عرض مشاركة واحدة
 
  #7  
قديم 02-18-2012
نائل أبو محمد نائل أبو محمد غير متواجد حالياً
عضو بناء
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 6,651
افتراضي رد: بعض جوانب التاريخ الاجتماعي للقدس في العهدين الأيوبي والمملوكي د. علي السيد علي محمود

السبت 26 ربيع الأول 1433

الجواري في مجتمع بيت المقدس:
وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ الرِّق قَبْل الإسلام كان دعامةً ترتكز عليها جميعُ نواحي الحياة الاقتصاديَّة في معظم أُمم العالَم، وتحت تأثير هذه الظروف أقرَّ الإسلامُ الرِّقَّ، ولكن في صورة تؤدِّي هي نفسها إلى القضاء عليه، عن طريق تضييق الروافد التي كانت تمدُّ الرِّقَّ وتُغَذِّيه، وتكفل بقاءََه، وقصره على رِقِّ الوراثة، باستثناء أولاد الجارية من مولاها، ورِقِّ الحَرْب، وَوَضَع الإسلام القواعد التي تكفل القضاءَ على الرِّقِّ تدريجيًّا[37].

في العصر المملوكي كانتِ الجواري يُشكلنَ كثرةً عدديَّة في المجتمع المقدسي؛ لأننا لا نغالي إذا قلنا: إنه قلَّ أن تجد دارًا إلاَّ وبها بعض الجواري، كذلك لم نسمعْ عن واحد من كِبار رجال الدولة مِن طبقة العسكريِّين، أو الفقهاء والتجار، إلاَّ وكان لديه عددٌ من الجواري يتناسب مع مكانته الاجتماعيَّة، ومركزه وثروته، وحتى الصوفيَّة، فقدِ اشتَرَوُا الجواري[38].

والمعروف أنَّ الجواري كُنَّ يُشعْنَ في البيت البهجةَ والسرور؛ لِمَا كُنَّ يَتمتَّعنَ به من خِفَّة ظل، ورُوح مَرِحة؛ لذا لا عجب أن تعكس الأسماء التي أطلقها الناسُ على جواريهم ذلك، فقد شاع اسم (مباركة)، و(انشراح)، و(بركة)[39].

كما أنهنَّ عِشنَ في بيوت سادتهنَّ من الأمراء، وعِلْية القوم، وغيرهم ممَّن مكَّنتهم ظروفُهم الاجتماعية، وأحوالهم الاقتصادية، جزءًا أساسيًّا من الحريم، بل وكأنهنَّ ضمن أفراد عائلة أسيادهنَّ، يشاركنَ في المناسبات الخاصة بعائلة السيِّد من أفراح وأحزان وخلافه، كما أنَّه قد طُبِّق عليهنَّ من قواعد العُزلة والحجاب ما طُبِّق بالضبط على باقي النِّساء المحصنات اللائي في الحريم، والفِئة الوحيدة التي أُبيح لها غشيانُ الحريم هي فئة الطواشية، أو الخصيان بحُكْم ما لهم من وضع اجتماعي[40].

وكثيرًا ما تُطالعنا المصادرُ المعاصرة بوجه عام، والوثائقيَّة بوجه خاص من أنَّ أحد هؤلاء السادة تزوَّج إحدى جواريه، فارتفعتْ بذلك إلى منزلة الزوجةِ الأثيرة لديه، وذات الجاه والمكانة الكُبرى.

نذكر من ذلك: ما جاء - على سبيل المثال لا الحصر - في الوثيقة رقم 613 بتاريخ 19 ذي القعدة سنة 796هـ: أنَّ أحَدَ كِبار التجَّار في القدس، ويُدْعى (الصدر الأجل شرف الدين محمود بن شهاب الدين أحمد بن محمد الخوارزمي التاجِر بالقدس الشريف)، وهو في حالة مَرضِه التي يُخشَى منها الموت - أنَّه "أسند وصيته إلى زوجته المرأة الكامل سراملك، عتاقته يومئذ، وبيده عشرةُ أولاد منها، إسنادًا صحيحًا معتبرًا تتصرَّف لهم في مالهم المخلَّف لهم التصرُّف الشرعي"، وذلك في حضور أحد أمراء السلطنة، وتمَّ اعتماد هذه الوصية من قِبَل القاضي الشافعي بالقدس بعدَ شهادة الشهود عليها[41].

وكذلك ما جاء في الوثيقة رقم 586 بتاريخ 7 ذي القعدة سَنَة 796هـ عندَ حصْر تركة امرأة تُدْعَى (بوطية بنت عبدالله التركية بحضور ممثِّل عن نائب السلطنة)؛ لأنَّها كانت أرملةَ أحد أمراء المماليك بالقدس، وكانت تقطن بحارة المغاربة[42].

كما يتَّضح من الوثيقة السابقة مدى حِرْص كِبار أمراء المماليك وصغارهم، بل وكل مَن كان يقتني عددًا مِن الجواري أن يوفِّر لهنَّ موردًا للرِّزْق عقبَ وفاته، مثلهنَّ في ذلك مثل ذرية هؤلاء، ونسائهم من الحرائر، وكذلك عِلْيَة القوم، بل وعامَّة الناس - أيضًا.

حيث بلغ ثَمَنُ ما أمكن بيعُه من ملابسها، وبعض الأحذية مبلغًا بلغ 672 درهمًا، وهو مبلغ - لا شكَّ - كبيرٌ بمقاييس ذلك العصر، زيادةً على أنه ثَمَن مبيعات مستعملة أصلاً[43].

كما تذكر بعضُ الوثائق مصدرَ الحصول على هؤلاء الجواري وأسعارهنَّ، فمنهنَّ مَن أتينَ مِن بلاد النوبة، ومِن تركيا، وبلاد التكرور، وبلاد الحبشة، وغيرها.

أما عن أسعارهنَّ، فقد ذكرتْ إحدى الوثائق أنَّ ثَمَن إحدى الجواري كان 420 درهم فضة، وجاء في وثيقة أخرى: أنَّ ثَمَن الجارية التركية كان (خمسمائة درهم وخمسون درهمًا)[44].

ومن الطبيعي أن يكون لهؤلاء الجواري أثرهن الواضح في الحياة العائليَّة، ومكانة المرأة في المجتمع المقدسي في ذلك العصر.

فمهما كان تقدير الرجل للمرأة في ذلك العصر، فإنَّ هذا التقدير لم يصلْ إلى الدرجة التي أصبح عليها الآنَ في عصرنا.

والسبب في هذا راجعٌ إلى نظرة المعاصرين حينئذٍ إلى المرأة على أساس أنها خُلِقت للمتعة الجسديَّة ليس إلاَّ، وانعكستْ هذه النظرة بوضوح في شَغَف الناس باقتناء الجواري الحِسان، ودفْع المبالِغ الطائلة في شرائهنَّ.

ولا نشك أنَّه حَدَث نَوْع من الفتور - على الأقلِّ - في العلاقة بيْن الرجل والمرأة في ذلك العصر، إما بسبب ما كان يُخصِّصه السيد لجواريه من أموال وعقارات، أو ما نِلْنَ من حَظْوة لديه.

وعن أثر الجواري في العَلاقات الزوجيَّة يقول الرَّحَّالة (بيرو طافور): إنَّ المسلم يؤثِر الزواج من مسيحيَّة - يقصد بذلك إحدى الجواري - دون مهْر، على الاقتران بمسلمة مهما كان مهرُها، لا سيِّما إذا كانتْ مسلِمةً حُرَّة.

كما أنَّ كِبار رجال الدولة وموظَّفِيها كانوا يُفضِّلون في ذلك العصر الزواجَ من الجواري، أضِفْ إلى ذلك ما قاله رحَّالة آخر عن تغيُّب بعض النساء عن منازلهنَّ في أوقات كثيرة من النهار، ومع ذلك قلَّمَا يتعرَّضنَ للوم أزواجهنَّ، وربما كان السبب في ذلك قيام الجواري بكلِّ الأعباء المنزلية إلى جانب تلبيةِ حاجات الزَّوْج[45].

كما يعكس لنا أدبُ العصر المملوكي بوجه عام بعضًا من الجوانب التي تدلُّ على مدى ذلك الفُتور في العلاقات في بعض الأحيان؛ لأنَّه يتضح لنا من أشعار الشُّعراء المعاصرين أنَّ صورةَ المرأة المحبوبة - كمثال للمرأة الحُرَّة التي شاع ذِكْرُها في التراث الأدبي - قد تغيَّرت إلى صورة الجارية الحَسْناء التي تُتْقِنُ فنَّ الحُب؛ لذلك نقف في هذا الأدب على كثيرٍ من أمثال هذه الصورة، التي يَرِد في ثناياها أسماءُ كثيرٍ من الجواري التي شاعتْ يومئذ، مثل: (وردة)، و(حدق)، و(حكم الهوى)، و(نسيم)، و(اشتياق)، و(هيفاء)، و(انشراح)، وغيرها.

وطبيعي بعدَ ذلك أنْ نسمع عن ضِيق بعض الرجال بزوجاتهم[46].

كذلك يبدو أنَّ نظرةَ المعاصرين للمرأة التي قامتْ على أساس أنَّها خُلِقت للمتعة والاستغلال ليس إلاَّ، قد ازدادتْ رسوخًا بسبب كثرة هؤلاء الجواري، وما قَدَّمْنَه من متعة جسديَّة بما يؤكِّد هذه النظرة.

ومِن الواضح - أيضًا -: أنَّه - نتيجة لكثرة أعداد الجواري في ذلك العصر - قد ازداد زُهْد الرجل في المرأة الحُرَّة، وقابل ذلك زُهْد المرأة في الرجل، وربَّما كان من العوامِل المشجِّعة على رواج هذه الظاهرة بيْن النِّساء وجود مجتمعاتٍ نسائيَّة قائمة بذاتها، تمثلَّت في وجود كثير من الأديرة الخاصَّة بالنساء، وبعض الخوانق، أو الربط، أو الزوايا.

وأخيرًا: يجب أن نشيرَ إلى أنَّ الجواري قد أثَّرنَ بشكل آخَرَ في مكانة المرأة الحُرَّة في مجتمع ذلك الزمان، ونظرة الرجل إليها، إذ هناك من الدلائل الأدبية ما يُشير إلى أنَّ الجواري قد كان لهنَّ أثرٌ كبير في انتشار تعاطي المخدِّرات في المجتمعات النِّسائيَّة، وربَّما دلَّ على ذلك ما نراه من قول (ابن الوردي) في وصف مليحة مسطولة:
مَلِيحَةٌ مَسْطُولَةٌ
إِنْ لُمْتَهَا فِيمَا جَرَى
تَقُولُ كُلُّ ظبْيَةٍ
تَرْعَى الْحَشِيشَ الأَخْضَرَا[47]

ولا نغالي إذا قلنا: إنَّ الجواري قد أثَّرنَ حتى في ذَوْق الرجل تأثيرًا واضحًا، فلم يعد الشاعِر في مصر والشام بوجه عام يتغزَّل في الجمال الأنثوي، الذي تغزَّل به العَرَب، بل أصبح الجمالُ التركي والمغولي هو ذوقَ العصر، ومثارَ إعجاب الشعراء.

بينما أصبح الجمالُ العربي مرفوضًا إلاَّ مِن الشعراء الذين ينحدرون من أصول عربيَّة، وهذا ما يظهر بوضوح في أشعار كثيرٍ من الشعراء الذين عاصروا تلك الحِقْبة[48].

وإذا كان الإكثارُ مِن الجواري قد أثَّر بشكلٍ أو بآخَر في مكانة المرأة الحرَّة، ونظرة الناس لها، فقد كانتِ الحروب الصليبيَّة (1095 - 1291م)، نفسها من العوامل التي تركَتْ أثرًا في مكانة المرأة كذلك، فالكِيان الفرنجي (الصليبي) أينما وُجِد في بلاد الشام، قد احتوى على مظاهر الانحلال الخُلُقي، من ذلك أنَّ مدينة عكَّا الساحليَّة - مثلاً - احتوتْ على حيٍّ للدعارة، عُرِف بالحي الأحمر في ذلك العصر[49].

بل أكثر مِن هذا ما يرويه أحدُ المؤرِّخين اللاتين مِن أنَّ سكَّان بيت المقدس الفرنج المستوطنين - فترة احتلال الصليبيِّين للمدينة المقدَّسة - وحتى الأغنياء منهم كانوا يُقدِّمون أخواتِهم وبناتهم، وحتى زوجاتِهم من أجل متعة زُوَّار المدينة في سبيل الحُصول على المال[50].

ولقدْ زار عددٌ لا بأسَ به من أهالي المدن الشاميَّة المدنَ التي خصعتْ لحُكم الفرنج، وتردَّدوا على أمثال هؤلاء النِّسوة اللاتي اشتهرنَ بالجمال الذي شدَّ الكثيرين من الرِّجال إليهن، مما أثَّر بشكل أو آخرَ في علاقة الرجل بالمرأة، ومكانتها في ذلك العصر، بل وممَّا ساعَدَ على رُسوخ تلك النظرة، التي نظر بها الرجل إليها[51].

حقيقة أنَّ ذلك العصر في مصر والشام امتاز بمسحةٍ برَّاقة مِن الصلاح والتقوى، والتنافُس على إقامة المنشآتِ الدِّينيَّة المختلِفة، ولكن هذه المسحة البرَّاقة كانتْ تُخفِي وراءها انحلالاً خلقيًّا يُثير الاشمئزاز، ولسْنا بحاجة للخوْض في هذا المجال، لكن يكفي أن نُشير إلى كثرة الغِلْمان من جنسيَّات مختلفة، ممَّا ساعد على انتشار الشُّذوذ الجِنسي بيْن الذُّكور، والذي تأباه الديانات السماوية جمعاء.

والذي ساعَدَ عليه بُعْدُهم عن الإسلام، فإذا رأوا فاحشةً يأتونها، ومِن الطبيعي أن يجد هؤلاء الفرصةَ سانحةً لهم في ممارسة نشاطهم، ممَّا ساعد على اهتزاز صورة ومكانة المرأة بشكل أو بآخر[52].



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/1007/29254/#ixzz1mYXmJuGt
رد مع اقتباس