عرض مشاركة واحدة
 
  #87  
قديم 04-01-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي خامساً: السلامة من الدَيْن

خامساً: السلامة من الدَيْن
ومن تمام المِلْك الذي اشترطناه، ومما يستلزمه الفضل عن الحوائج الأصلية: أن يكون النصاب سالمًا من الدَيْن، فإذا كان المالك مدينًا بدَيْن يستغرق نصاب الزكاة أو ينقصه، فإن الزكاة لا تجب عليه فيه، غير أن الفقهاء اختلفوا في ذلك، وخاصة فيما يتعلق بديون الأموال الظاهرة، والسبب في اختلافهم يرجع إلى تكييفهم للزكاة ونظرتهم إليها واختلافهم في ذلك، كما ذكر ابن رشد: هل الزكاة عبادة، أو حق مرتب في المال للمساكين؟
فمن رأى أنها حق لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدَيْن، لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين. وهو في الحقيقة مال صاحب الدين، لا الذي المال بيده.
ومن قال: هي عبادة، قال: تجب على من بيده المال، لأن ذلك هو شرط التكليف، وعلامته المقتضية للوجوب على المكلف، سواء أكان عليه دين أم لم يكن، وأيضًا فإنه قد تعارض هنالك حقان، حق الله، وحق الآدمي، وحق الله أحق أن يُقضَى
(بداية المجتهد ص 238)
.
قال ابن رشد: والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المدين
(المرجع السابق)
.
وما رجحه ابن رشد هو ما تعطيه نصوص الشريعة وروحها ومبادئها العامة بالنسبة للأموال كلها ظاهرة وباطنة.
والأدلة على ذلك ما يأتي:
أولاً: إن ملكية المدين ضعيفة وناقصة، لتسلط الدائن المستحق عليه، ومطالبته بدَيْنه. ولذا يأخذه الغريم إذا كان من جنس ديْنه من غير قضاء ولا رضاء، كما هو مذهب الحنفية وغيرهم (انظر المجموع للنووي: 5/346. وانظر البحر لابن نجم: 2/219)
. وقد بيَّنا أن الشرط الأول في المال الذي تجب فيه الزكاة تمام الملك.
ثانيًا: إن رب الدَّيْن مطالب بتزكيته، لأنه ماله وهو مالكه وصاحبه، (وهذا هو قول الجمهور) فلو زكَّاه المدين، لوجبت الزكاة في مال واحد مرتين، وهو ازدواج ممنوع في الشرع (المرجع السابق)
.
ثالثًا:
إن المدين دَيْنًا يستغرق النصاب أو ينقصه، ممن يحل له أخذ الزكاة، لأنه من الفقراء، ولأنه من الغارمين، فكيف تجب عليه الزكاة وهو ممن يستحقها؟
رابعًا:
إن الصدقة لا تُشرع، إلا عن ظهر غنى، كما جاء في الحديث، ولا غنى عند المدين وهو محتاج إلى قضاء الدَيْن، الذي يعرِّضه لعقوبة الحبس، فضلاً عما فيه من هم الليل وذل النهار.
خامسًا: يحقق هذا: أن الزكاة إنما وجبت مواساة لذوي الحاجات، والمدين محتاج إلى قضاء دينه، كحاجة الفقير أو أشد، وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك لدفع حاجة غيره (انظر المغني: 3/41)، وقد قال عليه السلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول"
.
سادسًا: روى أبو عبيد عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: "هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تُخرجوا زكاة أموالكم"(الأموال ص 437 والشهر المذكور قيل: هو شهر رمضان، وقيل: هو المحرم). وفي لفظ رواه مالك: "من كان عليه دين فليقض دينه وليزك بقية ماله"(قال الحافظ في التلخيص ص 178: رواه مالك في الموطأ والشافعي عنه عن ابن شهاب عن السائب بن يزيد عن عثمان [ونسبه في "المطالب العالية" لمسدد، وقال: إسناده صحيح، وتابعه البوصيري كما في حاشية "المطالب": 1/234). وفي لفظ رواه البيهقي عن السائب أنه سمع عثمان بن عفان خطيبًا على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هذا شهر زكاتكم …" (انظر السنن الكبرى: 4/148) ومعنى هذا أنه قال ذلك بمحضر من الصحابة ولم ينكروه فدل على اتفاقهم عليه (المغني، المرجع السابق)
.
ومن أجل هذه الوجوه المذكورة، ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الدين يمنع وجوب الزكاة، أو ينقص بقدره، في الأموال الباطنة - النقود وعروض التجارة - وبه قال عطاء، وسليمان بن يسار، والحسن، والنخعي، والليث، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وأبو حنيفة وأصحابه، ولم يخالف في ذلك إلا ربيعة وحماد بن سليمان والشافعي في الجديد.
أما الأموال الظاهرة -المواشي والزروع- فذهب بعض الفقهاء إلى أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة فيها، وفرقوا بينها وبين الباطنة بأن تعلق الزكاة بها أوكد، لظهورها وتعلق قلوب الفقراء بها، ولهذا شرع إرسال السُّعاة لأخذها من أربابها، كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- وخلفاؤه يفعلون. وعلى منعها قاتلهم أبو بكر الصديق، ولم يرد أنهم استكرهوا الناس على الأموال الباطنة، ولأن السعاة في الظاهر يأخذون زكاة ما يجدون، ولا يسألون عما على صاحبها من الدين، وهذا يدل على أنه لا يمنع زكاتها. ولأن تعلق الأطماع من الفقراء بها أكثر، والحاجة إلى حفظها أوفر، فتكون الزكاة فيها أوكد
(المغني: 3/42 - 43)
.
هذا قول مالك والأوزاعي، والشافعي، ورواية عن أحمد
(يشبه هذا ما قرره التشريع الضرائبي من عينية الضريبة المفروضة على الأطيان ونحوها، وعلى إيراد القيمة المنقولة (الأسهم والسندات) فهي تصيب نتاج هذه القيمة دون نظر إلى شخص حاملها. فالضريبة العقارية تستحق على الفدان حتمًا، بصرف النظر عن حالة مالكه ولو اشتراه بالدَيْن، وكذا تستحق الضريبة على إيراد السهم والسند، انظر تشريع الضرائب للدكتور محمد حلمي مراد: 1/78 - ط. أولى)
.
ويرى أبو حنيفة أن الدين يمنع سائر الأموال إلا الزرع والثمر
(انظر المغني: 3/42)
.
وقد اختلف ابن عمر وابن عباس في الدين على الزرع - فقال ابن عباس: يُخرج ما استدان على ثمرته ويُزكِّي ما بقي. وقال ابن عمر: يُخرج ما استدان أو أنفق على ثمرته وأهله ويُزكي ما بقي
(السنن الكبرى: 4/148)
.
والذي يتضح لنا أن التفريق بين المال الظاهر والباطن أمر غير واضح، والظهور والبطون أمر نسبي، وربما أصبحت عروض التجارة -في عصرنا- أشد ظهورًا وبروزًا للفقراء وغيرهم من الأنعام والزروع، ولهذا نرى أن التعليل المذكور، لا يقاوم عموم الأدلة السابقة، وأن الدين يمنع وجوب الزكاة في سائر الأموال، والشريعة تعمل دائمًا على التيسير على المدين، والأخذ بيده بكل الوسائل، وفي شتَّى المجالات، وذلك لا يتفق وإيجاب الزكاة عليه.
وهذا قول عطاء، والحسن، وسليمان، وميمون بن مهران، والنخعي، والثوري، والليث، وإسحاق، ورواية عن أحمد
(المغني: 3/42)
.
ورواه أبو عبيد عن مكحول، وقال: يروى عن طاوس أيضًا
(الأموال ص 510)
.
واختار أبو عبيد: أن الدين إذا عُلِمت صحته (أي لم يكن مجرد دعوى) يُسقِط الزكاة عن صاحب الزرع والماشية، اتباعًا لسنة الرسول الذي أمر أن تؤخذ الزكاة من الأغنياء لترد على الفقراء. والمدين من أهل الزكاة، فكيف تؤخذ منه؟ ومع هذا إنه من الغارمين فاستوجبها من جهتين
(المرجع السابق ص 511)
.
فهذا القول فيه إذا علمت صحة دينه، وإن كان ذلك لا يُعلم إلا بقوله لم تُقبل دعواه، وأخذت منه الصدقة من الزرع والماشية جميعًا، لأن صدقة الزرع والماشية حق واجب ظاهر قد لزم صاحبه، والدين الذي عليه يدَّعيه باطن لا يُدْرَى، لعله فيه مبطل، فليس بمقبول منه، إنما هذا كرجل وجبت عليه حقوق لقوم، فادَّعى المخرج منها وأداءها إليهم، فلا يُصدَّق على ذلك"
(نفس المرجع) فهو يرى أن الدين مانع من الوجوب بشرط إثبات ما يدل على صحة الدَيْن، وهو كلام صحيح، ما دامت الدولة هي التي تتولى أمر الزكاة، حتى لا يضيع الناس حق الله والفقير في أموالهم بادعاء الديون، وخاصة في عصرنا الذي ضعف فيه الدين، وقلَّ اليقين.
شروط الدَيْن الذي يمنع وجوب الزكاة
الشرط الذي لا خلاف فيه: أن يكون هذا الدين مما يستغرق النصاب أو ينقصه، ولا يجد ما يقضيه به سوى النصاب، وما لا يستغنى عنه، مثل أن يكون له عشرون دينارًا، وعليه دينار أو أكثر أو أقل، مما ينقص به النصاب إذا قضاه به، ولا يجد قضاءً له من غير النصاب، فإن كان له ثلاثون دينارًا وعليه عشرة، فعليه زكاة العشرين، وإن كان عليه أكثر من عشرة فلا زكاة عليه. وإن عليه خمسة، فعليه زكاة خمسة وعشرين.
ولو أن له مائة من الغنم، وعليه ما يقابل الستين فعليه زكاة الأربعين، فإن كان عليه ما يقابل إحدى وستين فلا زكاة عليه، لأنه ينقص النصاب
(المغني: 3/43)
.
وهل يشترط أن يكون هذا الدين حالاً؟
الراجح أنه لا فرق بين الدين الحال والمؤجل، لعموم الأدلة، وإن قال بعض العلماء: إن المؤجل لا يمنع وجوب الزكاة، لأنه غير مطالب به في الحال
(المرجع السابق)
.
ومن الدين المؤجل: صداق الزوجة المؤجل إلى الطلاق أو الموت. وقد اختلفوا، هل يمنع وجوب الزكاة أم لا؟
قال بعضهم: المهر المؤجل لا يمنع، لأنه غير مطالب به عادة، بخلاف المعجَّل.
وقال غيرهم: يمنع، لأنه دين كغيره من الديون.
وقال آخرون: إن كان الزوج على عزم الأداء منع، وإلا فلا، لأنه لا يُعد دَيْنًا
(البحر الرائق: 2/216)
.
ونفقة الزوجة إذا صارت دينًا على الزوج إما بالصلح أو بالقضاء، ومثلها نفقة الأقارب تمنع وجوب الزكاة
(المرجع السابق)
.
وهل يستوي في ذلك ديون الله وديون العباد؟.
قال النووي من الشافعية: إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة، فإنه يستوي دين الله تعالى ودين الآدمي
(المجموع: 5/345)
.
وقال الحنفية: إن الدين المانع للزكاة، ما كان له مطالب من جهة العباد، ومنه الزكاة، لأنه هو الذي تتوجه فيه المطالبة، ويتسلط فيه المستحق على المدين، ويمكن للحاكم أن يأخذ ماله منه، لحق الغرماء.فملكه فيه ضعيف غير مستقر، بخلاف دين الله من نذور وكفَّارة ونحوها. وإذا كان عليه زكوات لسنوات خَلَتْ، فإنها تُعد من الدين الذي له مطالب من جهة العباد. وهو الإمام النائب عن المستحقين
(انظر المغني: 3/45، وانظر: الهداية وشروحها: 1/486، 487)
.
وهذا هو الذي نختاره إذا كانت الحكومة المسلمة هي التي تقوم بأمر الزكاة، حتى لا يدَّعي من يشاء من أرباب المال أن عليه نذورًا، أو كفارات أو نحو ذلك مما لا يُستطاع تحقيقه وإثباته أو نفيه.
فإذا كان الفرد المسلم هو الذي يخرج زكاته بنفسه، فله أن يحتسب هذه الديون من ماله، ويقضيها قبل أداء الزكاة، عملاً بعموم الحديث:
"فدَيْن الله أحق أن يُقضَى"(البخاري وغيره).
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس