عرض مشاركة واحدة
 
  #29  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي النصاب في زكاة الزروع والثمار

النصاب في زكاة الزروع والثمار

مذاهب العلماء في اعتبار النصاب
جمهور علماء الأمة من الصحابة والتابعين وسائر أهل العلم بعدهم على أن: الزكاة لا تجب في شيء من الزروع والثمار حتى يبلغ خمسة أوسق .(المغنى: 2/695)، مستدلين بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة "، وهو حديث صحيح متفق عليه .(قال في المنتقى: رواه الجماعة من حديث أبى سعيد).
وذهب أبو حنيفة إلى أن الزكاة تجب في قليل ذلك وكثيره، لعموم قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العُشر" وهو حديث صحيح رواه البخاري وغيره، ولأنه لا يعتبر له حول، فلا يعتبر له نصاب .(المغنى: 2/695).
وهو قول إبراهيم النخعي -فيما رواه عنه يحيى بن آدم-: في كل قليل أو كثير من الأرض صدقة: العُشر أو نصف العُشر .(الخراج ص144).
وروى عن عطاء مثله.
وعن أبى رجاء العطاردي قال: كان ابن عباس بالبصرة يأخذ صدقاتها حتى "دساتج" الكراث .(المرجع السابق ص145 وفيه ضعف).
قال ابن حزم: وعن مجاهد وحماد بن أبى سليمان، وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي، إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، قل أو كثر، وهو عن عمر بن عبد العزيز وإبراهيم وحماد بن أبى سليمان في غاية الصحة .(المحلى: 5/112).
فعن عمر بن عبد العزيز قال: في عشر "دستجات" بقل، دستجة .(المرجع السابق ص113، وانظر فتح القدير: 2/3 - طبع مصطفى محمد) (حزمة).
وقال داود الظاهري: ما كان يحتمل التوسيق (الكيل) فلا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق، وما كان لا يحتمل التوسيق - مثل القطن والزعفران وسائر الخضراوات - فالزكاة في قليله وكثيره (المرجع نفسه ص241.
وهو نوع من التوفيق بين عموم حديث: "فيما سقت السماء العُشر"، وخصوص حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"نيل الأوطار: 4/151.
وحكى صاحب "البحر" عن الباقر والناصر مذهبًا آخر: أنه يعتبر النصاب في التمر والزبيب، والبر والشعير، إذ هي المعتادة، فانصرف إليها (البحر الزخار:2/169).
قال الشوكاني: وهو قصر للعام على بعض ما يتناوله بلا دليل (الجزء الرابع ص151).
تعقيب وترجيح
وإذا كنا رجحنا قول أبى حنيفة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، فإننا نخالفه في عدم اعتبار النصاب، وإيجاب العُشر في القليل والكثير من الزرع والثمر، فإن هذا مخالف للحديث الصحيح الذي نفى وجوب الزكاة عما دون خمسة أوسق، ومخالف لنظرية الشريعة -بصفة عامة- في إيجاب الزكاة على الأغنياء وحدهم، والنصاب هو الحد الأدنى للغنى، ولهذا اعتبر النصاب في سائر الأموال الزكوية.
ولا يجوز معارضة حديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " بحديث: "فيما سقت السماء العُشر" بدعوى أن هذا عام، وقد عارضه ذلك الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قُدِّم الأحوط، وهو الوجوب.
نعم ..لا يقال ذلك، بل يقال ما قاله ابن القيم في هذا الموضع:
يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر، ولا إلغاء أحدهما بالكلية، فإن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فرض في هذا وفى هذا، ولا تعارض بينهما -بحمد الله تعالى- بوجه من الوجوه، فإن قوله: "فيما سقت السماء العُشر" إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العُشر، وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقًا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث، وبينه نصًا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم، الذي لا يحتمل غير ما أول عليه البتة، إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصدوا بيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصصها من النصوص"؟ .(إعلام الموقعين:3/229، 230).
وقال ابن قدامة:لنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (متفق عليه)، وهذا خاص يجب تقديمه وتخصيص عموم ما رووه به، كما خصصنا قوله: "في كل سائمة من الإبل الزكاة" بقوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة"، وقوله: "في الرقة ربع العُشر" بقوله:"ليس فيما دون خمس أواق صدقة" ولأنه مال تجب فيه الصدقة، فلم تجب في يسيره، كسائر الأموال الزكوية.
" وإنما لم يعتبر الحَوْل، لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه، واعتبر الحَوْل في غيره، لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال، والنصاب اعتبر ليبلغ حدًا يحتمل المواساة منه، فلهذا اعتبر فيه.
" يحققه: أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء، ولا يحصل الغنى بدن النصاب كسائر الأموال الزكوية " .(المغنى: 2/695،696).
نصاب الحبوب والثمار
جاءت الأحاديث الصحيحة بتقدير النصاب في الحبوب والثمار بخمسة أوسق، وأجمع العلماء أن الوسق ستون صاعًا، فالأوسق الخمسة ثلاثمائة صاع، وقد روى في ذلك حديث مرفوع: "الوسق ستون صاعًا"، ولكن الحديث ضعيف. (رواه ابن ماجة عن جابر وإسناده ضعيف، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من طريق أبى البختري عن أبى سعيد مرفوعًا، وهو منقطع، لأن أبا البختري لم يسمع من أبى سعيد كما قال البخاري، بل لم يدركه كما قال أبو حاتم، ورواه الدارقطني عن عائشة، وهو ضعيف أيضًا، وقد بين الحافظ ضعفه من كل طرقه في التلخيص ص180 - طبع الهند)، والاعتماد في هذا التقدير على الإجماع الذي نقله ابن المنذر وغيره .(انظر المجموع: 5/447).
مقدار الصاع
إن معرفة الصاع أمر لازم لمعرفة نصاب الزرع والثمر، لأنه مقدر بالأوسق، والوسق مقدر بالصاع، كما أن زكاة الواجبة الفطر في كل عام مقدرة بالصاع أيضًا .(يحتاج إلى الصاع أيضًا في كفارة اليمين وفي فدية النسك)، فما هذا الصاع؟ وما مقداره؟
الصاع -كما في لسان العرب- مكيال لأهل المدينة يأخذ أربعة أمداد، وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد .(رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن سفينة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الترمذي: وفى الباب عن عائشة وجابر وأنس -انظر سنن الترمذي بتحقيق أحمد شاكر: 1/84)، وصاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة أمداد بمدهم المعروف عندهم.
والمد أيضًا مكيال، وقدروه بملء كفى الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومدَّ يده بهما، وبه سمى مدًا، قال صاحب القاموس: وقد جربت ذلك فوجدته صحيحًا.
وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمة أن ترجع في مكاييلها إلى ما تعارف عليه أهل المدينة، وفى موازينها -كالدرهم والمثقال- إلى ما تعارف عليه أهل مكة، وفى هذا روى ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة".(قال الحافظ في التلخيص ص183: رواه البزار واستغربه، وأبو داود والنسائي من رواية طاووس عن ابن عمر، وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي وأبو الفتح القشيري) وحكمة هذا التفريق -كما ذكرنا من قبل- أن أهل المدينة أهل زروع وثمار، فحاجتهم إلى المكاييل أكثر، وهى عندهم أدق وأضبط، أما أهل مكة فهم أهل تجارة، فتكون حاجتهم إلى الموازين -كالدينار والدرهم- أكثر، وبالتالي تكون عندهم أدق وأضبط.
اختلاف أهل الحجاز والعراق في الصاع
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جعل مكيال أهل المدينة هو المقياس الذي يرجع إليه ويعتمد عليه، فكان المتوقع أن يتفق المسلمون على مقدار الصاع وهو مكيال مدنى، ولكنهم اختلفوا في تقديره.
فأهل العراق -أبو حنيفة ومن وافقه- يقدرونه بثمانية أرطال (بالرطل البغدادي).
وأهل الحجاز -مالك والشافعي وأحمد وغيرهم- يقدرونه بخمسة أرطال وثلث رطل بغدادي.
دليل فقهاء العراق
وسند فقهاء العراق فيما قالوه: أن هذا قدر صاع عمر رضى الله عنه، فقد ثبت أنه ثمانية أرطال (بدائع الصنائع: 2/73)، وأيضًا صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع .(مر تخريجه قريبًا)، وجاء في حديث آخر أنه كان يغتسل بثمانية أرطال (ذكر هذه الأحاديث في الأموال: ص514 - 516، وبين أبو عبيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ أحيانًا بقدر الصاع، وأحيانًا بثمانية أرطال، وأحيانًا يتوضأ بالمد، وأخرى برطلين، فالأحاديث تحكى عن أحوال متعددة لا عن حال واحدة).
دليل فقهاء الحجاز
وحجة فقهاء الحجاز أن الخمسة الأرطال والثلث هي قدر صاع المدينة الذي توارثه أهلها خلفًا عن سلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمكيال مكيالهم، كما جاء في الحديث.
قال ابن حزم: هذا أمر مشهور بالمدينة،منقول نقل الكافة، صغيرهم وكبيرهم، وصالحهم وطالحهم، وعالمهم وجاهلهم، وحرائرهم وإمائهم، كما فعل أهل مكة بوضع الصفا والمروة والاعتراض على أهل المدينة في صاعهم ومدهم، كالمعترض على أهل مكة في موضع الصفا والمروة ولا فرق، وكمن يعترض على أهل المدينة في القبر والمنبر والبقيع، وهذا خروج عن الديانة والمعقول.
قال: وقد رجع أبو يوسف إلى الحق في هذه المسألة، إذ دخل المدينة ووقف على أمداد أهلها .(المحلى: 5/246).
يشير ابن حزم إلى القصة التي رواها البيهقي عن الحسين بن الوليد قال: قدم علينا أبو يوسف من الحج فأتيناه، فقال: إني أريد أن أفتح عليكم بابًا من العلم همني ففصحت عنه، فقدمت المدينة، فسألت عن الصاع فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت لهم: ما حجتكم في ذلك؟ قالوا: نأتيك بالحجة غدًا، فلما أصبحت أتى نحو خمسين شيخًا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه، كل رجل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته، أن هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظرت فإذا هي سواء، قال: فعايرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان معه يسير، فرأيت أمرًا قويًا، فقد تركت قول أبى حنيفة في الصاع، وأخذت بقول أهل المدينة .(السنن الكبرى للبيهقي: 4/171، ويبدو أن مثل قصة أبى يوسف تكررت لغيره مع أهل المدينة، فقد روى الدارقطني عن إسحاق بن سليمان الرازي قال: قلت لمالك بن أنس: أبا عبد الله ! كم قدر صاع النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي، أنا حزرته، فقلت: أبا عبد الله خالفت شيخ القوم، قال: من هو؟ قلت أبو حنيفة يقول ثمانية أرطال، فغضب غضبًا شديدًا ثم قال لجلسائنا: يا فلان هات صاع جدك، يا فلان هات صاع عمك، يا فلان هات صاع جدتك، قال إسحاق: فاجتمعت آصع، فقال: ما تحفظون في هذا؟ فقال هذا: حدثني أبي عن أبيه أنه كان يؤدى بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الآخر: حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال مالك: أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثًا (رواه الدارقطني والبيهقي بسند جيد، كما قال الشوكاني - نيل الأوطار: 4/196).
قال الحسين -راوي هذا الخبر-: فحججت من عامي ذلك، فلقيت مالك بن أنس فسألته عن الصاع فقال: صاعنا هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: كم رطلاً هو؟ قال: المكيال لا يرطل (يعنى لا يقدر بالوزن) وهو هذا (المرجع السابق).
وبعد الإمام مالك قال الإمام أحمد في القرن الثالث: الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة، وقال حنبل: قال أحمد أخذت الصاع من أبى النضر، وقال أبو النضر: أخذته عن ابن أبى ذئب، وقال هذا صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يُعرف بالمدينة، قال أبو عبد الله -يعنى ابن حنبل- فأخذنا العدس فعيرناه به، وهو أصلح ما وقفنا عليه يكال به، لأنه لا يتجافى عن موضعه فكلنا به، ثم وزناه فإذا هو خمسة أرطال وثلث، وقال أحمد: هذا أصلح ما وقفنا عليه، وما تبين لنا من صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- .(المغنى: 3/59).
هل يمكن التوفيق بين القولين؟
(أ) قال بعض الحنفية: إن أبا يوسف لما حرر الصاع وجده خمسة وثلثًا برطل أهل المدينة، وهذا المقدار يساوى ثمانية أرطال برطل بغداد، قال ابن الهمام: وهو أشبه؛ لأن محمدًا -رحمه الله- لم يذكر في المسألة خلاف أبى يوسف، ولو كان لذكره على المعتاد، وهو أعرف بمذهبه .(شرح فتح القدير: 2/42)، ومعنى هذا: أن الصاع واحد عند الحجازيين والعراقيين، ولكن الأرطال هي التي تختلف.
ولكن يرد هذا التخريج أن أبا يوسف قال في كتابه "الخراج" (صفحة 53 -طبع السلفية- الطبعة الثانية): الوسق ستون صاعًا بصاع النبي -صلى الله عليه وسلم- فالخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع، والصاع خمسة أرطال وثلث، ولا يفهم من هذه الأرطال إلا أنها البغدادية، فإن الكتاب قد أُلِّف بناء على طلب الخليفة الرشيد، وعاصمته بغداد، وأبو يوسف بها، فكيف يقدَّر في بغداد الصاع بأرطال المدينة؟!
(ب) ووفَّق ابن تيمية بين قول الحجازيين وقول العراقيين توفيقًا آخر، بيَّن فيه: أنه كان هناك صاعان: صاع للطعام والحبوب، وصاع للمياه والطهارة، فصاع الطعام خمسة وثلث، وصاع الطهارة ثمانية أرطال، كما جاء بكل واحد منهما الأثر، فصاع الزكوات والكفارات وصدقة الفطر هو ثلثا صاع الغسل، قال: وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، ممن جمع بين الأخبار المأثورة في هذا الباب اهـ (القواعد النورانية لابن تيمية ص 89).
وعلى هذا الرأي تكون الأرطال واحدة، ولكن الصيعان هي التي تختلف.
(ج) وفي العصر الحديث بحث على باشا مبارك موضوع الصاع متعمدًا على النتائج التي وصل إليها بعض الباحثين من الأوربيين، فانتهى إلى أن الصاع الشرعي الذي عنته الأحاديث النبوية: خمسة أرطال وثلث - كما هو رأى فقهاء الحجاز (رسالة على باشا مبارك " الميزان في الأقيسة والأوزنة " طبع المطبعة الأميرية ببولاق ص 86 - 88 نقلاً عن الخراج في الدولة الإسلامية للأستاذ ضياء الدين الريس ص 301 - الطبعة الأولى).
ولكنه ساق تعليلاً آخر للخلاف السابق بما يفيد أن الخلاف صوري لا حقيقي فقد قال: "والفرق الناتج بين علماء العراق وغيرهم من علماء العرب نشأ من أن علماء العراق يعتبرون كمية الماء المظروف في المدّ أو في الصاع، وغيرهم اعتبر كمية الحب التي يستوعبها هذان الكيلان".
ثم قال: "وبالتأمل في ذلك يعلم أن خمسة أرطال وثلث رطل توافق ما يستوعبه من الحب، وثمانية أرطال توافق ما يستوعبه من الماء للغسل، والثمانية هي عدد تقريبي، لما ذكر بعضهم من أن الصاع أقل من ثمانية أرطال، وأكثر من سبعة وهو صحيح؛ لأنك إن أجريت الحساب باعتبار أن النسبة بين ثقل الحب وثقل الماء كالنسبة بين 3،4 تجد أن خمسة أرطال وثلثًا من حب القمح تعادل أكثر من سبعة أرطال من الماء، وأقل من ثمانية " (الخراج في الدولة الإسلامية - المرجع السابق).
ومعنى هذا: أن الأرطال واحدة، وأن الصاع واحد لدى الفريقين، وإنما اختلفت زاويتا النظر لدى كل منهما.
فأهل العراق -أو الأحناف- اعتبروا سعة الصاع بالماء، وبقية العلماء سواهم اعتبروا سعته بحسب الحب (نفس المرجع السابق).
ولكن لو كان الخلاف على هذه الصورة، فلماذا غضب مالك غضبه الشديد ولماذا عدل أبو يوسف عن رأيه، وخالف رأى شيخه وصاحبه أبى حنيفة؟
النتيجة
وإذن فالقول الصحيح الذي تعضده البراهين كلها هو قول أهل الحجاز، ومن وافقهم أن الصاع خمسة أرطال وثلث.
والواقع - كما قال الأستاذ الريس: " أنه لا ينبغي أن يبقى هناك شك، حول ذلك بعد أن قامت الأدلة على صحة هذا التقدير، من أقوال أكثر العلماء والمجتهدين، وفى طليعة الأدلة ذلك الخبر الذي ورد عن الإمام مالك، بأنه قام بمعايرة صيعان أهل المدينة التي كانت باقية منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك بحضور الخليفة الرشيد، وبعد مناقشة جرت بينه وبين القاضي أبى يوسف، فكان من جراء هذا الإثبات بالتجربة العلمية المشاهدة أن اقتنع أبو يوسف، وعدل عن قوله إلى قول مالك وأهل المدينة.
نقول: فمن أعلم من الإمام مالك بالتقاليد المأثورة للمدينة؟ وأي شهادة أكبر من شهادة الفقيه المجتهد أبى يوسف: قاضى الخلافة ومستشارها الأول؟
ثم إن هذا التحديد للصاع هو الذي يتفق مع كل النسب التي حددت للوحدات الأخرى، وتبدو هذه النسب به معقولة، مجارية لطبائع الأشياء، بخلاف ما إذا فرض التحديد الآخر، فيلحظ حينئذ تفارق كبير، وتجاوز لدائرة المعقول.
"وعلى أية حال فإن المد قد عرف أيضًا بأنه: "ملء كفى الإنسان المعتدل"، والصاع: "بأنه أربع حفنات"، فالذي يتصور، ألا تتجاوز الكمية الأولى رطلاً وثلثاَ، والثانية مثل ذلك أربع مرات (الخراج في الدولة الإسلامية ص 302،303).
نصاب الحبوب والثمار بالمقاييس العصرية
ما دام قد ثبت لنا كل من الصاع والمد بالأرطال البغدادية، فمن الممكن أن نعرف مقدارها بأي مقياس آخر: بالأرطال المصرية مثلاً، أو بالدراهم أو الجرامات، أو اللترات، إذ أن النسب بين هذه الأمور ثابتة .(الخراج في الدولة الإسلامية ص303).
وإذا عرفنا مقدار الصاع عرفنا -بالتالي- مقدار الوسق، الذي جعل الشارع خمسة منه نصاب الحب والثمر.
والنصاب -كما قال ابن قدامة- معتبر بالكيل، فإن الأوساق مكيلة، وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتحفظ وتنقل، ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات، والمكيلات تختلف في الوزن، فمنها الثقيل كالحنطة والعدس، ومنها الخفيف كالشعير والذرة، ومنها المتوسط، وقد نص أحمد على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة .(المغنى: 2/701).
وقال بعض أهل العلم: أجمع أهل الحديث على أن مد النبي -صلى الله عليه وسلم- رطل وثلث قمحًا من أواسط القمح، وهذا يدل على أنهم قدروا الصاع بالثقيل، فأما الخفيف فتجب الزكاة فيه إذا قارب هذا وإن لم يبلغه (المغنى: 2 / 701)، ومن هنا سيكون أساس تقديرنا هو وزن القمح الوسط.
ومن حيث إن نسبة الرطل البغدادي إلى الرطل المصري هي كنسبة (9 إلى 10) كما حقق على مبارك (الخراج في الدولة الإسلامية ص304 - 305)، فإن الصاع بالأرطال المصرية =3/1 5 × 10/9=4.8 أرطال مصرية (قمحًا) .(المرجع السابق)، وهذا الرقم يساوى بالجرامات (2156) حسب الوزن بالقمح.
وهذا المقدار يساوى بالماء 2.75 لترًا.
وإذا كان الإردب المصري الحالي = 128 لترًا (بالماء) وهو مكون من 96 قدحًا.
فبعملية حسابية نجد أن الصاع = 3/1 1 قدحًا أي 6/1 كيلة مصرية.
فالكيلة المصرية الحالية =6 آصع، والإردب = 72 صاعًا (حدث خطًأ حسابي في الطبعات السابقة، حيث كتب بدل رقم 2.156 رقم 2.176، وقد صححنا الخطأ في هذه الطبعة فنرجو استدراكه فيما سبق من طبعات).
ويكون الوسق -وهو 60 صاعًا- يساوى 6/60 = 10 كيلات مصرية.
فالأوسق الخمسة - وهي النصاب الشرعي = 5×10 = 50 كيلة مصرية، أي أربعة أرادب وويبة.
وهذه النتيجة توافق ما انتهى إليه الشيخ على الأجهوري من علماء المالكية - في منتصف القرن الحادي عشر الهجري- من ضبط النصاب بالكيل المصري فوجده كذلك، فقد ذكر أنه حر النصاب عام 1042 هـ (سنة اثنتين وأربعين وألف)، بكيل مصر فوجده أربعة أرادب وويبة، وذلك لأن المد -كما تقرر- ملء اليدين المتوسطتين غير مقبوضتين ولا مبسوطتين، قال: وقد وجدت القدح المصري يأخذ ملأهما ثلاث مرات كما حررت ذلك بأيدي جماعة، ومن المعلوم أن النصاب ثلاثمائة صاع، والصاع أربعة أمداد، فيكون النصاب بالقدح المصري 400 (أربعمائة) قدح، وهي أربعة أرادب وويبة .(حاشية العدوى على شرح الخرشي: 2/168).
أما بالوزن فيساوى النصاب بالأرطال المصرية = 300 × 4.8 = 440 رطلاً من القمح.
وبالكيلو جرامات يوازي = 300 × 2.156 =646.96 كيلو جرام قمح، وبالتقريب = 647 ك ج (بناء على تصحيح مقدار الصاع أصبح الوسق 647 ك ج بدل 653 في الطبعات السابقة).
نصاب غير المكيلات
ما ذكرنا من النصاب "الأوسق الخمسة" إنما هو في المكيلات من الحاصلات الزراعية، أما ما لا يقدر بالكيل كالقطن والزعفران فقد اختلفوا في تقدير نصابه:
(أ) قال أبو يوسف: يعتبر فيه القيمة، وذلك أن تبلغ قيمة الخارج من قطن وغيره قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يكال من الحبوب، كالشعير مثلاً، وإنما قال ذلك لأن الأصل اعتبار الوسق حيث ورد به النص، غير أنه إن أمكن اعتباره صورة ومعنى اعتبر، وإن لم يمكن يجب اعتباره معنى، وهو قيمة الموسوق بدائع الصنائع:2/61، واعتبار الأدنى لحظ الفقراء.
وعلى هذا تجب زكاة القطن إذا كان ثمن الخارج منه يساوى ثمن خمسين كيلة من الشعير، باعتباره أرخص الحبوب الآن على ما نعلم، وخاصة في مصر.
(ب) وقال محمد: المعتبر إنما هو خمسة أمثال أعلى ما يقدر به ذلك الشيء، لأن التقدير بالوسق في المكيلات لم يكن إلا لأن الوسق أعلى ما يقدر به في بابه المرجع السابق.
وعلى هذا إذا كان القطن يقدر بالقناطير في عصرنا، فنصابه خمسة قناطير، وهكذا ولكن يؤخذ على هذا التقدير أن النصاب به لا ينضبط، لاختلاف الأقطار بل البلدان في القطر الواحد في اعتبار أعلى ما يقدر به نوع من الحاصلات مما يؤدي إلى الاضطراب والاختلاف الشديد.
(جـ) وذهب بعضهم إلى تقويم نصاب غير المكيل بمائتي درهم -أي بنصاب النقود- كمال التجارة، إذ هو مزكى لا نصاب له في نفسه فاعتبر بغيره البحر الزخار: 2/170.
(د) وقال داود: ما لا يكال تجب الزكاة في قليله وكثيره المغنى: 2/697.
(هـ) وعند أحمد: أن ما لا يكال يقدر بالوزن، ولهذا قدر نصاب الزعفران والقطن وشبههما بألف وستمائة رطل بالعراقي، لأنه ليس بمكيل، فيقوم وزنه مقام كيله المرجع السابق: 2/697، 698، لأن النصاب الذي جاء به الشرع قد عرف مقداره بالوزن، كما عرف بالكيل، فالأولى - فيما لا يكال أن يقدر بالوزن، وهو 647 كيلو جرام كما بيناه.
قال ابن قدامة -معقبًا على الأقوال الأخرى-: ولا أعلم لهذه الأقوال دليلاً ولا أصلاً يعتمد عليه، ويردها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة".
وإيجاب الزكاة في قليله وكثيره مخالف لجميع أموال الزكاة.
واعتباره بغيره مخالف لجميع ما يجب عُشره، واعتباره بأقل ما فيه الزكاة قيمة لا نظير له أصلاً، وقياسه على العروض لا يصح، لأن العروض لا تجب الزكاة في عينها، وإنما تجب في قيمتها، وتؤدى من القيمة التي اعتبرت بها.
ولأن هذا مال تخرج الزكاة من جنسه فاعتبر نصابه بنفسه كالحبوب.
ولأنه خارج من الأرض يجب فيه العُشر أو نصفه، فأشبه سائر ما يجب فيه ذلك.
ولأنه لا نص فيما ذكروه ولا إجماع، ولا هو في معناهما، فوجب ألا يقال به لعدم دليله نفس المرجع السابق.
الرأي الذي نختار
والرأي الذي أختاره هو اعتبار القيمة فيما لا يوسق ولا يكال لأنه مال زكوي لم ينص الشرع على نصابه فاعتبر بغيره وإذا كان لا بد من اعتبار النصاب بغيره، فليعتبر بقيمة ما يوسق للنص عليه، كما ذهب أبو يوسف ولكنى أخالف الإمام أبا يوسف في اعتباره القيمة بأدنى ما يوسق كالشعير والأذرة ونحوها، فإنه -وإن كان فيه رعاية لحظ الفقراء- لا يخلو من إجحاف بأرباب الأموال.
ولهذا أرى أن يقدر بأوسط ما يوسق من المكيلات المعروفة، لا بالأدنى ولا بالأعلى، رعاية للطرفين: الفقراء والممولين معًا.
وأوسط ما يوسق يختلف باختلاف الأقطار والأزمنة والأحوال الاقتصادية ولذا يجب أن يترك تحديده إلى أهل الرأي في كل بلد فقد يكون في بلد هو القمح، ويكون في آخر هو الأرز مثلاً وعلى هذا يمكن تقدير النصاب في الزعفران والنرجس وغيرهما من الحاصلات الغالية الثمن - التي لا تنتج الأرض منها عادة مثل ما تنتج من الأذرة والشعير - بقيمة 647 ك ج من غلة متوسطة في بلادنا كالقمح أو الأرز.
ومثل ذلك القطن وقصب السكر ونحوهما
متى يعتبر النصاب؟
والنصاب إنما يعتبر بعد الجفاف في الثمار، أي بعد أن يصير الرطب تمرًا، والعنب زبيبًا، وبعد التصفية والتنقية من القشر في الزروع.
قال الغزالي في الوجيز: ثم هذه الأوسق تعتبر زبيبًا أو تمرًا، وفى الحبوب منقى عن القشر إلا فيما يطحن مع قشره كالذرة، وما لا يتتمر يوسق رطبًا (انظر الوجيز وشرحه للرافعي - مع المجموع:5/568) وما كان يدخر في قشره كالأرز، فلا يكلف أهله إزالة قشره عنه لما في ذلك من الضرر عليهم.
أما النصاب فقدره بعض الفقهاء بضعف المنقى عن القشر، ليكون الصافي منه نصابًا، والأولى أن يرجع في ذلك إلى تقدير الخبراء فى كل نوع من الحبوب، وكل صنف منها على حدة، بحيث يعتبر أن يكون الصافي منها نصابًا المرجع السابق ص569، والمغنى: 2/697.

__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس