عرض مشاركة واحدة
 
  #2  
قديم 12-22-2009
نائل أبو محمد نائل أبو محمد غير متواجد حالياً
عضو بناء
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 6,651
افتراضي رد: شخصيات القدس في القرن العشرين

قرأت لك :
من كتابات الأخ بشير بركات
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عبد الله بن محمد مخلص – بشير بركات
من أعيان القدس في القرن العشرين

عبد الله بن محمد مخلص

يرى الناظر إلى التلة الرابضة خلف محطة الباصات المركزية في القدس قبرا ظاهرا محاطا بسياج حديدي في الجهة الغربية من مقبرة الساهرة. وقد شاع القول عن ذلك المكان بأن: ‘ثمة أحياء يعيشون تحت الأموات’، حيث كانت الزاوية الأدهمية تقع في كهف تحت تلك التلة، وما زال بعض المواطنين يمارسون أعمالا تجارية تحت تلك القبور.

وإذا اعترى الناظرَ مزيدٌ من الفضول وتوجه إلى بوابة المقبرة في شارع صلاح الدين، ومنها إلى ذلك القبر الجاثم فوق أعلى بقعة في التلة فسيقرأ نقشا مكتوبا عليه: ‘هنا يرقد بسلام فقيد العلم والوطن العلامة المؤرخ عبد الله مخلص المدير العام للأوقاف الاسلامية في فلسطين برّد الله مثواه وجعل الجنة مأواه.’


حياته

فمن هو هذا العلامة الذي يكاد كثيرون من أبناء القدس في هذا الجيل لا يعرفون عنه شيئا، بل ويجهلون اسمه. ولعل السبب في جهلهم هذا هو أن عبد الله مخلص لم يكن مقدسيا ولا حتى فلسطينيا. فقد ولد في عام 1296هـ/1878م في بلدة عينتاب قرب حلب لعائلة تركية من أصل يمني تدعى شبجي خوجه زاده، وكان أبوه يعمل ضابطا في الجيش العثماني، وانتقل إلى فلسطين واستقر فيها ومعه طفله عبد الله.

وقد أمضى عبد الله شطرا من عمره في حيفا، حيث أجاد العربية والتركية والفارسية ونشرت له عشرات من المقالات الأدبية الرصينة والعلمية القيّمة في العديد من الصحف والمجلات الشامية والمصرية كالمقتبس والنفائس العصرية ومجلة المجمع العلمي العربي والكشاف. وقد عُنيت مقالاته بوجه خاص بالتاريخ والمخطوطات الاسلامية والتراث المعماري في فلسطين والأردن.

ثم استقر عبد الله في القدس حيث تنقل في عدة وظائف في المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، فعُين محاسبا عاما وعضوا في لجنة مدرسة دار الأيتام عام 1341/1922. وعند تأسيس دار كتب المسجد الأقصى تم تعيين مدير لها، بينما عُين عبد الله مخلص وكيلا للدار. وبينما كان مدير الدار يتقاضى راتبا عاليا ولا ينفع الدار بأي شيء ويكاد لا يزورها لانشغاله بوظائفه العديدة الأخرى، انصرف عبد الله مخلص لتأسيس مكتبة تراثية عظيمة في الدار. وبهدف لفت الأنظار إليها نشر نداء في مجلة سركيس المصرية في عام 1341هـ/1923م نستشف منه إخلاصه للأمة وتراثها، وجاء فيه:

‘ارتأى المجلس الإسلامي الأعلى أن ينشأ دارا للكتب في المسجد الأقصى الذي هو أول القبلتين وثالث الحرمين الشريفين يجمع فيها بعض ما أبقته عوادي الأيام من المصاحف الشريفة القديمة النادرة والكتب المخطوطة القليلة ويضيف إليها ما تجود به نفوس كرماء العلم السخية من الكتب القيمة والأسفار الممتعة. وقد اتخذ المدرسة النحوية التي بناها الملك المعظم في سنة 604 هـ في الطرف الجنوبي من صحن الصخرة المشرفة دارا لها وافتتحها في الثاني عشر من شهر ربيع الأول لسنة 1341 هـ تفاؤلا بيوم مولد النبي العربي الكريم صلى الله عليه وسلم. ولما كان بيت المقدس مهوى أفئدة مئات الملايين من البشر يغشاه الشرقيون والغربيون على السواء ويشد إليه جميع أهل الأديان السماوية الرحال فلا ريب في أن رجالات العلم في العالم وأصحاب الصحف والمجلات يبعثون إليها ببنات أفكارهم ونتاج قرائحهم لتخلد لهم في تلك الدار الخالدة ويحملون من لم تصلنا أسماؤهم من العلماء والأدباء والمؤلفين على الاقتداء بهم والنسج على منوالهم فتصل دارنا بفضل مؤازرتهم لها وعطفهم عليها إلى المستوى الذي تستحقه.’

لكن عبد الله لم يلبث طويلا في المجلس الاسلامي الأعلى حيث تم عزله من عمله ‘لانتقاده تبذير المجلس في النفقات.’ إلا أنه أعيد إلى عمله لاحقا فيما اشتدت الحاجة إلى خبرته ونزاهته، إلى أن ترقى إلى منصب مدير عام الأوقاف الاسلامية في فلسطين.

وقد عثرتُ في مكتبة دار إسعاف النشاشيبي على كتاب بعنوان ‘بيانٌ وردٌ على بيانِ المجلس الاسلامي الاعلى’ بقلم ‘أحد فضلاء المسلمين’ صادر في القدس عام 1343هـ/1924م. وفيه نقد لممارسات المجلس الإسلامي الأعلى في السنتين الأوليين من عمره، ورغم أن مضمون النقد موضوعي مدعوم بالأرقام والحقائق إلا أنه لاذع جارح لكثيرين من أصحاب القرار في المجلس. ولذا فقد اختفت نسخه، ولا أعلم بوجود نسخ أخرى منه في مكتبات القدس حاليا. ويبدو أن الكاتب المجهول هو العلامة عبد الله مخلص، فقد كان أدرى الموظفين وأكثرهم جرأة على نقد المجلس ونشرِ ذلك الكتاب.


علومه
لم يجلس عبد الله مخلص في قاعات التدريس في كليات التاريخ أو الآثار أو اللغة العربية في جامعات عصره. ومع ذلك فإن الطاقة الدافعة الملتهبة في صدره قد رفعت منزلته بين أكابر أهل العلم في فلسطين.

ولما سطع نجمه وعلا قدره انتُخب عضوا في المجمع العلمي العربي في دمشق، وغدا صديقا حميما لكبار الباحثين والمؤرخين أمثال محمد كرد علي وعجاج نويهض وعادل جبر.

مثل هذا الرجل، وقد أصبح عملة نادرة في هذا العصر، لم يكن ليتوغل في عالم الكتب والمخطوطات من أجل نيل درجة الماجستير أو الدكتوراه، ولا من أجل الشهرة ولا بيع كتب تدر عليه ربحا وفيرا. لقد طار اسمه في الآفاق خلال الاحتلال البريطاني وغدا علما من أعلام فلسطين لأمر رسخ في أعماق صدره ومَلكَ عليه جنبات نفسه، ألا وهو حب المعرفة وتقصي الحقيقية، مهما كلفه ذلك من سهر أو سفر أو تعب أو مال.

استمع إليه وهو يقول في مقدمة بحثه ‘جُب يوسف الصديق وقبره الشريف’: ‘يعترض الباحث المدقق من الأمور ما يختلط عليه حابلها بنابلها فتسترعي اهتمامه وتستدعي انتباهه إلى استقصاء أخبارها ونبش مكنوناتها. ومبحثنا هذا وليد إحدى هذه العوارض التي طالما يتعرض لها من يُعنون بالبحث في الآثار والأخبار.’ وعند تتبع فصول هذه الدراسة تشعر وكأنك تقف أمام عملاق عز نظيره وقلّ من يدانيه عمقا وتحليلا واطلاعا.

وإلى جانب الآثار الإسلامية عُني عبد الله مخلص كثيرا بالمخطوطات في فلسطين، فانكب على جمع ما أمكنه من المخطوطات والمطبوعات النفيسة حتى غدت مكتبته الخاصة في منزله في حي الشيخ جراح ‘مكتبة قليلة النظير في فلسطين.’

ومن المخطوطات النادرة التي حققها ‘الإشارة إلى من نال الوزارة’ لابن الصيرفي. وقال في مقدمتها: ‘وقعتُ في خزانة الكتب الخالدية ببيت المقدس على رسالة صغيرة موسومة ب “الإشارة إلى من نال الوزارة لابن منجب الصيرفي”… فذكرني أنني كنت قد قرأت في آن سابق شيئا عن هذه الرسالة ومؤلفها في بعض المظان، وعدت فأعدت النظر في ذلك فإذا بابن خلكان المتوفي سنة 681/1281م قد ذكرهما في وفيات الأعيان،’ ثم يتابع عبد الله مخلص البحث والتنقيب والتوضيح إلى أن يتجلى المشهد وتتضح الصورة أمام القارئ. وقد نشر هذا التحقيق عام 1341هـ/1923م في القدس.

وفي عام 1354هـ/1935م نشر في مجلة المجمع العلمي العربي تقريرا حول مخطوط ‘التذكرة الصلاحية’ لخليل بن أيبك الصفدي (ت 764هـ/1362م) وأشار إلى أماكن وجود أجزائه المتفرقة في مكتبة وزارة الهند في لندن وفي مكتبة حسن حسني عبد الوهاب وفي المكتبة السلطانية في القاهرة وفي مكتبة آل البساطي في الحجاز، إضافة إلى جزء اطلع عليه بنفسه في مكتبة آل قطينة في القدس، مما يدل على سعة اطلاعه ومعرفته بالمخطوطات الاسلامية.

وقد استمر عبد الله مخلص في عطائه حتى صدور قرار تقسيم فلسطين، فعاش شهوره الأخيرة في منزله في حي الشيخ جراح وفارق حياتنا الدنيا عام 1367/1947م ووري الثرى في مقبرة الساهرة قبالة سور القدس والبلدة القديمة التي عشقها ولم يدخر وسعا في خدمتها. فيما استقرت ذريته في الشام بعد النكبة.

بشير بركات

مدير دار إسعاف النشاشيبي للثقافة والفنون

القدس الشريف


رد مع اقتباس