عرض مشاركة واحدة
 
  #4  
قديم 06-11-2012
ابو عبد الله العقبي ابو عبد الله العقبي غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Jun 2012
المشاركات: 12
افتراضي رد: مسائل سلطانية : للشيخ عبد الرحمن العقبي

المسألة التاسعة

ذكر قريش وأمانتها


قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (الزخرف:44)
وروى الحاكم وصححه ووافقه الذهبي عن رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعٍ الزُّرَقِيِّ أن رسول الله ص قال: "إِنَّ قُرَيْشًا أَهْلُ أَمَانَةٍ مَنْ بَغَاهُمُ الْعَوَاثِرَ كَبَّهُ اللَّهُ لِمِنْخَرِهِ" قَالَهَا ثَلَاثًا.
فما هو ذكر قومه ص وما هي أمانتهم؟
قال الطبري في تفسيره: "وقوله: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يقول تعالى ذكره: وإن هذا القرآن الذي أوحي إليك يا محمد الذي أمرناك أن تستمسك به لشرف لك ولقومك من قريش {وَسَوْفَ تُسْأَلُون} يقول: وسوف يسألك ربك وإياهم عما عملتم فيه، وهل عملتم بما أمركم ربكم فيه، وانتهيتم عما نهاكم عنه فيه؟"
وقال القرطبي في تفسيره: "وقيل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني الخلافة، فإنها في قريش لا تكون في غيرهم.
وأما الأمانة الواردة في حديث رفاعة فهي الإمامة، وممن قال ذلك:
أولا: ما رواه الشافعي في السنن المأثورة عن رِفَاعَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص نَادَى: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ قُرَيْشًا أَهْلُ أَمَانَةٍ، مَنْ بَغَاهُمُ الْعَوَافِرَ أَكَبَّهُ اللَّهُ لِمَنْخِرَيْهِ" يَقُولُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: هَكَذَا قَرَأَهُ الْمُزَنِيُّ عَلَيْنَا "أَهْلُ أَمَانَةٍ" وَإِنَّمَا هُوَ أَهْلُ إِمَامَةٍ، وَقَالَ: "الْعَوَافِرَ" وَإِنَّمَا هُوَ "الْعَوَاثِرَ".
ثانيا: ما قاله المناوي في فيض القدير نقلا عن الرافعي ولفظه: "قال الرافعي: يجوز أنهم ائتمنوا على التقدم للإمامة". ويحتمل قول الرافعي أن المراد إمامة الصلاة.
أقول:
الإمامة أمانة، والمعنى واحد، فقريش أهل أمانة الإمامة أو أهل الإمامة، بل إن وصفها بالأمانة أبلغ في إيجاب تحمل مسؤوليتها في أعناقهم.
ومما يرجح أن الأمانة هي الإمامة حديث معاوية عند البيهقي بسند صحيح: "إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ، لَا يُعَادِيهِمْ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ"، فقوله ص "مَنْ بَغَاهُمُ الْعَوَاثِرَ" هو بمعنى قوله ص: "لَا يُعَادِيهِمْ فِيهِ أَحَدٌ" وفي رواية البخاري: "لَا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ". وقوله ص: "كَبَّهُ اللَّهُ لِمِنْخَرِهِ" هو نفس معنى قوله ص: "كَبَّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ". وعليه تكون الأمانة هي الإمامة وهي الأمر أي الخلافة.
ومنذ عام تسعمائة وثلاثة وعشرين للهجرة، أي منذ أكثر من خمسمائة عام فإن قريشا أهملت ذكرها وأخملته، وفرطت في أمانتها وضيعتها. لا أقول هذا عصبية فقد علمنا جميعا بأن أكرمنا عند الله أتقانا وأن لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، وأن من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه، ولكني أذكر قريشا بواجبها فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
واعلموا يا أهل الذكر والأمانة أن الخلافة على منهاج النبوة كائنة قطعا، قد أخبر بذلك الصادق المصدوق، وتواترت بهذا المعنى الأخبار الصحيحة، وهي لا تخفى على فقهائكم ومتفقهيكم.
أجدادكم تقدموا لطلب الخلافة في اليوم الذي مات فيه رسول الله ص، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة، وأنتم تخليتم عنها أكثر من خمسمائة عام، فهل تطمعون أن تكون منازلكم واحدة؟! إذن اعملوا مثل عملهم وأبشروا، فإن الله تعالى يقول: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} (الواقعة).

المسألة العاشرة

الاستخلاف عقد تأمير على المؤمنين


الاستخلاف عقد، تنعقد به الخلافة للمستخلَف بمجرد موت المستخلِف. ودليل ذلك الاجماع والقياس.
أما الاجماع فهو إجماع الصحابة الثابت بالتواتر، والذي لا يحل لمسلم أن يخالفه، وفيما يلي بعض روايات هذا الاجماع مع بعض مستنداته:
1. الخطابي في معالم السنن: "فالاستخلاف سنة اتفق عليها الملأ من الصحابة، وهو اتفاق الأمة لم يخالف فيه إلا الخوارج والمارقة الذين شقوا العصا وخلعوا ربقة الطاعة".
2. الخطيب البغدادي في أصول الدين: "وإذا أوصى بها الإمام إلى من يصلح لها وجب على الأمة إنفاذ وصيته، كما أوصى بها أبو بكر إلى عمر وأجمعت الصحابة على متابعته فيها".
3. ابن حزم في مراتب الاجماع: "واتفقوا أن للإمام أن يستخلف قُبل ذلك أم لا، ولم يختلف في جواز ذلك لأبي بكر س أحد وإجماعهم هو الإجماع".
4. عياض في إكمال المعلم: "وفيه جواز انعقاد الخلافة بالوجهين بالتقديم والعقد من المتولي كفعل أبى بكر لعمر، أو بعقد أهل الحل والعقد والاختيار كفعل الصحابة بعد النبى ص وهذا مما أجمع المسلمون عليه".
5. الجويني في الغياثي: "وأصلُ توليةِ العهد ثابتٌ قطعاً مستندٌ إلى إجماع حملة الشريعة، فإن أبا بكر خليفةَ رسول الله ص لما عهد إلى عمر بن الخطاب م وولاه الإمامةَ بعده، لم يُبْدِ أحدٌ من صَحْب رسول الله ص نكيراً، ثم اعتقد كافةُ علماءَ الدين توليةَ العهد مسلكاً في إثبات الإمامة في حق المعهود إليه الموَلَّى، ولم يَنفِ أحدٌ أصلَها أصلاً...".
6. الآمدي في أبكار الأفكار: "وأجمعت الصحابة على جعل العهد طريقا في انعقاد الإمامة...".
7. النووي في شرح صحيح مسلم: "... وأجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف...".
8. ابن بطال في شرح صحيح البخاري: "قال بعض الشافعية: فإن قال قائل: لم جاز للإمام تولية العهد، وإنما يملك النظر فى المسلمين حياته وتزول عنه بوفاته، وتولية العهد استخلاف بعد وفاته فى وقت زوال أمره وارتفاع نظره، وهو لا يملك فى ذلك الوقت ما يجوز عليه توليه أو تنفذ فيه وصيته؟ قيل: إنما جاز ذلك لأمور منها إجماع الأمة من الصحابة ومن بعدهم على استخلاف أبى بكر عمر على الأمة بعده، وأمضت الصحابة ذلك منه على أنفسها".
9. الماوردي في الأحكام السلطانية: "فصل: وَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِمَامَةِ بِعَهْدِ مَنْ قَبْلَهُ فَهُوَ مِمَّا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ، وَوَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَى صِحَّتِهِ، لِأَمْرَيْنِ عَمِلَ الْمُسْلِمُونَ بِهِمَا وَلَمْ يَتَنَاكَرُوهُمَا، أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ س عَهِدَ بِهَا إلَى عُمَرَ س فَأَثْبَتَ الْمُسْلِمُونَ إمَامَتَهُ بِعَهْدِهِ...".
10. ابن قدامة في المغني: "وَعُمَرَ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ بِعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ إلَيْهِ، وَأَجْمَعَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَبُولِهِ".
11. أبو نعيم الأصبهاني في كتاب تثبيت الإمامة: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ثنا بشر بن موسى ثنا خلاد بن يحيى ثنا هارون بن أبي إبراهيم عن عبد الله بن عبيد يعني ابن عمير قال: قال أبو بكر س: "إني كنت أخاف أن أفوتكم بنفسي قبل أن أعهد إليكم، وإني أمرت عليكم عمر بن الخطاب س فاسمعوا له وأطيعوا". قال: فتخلف رجل من القوم قال: ما تقول لربك إذا لقيته وأنت تعلم من فظاظته وغلظته ما تعلم؟ قال: "بربي تخوفني؟ أقول له: اللهم أمرت عليهم خير أهلك".
12. ابن سعد في الطبقات: "عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومحمد بن ابراهيم بن الحارث التميمي وعبد الله البهي، دخل حديث بعضهم في حديث بعض أن أبا بكر قال: إني استخلفت عليكم بعدي عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا...".
13. ابن أبي شيبة في المصنف: حَدَّثَنَا ابْنُ إدْرِيسَ, عَنْ إسْمَاعِيلَ, عَنْ زُبَيْدٍ, قَالَ: لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا بَكْرٍ الْوَفَاةُ أَرْسَلَ إِلَى عُمَرَ لِيَسْتَخْلِفَهُ, قَالَ: فَقَالَ النَّاسُ: اسْتَخْلَفْت عَلَيْنَا فَظًّا غَلِيظًا, فَلَوْ مَلَكَنَا كَانَ أَفَظَّ وَأَغْلَظَ, مَاذَا تَقُولُ لِرَبِّكَ إذَا أَتَيْته وَقَدِ اسْتَخْلَفْت عَلَيْنَا, قَالَ: أَتُخَوِّفُونِي بِرَبِّي, أَقُولُ: اللَّهُمَّ أَمَّرْت عَلَيْهِمْ خَيْرَ أَهْلِك.
14. هناد في الزهد: حدثنا عبدة عن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي قال: لما حضرت أبا بكر الوفاة بعث إلى عمر ليستخلفه، فقال الناس: أتستخلف علينا فظا غليظا ولو قد ملكنا كان أفظ وأغلظ؟! فماذا تقول لربك إذ أتيته وقد استخلفت علينا عمر؟ فقال أبو بكر: "أتخوفوني بربي؟ أقول: يا رب، أمرت عليهم خير أهلك". ثم بعث إلى عمر، فقال: "إني موصيك بوصية إن حفظتها. فإن لله حقا في الليل لا يقبله في النهار، وإن لله حقا في النهار لا يقبله في الليل، وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدى الفريضة، وإنما ثقلت موازين من ثقلت يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا وثقله عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه يوم القيامة إلا الحق أن يكون ثقيلا، وإنما خفت موازين من خفت يوم القيامة باتباعهم الباطل في الدنيا وخفته عليهم، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف، إن الله ذكر أهل الجنة بصالح ما عملوا وتجاوز عن سيئاتهم، فيقول القائل: لا أبلغ هؤلاء، وذكر أهل النار بسوء ما عملوا، إنه رد عليهم صالح الذي عملوا، فيقول القائل: أنا أفضل من هؤلاء. وذكر آية الرحمة وآية العذاب. فليكن المؤمن راغبا وراهبا فلا يتمنى على الله غير الحق، ولا تلق بيدك إلى التهلكة، فإن حفظت قولي لم يكن غائب أحب إليك من الموت، ولا بد لك منه، وإن أنت ضيعت قولي لم يكن غائب أبغض إليك من الموت ولن تعجزه".
قُلتُ: هذا الأثر رواه أبو يوسف في الخراج وابن شبة في تاريخ المدينة المنورة وابن عساكر في تاريخ دمشق.
15. أحمد في مسنده وصححه الحافظ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ س وَبِيَدِهِ عَسِيبُ نَخْلٍ وَهُوَ يُجْلِسُ النَّاسَ يَقُولُ: اسْمَعُوا لِقَوْلِ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ص فَجَاءَ مَوْلًى لِأَبِي بَكْرٍ س يُقَالُ لَهُ شَدِيدٌ بِصَحِيفَةٍ فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ س: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَوَاللَّهِ مَا أَلَوْتُكُمْ. قَالَ قَيْسٌ: فَرَأَيْتُ عُمَرَ س بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ.
قُلتُ: وجه الاستدلال أنه أمرهم أن يسمعوا ويطيعوا، ولا يكون ذلك إلا لأمير لا لمجرد مرشح.
16. مسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَتْ: أَعَلِمْتَ أَنَّ أَبَاكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: مَا كَانَ لِيَفْعَلَ. قَالَتْ: إِنَّهُ فَاعِلٌ. قَالَ: فَحَلَفْتُ أَنِّي أُكَلِّمُهُ فِي ذَلِكَ، فَسَكَتُّ حَتَّى غَدَوْتُ وَلَمْ أُكَلِّمْهُ. قَالَ: فَكُنْتُ كَأَنَّمَا أَحْمِلُ بِيَمِينِي جَبَلًا حَتَّى رَجَعْتُ فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ، فَسَأَلَنِي عَنْ حَالِ النَّاسِ وَأَنَا أُخْبِرُهُ، قَالَ: ثُمَّ قُلْتُ لَهُ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ مَقَالَةً فَآلَيْتُ أَنْ أَقُولَهَا لَكَ، زَعَمُوا أَنَّكَ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ، وَإِنَّهُ لَوْ كَانَ لَكَ رَاعِي إِبِلٍ أَوْ رَاعِي غَنَمٍ ثُمَّ جَاءَكَ وَتَرَكَهَا رَأَيْتَ أَنْ قَدْ ضَيَّعَ، فَرِعَايَةُ النَّاسِ أَشَدُّ. قَالَ: فَوَافَقَهُ قَوْلِي فَوَضَعَ رَأْسَهُ سَاعَةً ثُمَّ رَفَعَهُ إِلَيَّ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ ﻷ يَحْفَظُ دِينَهُ، وَإِنِّي لَئِنْ لَا أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص لَمْ يَسْتَخْلِفْ، وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَدْ اسْتَخْلَفَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ ذَكَرَ رَسُولَ اللَّهِ ص وَأَبَا بَكْرٍ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَعْدِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ ص أَحَدًا وَأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْلِفٍ.
قُلتُ: إن عمر رشح الستة للخلافة ليختار المسلمون واحدا منهم، وحصر الخلافة في واحد منهم، ومع ذلك فإن ابن عمر يقول أنه غير مستخلف. وفعلا فإنه لم يستخلف كما ثبت في حديث ابن عباس عند أحمد وفيه أن عمر نفسه قال: "وَلَمْ أَسْتَخْلِفْ عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةً". روى أحمد باسناد صححه أحمد شاكر قال: "حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ وَعَفَّانُ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيِّ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَتَى عُمَرَ س حِينَ طُعِنَ، فَقَالَ: احْفَظْ عَنِّي ثَلَاثًا، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ لَا يُدْرِكَنِي النَّاسُ: أَمَّا أَنَا فَلَمْ أَقْضِ فِي الْكَلَالَةِ قَضَاءً، وَلَمْ أَسْتَخْلِفْ عَلَى النَّاسِ خَلِيفَةً، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ عَتِيقٌ. فَقَالَ لَهُ النَّاسُ: اسْتَخْلِفْ. فَقَالَ: أَيَّ ذَلِكَ أَفْعَلُ فَقَدْ فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنْ أَدَعْ إِلَى النَّاسِ أَمْرَهُمْ فَقَدْ تَرَكَهُ نَبِيُّ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ، وَإِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ س..." الحديث. فهذا عمر وابن عمر وابن عباس يقولون أنه لم يستخلف، مع أنه حصر المرشحين للخلافة، أي لم يؤمِّر كما فعل أبو بكر. فالاستخلاف فعله أبو بكر ولم يفعله عمر. ما يدل على أن الاستخلاف تأمير لا مجرد ترشيح وإلا لما صحَّ أن يُقال عمر لم يستخلف. ولو كان الاستخلاف ترشيحا لصحّ أن يقال عمر استخلف.
17. البخاري عن ابن عمر م قال: قِيلَ لِعُمَرَ: أَلَا تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدْ اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي رَسُولُ اللَّهِ ص. فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ فَقَالَ: رَاغِبٌ رَاهِبٌ، وَدِدْتُ أَنِّي نَجَوْتُ مِنْهَا كَفَافًا لَا لِي وَلَا عَلَيَّ، لَا أَتَحَمَّلُهَا حَيًّا وَلَا مَيِّتًا.
قُلتُ: وجه الاستدلال يُفهم من قول عمر "لا أتحملها حيا وميتا"، يعني أنه لا يريد أن يستخلف، ولو كان الاستخلاف ترشيحا فقد فعله، ولكنه ليس كذلك. ثم إنه لا يريد أن يتحمل تبعة الاستخلاف بعد موته، فإنه قد تحمل تبعة الخلافة في حياته فلا يرغب في تحمل التبعة بعد موته، وذلك لا يكون إلا إذا كان الاستخلاف تأميرًا.
فإن قيل لو كان الاستخلاف عقدًا وتأميرًا لما احتاج المستخلَف إلى بيعة من الناس، قيل في الجواب: إن البيعة من الناس هي بيعة على الطاعة، وهي التي كانت تسمى بيعة العامة. روى البخاري: "عن أنس بن مالك س أَنَّهُ سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الْآخِرَةَ... وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ ص ثَانِيَ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ بِأُمُورِكُمْ فَقُومُوا فَبَايِعُوهُ. وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ. وَكَانَتْ بَيْعَةُ الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ...". وروى ابن اسحق باسناد صححه ابن كثير عن أنس قال: "قال عمر: وإن الله قد جمع أمركم على خيركم صاحب رسول الله ص وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه." ففي حديث أنس الأول عند البخاري صرح أنس أن البيعة الثانية التي كانت في المسجد على المنبر هي بيعة العامة أي بيعة الطاعة، وهي غير بيعة الانعقاد التي كانت في السقيفة. وفي حديثه الثاني يروي أن عمر قال: "إن الله قد جمع أمركم على خيركم" فجمع الأمر قد حصل في السقيفة، أي أنهم صاروا جماعة على إمام. ويؤكد هذا أيضا ما رواه الطبري: "عن الوليد بن جميع الزهري قال: قال عمرو بن حرث لسعيد بن زيد: أشهدت وفاة رسول الله ص؟ قال: نعم، قال: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله ص، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة"، فهذا سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل س وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة يقول أن الجماعة على أبي بكر كانت يوم الاثنين، وذلك في قوله: "يوم مات رسول الله ص، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة" وهذا الكلام بمنطوقه يدل على أن أبا بكر بويع يوم الاثنين وهو اليوم الذي مات فيه رسول الله ص، وببيعته كانت الجماعة، وأما ما حصل يوم الثلاثاء فهو بيعة العامة أو بيعة الطاعة. وهذا يؤكد بما لا يدع مجالا لخلاف أن الاستخلاف تأمير وليس ترشيحا.
18. ابن حبان في الثقات قال: "فلما حانت منية أبى بكر رحمة الله عليه أغتسل قبلها يوم الاثنين لسبع خلون من جمادى الآخرة وكان يوما باردا فحمّ خمسة عشر يوما حتى قطعته العلة عن حضور الصلاة وكان يأمر عمر بن الخطاب أن يصلي بالناس، وكان الناس يعودونه وهو في منزله الذي أقطع له النبي ص وِجاه دار عثمان بن عفان اليوم. فبينا هو في ليلة من الليالي عند نسائه أسماء بنت عميس وحبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبى زهير وبناته أسماء وعائشة وابنه عبد الرحمن بن أبى بكر إذ قالت عائشة: أتريد أن تعهد إلى الناس عهدا؟ قال: نعم. قالت: فبيِّن للناس حتى يعرفوا الوالي بعدك. قال: نعم. قالت عائشة: إن أولى الناس بهذا الامر بعدك عمر. وقال عبد الرحمن بن أبى بكر: إن قريشا تحب ولاية عثمان بن عفان، وتبغض ولاية عمر لغلظه. فقال أبو بكر: نِعْمَ الوالي عمر، وما هو بخير له أن يلي أمر أمة محمد، أما إنه لا يقوى عليهم غيره، إن عمر رآني لينا فاشتد، ولو كان واليا للان لأهل اللين واشتد على أهل الريب. فلما أصبح دعا نفرا من المهاجرين والأنصار يستشيرهم في عمر منهم عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص وسعيد بن زيد، فقال لعبد الرحمن بن عوف: يا أبا محمد أخبرني عن عمر. فقال يا خليفة رسول الله، هو والله أفضل من رأيك فيه من رجل ولكن فيه غلظة. فقال لعبد الرحمن بن عوف: ذلك لأنه رآني لينا فاشتد، ولو آل إليه الامر لترك كثيرا مما هو عليه اليوم، إني إذا غضبت على الرجل أراني الرضا عنه، وإذا لنت له أراني الشدة عليه، لا تذكر يا أبا محمد مما ذكرت لك شيئا. قال: نعم. ثم دعا عثمان بن عفان، فقال: يا أبا عبد الله، أخبرني عن عمر. فقال: أنت أخبر به. فقال أبو بكر: فعلى ذلك. قال: إن علمي أن سريرته خير من علانيته، وأن ليس فينا مثله. قال: يرحمك الله يا أبا عبد الله، لا تذكر مما ذكرت لك شيئا. قال: أفعل. فقال له أبو بكر: لو تركته ما عدوتك، وما أدري لعلي تاركه، والخيرة له أن لا يلي أمركم، ولوددت أنى أخلو من أمركم، وأني كنت فيمن مضى من سلفكم. ثم قال لعثمان: اكتب، هذا ما عهد أبو بكر بن أبي قحافة إلى المسلمين، أما بعد، ثم أغمى عليه فذُهب به. فكتب عثمان: أما بعد، فقد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلكم خيرا. ثم أفاق أبو بكر فقال: اقرأ عليّ. فقرأ عليه ذكر عمر، فكبَّر أبو بكر فقال: جزاك الله عن الاسلام خيرا، ثم رفع أبو بكر يديه فقال: اللهم وليته بغير أمر نبيك، ولم أرد بذلك إلا صلاحهم، وخفت عليهم الفتنة فعملت فيهم بما أنت أعلم به، وقد حضر من أمري ما قد حضر، فاجتهدت لهم الرأي فوليت عليهم خيرهم لهم وأقواهم عليه، وأحرصهم على رشدهم، ولم أرد محاباة عمر، فاجعله من خلفائك الراشدين، يتبع هدى نبي الرحمة، وهدى الصالحين بعده، وأصلح له رعيته. وكتب بهذا العهد إلى الشام، إلى أمراء الاجناد أن قد وليت عليكم خيركم ولم آل لنفسي ولا للمسلمين خيرا".
قُلتُ: أبو بكر يقول في دعائه "فوليت عليهم خيرهم" والترشيح ليس ولاية. ويقول في عهده "قد وليت عليكم خيركم" والولاية تأمير لا ترشيح.
والاستخلاف لا يتعارض مع كون السلطان للأمة والدليل على ذلك الاجماع والقياس، ومستند الإجماع ما يلي:
أ‌- الصحابة أجمعوا على بقاء الولاة والعمال على رأس عملهم بعد وفاة الخليفة الذي قلّدهم العمل، واستمرارهم في تنفيذ أوامره حتى يأتيهم جديد، فلا ينعزلون بموته.
ب‌- روى ابن سعد في الطبقات باسناد صححه الحافظ في الفتح عن ابن عمر قال: "دخل الرهط على عمر... فقال عمر: "أمهلوا فإن حدث بي حدث فليصل لكم صهيب ثلاث ليال ثم اجمعوا أمركم، فمن تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه". فأطاع الصحابة أمر عمر هذا بعد موته وصلى بهم صهيب وأجمعوا أمرهم على بيعة عثمان في اليوم الثالث.
وأما القياس فإنه يجوز للوالد أن يعين وصيا على أولاده الصغار بعد موته. وتعيينه هذا نافذ، وعلى القاضي أن يمضيه، وكذلك الخليفة النائب عن الأمة في إجراء الأحكام له أن يستخلف، واستخلافه نافذ على الأمة.
وينبغي ان يُدقّق في أمر الإجماع بحيث يكون حق الخليفة في الاستخلاف في حدود ما فعله كل من أبي بكر وعمر، وهو ما أجمع عليه الصحابة. والمدقق يرى أن الشيخين م لم يستخلفا بناء على الهوى، ولا آثرا ذا قرابة، وإنما نظرا للمسلمين، ولم يألوا جهدًا، فأبو بكر من بني تيم واستخلف عمر من بني عدي. وعمر حصر الشورى في عثمان من بني أمية، وعلي من بني هاشم، وطلحة من بني تيم، والزبير من بني أسد بن عبد العزى، وعبد الرحمن بن عوف من بني زهرة، وسعد بن أبي وقاص من بني زهرة أيضا. ورغم أن سعيد بن زيد من العشرة المبشرين بالجنة فإن عمر لم يشركه في الشورى لأنه من بني عدي.
وأما رواية الطبري عن ابن حميد أن أبا بكر قال للناس: "أترضون بمن أستخلف عليكم؟ فإني والله ما ألوت من جهد الرأي، ولا وليت ذا قرابة" يعني أنه ترك الأمر للناس, وهذا يدل على أن السلطان لهم, وأن استخلاف أبي بكر لعمر كان مجرد ترشيح ولم يكن تأميرا, هذه الرواية مردودة لما يلي:
أ‌- أنها رواية ضعيفة لضعف ابن حميد فهو مجروح جرحا مبين السبب، وهذا نوع من الجرح يقدم على التعديل. فلينظر ما قاله فيه علماء الجرح والتعديل.
ب‌- أنها تخالف الرواية الصحيحة عند أحمد السابقة عن قيس بن أبي حازم وفيها: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَوَاللَّهِ مَا أَلَوْتُكُمْ". ففي هذه الرواية الصحيحة يأمرهم بالسمع والطاعة، وفي الرواية الضعيفة يقول لهم "أترضون".
وبهذا يثبت أن الاستخلاف تأمير لا ترشيح، وهذا إجماع من الصحابة لا مجال لخلافه.

المسألة الحادية عشرة

هل يكون الذي بويع بيعة الخاصة أي بيعة الانعقاد خليفة واجب الطاعة؟ أم لا بد من بيعة الطاعة أي بيعة العامة حتى يكون كذلك؟


يصبح المبايع بيعة الخاصة واجب الطاعة بمجرد حصول هذه البيعة أي بيعة الانعقاد، فأبو بكر صار واجب الطاعة منذ أن بويع يوم الاثنين في السقيفة، وعمر صار خليفة واجب الطاعة منذ استخلفه أبو بكر في كتابه الذي قرأه مولاه على الناس، وعثمان أصبح خليفة واجب الطاعة منذ بايعه عبد الرحمن بن عوف عن نفسه ونيابة عن الأربعة الباقين لأن عمر أعطى الستة صلاحية عقد الخلافة لأحدهم. وكل هذا كان على مرأى ومسمع الصحابة فلم ينكروه فكان إجماعا على أن المبايع بيعة الانعقاد يصير بها واجب الطاعة. وفيما يلي مستند هذا الإجماع:
1. الطبري في تاريخه عن الوليد بن جميع الزهري قال: قال عمرو بن حرث لسعيد ابن زيد: أشهدت وفاة رسول الله ص؟ قال: نعم، قال: فمتى بويع أبو بكر؟ قال: يوم مات رسول الله ص، كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة.
قُلتُ: الجماعة لا تكون إلا على إمام واجب الطاعة. وهذا كان حال أبي بكر يوم توفي رسول الله ص أي يوم الاثنين. فبمجرد بيعة أبي بكر في السقيفة كانت الجماعة، ولو لم يكن الأمر كذلك لما قال سعيد بن زيد ما قال. فكلامه صريح في أن البيعة حصلت يوم الاثنين وبهذه البيعة كانت الجماعة. وهذا خبر من سعيد وليس رأيا له. فهو يخبر أن البيعة كانت يوم الاثنين، وأن الجماعة كانت بنفس البيعة، وعلّل الاسراع في البيعة بكراهية الصحابة أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة. ولو كانت الجماعة لم تحصل إلا يوم الثلاثاء بعد البيعة العامة على المنبر لما صحّ هذا الكلام، إذ يوم الثلاثاء تكون الجماعة قد تأخرت أكثر من يوم، وأيضا فإن سعيدا أخبر أنها كانت في اليوم الذي توفي فيه رسول الله ص لا في اليوم التالي.
2. ابن كثير في البداية والنهاية: وقال محمد بن إسحاق بن يسار: حدثني الزهري حدثني أنس بن مالك قال: لما بويع أبو بكر في السقيفة وكان الغد جلس أبو بكر فقام عمر فتكلم قبل أبي بكر فحمد الله وأثنى عليه لما هو أهله ثم قال: أيها الناس... وإن الله قد جمع أمركم على خيركم، صاحب رسول الله ص وثاني اثنين إذ هما في الغار، فقوموا فبايعوه. فبايع الناس أبا بكر بعد بيعة السقيفة... وهذا إسناد صحيح.
قُلتُ: قول عمر: "وإن الله قد جمع أمركم على خيركم" هذا القول المؤكد بإنّ يفيد أن الجماعة على أبي بكر قد كانت في اليوم السابق، ولو كانت لا تحصل إلا بعد بيعة الطاعة لما صحّ كلام عمر، فقد استعمل صيغة الماضي فقال: "قد جمع" ولو كانت لم تحصل يوم الاثنين وأنها لا تكون إلا بعد بيعة العامة لقال: "سيجمع". وهذا الكلام من عمر كان على مسمع من الصحابة وعلى المنبر، ويكفي وحده مستندا لهذا الاجماع.
3. أبو نعيم الأصبهاني في كتاب فضائل الخلفاء الأربعة وفي كتاب الإمامة والرد على الرافضة: حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن ثنا بشر بن موسى ثنا خلاد بن يحيى ثنا هارون بن أبي إبراهيم عن عبد الله بن عبيد يعني ابن عمير قال: قال أبو بكر س: إني كنت أخاف أن أفوتكم بنفسي قبل أن أعهد إليكم، وإني قد أمرت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا. قال: فتخلف رجل من القوم فقال: ما تقول لربك ﻷ إذا لقيته وأنت تعلم من فظاظة عمر وغلظته ما تعلم؟ قال: أبربي تخوفونني؟! أقول له: اللهم أمرت عليهم خير أهلك.
قُلتُ: قول أبي بكر "أمّرتُ" بصيغة الماضي كان قبل بيعة الطاعة وهذا يعني أن عمر صار أميرا واجب الطاعة بمجرد استخلاف أبي بكر له دون حاجة إلى بيعة العامة. وقوله بعد ذلك: "فاسمعوا له وأطيعوا" تأكيد لهذا التأمير، فهو يخبرهم بأنه أمّره ويأمرهم بالسمع والطاعة له، ولم يكن عمر قد بويع بيعة الطاعة. وليس لهم أن يرفضوا بيعة الطاعة، فهم غير مختارين في هذه البيعة، بل عليهم أن يبايعوا الأمير الذي استخلفه أبو بكر.
4. أبو يوسف في كتاب الخراج وابن أبي شيبة في المصنف وهناد في الزهد وابن شبة في تاريخ المدينة المنورة واللفظ له: عن إسماعيل بن أبي خالد عن زبيد اليامي قال: لما حضرت أبا بكر الوفاة بعث إلى عمر يستخلفه. فقال الناس: استخلف علينا فظا غليظا لو قد ملكنا كان أفظ وأغلظ، فماذا تقول لربك إذا لقيته وقد استخلفت علينا عمر؟ فقال أبو بكر: أتخوفوني بربي؟! أقول: يا رب أمّرت عليهم خير أهلك.
قلتُ: في هذه الرواية زيادة في القائلين، ففي رواية أبي نعيم: "فتخلف رجل من القوم فقال"، وفي رواية ابن شبة: "فقال الناس". وقول أبي بكر: "أمّرت" دليل على أن عمر صار أميرا بالاستخلاف وقبل بيعة الطاعة.
5. أحمد باسناد صححه أحمد شاكر وقال الهيثمي رجاله رجال الصحيح: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ س وَبِيَدِهِ عَسِيبُ نَخْلٍ وَهُوَ يُجْلِسُ النَّاسَ يَقُولُ: اسْمَعُوا لِقَوْلِ خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَجَاءَ مَوْلًى لِأَبِي بَكْرٍ س يُقَالُ لَهُ شَدِيدٌ بِصَحِيفَةٍ فَقَرَأَهَا عَلَى النَّاسِ، فَقَالَ: يَقُولُ أَبُو بَكْرٍ س اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ فَوَاللَّهِ مَا أَلَوْتُكُمْ. قَالَ قَيْسٌ: فَرَأَيْتُ عُمَرَ س بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الْمِنْبَرِ.
قُلتُ: قول أبي بكر: "اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا لِمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ" يدل أن ما فيها واجب الطاعة قبل أن يبايعوه، بل هنالك فهم يحتمله النص أن ما فيها مبهم لا يعرفونه، وقد أمرهم أبو بكر بطاعته، وسواء عرفوا ما في الصحيفة أم لم يعرفوه فإنهم أمروا بطاعته قبل أن يبايعوه، وهذا يدل دلالة واضحة على أن بيعة الطاعة ليست شرطا في طاعة المستخلَف، بل هو أمير بالاستخلاف كما كان أبو بكر أميرا بمجرد بيعة الانعقاد.
وبهذه المستندات الخمسة يثبت أن من يبايع بيعة الانعقاد أو يُستخلف من الخليفة الذي سبقه هو خليفة واجب الطاعة قبل بيعة الطاعة. وهنا يثور سؤال وهو: إذا كان الأمر كذلك فما الفائدة من بيعة العامة وما المُراد منها؟ والجواب أن المراد من بيعة العامة هو إظهار الطاعة والانقياد لمن انعقدت له الخلافة، ولمعرفة من يبغي ويخرج عن الطاعة كما حصل زمن علي. والبغي لا يؤثر في بيعة الانعقاد، بل يكون المبايع خليفة وتجب مقاتلة البغاة حتى يفيئوا إلى الطاعة.

المسألة الثانية عشرة

هل يجوز خلع أمير الخاصة ومتى؟


أمير الخاصة كأمير الجيش أو السرية أو أمير الرفقة أو أمير الحزب يجوز خلعه إذا لم يمض لأمر من أمَّره. فأمير الجيش يؤمره الخليفة وكذلك أمير السرية. وأمير الرفقة تؤمره الرفقة. وأمير الحزب يؤمره أعضاء الحزب أو لجنة انتخاب الأمير. وهؤلاء الأمراء إذا لم يمضوا لأمر من أمَّرهم جاز للمأمورين خلعهم. بدليل ما رواه أبو داود وحسنه الألباني ورواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي ورواه أحمد وصححه الزين عن عقبة بن مالك قال: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ص سَرِيَّةً، فَسَلَّحْتُ رَجُلًا سَيْفًا. قَالَ: فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا لَامَنَا رَسُولُ اللَّهِ ص قَالَ: "أَعَجَزْتُمْ إِذْ بَعَثْتُ رَجُلًا فَلَمْ يَمْضِ لِأَمْرِي أَنْ تَجْعَلُوا مَكَانَهُ مَنْ يَمْضِي لِأَمْرِي؟".
فإذا أمَّر الخليفة أميرا على جيش أو سرية وأمره أن يرابط في ثغر (أ)، فلم يمض لأمر الخليفة وذهب للرباط في الثغر (ب)، فإنه يكون عاصيا، ولا تجوز طاعته وعلى الجند في مثل هذه الحال أن يخلعوه ويجعلوا مكانه أميرا غيره لتنفيذ أمر الخليفة. وإذا انقسم الجيش إلى قسمين، قسم مع الأمير وقسم مع أمر الخليفة فالقسم الذي مع الأمير بغاة، ويعاملون معاملتهم.
وإذا أمّرت الرفقة أميرا في سفرهم لأداء العمرة فتوجه بهم إلى غير مكة للسياحة في بلد مجاور لبلدهم فإن لهم أن يخلعوه في الحال ويؤمروا مكانه من يقودهم إلى العمرة. وإن رضوا بما فعله الأمير الأول من تحويل وجهة سفرهم من مكة إلى مكان السياحة، ورضوا بما فعل، جاز لهم أن يبقوه أميرا، لأنه لم يوقعهم في معصية، بخلاف أمير الجيش أو السرية الذي خالف أمر الخليفة فإنه لا يحل لهم أن يتابعوه ويطيعوه.
وإذا أمّر أفراد الحزب أميرا لتحقيق غاية محددة بطريقة محددة، فغيّر الغاية بحيث صار الحزب غير مجزيء ولا مبريء للذمة، أو غيّر الطريقة بحيث صارت غير شرعية، ففي هاتين الصورتين عليهم أن يخلعوا الأمير، ويجعلوا مكانه أميرا يمضي إلى الغاية المجزئة بالطريقة الشرعية، لأنه أوقعهم في المعصية. مثال تغيير الغاية أن تكون غايتهم إقامة الخلافة على منهاج النبوة فيغيرها الأمير إلى تحسين أخلاقهم وأخلاق الناس أو إلى إقامة جمهورية إسلامية. ومثال تغيير الطريقة أن تكون الطريقة هي نفس طريقة محمد ص في إقامة الدولة، فيغير الأمير قطعيًا منها كإلغاء التثقيف بمبدأ الإسلام.

المسألة الثالثة عشرة

أيهما أفضل للمتفرغ لمصالح المسلمين، أن يأخذ تعويضا أم لا؟


المتفرغ لمصالح المسلمين إما أن يكون غنيًا عن التعويض أو أن يكون محتاجا إليه، وإن كان غنيًا عنه فلا يخلو من أن يشتغل بتنمية ماله أو لا يشتغل، مثال الحال الأولى أي أن يكون مشتغلاً بتنمية المال أو بالكسب كمن يشتغل برعي غنمه أو بالإشراف على تجاراته أو على عقاراته. ومثال الثانية أن يكون له عطاء من الدولة لا يشغله أو تقاعد، أو مال يعطيه مضاربة، أو ما يشبه هذا مما لا يشغل ذهن المتفرغ. فهذه أحوال ثلاث:
الأولى أن يكون محتاجا إلى التعويض فينبغي أن يأخذه ليتفرغ للمصلحة التي وُكلت إليه. ودليل ذلك إجماع الصحابة على تعويض أبي بكر من بيت المال ومنعه من مزاولة التجارة. روى ابن سعد في الطبقات بإسناد قال عنه الحافظ في الفتح مرسل رجاله ثقات، قال: أخبرنا عطاء بن السائب قال: "لما استخلف أبو بكر أصبح غاديًا إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتجر بها، فلقيه عمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح فقالا له: أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال: السوق، قالا: تصنع ماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له: انطلق حتى نفرض لك شيئا، فانطلق معهما ففرضوا له كل يوم شطر شاة وماكسوه في الرأس والبطن. فقال عمر: إليّ القضاء، وقال أبو عبيدة: وإليّ الفيء. قال عمر: فلقد كان يأتي علي الشهر ما يختصم إلي فيه اثنان". وروى ابن سعد عن ميمون بن مهران قال: "لما استخلف أبو بكر جعلوا له ألفين فقال: زيدوني فإن لي عيالا وقد شغلتموني عن التجارة. قال: فزادوه خمسمائة. قال: إما أن تكون ألفين. فزادوه خمسمائة أو كانت ألفين وخمسمائة فزادوه خمسمائة".
ومستند هذا الاجماع أنه كان على مرأى ومسمع من الصحابة فلم ينكره منكر, بل إن رواية عطاء فيها: "ففرضوا، وماكسوه" بصيغة الجمع، لا بصيغة التثنية فاللذان لقياه عمر وأبو عبيدة ولو كان الفعل لهما وحدهما لقال: "ففرضا، وماكساه". وأيضا في رواية ميمون بن مهران ورد الخبر بصيغة الجمع، ففيها: "جعلوا، زيدوني، شغلتموني، فزادوه"، وهذا يدل على أن الفرض كان من مجموعة من الصحابة والذين لم يشهدوا لم ينكروا فكان إجماعا.
الحال الثانية أن يكون له مال يشغله عن رعاية المصلحة الموكولة إليه، فينبغي أن يفرغ نفسه لرعايتها، وأن يستأجر من يُنمي له المال، أو يوكل، فإن لم يفعل فعليه أن يترك التفرغ حتى لا يقصر في رعاية ما صار مؤتمنا عليه, أما إذا كان الإشراف على ماله لا يمنعه من رعاية المصلحة، وأمكنه القيام بالإشراف والرعاية جميعًا، دون أن يؤثر ذلك على أدائه لما أئتمن عليه، فإن له أن يجمع بين العملين، فيباح له أخذ التعويض.
الحال الثالثة: أن يكون له مال يكفيه ولا يشغله عن التفرغ مطلقا، لا كليًّا ولا جزئيًّا، فيندب له أخذ التعويض بدليل ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر قال: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ ص يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا فَقُلْتُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ ص: "خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ -وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ- فَخُذْهُ وَمَالَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ". وما رواه البخاري أيضا عن عبد الله بن السعدي: أَنَّهُ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِي خِلَافَتِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِيَ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ أَعْمَالًا فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟ فَقُلْتُ: بَلَى. فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا تُرِيدُ إِلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: إِنَّ لِي أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا وَأَنَا بِخَيْرٍ وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِي صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ. قَالَ عُمَرُ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِي أَرَدْتَ فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ النَّبِيُّ ص: "خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ -وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ- فَخُذْهُ وَإِلَّا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ". ولما كان التعويض هو مال يفرضه صاحب الصلاحية من بيت المال للمتفرغ بحيث يكفيه ومن يعول، فإن أخذه أولى من أخذ العطاء دون مقابل، فعمر أمر السعدي بأن يأخذ عُمالته –بضم العين- أي أجرته بناء على أن الأجرة يُندب أخذها من باب أولى، وكذلك التعويض. فالعُمالة والتعويض يندب أخذهما من باب أولى، أي من العطاء. هذا إذا كانا يختلف معناهما عن العطاء المذكور في حديث عمر. وإن كانا نوعًا من العطاء أخذا حكمه.
ويُشكل هنا ما رواه الفاكهي في أخبار مكة والطبراني في الكبير بإسناد قال الهيثمي فيه يزيد بن أبي زياد وقد وُثق على ضعفه وبقية رجاله ثقات، عن عبد الرحمن بن سابط قال: "دعا عمر بن الخطاب سعيد بن عامر بن حذيم فقال: إني مستعملك على أرض كذا وكذا. قال: لا تفتني. قال: والله لا أدعك، قلدتموها في عنقي. قال عمر س: ألا نفرض لك؟ قال: قد جعل الله في عطاياي ما يكفيني دونه وفضلا على ما أريد. فكان عطاؤه إذا خرج ابتاع لأهله قوتهم وتصدق ببقيته..." الحديث.
والإشكال هنا أن عمر لم يُرشد سعيد بن عامر إلى ما أرشد إليه السعدي، ويمكن رفع هذا الإشكال بالقول إن حديث البخاري صحيح وحديث الطبراني فيه يزيد بن أبي زياد. وعلى فرض أنه يحتج به فإنه رأي لسعيد بن عامر، ولعل سعيد بن عامر كان يفهم من قوله ص: "خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ بِهِ" أنه للإرشاد لا للندب، وهذا قول وصفه ابن حجر أنه الصحيح إذ قال: "وهو أمر إرشاد على الصحيح"، ويعارض هذا الفهم قول عمر في حديث السعدي: "لا تفعل"، ولو كان عمر يفهم أن الأمر في الحديث للإرشاد لا للندب لم يقل "لا تفعل"، والراجح أنه كان يفهم أنه للندب، فلما رفض سعيد بن عامر أن يفرض له قبل منه فهمه. هذا إذا كان حديث ابن سابط مما يُحتج به, وعلى كل حال فإنه لا يعارض الصحيح.

رد مع اقتباس