عرض مشاركة واحدة
 
  #1  
قديم 06-11-2012
ابو عبد الله العقبي ابو عبد الله العقبي غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Jun 2012
المشاركات: 12
افتراضي الخلافة على المنهاج و كيف تقام : للشيخ عبد الرحمن العقبي

بسم الله الرحمن الرحيم

الخلافة على المنهاج

وكيف تُقام

عبد الرحمن العقبي


بسم الله الرحمن الرحيم


في التاسع والعشرين من رجب الخير عام ألف وأربعمائة وثلاثين للهجرة بدأت بتصنيف هذا الكتاب، لعلي أسدُّ به فراغا، وأرشد أمتي إلى السبيل الصحيح الذي يجب أن تسلكه للخروج مما هي فيه من التفرق والغثائية والضعف والهوان والفقر والجهل والتخلف، فإنها في وضع يسُرُّ العدو ويسوء الصديق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولا أعلم أنها وصلت إلى ما وصلت إليه في هذه الأيام طيلة القرون الماضية. أسأل الله أن يوفقني إلى علم نافع يهدي الأمة سبيل الرشاد، كما أسأله سبحانه أن ييسر ويعين على هذا الأمر.
وقد وقع هذا البحث في أربع وعشرين مسألة وهي:


المسألة الأولى

واقع الأمة


واقع الأمة مؤلم، يتفتت له قلب كل مؤمن، وأكثر ما نشاهده في حياة الأمة قد أخبرنا به رسولنا ص، ومن صور هذا الواقع:
أولاً: التفرق وغياب الجماعة على إمام. وقد أخبرنا بذلك نبينا رسول ربنا ص في أكثر من حديث منها:
• حديث حذيفة المتفق عليه ولفظه عند البخاري: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا ابْنُ جَابِرٍ حَدَّثَنِي بُسْرُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا إِدْرِيسَ الْخَوْلَانِيَّ أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ص عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ. قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ. قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا. قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ.
قُلت: في هذا الحديث فقه كبير:
منه أن النبي ص اعتبر الدخن هم الأئمة الذين يعرف منهم وينكر، أي أنهم يأمرون بالمعروف الذي يشوبه بعض المنكر، وهذا ينطبق على خلافة الملك دون الخلافة التي على المنهاج.
وفيه أنه ص اعتبر زمان هؤلاء الذين يعرف منهم وينكر زمان خير رغم ما فيه من دخن، فخلافة الملك بنوعيها العاض والجبرية هي من الخير ويشمل الأمويين والعباسيين والعثمانيين.
ومنه أنه ما بعد الخير الذي يشمل خلافة الملك بنوعيها هو شر، وهذا الشر هم أمراء الفرقة الداعون إلى التفرق حال وجود الجماعة أو عدمه.
ومنه أن الدعاة على أبواب جهنم يتكلمون بأكثر من لسان أي بأكثر من لغة، وهذا واضح اليوم لا يحتاج إلى بيان.
ومنه أنه ص أفاد أن أمراء الفرقة يكونون في حال وجود الجماعة ويستمر وجودهم حال غيابها.
ومنه أنه ص لم ينكر إمكانية غياب الجماعة على إمام، يعني أنه لم ينكر انهدام دولة الإسلام وغيابها، وذلك عندما سأله حذيفة قائلا: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام.
ومنه أنه ص أمر بلزوم الجماعة على إمام حال وجودها على ما فيها من دخن، وأمر باعتزال أمراء الفرقة في حال غياب الجماعة على إمام. وبالغ في الأمر باعتزالهم حتى لو أدى الأمر بالمعتزل إلى أن يعض بأصل شجرة حتى يدركه الموت.
ومنه أن أمراء الفرقة لا يُؤمرون ولا يُنهَون وإنما يُعتزَلون، ويُعمل على خلعهم وإقامة الخلافة على المنهاج على أنقاض دولهم. ويؤيد هذا حديث أبي سعيد الخدري الصحيح عند أحمد والترمذي والنسائي عن النبي ص قال: "تَكُونُ أُمَرَاءُ تَغْشَاهُمْ غَوَاشٍ أَوْ حَوَاشٍ مِنَ النَّاسِ يَظْلِمُونَ وَيَكْذِبُونَ، فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ وَمَنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَيُصَدِّقْهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَيُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَهُوَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ".
• حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي أخرجه الحاكم وقال هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي في التلخيص: عن عقبة بن عمرو بن أوس السدوسي قال: أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص م وعليه بردان قطريان وعليه عمامة وليس عليه سربال -يعني القميص- فقلنا له: إنك قد رويت عن رسول الله ص ورويت الكتب. فقال: ممن أنتم؟ قال: فقلنا: من أهل العراق. فقال: إنكم يا أهل العراق تكذبون وتكذبون وتسخرون. قال: فقلت: لا والله لا نكذبك ولا نكذب عليك ولا نسخر منك. قال: فإن بني قنطوراء وكركي لا يخرجون حتى يربطوا خيولهم بنخل الأبلة، كم بينها وبين البصرة؟ قال: فقلنا: أربعة فراسخ. قال: فيبعثون أن خلوا بيننا وبينها. قال: فيلحق ثلث بهم وثلث بالكوفة وثلث بالأعراب ثم يبعثون إلى أهل الكوفة أن خلوا بيننا وبينها فيلحق ثلث بهم وثلث بالأعراب وثلث بالشام. قال: فقلنا: ما أمارة ذلك؟ قال: إذا طبقت الأرض إمارة الصبيان.
والصبيان هم السفهاء الذين لا يهتدون بهديه ص ولا يستنون بسنته, وهم الذين ورد ذكرهم في حديث جابر بن عبد الله عند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي أن النبي ص قال لكعب بن عجرة: "أعاذك الله يا كعب من إمارة السفهاء". قال: وما إمارة السفهاء يا رسول الله؟ قال: "أمراء يكونون بعدي لا يهدون بهديي و لا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم ولا يردون على حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم وسيردون على حوضي".
وإمارة الصبيان بهذا المعنى قد طبقت الأرض، وذلك لأن جميع أولي الأمر في الدنيا يحكمون بغير ما أنزل الله، فلا يقتدون ولا يهتدون بهدي محمد ص ولا يستنون بسنته، فيثبت بذلك غياب الجماعة على إمام، الإمام الذي يقتدي بهديه ص ويستن بسنته.
فإن قيل إن حديث عبد الله بن عمرو ليس مرفوعا قلتُ نعم هو غير مرفوع ولكن له حكم المرفوع لأنه إخبار عن غيب. ووجه الاستدلال في هذا الحديث على غياب الجماعة على إمام كائن في كون إمرة الصبيان قد طبقت الأرض.
• حديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي وابن ماجة وأبي داود بإسناد صحيح قال: قال رسول الله ص: "تَفَرَّقَتْ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ أَوْ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً".
وهذا الحديث يخبر عن تفرق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، ولا ذكر للجماعة لأنها ليست فرقة، فعندما يتم تفرق الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة يبدأ الأمل بوجود الجماعة لأن العدد لا يُقصد به التكثير، بل هو مقصود بعينه. أما اليوم، ومنذ هدم الخلافة، فإن الجماعة على إمام غائبة ولا وجود إلا للفرق، أسأل الله أن يعجل بعودة الجماعة على إمام.
• حديث خالد بن الوليد عند أحمد بإسناد صحيح: حَدَّثَنَا عَفَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَزْرَةَ بْنِ قَيْسٍ عَنْ خَالِدِ بنِ الْوَلِيدِ قَالَ: كَتَبَ إِلَيَّ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حِينَ أَلْقَى الشَّامُ بَوَانِيَهُ بَثْنِيَةً وَعَسَلًا، وَشَكَّ عَفَّانُ مَرَّةً قَالَ حِينَ أَلْقَى الشَّامُ كَذَا وَكَذَا، فَأَمَرَنِي أَنْ أَسِيرَ إِلَى الْهِنْدِ، وَالْهِنْدُ فِي أَنْفُسِنَا يَوْمَئِذٍ الْبَصْرَةُ، قَالَ: وَأَنَا لِذَلِكَ كَارِهٌ. قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ لِي يَا أَبَا سُلَيْمَانَ اتَّقِ اللَّهَ فَإِنَّ الْفِتَنَ قَدْ ظَهَرَتْ. قَالَ: فَقَالَ: وَابْنُ الْخَطَّابِ حَيٌّ؟! إِنَّمَا تَكُونُ بَعْدَهُ وَالنَّاسُ بِذِي بِلِّيَانَ وَذِي بِلِّيَانَ، بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَيَنْظُرُ الرَّجُلُ فَيَتَفَكَّرُ هَلْ يَجِدُ مَكَانًا لَمْ يَنْزِلْ بِهِ مِثْلُ مَا نَزَلَ بِمَكَانِهِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ فَلَا يَجِدُهُ. قَالَ: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ الَّتِي ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ ص بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ أَيَّامُ الْهَرْجِ فَنَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكَنَا وَإِيَّاكُمْ تِلْكَ الْأَيَّامُ.
قال أبو عبيد في غريب الحديث: "وأما قوله: وكان الناس بذي بلي وذي بلي، فإنه أراد تفرق الناس، وأن يكونوا طوائف على غير إمام يجمعهم، وبعد بعضهم من بعض... وفيه لغة أخرى: بذي بليان" انتهى كلام أبي عبيد.
ففي هذا الحديث إخبار عن أن الناس –أي المسلمين- سيأتي عليهم زمان يكونون فيه طوائف على غير إمام يجمعهم.
• حديث معاذ بن جبل عند أحمد بن منيع وقال البوصيري رواته ثقات عن رسول الله ص قال: "خُذُوا الْعَطَاءَ مَا دَامَ عَطَاءً، فَإِذَا صَارَ رِشْوَةً عَلَى الدِّينِ فَلا تَأْخُذُوهُ، وَلَسْتُمْ بِتَارِكِيهِ، يَمْنَعْكُمُ مِنْ ذلِكَ المَخَافَةُ والْفَقْرُ. أَلا وَإِنَّ رَحَى الإِسْلامِ دَائِرَةٌ، فَدُورُوا مَعَ الْكِتَابِ حَيْثُ دَارَ، أَلا وَإِنَّ السُّلْطَانَ وَالْكِتَابَ سَيَفْتَرِقَانِ، أَلا فَلا تُفَارِقُوا الْكِتَابَ. أَلا إِنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ أَضَلُّوكُمْ، وَإِنْ عَصَيْتُمُوهُمْ قَتَلُوكُمْ. قَالُوا: كَيْفَ نَصْنَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: كَمَا صَنَعَ أَصْحَابُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، حُمِلُوا عَلَى الْخَشَبِ وَنُشِرُوا بِالْمَنَاشِيرَ، مَوْتٌ فِي طَاعَةِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ حَيَاةٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ".
قلتُ: افتراق الكتاب والسلطان لا يكون إلا بغياب دولة الإسلام، فدلَّ هذا الحديث أيضا على غياب الجماعة على إمام.
• حديث معقل بن يسار عند أحمد بإسناد حسن قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: "لَا يَلْبَثُ الْجَوْرُ بَعْدِي إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى يَطْلُعَ، فَكُلَّمَا طَلَعَ مِنْ الْجَوْرِ شَيْءٌ ذَهَبَ مِنْ الْعَدْلِ مِثْلُهُ حَتَّى يُولَدَ فِي الْجَوْرِ مَنْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ. ثُمَّ يَأْتِي اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالْعَدْلِ، فَكُلَّمَا جَاءَ مِنْ الْعَدْلِ شَيْءٌ ذَهَبَ مِنْ الْجَوْرِ مِثْلُهُ حَتَّى يُولَدَ فِي الْعَدْلِ مَنْ لَا يَعْرِفُ غَيْرَهُ".
قلتُ: في ظل دولة الإسلام لا يمكن أن يولد في الجور من لا يعرف غيره، بل في أسوأ الأحوال يعرف ويُنكر، يعني أنه يرى معروفا ويرى منكرًا، والغالب أن يكون المعروف أكثر من المنكر. والمعقول أن الولادة في الجور دون معرفة لغيره لا يمكن تصورها إلا في ظل إمرة الصبيان وذلك في غياب الجماعة على إمام. وهذا مما يدلُّ عليه الحديث بدلالة الالتزام أي بدلالة المفهوم. فمنطوق الحديث أنه سيولد في الجور من لا يعرف غير الجور، ومفهومه أن دولة الإسلام ستكون غائبة، أي أن المسلمين سيكونون على غير إمام يجمعهم ويحكمهم بشرع الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فهذه الأحاديث الستة تدل على أنه ص أخبرنا عن غياب الجماعة على إمام، وصدق ص فنحن نعيش هذا الواقع المؤلم، مع كل ما يترتب عليه من مآس.
ثانيًا: تداعي أمم الكفر على أمة الإسلام:
• روى أحمد بإسناد صحيح عن ثوبان قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: "يُوشِكُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ الْأُمَمُ مِنْ كُلِّ أُفُقٍ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ عَلَى قَصْعَتِهَا. قَالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمِنْ قِلَّةٍ بِنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ تَكُونُونَ غُثَاءً كَغُثَاءِ السَّيْلِ، يَنْتَزِعُ الْمَهَابَةَ مِنْ قُلُوبِ عَدُوِّكُمْ، وَيَجْعَلُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ. قَالَ: قُلْنَا وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: حُبُّ الْحَيَاةِ وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ". وفي رواية عنده: "وَكَرَاهِيَتُكُمْ الْقِتَالَ".
قلتُ: صدق رسول الله ص فقد تداعت علينا الأمم الكافرة من نصارى ويهود وهندوس وبوذيين وغيرهم. ورغم أننا كثيرون نُشَكِّلُ ربع العالم من حيث العدد، إلا أنه لا وزن لنا في السياسة الدولية ولا يُحسبُ لنا أي حساب، بل نحن كالقصعة تتنافس الدول في قتلنا ونهب خيراتنا، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ثالثًا: نقض عرى الإسلام:
• روى أحمد بإسناد صحيح عن أبي أمامة قال: قال رَسُولِ اللَّهِ ص: "لَتُنْقَضَنَّ عُرَى الْإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً، فَكُلَّمَا انْتَقَضَتْ عُرْوَةٌ تَشَبَّثَ النَّاسُ بِالَّتِي تَلِيهَا، وَأَوَّلُهُنَّ نَقْضًا الْحُكْمُ وَآخِرُهُنَّ الصَّلَاةُ".
قلتُ: أكثر عرى الإسلام منقوضة، ومن العرى المنقوضة: القضاء والجهاد والسياسة الخارجية والحدود والجزية والخراج وإعداد ما يُرهب العدو والجماعة على إمام والمحافظة على ملكية الدولة والملكيات العامة والزكاة والصوم والحج والصلاة، أعني أن الدول القائمة في البلاد الإسلامية لا تُشرفُ على تنفيذها. فالذي لا يصلي ولا يصوم ولا يزكي لا تلاحقه الدولة، بل تعتبر ذلك من الأمور الشخصية. بل من الحريات التي يضمنها الدستور. حتى العقيدة تُنقضُ علنًا على القنوات الفضائية وفي الصحف وسائر وسائل الإعلام بحجة حرية الرأي. كل هذا وغيره ما كان ليكون لو كان للأمة راعٍ مسؤول عنها، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
رابعًا: نُطق الرويبضة وعُلو التحوت على الوعول:
• روى أحمد بإسناد جيد قوي عن أنس قال: قال ص: "إِنَّ أَمَامَ الدَّجَّالِ سِنِينَ خَدَّاعَةً يُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ، وَيُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ، وَيُخَوَّنُ فِيهَا الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ، وَيَتَكَلَّمُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ. قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ: الْفُوَيْسِقُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ".
• روى ابن حبان في صحيحه عن أبي هريرة عن رسول الله ص أنه قال: "والذي نفس محمد بيده، لا تقوم الساعة حتى يظهر الفحش والبخل، ويُخَوَّنُ الأمين، ويؤتمن الخائن، ويهلك الوُعُول، وتظهر التحوت. قالوا: يا رسول الله، وما الوعول والتحوت؟ قال: الوعول وجوه الناس وأشرافهم، والتحوت الذين كانوا تحت أقدام الناس لا يُعلم بهم".
قلتُ: الرويبضات والتحوت تطفح بهم وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها. فمثلا منذ أكثر من أربعين عاما والرويبضات والتحوت يفاوضون على قضية فلسطين ولم يصلوا إلى شيء مطلقًا، بل إنهم يتنازلون شيئا فشيئا عن مطالبهم، ويزداد يهود تشدُّدًا وغطرسة. هذا في المفاوضات العلنية، أما السرية فالله أعلم بها وربما بدأت منذ وعد بلفور، أي قبل أكثر من تسعين عاما.
أما مفاوضات الوعول فهي كثيرة في تاريخ المسلمين أقتصر منها على واحدة ذكرها البخاري في صحيحه عن جبير بن حية قال: فَنَدَبَنَا عُمَرُ وَاسْتَعْمَلَ عَلَيْنَا النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِأَرْضِ الْعَدُوِّ وَخَرَجَ عَلَيْنَا عَامِلُ كِسْرَى فِي أَرْبَعِينَ أَلْفًا. فَقَامَ تَرْجُمَانٌ فَقَالَ: لِيُكَلِّمْنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ: سَلْ عَمَّا شِئْتَ. قَالَ: مَا أَنْتُمْ؟ قَالَ: نَحْنُ أُنَاسٌ مِنْ الْعَرَبِ كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ وَبَلَاءٍ شَدِيدٍ، نَمَصُّ الْجِلْدَ وَالنَّوَى مِنْ الْجُوعِ، وَنَلْبَسُ الْوَبَرَ وَالشَّعَرَ، وَنَعْبُدُ الشَّجَرَ وَالْحَجَرَ. فَبَيْنَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَرَبُّ الْأَرَضِينَ تَعَالَى ذِكْرُهُ وَجَلَّتْ عَظَمَتُهُ إِلَيْنَا نَبِيًّا مِنْ أَنْفُسِنَا، نَعْرِفُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ. فَأَمَرَنَا نَبِيُّنَا رَسُولُ رَبِّنَا ص أَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تَعْبُدُوا اللَّهَ وَحْدَهُ أَوْ تُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ. وَأَخْبَرَنَا نَبِيُّنَا ص عَنْ رِسَالَةِ رَبِّنَا أَنَّهُ مَنْ قُتِلَ مِنَّا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي نَعِيمٍ لَمْ يَرَ مِثْلَهَا قَطُّ، وَمَنْ بَقِيَ مِنَّا مَلَكَ رِقَابَكُمْ.
ومن أحب أن يطلع على المزيد من مفاوضات الوعول فليطالع في كتب السير والتاريخ والرجال مفاوضات أبي بكر الصديق وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وربعي بن عامر وثابت بن أقرم وخالد بن الوليد وحذيفة بن محصن والمأمون وعبد الحميد وغيرهم.
خامسًا: اتباع سَنَن اليهود والنصارى:
• روى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنَّ النَّبِيَّ ص قَالَ: "لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: فَمَنْ؟!".
قلتُ: صدق الصادق المصدوق، فقد اتبعنا سننهم في الأحكام السلطانية فكان فينا الملكيات والجمهوريات، واتبعنا سننهم في الاقتصاد والأمور المالية، وكدنا نسلك سننهم في علاقات الرجل والمرأة حتى رأينا المرأة تصلي بالرجال صلاة الجمعة في بريطانيا وأمريكا. قال ابن حزم في مراتب الإجماع: "واتفقوا أن المرأة لا تؤم الرجال وهم يعلمون أنها امرأة، فإن فعلوا فصلاتهم فاسدة بإجماع". وقال ابن عبد البر في الاستذكار: "وأجمع العلماء على أن الرجال لا يؤمهم النساء". وقال الشافعي: "ولا يأتم رجل بامرأة ولا بخنثى، فإن فعل أعاد"، قال الماوردي في الحاوي شارحا عبارة الشافعي السابقة: "وهذا صحيح، لا يجوز للرجل أن يأتم بالمرأة بحال، فإن فعل أعاد صلاته. وهذا قول كافة الفقهاء إلا أبا ثور فإنه شذَّ عن الجماعة فجوَّز للرجل أن يأتمَّ بالمرأة تعلقًا بقوله ص ‘يؤم القوم أقرؤهم’... فأما الجواب عن قوله ص ‘يؤم القوم أقرؤهم’، فالقوم يطلق على الرجال دون النساء، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} (الحجرات:11)، فلو دخل النساء في القوم لم يُعد ذكرهن فيما بعد. وقد قال الشاعر:
وَمَا أَدْرِي وَلَسَتُ إِخَالُ أَدْرِي أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ"
وقال النووي في المجموع: "واتفق أصحابنا على أنه لا تجوز صلاة رجل بالغ ولا صبي خلف امرأة ولا خنثى... وسواء في منع امامة المرأة للرجال صلاة الفرض والتراويح وسائر النوافل، هذا مذهبنا ومذهب جماهير العلماء من السلف والخلف رحمهم الله، وحكاه البيهقي عن الفقهاء السبعة فقهاء المدينة التابعين، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وسفيان واحمد وداود. وقال أبو ثور والمزني وابن جرير تصح صلاة الرجال وراءها، حكاه عنهم القاضي أبو الطيب والعبدري. وقال الشيخ أبو حامد مذهب الفقهاء كافة أنه لا تصح صلاة الرجال وراءها الا أبا ثور والله اعلم". وقال ابن قدامة في المغني: "وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَأْتَمَّ بِهَا الرَّجُلُ بِحَالٍ فِي فَرْضٍ وَلَا نَافِلَةٍ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا إعَادَةَ عَلَى مَنْ صَلَّى خَلْفَهَا، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ الْمُزَنِيّ... وَحَدِيثُ أُمِّ وَرَقَةَ إنَّمَا أَذِنَ لَهَا أَنْ تَؤُمَّ نِسَاءَ أَهْلِ دَارِهَا، كَذَلِكَ رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَهَذِهِ زِيَادَةٌ يَجِبُ قَبُولُهَا... وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا لَا تَؤُمُّهُمْ فِي الْفَرَائِضِ".
أقول: قد أبيح التعامل بالربا في بلاد المسلمين، وأبيح سفر المرأة دون زوج أو محرم، وخرجت النساء كاسيات عاريات، وتولين الوزارة، وبيعت الخمرة في أسواق المسلمين، وأفطر الناس في رمضان، وفتحت بيوت الدعارة، وصار التجسس لأعداء الله سائغًا، وفشا الكذب والقمار، والقائمة طويلة بحيث صار الدين غريبا وأهله قليلون غرباء.
فاستطيع القول بأن الأمة بلغت من الانحطاط مبلغا لم تبلغه في يوم من الأيام، فلا بد من العمل لتغيير هذا الواقع الأليم بالطريق الشرعي الذي سأبينه إن شاء الله في بعض المسائل التالية، والله المستعان.

المسألة الثانية

صلاح الأمة يكون بتنصيب الأئمة المستقيمين


الطريق الوحيد لإنهاض الأمة وتخليصها من الواقع المؤلم الذي بينته في المسألة الأولى هو إيجاد الجماعة على أئمة مستقيمين، ليس هناك طريق غيره مطلقًا. وكل عمل لا يقصد به إيجاد الجماعة على أئمة مستقيمين هو عبث وتضييع للجهود، فوق أنه يخالف شرعنا ويؤخر صلاحنا، ولا يجزئ صاحبه حتى لو كان مخلصا، بل يظل القاعد عنه مُقَصِّرًا آثمًا إلا أن يكون قعوده بعذر شرعي. وأدلة ذلك:
أولا: السنة بإسناد صحيح:
• روى أحمد عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ص عَلَى الْمِنْبَرِ: "مَنْ لَمْ يَشْكُرْ الْقَلِيلَ لَمْ يَشْكُرْ الْكَثِيرَ، وَمَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ، التَّحَدُّثُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ شُكْرٌ وَتَرْكُهَا كُفْرٌ، وَالْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ".
قلتُ: قوله ص الفرقة عذاب قرينة على إيجاب الجماعة وتحريم الفرقة. ثم إن الرحمة تشمل الصلاح، فتكون الجماعة على الأئمة المستقيمين صلاحا واستمرارا للصلاح كما ورد في كلام أبي بكر الصديق الآتي.
ثانيًا: الإجماع:
• روى البخاري من طريق قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى امْرَأَةٍ مِنْ أَحْمَسَ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ، فَرَآهَا لَا تَكَلَّمُ، فَقَالَ: مَا لَهَا لَا تَكَلَّمُ؟ قَالُوا: حَجَّتْ مُصْمِتَةً. قَالَ لَهَا: تَكَلَّمِي فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ، هَذَا مِنْ عَمَلِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَتَكَلَّمَتْ فَقَالَتْ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ امْرُؤٌ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَتْ: أَيُّ الْمُهَاجِرِينَ؟ قَالَ: مِنْ قُرَيْشٍ. قَالَتْ: مِنْ أَيِّ قُرَيْشٍ أَنْتَ؟ قَالَ: إِنَّكِ لَسَؤُولٌ، أَنَا أَبُو بَكْرٍ. قَالَتْ: مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الصَّالِحِ الَّذِي جَاءَ اللَّهُ بِهِ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ؟ قَالَ بَقَاؤُكُمْ عَلَيْهِ مَا اسْتَقَامَتْ بِكُمْ أَئِمَّتُكُمْ. قَالَتْ: وَمَا الْأَئِمَّةُ؟ قَالَ: أَمَا كَانَ لِقَوْمِكِ رُءُوسٌ وَأَشْرَافٌ يَأْمُرُونَهُمْ فَيُطِيعُونَهُمْ؟ قَالَتْ: بَلَى. قَالَ: فَهُمْ أُولَئِكِ عَلَى النَّاسِ.
• روى الدارمي باسناد حسن عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ قَالَ: تَطَاوَلَ النَّاسُ فِى الْبِنَاءِ فِى زَمَنِ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا مَعْشَرَ الْعُرَيْبِ الأَرْضَ الأَرْضَ، إِنَّهُ لاَ إِسْلاَمَ إِلاَّ بِجَمَاعَةٍ، وَلاَ جَمَاعَةَ إِلاَّ بِإِمَارَةٍ، وَلاَ إِمَارَةَ إِلاَّ بِطَاعَةٍ، فَمَنْ سَوَّدَهُ قَوْمُهُ عَلَى الْفَقْهِ كَانَ حَيَاةً لَهُ وَلَهُمْ، وَمَنْ سَوَّدَهُ قَوْمُهُ عَلَى غَيْرِ فِقْهٍ كَانَ هَلاَكاً لَهُ وَلَهُمْ.
• ابن مفلح في الآداب الشرعية أن عَمْرُو بْنَ الْعَاصِ قالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيّ احْفَظْ عَنِّي مَا أُوصِيكَ بِهِ: إمَامٌ عَدْلٌ خَيْرٌ مِنْ مَطَرٍ وابِلٍ، وَأَسَدٌ حَطُومٌ خَيْرٌ مِنْ إمَامٍ ظَلُومٍ، وَإِمَامٌ ظَلُومٌ غَشُومٌ خَيْرٌ مِنْ فِتْنَةٍ تَدُومُ.
• البيهقي في شعب الإيمان عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: "قَضْمُ الْمِلْحِ فِي الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَكَلِ الْفَالَوْذَجِ فِي الْفُرْقَةِ".
• أبو نعيم في فضيلة العادلين: ثنا عبد الله بن محمد بن عثمان، ثنا عبد الله بن قحطبة، ثنا عباس بن عبد العظيم العنبري، قال: حدثني الفضل بن دكين، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال: قال عمر بن الخطاب عند موته: "اعلموا أن الناس لن يزالوا بخير ما استقامت لهم ولاتهم وهداتهم".
• ابن عبد البر في التمهيد باسناده إلى ابن القاسم قال: حدثنا مالك أن عثمان بن عفان كان يقول: "ما يزع الإمام أكثر مما يزع القرآن" أي من الناس. قال: قلت لمالك: ما يزع؟ قال: يكف.
• البيهقي في شعب الإيمان: وَفِي تَارِيخِ الْبُخَارِيِّ، قَالَ إِسْحَاقُ: عَنْ عِيسَى، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي يَحْيَى، عَنْ عَمِّهِ مَرْوَانَ بْنِ قَيْسٍ، سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: "لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ مَا صَلُحَتْ أَئِمَّتُكُمْ".
وعند البيهقي في الشعب أيضا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ بِشْرَانَ، أنا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، نا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ، نا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ، نا مُحَمَّدُ بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ لَيْثٍ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "لَا يُصْلِحُ النَّاسَ إِلَّا أَمِيرٌ بَرٌّ أَوْ فَاجِرٌ". قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَذَا الْبَرُّ فَكَيْفَ بِالْفَاجِرِ؟ قَالَ: "إِنَّ الْفَاجِرَ يُؤَمِّنُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ السُّبُلَ، وَيُجَاهِدُ بِهِ الْعَدُوَّ، وَيَجْبِي بِهِ الْفَيْءَ، وَتُقَامُ بِهِ الْحُدُودُ، وَيُحَجُّ بِهِ الْبَيْتُ، وَيَعْبُدُ اللهَ فِيهِ الْمُسْلِمُ آمِنًا حَتَّى يَأْتِيَهُ أَجَلُهُ".
• البيهقي في السنن الكبرى: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ بَكْرٍ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ قَالَ: سَمِعَ عَلِيٌّ س قَوْمًا يَقُولُونَ "لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ". قَالَ: نَعَمْ لاَ حُكْمَ إِلاَّ لِلَّهِ، وَلَكِنْ لاَ بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِيرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِيهِ الْمُؤْمِنُ وَيَسْتَمْتِعُ فِيهِ الْكَافِرُ وَيُبْلِغُ اللَّهُ فِيهَا الأَجَلَ.
• ابن أبي شيبة في المصنف: حدثنا يحيى بن آدم قال حدثنا يزيد بن عبد العزيز عن عمر بن حسيل بن سعد بن حذيفة قال: حدثنا حبيب أبو الحسن العبسي عن أبي البختري قال: دخل رجل المسجد فقال: لا حكم إلا لله. ثم قال آخر: لا حكم إلا لله. فقال علي: لا حكم إلا لله {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ} (الروم:60) فما تدرون ما يقول هؤلاء؟ يقولون: لا إمارة، أيها الناس إنه لا يصلحكم إلا أمير بر أو فاجر. قالوا: هذا البر قد عرفناه، فلما بال الفاجر؟ فقال: يعمل المؤمن ويملى للفاجر، ويبلِّغ الله الأجل، وتأمن سبلكم، وتقوم أسواقكم، ويقسم فيئكم، ويجاهد عدوكم ويؤخذ للضعيف من القوي -أو قال: من الشديد- منكم.
أقول: كلام علي هذا لا يتعارض مع كلام الصحابة الذين مرّ ذكر أقوالهم، بل إنه يوافقهم في البر ويزيد عليهم في الفاجر. فالناس عنده يصلحهم البر، ويصلحهم الفاجر أيضا. فلا تعارض بين قول علي وأقوال غيره من الصحابة.
قلتُ: هؤلاء الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وابن عباس وعبد الله بن مسعود وعمرو بن العاص وتميم الداري ومن سمعهم من الصحابة ولم يُنكر عليهم مجمعون على أن صلاح الناس إنما يكون بوجود أئمة مستقيمين صالحين. فصلاح الأمة اليوم لا يكون إلا برجوعها إلى الجماعة على إمام عدل. هذا هو الدرب أيها المسلمون، هذا هو سبيل الصحابة الذي أُمرنا باتباعه، ومهما ابتغينا النهضة والصلاح بغير هذا السبيل فلن نفلح. والواقع يؤيد هذا، فإن الأمة تزداد سفالا كلما ابتعدت عن هذا السبيل. انظروا إلى قول مالك الذي يرويه عياض في الشفا قال: وقال مالك في المبسوط: "ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها".
أقولُ: أيها الناس، اتبعوا أو ابتدعوا، فإني لا أرى لكم مخرجًا مما أنتم فيه إلا الاتباع. وإياكم وأبواق الصبيان، الذين باعوا دينهم بدنياهم ودنيا سلاطينهم، وإياكم ومن اتبع سنن اليهود والنصارى وعاش على فتات موائد عملائهم. كونوا من الغرباء والنزاع ولا تكونوا من الغثاء، كونوا الجمرة ولا تكونوا القصعة، ولن يتم لكم ذلك إلا بإيجاد الجماعة على إمام، وإقامة الخلافة على المنهاج.
أرشدكم الله وأعانكم، فاصدقوه يصدقكم ويحقق لكم وعده.
رد مع اقتباس