عرض مشاركة واحدة
 
  #75  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 29

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 29


{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

أعلموا - أيّها المعتنون بفهم معاني الكتاب هداكم الله طريق الصواب - أنّ هاهنا أبحاثاً لفظية بعضها متعلقة بنقوش الحروف وهيئآتها الكَتبيّة، وصُوَر الألفاظ وصفاتها السمعيّة، قد نصب الله لها أقواماً من الكُتّاب والقُرّاء والحفّاظ، وجعلَ غايةَ سعيهم معرفة تجويد قراءتها وتحسين كتابتها وبعضها متعلّقة بمعرفة أحوال الأبنية والاشتقاقات، وأحوال الإعراب والبناء للكلمات، وبعضها متعلّقة بمعرفة أوائل مفهومات اللغات المفردة والمركّبة.

وهذه كلها دون ما هو المقصد الأقصى والمنزل الأسنى. وقد بلغتْ في كل منها طائفة حد المنتهى، وعرجت فيها غاية المدى، قد نصبهم الله لكسب هذه العلوم الجزئية المتوقّف عليها فهم حقائق القرآن، لتكون درجتهم درجة الخوادم والآلات لِما هو بالحقيقة الثمرة والتمام، وما به كمال نوع الإنسان.

فاعلموا أن الكلام مشتمل على عبارة وإشارة، كما أن الإنسان متألّف الوجود من غيب وشهادة، فالعبارةُ لأهل الرعاية، والاشارة لأهل العناية، فالعبارة كالميّت المستتر فى طيّ الأكفان، والاشارة كاللطيفة الذاكرة العارفة التي هي حقيقة الإنسان، والعبارة من عالَم الشهادة، والاشارة من عالَم الغيب، والشهادة ظلّ الغيب، كما أنّ تشخّص الإنسان ظلّ حقيقته.

أما أهل العبارة والكتابة، فقد صرَفوا أعمارَهم في تحصيل الألفاظ والمباني، وغرقت عقولُهم في إدراك البيان والمعاني. وأما اهل القرآن والكلام وأهل الله خاصّة بالمحبّة الإلهية والجذبة الربانية والقرابة النبوية، فقد يسّر الله لهم السبيل، وقَبِل منهم قليل العَمَل للرحيل، وذلك لخلوص نيّتهم، وصفاءِ سريرتهم، فهم لا يحتاجون في فهم حقائق القرآن وغرائب معانيه إلى أن يخوضوا في البحث عن ظواهر ألفاظ الكلام وغرائب القرآن، وضبط هيئاته ومبانيه، وبصرف العمر في معرفة الاشتقاق والإعراب ليصيروا فُرساناً في علم الإعراب، مقدَّمين في جملة الكتاب، ويفرغوا غاية جهدهم في الأوقات والأزمان في تحصيل ما يسمّونه علم المعاني والبيان، وما يجري هذا المجرى في الرتبة والشّأن، بل كفاهم طرف يسير من كل فنّ منها، وجرعة قليلة من كل دنّ من دنّها، أخذاً للزاد، وتعجيلاً لسفر المعاد.

فمن أراد أن يقف على أنه لِمَ طُوِّلت الباءُ في " بسم الله " ومُدّت السين؟ أو لِمَ حُذفت الألف في الخطّ هنا، واثبتت في قوله " باسم ربّك " أو لِمَ أسقطت الألف بعد اللام في " الله " أو هل تفخم لام الجلالة أم لا، فليرجع إلى أهل الخط والقراءة.

ومن أراد أن يقف على أن البسملة ما شأنها في أوائل السور الكريمة. هل هي هناك جزء من كلّ واحدة، أو أنّها جزء من الفاتحة وحدها لا غير، أو أنّها ليست جزء من شيء منها، بل هي آية فذّة من القرآن، أو انزلت للفصل بها بين السور، أو أنها لم تنزل إلا بعض آية في سورة النمل، وليست جزءً من غيرها، وإنما يأتي بها التالي والكاتب في أوائلهن تبرّكاً باسمه تعالى.

-1-

أو أنها آيات من القرآن أنزلت بعَدَد السوَر المصدّرة بها من دون الجزئية لهن، فليرجع إلى أصحاب النقل وأهل الرواية.

ومن أراد أن يعرف بِمَ تعلّقت الباء، وبأي محذوف ارتبطت، ولِمَ قدّر المحذوف متأخّراً مَن قال: إن المراد بسم الله أقرأ أو أتلوا، وقد قدّمه تعالى في قوله إقْرأ بِاسْمِ رَبِّكَ وما معنى تعلق اسم الله بالقراءة. أو كيف يقدر كذلك والقائل هو الله أو كيف بُنيت الباء على الكسرة ومن حقّ حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد أن تُبنى على الفتحة التي هي أخت السكون، نحو كاف التشبيه، ولام الابتداء، وواو العطف، وفائه، وغير ذلك، وأن كلمة الجلالة إسم هي أو صفة مشتقة، أم جامدة، فليرجع إلى مطالعة التفاسير المشهورة، سيّما الكشّاف، فإنه كامل في بابه فائق على أترابه، وإن لكلّ طائفة فيما يعدّونه تقرّباً إلى الله وعبودية له رأياً ومذهباً، والكل باختلاف مشاربهم ومذاهبم إيّاه يطلبون، ونحوه يقصدون، وبما لديهم فرحون، وبما جاء به غيرهم - وإن كان على بيّنة من ربه - يستهزئون " وللناس فيما يعشقون مذاهب " إلا أنّ مذهب أهل الله شيء آخر، ودينهم دين خالص، بل لا مذهب لهم إلا الله ولا دين لهم سواه:

{ أَلاَ لِلَّهِ ٱلدِّينُ ٱلْخَالِصُ } [الزمر39: 3].

مذاهب شتّى للمحبّين في الهوىولي مذهب فرد أعيشُ به وحدي


وهم عِبادُ الرَّحمنِ بالحقيقة، وغيرهم عَبدَة المذاهب والآراء، وطلاّب النفس والهَوى، لأنّ عبادة الرب وطاعته فرعُ معرفته، وطلب قربته، إذ طلب المجهول محال، فمَن لم يكن عارفاً بالله ولا عارفاً بملكوته، فكيف يحبّه ويطلبه ويقصد التقرّب إليه ويتولاّه. ولكن الحق لكمال رأفته ورحمته لعباده وشمول عاطفته وانبساط نور وجوده على الممكنات، وتجلّي وجه ذاته لسائر الموجودات، جعل لكل منهم مثالاً يحتذونه، ومثابة يقصدونها، ومنهاجاً يسلكونه، ووجهة يتولّونها، وقبلة يرضونها، وشريعة يعملون بها فقال:

{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً } [البقرة2: 148]. وقال:
{ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [المائدة5: 48]. الآية، وقال:
{ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } [الروم30: 32].


وهكذا حكم اختلاف المشتغلين بعلم القرآن، وتفاوت مراتبهم في بطونه وظهوره، ولُبابه وقشوره، لأن كلام الله لَمعة من لمعات ذاته، فكما وقع الاختلاف والتفاوت في مذاهب الخلْق واعتقاداتهم لله بين مجسِّمٍ ومنزِّهٍ ومتفلسِفٍ ومعطِّلٍ ومشرِكٍ وموحِّدٍ، فكذا وقع الاختلاف والتفاوت بينهم في الفهوم، فهذا مما دلّ على كمال القرآن، لأنه بحر عميق غرق في تيّاره الأكثرون، وما نجا منه إلاّ الأقلّون، ولا يعلم تأويله إلا الله والراسخون، سواء وقع الوقفُ على الله أم لا، إذ الراسخون إذا علموا تأويله لم يعلموا إلا بالله، ولم يحيطوا به علماً إلا بعد فناء ذواتهم عن ذواتهم، واندكاك جبل هويّاتهم، ولا يحيطون بعلمه إلاّ بما شاء.

-2-

والغرض من هذا الكلام أن علم القرآن مختلف. والأذواق فيه متفاوتة حسب اختلاف أهل الاسلام في المذاهب والأديان، وكل حزب بما لديهم فرِحُون، إلا ان سائر المشتغلين به منهم في وادٍ وأهل القرآن - وهم أهل الله وحزبه - في وادٍ لأنهم من أهل القول والعبارة، وهؤلاء من أهل الكشف والاشارة، ومن أراد أن يتقحّم لجّة هذا البحر العميق، ويخوض غمرته خوض الجَسور لا خوض الجبان الحَذور، كان يجب عليه أولاً أن يطلع على سائر التفاسير، ويتفحّص عن عقيدة كل فِرقة من الفرق الإثنتين والسبعين. ويستكشف أسرار مذاهب كل طائفة من طوائف المسلمين، ليميز بين محقّ ومبطل، ومتديّن ومبتدع، ويكون كما حكى الشيخ أبو حامد عن نفسه: لا يغادر باطنيّا إلاّ ويريد أن يطّلع على بطانته، ولا ظاهرياً الاّ ويقصد أن يعلم حاصل ظهارته، ولا فيلسوفاً إلا ويتحرّى الوقوف على كنه فلسفته ولا متكلّماً إلا ويجتهد في الاطلاع على غاية كلامه ومجادلته، ولا صوفيّاً إلا ويحرص على العثور على سرّ صفوته، ولا زنديقاً أو معطّلاً إلا ويتجسس للتنبّه لأسباب جرأته في زندقته أو تعطيله، وكان لم يزل التعطّش إلى درك حقائق الأمور دأبه وديدنه وغريزياً له، فطرة من الله في جِبِلّته لا باختياره وحيلته، حتّى انحلّت عن قلبه رابطة التقليد، وانكسرت عليه سفينة العقائد الموروثة على قرب الصُبى من الآباء والأساتيذ. إذ قد رأى صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصّر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهوّد، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم على الإسلام، كما دل عليه الحديث المروي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): " كُلّ مولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطرَةِ فَأبَواهُ يُهودانَه وَينصّرانَه ويُمجّسانه " فإذا بلغ إلى هذا المقام من التحيّر والانضجار والانكسار، والتهبت نارُ نفسه الكامنة فيه لغاية الاضطرار، واشتَعل كبريتُ قلبه ناراً من حدّة غضبه على نفسه لمّا رآها بعين النقص والاحتقار، وكان زيت نور الايمان في قلبه يكاد يضيء ولو لم تمسسه نار، فوقع عليه نور الأنوار، وانكشف له سرُّ من عالم الأسرار، رأى بذلك النور الجلىّ أصل كل نظر دقيق، وشاهَد بذلك السرّ الخفيّ غاية كلّ شك وتحقيق، ونهاية كلّ مبحث عميق، وبه يحصل له الاقتدار على معرفة أسرار القرآن العظيم واستيضاح لطائف كتاب الله العليم، ومعجزة رسوله الكريم عليه وآله الصلاة والتسليم.

فعند ذلك يخوض فيه ويغوص في بحار معانيه، ويستخرج درراً ويواقيت ينعكس لمعانها على أعين الناظرين في سواحله، وأسماع الواقفين على حواليه، وما ينكشف منها للآدميّين فهو قدْر يسير بالاضافة إلى ما لم ينكشف، لأنه مما استأثره الله بعلمه، فربما تجد أيّها الناظر بعين المروّة والاشفاق من هذا الجنس في هذه الأوراق إن كنت من أهله، وإلاّ فغضّ بصرَك عن ملاحظة أسرار معرفة الله، ولا تنظر إليها ولا تنسرح في ميدان معرفة معاني الوحي والقرآن، واشتغِل بأشعار شعراء العرب وغرائب النحو وعلوم الأدب والفروع، ونوادر الطلاق والعتاق، وحِيَل المجادلة في البحث والمراوغة في الكلام، وسائر الحكايات والمواعظ التي فيها مصيَدةُ العوام، ومجلَبةُ الجاه والحُطام، والغلبة في الخصام، فذلك أليق بك، فإنّ قيمتك على مقدار همّتك، وقصدك على سمْت رتبتك، ولا ينفعكم نصحي ان اردت ان انصح لكم إن كان الله يريد أن يغويَكم من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم.

-3-

فصل

[الاسم]

إسم الإسم موضوع في اللغة للَفظٍ دالٍ على معنى مستقل، لأنّه مشتقٌّ من السِمَة وهي العلامة، فكأنّه كان منقولاً لغوياً نقل من مطلق العلامة للشيء إلى علامة خاصّة، وهو اللفظ الدّال عليه بالاستقلال، ولمّا كان نظرُ العرفاء إلى أصل كلّ شيء وملاك أمره من غير احتجابهم بالخصوصيات ومواد الأوضاع، كان الاسم عندهم أعمّ وأشمل من أن يكون لفظاً مسموعاً، أو صورة معلومة، أو عيناً موجوداً.

ويشبه أن يكون عرفهم يطابق عرف القرآن والحديث، فإنّ الاسم في قوله تعالى:

{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبِّكَ ٱلأَعْلَىٰ } [الأعلى87: 1]. وقوله:
{ تَبَارَكَ ٱسْمُ رَبِّكَ ذِي ٱلْجَلاَلِ وَٱلإِكْرَامِ } [الرحمن55: 78]،


مستبعد أن يكون المراد به الحرف والصوت وما يلتئم منهما، لانهما من عوارض الأجسام، وما هو كذلك يكون أخسّ الأشياء، فكيف يكون مسبّحاً مقدّساً، والقول بكونه من قبيل مجاز الحذف، أو المجاز في التشبيه، بعيد من غير ضرورة داعية مع وجود معنى حقيقي، فاسم الله عندهم معنى مقدّس عن وصْمة الحدوث والتجدّد، منزّه عن نقيصة التكوّن والتغيّر، فلهذا وقعت الاستعانة والتبرّك باسمه تعالى في مثل قولك: بِاسْمِ الله اقْرَءُ وبِسْمِ الله اكتُبُ، وجرت العادة بالتوسّل إلى اسم الله لطلب الحوائج وكفاية المهمّات، في مثل: بِسْمِ اللهِ الشَافي بِسْمِ الله الكَافي، وفي الأدعية النبويّة: باسم الله الذي لا يضر مع اسمِه شيء في الأرضِ ولا في السَّماءِ.

وقد ثبت عند محققي العلماء، أن المؤثّر في جواهر الأكوان ليس إلاّ الباري جلّ اسمه، أو مَلَك مقرّب من ملائكته بإذنه، فلا تأثير للعوارض الجسمانية في الأشياء الجوهريّة ايجاداً وإعداماً، نعَم الأذكار والأدعيّةُ إنّما تؤثّر من جهة معانيها واتّصال النفس عند التذكّر بمباديها الفعّالة، فعالَم الذكر الحكيم منبع إنجاح المهمّات، ومبدأ استيجاب الدعوات، لا مقارعة الحروف والأصوات، وتحرّك الشفتين بالالفاظ والعبارات، وقد مرّ في المفاتيح ما يكشف عن بعض الأسرار المتعلقة بأسماء الله.
فصل

[اسم الله تعالى]

فاسم الله عند أكابر العرفاء، عبارة عن مرتبة الالوهيّة الجامعةِ لجميع الشؤون والاعتبارات، والنعوت والكمالات، المندرجة فيها جميع الأسماء والصفات التي ليست إلاّ لمعات نوره وشؤون ذاته وهي أول كثرة وقعت في الوجود، برزخ بين الحضرة الأحديّة وبين المظاهر الأمريّة والخَلقيّة، وهذا الاسم بعينه جامع بين كلّ صفتين متقابلتين أو اسمين متقابلين، لِما علِمتَ سابقاً أن الذات مع كلّ صفةٍ اسم، وهذه الأسماء الملفوظة أسماء الأسماءِ، والتكثّر فيها بحسب تكثّر النعوت والصفات، وذلك التكثّر إنما يكون باعتبار مراتبه الغيبيّة وشؤونه الإلهية التي مفاتيح الغيب، وتقع عكوسها وأظلالها على الأشياء الكونية.

-4-

فكلّ ما في عالَم الإمكان صورة اسم من أسماء الله، ومظهر شأن من شؤونه، فأسماء الله معان معقولة في غيب الوجود الحقّ، بمعنى انّ الذات الأحدية التي لا سبيل للعقل إلى إدراكها، بحيث لو وجدت في العقل، أو أمكن له أن يلحظها، لكان ينتزع منها هذه المعاني ويصفها بها فالذاتُ الأحدية مع أحديتها وبساطتها مصداق لحمْل هذه المعاني عليها من غير وجود صفة زائدة كما مرّ.

وهذه المعاني - كسائر المفهومات الكليّة - ليست من حيث هي هي موجودة ولا معدومة، ولا عامّةً ولا خاصّةً، ولا كليّة ولا جزئيّة، وليست هي كالهويّات الوجوديّة التي هي موجودات بذواتها، متشخّصات بهويّتها، لأنّها بمنزلة الأشعّة والروابط لوجود الحقّ، متى عُقلت عُقلت مرتبطةً بذاته تعالى، موجودةً بوجوده، واجبةً بوجوبه، بخلاف المعاني الكليّة، لأنّها قد تصير كليّة في الذهن جزئيّة في الخارج، وقد تكون موجودةً في العقل معدومةً في العين، ولها الحكم والأثر فيما له الوجود العيني، بل تنسحب عليها أحكام الوجود بالعرَض، وتتنوّر بنوره، وتنصبغ بصبغه من الوجوب والوحدة والأزلية.

قال بعض أهل الله: الوجود الحق هو الله خاصّة من حيث ذاته وعينه، لا من حيث أسمائه، لأن الأسماء لها مدلولان: أحدهما: عينه، وهو عين المسمّى. والآخر: ما يدلّ عليه مما ينفصل الإسم به عن اسم آخر ويتميّز في العقل، فقد بان لك بما هو كلّ اسم عين الآخر وبما هو غيرُه، فبما هو عينهُ، هو الحقّ، وبما هو غيرُه، هو الحق المتخيَّل الذي كنا بصدده، فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه، ولا يثبت كونه إلا بعينه - انتهى كلامه.

نقولُ: مرادُه من الحقِّ المتخيّل، ما لوّحناه إليك، من أنّ كلاًّ من مفهومات الأسماء الإلهية وإن كان بحسب نفس معناه معرّى عن صفة الوجود الحقيقي من الوجوب والقِدَم والأزلية، إلا أنّه ممّا تجري عليه في نفس الأمر تلك الأحكام، وينصبغ بنور الوجود الأحدي بالعرَض، لأن صفاته عين ذاته، وهذا النحو من العينيّة والاتّحاد بالعَرَض غير ما ألِفَه الجمهور وجَرى عليه اصطلاحهم في الكتب العقلية فيما حكموا عليه بالاتّحاد بالعرَض، لان ذلك عندهم جارٍ في اتّحاد العَرَضيات والمشتقّات المحمولة على موضوعاتها، كاتّحاد مثل الأبيض والأعمى مع زيد مما يشترط فيه قيام معنى المشتق منه ووجوده حقيقة أو إنتزاعاً.

-5-

ومعنى هذا الاتّحاد أنّ الوجود المنسوب أولاً وبالذات إلى زيد مثلاً، هو بعينه منسوب إلى العرَضي المشتق ثانياً وبالعرض، أي على سبيل المجاز، مع تجويز أن يكون لهذا العَرضي نحو آخر من الوجود يوجد به بالذات غير هذا الوجود الذي قد وجد به بالعَرَض، فإنّ مفهوم الأبيض وإن كان متّحداً مع زيد، موجوداً بوجوده، إلا انّ له نحواً آخر من الوجود الخاصّ به في نفسه، فإنّه جوهرُ موجود بالعَرَض، وعَرَض موجود بالذات لِما قد حقّق في مقامه من انّ العرضي عين العرَض الذي هو مبدء اشتقاقه بالذات، فيكون موجوداً بوجوده الجوهري بالعَرَض.

وليس من هذا القبيل اتّحاد المعاني والأعيان الكليّة بحقيقة الوجود، إذ لا يمكن لها ضَرْب آخر من الوجود معرّى عن الوجود، أو منحازاً عنه، لا في نفس الأمر، ولا عند العقل.

فالمعيّة بين ذات الله وأسمائه الحُسنى ليست كالمعيّة بين العَرَضي والذاتي، فضلاً عمّا هو بين العَرَض والجوهر، ولا كمعيّة الذاتيات في الماهيات الامكانية، لأن الحقّ ليس ذا مهية كلية، بل حقيقته ليست إلا وجوداً مقدساً بسيطاً صِرفاً، لا اسم له ولا رسم، ولا إشارة إليه إلا بصريح العرفان، ولا حدّ له ولا برهان عليه إلا بنور العيان، وهو البرهان على كلّ شيء والشاهد في كل عين، فمعنى كون أسمائه وصفاته عين ذاته كما مرّ أنّ الذات الأحديّة بحسب نفس هويّته الغيبيّة، ومرتبة إنّيته الوجوديّة، مع قطع النظر عن انضمام أي معنى أو اعتبار أيّ أمر كان، بحيث تصدق في حقّه هذه الأوصاف الكماليّة والنعوت الجماليّة، وتظهر من نور ذاته في حد ذاته هذه المَحامد القدسية، وتتراءى في شمس وجهه هذه الجلايا النوريّة، والأخلاق الكريمة العليّة، وهي في حدود أنفسها مع قطع لنظر عن نور وجهه وشعاع ذاته، لا ثبوت لها ولا شيئيّة أصلاً، فهي بمنزلة ظلال وعكوس تتمثّل في الأوهام والحواسّ من شيء، وكذلك حكم الأعيان الثابتة وحكم المعاني الذاتيّة لكل موجود.

فجميع الأعيان المعقولة والطبائع الكلية، ما هي عند التحقيق إلاّ نقوش وعلامات دالّة على أنحاء الوجودات الإمكانية، التي هي من رشحات بحر الحقيقة الواجبيّة وأشعّة شمس الوجود المطلق، ومَظاهر أسمائه وصفاته، ومجالي جماله وجلاله، وأمّا نفس تلك الأعيان والماهيات منحازة عن الوجودات الخاصّة، فلا وجود لها أصلاً لا عيناً ولا عقلاً. بل أسماء فقط كما في قوله:

{ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [النجم53: 23].

ولعلّ الكلام انجرّ إلى ما لا تطيق سماعه أسماع الأنام، ويضيق عن فهمه نطاقُ الأفهام.


فصل

[اسم الجلالة]

فإن قلت: هل لمعنى اسم الجلالة حدّ أم لا؟ قلت: الحدّ عند الحكماء قول دالٌّ على تصور أجزاء الشيء ومقوّماته، فما لا جزء له ولا مقوّم لذاته فلا حدّ له، وما لا حدّ له لا برهان عليه، لأنّ الحدّ والبرهان متشاركان في الحدود كما بُيّن في علم الميزان، وإذا تقرّر هذا فلا شبهة في أن ذات الباري لتقدّسه عن شوائب التركيب أصلاً، سواء كان من الأجزاء الوجوديّة أو الحمليّة أو غير ذلك - على ما اقتضاه برهان التوحيد والأحدية -، فلا حدّ له كما لا برهان عليه.

-6-

وأما انّ مفهوم لفظ الله هل له حدّ أم لا؟ فالحقّ هو الأول، لأن معناه الموضوع له معنى مجمل متضمن لمعاني جميع الصفات الكماليّة، فكلّ معنى من معاني أسماء الله يكون جزءاً لمعنى هذا الاسم عند التفصيل، وقد تقرّر أن الفرق بين الحدّ والمحدود ليس إلا بالإجمال والتفصيل، وأن التفاوت بين المعنى الإجمالي والمعنى التفصيلي له ليس إلاّ بحسب الإدراك ومن جهة الملاحظة دون المدرَك والملحوظ؛ فإن الألفاظ المذكورة في حد الشيء، تدل على ما دل عليه لفظ المحدود بعينه بدلالة تفصيلية.

وليس من شرط الحدّ أن يكون مؤلَّفاً من جنسٍ وفصلٍ من أجزاء الشيء، سواء كان بعضها أعم من بعضٍ مطلقاً، أو من وجه، أو كانت متساوية، وسواء كانت أجزاء محمولة أو متباينة، إلا انّ المشهور أنّ الحدّ لا يكون إلا من جنس وفصل لما رأو ان الطبائع النوعيّة الواقعة تحت إحدى المقولات العشر المشهور حدودها لا تكون إلاّ كذلك.

والحقّ أن كلّ اسم وُضِع لمعنى واحد جمليّ متألّف من معانٍ متعددة عند التفصيل بالفعل أو بحسب - التحليل، يدلّ عليها ألفاظ متعددة، يكون الأول محدوداً والثاني حداً، وهكذا معنى اسم الله بالقياس إلى معاني جميع الأسماء الحسنى، فإنّ نسبتها إليه نسبة الحدّ إلى المحدود، إذ التفاوت ليس إلا بنحو الملاحظة مرّة إجمالاً ومرّة تفصيلاً، وهذا مما لا يخلّ ببساطة الذات المقدسة، وأحديّة الوجود القيّومي تعالى عن التصوّر والتمثّل والتخيّل والتعقّل لغيره فإنّ كل ما يدركه العقل من معاني الأسماء بحسب مفهوماتها اللغوية أو الإصطلاحيّة، فهي خارجة عن ساحة جناب العزّ والكبرياء، وانّما يجد الذهن سبيلاً إليها من ملاحظة مَظاهرها ومَجاليها، ومن مشاهدة مربوباتها ومَحاكيها.

قال في الفصّ النحوي: إن للحقّ في كلّ خلْق ظهوراً خاصّاً. فهو الظاهر في كلّ مفهوم وهو الباطن عن كل فهم، إلا عن فهم من قال إنّ العالَم صورته وهويّته. وهو الاسم الظاهر، كما أنّه بالمعنى روح ما ظهر، فهو الاسم الباطن، فنسبته لما ظهر من صورة العالَم نسبة الروح المدبّر للصورة، فيؤخذ في حدّ الإنسان - مثلاً - باطنه وظاهره، وكذلك كلّ محدود، فالحقّ محدود بكل حدّ وصوَر العالَم لا تنضبط ولا يُحاط بها، ولا يعلم حدود كلّ صورة منها إلا على حدّ ما حصل لكل عالَم من صَوره، فلذلك يجهل حدّ الحقّ، فإنه لا يعلم إلا من يعلم حدّ كل صورة، وهذا محال، فحدّ الحقّ محال.

-7-

ثم قال: فحدّ الألوهيّة له بالحقيقة لا بالمجاز - انتهت ألفاظه.

ويتلخّص من كلماته: أن مسمّى لفظ الله هو المنعوت بميع الأوصاف الكماليّة والنعوت الإلهيّة، لما تقرّر عندهم، أنّه ما من نعْتٍ إلاّ وله ظلٌّ ومظهر في العالَم، وثبت أيضاً أن الإشتراك بين معنى كلّ اسم ومظهره ليس بمجرّد اللفظ فقط، حتّى تكون الألفاظ العلم والقدرة وغيرهما موضوعة في الخالِق لمعنى وفي المخلوق لمعنى آخر، وإلا لم تكن - هذه المعاني فينا دلائل وشواهد على تحقّقها في الباري على وجه أعلى وأشرف، والمتحقّق خلافه، فبطل كون الإشتراك لفظيّاً فقط، بل يكون معنويّاً، إلا انّ هذه المعاني تكون هنا في غاية القصور والنقص، وهناك في غاية العظمة والجلالة.

فتكون الأسماء الإلهيّة مع مظاهرها ومجاليها الكونيّة متّحدة المعنى، سواء كانت المظاهر من الصوَر الحسيّة الموجودة في عالَم الشهادة، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الإسم " الظاهر " كالسميع والبصير والمتكلم، ومظاهرها المختلفة المدرَكة بإدراك الحواسّ الظاهرة، أو كانت من الصوَر العقليّة الموجودة في عالَم الغيب العقلي، الواقعة أسماؤها تحت حيطة الاسم " الباطن " كالسبّوح والقدّوس، ومظاهرها المتنوّعة المندرجة في عالم الأمر، المدركة بالمدارك الباطنية العقلية.

وقد عرفت أنّ حدّ الشيء عبارة عن صوَر عقليّة تفصيليّة يدلّ عليها بألفاظ متعدّدة دالّة على ما يدلّ عليه لفظ واحد، بأن يكون لحقيقة واحدة كالإنسان مثلاً صورتان إدراكيّتان، إحداهما موجودة بوجود واحد إجمالي، والأخرى موجودة بوجودات متعدّدة تفصيليّة، فيقال للمفصّلة إنّها حدّ، وللمجمل إنّه محدود، فعلى هذا يلزم أن تكون مفهومات جميع الأسماء الإلهيّة ومظاهرها الكونيّة التي هي أجزاء العالَم ظاهراً وباطناً على كثرتها حدّاً حقيقيّاً لمفهوم اسم الله، فيلزم أن يكون جميع معاني حقائق العالَم حداً لاسم الله، كما انّ جميع معاني الأسماء الإلهيّة حدّ له، إلاّ انّ سائر الحدود للأشياء المحدودة يمكن إحاطة العقل البشري لأجزائها، بخلاف معاني أجزاء هذا الحدّ، لأنّها غير محصورة، والمراد من لفظ الحقّ في قوله فالحقّ محدود بكلّ حدّ هو مفاد لفظ الله باعتبار معناه الكلي ومفهومه العقلي، لا باعتبار حقيقة معناه التي هي الذات الأحديّة وغيب الغيوب، إذ لا نعت له ولا حدّ ولا اسم ولا رسم ولا سبيل إليه للإدراك العقلي، ولا ينال أهل الكشف والشهود لمعة من نوره إلا بعد فناء هويّتهم واندكاك جَبَل إنيّتهم.

ويؤيّد هذا ما ذكره في الفصّ الاسماعيلي: اعلم أنّ مسمّى لفظة الله أحديٌّ بالذات، كلٌّ بالأسماء، وكلّ موجود فما له من الله إلاّ ربّه خاصّة، يستحيل أن يكون له الكلّ.

وأمّا الأحديّة الإلهيّة فما لواحد فيها قدم لا أنه ينال الواحد منها شيئاً والآخر منها شيئاً، لأنّها لا تقبل التبعيض، فأحديّته مجموع كلّه بالقوّة.
انتهى.


-8-

فصل

[الانسان الكامل هو العبد الحقيقي]

اعلم يا وليي - نوّر الله قلبك بالايمان - أنّ أكثر الناس لا يعبدون الله من حيث هو الله، وإنّما يعبدون معتقداتهم في ما يتصوّرونه معبوداً لهم، فآلهتهم في الحقيقة أصنام وهميّة يتصوّرونها وينحتونها بقوة اعتقاداتهم العقليّة أو الوهميّة، وهذا هو الذي أشار إليه عالم من أهل البيت (عليهم السلام) وهو محمّد بن علي الباقر (عليه السلام): كلّما ميّزتموه بأوهامكم في أدقّ معانيه فهو مصنوع مثلكم مردود إليكم - الحديث.

اي فلا يعتقد معتقِدٌ من المحجوبين الذين جعلوا الإله في صوَر معتقَدهم فقط إلهاً، إلاّ بما جعل في نفسه وتصوّره بوهمه، فإلهه بالحقيقة مجعول لنفسه، منحوتٌ بيد قوّته المتصرّفة، فلا فرق بين الأصنام التي اتّخذت إلهاً وبينه في أنه مصنوع لنفوس، سواء كانت في خارجها أو في داخلها، بل الأصنام الخارجيّة أيضاً إنّما عبدت من جهة اعتقاد الألوهيّة مِن عابِدها في حقّها، فالصَور الذهنيّة معبودة لهم حينئذ بالذّات، والصورة الخارجيّة معبودة لهم بالعرَض، فمعبود عبدّة الأصنام كلّهم ليست إلاّ صوَر معتقداتهم وأهواء أنفسهم، كما أشير إليه في قوله تعالى:

{ أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ } [الجاثية45: 23].

فكما أنّ أصحاب الأصنام الجسميّة يعبدون ما عملته أيديهم، فكذلك أصحاب الإعتقادات الجزئية في حقّ الحقّ يعبدون ما كسبته أيدي عقولهم، فحقَّ عليهم وعلى معبودهم قوله:

{ أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [الأنبياء21: 67].

وكذا قوله: { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ }.


وابن الزبعري لقصوره عن إدراك هذا المعنى، اعترض على رسول الله (صلّى الله عليه وآله) بأنّه قد عبدت الملائكة والمسيح، ولم يعلم هو ومن في مرتبته إن معبود عبدَة الملائكة والمسيح هو من عمَل الشيطان، وأمّا الكمّل من العرفاء، فهم الذين يعبدون الحقّ المطلَق المسمى باسم الله من غير تقييد باسم خاصّ وصفة مخصوصة، فيتجلى لهم الحقّ المنعوت بجميع الأسماء، وهم لا ينكرونه في جميع التجلّيات الأسمائية والأفعاليّة والآثاريّة، بخلاف المحجوب المقيّد الذي يعبُد الله على حرْفٍ فإنْ أصابه خير اطمأنّ به وإن اصابتْه فتنة انقلب عَلى وجهِه.

وذلك لغلبة أحكام بعض المواطن واحتجاب بعض المَجالي عن بعض في نظره، ومن هذا الاحتجاب ينشأ الإختلاف بين الناس في العقائد، فينكر بعضهم بعضاً، ويلعن بعضهم بعضاً، وكلّ أحد يثبت للحقّ ما ينفيه الآخر، ويظنّ ما يراه، ويعتقد غاية الإجلال والتعظيم له تعالى وينكر غير ذلك، وقد أخطأ وأساء الأدب في حقّ الحقّ وهو عند نفسه أنّه قد بلغ الغاية في المعرفة والتأدّب، وكذلك كثير من أهل التنزيه، لغلبة أحكام التجرّد عليهم، فهم محتجبون كبعض الملائكة بنور التقديس، وهم في مقابلة المشبّهة المحتجبة بظُلَم التجسيم كالحيوانات.

وأما الإنسان الكامل، فهو الذي يعرف الحقّ بجميع المشاهد والمشاعرَ، ويعبده في جميع المواطن والمظاهر، فهو عبدُ الله يعبده بجميع أسمائه وصفاته، ولهذا سمّي بهذا الاسم أكمل أفراد الإنسان محمّد (صلى الله عليه وآله)، فإنّ الاسم الإلهي، كما هو جامع لجميع الأسماء، وهي تتّحد بأحديّته الجمعيّة، كذلك طريقه جامع طُرق الأسماء كلّها وإن كان كلّ واحد من تلك الطُرق مختصّاً باسم يربّ مظهره ويعبد ذلك المظهر من ذلك الوجه، ويسلك سبيله المستقيم الخاصّ به، وليس الطريق الجامع لطُرق سائر المظاهر إلا ما سلكه المظهر الجامع النبوي الختمي - على الشارع فيه وآله أفضل صلوات الله وتسليماته - وسلكه خواصّ أمّته الذين هم خير الأمم، وهو طريق التوحيد الذي عليه جميع الأنبياء والأولياء سلام الله عليهم أجمعين.

-9-

ويؤيّد ذلك ما روي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله) انّه لما أراد أن يبيّن ذلك للنّاس، خطَّ خطّاً مستقيماً، ثم خطَّ من جانبيه خطوطاً خارجة من ذلك الخط، وجعل الأصل الصراط المستقيم الجامع، وجعل الخطوط الخارجة منها سُبل الشيطان، كما قال تعالى:

{ وَلاَ تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [الأنعام6: 153].

يعني السبيل التي لكم فيها السعادة والنجاة، وإلا فالسُبل كلها إليه لأن الله منتهى كلّ قصد وغاية كل مقصود، ولكن ما كلُّ من رجع إليه وآب سعد ونجى عن التفرقة والعذاب فسبيل السعادة واحدة،

{ قُلْ هَـٰذِهِ سَبِيلِيۤ أَدْعُو إِلَىٰ ٱللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِي } [يوسف12: 108]


وأما سائر السُبل، فغايتها كلها إلى الله أولاً ثم يتولاّه الرحمن آخراً ويبقى حكم الرحمن فيها إلى الأبد الذي لا نهاية لبقائه وهذه مسألة عجيبة لم أجد على وجه الأرض من عرفها حقّ المعرفة.


فصل

الله و " هو "

اعلم إن نسبة اسم " هو " إلى اسم " الله " كنسبة الوجود إلى المهيّة في الممكن إلا انّ الواجب تعالى لا مهيّة له سوى الإنيّة وقد مرّ انّ مفهوم اسم الله ممّا له حدّ حقيقي إلا انّ العقول قاصرة عن الإحاطة بجميع المعاني الداخلة في حدّه لأنه إنّما عرفت صورة حدّه إذا عرفت صور حدود جميع الموجودات، وإذ ليس فليس وأما إسم " هو " فلا حدّ له ولا إشارة إليه، فيكون أجلّ مقاماً وأعلى مرتبة، ولهذا يختص بمداومة هذا الذكر الشريف الكُمّلُ الواصلون.

والنكتة فيه؛ أنّ العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته، لم يكن مستغرقاً في معرفة الله، لأنه إذا قال " يا رحمن " فحينئذ يتذكّر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها، فيكون طالباً لحظّه، وكذا إذا قال: يا كريم يا محسن يا غفّار يا وهّاب يا منتقم. وإذا قال: يا مالك، فحينئذ يتذكّر ملكَه وملكوتَه وما فيه من أقسام النعَم ولطائف القِسَم، فيميل طبعُه إليها ويطلب شيئاً منها، وقس عليه سائر الأسماء.

-10-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس