عرض مشاركة واحدة
 
  #28  
قديم 12-19-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 8-14 من 14

تفسير التحرير والتنوير/ ابن عاشور (ت 1393 هـ) مصنف و مدقق 8-14 من 14

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }

واللام في قوله تعالى: { للَّه } يجوز أن يكون للاختصاص على أنه اختصاص ادعائي كما مر، ويجوز أن يكون لام التقوية قوت تعلق العامل بالمفعول لضعف العامل بالفرعية وزاده التعريف باللام ضعفاً لأنه أبعدَ شبهه بالأفعال، ولا يفوت معنى الاختصاص لأنه قد استفيد من تعريف الجزأين.

هذا وقد اختلف في أن جملة (الحمد) هل هي خبر أو إنشاء؟ فإن لذلك مزيد تعلق بالتفسير لرجوعه إلى المعنى بقول القائل: (الحمد لله).

وجماع القول في ذلك أن الإنشاء قد يحصل بنقل المركب من الخبرية إلى الإنشاء وذلك كصيغ العقود مثل بعت واشتريت، وكذلك أفعال المدح والذم والرجاء كعسى ونعم وبئس وهذا الأخير قسمان منه ما استعمل في الإنشاء مع بقاء استعماله في الخبر ومنه ما خص بالإنشاء فالأول كصيغ العقود فإنها تستعمل أخباراً تقول بعت الدار لزيد التي أخبرتك بأنه ساومني إياها فهذا خبر، وتقول بعت الدار لزيد أو بعتك الدار بكذا فهذا إنشاء بقرينة أنه جاء للإشهاد أو بقرينة إسناد الخبر للمخاطب مع أن المخبر عنه حال من أحواله، والثاني كنعم وعسى.

فإذا تقرر هذا فقد اختلف العلماء في أن جملة { الحمد لله } هل هي إخبار عن ثبوت { الحمد لله } أو هي إنشاء ثناء عليه إلى مذهبين، فذهب فريق إلى أنها خبر، وهؤلاء فريقان منهم من زعم أنها خبر باق على الخبرية ولا إشعار فيه بالإنشائية، وأورد عليه أن المتكلم بها لا يكون حامداً لله تعالى مع أن القصد أنه يثني ويحْمد الله تعالى، وأجيب بأن الخبر بثبوت الحمد له تعالى اعتراف بأنه موصوف بالجميل إذ الحمد هو عين الوصف بالجميل، ويكفي أن يحصل هذا الوصف من الناس وينقله المتكلم. ويمكن أن يجاب أيضاً بأن المخبر داخل في عموم خبره عند الجمهور من أهل أصول الفقه. وأجيب أيضاً بأن كون المتكلم حامداً قد يحصل بالالتزام من الخبر يريدون أنه لازم عرفي لأن شأن الأمر الذي تضافر عليه الناس قديماً أن يقتدي بهم فيه غيرهم من كل من علمه، فإخبار المتكلم بأنه علم ذلك يدل عرفاً على أنه مقتد بهم في ذلك هذا وجه اللزوم، وقد خفي على كثير أي فيكون مثل حصول لازم الفائدة من الخبر المقررة في علم المعاني، مثل قولك: سهرتَ الليلة وأنت تريد أنك علمتَ بسهره، فلا يلزم أن يكون ذلك إنشاء لأن التقدير على هذا القول أن المتكلم يخبر عن كونه حامداً كما يخبر عن كون جميع الناس حامدين فهي خبر لا إنشاء والمستفاد منها بطريق اللزوم معنى إخباري أيضاً.

-8-

ويرد على هذا التقدير أيضاً أن حمد المتكلم يصير غير مقصود لذاته بل حاصلاً بالتبع مع أن المقام مقام حمد المتكلم لا حمد غيره من الناس، وأجيب بأن المعنى المطابقي قد يؤتى به لأجل المعنى الالتزامي لأنه وسيلة له، ونظيره قولهم طويل النجاد والمرادُ طول القامة فإن طول النجاد أتى به ليدل على معنى طول القامة.

وذهب فريق ثان إلى أن جملة { الحمد لله } هي خبر لا محالة إلا أنه أريد منه الإنشاء مع اعتبار الخبرية كما يراد من الخبر إنشاء التحسر والتحزن في نحو:

{ إني وضعتُها أنثى } [آل عمران3: 36]

وقول جعفر بن عُلْبة الحارثي:

هوايَ مع الركْبِ اليمانين مُصِعدُ


فيكون المقصد الأصلي هو الإنشاء ولكن العدولَ إلى الإخبار لما يتأتى بواسطة الإخبار من الدلالة على الاستغراق والاختصاص والدوام والثبات ووجه التلازم بين الإخبار عن حمد الناس وبين إنشاء الحمد واضح مما علمته في وجه التلازم على التقرير الأول، بل هو هنا أظهر لأن المخبر عن حمد الناس لله تعالى لا جَرَم أنه منشىء ثناء عليه بذلك، وكونُ المعنى الالتزامي في الكناية هو المقصود دون المعنى المطابقي أظهر منه في اعتبار الخبرية المحضة لما عهد في الكناية من أنها لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة الأصل معه، فدل على أن المعنى الأصلي إما غير مراد أو مراد تبعاً لأن (مع) تدخل على المتبوع.

المذهب الثاني أن جملة { الحمد لله } إنشاء محض لا إشعار له بالخبرية، على أنها من الصيغ التي نقلتْها العرب من الإخبار إلى إنشاء الثناء كما نقلتْ صيغَ العقود وأفعالَ المدح والذم أي نقلاً مع عدم إماتة المعنى الخبري في الاستعمال، فإنك قد تقول الحمد لله جواباً لمن قال: لمن الحمدُ؟ أو من أَحمد؟ ولكنَّ تعهد المعنى الأصلي ضعيف فيحتاج إلى القرينة. والحق الذي لا محيد عنه أن الحمد لله خبر مستعمل في الإنشاء فالقصد هو الإنشائية لا محالة، وعدل إلى الخبرية لتحمل جملة الحمد من الخصوصيات ما يناسب جلالة المحمود بها من الدلالة على الدوام والثبات والاستغراق والاختصاص والاهتمام، وشيءٌ من ذلك لا يمكن حصوله بصيغةِ إنشاءٍ نحو حمداً لله أو أحمد الله حمداً ومما يدل على اعتبار العرب إياها إنشاء لا خبراً قول ذي الرمة:

ولما جَرَتْ في الجزل جرياً كأنَّهسنا الفجر أَحْدَثْنا لخالقها شكرا


فعبر عن ذكر لفظ الحمد أو الشكر بالإحداث، والإحداث يرادف الإنشاء لغة فقوله أحدثنا خبر حكى به ما عبر عنه بالإحداث وهو حَمْده الواقع حين التهابها في الحطب.

-9-

والله هو اسم الذاتِ الواجبِ الوجود المستحق لجميع المحامد. وأصل هذا الاسم الإلٰه بالتعريف وهو تعريف إلاه الذي هو اسم جنس للمعبود مشتق من أَلَهَ بفتح اللام بمعنى عبد، أو من ألِه بكسر اللام بمعنى تحير أو سكن أو فزع أو ولع مما يرجع إلى معنى هو ملزوم للخضوع والتعظيم فهو فِعال بكسر الفاء بمعنى مفعول مثل كتاب، أطلقه العرب على كل معبود من أصنامهم لأنهم يرونها حقيقةً بالعبادة ولذلك جمعوه على آلهة بوزن أَفعلة مع تخفيف الهمزة الثانية مَدَّةً، وأحسب أن اسمه تعالى تقرر في لغة العرب قبل دخول الإشراك فيهم فكان أصل وضعه دالاً على انفراده بالألوهية إذ لا إلٰه غيره فلذلك صار علماً عليه، وليس ذلك من قبيل العلمَ بالغلبة بل من قبيل العلم بالانحصار مثل الشمس والقمر فلا بدع في اجتماع كونه اسمَ جنس وكونه علماً، ولذلك أرادوا به المعبود بحق رداً على أهل الشرك قبل دخول الشرك في العرب وإننا لم نقف على أن العرب أطلقوا الإلٰه معرَّفاً باللام مفرداً على أحد أصنامهم وإنما يضيفون فيقولون إلاه بني فلان والأكثر أن يقولوا: رَب بني فلان أو يجمعون كما قالوا لعبد المطلب: أَرْضِ الآلهةَ، وفي حديث فتح مكة: «وجد رسول الله البيتَ فيه الآلهة». فلما اختص الإلٰه بالإلٰه الواحد واجبِ الوجود اشتقوا له من اسم الجنس علماً زيادة في الدلالة على أنه الحقيق بهذا الاسم ليصير الاسم خاصاً به غير جائز الإطلاق على غيره سَنن الأعلام الشخصية، وأَراهم أبدعوا وأَعجبوا إذ جعلوا علم ذاته تعالى مشتقاً من اسم الجنس المؤذن بمفهوم الألوهية تنبيهاً على أن ذاته تعالى لا تستحضر عند واضع العَلَم وهو الناطق الأول بهذا الاسم من أهل اللسان إلا بوصف الألوهية وتنبيهاً على أنه تعالى أَوْلى من يُؤَلَّه ويُعبد لأنه خالق الجميع فحذفوا الهمزة من الإلٰه لكثرة استعمال هذا اللفظ عند الدلالة عليه تعالى كما حذفوا همزة الأناس فقالوا: النَّاس؛ ولذلك أظهروها في بعض الكلام. قال البَعِيث بن حُرَيث.

معَاذَ الإلٰهِ أَنْ تكون كظبيةٍولا دُميةٍ ولا عقيلةِ رَبْرَب


كما أظهروا همزة الأناس في قول عَبيد بن الأبرص الأسدي:

إن المنَايَا ليطَّلِعْــنَ على الأناس الآمِنِينَ


ونُزِّل هذا اللفظ في طوره الثالث منزلة الأعلام الشخصية فتصرفوا فيه هذا التصرف لينتقلوا به إلى طَور جديد فيجعلُوه مثل علم جديد، وهذه الطريقة مسلوكة في بعض الأعلام. قال أبو الفتح بن جني في شرح قول تأبط شرا في النشيد الثالث عشر من «الحماسة»:

إِني لمُهْدٍ من ثَنائي فقَاصِدٌبه لابن عم الصدق شُمْسِ بن مَالك


شُمس بضم الشين وأصله شَمس بفتحها كما قالوا حُجْر وسُلْمَى فيكون مما غُير عن نظائره لأجْل العلمية ا هـ.

-10-

وفي «الكشاف» في تفسير سورة أبي لهب بعد أن ذكر أن من القراء من قرأ (أبي لهْبٍ) بسكون الهاء ما نصه وهي من تغيير الأعلام كقولهم شُمْس بن مالك بالضم ا هـ. وقال قبله: «ولفُلَيْتَه بن قاسم أمير مكة ابنان أحدهما عبدِ الله بالجر، والآخر عبدَ الله بالنصب، وكان بمكة رجل يقال له عبدِ الله لا يعرف إلا هكذا» ا هـ. يعني بكسر دال عبد في جميع أحوال إعرابه، فهو بهذا الإيماء نوع مخصوص من العَلَم، وهو أنه أقوى من العلم بالغلَبة لأن له لفظاً جديداً بعد اللفظ المغلَّب. وهذه الطريقة في العلمية التي عرضت لاسم الجلالة لا نظير لها في الأعلام فكان اسمه تعالى غيرَ مشابه لأسماء الحوادث كما أن مسمى ذلك الاسمِ غير مماثل لمسميات أسماء الحوادث. وقد دلوا على تناسيهم ما في الألف واللام من التعريف وأنهم جعلوهما جزءاً من الكلمة بتجويزهم ندَاء اسم الجلالة مع إبقاء الألف واللام إذ يقولون يا الله مع أنهم يمنعون نداء مدخول الألف واللام.

وقد احتج صاحب «الكشاف» على كون أصله الإلٰه ببيت البعيث المقدم، ولم يقررْ ناظروه وجه احتجاجه به، وهو احتجاج وجيه لأن مَعَاذ من المصادر التي لم ترد في استعمالهم مضافة لغير اسم الجلالة، مثل سبحان فأجريت مُجرى الأمثال في لزومها لهاته الإضافة، إذ تقول معاذالله فلما قال الشاعر معاذ الإلٰه وهو من فصحاء أهل اللسان علمنا أنهم يعتبرون الإلٰه أصلاً للفظ الله، ولذلك لم يكن هذا التصرف تغييراً إلا أنه تصرف في حروف اللفظ الواحد كاختلافِ وجوه الأداء مع كون اللفظ واحداً، ألا ترى أنهم احتجوا على أن لاَه مخفف الله بقول ذي الأَصبع العَدْواني:

لاَه ابنُ عمِّكَ لا أُفْضِلْتَ في حَسَبٍعنّى ولا أنتَ ديَّانِي فتَخْزُوني


وبقولهم لاَه أبوكَ لأن هذا مما لزم حالة واحدة، إذ يقولون لله أبوك ولله ابن عمك ولله أنتَ.

وقد ذُكِرتْ وجوه أخر في أصل اسم الجلالة: منها أن أصله لاَهٌ مصدر لاه يليه ليهاً إذا احتجب سمي به الله تعالى، ثم أدخلت عليه الألف واللام للمح الأصل كالفضل والمَجد اسمين، وهذا الوجه ذكر الجوهري عن سيبويه أنه جوزه. ومنها أن أصله وِلاَهٌ بالواو فِعال بمعنى مفعول من وله إذا تحيَّر، ثم قلبت الواو همزة لاستثقال الكسرة عليها، كما قلبت في إعاء وإشاح، أي وِعاء ووشاح، ثم عرف بالألف واللام وحذفت الهمزة. ومنها أن أصله (لاَها) بالسريانية علم له تعالى فعرب بحذف الألف وإدخال اللام عليه. ومنها أنه علم وضع لاسم الجلالة بالقصد الأوَّلِي من غير أخذ من أَلِهَ وتصييرِه الإلٰه فتكون مقاربته في الصورة لقولنا الإلٰه مقاربةً اتفاقيةً غير مقصودة، وقد قال بهذا جمع منهم الزجاج ونسب إلى الخليل وسيبويه، ووجَّهه بعض العلماء بأن العرب لم تهمل شيئاً حتى وضعت له لفظاً فكيف يتأتى منهم إهمال اسم له تعالى لتجري عليه صفاته.
-11-

وقد التُزم في لفظ الجلالة تفخيم لامه إذا لم ينكسر ما قبل لفظه وحاول بعض الكاتبين توجيه ذلك بما لا يسلَم من المنع، ولذلك أبَى صاحب «الكشاف» التعريج عليه فقال: «وعلى ذلك (أي التفخيم) العرب كلهم، وإطباقهم عليه دليل أنهم ورثوه كابراً عن كابر».

وإنما لم يقدم المسند المجرور وهو متضمن لاسم الجلالة على المسند إليه فيقال: لله الحمد، لأن المسند إليه حَمْد على تنزيل القرآن والتشرف بالإسلام وهما منة من الله تعالى فحمده عليهما عند ابتداء تلاوة الكتاب الذي به صلاح الناس في الدارين فكان المقام للاهتمام به اعتباراً لأهمية الحمد العارضة، وإن كان ذكر الله أهم أصالة فإن الأهمية العارضة تقدم على الأهمية الأصلية لاقتضاء المقام والحالِ، والبلاغة هي المطالبة لمقتضى الحال، على أن الحمد لما تعلق باسم الله تعالى كان في الاهتمام به اهتمام بشؤون الله تعالى.

ومن أعجب الآراء ما ذكره صاحب «المنهل الأصفى في شرح الشفاء» التلمساني عن جمع من العلماء القول بأن اسم الجلالة يمسك عن الكلام في معناه تعظيماً وإجلالاً ولتوقف الكلام فيه على إذن الشارع.

{ رَبِّ ٱلْعَـٰلَمِينَ }.

وصف لاسم الجلالة فإنه بعد أن أسند الحمد لاسم ذاته تعالى تنبيهاً على الاستحقاق الذاتي، عقبَ بالوصف وهو الرب ليكون الحمد متعلقاً به أيضاً لأن وصف المتعلَّق متعلَّق أيضاً، فلذلك لم يقل الحمد لرب العالمين كما قال:

{ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [المطففين83: 6]

ليؤذن باستحقاقه الوصفي أيضاً للحمد كما استحقه بذاته.


وقد أجرى عليه أربعة أوصاف هي: رب العالمين، الرحمٰن، الرحيم، مالك يوم الدين، للإيذان بالاستحقاق الوصفي فإن ذكر هذه الأسماء المشعرة بالصفات يؤذن بقصد ملاحظة معانيها الأصلية، وهذا من المستفادات من الكلام بطريق الاستتباع لأنه لما كان في ذكر الوصف غنية عن ذكر الموصوف لا سيما إذا كان الوصف منزلاً منزلة الاسم كأوصافه تعالى وكان في ذكر لفظ الموصوف أيضاً غُنية في التنبيه على استحقاق الحمد المقصود من الجملة عَلمنا أن المتكلم ما جمع بينهما إلا وهو يشير إلى أن كِلاَ مَدلُولَيْ الموصوف والصفة جدير بتعلق الحمد له مع ما في ذكر أوصافه المختصة به من التذكير بما يُميزه عن الآلٰهة المزعومة عند الأمم من الأصنام والأوثان والعناصر كما سيأتي عند قوله تعالى: { مالك يوم الدين }.

والرب إما مصدر وإما صفة مشبهة على وزن فَعْل مِنْ رَبَّه يَرُبُّه بمعنى رباه وهو رَب بمعنى مُرَبَ وسائس. والتربية تبليغ الشيء إلى كماله تدريجاً، ويجوز أن يكون من ربه بمعنى ملَكَه، فإن كان مصدراً على الوجهين فالوصف به للمبالغة، وهو ظاهر، وإن كان صفة مشبهة على الوجهين فهي واردة على القليل في أوزان الصفة المشبهة فإنها لا تكون على فَعْل من فعَل يفعُل إلا قليلاً، من ذلك قولهم نمّ الحديث ينُمُّه فهو نَمٌّ للحديث.
-12-

والأظهر أنه مشتق من ربَّه بمعنى رباه وساسه، لا من ربه بمعنى ملكه لأن الأول الأنسب بالمقام هنا إذ المراد أنه مدبر الخلائق وسائس أمورها ومبلغها غاية كمالها، ولأنه لو حمل على معنى المالك لكان قوله تعالى بعد ذلك { مالك يوم الدين } كالتأكيد والتأكيد خلاف الأصل ولا داعي إِليه هنا، إلا أن يجاب بأن العالمين لا يشمل إلا عوالم الدنيا، فيحتاج إلى بيان أنه ملك الآخرة كما أنه ملك الدنيا، وإن كان الأكثر في كلام العرب ورود الرب بمعنى الملك والسيد وذلك الذي دعا صاحب «الكشاف» إلى الاقتصار على معنى السيد والملك وجوز فيه وجهي المصدرية والصفة، إلا أن قرينة المقام قد تصرف عن حمل اللفظ على أكثر موارده إلى حمله على ما دونه فإن كلا الاستعمالين شهير حقيقي أو مجازي والتبادر العارض من المقام المخصوص لا يقضي بتبادر استعماله في ذلك المعنى في جميع المواقع كما لا يخفي. والعرب لم تكن تخص لفظ الرب به تعالى لا مطلقاً ولا مقيداً لما علمت من وزنه واشتقاقه. قال الحرث بن حلزة:

وهُوَ الرب والشهيدُ على يوم الحِيارَيْن والبلاء بلاء


يعني عَمْرو بن هند. وقال النابغة في النعمان بن الحارث:

تخُبُّ إلى النعمان حتى تنالهفِدًى لك من ربٍّ طرِيفي وتالدي


قال في النعمان بن المنذر حين مرض:

ورَبٌّ عليه الله أحسن صنعهوكان له على البرية ناصرا


وقال صاحب «الكشاف» ومن تابعه: إنه لم يطلق على غيره تعالى إلا مقيداً أو لم يأتوا على ذلك بسند وقد رأيتَ أن الاستعمال بخلافه، أما إطلاقه على كل من آلهتهم فلا مرية فيه كما قال غاوي بن ظالم أو عباس بن مرداس:

أَرَبٌّ يبولُ الثُّعْلُبَانُ برأْسِهلقد هان من بالت عليه الثعالبُ


وسموا العزى الرَّبة. وجمْعه على أرباب أدل دليل على إطلاقه على متعدد فكيف تصح دعوى تخصيص إطلاقه عندهم بالله تعالى؟ وأما إطلاقه مضافاً أو متعلقاً بخاص فظاهر وروده بكثرة نحو رب الدار ورب الفرس ورب بني فلان.

وقد ورد الإطلاق في الإسلام أيضاً حين حكى عن يوسف عليه السلام قوله:

{ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } [يوسف12: 23]

إذا كان الضمير راجعاً إلى العزيز وكذا قوله:

{ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ } [يوسف12: 39]

فهذا إطلاق للرب مضافاً وغير مضاف على غير الله تعالى في الإسلام لأن اللفظ عربي أطلق في الإسلام، وليس يوسفُ أطلَقَ هذا اللفظ بل أطلق مرادفه فلو لم يصح التعبير بهذا اللفظ عن المعنى الذي عبر به يوسف لكان في غيره من ألفاظ العربية مَعْدَل، إنما ورد في الحديث النهي عن أن يقول أحد لسيده ربي وليقل سيدي، وهو نهي كراهة للتأديب ولذلك خص النهي بما إذا كان المضاف إليه ممن يعبد عرفاً كأسماء الناس لدفع تهمة الإشراك وقطع دابره وجوزوا أن يقول رب الدابة ورب الدار، وأما بالإطلاق فالكراهة أشد فلا يقل أحد للملك ونحوه هذا رب.

-13-

و(العالمين) جمع عالم قالوا ولم يجمع فاعَلٌ هذا الجمع إلا في لفظين عالَم وياسم، اسم للزهر المعروف بالياسمين، قيل جمعوه على يَاسَمُون وياسَمِين قال الأعشى:

وقابَلَنَا الجُلُّ والياسمــونَ والمُسْمِعات وقَصَّابها


والعالم الجنس من أجناس الموجودات، وقد بنته العرب على وزن فاعل بفتح العين مشتقاً من العِلْم أو من العلامة لأن كل جنس له تميز عن غيره فهو له علامة، أو هو سببُ العلم به فلا يختلط بغيره. وهذا البناء مختص بالدلالة على الآلة غالباً كخاتم وقالب وطابع فجعلوا العوالم لكونها كالآلة للعلم بالصانع، أو العلم بالحقائق. ولقد أبدع العرب في هذه اللطيفة إذ بنوا اسم جنس الحوادث على وزن فاعل لهذه النكتة، ولقد أبدعوا إذ جمعوه جمع العقلاء مع أن منه ما ليس بعاقل تغليباً للعاقل.

وقد قال التفتزاني في «شرح الكشاف»: «العالم اسم لذوي العلم ولكل جنس يعلم به الخالق، يقال عالم الملك، عالم الإنسان، عالم النبات يريد أنه لا يطلق بالإفراد إلا مضافاً لنوع يخصصه يقال عالم الإنس عالم الحيوان، عالم النبات وليس اسماً لمجموع ما سواه تعالى بحيث لا يكون له إجراء فيمتنع جمعه» وهذا هو تحقيق اللغة فإنه لا يوجد في كلام العرب إطلاق عالم على مجموع ما سوى الله تعالى، وإنما أطلقه على هذا علماء الكلام في قولهم العالم حادث فهو من المصطلحات.

والتعريف فيه للاستغراق بقرينة المقام الخطابي فإنه إذا لم يكن عهد خارجي ولم يكن معنى للحمل على الحقيقة ولا على المعهود الذهني تمحض التعريف للاستغراق لجميع الأفراد دفعاً للتحكم فاستغراقه استغراق الأجناس الصادق هو عليها لا محالة وهو معنى قول صاحب «الكشاف»: «ليشمل كل جنس مما سُمِّي به» إلا أن استغراق الأجناس يستلزم استغراق أفرادها استلزاماً واضحاً إذ الأجناس لا تقصد لذاتها لا سيما في مقام الحكم بالمربوبية عليها فإنه لا معنى لمربوبية الحقائق.

وإنما جمع العالم ولم يُؤت به مفرداً لأن الجمع قرينة على الاستغراق، لأنه لو أُفرد لتوهم أن المراد من التعريف العهد أو الجنس فكان الجمع تنصيصاً على الاستغراق، وهذه سنة الجموع مع (ال) الاستغراقية على التحقيق، ولما صارت الجمعية قرينة على الاستغراق بطل منها معنى الجماعات فكان استغراق الجموع مساوياً لاستغراق المفردات أو أشمل منه. وبطل ما شاع عند متابعي السكاكي من قولهم استغراق المفرد أشْمَل كما سنبينه عند قوله تعالى:

{ وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } [البقرة2: 31].
-14-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس