تفسير جواهر التفسير/ الخليلي (مـ 1942م- ) مصنف و مدقق 21-26 من 26
وترمينني بالطرف أي أنت مذنب | | وتقلينني لكن إياك لا أقلي |
فأصله (لكنني)، وفي قول الآخر:-
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي | | ولكن زنجيٌّ عظيم المشافر |
على رفع زنجي وتقديره (ولكنك زنجي).
واختلفوا في الفرق بين الإِله والله، فالسيد السند يرى أنهما علم لذاته تعالى، ولكن إله يطلق على غيره تعالى، والله لا يطلق على غيره سبحانه أصلا، وقال السعد: " إن الإِله اسم لمفهوم كلى هو المعبود بحق، والله علم لذاته، وقال الرضى هما قبل الإِدغام وبعده مختصان بذاته تعالى لا يطلقان على غيره أصلا إلا أنه قبل الإِدغام من الأعلام الغالبة وبعده من الأعلام الخاصة، وأنت تدري أنه إذا أُطلق اسم الجلالة لم يتبادر إلى ذهن أي أحد من أي ملة كان إلا أنَّ المراد به الحي الدائم خالق كل شيء، وأما الإِله فهو يطلق على المعبود وإنما خص في الإِسلام بالمعبود بالحق سبحانه وتعالى، ولذلك إذا أطلقه غير المسلم قد يتبادر أن المراد به غير الله تعالى والله سبحانه قد حكى في كتابه عن المشركين قولهم
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [لقمان31: 25]
وفي هذا ما يدل على اختلاف مفهوم الكلمتين عندهم فالإِله هو المعبود والله هو الخالق القادر على كل شيء، وإنما انحصر معنى الإِله عند المسلمين في الله سبحانه لأنه المعبود بحق، وكل ما يعبد سواه فهو معبود بباطل، وبهذا يتضح أن الإِله معناه كلي ينحصر في فرد، ولو لم يكن كذلك لما كان قول الموحد " لا إله إلا الله " توحيداً إذ لو كان المعنى المتبادر من اللفظين واحدا من أول الأمر لكان ذلك بمثابة قول القائل " لا إله إلا إله " وفي هذا ما يؤيد رأي ابن مالك في أن كل واحد من اللفظين مستقل وضعا.
ومن أغرب ما قيل أن هذا الاسم الكريم ليس بعربي الأصل وهو رأي لا يلتفت إليه ولعل من قال به حيره اختلاف العلماء فيه هل هو مشتق أو غير مشتق؟ وما هو أصل اشتقاقه فلم يستطع أن يخلص من ذلك إلا إلى القول بأنه أعجمي الأصل.
-21-
وأما علمية هذا الاسم فقد استُدل عليها بوجوه: -
أولها: أنه يوصف ولا يوصف به، قال الله تعالى:
ثانيهما: أنه لا بد من اسم تُجرى عليه صفاته، فإن كل ما تتوجه إليه الأذهان ويُحتاج إلى التعبير عنه وقد وُضِعَ له اسم، سواء كان توفيقا أو اصطلاحيا، فمن المستحيل أن يُهمل الخالق تعالى الذي هو مصدر الأشياء جميعا، فلا يكون له اسم يجري عليه ما يُعزى إليه، وأسماء غيره لا تصلح له لانفراده تعالى بكونه واجب الوجود لذاته غير مماثل لشيء من مخلوقاته، ولا يصح أن يكون اسم جنس معرَّفا لأنه غير خاص وضعا، وكذلك لا يصح أن يكون علما منقولا من الوصفية، لأنه يستدعى أن لا يكون في الأصل مما تجري عليه الصفات.
ثالثهما: أنه لو كان وصفا لجاز اتصاف غيره بأصل ذلك الوصف ولو كان مجازا إن كان من الصفات التي تجري على المخلوقين كالعلم والقدرة والمشيئة والحياة والسمع والبصر، وذلك يمنع الاكتفاء به في التوحيد نحو (لا إله إلا العالم القدير السميع العليم) لإِمكان أن يراد غير الله تعالى بهذه الصفات لعدم تعذر إطلاقها على غيره بخلاف اسم الجلالة لاختصاصه به سبحانه.
ولسبب اختصاص الله تعالى بهذا الاسم الكريم وكونه علما على ذاته صرف جميع خلقه عن التسمى به، ولم تحدث أحدا نفسه - وإن كان من أعتى العتاه - أن يتسمى به أو يسمى به غيره، فلو سُئل أحد من أهل الجاهلية: هل اللات هي الله؟ أو العُزّى أو مناة؟ لأنكر ذلك، ومن ثم قال غير واحد من أئمة التفسير وغيرهم إنَّ هذا الاسم هو المراد في قوله سبحانه:
-22-
قال ولا يظهر في هذه الآية قصد الحكاية، وفي كلامه هذا نظر فإن الإِله لو لم يمنع شرعا إطلاقه على غير الله لما كان قول " لا إله إلا الله " توحيداً، ونجد في القرآن الكريم الإِنكار الذي يلي الإنكار على من يصف غير الله بالألوهية وقد تكرر ذلك في سورة النمل قال تعالى:
{ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ } صفتان لله تعالى اشتقاقهما من الرحمة وهي انفعال نفسي يحمل صاحبه على الإِحسان إلى غيره وهو محال على الله بحسب المعنى المعروف في البشر لأنه في البشر ألم يلم بالنفس لا يشفيه إلا الإِحسان، والله تعالى منزه عن الآلام والانفعالات، وإنما يحمل وصف الله تعالى بالرحمة على أثرها وهو الإِحسان ومثل هذا مألوف عند العرب، وكون صفتي " الرحمن الرحيم " مشتقتين من الرحمة هو رأي الجمهور، وذهب بعضهم إلى أن " الرحمن " اسم وليس بصفة وأنه غير مشتق لأنه لو كان مشتقا من الرحمة لجاز اتصاله بالمرحوم فيقال: الله رحمن بعباده كما يقال رحيم بعباده، وأيضا لو كان مشتقا من الرحمة لم تنكره العرب حين سمعته إذ لم يكونوا ينكرون رحمة بهم، وقد قال الله عنهم:
{ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِٱلرَّحْمَـٰنِ } [الرعد13: 30]
ويؤيد رأي الجمهور ما رواه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " قال الله عز وجل أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته " وليس في عدم اتصاله بذكر المرحوم ما يدل على عدم الاشتقاق فإنه استدلال سلبي قي مقابلة الدليل الثبوتي، وإنكار العرب للرحمن ناشيء عن تعنتهم في الكفر وإصرارهم على التكذيب وإلا فقد كانوا غير جاهلين به، كيف! وقد ورد في أشعارهم كما ذكره ابن جرير، ومنه قول أحد الجاهلية الجهلاء:
-23-
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها | | ألا قضب الرحمن ربي يمينها |
وقول سلامة بن جندب الطهوي: -
عجلتم علينا إذ عجلنا عليكم | | وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق |
ومما يستغرب ما نسبه ابن الأنباري إلى المبرد وأبو إسحاق الزجّاج إلى أحمد بن يحيى أن اسم الرحمن عبراني وليس بعربي، واستدل لذلك بقول جرير:
لن تدركوا المجد أو تشروا عباءكم | | بالخز أو تجعلوا الينبوت ضمرانا |
أو تتركون إلى القسين هجكرتكم | | ومسحكم صلبهم رحمان قربانا |
وليس في ذلك ما يدل على عبرانيته، إذ لا يلزم من استعمال أهل الكتاب له - لوصح - ألا يكون عربيا ولعل القائلين باسمية " الرحمن " يستدلون بالإِسناد إليه في نحو قوله تعالى:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا | | وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا |
على التعنت بالكفر.
واختلف في الفرق بين { الرحمن } و { الرحيم } فالجمهور على أن { الرحمن } أبلغ من { الرحيم } وهو مبني على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، وأورد الزمخشرى من هذا الباب نكتة لطيفة وذلك أنه ذكر أنه كان في طريقه إلى الحجار فوجد محملا أكبر بقليل عن محامل تستعمل في العراق يسمى الواحد منها " الشقدف " فسأل أعْرابيا عن اسم المحمل الذي رآه فقال له أليس ذلك يدعى الشقدف؟ قال له: بلى.. قال: فهذا الشقنداف، واستظهر منه الزمخشري أن طول الإسم لكبر المسمى، وهذه القاعدة غير مطرده، فإن حَذِرا أبلغ من حاذر وحروفه أقل، وبناء على ما يقوله الجمهور قيل: إن { الرحمن } هو المنعم بجلائل النعم و { الرحيم } هو المنعم بدقائقها وقيل أن { الرحمن } هو المنعم بنعم شاملة تعم المؤمن والكافر والبر والفاجر و { الرحيم } هو المنعم على المؤمنين خاصة، ومتعلق هذا القول قوله تعالى { وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } وانتقد الأستاذ الشيخ محمد عبده هذين القولين وقال: " كل هذا تحكم في اللغة مبني على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، ولكن الزيادة تدل على زيادة الوصف مطلقا فصفة { الرحمن } تدل على كثرة الإِحسان الذي يعطيه سواءً كان جليلا أم رقيقا وأما كون أفراد الإِحسان التي يدل عليه اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإِحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا فهو غير معنى ولا مراد، وقد قارب من قال: إن { الرحمن } المحسن بالإِحسان العام ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول { الرحيم } بالمؤمنين.
وقيل { الرحمن } رحمن الدنيا والآخرة " والرحيم " رحيم الآخرة، وهو كسابقيه لا يستند إلى دليل، ولعل عدم ظهور الحجة في التفرقة التي زعموها كان هو السبب في قول جماعة من المفسرين كالمحلِّي والصَّبَان: إن الاسمين الكريمين بمعنى، وإنما جيىء بالثاني تأكيداً للأول، وانتقد الإِمام محمد عبده هذا الرأي قائلا: " ومن العجيب أن يصدر مثل هذا القول عن عالم مسلم وما هي إلا غفلة، نسأل الله أن يسامح صاحبها " ثم قال: " وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه إن في القرآن كلمة تغاير أخرى ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به، نعم قد يكون في معنى الكلمة ما يزيد معنى الأخرى تقريرا أو إيضاحا، ولكن الذي لا أجيزه هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير، بحيث تكون من قبيل ما يسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة، فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمي في لفظه إلى مجرد التنميق والتزويق، وفي العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها، وأما ما يسمونه بالحرف الزائد الذي يأتي للتأكيد فهو حرف وُضع لذلك ومعناه هو التأكيد، وليس معناه معنى الكلمة التي يؤكدها، فالباء في قوله تعالى:
-24-
{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } [النساء4: 79]
{ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } [النساء4: 166]
تؤكد معنى اتصال الكفاية بجانب الله جل شأنه بذاتها وهو معناها الذي وُضعت له، ومعنى وصفها بالزيادة أنها كذلك في الإِعراب وكذلك معنى من في قوله:
{ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ } [البقرة2: 102]
ونحو ذلك، أما التكرار للتأكيد أو التقريع أو التهويل فأمر سائغ في أبلغ الكلام عندما يظهر ذلك القصد منه، كتكرار جملة
{ فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن55: 13]
ونحوها عقب ذكر كل نعمة وهي عند التأمل ليست مكررة، فإن معناها عند ذكر كل نعمة " أفبهذه النعمة تكذبان " ، وهكذا كل ما جاء في القرآن على هذا النحو ويخلص الإِمام بعد هذا الرّد إلى اختيار القول باستقلال كلٍّ من لفظيّ { الرحمن } و { الرحيم } بمعنى، ويردّ استخراج المعنى الذي تدل عليه كل واحدة من اللفظتين إلى بنائها الحرفي، فالرحمن على وزن فعلان، وهذه الصّيغة تدل على وصف فعلي فيه معنى المبالغة كفعال وهو مستمعل لغة في الصفات العارضة كعطشان وغرثان وغضبان وشعبان، و { الرحيم } على وزن فعيل، وهذه الصيغة تستعمل لغة في المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا نحو سميع وبصير وعليم وحكيم وحليم وجميل، والقرآن الكريم عندما يخبر عن صفات الله لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ، وإنما تعلو صفات الله عن مماثلة صفات المخلوقين، ومن هنا يرى الأستاذ أن " الرحمن " يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل، وهي إفاضة النعم على الخلق والإِحسان إليهم، وأن { الرحيم } يدلّ على مصدر هذه الرحمة ومنشأ هذا الإِحسان، وهو بهذا يثبت أن { الرحمن } صفة فعلية، و { الرحيم } صفة ذاتية ثابتة له تعالى، ويؤكد بهذه التفرقة أنه لا يُسْتَغْنى بأحد الوصفين عن الآخر، ولا يكون مجيء الثاني لمجرد تأكيد الأول، ويرى أن العربي إذا سمع وصف الله جل ثناؤه بالرحمن وفهم منه أنه مفيض النعم، وواهب الإِحسان بالفعل لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما، لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن صادرا عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرا، ولكن عندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بجلال الله ويرضيه سبحانه، ويعلم أن لله صفة ثابتة، وهي الرحمة التي يكون عنها أثرها، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين ويكون ذكرها بعد الرحمن كذكر الدليل بعد المدلول ليكون برهانا عليه.
-25-
ورأي الإِمام في التفرقة بين الرحمن والرحيم يتفق مع الجويني الذي حكى عنه الألوسي بأن فعلان لمن تكرر منه الفعل وكثر، وفعيلاً لمن ثبت منه الفعل ودام، وابن القيم يرى عكس ذلك فهو يرى أن الرحمن صفة ذاتية لله تعالى، والرحيم يدل على تعلقها بالمرحوم، ويستدل لذلك بقول الله تعالى:
{ وَكَانَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً } [الأحزاب33: 43]،
إنه بهم رحيم، وعدم مجيء " الرحمان بهم " وأكّد رأيه بقوله: (فعلمت أن الرحمن هو الموصوف بالرحمة، والرحيم هو الراحم برحمته، وعلى كلا الرأيين فإن اجتماع الوصفين الكريمين يؤدي إلى ما لا يحصل لو أُفرد أحدهما بالذكر) وللمفسرين أقوال في { الرحمن الرحيم } غير التي ذكرنا نرى الاستغناء عن ذكرها لعدم اعتضادها بحجة مقبولة.
-26-