عرض مشاركة واحدة
 
  #38  
قديم 12-08-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق 11-17 من 17

تفسير إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم/ ابو السعود (ت 951 هـ) مصنف و مدقق 11-17 من 17




وبالجملة فآثارُ تربـيتِه عز وجل الفائضةُ على كل فرد من أفراد الموجودات في كل آنٍ من آنات الوجود غيرُ متناهية، فسبحانه ما أعظمَ شأنَه لا تلاحظه العيونُ بأنظارها، ولا تطالعُه العقولُ بأفكارها، شأنُه لا يُضاهى، وإحسانُه لا يتناهىٰ، ونحن في معرفته حائِرون، وفي إقامة مراسمِ شكرِه قاصرون، نسألك اللهم الهدايةَ إلى مناهج معرفتِك، والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك، لا نُحصي ثناءً عليك لا إله إلاّ أنت، نستغفرُك ونتوب إليك.

{ ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } صفتان لله، فإن أريد بما فيهما من الرحمة ما يختص بالعقلاء من العالمين أو ما يَفيضُ على الكل بعد الخروج إلى طوْر الوجودِ من النعم، فوجهُ تأخيرِهما عن وصف الربوبـية ظاهر، وإن أريد ما يعمّ الكلَّ في الأطوار كلِّها حسبما في قوله تعالى:

{ وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ } [الأعراف7، الآية 156]


فوجهُ الترتيب أن التربـية لا تقتضي المقارنة للرحمة، فإيرادُهما في عقبها للإيذان بأنه تعالى متفضلٌ فيها، فاعلٌ بقضية رحمتِه السابقةِ من غير وجوبٍ عليه، وبأنها واقعةٌ على أحسنِ ما يكون، والاقتصارُ على نعته تعالى بهما في التسمية لما أنه الأنسبُ بحال المتبرِّك المستعين باسمه الجليل، والأوفقُ لمقاصده.

{ مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدّينِ } صفةٌ رابعة له تعالى، وتأخيرُها عن الصفات الأُوَل مما لا حاجة إلى بـيان وجهِه، وقرأ أهلُ الحرمَيْن المحترمَيْن (ملِك) من المُلْك الذي هو عبارةٌ عن السلطان القاهر، والاستيلاءِ الباهر، والغلبةِ التامة، والقُدرةِ على التصرف الكليّ في أمور العامة، بالأمر والنهي، وهو الأنسبُ بمقام الإضافة إلى يوم الدين، كما في قوله تعالى:

{ لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ } [غافر40، الآية 16]

وقرىء (مَلْكِ) بالتخفيف و(مَلَكَ) بلفظ الماضي، (ومَالِكَ) بالنصب على المدح، أو الحال، وبالرفع منوناً ومضافاً على أنه خبرُ مبتدإٍ محذوف، (وملِكُ) مضافاً وبالرفع والنصب. واليومُ في العرف عبارةٌ عما بـين طلوعِ الشمس وغروبها من الزمان، وفي الشرع عما بـين طلوعِ الفجرِ الثاني وغروبِ الشمس، والمرادُ ها هنا مطلقُ الوقت. والدينُ الجزاءُ خيراً كان أو شرًّا، ومنه الثاني في المثل السائر كما تَدين تُدان، والأول في بـيت الحماسة: [الهزج]


ولم يبقَ سوى العُدوانِ دِنّاهم كما دانوا


وأما الأول في الأول والثاني في الثاني فليس بجزاءٍ حقيقة، وإنما سُمّي به مشاكلة، أو تسميةٌ للشيء باسم مسبَّبِهِ كما سُميت إرادةُ القيام والقراءة باسمهما في قوله عز اسمه:

-11-

{ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ } [المائدة5، الآية 6] وقوله تعالى:
{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْءانَ فَٱسْتَعِذْ بِاللَّهِ } [النحل16، الآية 98]


ولعله هو السرُّ في بناء المفاعلة من الأفعال التي تقوم أسبابُها بمفعولاتها، نحو عاقبتُ اللصَّ ونظائرِه، فإن قيام السرقة التي هي سببٌ للعقوبة باللص نُزّل منزلةَ قيام المسبَّبِ به، وهي العقوبة، فصار كأنها قامت بالجانبـين، وصدَرَت عنهما، فَبُنيت صيغةُ المفاعلةِ الدالَّةِ على المشاركة بـين اثنين. وإضافةُ اليوم إليه لأدنىٰ ملابسةٍ كإضافة سائرِ الظروفِ الزمانية إلى ما وقع فيها من الحوادث، كيوم الأحزابِ وعامِ الفتح، وتخصيصُه من بـين سائرِ ما يقع فيه من القيامة والجمعِ والحسابِ لكونه أدخلَ في الترغيب والترهيب، فإن ما ذكر من القيامة وغيرِها من مبادىءِ الجزاءِ ومقدِّماته، وإضافةُ (مالك) إلى اليوم [من] إضافة اسم الفاعل إلى الظرف، على نهج الاتساعِ المبنيّ على إجرائه مُجرىٰ المفعولِ به، مع بقاء المعنى على حاله، كقولهم: يا سارقَ الليلةِ أهلَ الدار. أي: مالِكَ أمورِ العالمين كلِّها في يومِ الدين. وخُلوُّ إضافتِه عن إفادة التعريفِ المسوّغ لوقوعه صفةً للمعرفة إنما هو إذا أُريد به الحالُ، أو الاستقبالُ، وأما عند إرادة الاستمرارِ الثبوتيّ كما هو اللائقُ بالمقام فلا ريب في كونها إضافةً حقيقية كإضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها في قراءة (ملك يوم الدين).

ويومُ الدين وإن لم يكن مستمراً في جميع الأزمنة إلا أنه لتحقق وقوعِه وبقائه أبداً أُجْرِيٍ مُجرىٰ المتحقّقِ المستمر. ويجوز أن يُراد به الماضي بهذا الاعتبار، كما تشهد به القراءةُ على صيغة الماضي، وما ذكر من إجراء الظرف مُجرى المفعولِ به إنما هو من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب، حتى يلزمَ كونُ الإضافة لفظية، ألا ترى أنك تقول في: مالكُ عبدِه أمسِ إنه مضاف إلى المفعول به، على أنه كذلك معنىً، لا أنه منصوب محلاً، وتخصيصُه بالإضافة إما لتعظيمه وتهويله، أو لبـيان تفرّدهِ تعالى بإجراء الأمر فيه، وانقطاعِ العلائق المجازية بـين المُلاَّك والأمْلاَك حينئذٍ بالكلية، وإجراءُ هاتيك الصفاتِ الجليلةِ عليه سبحانه تعليلٌ لما سبق من اختصاص الحمدِ به تعالى، المستلزمِ لاختصاص استحقاقِه به تعالى، وتمهيدٌ لما لَحِقَ من اقتصار العبادةِ والاستعانةِ عليه، فإنَّ كلَّ واحدةٍ منها مفصِحةٌ عن وجوب ثبوتِ كلِّ واحدٍ منها له تعالى، وامتناعِ ثبوتِها لما سواه.

أما الأولى والرابعةُ فظاهرٌ، لأنهما متعرِّضتان صراحةً لكونه تعالى رباً مالكاً وما سواه مربوباً مملوكاً له تعالى.

وأما الثانية والثالثة فلأن اتصافَه تعالى بهما ليس إلا بالنسبة إلى ما سواه من العالمين وذلك يستدعي أن يكون الكلُّ منعماً عليهم، فظهر أن كل واحدةٍ من تلك الصفات كما دلت على وجوب ثبوتِ الأمورِ المذكورةِ له تعالى دلت على امتناع ثبوتِها لما عداه على الإطلاق، وهو المعنى بالاختصاص.

{ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ }.

[سر تكرار الفاتحة في الصلاة]

التفات من الغَيْبة إلى الخطاب، وتلوينٌ للنظم من باب إلى باب، جارٍ على نهج البلاغة في افتنان الكلام، ومسلَكِ البراعة حسبما يقتضي المقام، لما أن التنقلَ من أسلوب إلى أسلوب، أدخلُ في استجلاب النفوسِ واستمالةِ القلوب يقع من كل واحدٍ من التكلم والخطاب والغَيبة إلى كل واحد من الآخَرَيْن، كما في قوله عز وجل:

-12-

{ وَٱللَّهُ ٱلَّذِى أَرْسَلَ ٱلرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَـاباً } [فاطر35، الآية 9] الآية، وقوله تعالى:
{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم } [يونس10، الآية 22]


إلى غير ذلك من الالتفاتات الواردةِ في التنزيل لأسرارٍ تقتضيها، ومزايا تستدعيها، ومما استَأثر به هذا المقام الجليلِ من النُكت الرائقةِ الدالةِ على أن تخصيصَ العبادةِ والاستعانةِ به تعالى لما أُجريَ عليه من النعوت الجليلة التي أوجبت له تعالى أكملَ تميّز، وأتمَّ ظهورٍ، بحيث تبدّل خفاءُ الغَيبة بجلاءِ الحضور، فاستدعى استعمالَ صيغةِ الخطاب، والإيذانَ بأن حقّ التالي - بعد ما تأمل فيما سَلَف من تفرّده تعالى بذاته الأقدس، المستوجبِ للعبودية، وامتيازِه بذاته عما سواه بالكلية، واستبدادِه بجلائل الصفات وأحكام الربوبـية المميِّزة له عن جميع أفرادِ العالمين، وافتقارِ الكلِّ إليه في الذات والوجودِ ابتداءً وبقاءً، على التفصيل الذي مرَّت إليه الإشارةُ - أن يترقىٰ من رتبة البرهان إلى طبقة العيان، وينتقلَ من عالم الغَيبة إلى معالم الشهود، ويلاحظَ نفسَه في حظائر القدْسِ حاضراً في محاضر الأنس، كأنه واقفٌ لدى مولاه ماثلٌ بـين يديه، وهو يدعو بالخضوع والإخبات، ويقرَعُ بالضَّراعة بابَ المناجاة قائلاً: يا من هذه شوؤنُ ذاتهِ وصفاتهِ، نخصُّك بالعبادة والاستعانة، فإن ما سواك كائناً ما كان بمعزل من استحقاق الوجود، فضلاً عن استحقاق أن يُعبد ويُستعان، ولعل هذا هو السرُ في اختصاص السورةِ الكريمة بوجوب القراءة في كل ركعةٍ من الصلاة التي هي مناجاةُ العبدِ لمولاه ومِنّتُه للتبتل إليه بالكلية. و(إيا) ضميرٌ منفصلٌ منصوبٌ، وما يلحَقه من الكاف والياءِ والهاءِ حروفٌ زيدت لتعيـين الخطاب، والتكلمُ والغَيبةُ لا محل لها من الإعراب، كالتاء في أنت والكاف في أرأيتَكَ، وما ادعاه الخليلُ من الإضافة محتجاً عليه بما حكاه عن بعض العرب: إذا بلغ الرجلُ الستين فإياه وإيا الشوابِّ، فمما لا يعول عليه. وقيل: هي الضمائر، وإيا دِعامةٌ لها لتُصيرَها منفصلة، وقيل: الضميرُ هو المجموع، وقُرِىء (إَيَّاك) بالتخفيف وبفتح الهمزة والتشديد، وهياك بقلب الهمزة هاء.

[معنى العبادة والعبودية والاستعانة]

والعبادةُ أقصى غايةِ التذلل والخضوع، ومنه طريقٌ معبّدٌ أي مذَلَّل، والعبوديةُ أدنى منها، وقيل: العبادةُ فعلُ ما يرضَى به الله، والعبوديةُ الرضى بما فعلَ الله تعالى، والاستعانةُ طلبُ المعونةِ على الوجه الذي مر بـيانه، وتقديم المفعول فيهما لما ذُكر من القصر والتخصيص، كما في قوله تعالى:

{ وَإِيَّـاىَ فَٱرْهَبُونِ } [البقرة2، الآية 40]

مع ما فيه من التعظيم والاهتمامِ به، قال ابنُ عباس رضي الله عنهما: معناه نعبدك ولا نعبد غيرَك، وتكريرُ الضمير المنصوبِ للتنصيص على تخصيصه تعالى بكل واحدة من العبادة والاستعانة، ولإبراز الاستلذاذِ بالمناجاة والخطاب، وتقديمُ العبادة لِما أنها من مقتَضَيات مدلولِ الاسم الجليل، وإن ساعدته الصفاتُ المُجْراةُ عليه أيضاً، وأما الاستعانةُ فمن الأحكامِ المبنية على الصفات المذكورة ولأن العبادةَ من حقوق الله تعالى، والاستعانة من حقوق المُستعين، ولأن العبادة واجبة حتماً، والاستعانةُ تابعةٌ للمستعان فيه في الوجوب وعدمِه، وقيل: لأن تقديمَ الوسيلة على المسؤول أدعى إلى الإجابة والقبول، هذا على تقدير كونِ إطلاقِ الاستعانةِ [على المفعول فيه] ليتناول كلَّ مستعانٍ فيه، كما قالوا، وقد قيل: إنه لما كان المسؤولُ هو المعونةَ في العبادة والتوفيقَ لإقامة مراسِمِهما على ما ينبغي، وهو اللائقُ بشأن التنزيل، والمناسبُ لحال الحامد، فإن استعانتَه مسبوقةٌ بملاحظة فعلٍ من أفعاله، ليستعينَه تعالى في إيقاعه، ومن البـيِّن أنه عند استغراقه في ملاحظة شؤونه تعالى، واشتغالِهِ بأداء ما تُوجبه تلك الملاحظةُ من الحمد والثناء، لا يكادُ يخطُر بباله من أفعاله وأحواله إلا الإقبالُ الكليُّ عليه، والتوجهُ التامّ إليه، ولقد فَعل ذلك بتخصيص العبادةِ به تعالى أولاً، وباستدعاء الهدايةِ إلى ما يوصِلُ إليه آخِراً، فكيف يُتصور أن يَشتغل فيما بـينهما بما لا يَعنيه من أمور دنياه أو بما يعمُّها وغيرَها، كأنه قيل: وإياك نستعين في ذلك، فإنّا غيرُ قادرين على أداء حقوقِك من غير إعانةٍ منك، فوجهُ الترتيب حينئذٍ واضح، وفيه من الإشعار بعلوّ رُتبةِ عبادته تعالى وعزّةِ منالِها، وبكونها عند العابدِ أشرفَ المباغي والمقاصدِ وبكونها من مواهبهِ تعالى لا من أعمال نفسِه، ومن الملأَمة لما يعقبُه من الدعاء ما لا يخفىٰ.


-13-

وقيل: الواوُ للحال، أي إياك نعبدُ مستعينين بك، وإيثارُ صيغةِ المتكلم مع الغير في الفعلين للإيذان بقصورِ نفسه، وعدمِ لِياقتِه للوقوف في مواقف الكبرياءِ منفرداً، وعَرْضِ العبادة، واستدعاءِ المعونة والهداية مستقلاً، وأن ذلك إنما يُتصور من عصابةٍ هو من جُملتهم، وجماعةٍ هو من زُمرتهم، كما هو ديدَنُ الملوك، أو للإشعار باشتراك سائر الموحِّدين له في الحالة العارضة له، بناءً على تعاضُد الأدلةِ المُلْجئة إلى ذلك، وقُرىء (نِسْتعين) بكسر النون على لغة بني تميم.

{ ٱهْدِنَا ٱلصّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } إفراد - لمعظم أفراد المعونة المسؤولة - بالذكر، وتعيـينٌ لما هو الأهمُ أو بـيان لها، كأنه قيل: كيف أُعينكم فقيل: اهدنا.

[تعريف الهداية وأنواعها]

والهدايةُ دلالةٌ بلطفٍ على ما يوصِلُ إلى البُغية، ولذلك اختصّتْ بالخير، وقوله تعالى:

{ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِراطِ ٱلْجَحِيمِ } [الصافات، الآية 23]

وارد على نهج التهكّم، والأصلُ تعديتُها بإلى واللام، كما في قوله تعالى:

{ قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يَهْدِى إِلَى ٱلْحَقّ قُلِ ٱللَّهُ يَهْدِى لِلْحَقّ } [يونس10، الآية 35]

فعومل معاملةَ اختارٍ في قوله تعالى:

{ وَٱخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ } [الأعراف7، الآية 155] وعليه قولُه تعالى:

{ لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [العنكبوت، الآية 69]

-14-

وهدايةُ الله تعالى مع تنوعها إلى أنواع لا تكاد تُحصر منحصرةٌ في أجناس مترتبة، (منها) أنفسيةٌ، كإفاضة القُوى الطبـيعيةِ والحيوانية التي بها يصدُر عن المرء فاعليته الطبـيعية الحيوانية، والقوى المدرِكة، والمشاعرُ الظاهرةُ والباطنة التي بها يتمكن من إقامة مصالِحه المعاشيةِ والمعاديّة، (ومنها) آفاقيةٌ، فإما تكوينيةٌ مُعْرِبة عن الحق بلسان الحال، وهي نصبُ الأدلةِ المُودَعةِ في كل فردٍ من أفراد العالم حسبما لُوِّحَ به فيما سلف، وإما تنزيليةٌ مُفْصِحةٌ عن تفاصيل الأحكامِ النظريةِ والعمليةِ بلسان المقالِ، بإرسال الرسل، وإنزال الكتبِ المنطويةِ على فنون الهدايات التي من جملتها الإرشادُ إلى مسلك الاستدلالِ بتلك الأدلة التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفسية، والتنبـيهُ على مكانها، كما أشير إليه مُجملاً في قوله تعالى:

{ وَفِى ٱلأَرْضِ ءايَـاتٌ لّلْمُوقِنِينَ *وَفِى أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ }
[الذاريات، الآية 20و21] وفي قوله عز وعلا:
{ إِنَّ فِى ٱخْتِلافِ ٱلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لآيَـاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } [يونس10، الآية 6]

(ومنها) الهدايةُ الخاصة وهي كشفُ الأسرارِ على قلب المُهْدَى بالوحي، أو الإلهام.


ولكل مرتبةٍ من هذه المراتب صاحبٌ ينتحيها، وطالبٌ يستدعيها، والمطلوب إما زيادتُها كما في قوله تعالى:
{ وَٱلَّذِينَ ٱهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى } [محمد47: الآية 17]


وإما الثباتُ عليها كما روي عن علي وأبـي رضي الله عنهما: إهدنا ثبّتنا، ولفظ الهداية على الوجه الأخير مَجازٌ قطعاً، وأما على الأول فإن اعتُبر مفهومُ الزيادة داخلاً في المعنى المستعمل فيه كان مجازاً أيضاً، وإن اعتُبر خارجاً عنه مدلولاً عليه بالقرائنِ كان حقيقة، لأن الهداية الزائدةَ هداية، كما أن العبادة الزائدةَ عبادة، فلا يلزم الجمعُ بـين الحقيقة والمجاز، وقُرىء أرشِدْنا، والصراطُ الجادةُ وأصلُه السين، قُلبت صاداً لمكان الطاء كمصيطر في مسيطر، من سَرَط الشيء إذا ابتلعه، سُمّيت به لأنها تسترِطُ السابلةَ إذا سلكوها، كما سميت لَقْماً لأنها تلتقمهم وقد تُشَمُّ الصاد صوت الزاي تحرياً للقرب من المبدَل منه. وقد قرىء بهن جميعاً، وفُصحاهن إخلاصُ الصاد، وهي لغة قريش، وهي الثابتةُ في الإمام، وجمعه صُرُط ككتاب وكُتب، وهو كالطريق والسبـيل في التذكير والتأنيث، و(المستقيمُ) المستوي، والمراد به طريقُ الحق وهي الملة الحنيفية السمْحة المتوسطةُ بـين الإفراط والتفريط.

{ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدلٌ من الأول بدلَ كل، وهو في حكم تكريرِ العامل من حيث إنه المقصودُ بالنسبة، وفائدتُه التأكيدُ والتنصيصُ على أن طريق الذين أنعم الله عليهم وهم المسلمون هو العَلَمُ في الاستقامة، والمشهودُ له بالاستواء بحيث لا يذهب الوهمُ عند ذكر الطريقِ المستقيم إلا إليه.

وإطلاقُ الإنعامِ لقصد الشمول، فإن نِعمةَ الإسلام عنوانُ النعم كلِّها، فمن فاز بها فقد حازها بحذافيرها. وقيل: المراد بهم الأنبـياءُ عليهم السلام، ولعل الأظهرَ أنهم المذكورون في قوله عز قائلاً:

{ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ ٱلنَّبِيّينَ وَٱلصّدّيقِينَ وَٱلشُّهَدَاء وَٱلصَّـٰلِحِينَ } [النساء4، الآية 69] بشهادة ما قبله من قوله تعالى:
{ وَلَهَدَيْنَـاهُمْ صِراطاً مُّسْتَقِيماً } [النساء4، الآية 68]

-15-

وقيل: هم أصحابُ موسى وعيسى عليهما السلام قبل النسخِ والتحريفِ، وقُرىءَ صراطَ مَنْ أنعمتَ عليهم، والإنعامُ إيصالُ النعمة وهي في الأصل الحالةُ التي يستلِذُّها الإنسان، من النعمة وهي اللينُ، ثم أطلقت على ما تستلذّه النَّفسُ من طيّبات الدنيا.

ونِعَمُ الله تعالى مع استحالة إحصائِها تنحصرُ أصولُها في دنيويٍ وأُخروي والأول قسمان: وهبـيّ وكسبـيّ، والوهبـي أيضاً قسمان: روحاني كنفخ الروح فيه، وإمدادِه بالعقل، وما يتبعه من القُوى المدرِكة، فإنها مع كونها من قبـيل الهدايات نعمٌ جليلة في أنفسها، وجُسماني كتخليق البدن والقُوى الحالَّةِ فيه، والهيئاتِ العارضةِ له من الصّحة وسلامةِ الأعضاء، والكسبـيُّ تخليةُ النفسِ عن الرذائل، وتحليتُها بالأخلاقِ السَّنية، والملَكات البهيَّة، وتزيـينُ البدن بالهيئات المطبوعة والحِلىٰ المرضية، وحصول الجاه والمال.

والثاني مغفرةُ ما فَرط منه، والرضى عنه، وتَبْوئتُه في أعلى عليـين، مع المقربـين، والمطلوبُ هو القسم الأخير، وما هو ذريعةٌ إلى نيلِه من القسم الأول، اللهم ارزُقنا ذلك بفضلك العظيم، ورحمتِك الواسعة.

{ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ } صفةٌ للموصول على أنه عبارةٌ عن إحدى الطوائفِ المذكورةِ المشهورةِ بالإنعام عليهم، وباستقامة المسْلك، ومن ضرورة هذه الشهرةِ شهرتُهم بالمغايَرَة لما أضيف إليه كلمةُ (غير) من المتصفين بضدَّي الوصفين المذكورين، أعني مطلقَ المغضوب عليهم والضالين، فاكتسبت بذلك تَعرُّفاً مصححاً لوقوعها صفةً للمعرفة كما في قولك: عليك بالحركة غيرِ السكون، وُصفوا بذلك تكملةً لما قبله وإيذاناً بأن السلامة مما ابتُلي به أولئك نعمةٌ جليلةٌ في نفسها، أي الذين جمعوا بـين النعمة المُطلقة التي هي نعمةُ الإيمان ونعمةُ السلامة من الغضب والضلال. وقيل: المرادُ بالموصول طائفةٌ من المؤمنين لا بأعيانهم، فيكون بمعنى النكرة كذي اللام إذا أريد به الجنسُ في ضمن بعضِ الأفراد لا بعينه، وهو المسمى بالمعهود الذهني، وبالمغضوب عليهم والضالين اليهودُ والنصارى، كما ورد في مسند أحمدَ والترمذي فيبقى لفظُ (غير) على إبهامه نكرةً مثل موصوفِه، وأنت خبـير بأن جعْلَ الموصول عبارةَ عما ذكر من طائفةٍ غيرِ معيَّنة مُخلٌّ ببدليةِ ما أضيف إليه مما قبله فإن مدارَها كونُ صراطِ المؤمنين علَماً في الاستقامة مشهوداً له بالاستواء على الوجه الذي تحقَّقْتَه فيما سلف، ومن البـيِّن أن ذلك من حيثُ إضافتُه وانتسابُه إلى كلهم لا إلى بعضٍ مُبْهَمٍ منهم، وبهذا تبـين ألاَّ سبـيلَ إلى جعل: { غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } بدلاً من الموصول، لما عرفت من أن شأنَ البدلِ أن يُفيدَ متبوعَهُ مزيدَ تأكيدٍ وتقرير، وفضلَ إيضاحٍ وتفسيرٍ، ولا ريب في أن قُصارىٰ أمرِ ما نحن فيه أن يكتسبَ مما أضيف إليه نوعَ تعرُّفٍ مصحِّحٍ لوقوعه صفةً للموصول، وأما استحقاقُ أن يكون مقصوداً بالنسبة مفيداً لما ذكر من الفوائد فكلاّ. وقُرىء بالنصب على الحال، والعاملُ أنعمتَ، أو على المدح، أو على الاستثناء إنْ فُسّر النعمةُ بما يعمُّ القليل.

-16-

والغضبُ هيجانُ النفس لإرادة الانتقام، وعند إسنادِه إلى الله سبحانه يُراد به غايتُه بطريق إطلاقِ اسمِ السبب بالنسبة إلينا على مسبّبِهِ القريبِ إنْ أريد به إرادةُ الانتقام، وعلى مسبّبِهِ البعيدِ إن أريد به نفسُ الانتقام، ويجوز حملُ الكلام على التمثيل، بأنْ تُشبَّه الهيئةُ المنتزَعةُ من سَخَطه تعالى للعصاة وإرادةُ الانتقام منهم لمعاصيهم بما يُنتَزَعُ من حال الملِك إذا غضِب على الذين عصَوْه، وأراد أن ينتقم منهم ويعاقِبَهم، وعليهم مرتفِعٌ بالمغضوب، قائم مَقامَ فاعلِه، والعدولُ عن إسناد الغضب إليه تعالى كالإنعام جرَى على منهاج الآداب التنزيلية في نسبة النعمِ والخيرِ إليه عز وجل، دون أضدادها، كما في قوله تعالى:

{ الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ *وَٱلَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ *وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } [الشعراء، الآية 78 - 80] وقوله تعالى:
{ وَأَنَّا لاَ نَدْرِى أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِى ٱلأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [الجن72، الآية 10]

و«لا» مزيدةٌ لتأكيد ما أفاده «غير» من معنى النفي كأنه قيل: لا المغضوبِ عليهم ولا الضالين، ولذلك جاز أنا زيداً غيرُ ضاربٍ، جوازَ أنا زيداً لا ضَارِبٌ وإن امتنع أنا زيداً مثلُ ضاربٍ، والضلالُ هو العدول على الصراط السوي، وقُرىء وغيرِ الضالين، وقُرىء ولا الضأْلين، بالهمزة على لغة مَنْ جدَّ في الهرب عن التقاء الساكنين.


. { أَمِينٌ } اسم فعلٍ هو: استجبْ، " وعن ابن عباس رضي الله عنهما سألت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن معنى آمِين، فقال: " افعل " بُني على الفتح كأينَ لالتقاء الساكنين، وفيه لغتان مدُّ ألفه وقصرُها قال: [البسيط]

[يا رب لا تسلبني حبُّها أبداً]ويرحم الله عبداً قال آمينا


وقال: [الطويل]

[تباعد مني فطحلٌ إذ سألته]أمين فزاد الله ما بـيننا بعداً


عن النبـي صلى الله عليه وسلم: " لقّنني جبريلُ آمينَ عند فراغي من قراءة فاتحةِ الكتاب، وقال: إنه كالختم على الكتاب ". وليست من القرآن وِفاقاً، ولكن يسن ختمُ السورة الكريمة بها، والمشهورُ عن أبـي حنيفة رحمه الله أن المصلّيَ يأتي بها مخافتةً، وعنه أنه لا يأتي بها الإمامُ لأنه الداعي وعن الحسنِ مثلُه، وروَى الإخفاءَ عبدُ اللَّه بنُ مغفّل، وأنسُ بنُ مالك، عن النبـي عليه الصلاة والسلام، وعند الشافعيِّ رحمه الله يُجهر بها، لما روىٰ وائلُ بنُ حجر " أن النبـي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ ولا الضالين قال: " آمين " ، ورفع بها صوته " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبـيّ بنِ كعب: " ألا أخبرك بسورة لم ينزِلْ في التوراة والإنجيل والقرآن مثلُها؟ قلت: بلى، يا رسول الله قال: فاتِحةُ الكتاب إنها السبعُ المثاني والقرآنُ العظيم الذي أوتيتُه " وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبـي صلى الله عليه وسلم قال: " إن القومَ ليبعثُ الله عليهم العذابَ حتماً مقضياً، فيقرأ صبـيٌّ من صبـيانهم في الكتاب الحمدُ لله رب العالمين، فيسمعه الله تعالى فيرفعُ عنهم بذلك العذابَ أربعين سنة ".
-17-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس