عرض مشاركة واحدة
 
  #7  
قديم 06-11-2012
ابو عبد الله العقبي ابو عبد الله العقبي غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Jun 2012
المشاركات: 12
افتراضي رد: الخلافة على المنهاج و كيف تقام : للشيخ عبد الرحمن العقبي

المسألة السابعة عشرة

لا يجوز للحزب أن يشارك في وزارات السفهاء


المشاركة في وزارات هذا الزمان هي مشاركة في الحكم بغير ما أنزل الله، وهذه المشاركة حرام بنص الكتاب والسنة:
أما الكتاب فقوله تعالى:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (النساء:65).
وأما السنة فما رواه:
• البخاري عن ابن عباس أن النبي ص قال: "أَبْغَضُ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ ثَلَاثَةٌ: مُلْحِدٌ فِي الْحَرَمِ، وَمُبْتَغٍ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَمُطَّلِبُ دَمِ امْرِئٍ بِغَيْرِ حَقٍّ لِيُهَرِيقَ دَمَهُ".
قلتُ: الذي يكون وزيرا في الأنظمة السائدة اليوم يحكم قطعيا بغير ما أنزل الله، وهو مبتغ سنة الجاهلية لا سنة الإسلام.
• أحمد بإسناد صحيح: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ ابْنِ عَجْلَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَسَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ أَبِي قُلْتُ لِيَحْيَى كِلَاهُمَا عَنْ النَّبِيِّ ص؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: "مَا مِنْ أَمِيرِ عَشَرَةٍ إِلَّا يُؤْتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَغْلُولًا لَا يَفُكُّهُ إِلَّا الْعَدْلُ أَوْ يُوبِقُهُ الْجَوْرُ".
قلتُ: الذي يشارك في الوزارة في أيام السفهاء غارق في الجور.
• البيهقي في الدلائل: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب قال: حدثنا العباس بن محمد الدوري قال: حدثنا يحيى بن معين قال: حدثنا محمد بن الفضيل قال: حدثنا الأجلح عن الذيال بن حرملة عن جابر بن عبد الله قال: قال أبو جهل والملأ من قريش لقد انتشر علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالسحر والكهانة والشعر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة: لقد سمعت بقول السحرة والكهانة والشعر وعلمت من ذلك علما، وما يخفى علي إن كان كذلك. فأتاه، فلما أتاه قال له عتبة: يا محمد، أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فلم يجبه، قال: فيم تشتم آلهتنا، وتضلل آباءنا، فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك، فكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك الباءة زوجناك عشر نسوة تختار من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني بها أنت وعقبك من بعدك. ورسول الله ص ساكت لا يتكلم، فلما فرغ قال رسول الله ص: {بسم الله الرحمن الرحيم | حم | تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ | كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فقرأ حتى بلغ {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:1-13)، فأمسك عتبة على فيه وناشده الرحم أن يكف عنه، ولم يخرج إلى أهله واحتبس عنهم. فقال أبو جهل: يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صبا إلى محمد وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة أصابته، انطلقوا بنا إليه. فأتوه فقال أبو جهل: والله يا عتبة، ما حسبنا إلا أنك صبوت إلى محمد، وأعجبك أمره، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد. فغضب وأقسم بالله لا يكلم محمدا أبدا. قال: ولقد علمتم أني من أكثر قريش مالا، ولكني أتيته... فقص عليهم القصة: فأجابني بشيء والله ما هو بسحر ولا شعر ولا كهانة، قرأ {بسم الله الرحمن الرحيم | حم | تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ | كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. قال يحيى: كذا قال "يعقلون" حتى بلغ فقال: {أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:1-13)، فأمسكت بفيه وناشدته الرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخفت أن ينزل بكم العذاب.
قلتُ: الدليل في رفضه ص مجرد الإجابة على عرض عتبة عندما قال له: فإن كنت إنما بك الرئاسة عقدنا ألويتنا لك فكنت رأسنا ما بقيت.
• وفي رواية حسنها الألباني في فقه السيرة أن عتبة قال: يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعناه لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به الشرف سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله ص يسمعه منه قال له: أقد فرغت أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل. قال رسول الله ص: {بسم الله الرحمن الرحيم...}.
قلتُ: هذه الرواية أوضح في الدلالة من التي سبقتها إذ عرض عتبة على الرسول ص الشرف والسيادة والملك، فلم يجبه إلا بقراءة فواتح سورة فصلت. فليس بعد هذا مقال لمن يستبيح دخول الوزارات في زماننا زمان إمرة السفهاء.


المسألة الثامنة عشرة

لا يجوز حمل الدعوة عن طريق الانترنت


حمل الدعوة إخبار عن حكم شرعي في الأصول أو الفروع، ويكون هذا الحمل تبليغًا من قبل مجتهد أو مقلد، وكلاهما تشترط فيه العدالة، أي أن يكون المبلغ حامل الدعوة مسلما عدلا. فلا يقبل خبر الفاسق ولا الكافر، كما لا يقبل خبر المجهول من المسلمين. وقد حكى الرازي في المحصول إجماع الصحابة على رد رواية المجهول حيث قال: "الرابع إجماع الصحابة ن على رد رواية المجهول، رد عمر س خبر فاطمة بنت قيس وقال: كيف نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، ورد علي س خبر الأشجعي في المفوضة، وكان علي بن أبي طالب س يحلف الراوي. ثم إن أحدا من الصحابة ما أظهر الإنكار على ردهم وذلك يقتضي حصول الإجماع". وقال الآمدي في الاحكام: "مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر أهل العلم أن مجهول الحال غير مقبول الرواية، بل لا بد من خبرة باطنةٍ بحاله، ومعرفة سيرته وكشف سريرته، أو تزكية من عرفت عدالته وتعديله له. وقال أبو حنيفة وأتباعه: يكتفى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهراً." هذا ما قاله الآمدي في الأخبار، وقال في باب التقليد: "واختلفوا في جواز استفتاء من لم يعرفه بعلم ولا جهالة. والحق امتناعه على مذهب الجمهور". وقال الغزالي في المستصفى: "مسألة: لا يستفتي العامي إلا من عرفه بالعلم والعدالة أما من عرفه بالجهل فلا يسأله وفاقا... ومن لم يعرف حاله فيحتمل أن يقال لا يهجم بل يسأل عن عدالته أولا فإنه لا يأمن كذبه وتلبيسه، ويحتمل أن يقال ظاهر حال العالم العدالة لا سيما إذا اشتهر بالفتوى...".
قلتُ: كلام العلماء كلهم من نقلت عنهم وغيرهم عندما يبحثون في الأخبار أو الفتوى فإنهم يبحثون مجهول الحال من المسلمين، أما الكافر فلا يدخل في أبحاثهم مطلقا. فلا يقبل خبر الكافر ولا فتواه، يستوي في هذا من احتج بإجماع الصحابة ومن خالف، انظر إلى قول الآمدي: "وقال أبو حنيفة وأتباعه: يكتفى في قبول الرواية بظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهراً".
والذين يدخلون على مواقع شبكة الانترنت مجهولو الأعيان والأحوال، إذ أن استعمال الشبكة ممكن بأسماء مستعارة أو مكذوبة، بل إن انتحال أسماء شخصيات معروفة ممكن، فيدخل الكافر باسم المسلم، والفاسق باسم العدل، والمجهول باسم المعروف، وهكذا.
سلمنا أن مجهول الحال من المسلمين يقبل خبره وتقبل فتواه، إلا أن مسألتنا تختلف تماما إذ يدخل فيها قبول خبر الكافر وفتواه، فلم يبق مجال للقول بقبول خبر أو فتوى مجهول الحال في قول الجميع، لاتفاقهم على رد خبر الكافر وفتواه.
وعليه فإن حمل الدعوة والتبليغ عن طريق شبكة الانترنت لا يجوز، وفيه تضليل كبير لعوام المسلمين الذين لا يميزون بين الأخذ عن الانترنت والأخذ عن قناة فضائية أو رادي أو جريدة أو مجلة أو شخصية حقيقية. وأنصح جميع المسلمين أن يكفوا عن حمل الدعوة عن طريق هذه الشبكة، وأن يكفوا عن تلقي العلم والمعلومات عنها. فقديما كان المسلمون يأخذون علمهم عن الشيخ، وأما اليوم فقد صارت الشبكة شيختهم أو شيخة الكثيرين منهم.


المسألة التاسعة عشرة

على الحزب أن يبدأ بإقامة الخلافة قبل الولايات


قد علمنا أن التقيد بطريقة الرسول ص في إقامة الدولة واجب، ومن طريقته ص أنه أقام الدولة في المدينة منذ وصوله، فلم تكن المدينة في الابتداء ولاية أو إمارة ثم تحولت إلى دولة، وإنما كانت الدولة فيها ابتداء وكانت هي دار الهجرة، ثم انضمت إليها سائر الولايات كمكة والطائف واليمن والبحرين وعمان. وفيما يلي أدلة ذلك:
• البخاري: وَقَالَ أَبُو مُوسَى عَنْ النَّبِيِّ ص: "رَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ أَنِّي أُهَاجِرُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى أَرْضٍ بِهَا نَخْلٌ، فَذَهَبَ وَهَلِي إِلَى أَنَّهَا الْيَمَامَةُ أَوْ هَجَرُ، فَإِذَا هِيَ الْمَدِينَةُ يَثْرِبُ".
• البخاري عن عائشة... فَقَالَ النَّبِيُّ ص لِلْمُسْلِمِينَ: "إِنِّي أُرِيتُ دَارَ هِجْرَتِكُمْ ذَاتَ نَخْلٍ بَيْنَ لَابَتَيْنِ"... الحديث.
• أحمد باسناد صحيح عن أنس قال: إِنِّي لَأَسْعَى فِي الْغِلْمَانِ يَقُولُونَ جَاءَ مُحَمَّدٌ، فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا، ثُمَّ يَقُولُونَ جَاءَ مُحَمَّدٌ فَأَسْعَى فَلَا أَرَى شَيْئًا. قَالَ حَتَّى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ص وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ، فَكُنَّا فِي بَعْضِ حِرَارِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ بَعَثَنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِيُؤْذِنَ بِهِمَا الْأَنْصَارَ فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءَ خَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ، حَتَّى انْتَهَوْا إِلَيْهِمَا، فَقَالَتْ الْأَنْصَارُ: انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ. فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ ص وَصَاحِبُهُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ... الحديث
• الحاكم في المستدرك: حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن بالويه ثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي ثنا مصعب بن عبد الله الزبيري قال: عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، وأم عتاب بن أسيد، وخالد بن أسيد زينب بنت أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس. استعمل رسول الله ص عتابا على مكة، ومات رسول الله ص وعتاب عامله على مكة، وتوفي عتاب بن أسيد بمكة في جمادى الأخرى سنة ثلاث عشرة.
• الذهبي في التلخيص: مات النبي ص وعلى مكة عامله عتاب، وتوفي عتاب في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة.
• ابن حبان في الثقات: واستعمل على مكة عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية أميرا.
• أحمد باسناد صحيح: حَدَّثَنَا أبو مُعَاوِيَة بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَائِدَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُثَيْمٍ قَالَ حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ أَبِي عَاصِمٍ الثَّقَفِيُّ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّ آخِرَ كَلَامٍ كَلَّمَنِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ص إِذْ اسْتَعْمَلَنِي عَلَى الطَّائِفِ فَقَالَ: "خَفِّفْ الصَّلَاةَ عَلَى النَّاسِ حَتَّى وَقَّتَ لِي {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق) وَأَشْبَاهَهَا مِنْ الْقُرْآنِ".
• ابن عبد البر في الاستيعاب: وولى رسول الله ص عمرو بن العاص على عمان فلم يزل عليها حتى قُبض رسول الله ص.
• البخاري عن البراء بن عازب قال: بَعَثَنَا رَسُولُ اللَّهِ ص مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا بَعْدَ ذَلِكَ مَكَانَهُ.
• البخاري عن أبي بردة: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ص أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلَافٍ. قَالَ: وَالْيَمَنُ مِخْلَافَانِ.
• ابن حزم في جوامع السيرة: وولى الحكم بن سعيد على قرى عربية.
• خليفة في تاريخه: استعمل زياد بن لبيد البياضي على حضرموت.
• البخاري عن حذيفة قال: قَالَ النَّبِيُّ ص لِأَهْلِ نَجْرَانَ: "لَأَبْعَثَنَّ -يَعْنِي عَلَيْكُمْ- أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ"، فَأَشْرَفَ أَصْحَابُهُ فَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
• البخاري عن عمرو بن عوف الأنصاري أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ... الحديث.
قلتُ: هذه الولايات مكة والطائف واليمن ونجران وحضرموت وعمان والبحرين وقرى عربية كلها ضمت إلى الدولة التي نشأت بالمدينة. فرسول الله ص أنشأ الدولة بالمدينة أو دار الهجرة ثم ضم إليها سائر الولايات المذكورة، ولم تكن المدينة في عهده ص ولاية ثم تحولت إلى دولة إسلامية أو إلى عاصمة للدولة الإسلامية. وعليه فإن من أراد أن يقتفي سنته ص فإنه لا ينشيء إمارة هنا وإمارة هناك ثم ينتظر الظرف الملائم لتحويل هذه الامارات إلى دولة إسلامية هي دولة الخلافة. فإن هذا فوق مخالفته لسنته ص في إقامة الدولة فإنه يفتح الباب واسعًا للكفار والمنافقين لانشاء إمارات عميلة أو يحاولون على الأقل، فيشتبه المخلص بالعميل ولا يعرف الناس من يتبعون. أما الخلافة فإن الكفار والمنافقين لا يقربونها في خططهم، فلا أظن أنه يخطر ببالهم أن ينشئوا خلافة عميلة كما يفعلون بالامارات والجمهوريات والممالك. وحتى لو فكروا بذلك فإنهم لن يستطيعوه لأننا موعودون بخلافة على منهاج النبوة، لا خلافة أمريكية ولا إنجليزية.
وأيضًا فإن الولاة يأخذون صلاحياتهم من الخليفة، وطاعتهم من طاعته، ولا طاعة لوالٍ إلا إذا عيَّنهُ الخليفة. بل إن الولاة تجب طاعتهم بعد موت الخليفة الذي عيَّنهم حتى يأتيهم جديد من الخليفة الذي يأتي من بعده، هذا ما أجمع عليه الصحابة.
ولا يُقال إن السلطان للأمة تعطيه لمن تشاء، لا يُقال ذلك لأن السلطان وإن كان للأمة فليس لها أن تعطيه لمن تشاء بل تعطيه فقط للإمام الذي ينوب عنها في تطبيق الشرع. والخلاف هنا ليس لفظيا بين الإمام والوالي بل هو خلاف بين مدلولي هذين اللفظين، فالإمام نائب عن الأمة كلها والوالي ليس كذلك، فطاعة الخليفة الذي يُبايع في الشام واجبة على كل مسلم في الشام وغيره بخلاف الوالي، والخارج عن طاعة الخليفة باغٍ بخلاف الخارج عن طاعة الوالي.
وبهذا يثبت أن الاتباع والتأسي يكون بإقامة الخلافة أولاً ثم بتعيين الولاة من قبل الخليفة وليس العكس.


المسألة العشرون

تمويل الحزب ذاتي


لا يجوز للحزب أن يقبل عطاء أو هبات أو هدايا من أحد. وتمويله محصور في أفراده القادرين على تمويله. وهذا واضح من موقفه ص مع عتبة عندما عرض عليه المال، وواضح من تمويل أبي بكر وخديجة.
ففي حديث جابر بن عبد الله المار في المسألة السابعة عشرة والذي يرويه البيهقي في دلائل النبوة قال عتبة: "وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني بها أنت وعقبك من بعدك"، وكان هذا العرض مرفوضا حتى أنه ص لم يتنازل أن يذكره على لسانه، بل رد بقراءة فواتح سورة فصلت كما مر.
وفي حديث أبي الدرداء عند البخاري أنه ص قال: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ".
وفي حديث أبي سعيد عند مسلم قال رسول الله ص: "إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ".
وفي حديث عائشة الحسن عند أحمد قال ص في خديجة: "وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ".
وفي حديث جابر بن عبد الله عند البخاري قال: كَانَ عُمَرُ يَقُولُ: "أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلَالًا".
وفي حديث عائشة عند البخاري: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ... وَتَجَهَّزَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص: عَلَى رِسْلِكَ فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ تَرْجُو ذَلِكَ بِأَبِي أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ نَفْسَهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص لِيَصْحَبَهُ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ.
قلتُ: إن من أفظع ما ابتليت به الأمة هي الحركات الوطنية والقومية، والحركات التي تزعم أنها إسلامية، التي تجر الناس من بطونهم، وتجعل مقياسهم في هذه الحياة المنفعة والمصلحة حتى صارت هذه الحركات بأنواعها المختلفة من أكبر العقبات أمام العاملين المخلصين للتغيير. وإني أنصح المسلمين بأن يجعلوا مصدر أو مصادر تمويل الحركات من جملة المقاييس التي يقيسون بها الحركة.
وأيضا فإنه لا يحل للحزب أن يأخذ من الصدقات لأنه ليس من الأصناف الثمانية التي تستحق الزكاة، والآية الكريمة حصرت الصدقات في الأصناف الثمانية، قال ﻷ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} (التوبة:60)، والحزب شخصية معنوية فيها الغني والمتوسط والفقير والمسكين والغارم والغازي وابن السبيل، وهؤلاء يعطون من الزكاة كأفراد، أما الحزب فلا يُعطى، ولا يجوز أن ينفق على حاجات الحزب من الصدقات، فلا تشترى له سيارة ولا طابعة ولا يُستأجر له مقرّ، ولا غير ذلك من النفقات. قال ابن قدامة في المغني: "وَلَا نَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْأَصْنَافِ، إلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُمَا قَالَا: مَا أَعْطَيْت فِي الْجُسُورِ وَالطُّرُقِ، فَهِيَ صَدَقَةٌ مَاضِيَةٌ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ...} (التوبة:60)، وَ "إنَّمَا" لِلْحَصْرِ تُثْبِتُ الْمَذْكُورَ، وَتَنْفِي مَا عَدَاهُ... سَبِيلَ اللَّهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْجِهَادِ، فَإِنَّ كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ سَبِيلِ اللَّهِ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ الْجِهَادُ إلَّا الْيَسِيرَ، فَيَجِبُ أَنْ يُحْمَلَ مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ذَلِكَ..."، وقال النووي في المجموع: "ومذهبنا أن سهم سبيل الله المذكور في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان بل يغزون متطوعين. وبه قال أبو حنيفة ومالك..."، وقال السرخسي في المبسوط: "وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: الطَّاعَاتُ كُلُّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ عِنْدَ إطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ الْمَقْصُودُ بِهِمْ الْغُزَاةُ عِنْدَ النَّاسِ...".
وفي الختام أقول إن الحزب المجزيء يجب أن يكون تمويله ذاتيا.


المسألة الحادية والعشرون

في ظل الخلافة على المنهاج لم ينشيء الصحابة حزبا للمحاسبة


قد علمتم أن الخلافة الموعودة هي خلافة على منهاج النبوة. وفي ظل هذا النوع من الخلافة لا يجب على المسلمين أن ينشئوا أحزابا للمحاسبة. والدليل على ذلك أن الصحابة أجمعوا على المحاسبة بشكل فردي ولم ينشئوا حزبا لهذا الغرض بعد وفاته ص. وفيما يلي أمثلة من المحاسبة الفردية التي نفذها أفراد الصحابة لخلفائهم في عهد الراشدين، أي في الثلاثين عاما التي تلت وفاته ص، والواردة في حديث سفينة الصحيح قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: "الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا":
1. البخاري عن أبي هريرة قال: لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ ص وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ س وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنْ الْعَرَبِ فَقَالَ عُمَرُ س: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ س فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ س فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ.
2. مسلم عن ابن عمر قال: دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَتْ: أَعَلِمْتَ أَنَّ أَبَاكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: مَا كَانَ لِيَفْعَلَ. قَالَتْ: إِنَّهُ فَاعِلٌ. قَالَ: فَحَلَفْتُ أَنِّي أُكَلِّمُهُ فِي ذَلِكَ، فَسَكَتُّ حَتَّى غَدَوْتُ وَلَمْ أُكَلِّمْهُ، قَالَ: فَكُنْتُ كَأَنَّمَا أَحْمِلُ بِيَمِينِي جَبَلًا حَتَّى رَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْ حَالِ النَّاسِ وَأَنَا أُخْبِرُهُ. قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ مَقَالَةً فَآلَيْتُ أَنْ أَقُولَهَا لَكَ، زَعَمُوا أَنَّكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ، وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَ رَاعِي إِبِلٍ أَوْ رَاعِي غَنَمٍ ثُمَّ جَاءَكَ وَتَرَكَهَا رَأَيْتَ أَنْ قَدْ ضَيَّعَ فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ. قَالَ فَوَافَقَهُ قَوْلِي، فَوَضَعَ رَأْسَهُ سَاعَةً ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيَّ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ ﻷ يَحْفَظُ دِينَهُ، وَإِنِّي لَئِنْ لَا أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص لَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ اسْتَخْلَفَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ ص وَأَبَا بَكْرٍ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعْدِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ ص أَحَدًا وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ.
3. أحمد باسناد صحيح: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مُبَارَكٍ- قَالَ أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ يَزِيدَ وَهُوَ أَبُو شُجَاعٍ قَالَ سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ يَزِيدَ الْحَضْرَمِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ نَاشِرَةَ بْنِ سُمَيٍّ الْيَزَنِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ س يَقُولُ فِي يَوْمِ الْجَابِيَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ النَّاسَ: إِنَّ اللَّهَ ﻷ جَعَلَنِي خَازِنًا لِهَذَا الْمَالِ وَقَاسِمَهُ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: بَلْ اللَّهُ يَقْسِمُهُ وَأَنَا بَادِئٌ بِأَهْلِ النَّبِيِّ ص ثُمَّ أَشْرَفِهِمْ. فَفَرَضَ لِأَزْوَاجِ النَّبِيِّ ص عَشْرَةَ آلَافٍ إِلَّا جُوَيْرِيَةَ وَصَفِيَّةَ ومَيْمُونَةَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَانَ يَعْدِلُ بَيْنَنَا، فَعَدَلَ بَيْنَهُنَّ عُمَرُ، ثُمَّ قَالَ: إِنِّي بَادِئٌ بِأَصْحَابِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ فَإِنَّا أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا ظُلْمًا وَعُدْوَانًا ثُمَّ أَشْرَفِهِمْ. فَفَرَضَ لِأَصْحَابِ بَدْرٍ مِنْهُمْ خَمْسَةَ آلَافٍ، وَلِمَنْ كَانَ شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْأَنْصَارِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، وَلِمَنْ شَهِدَ أُحُدًا ثَلَاثَةَ آلَافٍ، قَالَ: وَمَنْ أَسْرَعَ فِي الْهِجْرَةِ أَسْرَعَ بِهِ الْعَطَاءُ وَمَنْ أَبْطَأَ فِي الْهِجْرَةِ أَبْطَأَ بِهِ الْعَطَاءُ، فَلَا يَلُومَنَّ رَجُلٌ إِلَّا مُنَاخَ رَاحِلَتِهِ، وَإِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَيْكُمْ مِنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ إِنِّي أَمَرْتُهُ أَنْ يَحْبِسَ هَذَا الْمَالَ عَلَى ضَعَفَةِ الْمُهَاجِرِينَ فَأَعْطَى ذَا الْبَأْسِ وَذَا الشَّرَفِ وَذَا اللَّسَانَةِ، فَنَزَعْتُهُ وَأَمَّرْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ. فَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ حَفْصِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: وَاللَّهِ مَا أَعْذَرْتَ يَا عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ، لَقَدْ نَزَعْتَ عَامِلًا اسْتَعْمَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص وَغَمَدْتَ سَيْفًا سَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ ص وَوَضَعْتَ لِوَاءً نَصَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص، وَلَقَدْ قَطَعْتَ الرَّحِمَ وَحَسَدْتَ ابْنَ الْعَمِّ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِنَّكَ قَرِيبُ الْقَرَابَةِ حَدِيثُ السِّنِّ مُعْصِبٌ مِنْ ابْنِ عَمِّكَ.
قلتُ: في هذا الحديث محاسبتان الأولى من عائشة وقد رجع عمر إليها، والثانية من أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فرد عليه عمر بأنه متعصب لابن عمه وفي نسخة غاضب له.
4. أحمد باسناد صحيح عن عبد الله بن الزبير قال: وَاللَّهِ إِنَّا لَمَعَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِالْجُحْفَةِ وَمَعَهُ رَهْطٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِيهِمْ حَبِيبُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْفِهْرِيُّ إِذْ قَالَ عُثْمَانُ وَذُكِرَ لَهُ التَّمَتُّعُ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ: إِنَّ أَتَمَّ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَنْ لَا يَكُونَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، فَلَوْ أَخَّرْتُمْ هَذِهِ الْعُمْرَةَ حَتَّى تَزُورُوا هَذَا الْبَيْتَ زَوْرَتَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ وَسَّعَ فِي الْخَيْرِ. وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ س فِي بَطْنِ الْوَادِي يَعْلِفُ بَعِيرًا لَهُ، قَالَ: فَبَلَغَهُ الَّذِي قَالَ عُثْمَانُ، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى عُثْمَانَ س فَقَالَ: أَعَمَدْتَ إِلَى سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ ص وَرُخْصَةٍ رَخَّصَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا لِلْعِبَادِ فِي كِتَابِهِ تُضَيِّقُ عَلَيْهِمْ فِيهَا وَتَنْهَى عَنْهَا وَقَدْ كَانَتْ لِذِي الْحَاجَةِ وَلِنَائِي الدَّارِ؟ ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا. فَأَقْبَلَ عُثْمَانُ س عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: وَهَلْ نَهَيْتُ عَنْهَا؟ إِنِّي لَمْ أَنْهَ عَنْهَا، إِنَّمَا كَانَ رَأْيًا أَشَرْتُ بِهِ، فَمَنْ شَاءَ أَخَذَ بِهِ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ.
قلتُ: بهذا يثبت أن الصحابة ن لم يشكلوا حزبا للمحاسبة، وإنما اكتفوا بالمحاسبة الفردية. وفي أواخر عهد عثمان نشأ حزب ابن السوداء وليس فيه أحد من الصحابة، ثم قتلوا عثمان. وبعدهم نشأ حزب الخوارج في زمن علي وليس فيهم صحابي واحد، وقتلوا عليا. ولو كان تشكيل الحزب فرضا أو مندوبا لفعله الصحابة بعد موته ص، فدل قعودهم جميعا عن إقامة حزب للمحاسبة على أن إقامته ليست فرضا ولا مندوبا.
فإن قيل السبئية حزب وسكت عنها عثمان وسائر الصحابة، والخوارج حزب وأقرهم علي، قيل هؤلاء بغاة قاتلهم المسلمون، وهم ليسوا قدوة لنا، ولا نتأسى بهم، وإقرارهم كان باعتبارهم مخالفين لم يقاتلوا بعد، أما بعد أن حملوا السلاح ضد أهل دار العدل حاربوهم وقاتلوهم قتال بغاة.

المسألة الثانية والعشرون

تغيير المنكر في دار الكفر غير مطلوب


تغيير المنكر في دار الكفر غير مطلوب، وقوله ص في حديث أبي سعيد عند مسلم: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ" خاص بدار الإسلام والأدلة على ذلك:
1. أحمد باسناد صححه الزين عن أنس بن مالك قال: قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى نَدَعُ الِائْتِمَارَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: "إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذَا كَانَتْ الْفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُمْ وَالْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ وَالْعِلْمُ فِي رُذَالِكُمْ".
قلتُ: قد ظهرت الفاحشة في الكبار وهذا لا يحتاج إلى بيان، أما الملك في الصغار فهو الذي يحتاج إلى البيان والشرح، فالصغار يقصد بهم الصبيان السفهاء، فمرة سماهم ص الصبيان ومرة السفهاء ومرة الصغار.
ففي حديث أبي هريرة الصحيح عند أحمد والبزار قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ وَمَنْ إِمَارَةِ الصِّبْيَانِ".
وفي حديث جابر الصحيح عند أحمد والبزار والحاكم قال: قال النَّبِيَّ ص لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ: "أَعَاذَكَ اللَّهُ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاء..." الحديث.
وفي حديث عبس الغفاري الصحيح عند أحمد قال: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: "بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا إِمْرَةَ السُّفَهَاءِ وَكَثْرَةَ الشَّرْطِ..." الحديث.
وفي حديث أنس هذا أنه ص قال: "وَالْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ" أي في الصبيان السفهاء الذين لا يهتدون بهديه ص ولا يستنون بسنته. فالمراد بهذه الألفاظ الثلاثة هو ما بينه ص من أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، فلا يهتدون بهديه ص ولا يستنون بسنته، ففي حديث جابر السابق أنه ص قال في تفسير إمارة السفهاء: "أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي لَا يَقْتَدُونَ بِهَدْيِي وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي...".
وعليه فإن أمر هؤلاء الأمراء ونهيهم غير مطلوب، وكذلك تغيير المنكر تحت سلطانهم غير مطلوب وغير ممكن في أكثر من الأحيان بل في الأعم الأغلب، ودارهم دار كفر.
وأما قوله ص في حديث أنس "وَالْعِلْمُ فِي رُذَالِكُمْ" فأغلب الذين يفتون الناس, ويتصدرون للفتوى في وسائل الإعلام ومؤسسات الأمراء الصغار هم من المحسوبين عليهم, يفتون بما يوافق هوى هؤلاء الأمراء فيصدقونهم بكذبهم ويعينونهم على ظلمهم, وأما المخلصون من العلماء فمقموعون محاربون في أرزاقهم, إذا لم يقتلوا أو يسجنوا, فلا حول ولا قوة إلا بالله. وقد ظهر فينا ما ظهر في بني إسرائيل فجاز ترك تغيير المنكر.
وحديث أنس رواه الطبراني في مسند الشاميين وصححه البوصيري ورواه البيهقي في الشعب وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله. كما رواه ابن ماجة وصححه الكناني وضعفه الألباني، وفيما يلي ألفاظهم:
• الطبراني في مسند الشاميين عن أنس قال: قيل: يا رسول الله متى نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: "إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل قبلكم"، قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "إذا ظهر الادهان في خياركم، والفاحشة في شراركم، وتحول الفقه في صغاركم ورذالكم".
• ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: عن أنس بن مالك قال: قيل: يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال: "إذا ظهر فيكم ما ظهر في بني إسرائيل قبلكم"، قيل: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: "إذا ظهر الإدهان في خياركم، والفاحشة في شراركم، وتحول الملك في صغاركم، والفقه في أرذالكم".
• البيهقي في الشعب عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قال: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَتَى نَتْرُكِ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: "إِذَا ظَهَرَ فِيكُمْ مَا ظَهَرَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ قَبْلَكُمْ" قَالُوا: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "إِذَا ظَهَرَ الْإِدْهَانُ فِي خِيَارِكُمْ، وَالْفَاحِشَةُ فِي شِرَارِكُمْ، وَالْفِقْهُ فِي رُذَالَتِكُمْ".
قلتُ: الروايات الثلاث فيها زيادة على رواية أحمد وهي "الْإِدْهَانُ فِي خِيَارِكُمْ"، وقد رأيت هذا الادهان فيمن أحسبهم خيارًا ولا أزكي على الله أحدًا.
كما اختلفت الروايات الثلاث عن رواية أحمد في الفاحشة، فعند أحمد "الْفَاحِشَةُ فِي كِبَارِكُمْ" وعندهم "وَالْفَاحِشَةُ فِي شِرَارِكُمْ"، والأمر قريب إذ الكبير الذي يأتي بالفاحشة هو من شرارنا.
واتفقت رواية ابن عبد البر مع رواية أحمد في كون الملك في صغارنا، واتفقت الروايات الأربع على أن الفقه والعلم في رذالنا.
2. حديث عبد الله بن عمرو عند أحمد وصححه أحمد شاكر وعند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي، قال أحمد: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص: "كَيْفَ أَنْتَ إِذَا بَقِيتَ فِي حُثَالَةٍ مِنْ النَّاسِ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: "إِذَا مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا" -وَشَبَّكَ يُونُسُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ يَصِفُ ذَاكَ-. قَالَ: قُلْتُ: مَا أَصْنَعُ عِنْدَ ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "اتَّقِ اللَّهَ ﻷ وَخُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ وَعَلَيْكَ بِخَاصَّتِكَ وَإِيَّاكَ وَعَوَامَّهُمْ".
وفي رواية عند أحمد صححها أحمد شاكر قال: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ يَعْنِي ابْنَ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ هِلَالِ بْنِ خَبَّابٍ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ ص إِذْ ذَكَرُوا الْفِتْنَةَ -أَوْ ذُكِرَتْ عِنْدَهُ- قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَخَفَّتْ أَمَانَاتُهُمْ وَكَانُوا هَكَذَا" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أَفْعَلُ عِنْدَ ذَلِكَ؟ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ. قَالَ: "الْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ".
وفي رواية ثالثة عند أحمد صححها أحمد شاكر قال: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُطَرِّفٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ ص أَنَّهُ قَالَ: "يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يُغَرْبَلُونَ فِيهِ غَرْبَلَةً، يَبْقَى مِنْهُمْ حُثَالَةٌ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وَأَمَانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَكَانُوا هَكَذَا" وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا الْمَخْرَجُ مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَأْخُذُونَ مَا تَعْرِفُونَ وَتَدَعُونَ مَا تُنْكِرُونَ وَتُقْبِلُونَ عَلَى أَمْرِ خَاصَّتِكُمْ وَتَدَعُونَ أَمْرَ عَامَّتِكُمْ".
قلتُ: حديث عبد الله بن عمرو هذا أخرجه أبو داود وصححه الحاكم والألباني وحسنه المنذري ورواه الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ص: "كيف أنت يا عبد الله بن عمرو إذا كنت في حثالة من الناس؟..." الحديث.
ومعنى مرجت اضطربت، واضطراب عهود الناس وأماناتهم وضعفها وخفتها واضح كل الوضوح، حتى غدا هو الأصل، وصار حفظ العهود والأمانات غريبا نادرا. وعليه جاز ترك تغيير المنكر.
3. حديث أبي ثعلبة الخشني عند الترمذي وقال حسن غريب، وعند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي: عَنْ أَبِي أُمَيَّةَ الشَّعْبَانِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ أَبَا ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيَّ فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ قَالَ: أَيَّةُ آيَةٍ؟ قُلْتُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة:105). قَالَ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْهَا خَبِيرًا، سَأَلْتُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ ص فَقَالَ: "بَلْ ائْتَمِرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنَاهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ، حَتَّى إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا وَهَوًى مُتَّبَعًا وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ فَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ وَدَعْ الْعَوَامَّ، فَإِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامًا الصَّبْرُ فِيهِنَّ مِثْلُ الْقَبْضِ عَلَى الْجَمْرِ، لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ مِثْلُ أَجْرِ خَمْسِينَ رَجُلًا يَعْمَلُونَ مِثْلَ عَمَلِكُمْ". قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: وَزَادَنِي غَيْرُ عُتْبَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَجْرُ خَمْسِينَ مِنَّا أَوْ مِنْهُمْ؟ قَالَ: "بَلْ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ".
قلتُ: منذ أن غزتنا أفكار الكفر من رأسمالية واشتراكية وقومية ووطنية، وصارت المنفعة والمصلحة هي المقياس للأعمال، رأينا الشح المطاع والهوى المتبع والدنيا المؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه حتى لو كان كفرا بواحا. وصار أكثر الناس يبيعون دينهم بدنياهم بل وبدنيا غيرهم لقاء عرض من الدنيا قليل.
في هذا الوضع الذي لم تمر به الأمة في يوم من الأيام طُلب منا أن نهتم بخاصة أنفسنا ونترك العوام، وهذا يعني ترك تغيير المنكر، والحديث يؤكد ذلك بوصفه هذه الأيام بأنها أيام الصبر، والذي يشبه القبض على الجمر، حيث تكون الامتحانات كبيرة والصابرون الثابتون على الحق غرباء قليلون. فليحرص الباحث عن رضوان الله سبحانه على أن يكون من الغرباء.
4. حديث حذيفة عند الحاكم وصححه ووافقه الذهبي قال: أخبرنا أبو عبد الله الصفار ثنا محمد بن إبراهيم ثنا الحسين بن حفص ثنا سفيان عن الصلت بن بهرام عن منذر بن هوذة عن خرشة بن الحر قال: قال حذيفة س: "كيف أنتم إذا انفرجتم عن دينكم انفراج المرأة عن قبلها لا تمنع من يأتيها؟ قال: فقال رجل: قبح الله العاجز. قال: "بل قبحت أنت".
هذا الحديث له حكم المرفوع وليس رأيا لحذيفة، أعني الإخبار عن الانفراج عن الدين. ورأي حذيفة أن المنفرج عن الدين في زمن الانفراج غير مذموم، وذلك لأنه عاجز عن الدفع, وهذا والله أعلم ينطبق على هذه الأيام، والانفراج عن الدين يشمل ترك تغيير المنكر.
5. حديث ابن مسعود عند سعيد بن منصور في سننه قال: نا خالد بن عبد الله عن يونس عن الحسن عن ابن مسعود في قوله ﻷ: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} (المائدة:105) قال: "ليس هذا أوانها، تقولونها ما قبلت منكم، فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم".
قلتُ: الأمثلة على الرد لا تحصى قطعا، فهناك رد من الأفراد، وهناك رد من الأمراء السفهاء الصبيان وأعوانهم، ورد الأفراد هين في الغالب، أما رد أمراء الفرقة وأعوانهم فإنه يصل إلى النفي والسجن وحتى القتل، كما ورد في حديث معاذ عند أحمد بن منيع وقال البوصيري رجاله ثقات عن رسول الله ص قال: "...ألا إنه سيكون عليكم أمراء إن أطعتموهم أضلوكم وإن عصيتموهم قتلوكم...". وإذا ثبت الرد بنوعيه جاز ترك تغيير المنكر.
وحديث ابن مسعود هذا رواه عبد الرزاق قال: أنبأنا معمر عن الحسن أن ابن مسعود س سأله رجل عن قول الله: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} (المائدة:105) فقال: "إن هذا ليس بزمانها، إنها اليوم مقبولة، ولكنه قد يوشك أن يأتي زمانها، تأمرون فيصنع بكم كذا وكذا -أو قال: فلا يقبل منكم- فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل".
قال ابن كثير ورواه أبو جعفر الرازي، عن الربيع عن أبي العالية، عن ابن مسعود في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} الآية، قال: كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا، فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه، فقال رجل من جلساء عبد الله: ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر؟ فقال آخر إلى جنبه: عليك بنفسك، فإن الله يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} الآية. قال: فسمعها ابن مسعود فقال: مَهْ، لم يجئ تأويل هذه بعد، إن القرآن أنزل حيث أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن، ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله ص، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي ص بيسير، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم، ومنه آي تأويلهن عند الساعة على ما ذكر من الساعة، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب على ما ذكر من الحساب والجنة والنار. فما دامت قلوبكم واحدة، وأهواؤكم واحدة ولم تلْبَسوا شِيعًا، ولم يَذُق بعضكم بأس بعض فأمروا وانهوا. فإذا اختلفت القلوب والأهواء، وألبسْتُم شيعًا، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه، عند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية.
وهذه الرواية رواها ابن جرير في التفسير قال: حدثنا هناد قال حدثنا ليث بن هارون قال حدثنا إسحاق الرازي عن أبي جعفر عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن عبد الله بن مسعود... ورواها أيضا البيهقي في السنن الكبرى وابن أبي حاتم في تفسيره.
6. حدثنا الحسن بن عرفة قال حدثنا شبابة بن سوار قال حدثنا الربيع بن صبيح عن سفيان بن عقال قال: قيل لابن عمر: لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه، فإن الله تعالى ذكره يقول: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}؟ فقال ابن عمر: إنها ليست لي ولا لأصحابي، لأن رسول الله ص قال: "ألا فليبلِّغ الشاهد الغائبَ"، فكنَّا نحن الشهودَ وأنتم الغُيَّب، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا، إن قالوا لم يقبل منهم.
7. حديث رجل من أصحاب رسول الله ص: روى ابن جرير في تفسيره قال: حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد عن قتادة قال حدثنا أبو مازن رجل من صالحي الأزد من بني الحُدَّان قال: انطلقت في حياة عثمان إلى المدينة، فقعدت إلى حلقة من أصحاب رسول الله ص، فقرأ رجل من القوم هذه الآية {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، قال: فقالَ رجلٌ من أسنِّ القوم: دَعْ هذه الآية، فإنما تأويلها في آخر الزمان.
قلتُ: إن عدم تغيير المنكر لا يعني القعود عن العمل لإيجاد دار الإسلام بإقامة الخلافة الموعودة على المنهاج، التي يمكن فيها تغيير المنكر، بل يجب تركيز جهود كل المخلصين على العمل بشكل جاد لاقامة الخلافة على منهاج النبوة التي وعدنا بها، وإيجاد الجماعة على إمام. ومن المقطوع به أن هذا لن يكون إلا بوجود مؤمنين يعملون الصالحات كما في آية الوعد.

رد مع اقتباس