الموضوع: دعوة الحق
عرض مشاركة واحدة
 
  #4  
قديم 06-28-2009
نائل أبو محمد نائل أبو محمد غير متواجد حالياً
عضو بناء
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 6,651
افتراضي رد: دعوة الحق


منهج البحث

الباب الأول

رأينا في التمهيد ما لمنهج البحث من أهمية في الحكم على البحث نفسه ، ولذا كان من الأهمية بمكان أن نبدأ ببيان المنهج أو الأسس التي سيقوم عليها البحث ، ويقتضي هذا التعرف على باقي المناهج التي تتناول نفس الموضوعات ، لبيان المقبول منها وأسباب قبوله ، وغير المقبول منها وعلة رفضه ، ويتطلب هذا بدوره تناول كل منهج منها بشيء من الشرح والتفصيل والنقد ، وذلك كله يجعل من اختيار منهج البحث وأسس البحث موضوعاً متكاملاً في حد ذاته ، يلزم إفراد باب مستقل له.
وطبيعي أن يكتب العديدون في شرح المسيحية ، وأيضاً في شرح الإسلام ، وطبيعي أن يكتب المسيحيون في تأييد معتقداتهم وإثباتها ، وأن يكتب المسلمون في تأييد معتقداتهم وإثباتها ، ولما كان هؤلاء وأولئك ينتهون إلى طرفي نقيض ، فمن الطبيعي أن تختلف المناهج والأسس التي يقيمون عليها أبحاثهم وكتاباتهم وهو ما سنعرض له بعد بشيء من التفصيل ولكن نسبقه ببيان موجز في التعريف بهذه المناهج ثم نفرد بعده فصلاً مستقلاً لكل منها وننتهي ونختم هذا الباب بفصل أخير عن المنهج أو الأسس الواجب اتباعها في البحث للوصول إلى الحقيقة والتي سنلتزم بها في هذا البحث .
وأما المناهج التي يقيم الكتاب أبحاثهم على أساسها فهي لا تخرج عن أربعة مناهج :
فهناك أولاً تلك الكتب التي يكتبها المسيحيون والمسلمون والتي يحاول كل فيها شرح دينه ومعتقداته بشأنه وإثباتها فما هو لمسيحيين من هذه الكتب إنما يحاول شرح المسيحية بمفهومها لدي المسيحيين وإثبات معتقداتهم بشأنها وهي تحاول شرح ذلك ، دون أن تتعرض للإسلام في شيء ثم هي في شرحها لصلب المسيح وألوهيته ومحاولتها إثبات ذلك لا تقصد بهذا أن تطعن في الإسلام وإنما تقصد مجرد شرح المسيحية وإثباتها بمفهومها المستقر لدي من يدينون بها أما ما هو لمسلمين من هذا النوع من الكتب فإنما يحاول شرح الإسلام ومعتقداته دون أن يتعرض للمسيحية في شيء ، فإذا ما نفت هذه الكتب صلب المسيح أو ألوهيته فليس ذلك منها محاولة للطعن في المسيحية ، أو في مفهوم المسيحية لدي من يدينون بها وإنما هو محاولة لشرح ما يقول به الإسلام في شأن هذين الأمرين وهذا النوع من الكتب هو الأعم الأغلب من كتابات المسيحيين والمسلمين سواء.
وهناك ثانياً كتب لمسيحيين تتعرض للإسلام إما بنفي تنزيل القرآن نفسه من عند الله ، وإما بمحاولة إثبات مفهومات المسيحية بالتدرج من القرآن إلى الكتاب المقدس ، ثم نفي تنزيل القرآن من الله ، وهو ما ينفي بالتالي عن الإسلام حقيقته كدين من عند الله ، يقابل هذه الكتب كتب لمسلمين تحاول إثبات مفهومات الإسلام عن المسيحية بنفي صحة الأناجيل الأربعة التي يتداولها المسيحيون ويعتقدون بصحتها والتمسك بإنجيل آخر والقول بصحته ، رغم أن المسيحيين أنفسهم لا يؤمنون بصحته وفيه ما يؤيد مفهومات الإسلام عن المسيحية.
ثم هناك ثالثاً كتب أخرى يستشعر القارئ لها بمدي الألم الذي يحسه كاتبوها (مسيحيين كانوا أو مسلمين) لأن يروا أناساً اجتمعوا على الإيمان بالله وكتبه ورسله ، ثم انتهوا رغم ذلك إلى فرقة هي أبعد ما تكون عن أي لقاء ولذلك يقومون بما يرونه واجبهم في محاولة لجمع الشمل وتوحيد الكلمة فيحاول مسيحيون أن يثبتوا صحة مفهومات المسيحيين ومعتقداتهم من القرآن نفسه محاولين إثبات أن القرآن وبالتالي الإسلام لا يتعارض مع مفهومات المسيحيين واعتقادهم في بعض الأمور التي يختلف المسلمون معهم فيها ، بينما نري من المسلمين من يحاول التقريب بين المسيحية والإسلام بالتسليم ابتداء بأن ثمة خلافات لابد من الاعتراف بها بينهما دون أن يجوز أن تقف هذه الخلافات عائقاً عن أن تتعاون كل من الثقافة المسيحية والثقافة الإسلامية فيما يتفقان عليه انتصاراً لقضية التدين جملة.
وهناك أخيراً طائفة أخرى من الكتب يبين من منهجها أنها لا تستحق التفكير في بحثها وهي تلك الكتب التي لا هم لها إلا التعرض للدين الآخر بالهزء والتجريح دون أن تتبع أي أسس سليمة أو مقبولة للبحث ولذا تكفي هذه الإشارة إليها مع إسقاطها بعد ذلك من التفصيل الذي سيلي في نقد المناهج السابقة .

الفصل الأول
الكتب التي تتعرض لدين واحد دون الآخر
قلنا أن الكتب التي تتعرض لدين واحد دون الآخر هي الأعم الأغلب من الكتب الدينية للمسيحيين والمسلمين على السواء ، فمعظم الكتب التي هي لمسيحيين إنما تشرح مفاهيم المسيحية ومعتقدات المسيحيين بشأنها كما استقرت لديهم وتحاول إثبات صحة هذه المفاهيم ، دون أن تتعرض في ذلك للإسلام في شيء ولعل ذلك منها إنما هو اكتفاء بعدم الاعتراف بالإسلام كدين من عند الله وهو ما يفهم منها صراحة أو ضمناً .
ومعظم الكتب التي هي لمسلمين كذلك إنما تقوم على شرح مفاهيم الإسلام وتعاليمه وأحكامه التي يجب علي المسلمين إتباعها وعقائده التي عليهم أن يؤمنوا بها ومما تشرحه هذه الكتب ما ينفي صلب المسيح أو ألوهيته دون أن يكون ذلك منها محاولة للتعريض بالمسيحية كما هي مستقرة اليوم لدي من يدينون بها وإنما لمجرد شرح الإسلام وما جاء به القرآن الذي يؤمن المسلمون بتنزيله من عند الله .
وثمة أمر معين يلاحظ بوضوح في هذه الكتب ، بل في الكتب الدينية المسيحية والإسلامية على اختلاف مناهج البحث فيها ويجعل هناك دائماً ثمة فارقاً واضحاً بين الكتب المسيحية والكتب الإسلامية عموماً ويقوم هذا الفارق على كيفية النظر إلى الكتب السماوية السابقة ، فعلي أن المسيحية والإسلام يجتمعان معاً على الإيمان بجميع الرسل والكتب السماوية السابقة على المسيح فإن المسيحيين وحدهم هم الذين يعنون بالكتب السابقة حتى أنهم يجمعونها جميعاً معاً ويلحقون بها الأناجيل وما تلاها من أعمال ورسائل ويجعلون من هذا كله كتاباً واحد يؤمنون به جميعه ويسمون بالكتاب المقدس مؤكدين ومنفذين بذلك قول المسيح عليه السلام ( لا تظنوا أني جئت لأنقض القاموس أو الأنبياء ما جئت لأنقض بل لأكمل ) .
وإذ يقيم المسيحيون إيمانهم على أساس من الإيمان بالكتاب المقدس جميعه على هذا النحو فإنهم لذلك لا تكاد كتاباتهم تخلو إطلاقاً من الإشارة إلى آيات في الكتب السابقة على الأناجيل ، محاولين دائماً الربط بين ما جاء في الكتب السابقة وبين رسالة المسيح عليه السلام ، ويخرجون من ذلك إلى ما يعتقدون أنه يكون وحدة كاملة يقوم عليها دينهم كله وكل معتقداتهم بشأنه .
وكان مفهوما أن يكون هذا هو عين ما يفعله المسلمون الذي يؤمنون إيماناً نابعاً من دينهم كما سبق بتنزيل الكتب السابقة من الله ، وبأنها مما يجب أن يؤمنوا به بما في ذلك رسالة المسيح نفسه عليه السلام ، إلا أننا نرى أن المسلمين رغم ذلك يكادون أن يغفلوا هذه الكتب إغفالاً تاماً حتى ليسقطونها تماماً من اعتبارهم وهم يبررون ذلك بأنه ما دام قد جاء في القرآن أن المسيح عليه السلام لم يصلب وأنه ليس إلهاً بأي حال من الأحوال وأنه قد بشر برسول يأتي من بعده اسمه أحمد ولا يجدون في الأناجيل شيئاً من ذلك بل يجدونها توكد صلب المسيح وألوهيته ولا تشير إلى رسول يأتي من بعد المسيح فلابد إذن أن تكون هذه الأناجيل مزورة ولذا يجب إسقاطها من الاعتبار ونفس الأمر يسري على ما سبق الأناجيل من كتب ولذا يسقطونها من الاعتبار تقريباً ، ثم هم يجدون في القرآن وأحاديث الرسول عليه السلام الكفاية التي تغنيهم عن الكتاب المقدس نفسه لما ورد فيه من أخطاء وتزوير وهم لن يسلموا من الوقوع في أخطائه إذا أخذوا به كما هو واعتبروه كتاباً صحيحاً (1).
ولعل هذا المنهج في البحث لا يعاب على أصحابه ولا محل لنقده فكل يقتصر على شرح دينه ومعتقداته بشأنه وكل يتوجه بكتاباته إلى من يدينون بنفس دينه دون أن يتعرض للدين الآخر إلا فيما يتعلق بشرح عقيدته هو ، وإنما البحث وفق هذا المنهج لا يجدي في البحث المقصود عن الحقيقة بين المسيحية والإسلام ، إذ هو يفترض ابتداء الإيمان بمفهومات المسيحية كما استقرت لدي المسيحيين والتسليم بها أو يفترض ابتداء الإيمان بما جاء به الإسلام والتسليم بصحة ما قال به القرآن والبحث على هذا الأساس إنما هو مصادرة للحقيقة لأنه إنما يقوم على أساس من افتراض ثبوتها على نحو معين ابتداء بينما نفس الافتراض هو ما نقصد الوصول إلى الحقيقة بشأنه .
ومع هذا فيمكن في هذا الصدد بل وفي جميع المناهج أن نأخذ على الكتاب من المسلمين عزوفهم الذي يكاد أن يكون كلياً عن الكتاب المقدس والذي يفترض فيهم أصلاً الإيمان به فإذا ما وجدوا فيه ثمة تناقض أو اختلاف مع معتقداتهم فلا يجيز لهم ذلك إهداره وإسقاطه من الاعتبار كلية وإنما يتحتم عليهم حينئذ البحث في الأسس التي يمكن على أساسها الأخذ بما ورد فيه أو استبعاد بعضه وعلى ألا يكون ذلك الاستبعاد كلياً كما هو الحاصل اليوم وإنما ينبغي أن يكون هناك معيار واضح مبني على الأسانيد اليقينية القاطعة لاستبعاد ما يتعين استبعاده منه والأخذ بما عدا ذلك فيه .

الفصل الثاني
الكتب التي تقوم على نفي تنزيل القرآن من عند الله
أو نفي صحة الأناجيل الأربعة المتداولة
تقوم معظم كتب المسيحيين التي تحاول استبعاد الإسلام كدين منزل من الله وشرع للناس أجمعين ، على القول بأن القرآن ونبي الإسلام لم يرد ذكر لهما في الكتاب المقدس ، وبالتالي ليس هناك ثمة محل للإيمان بالإسلام كدين منزل من الله ، أو لنسبة تنزيل القرآن إلى الله ، وعلى أساس من ذلك يتجاهلون الإسلام تجاهلاً تاماً ، وخاصة أن المسيح قد حذر من الأنبياء الكذبة ، ويعتقدون ذلك في نبي الإسلام ، ويؤمنون بأن رسالة النبوة قد انتهت بالمسيح نفسه ، ولذا فأي نبي بعده كاذب .
على أن من هذه الكتب ما يقوم على نفس الأساس ولكن بطريقة أخرى ، ككتاب سمي الباكورة الشهية في الروايات الدينية (وهو لمؤلف مجهول لم يذكر اسمه على الكتاب وطبع بمطبعة النيل المسيحية بمصر سنة 1926) ، فهذا الكتاب يحاول إثبات مفاهيم المسيحية ومعتقدات المسيحيين بشأنها بالابتداء بالاستناد إلى القرآن نفسه ، وهو يورد بحثه في صورة قصة لمشايخ مسلمين يحاجهم قس مسيحي في دينهم ، ويبدأ بما يستلزمه القرآن من الإيمان بالكتاب المقدس ، وبعد ذلك يحاول إثبات صحة كتاب اليهود الذين لا يمكن أن يكونوا مغرضين لصالح المسيحيين ، ويشرح ما في كتاب اليهود من نبوات يري أنها تؤكد التنبؤ بصلب المسيح ومعتقدات المسيحيين بالنسبة لطبيعة المسيح عليه السلام ، وينتهي إلى أن الإيمان بالقرآن يستلزم الإيمان بمعتقدات المسيحيين ومفهوماتهم بشأن المسيحية ، وهي ما دامت كذلك ، وما دامت تخالف ما قال به القرآن ، فيجب عدم الإيمان بالأخير ككتاب منزل من الله ، لأن الله لا يمكن أن يخطئ ، ويحاول الكتاب بعد ذلك أن يشرح ما وقع فيه المشايخ المسلمون من حيرة انتهت بأن استنصروا ، وأخذوا يحاجون الجميع في الدين ، وتمسكوا بدينهم الجديد.
وتقوم معظم كتب المسلمين التي تحاول إثبات عدم صحة مفهومات المسيحيين ومعتقداتهم عن دينهم ، على محاولة إثبات عدم صحة الأناجيل الأربعة التي يتداولها المسيحيون اليوم ، والقول بتحريفها حتى انتهت إلى الصورة التي هي عليها ، وعلى أساس إثبات تنزيل القرآن من الله وبالتالي القطع بصحة ما جاء فيه ونفي كل ما يخالفه ، وهو ما ينتهي إلى عدم صحة مفهومات المسيحيين ، ومعتقداتهم بشأن دينهم وصحة ما يقول به الإسلام بشأن هذه المعتقدات .
على أن من هذه الكتب أيضاً ، ما يقوم على نفس الأساس ، ككتاب محاضرات في النصرانية (للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة) والذي يقوم على محاولة إثبات عدم صحة الأناجيل الأربعة المتداولة ونسبتها وسندها ، ثم يتحدث الكاتب بعد ذلك عن إنجيل آخر يسمي إنجيل برنابا ، الذي ينفي عن المسيح أية ألوهية ، ويبشر برسول الله محمد الذي يأتي بعد المسيح عليه السلام ، كما ينفي صلب المسيح ويقول بأن الذي صلب هو يهوذا الاسخريوطي الذي كان سيسلمه .
ويؤخذ على هذا المنهج في البحث ، خطأ نقطة البدء فيه ، حتى إنه ليستحيل قبول كتاب منها لدى غير من يدينون بدين كاتبها ، الواقع أن كُتاب مثل هذه الكتب إنما يغمضون أعينهم عن الواقع ، فمهما قيل في عدم تنزيل القرآن من الله وبالتالي عدم صحة ما جاء به ، فإن هذا لن ينفي بأي حال من الأحوال أن القرآن حقيقة قائمة لا يمكن تجاهلها ، كذلك فمهما قيل عن عدم صحة الأناجيل المتداولة فإن هذا لن ينفي بأي حال من الأحوال كونها حقيقة قائمة لا يمكن تجاهلها ، وإذا حاول مسيحي للتدليل على صحة معتقداته ولإثباتها أن يبدأ بمحاولة نفي تنزيل القرآن من الله ، فلن يجد مسلماً واحداً يأبه لكلامه ، الذي لا يكون حقيقاً بالاعتبار إلا بأن يتناول معتقدات المسلمين نفسها وما جاء في القرآن نفسه بالبحث الأمين الذي لا يتوخى فيه غير الحقيقة نفسها ، كما أنه إذا حاول مسلم التدليل على صحة مفهومات الإسلام ومعتقداته بشأن المسيحية بأن يبدأ بمحاولة إثبات عدم صحة الأناجيل التي يتداولها المسيحيون ، فلن يجد مسيحياً واحداً يأبه لكلامه الذي لا يكون حقيقاً بالاعتبار إلا إذا تناول معتقدات المسيحيين نفسها وما جاء في الأناجيل المتداولة بالبحث الأمين الذي لا يتوخى فيه غير الحقيقة نفسها ، والسبب في ذلك بديهي للغاية ، فالبدء بهدم الكتاب المقدس نفسه وعدم الاعتراف به ، أو بمحاولة هدم القرآن نفسه وعدم الاعتراف به ، أمر يكاد أن يصل إلى حد السخرية بالملايين ، بل بمئات الملايين الذين استقر لديهم الكتاب المقدس ، أو القرآن ، كسند صحيح لما يؤمنون به ، وبذلك لن يقابل هذا الأمر ممن يؤمنون بأي من الكتابين إلا بالهزء والسخرية .(1)

الفصل الثالث
الكتب التي تحاول توحيد الكلمة بين المسيحية والإسلام
ولقد سبق القول بأن القارئ لهذه الكتب يستشعر مدى الألم الذي يحسه كاتبوها ، (مسيحيون كانوا أو مسلمين) ، لأن يجدوا أناساً اجتمعوا على الإيمان بالله وكتبه ورسله ، ثم انتهوا رغم ذلك إلى فرقة هي أبعد ما تكون عن أي لقاء ، ولذلك يقومون بما يرونه واجبهم ، في محاولة لجمع الشمل وتوحيد الكلمة .
ومن مثل هذه الكتب لمسيحيين ، كتاب المسيحية في الإسلام (للأب المرحوم الايغومانس ابراهيم لوقا) ونرى الأب الكاتب يقول في تمهيده لكتابه :
( يظن الكثيرون أن الإسلام يطعن في المسيحية ويحارب عقائدها ، وهذا الظن منشؤه – في الحقيقة – عدم الإلمام بما ذكره الإسلام عن المسيحية ، وإن الباحث المدقق في جميع الأقوال التي أوردها القرآن عن النصرانية والنصارى ليتضح له أمران :
أولهما : أن نبي الإسلام قد حفظ للديانة المسيحية مركزها ، وأيد جلالها وأثبت صحة الكثير من تعاليمها ، ونادي بوجوب تقديس أوامرها ، والعمل بها ، واحترام كتبها المنزلة ، فكان بذلك شاهداً لها ، ومؤيداً لصدقها ....
ثانيهما : أن القرآن لم يهاجم المسيحية التي أسسها المسيح ونشرها رله القديسون ولكنه هاجم بدعاً خاصة ، كانت قد ظهرت عند ظهوره ، ونادت بتعاليم لا تقرها المسيحية ، فحاربها ، كما حاربتها المسيحية من قبل ومن بعد وكلنا يعلم أن الشرق – وقت ظهور الإسلام – كان مرتعا خصيباً للاضطرابات الدينية والخلافات المذهبية ، فقد كانت الحرب لا تزال مستعرة نارها بين اليهودية والمسيحية من جهة ، وكانت الفرق المبتدعة الخارجة عن النصرانية تتناولها مع بعضها من جهة ثانية ، كما كانت الوثنية تتنازع هاتين الديانتين – اليهودية والمسيحية – من جهة ثالثة . وكل من يطلع على تاريخ الهرطقات يقف متحيراً إزاء ما كان بين هذه الديانات والمذاهب من تطاحن وعداوة وبغضاء ، أشار إليها القرآن بقوله في سورة المائدة ( فاغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة) فقد كانت كل فرقة تكذب الأخرى وتكفرها .
ومن ثم نشأ الإسلام يحارب الوثنية ويجاهد اليهودية ويؤاخذ المسيحية ، في مذاهبها المبتدعة التي كانت تتنافي تعاليمها مع العقيدة الصحيحة في الله تعالى ، منكراً عليها ما كان يثير الجدل والنقاش حولها .
هاتان هما الحقيقتان اللتان جعلنا هذا الكتاب موضوعا لبحثهما والكشف عنهما ، وغايتنا التي نتوخاها من هذا البحث هو التوفيق لا الجدل والتفريق .
وإنا لنرجو أن يتقبل إخوتنا المسلمين رسالتنا هذه كرسالة محبة وإخلاص ، وفقنا الله جميعاً إلى سواء السبيل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ).
ويمضي الكاتب بعد ذلك فيحاول أن يثبت أن القرآن قد شهد بأن الكتاب المقدس كما هو اليوم لم يحرف أو ينسخ ، ويقول بعد ذلك بأن القرآن حارب تثليثاً غير تثليث المسيحية ، وأن علماء الإسلام يشهدون بصحة تثليث المسيحية ، ويحاول أن يجد في القرآن ألقاباً للمسيح تدل على الاعتراف بألوهيته ويحاول إثبات هذه الألوهية ، وكذلك يحاول إثبات صلب المسيح وما فيه من تكفير ، وبذلك ينتهي إلى اتفاق الإسلام مع المسيحيين في مفهوماتهم ومعتقداتهم بشأن المسيحية.
ومن مثل هذه الكتب أيضاً لمسلمين كتاب مع المسيح في الأناجيل الأربعة ( للأستاذ فتحى عثمان) ، وفي التقديم لهذا الكتاب – في طبعته الأولى – يقول المؤلف :
(طالعت القرآن فوجدت (لأهل الكتاب) فيه نصيباً مذكوراً ودرست التاريخ الإسلامي فوجدت لأهل الذمة في المجتمع والدولة رصيداً مذخوراً .... وتأملت الفكر الإسلامي فوجدته يلتقي في بعض صوره مع الفكر المسيحي – لا منذ درس المسلمون الفلسفة واتجهوا للتصوف واتصلوا بالسريان والنساطرة فحسب بل منذ الينابيع الأولى .... نجد هذا اللقاء في قصص الأنبياء ، ومن ذلك قصص إبراهيم وإسحق ويعقوب ويوسف وموسى وداود وسليمان ، وأخيراً زكريا ويحيى ومريم ثم المسيح عيسي بن مريم) .
ويقول أيضاً : ( وإذا كان القرآن – ينبوع الفكر الإسلامي – قد أذن لمجري تفكير المسلمين أن يكونوا على هذه الصورة من الاتساع فهو لم يخرج عن قاعدته الثابتة الراسخة ( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسي ، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ) ( آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) ( شرع لكم من الدين ما وصي به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسي ، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) .
ويستطرد الكاتب بعد ذلك فيقول ( غير أن الناس لا تمحص الأمور هذا التمحيص ومن هنا غطت الخلافات على البحث المستنير ... وفضل الدعاة والمرشدون أن يلجأوا إلى تحقيق التوافق بين أهل الديانات عن طريقة تربية المجتمع عملياً على آداب السلوك الرفيع بعد أن عزت الدراسات الفكرية الهادئة الجادة التي لا أقول تحل عقدة الأذهان والنفوس ولكنها على الأقل تكشف كلا من الإسلام والمسيحية وصلة الإسلام بالمسيحية تحت أضواء العلم الصحيح وحينئذ تتجاوب العقول فيتحقق التوافق تلقائياً على مستوى أعمق وأدوم في علاقات الناس) .
ويمضي الكاتب فيقول ( أفليس في تعاليم المسيحية الشيء الكثير الذي تتفق عليه جميع الأديان والذي يستفيد منه الفكر الديني على وجه العموم ؟؟
وإن الإسلام يقدر أثر المسيحية – في واقعها القائم ، ولها وضعها باعتبارها الرسالة التي تقدمته مباشرة وباعتبار الدينين قد أقاما حضارتين عالميتين تنافستا بكل سبيل وقد وصف الإسلام أتباع المسيح خصوصاً بأنهم أقرب مودة للذين آمنوا وأنهم لا يستكبرون . وميز أهل الكتاب عموماً في التشريع ...) .
ثم يضيف الكاتب (لكني لا أريد أن أفتح باب الجدل العقائدي الذي قلت أنه حجب عن الأعين نور المسيحية وإنما أريد أن أقنع المسلمين بأن العهد الجديد المتداول لا يتعرض فقط لما ينكرون وحتى ما ينكرونه فيه مجال كبير للبحث والنظر ليرفضوا عن بينة كما اقتنعوا عن بينة ولا يعيش الواحد منهم ويموت غير عالم شيئاً عن هذه الديانة الكبري مع أن كتابهم ينعي على التقليد والمقلدين (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آبائنا ).
ولا يعني التجاوب العقلي على أساس الدراسة العلمية المقارنة للأديان أن يصطنع التوافق الباهت الممقوت وأن تعتسف الوحدة الفكرية على أساس الافتراء على اللغة والمنطق والتاريخ ، هذا عبث لا يزيد الناس إلا بعداً وتجافياً ).
ويصل الكاتب في تقديمه إلى أن يقول ( .... والمجدي أن ينظر إلى الأمور النظرة الواقعية الصحيحة فالإسلام إسلام والمسيحية مسيحية وهما يتفقان ويختلفان ومن الخير أن يسلم بالمختلف كما يتفق على المؤتلف دون أن يختل ميزان الحق والعدل) .
ويقول سيادته أخيراً ( والكتاب الذي بين يدي القارئ سيستند إلى الأناجيل المتداولة في الحديث عن المسيحية ... فأنا أريد أن أتحدث عن المسيحية من وجهة نظر أهلها وأريد أن أثبت للمسلمين والمسيحيين أن مجال الخلاف أضيق من أن يحجب كلا من الدينين العظيمين عن معتنقي الدين الآخر وأن بجانب المجادلات العقائدية الذائعة المحدودة آفاقاً رحبة في الأناجيل المتداولة تفيض بالدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ).
وكما يبين من تقديم الكاتب فإنه يسلم ابتداء بأن المسيحية مسيحية والإسلام إسلام ومن الخير أن يسلم بأنهما يختلفان وكما هو معروف فأساس الاختلاف بينهما هو حول صلب المسيح أو عدم صلبه وحول طبيعة المسيح عليه السلام ، والكاتب يمضى في كتابه بعد هذا التقديم شارحاً أوجه التقارب بين المسيحية والإسلام متجاهلاً ما يختلف فيه المسلمون والمسيحيون أو ماساً لها مساً هيناً على أساس من الاعتراف مقدماً بوجود هذا الاختلاف .
نقد المنهج والكتابين :
الذي لاشك فيه أن الكاتبين يحمد لهما قصدهما من محاولة التقريب بين المسيحية والإسلام حتى يمكنهما أن يمضيا معاً على طريق واحد مشترك من الإيمان بالله والطاعة له والدعوة إلى الخير والنهي عن الشر ، إلا أنهما مع ذلك لا يسلمان من المآخذ حتى أنه لا يمكن قبول منهجيهما بأي حال .
فبالنسبة لكتاب المسيحية في الإسلام فلا خلاف في أن الإسلام قد حفظ للديانة المسيحية مركزها وأيد جلالها ونادي بوجوب تقديس أوامرها والعمل بها واحترام كتابها المنزل فكان بذلك شاهداً لها ومؤيداً لصدقها بل ولم يهاجم الإسلام على الإطلاق المسيحية التي أسسها المسيح عليه السلام ، حتى أننا لنزيد بحق أنه إنما حتم الإيمان بها وجعل من الكفر بها بمثابة كفر بالإسلام.
ولكن هذا كله لا يمكن أن يصل بأي حال من الأحوال إلى حد القول بأن الإسلام يعترف للمسيح بأية ألوهية أو بصلبه كفارة عن البشر أو بصلبه على الإطلاق فالقرآن ينفي ذلك كله في مواضع متعددة بوضوح وجلاء وفي القول بغير ذلك تحمل للقرآن وللإسلام بغير ما يمكن أن يحتملاه وإذا كان يحمد للكاتب نبل قصده وحسن نيته في محاولته للتوفيق دون التفريق فإن هذا لا يغفر له بأي حال أن يصل به الأمر إلى حد المغالطة في الإسلام على هذا النحو فيحمله ما ينفيه بكل جلاء ووضوح .
ولعله كان من الأوفق أن يلجأ الكاتب في محاولته هذه إلى القول بمثل ما قال به السيد مؤلف كتاب مع المسيح في الأناجيل الأربعة من الاعتراف ابتداء بوجود اختلافات بين المسيحية والإسلام لا يمكن التغاضي عنها دون أن يمنع ذلك من أن يمضي المسيحيون والمسلمون معاً على طريق واحد فيما تتفق فيه المسيحية والإسلام ، وكان مثل ذلك منه لابد وأن يحمد له من المسلمين والمسيحيين على السواء ، فبالنسبة للمسلمين ليس أحب إليهم من أن تلتقي أيديهم مع المسيحيين أتباع الدين الذي يؤمنون به هم أيضاً ، وبالنسبة للمسيحيين فلن يضير ذلك عقيدتهم في شيء ، ذلك أن التسليم ابتداء بوجود اختلافات بين المسيحية والإسلام سيحفظ لهم عقديتهم كما هي ولن يكون في تسليمهم بوجوده هذه الاختلافات إلا تأكيداً منهم لما يظنونه من أن الإسلام ليس ديناً منزلاً من عند الله فلا مانع أذن على الإطلاق من أن يختلف عن معتقداتهم في المسيحية ، لأن هذا الاختلاف لن ينسب عندهم إلى الله وإنما – وحسب رأيهم – إلى من أقام الإسلام وهو محمد عليه السلام ، وعلى هذا النحو فلن يضيرهم التسليم بهذه الاختلافات شيئاً بالنسبة لعقيدتهم ، ويقينا سيكسبهم ذلك محبة وتعاوناً صادقين مع المسلمين ، ولم تدع المسيحية إلى شيء قدر ما دعت إلى المحبة والتعاون .
أما بالنسبة للكتاب الثاني مع المسيح في الأناجيل الأربعة فإن ما تقدم قد يبدو فيه تناقض مع رأيي بشأن هذا الكتاب ومنهجه ، فقد قلت أن الكتابين معاً لا يسلمان من المآخذ حتى أنه لا يمكن قبول منهجهما بأي حال ، ومع ذلك ففي نقد الكتاب الأول رأيت أنه كان من الأوفق لكاتبه أن ينهج ما انتهجه مؤلف الكتاب الثاني ، فكيف يتفق هذا مع ما تقدم من رفض منهج الكتاب الثاني نفسه .
ولكن الواقع أنه ليس في الأمر أي تناقض لأن الأمر لابد وأن يختلف بين أن يكون الكاتب مسيحياً أو أن يكون مسلماً ، فالكاتب المسيحي يؤمن بالمسيحية ديناً منزلاً من عند الله ولا يؤمن بالإسلام ديناً منزلاً من عند الله ، ولذا فليس غريباً بالنسبة له أن تكون هناك اختلافات بين المسيحية والإسلام ، بل لعل أن هذا عنده يكون طبيعياً ، بل ومحتم ، أما الكاتب المسلم ، فهو يؤمن بالمسيحية ديناً منزلاً من عند الله ، وهذا هو نفس إيمانه بالإسلام لذلك وجب ألا يختلفا ، وإلا لدل ذلك على اختلاف أصلهما ، فلا يمكن أن يكون من الله دينان أحدهما يقول بصلب المسيح والآخر ينفيه ، أو أحدهما يقول بألوهية المسيح والآخر ينفي هذه الألوهية ، ولذا فلا يقبل من كاتب مسلم ومتمسك بإسلامه أن يسلم بأن المسيحية مسيحية وبأن الإسلام إسلام وبأنهما يختلفان.
وللحق فإن هذين الخلافين بين المسيحية والإسلام غاية في الصعوبة والتعقيد وإنهما لمن العمق والجسامة حتى ليتهيب المرء أن يقترب منهما خاصة مع حساسيتهما البالغة ، ولكن ذلك لا يغفر لكاتب مسلم أن يسلم بالاختلافات بين المسيحية والإسلام كحقيقة ، وإن قبل منه غض النظر عنهما صراحة اكتفاء بمده إلى أوجه الائتلاف والتوافق بين الدينين فذاك بغير تردد أقره ونحمده له جميعاً أما التسليم – من مسلم – بأن المسيحية مسيحية والإسلام إسلام وأنهما يختلفان فهذا ما لا يقبل منه .

الفصل الرابع
نقد المناهج السابقة وبيان منهج البحث
إذا استعرضنا مناهج البحث السابقة ، نستطيع بسهولة ويسر أن نتبين أن ثمة أمر معيناً بينها جميعاً ، فإن كل كاتب ، مسيحياً كان أو مسلماً ، إنما يفترض ابتداء صحة ما يؤمن به ويعتقده ، فكتب النوع الأول ، التي تبحث في الدين الواحد دون أن تتعرض للآخر ، إنما تقوم على أساس التسليم بمعتقدات الدين الذي تبحثه وتحاول إثبات صحتها وشرحها ، وكتب النوع الثاني تقوم على نفس الأساس أيضاً ، وتحاول إثبات عدم صحة الكتب التي يؤمن بها أتباع الدين الآخر أو أن تصل منها أو من بعضها إلى إثبات صحة ما يعتقده كاتبوها ، وكتب النوع الثالث تقوم على نفس الأساس كذلك ، فتحاول إثبات صحة معتقدات كاتبيها من الدين الآخر أو تحاول التقريب بينهما مع التغاضي عما بينهما من اختلافات على أساس من التسليم بها ابتداء ، وهذا لا يعني إلا تمسك الكاتب بمعتقداته وافتراضه صحتها ، وهكذا نجد أن كل المناهج إنما تقوم على أساس افتراض كل كاتب ابتداء صحة ما يؤمن به ويعتقده ، وما ذلك منهم إلا مصادرة للحقيقة ، التي لا يمكن أن يكون ذلك سبيلاً صحيحاً للوصول إليها ، فافتراضها ابتداء على نحو معين إنما يعني أن ندور في حلقة مفرغة لا توصل إلى شيء ، كما أن مثل هذه المناهج لا يمكن أن تكون مقنعة إلا لمن يعتنقون دين الكاتب نفسه ، فهم وحدهم الذين يقبلون افتراض الحقيقة على النحو الذي يراه الكاتب ، أما اتباع الدين الآخر ، فلابد وأن يرفضوا ذلك ، لأنهم إنما يفترضون الحقيقة على نحو مخالف.
ومن ذلك يبين ، أن أول ما يجب أن يراعى في البحث عن الحقيقة ، هو عدم افتراضها ابتداء على نحو معين على الإطلاق ، إنما يجب أن يجري البحث مجرداً عن أي فرض لها ، فإذا كان المسيحيون يقولون بأن المسيح عليه السلام قد صلب بينما يقول المسلمون بأنه لم يصلب ، فإن الوصول إلى الحقيقة في هذا الأمر لا يكون بافتراض أنه قد صلب أو أنه لم يصلب ، وإنما بأن نضع هذين الفرضين أمام أعيننا ، ثم نبحث في الحقيقة بينهما متبعين في ذلك أسساً صحيحة ومقبولة للبحث ، يقبلها المسيحيون والمسلمون على السواء ، أو على الأقل لا يقبل منهم رفضها ، بأن تكون واضحة الحيدة يستوجب العقل قبولها ، وكذلك الحال أيضاً بالنسبة للخلاف حول طبيعة المسيح عليه السلام ، فإن الوصول إلى الحقيقة بشأن طبيعته لا يكون بافتراضه إلهاً أو بافتراض نفي الألوهية عنه ابتداء . وإنما بأن نضع نصب أعيننا هذين الفرضين ، ثم نبحث عن الحقيقة بينهما ، متبعين نفس الأسس المذكورة في البحث.
وهذا المنهج في البحث ، باستهداف الحقيقة وحدها ، دون التقيد بافتراضها على نحو معين ابتداء ، لا يمكن أن يرفضه مسيحي أو مسلم ، ولا يقبل من أي منهما رفضه ، فإن أيا منهما لا يؤمن بما يؤمن به إلا يقيناً منه بأن ما يؤمن به هو ما يطابق الحقيقة ، فإذا كان المسيحي يؤمن بأن المسيح قد صلب وبأنه هو الله فهو لاشك يؤمن بأن هذه هي الحقيقة ، ولا يتصور أن يعرف أن الحقيقة أن المسيح لم يصلب وأنه ليس إلهاً ثم يؤمن بعد ذلك بأنه قد صلب وأنه هو الله ، والمسلم أيضاً إذا كان يؤمن بأن المسيح لم يصلب وبأنه ليس إلهاً فهو لاشك يؤمن بأن هذه هي الحقيقة هو الآخر ، ولا يتصور أن يعرف أن الحقيقة عكس ذلك ويبقي على اعتقاده ومن ثم فإن استهداف الحقيقة وحدها ، وعدم افتراضها على أي نحو ابتداء ، والبحث طبقاً لأسس صحيحة مقبولة لكلا الطرفين للوصول إليها ، حتى نصل إليها بالفعل بعد ذلك ، أمر لا يمكن أن يرفضه أحد ، فما دام كل واثقاً أن ما يؤمن به هو ما يطابق الحقيقة ، فهو لاشك راغب في الوصول إليها ، لأنها لا يمكن إلا أن تؤكد ما يعتقده ويؤمن به ما دام أن ما يؤمن به هو ما يطابق الحقيقة ، ولكن إذا تبين له رغم ذلك ، أن الحقيقة تخالف ما يؤمن به ، فهل سيضيره ذلك ، هل يضير إنساناً أن يعرف الحقيقة ويتضح له أنها غير ما كان يعتقده ويؤمن به ، بالطبع لا ، فإنه لن يضار إلا لو ظل جاهلاً لهذه الحقيقة وظل يؤمن بما يغايرها ، أما وقد وصل إلى الحقيقة ، فعليه أن يحمد الله إذ هداه إليها ، وأن يسارع من فوره إلى اعتناق ما ثبت له أن يطابق الحقيقة ونبذ ما يخالفها .

كما أننا قد رأينا فيما سبق ، خطأ المنهج الذي يقوم على إثبات عدم صحة الأناجيل المتداولة أو القرآن ككتاب منزل من الله جملة ، وهنا نرى ضرورة الاستناد إلى الأناجيل المتداولة ، بل ويجب أن نفترض أن الأصل فيها أنها صحيحة ، ويكون القول بخلاف ذلك أمر يلزمه الدليل والسند ، مع مراعاة أن الدليل لا يجوز أن ننتهي منه إلى نفي صحتها جملة لأن هذا إنما يرجع بنا إلى المنهج الذي رفضناه ، ثم إننا يجب أن نكون أكثر شجاعة ، ونحن نتوجه بالبحث إلى المسيحيين والمسلمين على السواء ، فإذا كان المسلمون يؤمنون بتنزيل القرآن من الله ، فالمسيحيون لا يؤمنون بذلك ، وإذا كان البحث سيقوم على أساس أن الأصل في الأناجيل المتداولة افتراض صحتها ، فإنما لأن المسيحيين يؤمنون بذلك ، كما أن الأصل في المسلمين إيمانهم بالمسيح والإنجيل ، وهذه هي ما يعتبر المسيحيون الإنجيل ، أما والمسيحيون لا يؤمنون بتنزيل القرآن ، فإنه لا يجوز أن نبدأ بافتراض أن الأصل فيه هو الصحة كما افترضنا بالنسبة للأناجيل ، وإنما يجب أن يكون الأصل أنه للقول بتنزيله ، يجب أن نثبت هذا التنزيل ولا نفترضه ابتداء.
وهذا الذي انتهينا إليه لا يقبل من مسيحي أو مسلم أن يرفضه ، فكيف لمسيحي أن يعترض وقد افترضنا أن الأصل في الأناجيل المتداولة صحتها (1) ، وما قد يقال خلافاً لذلك لابد وأن يكون مصحوباً بدليله وسنده ، مع عدم قبول رفض الأناجيل جملة بأي حال ، كما أن الأصل لزوم إثبات صحة القرآن ككتاب منزل من الله ومن ثم فلن يفرض عليه التسليم بافتراض صحة القرآن ونسبته إلى الله إلا أن يثبت له صحة ذلك ، ثم كيف لمسلم أيضاً أن يعترض ، فالأصل عند المسلم الإيمان بالإنجيل ككتاب منزل من الله ، فإذا اعترض على الأناجيل المتداولة فعليه أن يؤيد اعتراضه بالسند والدليل ، ثم هو مادام موقناً بأن القرآن منزل من الله ، فلابد وأن يكون لديه ما يثبت به ذلك.
وهكذا يتضح لنا منهج البحث ، فهو إنما يقوم على استهداف الحقيقة وحدها ، دون التقيد ابتداء بأي فرض من الفروض ، ثم إن الأصل افتراض صحة الأناجيل المتداولة إلا فيما يقوم الدليل أو السند على عدم صحته منها ، بعكس القرآن الذي لا يفترض فيه ذلك ، بل يلزم إثبات تنزيله من الله قبل التسليم بذلك ، وقد وجدنا فيما سبق أن هذه الأسس للبحث لا يقبل من مسيحي أو مسلم أن يرفضها.
ولما كنا نعرف أن صُلب الخلاف بين المسيحية والإسلام ، إنما يقوم أساساً على الخلاف حول صلب المسيح عليه السلام أو عدم صلبه ، وحول ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته ، فطبيعي أن نبدأ بالبحث عن الحقيقة بين صلب المسيح أو عدم صلبه ، ونتبع ذلك بباب آخر في البحث عن الحقيقة بين ألوهية المسيح أو عدم ألوهيته ، وعلى أساس ما نصل إليه من حقيقة في هذين الموضوعين ، نقيم البحث فيما يليهما.
رد مع اقتباس