عرض مشاركة واحدة
 
  #6  
قديم 02-18-2012
نائل أبو محمد نائل أبو محمد غير متواجد حالياً
عضو بناء
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 6,651
افتراضي رد: بعض جوانب التاريخ الاجتماعي للقدس في العهدين الأيوبي والمملوكي د. علي السيد علي محمود

السبت 26 ربيع الأول 1433

المرأة ومكانتها في المجتمع:
أمَّا عن مكانة المرأة المقدسيَّة، فالمصادر التاريخية وكُتب الرَّحَّالة الذين زاروا القدس في ذلك العصر، بل وحتى المصادر الوثائقيَّة كلُّها تشير إلى أنَّ المرأة تمتَّعت بقسط كبير من التقدير والتكريم.

وخيرُ شاهد على ذلك تلك الألْقاب التي أطْلَقَها الناس على نسائهم وبناتهم، مثل: (الأصيلة)، و(ست الخلق)، و(ست الحكَّام)، و(ست الناس)، و(ست القضاة)، و(ست الكل)، و(ست الأهل)، و(ست النظر)، و(شمس الضحى)، و(شمسية)، و(علماء)، و(تاج النساء)، و(عصمة الدين)، و(الزهراء)، و(اللطيفة)، و(سعود).

وكذلك الكُنَى، مثل: (أم الحسن)، و(أم الخيرات والبركات)، و(أم كلثوم)، وغيرها من الألْقاب والكُنَى المقدَّسة لدى جميع أبناء الديانات السماوية الثلاث[8].

ومن التقدير: إذا خرجتْ إحدى النِّساء إلى الطريق وكان زوجها مقتدرًا، يحضر لها حِمارًا يقوده مكاري، ويتبعها خادم.

يُضاف إلى هذا كثرة ما تُطالعنا به المصادرُ التاريخيَّة، وكُتب التراجم من أوصافٍ لبعض النساء؛ لأنَّ الواحدة منهن (كانتْ من النساء العفائف، وذات معروف، وصَدَقة وصلاح)، أو أنها (كان دَيِّنة عفيفة، بارَّة، كثيرةَ الأوقاف على الخير)، أو أنها (كانتْ على كثير من الدماثة والاحتشام)، أو أنها ذات (السِّتْر الرفيع)، أو (الحِجاب المنيع)[9].

وإذا ألْقينا نظرةً على ما جاء في بعض كتب الرَّحَّالة الذين زاروا القدس في ذلك العصر، أمكْنَنا أن نستشفَّ بعض الجوانب المضيئة من مكانة المرأة.

فها هو أحد الرَّحَّالة يقول: إنَّ الإجلال الواضح كان لكلِّ النساء المسلمات، أو المسيحيَّات، أو اليهوديَّات، فكنَّ يتنقلنَ من مكان لآخر في كلِّ أحياء القدس دون حارس، ودون أن يتعرَّض لهنَّ أحد بكلمة سُوء، سواء أكان كبيرًا أم صغيرًا.

وإذا حدث والْتَقتْ واحدة منهنَّ في الطريق رجلاً لا تعرفه، فإنَّها تميل عنه ببصرها، كما أنَّها عادةً ما تسير وهي تضع على وجْهِها الخمار، بحيث لا يمكن التعرُّف عليها، وغالبًا ما تسير محتشمة، ولم تحاول إبرازَ مفاتنها وجمالها؛ لكيلاَ تلفتَ الأنظار إليها[10].

• وانظر معي إلى قول رحَّالة آخر عاش فترةً كبيرة في بيت المقدس، وهو الأب (سوريانو) حين يقول: يجب أن تعلمَ أنَّ المرأة هنا تَلْقى كثيرًا من التقدير والإكرام من قِبَل الرجل، وأنَّ على الرجل أن يُقدِّم لها كثيرًا من الأموال نظيرَ تكاليف الحياة؛ لأنَّ المرأة كانت هي رَبَّة الأُسْرة، التي تتولى توجيهَ الأموال لشراء ما يلزم منزلَها وأولادَها وزوجَها.

ثم نراه يقول: "وكذلك كان على الرجل أنْ يمنحَها الكثيرَ من النقود سنويًّا لشراء ما يلزمها من ملابسَ وأحذية، وكذلك الحال عندما تلد طفلاً جديدًا[11].

• أما الرحَّالة (فيلكس فابري) الذي زار القدس مرتَيْن سَنَة 1480م، وسنة 1483م، وفي زيارته الثانية أمْضَى فترةً طويلة هناك، نراه يقول: "إنهنَّ من حيث زينتهنَّ وملابسهنَّ، واتخاذهنَّ الحجاب، وشكلهنَّ الخارجي كُنَّ وقوراتٍ، ولا يمكن مقارنتهنَّ بنساء الغَرْب الأوربي يومئذ، ما جعلهن يَحْظَيْنَ بمكانة لائقة في المجتمع[12].

• ويؤكِّد الرحالة (كازولا) - أيضًا - ذلك الاحتشام، وأنَّ المرأة المقدسية لم تحاول إبرازَ جمالها ومفاتنها؛ كيلاَ تلفت الأنظار إليها بقوله: "وفي بيت المقدس لم أستطعْ أن أرى امرأةً جميلة؛ لأنهنَّ يمشينَ ووجوهنَّ مغطاة بحِجاب سميك، ويرتدين فوقَ رؤوسهنَّ شيئًا يشبه الصندوق - يقصد بذلك القُبَّعة التي كُنَّ يَقمنَ بصنعها يَدويًّا؛ لتغطيَ الرأس، ويتدلَّى منها عصابتان من القماش الأبيض الطويل اللَّتان تتدلَّيَان لأسفل - علمًا بأنَّ المرأة المقدسيَّة لم تهملِ العنايةَ بنفسها وجسدها؛ نظرًا لما عُرِف في ذلك العصر من أنواع الزِّينة المختلفة، من طلاء الأظافر، والوشم الذي اعتادتْ كثيرٌ من النِّساء أن يُزَيِّنَّ به أجزاءً مختلفة من أجسامهنَّ، وهذه الظاهرة واضحة بصِفة خاصة لدى المرأة المسيحية، التي كانتْ تخرج إلى الكنيسة في أبْهى زينتها، ولعلَّ هذا ما دَفَع كثيرًا من رجال الدين المسيحيِّين إلى محاربة ذلك عن طريق عَقْد المجامع الدينية؛ لإثارة هذه المشكلة[13].

وتشير الوثائق إلى الحِرْص الشديد من الرجال عندما يشعرون بمرض قد يخشى منه الموت على أن يتركوا لنسائهم وبناتهم، وأمَّهاتهم وأخواتهم ما يَضْمنون لهنَّ به حياةً كريمة، خصوصًا إذا كان الزوج لم ينجب من زوجته، أو يكون بلا وريث من الأبناء، وإذا لم تستغرقِ الورثة الإرث كله، فإنَّ بيت المال والمتمثِّل في ديوان المواريث الحشرية، فإنَّه سيحصل على نصيبٍ أكبرَ من التركة، فكان الرجل منهم إما أن يعمل حصرًا بموجوداته قبلَ الوفاة على يد أحد قُضاة الشَّرْع والشهود، ويثبت أنَ تَرِكته مَدِينة لزوجته، وأنَّ لها في ذمَّته مبلغ كذا، كمؤخَّر صداق، أو أن يقوم ببيع كلِّ ممتلكاته لها، أو وقفها عليها، أو على أخته أو أمه، أو ابنته أو جاريته، ولم يكن هذا التصرُّف قاصرًا على المسلمين وحدَهم، بل شاركهم فيه أبناءُ أهل الذِّمَّة من مسيحيِّين ويهود في ذلك العصر.

• ففي الوثيقة رقم 220 المؤرخة في 18 شعبان سنة 745هـ: أقرَّ الزوج أنَّ كلَّ ما ذكره في الوثيقة مِن قماش وأثاث ونُحاس، وبُسُط وفُرُش مِلْكٌ لزوجته، كما أقرَّ أنَّ لزوجته في ذمته صَداقَها، وقدرُه مائتا درهم.

وبذا فإنَّه حَرَم ابن أخيه من الإرث؛ لأنَّه تمَّ تقدير هذه التَّرِكة بمبلغ مائة وستين درهمًا، وبهذا تكون التَّرِكة كلُّها مدينةً لزوجته[14].

• ونفس الشيء نراه في الوثيقة رقم 205 والمؤرخَّة بتاريخ العشر الأوسط من جمادى الآخرة سنة 781هـ، فقد جاء فيها: أنَّ مؤخَّر صَدَاق زوجة الشخص المذكور (من الدراهم الفضة معاملة يومئذ ثلثمائة درهم وستين درهمًا، نصفها مائة درهم وثمانون درهمًا، وذلك صَدَاق الزوجة دَيْنًا على موسى المذكور)، وتمَّ بيْع تَرِكته بمبلغ 262 درهمًا، فإذا حَسَبْنا تكاليف تكفينه ودفنه، تكون التركة مدينةً بمبلغ كبير للزوجة[15].

ومِن الأضواء الجديدة التي تُلقيها الوثائق ما يُفيد أنه كان للمرأة المقدسيَّة ذِمَّتُها المالية المنفصلة تمامًا عن ذمَّة أبيها أو زوجها، لا شأنَ للزوج أو لغيره بمالها، بل تتصرَّف فيه كالرجل تمامًا، فتبيع وتشتري وتَهَب وتُوصي، وتتبرَّع وتَرْهَن، وتُؤجِّر وتَسْتأجِر، إلى غير ذلك من التصرُّفات، وليس لأحد أن يمنعها من ذلك.

فالوثيقة رقم 382 المؤرَّخة في 17 رجب سنة 740هـ تذكر أنَّ إحدى النساء تُدعَى الحاجة الجليلة شيرين بنت عبدالله زوج برهان الدين الناصري، قارئ الحديث الشريف، قد اشترتْ بمالها لنفسها دون غيرها من الحاجَّة المصونة بيرم بنت عبدالله، زوج الصدر الأجل زين الدين خضر الجارية التكرورية الجِنْس، بثمنٍ مبلغُه من الدراهم الفضة معاملة الشام المحروس أربعمائة درهم وثمانون درهمًا، نصفها مائتا درهم وأربعون درهمًا[16].

• وأثبتتِ الوثائق - أيضًا - أنه كان لها وحْدَها حقُّ التصرُّف في أموالها، إلا أنْ تُوكِّل وكيلاً عنها، وأنها متى وكَّلت عنها، فإنَّها تستطيع إلغاء هذه الوكالة إذا رأتْ في ذلك ما يتعارض مع مصالحها.

فالوثيقة رقم 710 المؤرخَّة في 6 رمضان سنة 795هـ تذكر أنَّ المرأة الكامل فاطمة بنت الشيخ الصالح برهان الدين إبراهيم بن جمال الدين عبدالله البعلبكي أشهدتْ على نفسها عندَ قاضي القدس: أنها عَزَلَتْ والدها الشيخ برهان الدين إبراهيم من الوكالة الصادرة منها له قبل تاريخه، وأنَّه ليس بوكيل لها في أمرٍ من الأمور لا مِن جهة إرث، ولا غيره، وأنها كما وكَّلتْه فهو معزول[17].

ومِن الأضواء الجديدة - أيضًا - حقُّ المرأة في التخلُّص من الزوجيَّة بطريق الخُلْع متى رأتِ استحالةَ الحياة مع زوجها، بأن تُعطيَ الزوج ما كانت أخذتْ منه باسم الزوجيَّة؛ لينهيَ علاقته بها، من مَهْر وتكاليف زواج وزفاف، ونفقة عليها.

وهو ما يُسمَّى كذلك بالفِداء؛ لأنَّ المرأة تفتدي نفسها بما تبذله لزوجها، والخُلْع عادةً ما يكون بتراضي الزوْجَين، فإن لم يتمَّ التراضي بينهما، فللقاضي إلْزامُ الزوج بالخُلْع.

وأهمية الخُلْع: أنه يجعل أمْرَ المرأة بيدها؛ أي: إنَّ الزوج لا يستطيع أن يرجعها إلى عصمته إلا برِضاها، سواء كانتْ في أيام العِدَّة، أم لم تكن، وبعَقْد جديد، واتفاق جديد[18].

فالوثيقة رقم 47 والمؤرخَّة في 6 ذي القعدة سنة 770هـ قد جاء فيها أنَّ الزوج يتزوَّج امرأتَه خديجة للمرة الثالثة، وأنها كانت قد اختلعتْ منه، ويتبيَّن من هامش الصفحة الأيمن للوثيقة أنَّ الزوج زاد قيمةَ الصداق مائتي دينار، فأصبح الصَّداق 300 دينار[19].

كذلك تُلقي بعضُ الوثائق الضوءَ على المحافظة على حقوقها، وخصوصًا عندما تقع بينها وبين زوجها بعضُ الخِلافات الزوجيَّة، التي قد تؤدِّي إلى الطلاق، وحقها في رفْع دعوى قضائية على الزوج؛ لمطالبته بما تستحقُّ مِن مُتعة بعد الطلاق.

فالوثيقة رقم 653 والمؤرخَّة في 15 ذي الحجَّة سنة 795هـ تُفيد مطالبةَ الزَّوجة بحقِّها هذا، وقد حَكَم لها قاضي القدس بمبلغ أقلَّ من نصف الصَّدَاق كما هو مُقتضى الشريعة[20].

كما تُشير بعضُ الوثائق إلى حقِّ الأمِّ في حَضانة أبنائها عندما يحدُث خلافٌ بيْنها وبيْن زوجها يؤدِّي إلى الطلاق، ما لم يقمْ بالأمِّ مانع، وكذلك حقها في الحصول على أُجْرة للرَّضَاع، وخصوصًا بعد انقضاء فترة العِدَّة؛ لأنَّها في فترة العِدَّة تكون لها نفقةٌ على مطلِّقها، وهي النفقة الزوجيَّة، وكما تجب أُجْرة الرَّضَاع وأُجْرة الحضانة لها على الأب، تجب عليه أُجْرةُ السَّكن أو إعداده، إذا لم يكن للأمِّ مسكن مملوك لها تحضن فيه الصغير.

وكذلك تجب عليه أُجْرة خادم، أو إحضاره إذا احتاجتْ إلى خادم، وكان الأب ميسورًا، وهذا بخلاف حقِّها في الحصول على نفقات الطفل الخاصَّة من طعام وكِساء، وفراش وعلاج، ونحو ذلك من حاجاته الأولية التي لا يُستغنى عنها، وتنتهي الحضانة إذا استغنى الصغير أو الصغيرة عن خِدمة النِّساء، وبَلَغ سِنَّ التمييز والاستقلال، وقَدَر الواحد منهما على أن يقومَ وحدَه بحاجاته الأوليَّة، بأن يأكل وحده، ويلبس وحدَه، وينظِّف نفسه وحدَه[21].

• فقد جاء في الوثيقة رقم 287 بتاريخ 12 صفر سنة 787هـ: أنَّ الزَّوْجة المطلَّقة (قبضتْ وتسلَّمت، وصار إليها مِن يدِ زوجها من الذهب الهرجة المصري المسكوك أربعون مثقالاً، نِصْف ذلك عشرون مثقالاً، وذلك مؤخَّر صَدَاقها على زوْجِها المسمَّى فيه قبضًا شرعيًّا، ولم يتأخَّرْ لها من ذلك شيء، قَلَّ ولا جَلَّ، وأقرَّتْ - أيضًا - أنها مواصلة بكسوتها ونفقتها من زَوْجها المسمَّى من تاريخ الزوجيَّة بينهما، وإلى يوم تاريخه...)[22].

• كما جاء في الوثيقة رقم 458 بتاريخ 18 ربيع الأول سنة 783هـ مقدار ما دَفَعَه أحدُ الصوفيَّة بالخانقاه الصلاحيَّة بالقدس لزوجته من نفقة لأولاده الرُّضَّع، فقد اتَّفق الطرفان - الزوج والزوجة - على أن يدفعَ الزوج لزوجته المطلَّقة منه مبلغًا وقدره (ثمانية وعشرون درهمًا من الدراهم الفضة الجيدة معاملة الشام المحروس، وذلك فرْض ولده الرضيع مِن عاشر المحرَّم، إلى سلخ تاريخه)؛ أي: لمدة شهرين وعشرة أيام، وذلك بواقع 12 درهمًا شهريًّا.

وكما يظهر في الوثيقة: أنَّ الزوج سلَّم هذه النفقة لأخي الزوجة؛ لكي يقوم بدوره بتسليمها لها[23].

ولم تكن هذه الحقوق لتسقطَ بموت الزوج مثلاً، إذ كان لدى القاضي الشافعي في القُدس الشريف صندوقٌ يُسمَّى (مودع الحكم العزيز الشافعي بالقدس الشريف)، يُودَع في عُهْدة القاضي؛ لحفظ أموال اليتامى والقُصَّر والغائبين، وأموال التَّرِكات - أيضًا[24].

كما كان لَدَى القاضي الشافعي موظَّف يُدْعى (أمين الحكم)، وهو المسؤول عن رعاية شؤون الأيْتَام لدَى القاضي، وكان يقوم بالإنفاق على الأيتام.

• فقد جاء في الوثيقة رقم 192 بتاريخ 5 محرم سنة 790هـ: أنَّ أمين الحكم كان يُسلِّم أُمَّ طفلين يتيمين (عن مدَّة فرْض ولديها محمد وعلي اللذين في حضانتها، عن مدة أربعة أشهر كوامل آخِر شهر صفر من سنة تاريخه مائةَ درهم وسبعين درهمًا، نصفها خمسة وثمانون درهمًا...)؛ أي: إنه صَرَف لها نفقة وَلدَيْها بواقع 5, 42 درهمًا شهريًّا، ومن الطبيعي أن تتفاوتَ هذه النفقة بتفاوت المستوى الاجتماعي[25].

• كما أنَّ الوثيقة رقم 183 بتاريخ 4 رمضان سنة 790هـ تفيد أنَّ هذه المرأة نفسَها قبضتْ من أمين الحُكم مبلغًا وقدرُه 120 درهمًا، وذلك فرْض ولديها محمد وعلي عن شهرين كاملين، آخرهما سلخ رمضان المعظَّم؛ أي: إنَّ ما يخصُّ كلَّ طفل في شهري شعبان ورمضان زاد وأصبح 30 درهمًا، بعد أن كان 25, 21 درهمًا، بما يفيد أنَّ أمين الحكم يوسِّع على اليتامى في شهور التوسعة بزيادة الحِصص المخصَّصة لهم من مودع الحُكم[26]، وكنوع من التخفيف عن الأُمِّ، فإنه كان يتمُّ صرْف هذه المستحقَّات مُقدَّمًا، ولمدة ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر[27].

ومِن المعاصرين مَن عبَّر عن مقدار ما تمتعتْ به المرأة من مكانة بطريقة أخرى، ففي حديثه عن (الشوار)؛ أي: جهاز العروس، صوَّر لنا جهازَ المرأة بما يدلُّ على مكانتها.

فالوثيقة رقم 209 بتاريخ 1 شوال سنة 788هـ تُلْقي الضوء على اهتمام أهْل القدس بتجهيز بناتهم الجهاز (الشوار) اللائق بكلٍّ منهنَّ.

ومِن الطبيعي أن يختلفَ الجهازُ من شخص لآخرَ باختلاف المركز الاجتماعي والاقتصادي، فهذا أحَدُ السادة التجَّار بالقدس الشريف، وهو ناصر الدين محمد بن علاء الدين الحموي، أحَدُ أعيان التجار بالقدس الشريف، يُقِرُّ أنَّه (جهَّز ابنته الست المصونة فاطمة، زوج الفقير إلى الله - تعالى - كمال الدين أحمد بن المرحوم الشيخ الإمام القدوة سعد الدين محمد بن المرحوم الشيخ الصالح شمس الدين محمد، الموعاني الأصل، بما مبلغُه من الدِّراهم الفِضَّة الجارية في المعاملة الشامية عشرة آلاف درهم، نصفها خمسة آلاف، وأنَّ ذلك حوائج على عادة الجهاز.

كذلك تُشير هذه الوثيقة إلى أنَّ البحث عن الزَّوْج الثريِّ لم يكن هو ما يهمُّ أبناءَ الطبقات الثرية، ولكن الشخص العالِم الصالِح هو أهمُّ بكثير[28].

ومِنهم مَن عبَّر عن مكانتها كذلك بضرورة تمتُّعها بالحقوق التي تنظمها الولاية الخاصَّة، كالولاية على النَّفْس، والولاية على المال، وهي سلطة التصرُّف في المال، وخصوصًا على مال القاصِر؛ وذلك لأنَّ أُمَّ القاصر أشفقُ عليه، وأرفقُ به، ولديها من الغَيْرة عليه والعناية بأمره ما لا يتوافر على الوجه الأكْمل عندَ غيرها من ذوي الأرحام، ما دامتْ أهلاً للوصاية[29].

فالوثيقة رقم 613 المؤرخة في 19 ذي القعدة سنة 796هـ التي كتبها أحدُ تجَّار بيت المقدس وهو على فِراش الموت: "أسند وصيتَه إلى زوجتِه المرأة الكامل سراملك، عتاقته يومئذ، وبيده عشرةُ أولاد منها، وهم: أحمد المراهق، وفاطمة، وكلثوم، وزينب.... إسنادًا صحيحًا معتبرًا تتصرَّف لهم في مالهم المخلف لهم التصرُّف الشرعي..."[30].

كذلك جاء في الوثيقة رقم 298 والمؤرخَّة في 4 شوال سنة 795هـ أنَّ أحَدَ أبناء بيْت المقدس، ويُدْعى أبا بكر بن علي بن الأرز الرومي، قد أسْند وصيته على ابنتيه إلى زوجتِه خديجةَ بنت شهاب الدين أحمد، حسبَ الوصية الشرعية[31].

• كما تُشير بعض الوثائق إلى حقِّ المرأة في الشهادة في القضايا التي لم تَجْرِ العادة باطِّلاع الرِّجال على موضوعاتها، كالولادة، والبكارة، وعيوب النساء في المواضع الباطنة[32].

فقد جاء في الوثيقة رقم 288 بتاريخ 5 رجب سنة 796هـ: "حصل الوقوف على امرأة ميِّتة لا رُوحَ فيها، ذُكِرَ أنَّ اسمها فاطمة بنت علي بن داود الصلتية، وكشفتْ عنها المغسِّلة الحاجة زينة بنت إبراهيم بن جليل، فذكرتْ زينةُ أنَّ الميتة المذكورة لم يكن بها أثرُ ضَرْب ولا جرح، ولا كسر ولا رضٍّ، ولا أثر وقعة، وأنَّ الميِّتة التي ذُكِر أنها مطعونة ماتتْ بقضاء الله وقَدرِه المحتوم، ووضع مَن حضر خطه من العدول المندوبين من مجلس الحُكم العزيز الشافعي"[33].

ويتضح مِن كتابة هذه الوثيقة: أنَّه كان هناك اشتباهٌ حولَ ظروف موت المرأة المذكورة، وربما ادَّعى بعضُ الناس أنها ماتتْ مقتولة، ولذلك فقد انتدبَ القاضي شاهدَيْن من العدول؛ لسماع أقوال المغسِّلة التي غسلتْها، وقامتْ بالكشف عليها، وأثبتتْ أنه لا توجد أيَّة شُبْهة في موتها.

على أنَّه من المبالغة أن نُصوِّر المجتمع في بيت المقدس في عصر سلاطين المماليك، وقد قَدَّر المرأة على طول الخط، وأحلَّها المكانةَ اللائقة بها في المجتمع، على أساس أنها شريكةُ الرجل وساعِدُه الأيمن، فإذا رأيْنا بعض الإشارات تدلُّ على تقدير المعاصرين للمرأة، فإنَّ هناك بعضَ الإشارات والمراجع يُفهم منها أنَّ المرأة ظلَّتْ محلَّ الازدراء والاستخفاف.

من ذلك: ما كان يُخيِّم على المنزل من كآبة عندما يعلم الرجل بأنَّ زوجته قد رُزِقت طفلة، فلا يعطيها أحدٌ الاهتمامَ، حتى تَكْبَر وتوشك أن تتزوَّج، فمنذ الطفولة تبدو البنات وكأنهنَّ سيِّدات صغيرات، فملابسهنَّ تشبه تمامًا ملابسَ أمهاتهنَّ، ولكنهنَّ يختلفنْ من حيث الحجم، كما تقع عليهنَّ كلُّ أعباء الحياة العائلية، فبمجرَّد أن تصبح البنت قادرةً على المشي والجري، فعليها أن تتعلَّمَ إحضار الماء من البئر، وأن تخبزَ، إلى جانب القيام بكلِّ أعباء المنزل[34].

هذا زيادة على أنَّ نظرة الرجل لها كانتْ على أساس أنَّها خاضعةٌ له، ومعاونة له في عمله، فيتقدَّم عليها في المجالس، وكثيرًا ما يأكل الرجلُ وامرأتُه تخدُمه بتقديم الطعام له، ثم تأكل بعدَه! إلى جانب الأعباء الكثيرة التي تُلْقى على عاتقها داخلَ المنزل[35].

ومع هذا فيمكننا القول: إنَّ المرأة المقدسيَّة، وإن شاركتْ في كثير من مجالات الحياة، وكان لها دَورها البارِز في الحياة العلميَّة والدينيَّة، إلى جانب الحياة اليوميَّة - فإنها الشريكُ المغبون بالنِّسبة للرجل في ذلك العصر، ولكنَّها لم تقفْ مكتوفةَ الأيدي.

ودليلنا على هذا: ما جاء في الوثيقة رقم 278، وهي بلا تاريخ، وفيها استغاثة مِن امرأة تُدْعَى غالية بنت عثمان بن ثعيلب، تطلب من قاضي المدينة أن يُنصفَها من أخيها الذي طمع في ميراثها مِن والدها، ووضع يدَه عليه، واستبدَّ بكلِّ شيءٍ، من عقار وأرض، وزَرْع وضَرْع[36].

وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ القاضي دَرَس القضية، وردَّ إليها حقَّها.


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/1007/29254/#ixzz1mYXHSu00
رد مع اقتباس