودة ما يكون الوجودُ مأخوذاً في مرتبة الماهيّة من حيث هي، فنختارُ انّه قائمٌ بالماهيّة من حيث هي هي، بلا اعتبار شيء من الوجود والعدَم، وهذا ليس بارتفاع النقيضين عن الواقع، بل عن تلك المرتبة. إذ الواقعُ أوسعُ من تلك المرتبة.

ولهذا الكلام زيادةُ تحقيق مذكورٌ في حواشي التجريد، إذ الإشكال مشترك الورود، سواء كان الوجود حقيقياً أو انتزاعياً، ولهذا حكموا بأن لا اتّصاف للماهية بالوجود، ولا قيام له بها في الخارج ولا في العقل، إذ لا بدّ في اتّصاف شيء بشيء من المغايرة بينهما في ظرف الاتّصاف، وإن لم يكن ثبوت الثابت فرع ثبوت المثبَت له، وليس بين الماهيّة والوجود مغايرة، إلا انّ للعقل أنّ يأخذ الماهيّة ويعتبرها وحدها مجرّدة عن جميع أنحاء الوجود، حتّى عن هذا التجريد الذي هو أيضاً نحوٌ من أنحاء الوجود، فيصفها بالوجود، ففي هذا الظرف العقليّ هي موصوفةٌ بالوجود ومخلوطةٌ به أيضاً، رعايةٌ لجانبيَ الخلط والتعرية على أنّا نحن في متّسعٍ من هذا البحث إذ الموجودُ عندنا في الأعيان هو الوجود دون الماهيّة إلاّ بالعرَض، وهي أمر انتزاعي متحدةٌ بالوجود وليست متّصفةً به.

-19-

والخامس: إنّ الوجود لو كان حاصلاً في الأعيان وليس بجوهر، فيكون هيئةً قائمةً بجوهر، فيكون كيفاً لأنه هيئة قارّة لا يوجب قسمة ولا نسبة الى امر خارج، وقد حكموا انّ المحلّ متقدم على العرَض، فيتقدم الموجود على الوجود، فيلزم تقدّم الوجود. وأيضاً يلزم أن لا يكون الوجودُ أعمّ الأشياء مطلقاً، بل الكيفية والعرَضيّة أعمّ منه من وجه. وأيضاً إذا كان عرَضاً فهو قائمٌ بالمحلّ، ومعنى أنّه قائمٌ بالمحلّ، أنّه موجودٌ فيه، مفتقرٌ في تحقّقه إليه، ولا شكّ انّ المحلّ موجود بالوجود، فدارَ القيامُ وهو محالٌ.

والجواب: انّهم حيث أخذوا في عنوانات المقولات كونها ماهيّاتٍ كليّة حقّ وجودها العيني كذا وكذا، فسقط كون الوجود في ذاته جوهراً أو كيفاً أو غيرها، لعدَم كونه كلّياً، بل الوجودات - كما سبق - هويّات عينيّة متشخّصة بأنفسها غير مندرجة تحت مفهوم ذاتي، فليس الوجود جوهراً في ذاته، ولا عرَضاً بمعنى كونه قائماً بالماهيّة، وعلى تقدير كونه عرَضاً، لا يلزم كونُه كيفيّة، لعدم كلّيته وعمومه، وما هو من الأعراض العامّة والمفهومات الشاملة للموجودات، إنّما هو الوجود الانتزاعي العقلي، ولمخالفته أيضاً سائر الأعراض بأنّ وجودها في نفسها عين وجودها لموضوعاتها، ووجود الوجود عين وجود الماهيّة الموضوعة لها، لا وجود غيرها، ظهر عدمُ افتقاره في تحقّقه الى الموضوع، فلا يلزم الدورُ المذكور.

على أنّ المختارَ عندنا انّ وجودَ الجوهر جوهرٌ بجوهريّة ذلك الجوهر، لا بجوهريّة أخرى، وكذا وجود العرَض، عرَضٌ بعرَضيّة ذلك العرَض لا بعَرَضيّة أخرى.

الفصل الثالث

في أنّ ما ذكره هذا القائل ينافي مذهب العارفين القائلين بهذا التوحيد عقلاً ولفظاً

أما الأول: فلأنّ مَنْ ذَهب الى أنّ الماهيّات مجعولة وحاصلة بالجعل، ولا شبهة في أن الماهيّات أمور متخالفة المعاني، فتكون الموجودات عنده أموراً متكثّرة متخالفة بالحقائق متمايزة بالذوات، إذ موجوديّة الماهيّة - على هذا المذهِب - عبارةٌ عن صدورها عن الفاعل أو انتسابها إليه، فيكون الوجود معنى مصدريّاً، والموجود أمراً حقيقيّاً متعدداً حسب تعدّد أفراد الماهيّات الصادرة عن الفاعل، فأين هذا المذهب من مذهب التوحيد الذي عليه العرفاء.

وقريب من هذا ما ذهب اليه بعض المغترّين بلامع السراب الوهميّ عن مشرب التوحيد الأتمّي، انّ الوجود الحقيقيّ شخصٌ واحدٌ وهو ذات الباري، والموجود كلّي له أفرادٌ متعدّدة هي الموجودات، ونَسب هذا المذهب الى أذواق المتألّهين وزعم أنّ هذا هو مقصودُهم في وحدة الوجود، وهو فاسدٌ من وجوه:

الأول: إنّ أفراد الموجودات قد تكون متكثّرة متقدّمة بعضُها على بعض في الوجود مع اتّحادها في الماهيّة النوعيّة، فإذا كانت الماهيّة واحدة والوجود واحداً شخصيّاً، فكيف يتعدّد الموجود ويتقدّم بعضه على بعض؟!

والثاني: إنّه يلزم على هذا القول أن يكون قولُنا: وجود زيدٍ ووجود عمرٍو، بمنزلة قولنا: إله زيدٍ واله عمرٍو، وهذا لا يتفوّه به عاقل.

-20-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #77  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 21-29 من 29

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 21-29 من 29




{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

والثالث: إن نسبة الماهيّات الى الباري جلّ ذكره، إن كانت اتّحادية، يلزم كون الواجب تعالى ذا ماهيّة غير الوجود، بل ذا ماهيّات متعدّدة، وقد ثبت أنّه صِرْف الإنيّة، وإن كانت نسبتُها إليه تعالى تعلّقية ارتباطيّة وتعلق الشيء بالشيء فرعٌ على وجودهما وتحقّقهما، فيلزم أن يكون لكلّ من الماهيّات وجودٌ خاصّ متقدّم على انتسابها إليه تعالى وتعلّقها به، إذ لا شُبهة في أن معانيها غير معنى التعلّق بغيرها، فإنّا كثيراً ما نتصوّر الماهيّات ونغفل عن ارتباطها الى الحقّ، وهذا الكلام لا يجرى في الوجودات، إذ يمكن لأحدٍ أن يدّعى انّ هوياتها تعلّقية، كما سنكشف على من هو أهلُه.

الرابع: قوله: الوجود واحدٌ والموجود كثيرٌ، هوسٌ محض لأنه إذا كان معنى الوجود أمراً نسبيّا عنده، فلا فرق بين مذهبه ومذهب من يَرى انّ الوجود أمرٌ عام مصدري انتزاعي، إلا بأنه سمّى المعنى الانتزاعي بالإنتساب الى الجاعل، فالقول بأنّ الوجود على هذه الطريقة واحدٌ شخصيّ، والموجود كليّ متعدد دون الطريقة الأخرى، تحكّمٌ محض.

وأما انّ كلمة " لا هو إلاّ هو " لا يدل على ما قرره في مسألة التوحيد، فذلك بوجهين.

أحدهما: إنّ غاية ما ذكره، أن شيئاً من الماهيّات لم يكن ماهية قبل الجعل والتأثير، فبقدرته تعالى صارت الماهيّات ماهيّات، ولا تقرّر لشيء منها إلاّ بتقريره كما ذكره وأين هذا المعنى من معنى " لا هو إلاّ هو " إلا أن يرتكب حذف وإضمار وقيل: معناه لا هو بلا جعل وتأثير إلا هو، وهذا أمرٌ لا يحتاج الى مزيد تقرير، إذ لا شُبهة لأحد من العقلاء المعتبرين فيه إلاّ المعتزلة القائلة بثبوت الماهيّات بلا جعل، فإنّ الحكماء سواء ذهبوا الى أن أثر الفاعل هو الماهيّة، أو ذهبوا الى أنّه الموجوديّة، متّفقون على أن الماهيّة قبل الجعل غير حاصلة، إلا انّ إحدى الطائفتين قالت: إنّ الماهيّة مجعولة أولاً، والوجود تابعٌ لها في الجعل، والأخرى قالت: إن صيرورة الماهيّة موجودة أثر الجاعل، والماهيّة تابعة له كما هو المشهور من توابع المشّائين.

وما أورده هذا القائل عليهم من أن الوجود أيضاً ماهيّة، فيجب أن لا يكون مجعولاً واقعاً بتأثير الفاعل، مما علمتَ حالَه من تضاعيف أحوال الوجود وكذا قوله فإن التزموا ذلك وقالوا: الواقع بتأثير الفاعل هو موصوفيّة الماهيّة بالوجود، فهي إن لم تكن مفهوماً مغايراً لهما امتنع استنادها الى الفاعل، وإن كان مغايراً فلا بد أن يكون له ماهيّة، فيعود الكلام انتهى.

-21-

وذلك لأن مذهب هؤلاء، هو إنّ مفاد الجعل وأثرُ الجاعل هو صيرورة الماهيّة موجودة، أي هذه الهيئة التركيبيّة، لا أنّ شيئاً من الماهيات ولا الوجود أثره، ولا ماهيّة هذه الصيرورة أيضاً اثره، لأنها مستغنية عن الجعل، وهذا مِثْل أن يقال: إنّ التصديقَ عبارة عن نحو إذعان أنّ زيداً قائم مثلاً، فكما إنّ التصديق ليس بتصوّر المحكوم عليه، ولا تصوّر المحكوم به ولا تصوّر النسبة بل الهيئة الإذعانيّة على الوجه الذي يكون الموضوع متلبّساً بالمحمول، فمفاد التصديق اعتقاد أنّ زيداً قائمٌ، لا تصوّر هذا الإذعان، ولا تصوّر قيام زيدٍ، لأنهما من باب التصوّر ولا تصور زيد قائم، لما ذكرنا، بل إدراك النسبة على أنّها نسبة وعلى أنها معنى حرفي، لا على أنّها معنى اسميّ منسوب أو منسوب اليه.

فهكذا قولهم في كون أثر الجاعل اتّصاف الماهيّة بالوجود، فمفاد الجعْل في الخارج عندهم كمفاد التصديق في الذهن، فاندفع النقض الذي أورده عليهم عنهم، سواء كان مذهبهم صحيحاً أو فاسداً.

الوجه الثاني: إنّ ضمير " هو " وسائر الضمائر كأنا وأنت وغيرها، ليس معانيها إلاّ أنحاء الوجودات، والدليل عليه أنّ كلمة " هو " - الذي كلامنا فيه - لو كانت موضوعة لغير الوجود الخاص فهي إمّا موضوعة لماهيّة مخصوصة، فيجب أن لا يطلق على غيرها وتتبادر هي الى الفهم عند الاطلاق بعد العلم بوضعها إيّاها، والواقع بخلافه؛ وإمّا موضوعة لجميع الماهيات بوضع واحد، فهو ظاهر البطلان، وإلا فينبغي أن يتبادر الى الذهن عند الإطلاق، وليس كذلك، وإما موضوعة لماهيّات متعدّدة غير متناهية بأوضاع متعدّدة غير متناهية، وهو ظاهر البطلان أيضاً، ولا انّها موضوعة لماهيّة ما من حيث هي، وإلاّ لم يفهم منها ماهيّة مخصوصة، إذ العامّ لا دلالة له على الخاصّ، والواقع خلافه، ولا أيضاً يصحّ أن يقال إنّها موضوعة لماهيّة ما بشرط كونها غائبة، وإلاّ لزم أن لا يفهم من كلمة " هو " إلاّ هذا المفهوم، بل الحق انّ الضمائر كلّها: كهو وأنت وغيرهما، وكذا أسماء الإشارات كلّها: كهذا وذلك وغيرهما، موضوعة لأنحاء الهويّات الوجوديّة، إذ الوجود حقيقة واحدة، وله أفراد وأعداد متمايزة الأشخاص؛ يصحّ أن يتصوّرها الواضع من جهة وحدة حقيقتها المشتركة، ويضع الإسم لأفرادها الخاصّة بحسب أوصافها الوجوديّة التي حكمها حكم أصل الوجود في وحدتها وتعدّدها.

وهذا معنى قولهم في أسماء الإشارة: إنّ الوضع فيها عامّ والموضوع له هو الخصوصيات؛ فعلى هذا " لا هو " لا يدل على نفي الماهيّة، بل على نفي الهويّة.

لا يقال: الماهيّة مشتقّة من الهويّة، لأنّها مأخوذة من " ما هو " وهو السؤال عمّا به الشيء هو هو، فيكون كلاهما مشيراً الى شيء واحد، فلا فرق بينهما بحسب جوهر اللفظ ومادّته اللغوية.

-22-

قلنا: الفرق بأن " هو " عبارة عن الوجود الشخصي و " ما هو " سؤال عن طلب ذاتيّاته، وهي المعاني الكليّة المتّحدة به في مرتبة وجوده الذاتي، الصادقة عليه بحسب تلك المرتبة فيما له ماهيّة غير الهويّة، فمدلول " هو " غير ما وقع في جواب " ما هو " ، لأنّه من المطالب الكليّة، فهما متغايران معنىً، ولهذا افترقت الهويّة عن الماهيّة في الواجب تعالى، وكذا في الهويّات الوجوديّة بما هي هويّات في العلم الحضوري الشهودي فافهم واغتنم.

الفصل الرابع

في الاشارة الى لمعة من لوامع علم التوحيد الخاصي

إنّ لنا بإعلام الله وإلهامه برهاناً شريفاً على هذا المطلب الشريف، الذي هو الوجهة الكبرى لأهل السلوك العلمي محكماً في سماء وثاقته التي ملئت حرساً شديداً وشُهُباً، لا يصل إليه لمس شياطين الأوهام، ولا يمسّه القاعدون منه مقاعد للسمع، إلا المطهّرون من أرجاس الجاهليّة المكتسبة من ظلمات الأجسام.

بيانه: أن الواجب تعالى، لمّا كان منتهى سلسلة الحاجات والتعلّقات، فليس وجوده متعلّقاً بشيء متوقّفاً على شيء، فيكون بسيط الحقيقة لا ينقسم في وجود ولا في عقل ولا في فهم، فذاتّه واجب الوجود من جميع الجهات، كما أنّه واجب الوجود بحسب الذات، فليس فيه جهة إمكانيّة ولا امتناعيّة، وإلاّ لزم التركيب بوجه من الوجوه، المستدعي للإمكان. فإذا تقرّرت هذه المقدّمة التي مفادها أنّ كلّ وجود وكلّ كمال وجود يجب أن يكون حاصلاً لذاته، فايضاً عنه، مترشّحاً على غيره، كما قال

{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } [غافر40: 7]

وهما عين ذاته، فلو كان في الوجود إله غيره فيكون لا محالة منفصل الذات عنه، لاستحالة أن يكون بين الواجبين علاقة وجودية، وإلاّ لزم معلوليّة أحدهما، وهو خرْق الفرْض، فلكلّ منهما على الفرض المذكور مرتبة من الكمال الوجودي ليس للآخر، ولا منبعثاً منه، فايضاً من لدنه، فيكون كلّ منهما عادماً لكمال وجودي، فذاته حينئذ لا تكون محض حيثية الفعليّة والوجوب، بل يكون ذاته بذاته مصداقاً لحصول شيء وفقْد شيء آخر، فلا يكون بسيط الحقيقة خالصاً بل مزدوجاً، والازدواج ينافي الوجوب الذاتي كما مرّ.


ومن هنا ظهر أن كلّ بسيط الحقيقة يجب أن يكون كلّ الوجود وكلّه الوجود، كما يعلمه الراسخون في العرفان.

وبالجملة، فواجب الوجود يجب أن يكون من فرط التحصيل وكمال الفعليّة جامعاً لجميع النشئآت الوجودية، فلا مكافئ له في الوجود، ولا ثاني له في الكون، ولا شبيه له ولا ندْبل ذاتُه من تمام الفضيلة يجب أن يكون مستند جميع الكمالات، ومنبع كلّ الخيرات، فيكون بهذا المعنى تاماً وفوق التمام، فهذا هو بيان التوحيد الخاصّي، أي نفي المشارك في الوجوب، وقد انجرّ الى التوحيد الأخصّي، وهو نفي المشارك في الوجود.

الفصل الخامس

في أن الباري هو الحق وكل ما سواه باطل دون وجهه الكريم

بيانه: أنّ العليّة والمعلوليّة - كما ثبت وتقرّر - لا يكونان إلاّ في نفس الوجود لِمَا علمت انّ الماهيات لا تأصّل لها في الكون ولا في الجعْل، وعلمت أيضاً أنّ هويّة الشيء وذاته هي عين نحو وجوده الخاص به، فالجاعل جاعل بنفس وجوده، والمجعول مجعول بنفس وجوده جعلاً بسيطاً، لا بصفة زائدة على نفس هويّته الوجوديّة.

-23-

فإذا تقرّر هذا فنقول: لمّا كان كلّ موجود معلول فهو في حد ذاته متعلّق بغيره ومرتبط به، فيجب أن تكون ذاته الوجودية ذاتاً تعلقيّة ووجوده وجوداً تعلقيّاً.

لا بمعنى انّه شيء وذلك الشيء موصوف بالتعلّق، بل هو بما هو هو عين معنى التعلّق بشيء والانتساب إليه، وإلاّ فلو كانت له هويّة غير التعلّق والافتقار الى الجاعل، ويكون التعلّق والافتقار زائدين على ذاته، فلم يكن ذاته بذاته متعلّقاً بفاعله مجعولاً له، فيكون المجعول بالذات شيئاً آخر، وهو خلاف المقدّر، ويكون هذا المفروض مجعولاً مستقل الحقيقة غير متعلّق الهويّة بفاعله. فإذا ثبت أنّ كل علّةٍ علّة بذاتها، وكل معلولٍ معلول بذاته، وثبت انّ ذات الشيء هي وجوده، وانّ الماهيّات امور كليّة اعتباريّة منتزعة من أنحاء الوجودات بحسب هويّاتها، فينكشف انّ المسمّى بالمعلول، ليست هويّته أمراً مبايناً لهويّة علّته المفيضة، ولا يمكن للعقل أن يشير في المعلول إلى هويّة منفصلة عن هويّة موجده، حتّى يكون هناك هويّتان مستقلّتان في الإشارة العقليّة إحداهما مفيضة والأخرى مفاضة، وإلاّ لم تكن ذاته بذاته مفاضة.

نعم للعقل أن يشير إلى المهيّات والأعيان الثابتة، لعدم تعلّقها بذواتها إلى علّة فاعلة، فإذن المجعول بالجعل البسيط، لا ذات له مباينة لذات مبدِعه، فإذا ثبت تناهي سلسلة الموجودات إلى حقيقة واحدة بسيطة، ظهَر انّ لجميع الموجودات حقيقةً واحدة، ذاته بذاته وجود وموجد وهو بحقيقته محقّق الحقائق، وبسطوع نوره منوّر ماهيّات السموات والأرض، فهو الحقيقة والباقي شؤونه، وهو الذات وغيره أسماؤه، وهو الأصل وما سواه أطواره وفروعه وحيثياته.

فعلى هذا يتبيّن وينكشف معنى ما ورد في الأذكار الشريفة الإلهية: يا هو، يا من هو يا من لا هو إلا هو، إذ قد ثبت أنّ الهويّات الوجوديّة التي بعد مرتبة الهويّة الإلهية، كما لا يمكن حصولها في الخارج منحازةً عن الذات الأحديّة، بل هي مقوّمة قوامها ومقرّرة حقائقها، كذلك لا يمكن للعقل أن يشير إليها إشارة عقليّة أو حسيّة، بحيث تنالها الإشارة منحازة عن الإشارة إلى قيّومها الأحدي، بل هو المشار إليه في كل إشارة، ولا إشارة إليه فيكون محدوداً وهو المشهود في كل شهود ولا شهادة، وهو المنظور بكل عين، ولا نظر إليه فيكون محاطاً به، وهو المسموع بكل سمْع، ولا جهة له، وهو المعقول بكلّ عقل ولا اكتناه به،

-24-

{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [البقرة2: 115].

فهو في كل مكان بلا مكان، وهو في كل زمان بلا زمان، فلا كيْف لذاته، ولا علْم بصفاته، ولا حين لزمانه، ولا كنْه لشأنه، ولا حيث حيث هو، ولا أين أين هو، ولا متى حين هو، فهو هو، ولا هو إلاّ هو، ولا هو بلا هو إلاّ هو، ذلكم الله ربّكم خالق كل شيء لا إله إلاّ هو.

وصلّى الله على سيّد الورى محمد المصطفى وآله مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى.

فصل

[الرحمن والرحيم]

الرَحمان؛ فَعلان، من رَحِم، كغَضْبان وسَكْران من غَضِب وسَكَر والرحيم؛ فعَيلٌ منه ايضاً، كمَريض وسَقيم من مرِضَ وسَقم، فهما اسمان بُنيا على صيغتين من صيَغ المبالغة. وفي الفعلان من المبالغة ما ليس في الفعيل، يدل عليه زيادته في البناء، كما في كبار وكبّار وشُقدُف وشِقِنداف، ولذلك يقال تارةً: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا هذا بحسب الكيفية، ويقال تراة: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، هذا بحسب الكميّة، لأنّ رحمة الدنيا تعمّ المؤمن والكافر، ورحمة الآخرة تخصّ المؤمن، والرَّحْمٰن من الصفات الغالبة كالدَبَران والعَيُّوق والصَعِق ولهذا لم يستعمل في غير الله، كما انّ الله من الأسماء الغالبة. وإطلاق بني حنيفة رحمٰن اليمامة على مُسيلمة، وقع من باب التعنّت في كفرهم، والسبب في ذلك أنّ معناه الحقيقي الأصلي: البالغ في الرحمة غايتها، وهذا المعنى لا يكون صادقاً في حقّ غير الله، لأن ما سواه وإن فُرض كونه راحماً فليست رحمته بالغةً حدّ الغاية، وهو ظاهر، لأنّ من عداه ناقص استفاض الرحمة منه أولاً، ثمّ أعطى شيئاً مما استفاضه، والحقّ الحقيق بالإذعان، إنّ اطلاقه على غيره مجاز رأساً بوجوه:

الأول: أنّ الجود إفادة ما ينبغي لا لعوضٍ، وكل أحد غير الله لا يعطي شيئاً إلاّ ليأخذ عوضاً. لأنّ الأعواض والأغراض بعضها جسمانيّة، وبعضها حسيّة، وبعضها خياليّة وبعضها عقليّة.

فالأول: كمن أعطى ديناراً ليأخذ ثوباً.

والثاني: كمن يُعطى المال لطلب الخدمة أو الإعانة.

والثالث: كمن يعطيه لطلب الثناء الجميل.

والرابع: كمن يعطيه لطلب الثواب الجزيل، أو لإزالة حبّ الدنيا، أو الرقّة الجنسيّة عن قلبه. وهذه الأقسام كلّها أعواض، فيكون ذلك الإعطاء بالحقيقة معاملةً ومعاوضةً ولا يكون جوداً ولا هِبةً وإعطاء، وأما الحقّ تعالى، فهو لمّا كان كاملاً في ذاته وصفاته، فيستحيل أن يعطي شيئاً ليستفيد به كمالاً، فهو الجواد المطلق والراحم الحقّ.

واعلم: أنّ هذا إنّما يتمّ على مذهب أهل الحقّ، القائلين بأنّه تعالى تامّ الفاعليّة بحسب ذاته وصفاته، لا يعتريه قصد زائد ولا لفعله غاية سوى ذاته، وكان صدور الأشياء منه على سبيل العناية والفيض، دون القصد والرويّة، كما زعمَه الأكثرون، تعالى عنه علواً كبيراً.

الثاني: إنّ كلّ ما سواه ممكن الوجود بحسب ماهيّته، والممكن مفتقر في وجوده إلى إيجاد الواجب إيّاه ابتداء، إذ إمكان الشيء علّة احتياجه إلى المؤثّر الواجب، كما بُرهن عليه في مقامه، وكلّ رحمة تصدر من غير الله فهي إنّما دخلت في الوجود بايجاد الله، لا بايجاد غير الله، إذ ليس لغيره صفة الايجاد، بل إنّما شأن غيره الإعداد والتخصيص في الاستناد، فيكون الراحم في الحقيقة هو الله.

-25-

الثالث: إنّ فلاناً يعطى الحِنطَة مثلاً ولكن لا يقع الانتفاع بها ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام، والشهوة الراغبة إلى أكله، والقوى الناهضة لذلك، والآلات المعدّة لنقله وطَحْنه وعَجْنه وطبْخه وغير ذلك، وما يتوقّف عليها من الخشَب والحديد والنجّار والحدّاد، والأرض التي يقومون عليها، والهواء الذي يتنفسّون به، والفلَك الذي يحدّد جهات أمكنتهم وأزمنتهم، والكواكب التي تنوّر في الليل والنهار بحركاتها أكنافهم، وتسخّن أطرافهم، وتنضج حبوبهم وأثمارهم التي يتغذّون بها، والملائكة الذين يدبّرون السموات ويحرّكون الكواكب كالشمس والقمر وغيرهما على سبيل المباشرة، والملائكة العلويّة الذين يدبّرون هذه الملائكة على سبيل التشويق بالوحي والإعلام، فما دام لم يخلق الله هذه الأشياء لم يحصل الانتفاع بتلك الحِنطة، فخالق الحنطة تلك والممكّن لنا من الانتفاع بحفظ هذه الأسباب حتّى يحصل الانتفاع، هو الراحم.

فصل

[تقديم الرحمن على الرحيم]

قيل في تقديم " الرحمن " على " الرحيم " والقياس يقتضي في ذكر النعوت الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، كقولهم: فلان عالِم نِحرير، وفلانٌ شجاع باسل، إنّه لما صار كالعلَم - كما مرّ - يكون أولى بالتقديم. أو لأنّ الرحمن لمّا دلّ على عظائم النِعَم وجلائلها وأصولها، ذكر الرحيم ليتناول ما خرَج منها، فيكون كالتتمّة والرديف. وإنّما وقعت التسمية بهذه الأسماء دون غيرها، ليدلّ على أن الحريّ بالاستعانة به في مجامع المهمّات هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النِعَم ومبدأ الخيرات كلّها عاجلها وآجلها، وجليلها وقيقها، ليتوجّه العارف بجميع قواه ومشاعره إلى جناب القدس، وينقطع نظره عن ما سواه، ويشغل سرّه بذكر مولاه، والاستمداد به في مقاصد أولاه وأخراه.

واعلم: أنّ الأشياء أربعة أقسام: الضروري النافع، والنافع الغير الضروري، وعكسه، والذي لا ضرورة فيه ولا نفع.

أمّا الأول: فهو إمّا في الدنيا فكالتنفّس، فإنّه لو انقطع منك لحظه واحدةً مات القالب، وإما أن يكون في الآخرة، فهو معرفةُ الله، فإنّها إن زالت عن القلب لحظةً واحدةً مات القلب واستوجب العذاب الدائم.

وأمّا الثاني: فهو كالمال في الدنيا وساير العلوم في الآخرة.

وأمّا الثالث: فهو كالمضارّ التي لا بد منها، كالموت والمرض والهرم والفقر، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة، فإنّ منافع الآخرة لا يلزمها شيء من المضارّ.

واما الرابع: فهو كالفقر في الدنيا، والجهل، والعذاب في الآخرة.

إذا عرفت هذا فنقول: قد ذكرنا أنّ النَفَس في الدنيا ضروري نافع، وبانقطاعه يحصل الموتُ، وكذا المعرفة في الآخرة، فلو زالت عن القلب لحظة لهلك، لكن الموت الأول أسهل من الثاني، لأنه لا يتألّم فيه إلاّ ساعة واحدة، وأما الموت الثاني، فإنّه يبقى عذابه أبد الآباد.

-26-

وكما انّ النَفَس له أثران: ادخالُ النسيم الطيّب على القلب، وإبقاء اعتداله وسلامته، وإخراجُ الهواء الفاسد المحترق عن القلب، كذلك الفكر له أثران، أحدهما: ايصال نسيم البرهان إلى القلب الحقيقي، وإبقاء اعتدال الايمان والمعرفة عليه، والثاني: إخراج الأهوية الفاسدة المتولّدة من الشبهات عنه، وما ذلك إلاّ بأن يعرف انّ هذه المحسوسات متناهية في مقاديرها تنتهي بالأخرة الى الفناء بعد وجودها، وأنّ وراء هذا العالم عالمٌ إليه مرجع نفوسنا المطهّرة عن شوائب الأدناس والأرجاس، ليس في ذلك العالَم دثور ولا فناء، بل كلّه حياة وبقاء. ومن وقَف على هذه الأحوال بقي آمِناً من الآفات، واصِلاً الى الخيرات والمبّرات، وبكمال معرفة هذا الأمر، ينكشف لعقلك انّ كلّ ما وجدته ووصلتَ إليه فهو قطرة من بحار رحمة الله، وذرّة من أنوار إحسانه، فعند ذلك ينفتح على قلبك معرفة كون الله تعالى رحماناً رحيماً، وانّه مبدأ الخيرات كلّها ومعطي جلائل النعم ودقائقها، وسوابق المنافع ولواحقها.

فصل

[اتصافه تعالى بالرحمة]

قد ذكر في توجيه وصفه تعالى بالرحمة، ومعناها التعطّف والحُنُوّ، ومنها الرحِم لانعطافها على ما فيها، انه مجاز عن إنعامه على عباده، وقيل: إنّ أسماء الله تعالى إنّما اخذت باعتبار الغايات التي هي الأفعال والآثار، لا باعتبار مباديها التي تكون انفعالات، هذا غاية ما حصل لأصحاب الأنظار من العلم بمثل هذه الأسماء والصفات.

واعلم انّ هذا العلم أيضاً مما خصّ الله به أهل الاشارة دون العبارة، إذ ما ذكروه يؤدّي إلى فتح باب التأويل في أكثر ما ورد في أحوال المبدأ، وقد مرّ في مفاتيح الغيب شيء مما يتعلق بهذه المسألة.

واعلم أنّ جمهور أهل اللسان، لمّا صادَفوا بالاستقراء جزئيّاتِ ما يطلق عليه اسم النار في هذه الدار حارّة، حكموا بأنّ كلّ نار حارّة، ولكن مَن انفتح على قلبه باب الى الملكوت، فربما شاهد نيرانات كامنة في بواطن الأمور، تسخّن الأشياء تسخيناً أشدّ من تسخين هذه النار المحسوسة، ومع ذلك ليست متسخّنة ذات حرارة، وهي كقوّة الغضب وما فوقها، كالنفس وما فوقها، كقهر الله، فالحكم بأنّ كل نار حارّة على عمومه غير صحيح عنده، وكذلك لما شاهدوا في هذا العالَم كلّ محرك لشيء متحرّكاً، وكلّ فاعل لشيء متغيّراً في فاعليّة، حكمَوا بأنّ كلّ محرّك متحرّك، وكلّ فاعل لشيء فاعل بعد ما لم يكن، وعند التحقيق والعرفان، ظهر أن ما زعموه مخالف للبرهان، وكذلك أشياء كثيرة من هذا القبيل.

والسر في الجميع، انّ موجودات هذا العالَم كلّها، لنقصانها في درجة الموجودية، ونزولها في أقصى مرتبة النزول والخسّة تصحبها أعدام وقوى وانفعالات من جهة المادة الجسميّة، فمبادي أفاعليها لا تنفكّ عن انفعالات، وليس هنا فاعل غير منفعل، ولا مؤثّر غير متأثّر، ولا معط غير آخذ، ولا راحم غير مرحوم، وهذا انما هو بحسب الاتّفاق، لا أنّ هذه الأفاعيل داخلة في مفهوماتها تلك الانفعالات.

-27-

فقول أهل الحجاب وأصحاب الارتياب: كلّ كاتب متحرّك الأصابع، وكل فَلَك متحرّك، ليس عند أهل المشاهدة صحيحاً، بل كلّية هذه القضايا عندهم ممنوعة بل ممتنعة، إذ مفهوم الكاتب هو المصوّر للمعاني والمنقّش للحقائق، وليست حركة الأصابع داخلة في مفهومه، ولا من شرطه تحريك الأنامل، فربّ كاتب عندهم كالكرام الكاتبين لم تتحرّك أصابعه عند الكتابة، بل ثمَّ كاتب لم تتغيّر ذاته ولا صفاته ولا كتابته وفعله، وهو الذي كتبَ على نفسه الرحمة، تعالى ذاته وصفاته وقضاؤه عن التبديل والتحويل، كما قال:

{ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } [فاطر35: 43].

وكذا في الوجود أفلاك نوريّة عقليّة يعرفها أهل الله، غير متحرّكة ولا ذات وضع هي السموات العلى، وكذا في الوجود أرض بيضاء نيّرة ليست كهذه الأرض. كدِرة ثقيلة يابسة ذات لون غبراء يعرفها الربّانيون من الحكماء، كما ورد في الحديث: إن لله أرضاً بيضاء مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوماً، هي مثل أيام الدنيا ثلاثون مرّة، مشحونة خلقاً لا يعلمون أنّ الله يُعصى في الأرض، ولا يعلمون أنّ الله خلَق آدم وإبليس.


وإليه الإشارة بقوله تعالى

{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [إبراهيم14: 48]

فكذلك حكم الراحم حيث تصحبه ها هنا رقّة القلب لخصوصية المادّة، لا لضرورة المعنى الموضوع له، ألا ترى أنّ أفاعيل الإنسان - سيّما النفسانية - صادرة من النفس، وإطلاق الأسماء المشتقّة منها عليها على سبيل الحقيقة دون المجاز؟ فإذا نسبت الرحمة إلى النفس وحكم عليها بأنّها راحمة، لم يكن عند أهل اللغة مجازاً، مع أنّها جوهر غير جسماني، فاستقم في هذا المقام، فإنّه من مزالّ الأقدام، وكن متثبّتاً على صراط التحصيل، غير منحرف إلى جانبي التشبيه والتعطيل، والله الهادي إلى سواء السبيل.


مكاشفة

اعلم أن رحمة الله وسِعَت كل شيء وجوداً وماهيّة، فوجود الغضب ايضاً من رحمة الله على عين الغضب، فعلى هذا سبقت رحمتُه غضبَه، لأنّ الوجود عين الرحمة الشاملة للجميع، كما قال سبحانه:

{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف7: 156]

ومن جملة الأعيان والماهيّات التي نالتها كلهال الرحمة الوجودية هو عين الغضب والانتقام. فبالرحمة أوجد الله عينَ الغضب فيكون أصله خيراً وكذا ما يترتّب عليه من الآلام والأسقام والبلايا والمحن وأمثالها مما لا يلائم بعض الطبائع، وإليه أشار عليه وآله السلام بقوله: الخيرُ كلّه بيديك والشرَّ ليس اليك. ومن أمعن النظرَ في لوازم الغضب من الأمراض والآلام والفقر والجهل والموت وغير ذلك، يجدها كلّها بما هي أعداماً أو أموراً عدميّة معدودة من الشرور وأما بما هي موجودات فهي كلّها خيرات فائضة من منبع الرحمة الواسعة والوجود الشامل لكل شيء فعلى هذا يجزم العقل بأنّ صفة الرحمة ذاتيّة لله تعالى وصِفَة الغضب عارضيّة ناشية من أسباب عدميّة.


-28-

إمّا لقصور الوجودات الإمكانية عن الكمال بحسب درجات بُعدها عن الحقّ القيّوم أو لعجز المادّة عن قبول الوجود على الوجه الأتم فينكشف عند ذلك انّ مآل الكلّ إلى الرحمة كما ورد في الحديث فيقول الله: شفعت الملائكةُ، وشفع النبيّون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين.

قال الشيخ العربي في الفتوحات المكية: واعلم أنّ الله يشفع من حيث أسماؤه، فيشفع اسمه أرحم الراحمين عند اسمه القهّار وشديد العقاب ليرفع عقوبته عن هؤلاء الطوائف. فيخرج من النار من لم يعمل خيراً قط، وقد نبّه الله تعالى على هذا المقام فقال

{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم19: 85]

فالمتّقي إنّما هو جليس الاسم الإلهي الذي يقع منه الخوف في قلوب العباد، فسمّي جليسه متّقياً منه، فيحشره الله من هذا الاسم إلى الاسم الذي يعطيه الأمان ممّا كان خائفاً منه، ولهذا يقول (صلى الله عليه وآله) في باب الشفاعة: وبقي أرحم الراحمين. فهذه النسبة، تنسب الشفاعة الى الحقّ من الحقّ من حيث أسماؤه. انتهى كلامه.


حكى الشيخ العراقي في رسالته المسماة باللمعات انه: سمع أبو يزيد البسطامي هذه الآية:

{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم19: 85]

فشهق شهقة وقال: من يكون عنده كيف يحشره إليه. وجاء آخر فقال: من اسم الجبّار إلى اسم الرحمن ومن القهّار الى الرحيم. انتهى.


أقول: إنّما أشار العراقي بقوله: وجاء آخر: إلى الشيخ المذكور الذي نقلنا كلامه المشار إليه سابقاً.

واعلم أنّ معرفة أسماء الله تعالى علم شريف ذوقي، ومشرب عظيم دقيق، قلّ مِن الحكماء من تفطّن بعلم حقائق الأسماء، إلاّ من كوشف بكون وجوده تعالى بأحديّته الجمعيّة كل الموجودات قبل حصولها، وانّ عالم أسمائه عالَم عظيم الفسْحة، فيه صوَر جميع الأعيان والماهيّات، وسنذكر نبذاً من هذا المقام في مستأنف الكلام، عند بيان قوله تعالى:

{ وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة2: 31]

فانتظره موفقاً انشاء الله.


-29-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #78  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ) مصنف و مدقق 1-7

تفسير خواطر محمد متولي الشعراوي (ت 1418 هـ) مصنف و مدقق 1-7

{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

القرآن الكريم منذ اللحظة التي نزل فيها نزل مقرونا بسم الله سبحانه وتعالى ـ ولذلك حينما نتلوه فإننا نبدأ نفس البداية التي أرادها الله تبارك وتعالى ـ وهي أن تكون البداية بسم الله. وأول الكلمات التي نطق بها الوحي لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت { ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ }. وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته في الكون.. هي بسم الله. ونحن الآن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية.

ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام في غار حراء حينما جاءه جبريل وكان أول لقاء بين الملك الذي يحمل الوحي بالقرآن.. وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى: { ٱقْرَأْ }.

واقرأ تتطلب أن يكون الإنسان.. إما حافظا لشيء يحفظه، أو أمامه شيء مكتوب ليقرأه.. ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حافظا لشيء يقرؤه.. وما كان أمامه كتاب ليقرأ منه.. وحتى لو كان أمامه كتاب فهو أميّ لا يقرأ ولا يكتب.

وعندما قال جبريل: { ٱقْرَأْ }.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أنا بقارئ.. وكان الرسول عليه الصلاة والسلام منطقيا مع قدراته. وتردد القول ثلاث مرات.. جبريل عليه السلام بوحي من الله سبحانه وتعالى يقول للرسول { ٱقْرَأْ } ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما أنا بقارئ.. ولقد أخذ خصوم الاسلام هذه النقطة.. وقالوا كيف يقول الله لرسوله اقرأ ويرد الرسول ما أنا بقارئ.

نقول إن الله تبارك وتعالى.. كان يتحدث بقدراته التي تقول للشيء كن فيكون، بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ببشريته التي تقول إنه لا يستطيع أن يقرأ كلمة واحدة، ولكن قدرة الله هي التي ستأخذ هذا النبي الذي لا يقرأ ولا يكتب لتجعله معلما للبشرية كلها إلى يوم القيامة.. لأن كل البشر يعلمهم بشر.. ولكن محمد صلى الله عليه وسلم سيعلمه الله سبحانه وتعالى. ليكون معلما لأكبر علماء البشر.. يأخذون عنه العلم والمعرفة. لذلك جاء الجواب من الله سبحانه وتعالى:

{ ٱقْرَأْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ } [العلق96: 1-2]

أي أن الله سبحانه وتعالى الذي خلق من عدم سيجعلك تقرأ على الناس ما يعجز علماء الدنيا وحضارات الدنيا على أن يأتوا بمثله.. وسيكون ما تقرؤه وأنت النبي الأميّ إعجازا.. ليس لهؤلاء الذين سيسمعونه منك فقط لحظة نزوله. ولكن للدنيا كلها وليس في الوقت الذي ينزل فيه فقط، ولكن حتى قيام الساعة، ولذلك قال جل جلاله:

{ ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ *ٱلَّذِى عَلَّمَ بِٱلْقَلَمِ } [العلق96: 3-4].

-1-

أي أن الذي ستقرؤه يا محمد.. سيظل معلما للإنسانية كلها إلى نهاية الدنيا على الأرض.. ولأن المعلم هو الله سبحانه وتعالى قال: { ٱقْرَأْ وَرَبُّكَ ٱلأَكْرَمُ } مستخدما صيغة المبالغة. فهناك كريم وأكرم.. فأنت حين تتعلم من بشر فهذا دليل على كرم الله جل جلاله.. لأنه يسر لك العلم على يد بشر مثلك.. أما إذا كان الله هو الذي سيعلمك.. يكون " أكرم ".. لأن ربك قد رفعك درجة عالية ليعلمك هو سبحانه وتعالى..

والحق يريد أن يلفتنا إلى أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يقرأ القرآن لأنه تعلم القراءة، ولكنه يقرؤه باسم الله، ومادام بسم الله.. فلا يهم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم من بشر أو لم يتعلم. لأن الذي علمه هو الله.. وعلمه فوق مستوى البشرية كلها.

على أننا نبدأ أيضا تلاوة القرآن بسم الله.. لأن الله تبارك وتعالى هو الذي أنزله لنا.. ويسر لنا أن نعرفه ونتلوه.. فالأمر لله علما وقدرة ومعرفة.. واقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:

{ قُل لَّوْ شَآءَ ٱللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [يونس10: 16]

لذلك أنت تقرأ القرآن باسم الله.. لأنه جل جلاله هو الذي يسره لك كلاما وتنزيلا وقراءة.. ولكن هل نحن مطالبون أن نبدأ فقط تلاوة القرآن بسم الله؟ إننا مطالبون أن نبدأ كل عمل باسم الله.. لأننا لابد أن نحترم عطاء الله في كونه. فحين نزرع الأرض مثلا.. لابد أن نبدأ بسم الله.. لأننا لم نخلق الأرض التي نحرثها.. ولا خلقنا البذرة التي نبذرها. ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع.


إن الفلاح الذي يمسك الفأس ويرمي البذرة قد يكون أجهل الناس بعناصر الأرض ومحتويات البذرة وما يفعله الماء في التربة لينمو الزرع.. إن كل ما يفعله الإنسان هو أنه يعمل فكره المخلوق من الله في المادة المخلوقة من الله.. بالطاقة التي أوجدها الله في أجسادنا ليتم الزرع.

والإنسان لا قدرة له على إرغام الأرض لتعطيه الثمار.. ولا قدرة له على خلق الحبة لتنمو وتصبح شجرة. ولا سلطان له على إنزال الماء من السماء.. فكأنه حين يبدأ العمل باسم الله، يبدؤه باسم الله الذي سخر له الأرض.. وسخر له الحب، وسخر له الماء، وكلها لا قدرة له عليها.. ولا تدخل في طاقته ولا في استطاعته.. فكأنه يعلن أنه يدخل على هذه الأشياء جميعا باسم من سخرها له..

والله تبارك وتعالى سخر لنا الكون جميعا وأعطانا الدليل على ذلك. فلا تعتقد أن لك قدرة أو ذاتية في هذا الكون.
-2-
. ولا تعتقد أن الأسباب والقوانين في الكون لها ذاتية. بل هي تعمل بقدرة خالقها. الذي إن شاء أجراها وإن شاء أوقفها.

الجمل الضخم والفيل الهائل المستأنس قد يقودهما طفل صغير فيطيعانه. ولكن الحية صغيرة الحجم لا يقوى أي انسان على أن يستأنسها. ولو كنا نفعل ذلك بقدراتنا.. لكان استئناس الحية أو الثعبان سهلا لصغر حجمهما.. ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعلهما مثلا لنعلم أنه بقدراته هو قد أخضع لنا ما شاء، ولم يخضع لنا ما شاء. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:


يأتي الله سبحانه وتعالى إلى أرض ينزل عليها المطر بغزارة. والعلماء يقولون إن هذا يحدث بقوانين الكون. فيلفتنا الله تبارك وتعالى إلى خطأ هذا الكلام. بأن تأتي مواسم جفاف لا تسقط فيها حبة مطر واحدة لنعلم أن المطر لا يسقط بقوانين الكون ولكن بإرادة خالق الكون.. فإذا كانت القوانين وحدها تعمل فمن الذي عطلها؟ ولكن إرادة الخالق فوق القوانين إن شاءت جعلتها تعمل وإن شاءت جعلتها لا تعمل.. اذن فكل شيء في الكون باسم الله.. هو الذي سخر وأعطى.. وهو الذي يمنح ويمنع. حتى في الأمور التي للإنسان فيها نوع من الاختيار.. واقرأ قول الحق تبارك وتعالى:

{ لِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ ٱلذُّكُورَ *أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ } [الشورى42: 49-50]

والاصل في الذرية أنها تأتي من اجتماع الذكر والأنثى.. هذا هو القانون.. ولكن القوانين لا تعمل الا بأمر الله.. لذلك يتزوج الرجل والمرأة ولا تأتي الذرية لأنه ليس القانون هو الذي يخلق.. ولكنها إرادة خالق القانون.. ان شاء جعله يعمل.. وان شاء يبطل عمله.. والله سبحانه وتعالى لا تحكمه القوانين ولكنه هو الذي يحكمها.


وكما أن الله سبحانه وتعالى قادر على ان يجعل القوانين تفعل او لا تفعل.. فهو قادر على ان يخرق القوانين.. خذ مثلا قصة زكريا عليه السلام.. كان يكفل مريم ويأتيها بكل ما تحتاج إليه.. ودخل عليها ليجد عندها ما لم يحضره لها..

وسألها وهي القديسة العابدة الملازمة لمحرابها.

{ قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [آل عمران3: 37]

الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة.. مع أن مريم بسلوكها وعبادتها وتقواها فوق كل الشبهات.. ولكن لنعرف أن الذي يفسد الكون.. هو عدم السؤال عن مصدر الأشياء التي تتناسب مع قدرات من يحصل عليها.

-3-

الأم ترى الأب ينفق ما لا يتناسب مع مرتبه.. وترى الابنة ترتدي ما هو أكبر كثيرا من مرتبها أو مصروفها.. ولو سألت الأم الأب أو الابنة من أين لك هذا؟ لما فسد المجتمع.. ولكن الفساد يأتي من أننا نغمض أعيننا عن المال الحرام.

بماذا ردت مريم عليها السلام؟

{ قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [آل عمران3: 37]

اذن فطلاقة قدرة الله لا يحكمها قانون.. لقد لفتت مريم زكريا عليهما السلام إلى طلاقة القدرة.. فدعا زكريا ربه في قضية لا تنفع فيها الا طلاقة القدرة.. فهو رجل عجوز وامرأته عجوز وعاقر ويريد ولدا.. هذه قضية ضد قوانين الكون.. لأن الانجاب لا يتم الا وقت الشباب، فإذا كبر الرجل وكبرت المرأة لا ينجبان.. فما بالك إذا كانت الزوجة أساسا عاقرا.. لم تنجب وهي شابة وزوجها شاب.. فكيف تنجب وهي عجوز وزوجها عجوز.. هذه مسألة ضد القوانين التي تحكم البشر.. ولكن الله وحده القادر على أن يأتي بالقانون وضده.. ولذلك شاء أن يرزق زكريا بالولد وكان.. ورزق زكريا بابنه يحيى.


إذن كل شيء في هذا الكون باسم الله.. يتم باسم الله وبإذن من الله.. الكون تحكمه الأسباب نعم ولكن ارادة الله فوق كل الأسباب.

أنت حين تبدأ كل شيء باسم الله.. كأنك تجعل الله في جانبك يعينك.. ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شيء باسم الله.. لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى.. والفعل عادة يحتاج إلى صفات متعددة.. فأنت حين تبدأ عملا تحتاج إلى قدرة الله وإلى عونه وإلى رحمته.. فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات.. كان علينا أن نحدد الصفات التي نحتاج إليها.. كأن نقول باسم الله القوي وباسم الله الرازق وباسم الله المجيب وباسم الله القادر وباسم الله النافع.. إلى غير ذلك من الأسماء والصفات التي نريد أن نستعين بها.. ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول بسم الله بسم الله بسم الله الجامع لكل هذه الصفات.

على أننا لابد أن نقف هنا عند الذين لا يبدأون أعمالهم بسم الله وإنما يريدون الجزاء المادي وحده.. إنسان غير مؤمن لا يبدأ عمله باسم الله.. وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفي باله الله.. كلاهما يأخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع.. له عطاء ربوبية لكل خلقه الذين استدعاهم للحياة.. ولكن الدنيا ليست هي الحياة الحقيقية للإنسان.
-4-

. بل الحياة الحقيقية هي الآخرة.. الذي في باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء الربوبية.. بقدر عطاء الله في الدنيا.. والذي في باله الله يأخذ بقدر عطاء الله في الدنيا والآخرة.. ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى:

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِي لَهُ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَلَهُ ٱلْحَمْدُ فِي ٱلآخِرَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ } [سبأ34: 1]

لأن المؤمن يحمد الله على نعمه في الدنيا.. ثم يحمده عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة في الآخرة.. فلله الحمد في الدنيا والآخرة.


ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

" كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بباسم الله الرحمن الرحيم أقطع "

ومعنى أقطع أي مقطوع الذنب أو الذيل.. أي عمل ناقص فيه شيء ضائع.. لانك حين لا تبدأ العمل باسم الله قد يصادفك الغرور والطغيان بأنك أنت الذي سخرت ما في الكون ليخدمك وينفعل لك.. وحين لا تبدأ العمل باسم الله.. فليس لك عليه جزاء في الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه في الدنيا.. وبترت أو قطعت عطاءه في الآخرة.. فإذا كنت تريد عطاء الدنيا والآخرة. فأقبل على كل عمل باسم الله.. قبل أن تأكل قل باسم الله لأنه هو الذي خلق لك هذا الطعام ورزقك به.. عندما تدخل الامتحان قل بسم الله فيعينك على النجاح.. عندما تدخل إلى بيتك قل باسم الله لأنه هو الذي يسر لك هذا البيت.. عندما تتزوج قل باسم الله لانه هو الذي خلق هذه الزوجة وأباحها لك.. في كل عمل تفعله ابدأه باسم الله.. لأنها تمنعك من أي عمل يغضب الله سبحانه وتعالى.. فأنت لا تستطيع أن تبدأ عملا يغضب الله باسم الله.. اذا أردت أن تسرق أو أن تشرب الخمر.. أو أن تفعل عملا يغضب الله.. وتذكرت بسم الله.. فإنك ستمتنع عنه.. ستستحي أن تبدأ عملا باسم الله يغضب الله.. وهكذا ستكون أعمالك كلها فيما أباحه الله.

الله تبارك وتعالى حين نبدأ قراءة كلامه باسم الله.. فنحن نقرأ هذا الكلام لأنه من الله.. والله هو الاله المعبود في كونه.. ومعنى معبود أنه يطاع فيما يأمر به.. ولا نقدم على ما نهى عنه.. فكأنك تستقبل القرآن الكريم بعطاء الله في العبادة.. وبطاعته في افعل ولا تفعل.. وهذا هو المقصود أن تبدأ قراءة القرآن بسم الله الذي آمنت به ربا وإلها.. والذي عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما نهى.. والذي بموجب عبادتك لله سبحانه وتعالى تقرأ كتابه لتعمل بما فيه.. والذي خلق وأوجد ويحيي ويميت وله الأمر في الدنيا والآخرة.
-5-

والذي ستقف أمامه يوم القيامة ليحاسبك أحسنت أم أسأت.. فالبداية من الله والنهاية إلى الله سبحانه وتعالى.

بعض الناس يتساءل كيف أبدأ بسم الله.. وقد عصيت وقد خالفت.. نقول اياك أن تستحي أن تقرأ القرآن.. وأن تبدأ بسم الله إذا كنت قد عصيت.. ولذلك أعطانا الله سبحانه وتعالى الحيثية التي نبدأ بها قراءة القرآن فجعلنا نبدؤه باسم الله الرحمن الرحيم.. فالله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن العاصي.. بل يفتح له باب التوبة ويحثه عليها.. ويطلب منه أن يتوب وأن يعود الي الله.. فيغفر له ذنبه، لأن الله رحمن رحيم.. فلا تقل أنني أستحي أن أبدأ باسم الله لأنني عصيته.. فالله سبحانه وتعالى يطلب من كل عاص أن يعود الي حظيرة الايمان وهو رحمن رحيم.. فاذا قلت كيف أقول باسم الله وقد وقعت في معصية أمس.. نقول لك قل باسم الله الرحمن الرحيم.. فرحمة الله تسع كل ذنوب خلقه.. وهو سبحانه وتعالى الذي يغفر الذنوب جميعا.

والرحمة والرحمن والرحيم.. مشتق منها الرحم الذي هو مكان الجنين في بطن أمه.. هذا المكان الذي يأتيه فيه الرزق.. بلا حول ولا قوة.. ويجد فيه كل ما يحتاجه إليه نموه ميسرا.. رزقا من الله سبحانه وتعالى بلا تعب ولا مقابل.. انظر إلى حنو الأم على ابنها وحنانها عليه.. وتجاوزها عن سيئاته وفرحته بعودته اليها.. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى في حديث قدسي.

" أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته "

الله سبحانه وتعالى يريد أن نتذكر دائما أنه يحنو علينا ويرزقنا.. ويفتح لنا أبواب التوبة بابا بعد آخر.. ونعصي فلا يأخذنا بذنوبنا ولا يحرمنا من نعمه.. ولا يهلكنا بما فعلنا. ولذلك فنحن نبدأ تلاوة القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم.. لنتذكر دائما أبواب الرحمة المفتوحة لنا.. نرفع أيدينا إلى السماء.. ونقول يا رب رحمتك.. تجاوز عن ذنوبنا وسيئاتنا. وبذلك يظل قارئ القرآن متصلا بأبواب رحمة الله.. كلما ابتعد عن المنهج أسرع ليعود اليه.. فمادام الله رحمانا ورحيما لا تغلق أبواب الرحمة أبدا.

على أننا نلاحظ أن الرحمن الرحيم من صيغ المبالغة.. يقال راحم ورحمن ورحيم.. اذا قيل راحم فيه صفة الرحمة.. وإذا قيل رحمن تكون مبالغة في الصفة.. وإذا قيل رحيم تكون مبالغة في الصفة.. والله سبحانه وتعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة..

صفات الله سبحانه وتعالى لا تتأرجح بين القوة والضعف.
-6-

وإياكم أن تفهموا أن الله تأتيه الصفات مرة قليلة ومرة كثيرة. بل هي صفات الكمال المطلق.. ولكن الذي يتغير هو متعلقات هذه الصفات.. اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى:

{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [النساء4: 40]

هذه الآية الكريمة.. نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى، ثم تأتي الآية الكريمة بقول الله جل جلاله:

{ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [فصلت41: 46]

نلاحظ هنا استخدام صيغة المبالغة.. " ظلام ".. أي شديد الظلم.. وقول الحق سبحانه وتعالى: " ليس بظلام ".. لا تنفي الظلم ولكنها تنفي المبالغة في الظلم، تنفي أن يظلم ولو مثقال ذرة.. نقول انك لم تفهم المعنى.. ان الله لا يظلم أحدا.. الآية الأولى نفت الظلم عن الحق تبارك وتعالى ولو مثقال ذرة بالنسبة للعبد.. والآية الثانية لم تقل للعبد ولكنها قالت للعبيد.. والعبيد هم كل خلق الله.. فلو اصاب كل واحد منهم أقل من ذرة من الظلم مع هذه الاعداد الهائلة.. فإن الظلم يكون كثيراً جداً، ولو أنه قليل في كميته لأن عدد من سيصاب به هائل.. ولذلك فإن الآية الاولى نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى. والآية الثانية نفت الظلم أيضا عن الله تبارك وتعالى.. ولكن صيغة المبالغة استخدمت لكثرة عدد الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة.


نأتي بعد ذلك إلى رحمن ورحيم.. رحمن في الدنيا لكثرة عدد الذين يشملهم الله سبحانه وتعالى برحمته.. فرحمة الله في الدنيا تشمل المؤمن والعاصي والكافر.. يعطيهم الله مقومات حياتهم ولا يؤاخذهم بذنوبهم، يرزق من آمن به ومن لم يؤمن به، ويعفو عن كثير.. اذن عدد الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا هم كل خلقه. بصرف النظر عن ايمانهم أو عدم ايمانهم.

ولكن في الآخرة الله رحيم بالمؤمنين فقط.. فالكفار والمشركون مطرودون من رحمة الله.. اذن الذين تشملهم رحمة الله في الآخرة.. أقل عددا من الذين تشملهم رحمة الله في الدنيا.. فمن أين تأتي المبالغة؟.. تأتي المبالغة في العطاء وفي الخلود في العطاء.. فنعم الله في الآخرة اكبر كثيراً منها في الدنيا.. المبالغة هنا بكثرة النعم وخلودها.. فكأن المبالغة في الدنيا بعمومية العطاء، والمبالغة في الآخرة بخصوصية العطاء للمؤمن وكثرة النعم والخلود فيها.

لقد اختلف عدد العلماء حول بسم الله الرحمن الرحيم.. وهي موجودة في 113 سورة من القرآن الكريم هل هي من آيات السور نفسها.. بمعنى أن كل سورة تبدأ { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } تحسب البداية على أنها الآية الأولى من السورة، أم أنها حسبت فقط في فاتحة الكتاب، ثم بعد ذلك تعتبر فواصل بين السور..

وقال العلماء أن { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } آية من آيات القرآن الكريم.. ولكنها ليست آية من كل سورة ما عدا فاتحة الكتاب فهي آية من الفاتحة.. وهناك سورة واحدة في القرآن الكريم لا تبدأ بـ { بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } وهي سورة التوبة وتكررت بسم الله الرحمن الرحيم في الآية 30 من سورة النمل في قوله تعالى:

{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } [النمل27: 30]

-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #79  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تيسير التفسير/ القطان (ت 1404 هـ) مصنف و مدقق 1-3

تفسير تيسير التفسير/ القطان (ت 1404 هـ) مصنف و مدقق 1-3


{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }: الحمد والمدحُ أخَوانِ لفظاً، ومعناهما الثناء الجميل، وهما هنا بقصد التعظيم والتبجيل في الضّراء والسراء على السواء.

وبعضهم فرقاً بينهما، فيقول: الحمد يكون بعد الإحسان وهو مأمور به دائما لحديث: " من لم يحمَدِ الناسَ لم يحمد الله ".

أما المدح فيكون قبل الاحسان وبعده. وهو منهيٌّ عنه، لحديث " احثُوا في وجوه المدّاحين التراب ".

والربّ في كلام العرب له معان ثلاثة: السيد المطاع، والرجل المصْلِح للشيء، والمالك للشيء.

فربُّنا جل ثناؤه: السيد المطاع في خلقه، والمصلح أمْرَ خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخَلْق والأمر.

{ ٱلْعَالَمِينَ }: جميع الكائنات في هذا الوجود.

فمعنى { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } الحمد لله الذي له الخلق كله، السماوات والأرض، ومن فيهن وما بينهن، مما يُعلم وما لا يُعلم، فالثناء المطلق الذي لا يُحَدّ لله سبحانه إنما كان لأنه هو رب العالمين.

{ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }: الرحمن صفة ذاتية هي مبدأ الرحمة، وقد تقدم انه لا يوصف بها الا الله:

{ ٱلرَّحْمَـٰنُ *عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [الرحمن55: 1ـ2].
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [طه20: 5].
{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } [الإسراء17: 110].


أما الرحيم، فقد كثر استعمالها في القرآن وصفاً فعليا وجاءت بأسلوب ايصال النعمة والرحمة:

{ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [البقرة2: 143]
{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف7: 156]
{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [الأحزاب33: 43].

ولا نطيل أكثر من ذلك، وإنما نريد أن نبين هنا نكتة إعادتهما وتكرارهما. فنأياً عن أن يُفهم من لفظة الرب صفة الجبروت والقهر اراد الله تعالى أن يذكِّر الخلق برحمته واحسانه، ليجمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال. فذكَر " الرحمن " اي المفيض للنعم بسعة وتجدُّد لا منتهى لهما، و " الرحيم " الثابتَ له وصف الرحمة، لا تزايله أبدا. بذا عرّفهم أن ربوبيته رحمة واحسان، ليعلموا ان هذه الصفة هي الأصلية التي يرجع اليها معنى بقية الصفات فيتعلقوا به ويُقبلوا على اكتساب مرضاته.


هذا وإن تكرار وصف الله لنفسه بالرحمن الرحيم في فاتحة الكتاب لهو تأكيد لمعنى ان الدين الذي كتابه القرآن انما تقوم فضائله ونظُمه على الرحمة والحب والإحسان.

وإذا كان الحمد لله والثناء عليه مرجعهما وأساسهما التربية من الله للعالَم فما أجدر المؤمن ان يتخلق بخُلق الله، وان يلتمس الحمد والثناء من هذا السبيل الكريم. فمن حمّله الله مسئولية التربية من إمام أو معلّم أو أحد الزوجين فإن عليه أن يعتبر ما كُلف برعايته أمانةً عنده من المربي الاعظم سبحانه، فلْيمضِ فيها على سَنَن الرحمة والاحسان لا الجبروت والطغيان. ان ذلك أوفى الى ان يُصلح الله به، وأقربُ ان تناله رحمته.

{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }: قرىء: " مَلك يَوم الدِّين " و " مالكِ يوم الدين " قراءتان يدل مجموعهما على ان المُلك والمِلك في يوم القيامة لله وحده.

-1-

{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [الإنفطار82: 19]

لا يشاركه في ذلك أحدٌ ممن خلق.

وللفظ " الدين " معان كثيرة، منها المكافأة والعقوبة، وهذا المعنى يناسب المقام.

وفي هذا تربية أُخرى للعبد، فإنه إذا آمن بأن هناك يوماً يظهر فيه احسان المحسن، واساءة المسيء، وأن زمام الحكم في ذلك اليوم العظيم بيد الله ـ تكوّن عنده خُلُق المراقبة، وتوقَّع المحاسبة، فكان ذلك أعظمَ سبيل لإصلاح كل ما يعمل.

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }: نخصّك بالعبادة ونخصك بطلب المعونة. والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلُّل، لذلك لم يستعمل اللفظُ الا في الخضوعِ لله تعالى، لأنهُ مولي أعظم النعم، فكان حقيقاً بأقصى غاية الخضوع.

أمرنا الله تعالى أن لا نعبد غيره لأنه هو الإلَه الواحد لا شريك له. وترشدنا عبارة { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } الى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة.

أحدهما: أن نعمل الاعمال النافعة ونجتهد في إتقانها ما استطعنا، لأن طلب المعونة لا يكون الا على عملٍ يود المرء أن يبذل فيه طاقته، فهو يطلب المعونة على اتمامه.

وثانيهما: قصْر الاستعانة بالله عليه وحده.

وليس في هذا ما ينافي التعاون بين الناس.


{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ } [المائدة5: 2].

فان هذا التعاون في دائرة الحدود البشرية لا يخرج عنها.

قال بعض السلف: الفاتحة سر القرآن. وسرُّها هذه الكلمة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالقسم الأول من الآية تبرؤ من الشِرك، والثاني تبرؤ من الحول والقوة، وتفويضٌ إلى الله عز وجل.

{ ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }: هداه الله هُدًى وهَدْياً وهِدَايةً الى الإيمان أرشده، وهداه الى الطريق وهداه الطريق وللطريق بيّنة له وعرّفه به. و الهداية دلالة بلطف، كما يقول الراغب الاصفهاني، والصراط المستقيم: هو الطريق الواضح الذي لا عوج فيه ولا انحراف.

والصراط المستقيم ههنا هو جملة ما يوصِل الناس الى سعادة الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام من جهتي العلم والعمل، وهو سبيل الاسلام الذي ختم الله به الرسالاتِ وجعل القرآن دستوره الشامل، ووكل الى الرسول الكريم تبليغه وبيانه.

فالشريعة الاسلامية في جميع امورها من عقيدة، واخلاق، وتشريع، وفي صلة الانسان بالحياة، وعلاقته بالمجتمع، وعلاقة المسلمين بالأمم ـ تأخذ الطريق الصائب، لا إفراط ولا تفريط. هذا هو الصراط المستقيم.

وهداية الله تعالى لا تحصى، نذكر منها:

أولاً: الهداية التي تعم كل مكلَّف بحيث يهتدي الى مصالحه، كالعقل والفطنة والمعارف الضرورية كما قال عز وجل

{ ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [طه20: 50].


ثانياً: نَصْبُ الدلائل الفارقة بين الحق والباطل، والصلاح والفساد:

{ وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } [البلد90: 10]، وقوله:
{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَٱسْتَحَبُّواْ ٱلْعَمَىٰ عَلَى ٱلْهُدَىٰ } [فصلت41: 17].



ثالثاً: الهداية بإرسال الرسل وانزال الكتب:

{ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا }
[الآنبياء21: 73]، وقوله:
{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } [الإسراء17: 9].


-2-

رابعاً: الكشف عن كثير من أسرار الأشياء كما هي، بالوحي والالهام والرؤيا الصادقة. وهذا القسم يختص بنيله الأولياء. والى ذلك اشار سبحانه وتعالى بقوله:

{ أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ ٱقْتَدِهْ } [الأنعام6: 90].


وقال ابن تيمية: " كل عبد مضطرٌّ دائما الى مقصود هذا الدعاء، أي هداية الصراط المستقيم. فإنه لا نجاة من العذاب إلا بهذه الهداية، ولا وصول الى السعادة الا بها، فمن فاته هذا الهدى فهو إما من المغضوب عليهم، واما من الضالين ". وهذا الاهتداء لا يحصل الا بهدى الله

{ مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [الكهف18: 17].


وقد بين الله تعالى هذا الصراط المستقيم بقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.

اختلف المفسرون في بيان: الذين أنعم اللهُ عليهم، والمغضوبِ عليهم، والضآلِّين ـ وكتبوا وطوّلوا في ذلك. وأحسن ما قيل في ذلك ان الآية دلّت على أن الناس ثلاث فرق:

الفرقة الأولى: أهل الطاعة

{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلاةَ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ *أُوْلَـٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [البقرة2: 3ـ5]،

وهؤلاء هم الذين انعم الله عليهم.


الفرقة الثانية: الكافرون:

{ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ *خَتَمَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } [البقرة2: 6ـ7]،

وهؤلاء هم أهل النقمة المغضوب عليهم.


الفرقة الثالثة: هم المنافقون الحائرون، المترددون بين إيمانهم الظاهر وكفرهم الباطني

{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً } [البقرة2: 10] فهم
{ وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ قَالُوۤا ءَامَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [البقرة2: 14].

وهؤلاء هم الضالّون المتحيرون.


وقد فصّل الله تعالى هذه الفرق الثلاث في أول سورة البقرة كما سيأتي ان شاء الله.

القراءات:

قرأ ابنُ كَثير برواية قنبل، والكسائي عن طريق رويس " السراط " بالسين في الموضعَين، وقرأ الباقون " الصراط " بالصاد، وهي لغة قريش.

هذه هي سورة الفاتحة، وقد تكفّل نصفُها الاول ببيان الحقيقة التي هي أساس هذا الوجود: تقرير ربوبية الله للعاملين ورحمته ورحمانيته، وتفرُّده بالسلطان يوم الدين؛ وتكفّل نصفها الثاني ببيان أساس الخطة العملية في الحياة، سواء في العبادات أو المعاملات. فالعبادة لله، والاستعانة به، والهداية منه بالتزام طريق الله، والبعد عن طريق الجاحدين والضالين المتحدّين.

هذا والمتتبع للقرآن جميعه، الواقف على مقاصده ومعارفه، يرى أنه جاء تفصيلاً لما أجملته هذه السورة الكريمة.

بهذا كانت " فاتحة الكتاب " و " أمَّ القرآن " و " السبع المثاني " والسورة الوحيدة التي طُلبت من المؤمنين في كل ركعة من كل صلاة.

-3-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس
 
 
  #80  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الوسيط في تفسير القرآن الكريم/ طنطاوي (ت 1431 هـ) مصنف و مدقق 1-10


{ بسم ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

الاسم: اللفظ الذى يدل على ذات أو معنى. وقد اختلف النحويون فى اشتقاقه على وجهين، فقال البصريون: هو مشتق من السمو، وهو العلو والرفعة، فقيل: اسم، لأن صاحبه بمنزلة المرتفع به.

وقال الكوفيون: إنه مشتق من السمة وهى العلامة، لأن الاسم علامة لمن وضع له، فأصل اسم على هذا " وسم ".

ويرى المحققون أن رأى البصريين أرجح، لأنه يقال فى تصغير " اسم " سُمىَ، وفى جمعه أسماء، والتصغير والجمع يردان الأشياء إلى أصولها. ولو كان أصله وسم - كما قال الكوفيون - لقيل فى جمعه: أوسام، وفى تصغيره وسيم.

ولفظ الجلالة وهو " الله " علم على ذات الخالق - عز وجل - تفرد به - سبحانه - ولا يطلق على غيره، ولا يشاركه فيه أحد.

قال القرطبى: قوله " الله " هذا الاسم أكبر أسمائه - سبحانه - وأجمعها حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره، ولذلك لم يثن ولم يجمع: فالله اسم للموجود الحق الجامع لصفات الإِلهية، المنعوت بنعوت الربوبيه، المنفرد بالوجود الحقيقى، لا إله إلا هو - سبحانه -

و { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } صفتان مشتقتان من الرحمة. والرحمة فى أصل اللغة: رقة فى القلب تقتضى الإِحسان، وهذا المعنى لا يليق أن يكون وصفاً لله - تعالى-، ولذا فسرها بعض العلماء بإرادة الإِحسان. وفسرها آخرون بالإِحسان نفسه.

والموافق لمذهب السلف أن يقال: هى صفة قائمة بذاته - تعالى - لا نعرف حقيقتها، وإنما نعرف أثرها الذى هو الإِحسان.

وقد كثرت أقوال المفسرين فى العلاقة بين هاتين الصفتين، فبعضهم يرى أن { ٱلرَّحْمـٰنِ } هو المنعم على جميع الخلق. وأن { ٱلرَّحِيمِ } هو المنعم على المؤمنين خاصه. ويرى آخرون أن { ٱلرَّحْمـٰنِ } هو المنعم بجلائل النعم، وأن { ٱلرَّحِيمِ } هو المنعم بدقائقها.

ويرى فريق ثالث أن الوصفين بمعنى واحد وأن الثانى منهما تأكيد للأول. والذى يراه المحققون من العلماء أن الصفتين ليستا بمعنى واحد، بل روعى فى كل منهما معنى لم يراع فى الآخر، فالرحمن بمعنى عظيم الرحمة، لأن فعلان صيغة مبالغة فى كثرة الشئ وعظمته، ويلزم منه الدوام كغضبان وسكران. والرحيم بمعنى دائم الرحمة، لأن صيغته فعيل تستعمل فى الصفات الدائمة ككريم وظريف. فكأنه قيل: العظيم الرحمة الدائمة.

أو أن { ٱلرَّحْمـٰنِ } صفة ذاتية هى مبدأ الرحمة والإِحسان. و { ٱلرَّحِيمِ } صفة فعل تدل على وصول الرحمة والإِحسان وتعديهما إلى المنعم عليه.

ولعل مما يؤيد ذلك أن لفظ الرحمن لم يذكر فى القرآن إلا مجرى عليه الصفات كما هو الشأنِ فى أسماء الذات. قال - تعالى-:

{ ٱلرَّحْمَـٰنُ *عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } (الرحمن55: 1-2) و
{ ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } (طه20: 5)
{ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } (الإسراء17: 110) وهكذا...

-1-


أما لفظ الرحيم فقد كثر فى القرآن استعماله وصفاً فعلياً، وجاء فى الغالب بأسلوب التعدية والتعلق بالمنعم عليه. قال - تعالى

{ إِنَّ ٱللَّهَ بِٱلنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } (البقرة2: 143)
{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } (الأحزاب33: 43)
{ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } (الإسراء17: 66) إلخ.

قال بعض العلماء " وهذا الرأى فى نظرنا هو أقوى الآراء، فإن تخصيص أحد الوصفين بدقائق النعم أو ببعض المنعم عليهم لا دليل عليه، كما أنه ليس مستساغاً أن يقال فى القرآن: إن كلمة ذكرت بعد أخرى لمجرد تأكيد المعنى المستفاد منها ".

والجار والمجرور " بسم " متعلق بمحذوف تقديره ابتدئ.

والمعنى: ابتدئ قراءتى متبركاً ومتيمناً باسم الله الذى هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، والذى رحمته وسعت كل شئ، وأتبرأ مما كان يفعله المشركون والضالون، من ابتدائهم قراءتهم وأفعالهم باسم اللات أو باسم العزى أو باسم غيرهما من الآلهة الباطلة.

هذا وقد أجمع العلماء على أن البسملة جزء آية من سورة النمل فى قوله - تعالى -

{ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } (النمل27: 30)

ثم اختلفوا بعد ذلك فى كونها آية مستقلة أنزلت للفصل بين السور مرة واحدة، أو هى آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة ألخ.

فبعضهم يرى أن البسملة آية من الفاتحة ومن كل سورة، ومن حججهم أن السلف قد أثبتوها فى المصحف مع الأمر بتجريد القرآن مما ليس منه، ولذا لم يكتبوا " آمين ". فثبت بهذا أن البسملة جزء من الفاتحة ومن كل سورة.

وبهذا الرأى قال ابن عباس وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن جبير والشافعى، وأحمد فى أحد قوليه.

ويرى آخرون أن البسملة ليست آية من الفاتحة ولا من غيرها من السور، وقالوا: إنها آية فذة. من القرآن أنزلت للفصل والتبرك للابتداء بها، ومن حججهم أنها لو كانت آية من الفاتحة ومن كل سورة، لما اختلف الناس فى ذلك، ولما اضطربت أقوالهم فى كونها آية من كل سورة أو من الفاتحة فقط.

وكما وقع الخلاف بين العلماء فى كونها آية مستقلة أو آية من كل سورة، فقد وقع الخلاف بينهم - أيضاً - فى وجوب قراءتها فى الصلاة، وفى الجهر بها أو الإِسرار إذا قرئت.

وتحقيق القول فى ذلك مرجعه إلى كتب الفقه، وإلى كتب التفسير التى عنيت بتفسير آيات الأحكام.

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }

{ الحمد } هو الثناء باللسان على الجميل الصادر عن اختيار من نعمة أو غيرها.

{ رب العالمين } أى: مالكهم، إذ الرب مصدر " ربه يربه " إذا تعاهده بالتربية حتى يبلغ به شيئاً فشيئا درجة الكمال. وهو اسم من أسماء الله - تعالى - ولا يطلق على غيره إلا مقيداً فيقال: رب الدار، ورب الضيعة أى: صاحبها ومالكها.


-2-


والعالمين: جمع عالم، وهو كل موجود سوى الله - تعالى -

قال القرطبى: " وهو مأخوذ من العلم والعلامة لأنه يدل على موجده " وقيل: المراد بالعالمين أولو العلم من الإِنس والجن والملائكة.

وقد افتتحت سورة الفاتحة بهذه الجملة الكريمة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } لأنه سبحانه أول كل شئ وآخر كل شئ، ولكى يعلمنا - سبحانه - أن نبدأ كتبنا وخطبنا بالحمد والثناء عليه، حتى نبدأ ونحن فى صلة بالله تكشف عن النفوس أغشيتها، وتجلو عن القلوب أصداءها.

والمعنى - كما قال ابن جرير - " الشكر خالصاً لله - جل ثناؤه - دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه بما أنعم على عباده من النعم التى لا يحصيها العدد. ولا يحيط بعددها غيره أحد، فى تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم فى دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، عن غير استحقاق لهم عليه، ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه، من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود فى دار المقام فى النعيم المقيم. لربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخراً.

فالآية الكريمة قد قررت بصراحة ووضوح ثبوت الثناء المطلق الذى لا يحد لله - تعالى - وانه ليس لأحد أن ينازعه إباه - سبحانه - هو رب العالمين.

وجملة { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } مفيدة لقصر الحمد عليه - سبحانه - نحو قولهم: " الكرم فى العرب ". كما أن أل فى " الحمد " للاستغراق. أى: أن جميع أجناس الحمد ثابتة لله رب العالمين.

وإنما كان الحمد مقصوراً فى الحقيقة على الله، لأن كل ما يستحق أن يقابل بالثناء فهو صادر عنه ومرجعه إليه، إذ هو الخالق لكل شئ، وما يقدم إلى بعض الناس من حمد جزاء إحسانهم، فهو فى الحقيقة حمد لله، لأنه - سبحانه - هو الذى وفقهم لذلك وأعانهم عليه.

ولم تفتتح السورة بصيغة الأمر بأن يقال: احمدوا الله، وإنما افتتحت بصيغة الخبر { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ، لأن الأمر يقتضى التكليف: والتكليف قد تنفر منه النفوس أحياناً، فأراد - سبحانه - وهو يبادئهم بشرعة جديدة وتكاليف لم يعهدوها، أن يؤنس نفوسهم، ويؤلف قلوبهم، فساق لهم الخطاب بصيغة الخبر، ترفقا بهم، حتى يديموا الإِصغاء لما سيلقيه عليهم من تكاليف.

وقد تكلم بعض المفسرين عن الحكمة فى ابتداء السورة الكريمة بقوله - تعالى - { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } ، دون قوله - تعالى -: المدح لله، أو: الشكر لله. فقال:

اعلم أن المدح أعم من الحمد، والحمد أعم من الشكر. أما بيان أن المدح أعم من الحمد فلأن المدح يحصل للعاقل وغير العاقل، ألا ترى أنه كما يحسن مدح الرجل العاقل على أنواع فضائله، فكذلك قد يمدح اللؤلؤ لحسن شكله.


-3-


أما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار على ما يصدر منه من الإِنعام والإِحسان، فثبت أن المدح أعم من الحمد.

وأما بيان أن الحمد أعم من الشكر، فلأن الحمد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإِنعام. سواء أكان ذلك الإِنعام واصلا إليك أم إلى غيرك. وأما الشكر فهو عبارة عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليك، فثبت بما ذكرنا أن المدح أعم من الحمد، وأن الحمد أعم من الشكر.

إذا عرفت هذا فنقول: إنما لم يقل: المدح لله، لأننا بينا أن المدح كما يحصل للفاعل المختار فقد يحصل لغيره. وأما الحمد فإنه لا يحصل إلا للفاعل المختار. فكان قوله " الحمد لله " تصريحاً بأن المؤثر فى وجود هذا العالم فاعل مختار خلقه بالقدرة والمشيئة... وإنما لم يقل: الشكر لله، لأننا بينا أن الشكر عبارة عن تعظيمه بسبب إنعام صدر منه ووصل إليك، وهذا يشعر بأن العبد إذا ذكر تعظيمه بسبب ما وصل إليه من النعمة. فحينئذ يكون المطلوب الأصلى له وصول النعمة إليه. وهذه درجة حقيرة. فأما إذا قال " الحمد لله " ، فهذا يدل على أن العبد حمده لأجل كونه مستحقا للحمد لا لخصوص أنه - سبحانه - أوصل النعمة إليه، فيكون الإِخلاص أكمل، واستغراق القلب فى مشاهدة نور الحق أتم، وانقطاعه عما سوى الحق أقوى وأثبت.

وقد أجرى - سبحانه - على لفظ الجلالة نعت الربوبيه للعالمين، ليكون كالاستدلال على استحقاقه - تعالى - للحمد وحده، وفى ذلك إشعار لعباده بأنهم مكرمون من ربهم، إذ الأمر بغير توجيه فيه إيماء إلى إهمال عقولهم، أما إذا كان موجهاً ومعللا فإنه يكون فيه إشعار لهم برعاية ناحية العقل فيهم، وفى تلك الرعاية تشريف وتكريم لهم.

فكأنه - سبحانه - يقول لهم: اجعلوا حمدكم وثناءكم لى وحدى. لأنى أنا رب العالمين. وأنا الذى تعهدتكم برعايتى وتربيتى منذ تكوينكم من الطين حتى استويتم عقلاء مفكرين.

وقد أتبع - سبحانه - هذا الوصف وهو { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، بوصف آخر هو { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } لحكم سامية من أبرزها: أن وصفه - تعالى - بـ { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أى: مالكهم، قد يثير فى النفوس شيئاً من الخوف أو الرهبة، فإن المربى قد يكون خشناً جباراً متعنتاً، وذلك مما يخدش من جميل التربية، وينقص من فضل التعهد.

لذا قرن - سبحانه - كونه مربياً، بكونه الرحمن الرحيم، لينفى بذلك هذا الاحتمال، وليفهم عباده بأن ربوبيته لهم مصدرها عموم رحمته وشمول إحسانه، فهم برحمته يوجدون، وبرحمته يتصرفون ويرزقون، وبرحمته يبعثون ويسألون.

ولا شك أن فى هذا الإِفهام تحريضاً لهم على حمده وعبادته بقلوب مطمئنة، ونفوس مبتهجة، ودعوة لهم إلى أن يقيموا حياتهم على الرحمة والإِحسان، لا على الجبروت والطغيان، فالراحمون يرحمهم الرحمن.


-4-


{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }

بعد أن بين - سبحانه - لعباده موجبات حمده، وأنه الجدير وحده بالحمد، لأنه المربى الرحيم، والمنعم الكريم، أتبع ذلك ببيان أنه - سبحانه - { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }.

والمالك وصف من الملك - بكسر الميم - بمعنى حيازة الشئ مع القدرة على التصرف فيه. واليوم فى العرف: ما يكون من طلوع الشمس إلى غروبها، وليس هذا مراداً هنا، وإنما المراد مطلق الزمن وهو يوم القيامة.

والدين: الجزاء والحساب، يقال: دنته بما صنع، أى: جازيته على صنيعه، ومنه قولهم. كما تدين تدان. أى: كما تفعل تجازى، وفى الحديث " الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت " أى: حاسب نفسه: والمعنى: أنه - تعالى - يتصرف فى أمور يوم الدين من حساب وثواب وعقاب، تصرف المالك فيما يملك، كما قال - تعالى -

{ يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } (الإنفطار82: 19)

وهناك قراءة أخرى للآية وهى { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } من الملك - بضم الميم - وعليها يكون المعنى: أنه - تعالى - هو المدبر لأمور يوم الدين، وأن له على ذلك اليوم هيمنة الملوك وسيطرتهم، فكل شئ فى ذلك اليوم يجرى بأمره، وكل تصرف فيه ينفذ باسمه، كما قال - تعالى -

{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } (غافر40: 16)

قال الإِمام ابن كثير: " وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه، لأنه قد تقدم الإِخبار بأنه رب العالمين، وذلك عام فى الدنيا والآخرة. وإنما أضيف إلى يوم الدين، لأنه لا يدعى أحد هنالك شيئاً، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه، كما قال - تعالى -

{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلاَئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } (النبأ78: 38)

والملك فى الحقيقة هو الله، قال - تعالى -

{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلْمَلِكُ ٱلْقُدُّوسُ ٱلسَّلاَمُ } (الحشر59: 23)

وفى الصحيحين عن أبى هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " يقبض الله الأرض، ويطوى السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون، أين المتكبرون " ثم قال: وأما تسمية غيره فى الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز كما قال - تعالى -

{ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } (البقرة2: 247)

وفى هذه الأوصاف التى أجريت على الله تعالى، من كونه ربا للعالمين وملكا للأمر كله يوم الجزاء، بعد الدلالة على اختصاص الحمد به فى قوله: { ٱلْحَمْدُ للَّهِ } فى كل ذلك دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه للحمد والثناء عليه، بل لا يستحق ذلك على الحقيقة سواه، فإن ترتب الحكم على الوصف مشعر بعليته له ".


-5-


والمتدبر لهذه الآية الكريمة يراها خير وسيلة لتربية الإِنسان وغرس الإِيمان العميق فى قلبه، لأنه إذا آمن بأن هناك يوما يظهر فيه إحسان المحسن وإساءة المسئ، وأن زمام الحكم فى ذلك اليوم لله الواحد القهار، فإنه فى هذه الحالة سيقوى عنده خلق المراقبة لخالقه، ويجتهد فى السير على الطريق المستقيم.

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }

كانت الآيات الثلاث التى تقدمت هذه الآية تقريراً للحقيقة فى جانب الربوبية وعظمتها وعموم سلطانها وسعة رحمتها تقريرا جمع أمور الدنيا والآخرة ثم جاءت هذه الآية لتقرر أن الذى يجدر بنا أن نعبده وأن نسعتين به إنما هو الله الذى تجلت أوصافه، ووضحت عظمته، وثبتت هيمنته على هذا الكون.

ولفظ " إيا " ضمير منفصل، و " الكاف " الملحقة به للخطاب.

والعبارة تفيد أن الطاعة البالغة حد النهاية فى الخضوع والخشوع والتعظيم، والعبادة الصحيحة تتأتى للمسلم بتحقق أمرين: إخلاصها لله، وموافقتها لما جاء به النبى صلى الله عليه وسلم.

قال ابن جرير: " لأن العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة، وأنها تسمى الطريق المذلل الذى وطئته الأقدام وذللته السابلة معبداً ".

والاستعانة: طلب المعونة، من أجل الأقتدار على الشئ والتمكن من فعله.

والمعنى: لك يا ربنا وحدك نخشع ونذل ونستكين، فقد توليتنا برعايتك وغمرتنا برحمتك، فنحن نخصك بطلب الإِعانة على طاعتك وعلى أمورنا كلها، ولا نتوجه بهذا الطلب إلى أحد سواك، فأنت المستحق للعبادة، وأنت القدير على كل شئ، والعليم ببواطن الأمور وظواهرها، لا تخفى عليك طوية، ولا تتوارى عنك نية.

وقدم - سبحانه - المعبود على العبادة فقال: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ، لإِفادة قصر العبادة عليه، وهو ما يقتضيه التوحيد الخالص.

وقال: { نعبد } بنون الجماعة ولم يقل أعبد، ليدل على أن العبادة أحسن ما تكون فى جماعة المؤمنين، وللإِشعار بأن المؤمنين المخلصين يكونون فى اتحادهم وإخائهم بحيث يقوم كل واحد منهم فى الحديث عن شئونهم الظاهرة وغير الظاهرة مقام جميعهم، فهم كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: " المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم ".

وقدمت العبادة على الاستعانة، لكون الأولى وسيلة إلى الثانية. وتقديم الوسائل سبب فى تحصيل المطالب، وليدل على أنهم لا يستقلون بإقامة العبادات، بل إن عون الله هو الذى ييسر لهم أداءها.

ولم يذكر المستعان عليه من الأعمال، ليشمل الطلب كل ما تتجه إليه نفس الإِنسان من الأعمال الصالحة.

وجاءت الآية الكريمة بأسلوب الخطاب على طريقة الالتفات، تلوينا لنظم الكلام من أسلوب إلى أسلوب. وقد وضح هذا المعنى صاحب الكشاف فقال: " فإن قلت: لم عدل عن لفظ الغيبة إلى لفظ الخطاب؟ قلت: هذا يسمى الالتفات فى علم البيان.


-6-


وهو قد يكون من الغيبة إلى الخطاب، ومن الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم... وذلك على عادة العرب فى افتنانهم فى الكلام وتصرفهم فيه. لأن الكلام إذا نقل من أسلوب إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظاً للإِصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد: وقد تختص مواضعه بفوائد. ومما اختص به هذا الموضع: أنه لما ذكر الحقيق بالحمد، وأجرى عليه تلك الصفات العظام، تعلق العلم بمعلوم عظيم الشأن، حقيق بالثناء وغاية للخضوع والاستعانة فى المهمات، فخوطب ذلك المعلوم المتميز بتلك الصفات فقيل: إياك يا من هذه صفاته نخصك بالعبادة والاستعانة، ولا نعبد غيرك ولا نستعينه... ".

هذا، وقد جاءت فى فضل هذه الآية الكريمة آثار متعددة، ومن ذلك قول بعض العلماء: الفاتحة سر القرآن، وسرها هذه الكلمة { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } فالأول تبرؤ من الشرك، والثانى تبرؤ من الحول والقوة والتفويض إلى الله ".

ثم بين - سبحانه - أن أفضل شئ يطلبه العبد من ربه، إنما هو هدايته إلى الطريق الذى يوصل إلى أسمى الغايات، وأعظم المقاصد، فقال - تعالى -:

{ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.

والهداية: هى الإِرشاد والدلالة بلطف على ما يوصل إلى البغية، وتسند الهداية إلى الله وإلى النبى وإلى القرآن، وقد يراد منها الإِيصال إلى ما فيه خير، وهى بهذا المعنى لا تضاف إلى الله - تعالى -.

قال أبو حيان فى البحر ما ملخصه: وقد تأتى بمعنى التبيين كما فى قوله - تعالى -

{ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } (فصلت41: 17)

أى بينا لهم طريق الخير. أو بمعنى الإِلهام كما فى قوله تعالى.

{ قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ *قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } (طه20: 49-50)

قال المفسرون معناه: ألهم الحيوانات كلها إلى منافعها، أو بمعنى الدعاء كما فى قوله. تعالى:

{ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } (الرعد13: 7)

أى: داع. والأصل فى هدى أن يصل إلى ثانى معموليه باللام كما فى قوله. تعالى.

{ إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ يَِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (الإسراء17: 9)

أو بإلى كما فى قوله تعالى:

{ وَإِنَّكَ لَتَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } (الشورى42: 52)

ثم يتسع فيه فيعدى إليه بنفسه ومنه: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }.

والصراط: الجادة والطريق، من سَرط الشئ إذا ابتلعه، وسمى الطريق بذلك لأنه يبتلع المارين فيه، وتبدل سينه صاد على لغة قريش.

والمستقيم: المعتدل الذى لا اعوجاج فيه.

وأنعمت عليهم: النعمة لين العيش وخفضه، ونعم الله كثيرة لا تحصى.

{ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } الغضب هيجان النفس وثورتها، عند الميل إلى الانتقام، وهو ضد الرضا. وإذا أسند إلى الله فسر بمعنى إرادة الانتقام أو بمعنى الانتقام نفسه.

والموافق لمذهب السلف أن يقال: هو صفة له - تعالى - لائقة بجلاله لا نعلم حقيقتها مجردة عن اللوازم البشرية وإنما نعرف أثرها وهو الانتقام من العصاة، وإنزال العقوبة بهم.


-7-


والمعنى: اهدنا يا ربنا إلى طريقك المستقيم، الذى يوصلنا إلى سعادة الدنيا والآخرة، ويجعلنا مع الذين أنعمت عليهم من خلقك، وجنبنا يا مولانا طريق الذين غضبت عليهم من الأمم السابقة أو الأجيال اللاحقة بسبب سوء أعمالهم وطريق الذين هاموا فى الضلالات، فانحرفوا عن القصد، وحق عليهم العذاب.

وفى هذا الدعاء أسمى ألوان الأدب، لأن هذا الدعاء قد تضرع به المؤمنون إلى خالقهم بعد أن اعترفوا له - سبحانه - قبل ذلك بأنه هو المستحق لجميع المحامد، وأنه هو رب العالمين، والمتصرف فى أحوالهم يوم الدين.

قال الإِمام ابن كثير: وهذا أكمل أحوال السائل. أن يمدح مسئوله ثم يسأل حاجته وحاجة إخوانه المؤمنين بقوله: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإِجابة، ولهذا أرشدنا الله إليه لأنه الأكمل.

وقد تكلم المفسرون كلاماً كثيراً عن المراد بالصراط المستقيم الذى جعل الله طلب الهداية إليه فى هذا السورة أول دعوة علمها لعباده. والذى نراه: أن أجمع الأقوال فى ذلك أن المراد بالصراط المستقيم، هو ما جاء به الإِسلام من عقائد وآداب وأحكام، توصل الناس متى اتبعوها إلى سعادة الدنيا والآخرة، فإن طريق السلام هو الطريق الذى ختم الله به الرسالات السماوية، وجعل القرآن دستوره الشامل، ووكل إلى النبى صلى الله عليه وسلم أمر تبليغه وبيانه.

وقد ورد فى الأحاديث النبوية ما يؤيد هذا القول، ومن ذلك ما أخرجه الإِمام أحمد فى مسنده، عن النواس بن سمعان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتى الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإِنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال له: ويحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجه، فالصراط الإِسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعى من فوق الصراط واعظ الله فى قلب كل مسلم ".

والمراد بقوله - تعالى - { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } أى: ثبتنا عليه، واجعلنا من المداومين على السير فى سبيله، فإن العبد مفتقر إلى الله فى كل وقت لكى يثبته على الهداية، ويزيده منها، ويعينه عليها. وقد أمر سبحانه المؤمنين أن يقولوا:

{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ ٱلْوَهَّابُ } (آل عمران3: 8)

وجملة { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل من الصراط المستقيم.

ولم يقل: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم مستغنياً عن ذكر الصراط المستقيم، ليدل أن صراط هؤلاء المنعم عليهم هو الصراط المستقيم.


-8-


وقال: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ولم يقل صراط الأنبياء أو الصالحين، ليدل على أن الدين فى ذاته نعمة عظيمة، ويكفى للدلالة على عظمتها إسنادها إليه - تعالى - فى قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لأن المراد بالإِنعام هنا - على الراجح - الإِنعام الدينى. فالمنعم عليهم هم من عرفوا الحق فتمسكوا به، وعرفوا الخير فعملوا به.

قال بعض العلماء: (وإنما اختار فى البيان أن يضيف الصراط إلى المنعم عليهم لمعنيين:

أولهما: هو إبراز نفسية المحب المخلص، وأنه يكون شديد الاحتياط دقيق التحرى عن الطريق الموصل إلى ساحة الرضا فى ثقة تملأ نفسه، وتفعم قلبه، ولا يجد فى مثل هذا المقام ما يملأ نفسه ثقة إلا أن يبين الطريق، بأنه الطريق الذى وصل بالسير عليه من قبله الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون.

وثانيهما: أن من خواطر المؤمل فى نعيم ربه أن يكون تمام أنسه فى رفقة من الناس صالحين، وصحب منهم محسنين).

وقوله - تعالى - { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } بدل من { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وأتى فى وصف الإِنعام بالفعل المسند إلى الله - تعالى - فقال: { أنعمت عليهم } فى وصف الغضب باسم المفعول فقال: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم } وفى ذلك تعليم لأدب جميل، وهو أن الإِنسان يجمل به أن يسند أفعال الإِحسان إلى الله، ويتحامى أن يسند إليه أفعال العقاب والابتلاء، وإن كان كل من الإِحسان والعقاب صادراً منه، ومن شواهد هذا قوله - تعالى - حكاية عن مؤمنى الجن

{ وَأَنَّا لاَ نَدْرِيۤ أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } (الجن70: 10)

وحرف (لا) فى قوله { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } جئ به لتأكيد معنى النفى المستفاد من كلمة غير. والمراد بالمغضوب عليهم اليهود. وبالضالين النصارى. وقد ورد هذا التفسير عن النبى صلى الله عليه وسلم فى حديث رواه الإِمام أحمد فى مسنده وابن حبان فى صحيحه.

ومن المفسرين من قال بأن المراد بالمغضوب عليهم من فسدت إرادتهم حيث علموا الحق ولكنهم تركوه عناداً وجحودا، وأن المراد بالضالين من فقدوا العلم فهم تائهون فى الضلالات دون أن يهتدوا إلى طريق قويم.

وقدم المغضوب عليهم على الضالين، لأن معنى المغضوب عليهم كالضد لمعنى المنعم عليهم، ولأن المقابلة بينهما أوضح منها بين المنعم عليهم والضالين، فكان جديراً بأن يوضع فى مقابلته قبل الضالين.

قال العلماء: ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها (آمين) ومعناه اللهم استجب وليس هذا اللفظ من القرآن بدليل أنه لم يثبت فى المصاحف والدليل على استحباب التأمين ما رواه الإِمام أحمد وأبو داود والترمذى عن وائل بن حجر قال: سمعت النبى صلى الله عليه وسلم قرأ { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } فقال: (آمين) مد بها صوته.

وفى الصحيحين عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:


-9-


" إذا أمن الإِمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه ".

هذا، وقد أفاض العلماء فى الحديث عما اشتملت عليه سورة الفاتحة من آداب وعقائد وعبادات وأحكام، ومن ذلك قول ابن كثير.

(اشتملت هذه السورة الكريمة، وهى سبع آيات - على حمد الله وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو يوم الدين، وعلى إرشاد عبيده إلى سؤاله والتضرع إليه والتبرى من حولهم وقوتهم، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية، وتنزيهه عن أن يكون له شريك أو نظير، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم، وهو الدين القويم وتثبيتهم عليه، واشتملت على الترغيب فى الأعمال الصالحة ليكونوا مع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة، وهم المغضوب عليهم والضالون).

وقال بعض العلماء: سورة الفاتحة مشتملة على أربعة أنواع من العلوم هى مناط الدين.

أحدها: علم الأصول وإليه الإِشارة بقوله { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، ومعرفة النبوات وإليه الاشارة بقوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ومعرفة المعاد وإليه الاشارة بقوله { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }.

وثانيها: علم الفروع وأعظمه العبادات وإليه الإِشارة بقوله { إِيَّاكَ نَعْبُدُ }.

وثالثها: علم الأخلاق، وإليه الإِشارة بقوله { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }.

ورابعها: علم القصص والأخبار عن الأمم السابقة السعداء منهم والأشقياء، وهو المراد بقوله { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.


-10-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم

آخر تعديل بواسطة admin ، 12-11-2010 الساعة 04:56 PM
رد مع اقتباس
 
إضافة رد
أدوات الموضوع ابحث في الموضوع
ابحث في الموضوع:

البحث المتقدم
انواع عرض الموضوع

ضوابط المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا يمكنك اضافة مرفقات
لا يمكنك تعديل مشاركاتك

BB code متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 09:54 AM.


Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.