عرض مشاركة واحدة
 
  #6  
قديم 12-04-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق 8-14

تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق 8-14

{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } * { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } * { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } * { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } * { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } * { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }

{ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ } [البقرة2: 247]،

ولهذا قال عليه السلام: " الإمامة في قريش " وقريش أفضل قبائل العرب، والعرب أفضل من العَجَم وأشرف. ويتضمن الاقتدار والاختيار، وذلك أمر ضروري في المَلِك، إن لم يكن قادراً مختاراً نافذاً حكمه وأمره، قهره عدوّه وغلبه غيره وازدرته رعيته؛ ويتضمن البطش والأمر والنهي والوعد والوعيد؛ ألا ترى إلى قول سليمان عليه السلام:

{ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } [النمل27: 20 ـ 21]

إلى غير ذلك من الأمور العجيبة والمعاني الشريفة التي لا توجد في المالك.


قلت: وقد احتج بعضهم على أن مالكاً أبلغ لأن فيه زيادة حرف؛ فلقارئه عشر حسنات زيادة عمن قرأ ملك. قلت: هذا نظر إلى الصيغة لا إلى المعنى، وقد ثبتت القراءة بملك، وفيه من المعنى ما ليس في مالك، على ما بينا والله أعلم.

السادسة عشرة: لا يجوز أن يتسمَى أحد بهذا الاسم ولا يدعى به إلا الله تعالى؛ روى البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك أين ملوك الأرض " وعنه أيضاً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إن أَخْنَع اسم عند الله رجل تسمّى ملك الأملاك ـ زاد مسلم ـ لا مالك إلا الله عزّ وجلّ " قال سفيان: «مثل: شاهانْ شَاهْ. وقال أحمد بن حنبل: سألت أبا عمرو الشيبانيّ عن اخنع؛ فقال: أوْضع». وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه رجل (كان) يسمى ملك الأملاك لا ملك إلا الله سبحانه " قال ٱبن الحصار: وكذلك { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } و { مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ } لا ينبغي أن يُختلف في أن هذا محرّم على جميع المخلوقين كتحريم ملك الأملاك سواء، وأما الوصف بمالك وملك.

السابعة عشرة: فيجوز أن يوصف بهما من ٱتصف بمفهومهما؛ قال الله العظيم:

{ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً } [البقرة2: 247].

وقال صلى الله عليه وسلم: " ناس من أمتي عُرِضُوا عليَّ غُزاةً في سبيل الله يركبون ثَبَجَ هذا البحر ملوكا على الأسِرّة أو مثل الملوك على الأسرة " الثامنة عشرة: إن قال قائل: كيف قال: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } ويوم الدين لم يوجد بعدُ، فكيف وصف نفسه بملك ما لم يوجده؟ قيل له: اعلم أن مالكاً اسم فاعل من ملك يملك، واسم الفاعل في كلام العرب قد يضاف إلى ما بعده وهو بمعنى الفعل المستقبل ويكون ذلك عندهم كلاماً سديداً معقولا صحيحاً؛ كقولك: هذا ضارب زيد غدا؛ أي سيضرب زيداً. وكذلك: هذا حاجّ بيت الله في العام المقبل، تأويله سيحج في العام المقبل؛ أفلا ترى أن الفعل قد يُنسب إليه وهو لم يفعله بعدُ، وإنما أريد به الاستقبال؛ فكذلك قوله عزّ وجلّ: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } على تأويل الاستقبال، أي سيملك يوم الدِّين أو في يوم الدين إذا حضر.


-8-

ووجه ثان: أن يكون تأويل المالك راجعاً إلى القدرة؛ أي إنه قادر في يوم الدين، أو على يوم الدين وإحداثه؛ لأن المالك للشيء هو المتصرف في الشيء والقادر عليه؛ والله عزّ وجلّ مالك الأشياء كلها ومصرفها على إرادته، لا يمتنع عليه منها شيء.

والوجه الأوّل أمَسُّ بالعربية وأنفذ في طريقها؛ قاله أبو القاسم الزجاجي.

ووجه ثالث: فيقال لِمَ خصص يوم الدِّين وهو مالك يوم الدين وغيره؟ قيل له: لأن في الدنيا كانوا منازعين في الملك، مثل فرعون ونمروذ وغيرهما، وفي ذلك اليوم لا ينازعه أحد في ملكه، وكلهم خضعوا له، كما قال تعالى:

{ لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ } [غافر40: 16]

فأجاب جميع الخلق: { لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } فلذلك قال: مالك يوم الدين؛ أي في ذلك اليوم لا يكون مالك ولا قاضٍ ولا مُجازٍ غيره؛ سبحانه لا إله إلا هو.


التاسعة عشرة: إنْ وُصِف الله سبحانه بأنه مَلِكٌ كان ذلك من صفات ذاته، وإن وُصف بأنه مالك كان ذلك من صفات فعله.

الموفية العشرين: اليوم: عبارة عن وقت طلوع الفجر إلى وقت غروب الشمس، فٱستعير فيما بين مبتدأ القيامة إلى وقت استقرار أهل الدارين فيهما. وقد يطلق اليوم على الساعة منه؛ قال الله تعالى:

{ ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة5: 3].

وجَمْعُ يومٍ أيام؛ وأصله أَيْوَام فأدغم؛ وربما عبّروا عن الشدة باليوم، يقال: يوم أيْوَم، كما يقال: ليلةٌ لَيْلاَء. قال الراجز:

نِعْمَ أخو الهيجاء في اليوم ٱلْيَمِي


وهو مقلوب منه، أخَّر الواو وقدّم الميم ثم قلبت الواو ياء حيث صارت طَرَفا؛ كما قالوا: أدْلٍ في جمع دَلْوٍ.

الحادية والعشرون: الدِّين: الجزاء على الأعمال والحساب بها؛ كذلك قال ٱبن عباس وٱبن مسعود وٱبن جريج وقتادة وغيرهم، وروي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم؛ ويدل عليه قوله تعالى:

{ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ ٱللَّهُ دِينَهُمُ ٱلْحَقَّ } [النور24: 25]

أي حسابهم. وقال:

{ ٱلْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَـسَبَتْ } [غافر40: 17] و

{ ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الجاثية45: 28]

وقال:

{ أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } [الصافات37: 53]

أي مجزيُّون محاسبون. وقال لَبيد:

حصَادُك يوماً ما زرعتَ وإنمايُدَانُ الفتى يوماً كما هو دائن


آخر:

إذا ما رمونا رميناهمُودِنّاهُم مثل ما يُقرضونا


آخر:

وٱعلم يقينا أن مُلْكك زائلٌوٱعلم بأن كما تَدين تُدانُ


وحكى أهل اللغة: دِنْته بفعله دَيْناً (بفتح الدال) ودِيناً (بكسرها) جزيته؛ ومنه الدّيّان في صفة الرب تعالى أي المجازي؛ وفي الحديث: " الكيِّس من دان نفسه " أي حاسب. وقيل: القضاء. روي عن ٱبن عباس أيضاً؛ ومنه قول طَرَفة:

-9-

لَعَمْرُكَ ما كانت حمُولة مَعْبَدٍعلى جُدّها حَرْباً لدِينكَ من مُضَرْ


ومعاني هذه الثلاثة متقاربة. والدِّين أيضاً: الطاعة؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم:

وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍعَصينا المَلْكَ فيها أن ندِينا


فعلى هذا هو لفظ مشترك وهي:

الثانية والعشرون: قال ثعلب: دان الرجل إذا أطاع، ودان إذا عصى، ودان إذا عَزّ، ودان إذا ذلّ، ودان إذا قهر؛ فهو من الأضداد. ويطلق الدِّين على العادة والشأن، كما قال:

كدِينك من أمّ الحُوَيْرِث قبلها


وقال المُثقِّب (يذكر ناقته):

تقول إذا دَرَأتُ لها وضِينيأهذا دينُه أبداً ودِيني


والدِّين: سيرة الملك. قال زُهير:

لئن حللتَ بجوّفي بني أسدفي دِين عمرو وحالت بيننا فَدَكُ


أراد في موضع طاعة عمرو. والدِّين: الدّاء؛ عن اللّحياني. وأنشد:

يا دِينَ قلبِك من سَلْمَى وقد دِينَا


الثالثة والعشرون: قوله تعالى: { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } رجع من الغيبة إلى الخطاب على التلوين؛ لأنّ من أوّل السورة إلى ها هنا خبراً عن الله تعالى وثناءً عليه، كقوله:

{ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [الإنسان76: 21].

ثم قال: «إنَّ هَذَا كَان لَكُمْ جَزَاءً». وعكسه:

{ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس10: 22]

على ما يأتي. و { نَعْبُدُ } معناه نطيع؛ والعبادة الطاعة والتذلل. وطريق مُعبَّد إذا كان مذلّلا للسالكين؛ قاله الهَرَوِيّ. ونُطقُ المكلّف به إقرارٌ بالربوبية وتحقيقٌ لعبادة الله تعالى؛ إذ سائر الناس يعبدون سواه من أصنام وغير ذلك. { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } أي نطلب العَوْن والتأييد والتوفيق.


قال السُّلَمِيّ في حقائقه: سمعت محمد بن عبد اللَّه بن شاذان يقول: سمعت أبا حفص الفرغاني يقول: من أقرّ بـ «إياك نعبد وإياك نستعين» فقد برىء من الجَبْر والقَدَر.

الرابعة والعشرون: إن قيل: لم قدّم المفعول على الفعل؟ قيل له: قدّم ٱهتماماً، وشأن العرب تقديم الأهم. يذكر أن أعرابياً سبّ آخر فأعرض المسبوبُ عنه؛ فقال له الساب: إياك أعْني: فقال له الآخر: وعنك أُعرض؛ فقدّما الأهم. وأيضاً لئلا يتقدّم ذكر العبد والعبادة على المعبود؛ فلا يجوز نعبدك ونستعينك، ولا نعبد إياك ونستعين إياك؛ فيقدّم الفعل على كناية المفعول، وإنما يتبع لفظ القرآن. وقال العَجّاج:

إيّاك أدْعُو فتقّبل مَلَقِيوٱغفِر خطاياي وكثّر ورقي


ويروى: وثَمِّر. وأمّا قول الشاعر:

إليكَ حتى بَلَغَتْ إيّاكا


فشاذٌ لا يقاس عليه. والورِق بكسر الرّاء من الدراهم، وبفتحها المال. وكرر الاسم لئلا يتوهّم إياك نعبد ونستعين غيرك.

الخامسة والعشرون: الجمهور من القرّاء والعلماء على شدّ الياء من «إياك» في الموضعين. وقرأ عمرو بن فائد: «إيَاك» بكسر الهمزة وتخفيف الياء، وذلك أنه كره تضعيف الياء لثقلها وكون الكسرة قبلها. وهذه قراءة مرغوب عنها، فإن المعنى يصير: شمسَك نعبد أو ضوءك؛ وإيَاةُ الشمس (بكسر الهمزة): ضوءها؛ وقد تُفتح. وقال:

سَقَتْهُ إيَاةُ الشّمس إلا لِثاتِهأُسِفَّ فلم تَكْدِم عليه بإثمد


فإن أسقطت الهاء مددت.

-10-

ويقال: الإياة للشمس كالهالة للقمر، وهي الدّارة حولها. وقرأ الفضل الرّقاشيّ: «أياك» (بفتح الهمزة) وهي لغة مشهورة. وقرأ أبو السَّوّار الغَنَوِي: «هياك» في الموضعين، وهي لغة؛ قال:

فهِيّاكَ والأمر الذي إن توسّعتْموارده ضاقت عليك مصادره


السادسة والعشرون: { وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [الفاتحة: 5].

عطف جملة على جملة. وقرأ يحيى بن وَثَّاب والأعمش: «نِستعين» بكسر النون، وهي لغة تميم وأسد وقيس وربيعة، ليدل على أنه من ٱستعان، فكُسرت النون كما تُكسر ألف الوصل. وأصل «نستعين» نستعوِن، قلبت حركة الواو إلى العين فصارت ياء، والمصدر ٱستعانة، والأصل ٱستعوان؛ قلبت حركة الواو إلى العين فانقلبت ألفا ولا يلتقي ساكنان فحذفت الألف الثانية لأنها زائدة، وقيل الأولى لأن الثانية للمعنى، ولزمت الهاء عِوَضاً.

السابعة والعشرون: قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6].

اهدنا دعاء ورغبة من المربوب إلى الرب؛ والمعنى: دلنا على الصراط المستقيم وأرشدنا إليه، وأرنا طريق هدايتك الموصلة إلى أنسك وقُرْبك. قال بعض العلماء: فجعل الله جلّ وعزّ عظم الدعاء وجملته موضوعاً في هذه السورة، نصفها فيه مجمع الثناء، ونصفها فيه مجمع الحاجات، وجعل هذا الدعاء الذي في هذه السورة أفضل من الذي يدعو به (الداعي) لأن هذا الكلام قد تكلم به رب العالمين، فأنت تدعو بدعاء هو كلامه الذي تكلم به؛ وفي الحديث: " ليس شيء أكرم على الله من الدعاء " وقيل المعنى: أرشدنا باستعمال السُّنن في أداء فرائضك؛ وقيل: الأصل فيه الإمالة؛ ومنه قوله تعالى:

{ إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } [الأعراف7: 156]

أي مِلْنا؛ وخرج عليه السلام في مرضه يتهادى بين ٱثنين، أي يتمايل. ومنه الهدية؛ لأنها تمال من مِلك إلى مِلك. ومنه الهَدْيُ للحيوان الذي يساق إلى الحَرَم؛ فالمعنى مِل بقلوبنا إلى الحق. وقال الفُضيل بن عِيَاض: «الصراط المستقيم» طريق الحج، وهذا خاص والعموم أولى. قال محمد بن الحنفية في قوله عزّ وجل: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [الفاتحة: 6]: هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره. وقال عاصم الأحْوَل عن أبي العالية: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه من بعده. قال عاصم فقلت للحسن: إن أبا العالية يقول: «الصراط المستقيم» رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحباه، قال: صدق ونصح.

الثامنة والعشرون: أصل الصراط في كلام العرب الطريق؛ قال عامر بن الطُّفيل:

شحنَّا أرْضَهم بالخَيْل حتىتركناهم أَذلّ مِن الصّراط


وقال جَرير:

أمير المؤمنين على صِراطإذا ٱعْوَج المواردُ مُستقيم


وقال آخر:

فَصَدّ عنْ نَهْج الصِّراطِ الواضِح


وحكى النقاش: الصراط الطريق بلغة الروم؛ قال ٱبن عطية: وهذا ضعيف جدّاً. وقُرىء: السراط (بالسين) من الاستراط بمعنى الابتلاع؛ كأن الطريق يسترط مَن يسلكه. وقرىء بين الزاي والصاد. وقرىء بزاي خالصة والسين الأصل. وحكى سَلَمَة عن الفرّاء قال: الزراط بإخلاص الزاي لغة لعُذْرة وكَلْب وبنى الْقَيْن، قال: وهؤلاء يقولون (في أصدق): أزدق.

-11-

وقد قالوا: الأَزْد والأَسْد، ولسق به ولصق به. و «الصِّراط» نصب على المفعول الثاني؛ لأن الفعل من الهداية يتعدّى إلى المفعول الثاني بحرف جر؛ قال الله تعالى:

{ فَٱهْدُوهُمْ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات37: 23].

وبغير حرف كما في هذه الآية. «المستقيم» صفة لـ «ـلصراط»، وهو الذي لا ٱعوجاج فيه ولا ٱنحراف؛ ومنه قوله تعالى:

{ وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ } [الأنعام6: 153]

وأصله مُستقْوِم، نقلت الحركة إلى القاف وٱنقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها.


التاسعة والعشرون: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.

صراط بدل من الأوّل بدل الشيء من الشيء؛ كقولك: جاءني زيد أبوك. ومعناه: أدِم هدايتنا، فإن الإنسان قد يُهدَى إلى الطريق ثم يُقطع به. وقيل: هو صراط آخر، ومعناه العلم بالله جلّ وعزّ والفهم عنه؛ قاله جعفر بن محمد. ولغة القرآن «الَّذِين» في الرفع والنصب والجر؛ وهُذَيل تقول: اللّذُون في الرفع، ومن العرب من يقول: اللذو، ومنهم من يقول: الذي؛ وسيأتي.

وفي «عليهم» عشر لغات؛ قرىء بعامتها: «عليهُمْ» بضم الهاء وإسكان الميم. «وعليهِم» بكسر الهاء وإسكان الميم. و «عليهِمِي» بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة. و «عليهِمُو» بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة. و «عليهُمُو» بضم الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم. و «عليهُمُ» بضم الهاء والميم من غير زيادة واو. وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القرّاء. وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القرّاء: «عليهُمِي» بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم؛ حكاها الأخفش البصري عن العرب. و «عليهُمِ» بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء. و «عليهِمُ» بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو. و «عليهِمِ» بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم. وكلها صواب؛ قاله ٱبن الأنباري.

الموفية الثلاثين: قرأ عمر بن الخطاب وٱبن الزبير رضي الله عنهما «صراط مَن أنعمت عليهم». وٱختلف الناس في المُنْعَم عليهم؛ فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين. وٱنتزعوا ذلك من قوله تعالى:

{ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [النساء4: 69].

فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد؛ وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى لتعديد الأقوال والله المستعان.


الحادية والثلاثون: في هذه الآية ردّ على القَدَرية والمعتزلة والإمامية، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه، طاعةً كانت أو معصيةً؛ لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه؛ وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم؛ فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة؛ وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه؛ وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.

-12-

فكما سألوه أن يهديهم سألوه ألاّ يُضلّهم، وكذلك يدعون فيقولون:

{ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } [آل عمران3: 8] الآية.


الثانية والثلاثون: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.

ٱختلف في «المغضوب عليهم» و «الضالين» من هم؟ فالجمهور أن المغضوب عليهم اليهود، والضالين النصارى، وجاء ذلك مفسراً عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في حديث عَدِي بن حاتم. وقصة إسلامه، أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده، والترمذي في جامعه. وشهد لهذا التفسير أيضاً قوله سبحانه في اليهود:

{ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ } [آل عمران3: 112]

وقال:

{ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ } [الفتح48: 6]

وقال في النصارى:

{ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ ٱلسَّبِيلِ }[المائدة5: 77].

وقيل: «المغضوب عليهم» المشركون. و «الضالين» المنافقون. وقيل: «المغضوب عليهم» هو مَن أسقط فرض هذه السورة في الصلاة؛ و «الضالين» عن بركة قراءتها. حكاه السُّلَمِيّ في حقائقه والماوردي في تفسيره؛ وليس بشيء. قال الماوردي: وهذا وجه مردود؛ لأن ما تعارضت فيه الأخبار وتقابلت فيه الآثار وٱنتشر فيه الخلاف، لم يجز أن يطلق عليه هذا الحكم. وقيل: «المغضوب عليهم» بٱتباع البدع؛ و «الضالين» عن سنن الهدى.


قلت: وهذا حسن؛ وتفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم أوْلَى وأعلى وأحسن. و «عليهم» في موضع رفع، لأن المعنى غضب عليهم. والغضب في اللغة الشدّة. ورجل غضوب أي شديد الخُلُق. والغَضُوب: الحية الخبيثة لشدّتها. والغَضْبَة: الدَّرَقَة من جلد البعير يُطوى بعضها على بعض؛ سُمِّيت بذلك لشدّتها. ومعنى الغضب في صفة الله تعالى إرادة العقوبة، فهو صفة ذات، وإرادة الله تعالى من صفات ذاته؛ أو نفس العقوبة، ومنه الحديث: " إن الصدقة لتطفىء غضب الرب " فهو صفة فعل.

الثالثة والثلاثون: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } الضلال في كلام العرب هو الذهاب عن سنَن القصد وطريق الحق؛ ضل اللبن في الماء أي غاب. ومنه: «أَئذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْض» أي غبنا بالموت وصرنا تراباً؛ قال:

ألم تَسْألْ فَتُخْبِرَك الدِّيارُعن الحَيِّ المُضَلَّل أَيْنَ ساروا


والضُّلَضِلَة: حجر أملس يردّده الماء في الوادي. وكذلك الغضبة: صخرة في الجبل مخالفةٌ لونَه، قال:

أَوْ غَضْبَة في هَضْبَةٍ ما أمْنَعا.

الرابعة والثلاثون: قرأ عمر بن الخطاب وأَبَيّ بن كعب «غير المغضوب عليهم وغير الضالين» وروي عنهما في الراء النصب والخفض في الحرفين؛ فالخفض على البدل من «الذين» أو من الهاء والميم في «عليهم»؛ أو صفة للذين والذين معرفة ولا توصف المعارف بالنكرات ولا النكرات بالمعارف، إلا أنّ الذين ليس بمقصود قصدهم فهو عام؛ فالكلام بمنزلة قولك: إني لأمُرّ بمثلك فأكرمه؛ أو لأن «غير» تعرّفت لكونها بين شيئين لا وسط بينهما، كما تقول: الحيّ غير الميت، والساكن غير المتحرّك، والقائم غير القاعد، قولان: الأوّل للفارسيّ، والثاني للزمخشريّ.

-13-

والنصب في الراء على وجهين: على الحال من الذين، أو من الهاء والميم في عليهم، كأنك قلت: أنعمت عليهم لا مغضوباً عليهم. أو على الاستثناء، كأنك قلت: إلا المغضوب عليهم. ويجوز النصب بأعني؛ وحُكي عن الخليل.

الخامسة والثلاثون: «لا» في قوله «ولا الضالين» ٱختلف فيها، فقيل هي زائدة؛ قاله الطبريّ. ومنه قوله تعالى:

{ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف7: 12].

وقيل: هي تأكيد دخلت لئلا يتوهم أن الضالين معطوف على الذين، حكاه مكيّ والمهدويّ. وقال الكوفيون: «لا» بمعنى غير، وهي قراءة عمر وأُبَيّ؛ وقد تقدّم.


السادسة والثلاثون: الأصل في «الضالين»: الضاللين حذفت حركة اللام الأولى ثم أدغمت اللام في اللام فٱجتمع ساكنان مَدّة الألف واللام المدغمة. وقرأ أيوب السختيانيّ: «ولا الضألين» بهمزة غير ممدودة؛ كأنه فرّ من التقاء الساكنين وهي لغة. حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عُبيد يقرأ:

{ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [الرحمن55: 39].

فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب: دأبّة وشأبّة. قال أبو الفتح: وعلى هذه اللغة قول كُثَيّر:

إذا ما العَوَالي بالعبيط احمأرّت


نجز تفسير سورة الحمد، ولله الحمد والمنة.

-14-

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس