عرض مشاركة واحدة
 
  #5  
قديم 12-04-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق 1-7

تفسير الجامع لاحكام القرآن/ القرطبي (ت 671 هـ) مصنف و مدقق 1-7

{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } * { ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } * { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } * { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } * { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } * { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } * { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


فيما تضمنته الفاتحة من المعاني والقراءات والإعراب وفضل الحامدين، وفيه ست وثلاثون مسألة:

الأولى: قوله سبحانه وتعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } روى أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخُدْرِيّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " إذا قال العبد الحمد لله قال صدق عبدي الحمد لي " وروى مسلم عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها " وقال الحسن: ما مِن نعمة إلا والحمد لله أفضل منها. وروى ٱبن ماجه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما أنعم الله على عبد نعمة فقال الحمد لله إلا كان الذي أعطاه أفضل مما أَخذ " وفي (نوادر الأصول) عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لو أن الدنيا كلها بحذافيرها بيد رجل من أمتي ثم قال الحمد لله لكانت الحمد لله أفضلَ من ذلك " قال أبو عبد اللَّه: معناه عندنا أنه قد أُعطي الدنيا، ثم أُعطي على أثرها هذه الكلمة حتى نطق بها، فكانت هذه الكلمة أفضل من الدنيا كلها، لأن الدنيا فانية والكلمة باقية، هي من الباقيات الصالحات؛ قال الله تعالى:

{ وَٱلْبَاقِيَاتُ ٱلصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } [الكهف18: 46].

وقيل في بعض الروايات: لكان ما أَعطى أكثر مما أخذ. فصير الكلمة إعطاءً من العبد، والدنيا أخذاً من الله؛ فهذا في التدبير. كذاك يجري في الكلام أن هذه الكلمة من العبد، والدنيا من الله؛ وكلاهما من الله في الأصل، الدنيا منه والكلمة منه؛ أعطاه الدنيا فأغناه، وأعطاه الكلمة فشرفه بها في الآخرة. وروى ٱبن ماجه عن ٱبن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدّثهم: " أن عبداً من عباد الله قال يا رَب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فَعَضَلَتْ بالمَلَكَيْن فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى السماء وقالا يا رَبَّنا إن عبدك قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها قال الله عزّ وجلّ وهو أعلم بما قال عبده ماذا قال عبدي قالا يا ربّ إنه قد قال يارب لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك فقال الله لهما ٱكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجْزِيَهُ بها " قال أهل اللغة: أعضل الأمر: ٱشتد وٱستغلق؛ والمعضّلات (بتشديد الضاد): الشدائد. وعضَّلت المرأة والشاة: إذا نَشِب ولدها فلم يسهل مخرجه؛ بتشديد الضاد أيضاً؛ فعلى هذا يكون: أَعْضَلت الملكين أو عَضَّلَت الملكين بغير ياء.

-1-

والله أعلم. ورُوي عن مسلم عن أبي مالك الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الطُّهور شَطْرُ الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض " وذكر الحديث.

الثانية: اختلف العلماء أيُّما أفضل؛ قول العبد: الحمد لله رب العالمين، أو قول لا إلٰه إلا الله؟ فقالت طائفة: قوله الحمد لله رب العالمين أفضل؛ لأن في ضمنه التوحيد الذي هو لا إلٰه إلا الله؛ ففي قوله توحيد وحمد؛ وفي قوله لا إلٰه إلا الله توحيد فقط. وقال طائفة: لا إلٰه إلا الله أفضل؛ لأنها تدفع الكفر والإشراك، وعليها يقاتل الخلق؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أُمِرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلٰه إلا الله " وٱختار هذا القول ٱبن عطية قال: والحاكم بذلك قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: " أفضل ما قلت أنا والنبيون مِن قبلي لا إلٰه إلا الله وحده لا شريك له " الثالثة: أجمع المسلمون على أن الله محمود على سائر نعمه، وأن مما أنعم الله به الإيمان؛ فدلّ على أن الإيمان فعله وخلقه؛ والدليل على ذلك قوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }. والعالَمون جملة المخلوقات، ومن جملتها الإيمان، لا كما قال القَدَرِيَّةُ: إنه خَلْقٌ لهم؛ على ما يأتي بيانه.

الرابعة: الحمد في كلام العرب معناه الثناء الكامل؛ والألف واللام لاستغراق الجنس من المحامد؛ فهو سبحانه يستحق الحمد بأجمعه إذ له الأسماء الحسنى والصفات العلا؛ وقد جُمع لفظ الحمد جمع القلة في قول الشاعر:

وأبلج محمودِ الثّناءِ خَصَصْتُهبأفْضَلِ أقوالي وأَفْضَلِ أحْمُدي


فالحمد نقيض الذم، تقول: حمدت الرجل أحْمَدُه حَمْداً فهو حميد ومحمود؛ والتحميد أبلغ من الحمد. والحمد أعمّ من الشكر، والمحمَّد: الذي كثرت خصاله المحمودة. قال الشاعر:

إلى الماجد القَرْم الجَوَاد المُحَمَّدِ


وبذلك سُمّي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الشاعر:

فَشَقّ له مِن ٱسمه لِيُجِلَّهفذو العَرْش محمودُ وهذا مُحَمَّدُ


والمَحْمَدة: خلاف المذمّة. وأَحْمَد الرجلُ: صار أمره إلى الحمد. وأحمدته: وجدته محموداً؛ تقول: أتيت موضع كذا فأحمدته؛ أي صادفته محموداً موافقاً، وذلك إذا رضيت سكناه أو مرعاه. ورجل حُمَدَة ـ مثل هُمَزَة ـ يكثر حمد الأشياء ويقول فيها أكثر مما فيها. وحَمدة النار ـ بالتحريك ـ: صوت التهابها.

الخامسة: ذهب أبو جعفر الطبري وأبو العباس المبرد إلى أن الحمد والشكر بمعنى واحد سواء، وليس بمرضي. وحكاه أبو عبد الرحمن السلميّ في كتاب «الحقائق» له عن جعفر الصادق وٱبن عطاء. قال ٱبن عطاء: معناه الشكر لله؛ إذْ كان منه الامتنان على تعليمنا إياه حتى حمدناه. وٱستدل الطبري على أنهما بمعنىً بصحة قولك: الحمد لله شكراً. قال ٱبن عطية: وهو في الحقيقة دليل على خلاف ما ذهب إليه؛ لأن قولك شكراً، إنما خصصت به الحمد؛ لأنه على نعمة من النعم.
-2-

وقال بعض العلماء: إن الشكر أعمّ من الحمد؛ لأنه باللسان وبالجوارح والقلب؛ والحمد إنما يكون باللسان خاصّة. وقيل: الحمد أعمّ، لأن فيه معنى الشكر ومعنى المدح، وهو أعمّ من الشكر؛ لأن الحمد يوضع موضع الشكر ولا يوضع الشكر موضع الحمد. ورُوي عن ٱبن عباس أنه قال: الحمد لله كلمةُ كل شاكر، وإن آدم عليه السلام قال حين عَطَس: الحمد لله. وقال الله لنوح عليه السلام:


قلت: الصحيح أن الحمد ثناء على الممدوح بصفاته من غير سبق إحسان، والشكر ثناء على المشكور بما أولى من الإحسان. وعلى هذا الحدّ قال علماؤنا: الحمد أعمّ من الشكر؛ لأن الحمد يقع على الثناء وعلى التحميد وعلى الشكر؛ والجزاء مخصوص إنما يكون مكافأة لمن أوْلاك معروفاً؛ فصار الحمد أعم في الآية لأنه يزيد على الشكر. ويُذكر الحمد بمعنى الرضا؛ يقال: بلوته فحمدته، أي رضيته. ومنه قوله تعالى:

{ مَقَاماً مَّحْمُوداً }
[الإسراء17: 79].

وقال عليه السلام: " أحمد إليكم غسل الإحليل " أي أرضاه لكم. ويذكر عن جعفر الصادق في قوله «الحمد لله»: من حمده بصفاته كما وصف نفسه فقد حمد؛ لأن الحمد حاء وميم ودال؛ فالحاء من الوحدانية، والميم من الملك، والدال من الدّيمومية؛ فمن عرفه بالوحدانية والديمومية والملك فقد عرفه، وهذا هو حقيقة الحمد لله. وقال شقيق بن إبراهيم في تفسير «الحمد لله» قال: هو على ثلاثة أوجه: أوّلها إذا أعطاك الله شيئاً تعرف من أعطاك. والثاني أن ترضى بما أعطاك. والثالث ما دامت قوته في جسدك ألا تعصيه؛ فهذه شرائط الحمد.

السادسة: أثنى الله سبحانه بالحمد على نفسه، وٱفتتح كتابه بحمده، ولم يأذن في ذلك لغيره؛ بل نهاهم عن ذلك في كتابه وعلى لسان نبيّه عليه السلام، فقال:

{ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } [النجم53: 32].

وقال عليه السلام: " ٱحْثُوا في وجوه المدّاحين التراب " رواه المقداد. وسيأتي القول فيه في «النساء» إن شاء الله تعالى.


فمعنى «الحمد لله رب العالمين»: أي سبق الحمد منّي لنفسي قبل أن يَحْمَدني أحد من العالمين، وحَمْدِي نفسي لنفسي في الأزل لم يكن بعلة، وحَمْدِي الخلق مشوب بالعلل.
-3-

قال علماؤنا: فيستقبح من المخلوق الذي لم يعط الكمال أن يحمد نفسه ليستجلب لها المنافع ويدفع عنها المضار. وقيل: لما علم سبحانه عجز عباده عن حمده، حَمِد نفسه لنفسه في الأزل؛ فٱستفراغ طَوْق عباده هو محل العجز عن حمده. ألا ترى سيد المرسلين كيف أظهر العجز بقوله: " لا أُحصِي ثناء عليك " وأنشدوا:

إذا نَحْنُ أثْنَيْنَا عليك بصالحٍفأنْتَ كما نُثْنِي وفوقَ الذي نُثْنِي


وقيل: حَمِد نفسه في الأزل لما علم من كثرة نعمه على عباده وعجزهم عن القيام بواجب حمده فَحمِد نفسه عنهم؛ لتكون النعمة أهنأ لديهم، حيث أسقط عنهم به ثقل المِنّة.

السابعة: وأجمع القرّاء السبعة وجمهور الناس على رفع الدال من «الحمدُ لله». ورُوي عن سفيان بن عُيينة ورؤُبة بن العَجَّاج: «الحمدَ لله» بنصب الدال؛ وهذا على إضمار فعل. ويقال: «الحمدُ لله» بالرفع مبتدأ وخبر، وسبيل الخبر أن يفيد؛ فما الفائدة في هذا؟ فالجواب أن سيبويه قال: إذا قال الرجل الحمدُ لله بالرفع ففيه من المعنى مثل ما في قولك: حمدت الله حمداً؛ إلا أن الذي يرفع الحمد يخبر أن الحمد منه ومن جميع الخلق لله؛ والذي ينصب الحمد يخبر أن الحمد منه وحده لله. وقال غير سيبويه. إنما يتكلم بهذا تعرّضاً لعفو الله ومغفرته وتعظيماً له وتمجيداً؛ فهو خلاف معنى الخبر وفيه معنى السؤال. وفي الحديث: " مَن شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " وقيل: إن مدحه عزّ وجلّ لنفسه وثناءه عليها ليعلِّم ذلك عباده؛ فالمعنى على هذا: قولوا الحمد لله. قال الطبري: «الحمد لله» ثناء أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمرَ عباده أن يثنوا عليه؛ فكأنه قال: قولوا الحمد لله؛ وعلى هذا يجيء قولوا إياك. وهذا من حذف العرب ما يدل ظاهر الكلام عليه، كما قال الشاعر:

وأعلَمُ أنّني سأكونُ رَمْساًإذا سار النّواعِجُ لا يسير
فقال السائلون لمن حفرتمفقال القائلون لهم وزير


المعنى: المحفور له وزير، فحذف لدلالة ظاهر الكلام عليه، وهذا كثير. وروي عن ٱبن أبي عَبَلَة: «الحمد لله» بضم الدال واللام على إتباع الثاني الأوّل؛ وليتجانس اللفظ، وطلبُ التجانس في اللفظ كثير في كلامهم؛ نحو: أجُوءُك، وهو منحدُرٌ من الجبل، بضم الدال والجيم. قال:

....ٱضرب الساقينُ أُمّك هابل


بضم النون لأجل ضم الهمزة. وفي قراءةٍ لأهل مكة «مُرُدفين» بضم الراء إتباعاً للميم، وعلى ذلك «مُقُتلين» بضم القاف. وقالوا: لإمِّك، فكسروا الهمزة ٱتباعاً للاّم؛ وأنشد للنعمان بن بشير:

ويل ٱمِّها في هَواءِ الْجَو طالبةًولا كهذا الذي في الأرضِ مَطْلُوبُ


الأصل: ويلٌ لأمها؛ فحذفت اللام الأولى وٱستثقل ضم الهمزة بعد الكسرة فنقلها للام ثم أتبع اللام الميمَ. وروي عن الحسن بن أبي الحسن وزيد بن عليّ: «الحمدِ للهِ» بكسر الدال على إتباع الأوّل الثاني.
-4-

الثامنة: قوله تعالى: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } أي مالكهم، وكل من ملك شيئاً فهو رَبّه؛ فالربُّ: المالك. وفي الصحاح: والرب ٱسم من أسماء الله تعالى، ولا يقال في غيره إلا بالإضافة؛ وقد قالوه في الجاهلية للملِك، قال الحارث بن حِلِّزة:

وَهُوَ الربّ والشَّهيدُ على يَوْمِ الْحِيَارَيْنِ والْبَلاَءُ بَلاءُ


والرب: السيد؛ ومنه قوله تعالى:

{ ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ } [يوسف12: 42].

وفي الحديث: " أنْ تلد الأَمَةُ ربَّتها " أي سيدتها؛ وقد بينّاه في كتاب (التذكرة). والربّ: المصلح والمدبّر والجابر والقائم. قال الهَرَوِيّ وغيره: يقال لمن قام بإصلاح شيء وإتمامه: قد رَبّه يَرُبّه فهو رَبٌّ له ورابٌّ؛ ومنه سمي الربّانيون لقيامهم بالكتب. وفي الحديث: " هل لك مِن نعمة تَرُبُّها عليه " أي تقوم بها وتصلحها. والربّ: المعبود؛ ومنه قول الشاعر:

أَرَبٌّ يبول الثُّعْلُبَانُ برأسهلَقَدْ ذلّ مَنْ بالتْ عليه الثَّعالِبُ


ويقال على التكثير: ربّاه وربّبه وربَّتَه؛ حكاه النحاس. وفي الصحاح: ورَبّ فلانٌ ولدَه يُرُّبه رَبًّا، وربَّبَه وَتَرَبَّبه بمعنىً؛ أي ربّاه. والمَرْبوب: المربَّى.

التاسعة: قال بعض العلماء: إن هذا الاسم هو ٱسم الله الأعظم؛ لكثرة دعوة الداعين به، وتأمل ذلك في القرآن، كما في آخر «آل عمران» وسورة «إبراهيم» وغيرهما، ولما يشعر به هذا الوصف من الصلة بين الربّ والمَرْبوب، مع ما يتضمّنه من العطف والرحمة والافتقار في كل حال.

وٱختلِف في ٱشتقاقه؛ فقيل: إنه مشتق من التربية؛ فالله سبحانه وتعالى مدبِّر لخلقه ومربيّهم، ومنه قوله تعالى:

{ وَرَبَائِبُكُمُ ٱللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ } [النساء4: 23].

فسمى بنت الزوجة رَبِيبة لتربية الزوج لها.


فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم يكون صفة فعل؛ وعلى أن الربّ بمعنى المالك والسيد يكون صفة ذات.

العاشرة: متى أدخلت الألف واللام على «ربّ» ٱختص الله تعالى به؛ لأنها للعهد، وإن حذفنا منه صار مشتركاً بين الله وبين عباده. فيقال: الله رَبّ العباد، وزيد رَبّ الدّار؛ فالله سبحانه رَبّ الأرباب؛ يملك المالك والمملوك، وهو خالق ذلك ورازقه، وكل رَبٍّ سواه غير خالق ولا رازق، وكل مملوك فَمُملَّك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيئاً دون شيء؛ وصفة الله تعالى مخالفة لهذه المعاني، فهذا الفرق بين صفة الخالق والمخلوقين.

الحادية عشرة: قوله تعالى: { ٱلْعَالَمِينَ } اختلف أهل التأويل في { ٱلْعَـٰلَمِينَ } اختلافاً كثيراً؛ فقال قتادة: العالمَون جمع عالَم، وهو كل موجود سوى الله تعالى، ولا واحد له من لفظه مثل رهط وقوم. وقيل: أهل كل زمان عالم؛ قاله الحسين بن الفضل؛ لقوله تعالى:

{ أَتَأْتُونَ ٱلذُّكْرَانَ مِنَ ٱلْعَالَمِينَ } [الشعراء26: 165]

أي من الناس. وقال العَجَاج:

فَخنْدِفٌ هامةُ هذا العالَمِ


وقال جرير بن الخَطَفَى:

تَنَصَّفُه البريّةُ وهْوَ سامٍويُضحِي العالَمون له عِيالا


وقال ٱبن عباس: العالَمون الجنّ والإنس؛ دليله قوله تعالى:
-5-

{ لِيَكُونَ لِلْعَـٰلَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان25: 1]

ولم يكن نذيراً للبهائم. وقال الفرّاء وأبو عبيدة: العالَم عبارة عمن يعقل؛ وهم أربع أمم: الإنس والجنّ والملائكة والشياطين. ولا يقال للبهائم: عالَم؛ لأن هذا الجمع إنما هو جَمْع مَن يعقل خاصّة.

قال الأعشى:

ما إنْ سمعتُ بمثلهم في العالَمينا


وقال زيد بن أسلم: هم المرتزقون؛ ونحوه قول أبي عمرو بن العلاء: هم الروحانيون. وهو معنى قول ٱبن عباس أيضاً: كل ذي رُوح دبّ على وجه الأرض. وقال وَهَب بن مُنَبّه: إن لله عزّ وجلّ ثمانية عشر ألف عالَم؛ الدنيا عالَم منها. وقال أبو سعيد الخُدْرِي: إن لله أربعين ألف عالَم؛ الدنيا مِن شرقها إلى غربها عالَمٌ واحد. وقال مقاتل: العالمُون ثمانون ألف عالَم، أربعون ألف عالَم في البر، وأربعون ألف عالم في البحر. وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: الجنّ عالم، والإنس عالَم؛ وسوى ذلك للأرض أربع زوايا في كل زاوية ألف وخمسمائة عالَم، خلقهم لعبادته.

قلت: والقول الأوّل أصحّ هذه الأقوال؛ لأنه شامل لكل مخلوق وموجود؛ دليله قوله تعالى:

{ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } [الشعراء: 23-24].

ثم هو مأخوذ من العَلَم والعَلاَمة؛ لأنه يدل على مُوجده. كذا قال الزجاج قال: العالَم كل ما خلقه الله في الدنيا والآخرة. وقال الخليل: العَلَم والعَلاَمة والمَعْلَم: ما دَلّ على الشيء؛ فالعالَم دالٌّ على أن له خالقاً ومدبراً، وهذا واضح. وقد ذُكر أن رجلاً قال بين يدي الجُنَيد: الحمد لله؛ فقال له: أتمها كما قال الله، قل: رَبّ العالمين؛ فقال الرجل: ومَن العالَمين حتى تذكر مع الحق؟ قال: قل يا أخي؟ فإن المحدَث إذا قُرن مع القديم لا يبقى له أثر.


الثانية عشرة: يجوز الرفع والنصب في «ربّ» فالنصب على المدح، والرفع على القطع؛ أي هو رب العالمين.

الثالثة عشرة: قوله تعالى: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } وصف نفسه تعالى بعد { رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ، بأنه { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }؛ لأنه لما كان في ٱتصافه بـ { رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ } ترهيبٌ قَرَنه بـ { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } ، لما تضمن من الترغيب؛ ليجمع في صفاته بين الرهبة منه، والرغبة إليه؛ فيكون أعون على طاعته وأمنع؛ كما قال:

{ غَافِرِ ٱلذَّنبِ وَقَابِلِ ٱلتَّوْبِ شَدِيدِ ٱلْعِقَابِ ذِي ٱلطَّوْلِ } [غافر40: 3].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمِع بجنّته أحد ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قَنَطَ من جنّته أحد " وقد تقدّم ما في هذين الاسمين من المعاني، فلا معنى لإعادته.


الرابعة عشرة: قوله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ } قرأ محمد بن السَّمَيْقَع بنصب مالك؛ وفيه أربع لغات: مالِك ومَلِك ومَلْك ـ مخففة من مَلِك ـ ومَلِيك؛ قال الشاعر:
-6-

وأيامٍ لنا غُرٍّ طِوالعصينا المَلْك فيها أن نَدينا


وقال آخر:

فاقنعْ بما قَسَم المليكُ فإنّماقَسَم الخلائقَ بيننا علاّمُها


الخلائق: الطبائع التي جُبِل الإنسان عليها. وروي عن نافع إشباع الكسرة في «مَلِك» فيقرأ «مَلِكِي» على لغة من يشبع الحركات، وهي لغة للعرب ذكرها المهدوي وغيره.

الخامسة عشرة: اختلف العلماء أيّما أبلغ: ملِك أو مالك؟ والقراءتان مَرْوِيتَان عن النبيّ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر. ذكرهما الترمذي؛ فقيل: «مَلِك» أعمّ وأبلغ من «مالك» إذ كل مَلِك مالك، وليس كل مالك مَلِكا؛ ولأن أمر الملِك نافذ على المالك في مِلْكه، حتى لا يتصرف إلا عن تدبير الملك؛ قاله أبو عبيدة والمبرد. وقيل: «مالك» أبلغ؛ لأنه يكون مالكاً للناس وغيرهم؛ فالمالك أبلغ تصرُّفاً وأعظم؛ إذ إليه إجراء قوانين الشرع، ثم عنده زيادة التّملك.

وقال أبو عليّ: حكى أبو بكر بن السراج عن بعض من ٱختار القراءة بـ «ـملك» أن الله سبحانه قد وصف نفسه بأنه مالك كلّ شيء بقوله: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } فلا فائدة في قراءة من قرأ «مالك» لأنها تكرار. قال أبو عليّ: ولا حجة في هذا؛ لأن في التنزيل أشياء على هذه الصورة، تقدُّم العام ثم ذِكر الخاص كقوله:

{ هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } [الحشر59: 24]

فالخالق يعمّ. وذكر المصوّر لما فيه من التنبيه على الصنعة ووجود الحكمة؛ وكما قال تعالى:

{ ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ } البقرة2: 3].

والغيب يعم الآخرة وغيرها؛ ولكن ذكرها لعظمها، والتنبيه على وجوب اعتقادها، والردّ على الكفرة الجاحدين لها؛ وكما قال: { ٱلرَّحْمَـٰنِ ٱلرَّحِيمِ } فذكر «الرحمن» الذي هو عام وذكر «الرحيم» بعده، لتخصيص المؤمنين به في قوله:

{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [الأحزاب33: 43].

وقال أبو حاتم: إن «مالكاً» أبلغ في مدح الخالق من «ملِك»، و «ملك» أبلغ في مدح المخلوقين من مالك؛ والفرق بينهما أن المالك من المخلوقين قد يكون غير ملك وإذا كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً، وٱختار هذا القول القاضي أبو بكر بن العربي وذكر ثلاثة أوجه؛ الأوّل: أنك تضيفه إلى الخاص والعام؛ فتقول: مالك الدار والأرض والثوب، كما تقول: مالك الملوك. الثاني: أنه يطلق على مالك القليل والكثير؛ وإذا تأمّلت هذين القولين وجدتهما واحداً. والثالث: أنك تقول: مالك المُلْك؛ ولا تقول: مِلك المُلْك. قال ٱبن الحصار: إنما كان ذلك لأن المراد من «مالك» الدلالة على المِلك ـ بكسر الميم - وهو لا يتضمن «المُلْك» ـ بضم الميم ـ و «ملِك» يتضمن الأمرين جميعاً فهو أوْلى بالمبالغة. ويتضمن أيضاً الكمال، ولذلك استحق الملك على من دونه؛ ألا ترى إلى قوله تعالى:

-7-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس