عرض مشاركة واحدة
 
  #18  
قديم 12-31-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 121-130 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 121-130 من 259

{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } [الشورى42: 51].

اللفظ الثاني: القول، وفيه وجوه: الأول: صيغة الماضي، قال تعالى:

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَـٰئِكَةِ } [البقرة2: 30]

ونظائره كثيرة في القرآن، الثاني: صيغة المستقبل، قال تعالى:

{ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ } [البقرة2: 68]

الثالث: القيل والقول، قال تعالى:

{ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ قِيلاً } [النساء4: 122] وقال تعالى:
{ مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَىَّ } [قۤ50: 29]


اللفظ الثالث: الأمر، قال تعالى:

{ لِلَّهِ ٱلأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } [الروم30: 4] وقال:
{ أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأمْرُ } [الأعراف7: 54]

وقال حكاية عن موسى عليه السلام

{ إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } [البقرة2: 67].


اللفظ الرابع: الوعد، قال تعالى:

{ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقّاً فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنجِيلِ وَٱلْقُرْءانِ } [التوبة9: 111] وقال تعالى:
{ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّا إِنَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } [يونس10: 4].


اللفظ الخامس: الوحي، قال تعالى:

{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ وَحْياً } [الشورى42: 51] وقال:
{ فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ } [النجم53: 10].


اللفظ السادس: كونه تعالى شاكراً لعباده، قال تعالى:

{ فَأُولَـٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } [لإسرء17: 19]
{ وَكَانَ ٱللَّهُ شَـٰكِراً عَلِيماً } [النساء4: 147].


الفصل الرابع

الإرادة وما بمعناها:

في الإرادة وما يقرب منها: ـ

فاللفظ الأول: الإرادة، قال تعالى:

{ يُرِيدُ ٱللَّهُ بِكُمُ ٱلْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ ٱلْعُسْرَ } [البقرة2: 185].


اللفظ الثاني: الرضا، قال تعالى:

{ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } [الزمر39: 7] وقال:
{ وَلاَ يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ ٱلْكُفْرَ } [الزمر39: 7] وقال:
{ لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ } [الفتح48: 18]

وقال في صفة السابقين الأولين

{ رَّضِىَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [المائدة5: 119]

وقال حكاية عن موسى

{ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىٰ } [طه20: 84].


اللفظ االثالث: المحبة، قال:

{ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ } [المائدة5: 54] وقال:
{ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [البقرة2: 222].


اللفظ الرابع: الكراهة، قال تعالى:

{ كُلُّ ذٰلِكَ كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا } [الإسراء17: 38] وقال:
{ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } [التوبة9: 46]

قالت الأشعرية: الكراهة عبارة عن أن يريد أن لا يفعل وقالت المعتزلة: بل هي صفة أخرى سوى الإرادة، والله أعلم.


الفصل الخامس

السمع والبصر ومشتقاتها:

في السمع والبصر: قال تعالى:

{ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْء وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } [الشورى42: 11] وقال تعالى:
{ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَـٰتِنَا إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } [الإسراء17: 1] وقال تعالى:
{ إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } [طه20: 46] وقال:
{ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ } [مريم19: 42] وقال تعالى:
{ لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأبْصَـٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأبْصَـٰرَ } [الأنعام6: 103].


فهذا جملة الكلام في الصفات الحقيقية مع الإضافية.

الفصل السادس

في الصفات الإضافية مع السلبية

اعلم أن «الأول» هو الذي يكون سابقاً على غيره، ولا يسبقه غيره، فكونه سابقاً على غيره إضافة، وقولنا أنه لا يسبقه غيره فهو سلب، فلفظ «الأول» يفيد حالة متركبة من إضافة وسلب، «والآخر» هو الذي يبقى بعد غيره، ولا يبقى بعده غيره، والحال فيه كما قدم، أما لفظ «الظاهر» فهو إضافة محضة، لأن معناه كونه ظاهراً بحسب الدلائل، وأما لفظ «الباطن» فهو سلب محض، لأن معناه كونه خفياً بحسب الماهية.

-121-

ومن الأسماء الدالة على مجموع إضافة وسلب «القيوم» لأن هذا اللفظ يدل على المبالغة في هذا المعنى، وهذه المبالغة تحصل عند اجتماع أمرين: أحدهما: أن لا يكون محتاجاً إلى شيء سواه ألبتة، وذلك لا يحصل إلا إذا كان واجب الوجود في ذاته وفي جملة صفاته، والثاني: أن يكون كل ما سواه محتاجاً إليه في ذواتها وفي جملة صفاتها، وذلك بأن يكون مبدأ لكل ما سواه، فالأول سلب، والثاني إضافة ومجموعهما هو القيوم.

الفصل السابع

في الأسماء الدالة على الذات والصفات

الحقيقية والإضافية والسلبية

فمنها قولنا: «الإله» وهذا الاسم يفيد الكل؛ لأنه يدل على كونه موجوداً، وعلى كيفيات ذلك الوجود، أعني كونه أزلياً أبدياً واجب الوجود لذاته، وعلى الصفات السلبية الدالة على التنزيه، وعلى الصفات الإضافية الدالة على الإيجاد والتكوين، واختلفوا في أن هذا اللفظ هل يطلق على غير الله تعالى؟ أما كفار قريش فكانوا يطلقونه في حق الأصنام، وهل يجوز ذلك في دين الإسلام؟ المشهور أنه لا يجوز، وقال بعضهم: إنه يجوز لأنه ورد في بعض الأذكار: يا إله الآلهة، وهو بعيد، وأما قولنا: «الله» فسيأتي بيان أنه اسم علم لله تعالى، فهل يدل هذا الاسم على هذه الصفات؟ فنقول: لا شك أن أسماء الأعلام قائمة مقام الإشارات، والمعنى أنه تعالى لو كان بحيث يصح أن يشار إليه لكان هذا الاسم قائماً مقام تلك الإشارة، ثم اختلفوا في أن الإشارة إلى الذات المخصوصة هل تتناول الصفات القائمة بتلك الذات؟ فإن قلنا إنها تتناول الصفات كان قولنا: «الله» دليلاً على جملة الصفات، فإن قالوا: الإشارة لا تتناول الصفات السلبية فوجب أن لا يدل عليها لفظ الله قلنا: الإشارة في حق الله إشارة عقلية منزهة عن العلائق الحسية، والإشارة العقلية قد تتناول السلوب.

الفصل الثامن

في الأسماء التي اختلف العقلاء فيها أنها هل هي من

أسماء الذات أو من أسماء الصفات

الأسماء المختلف في مرجعها:

هذا البحث إنما ظهر من المنازعة القائمة بين أهل التشبيه وأهل التنزيه، وذلك لأن أهل التشبيه يقولون: الموجود إما أن يكون متحيزاً، وإما أن يكون حالاً في المتحيز أما الذي لا يكون متحيزاً ولا حالاً في المتحيز ـ فكان خارجاً عن القسمين ـ فذاك محض العدم، وأما أهل التوحيد والتقديس فيقولون: أما المتحيز فهو منقسم، وكل منقسم فهو محتاج، فكل متحيز هو محتاج، فما لا يكون محتاجاً امتنع أن يكون متحيزاً، وأما الحال في المتحيز فهو أولى بالاحتياج، فواجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون متحيزاً أو حالاً في المتحيز.

إذا عرفت هذا الأصل فنقول: ههنا ألفاظ ظواهرها مشعرة بالجسمية والحصول في الحيز والمكان: فمنها «العظيم» وذلك لأن أهل التشبيه قالوا: معناه أن ذاته أعظم في الحجمية والمقدار من العرش ومن كل ما تحت العرش، ومنها «الكبير» وما يشتق منه، وهو لفظ «الأكبر» ولفظ «الكبرياء» ولفظ «المتكبر».

-122-

واعلم أني ما رأيت أحداً من المحققين بيَّن الفرق بينهما، إلا أن الفرق حاصل في التحقيق من وجوه: الأول: أنه جاء في الأخبار الإلهية أنه تعالى يقول: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري، فجعل الكبرياء قائماً مقام الرداء، والعظمة قائمة مقام الإزار. ومعلوم أن الرداء أرفع درجة من الإزار، فوجب أن يكون صفة الكبرياء أرفع حالاً من صفة العظمة. والثاني: أن الشريعة فرقت بين الحالين، فإن المعتاد في دين الإسلام أن يقال في تحريمه الصلاة «الله أكبر» ولم يقل أحد «الله أعظم» ولولا التفاوت لما حصلت هذه التفرقة. الثالث: أن الألفاظ المشتقة من الكبير مذكورة في حق الله تعالى كالأكبر والمتكبر بخلاف العظيم فإن لفظ المتعظم غير مذكور في حق الله.

واعلم أن الله تعالى أقام كل واحدة من هاتين اللفظتين مقام الأخرى، فقال:

{ وَلاَ يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْعَظِيمُ } [البقرة2: 255]

وقال في آية أخرى:

{ حَتَّىٰ إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ وَهُوَ ٱلْعَلِىُّ ٱلْكَبِيرُ } [سبأ34: 23]

إذا عرفت هذا فالمباحث السابقة مشعرة بالفرق بين العظيم وبين الكبير، وهاتان الآيتان مشعرتان بأنه لا فرق بينهما، فهذه العقدة يجب البحث عنها فنقول ومن الله الإرشاد والتعليم: يشبه أن يكون الكبير في ذاته كبيراً سواء استكبره غيره أم لا، وسواء عرف هذه الصفة أحد أو لا، وأما العظمة فهي عبارة عن كونه بحيث يستعظمه غيره، وإذا كان كذلك كانت الصفة الأولى ذاتية والثانية عرضية والذاتي أعلى وأشرف من العرضي، فهذا هو الممكن في هذا المقام والعلم عند الله.


ومن الأسماء المشعرة بالجسمية والجهة الألفاظ المشتقة من «العلو» فمنها قوله تعالى: { ٱلْعَلِىُّ } ومنها قوله:

{ سَبِّحِ ٱسْمَ رَبّكَ ٱلأعْلَىٰ } [الأعلى87: 1]

ومنها المتعالى ومنها اللفظ المذكور عند الكل على سبيل الأطباق وهو أنهم كلما ذكروه أردفوا ذلك الذكر بقولهم: «تعالى» لقوله تعالى في أول سورة النحل:

{ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } [االنحل16: 1]

إذا عرفت هذا فالقائلون بأنه في الجهة والمكان قالوا: معنى علوه وتعاليه كونه موجوداً في جهة فوق، ثم هؤلاء منهم من قال إنه جالس فوق العرش، ومنهم من قال: إنه مباين للعرش ببعد متناه، ومنهم من قال: إنه مباين للعرش ببعد غير متناه، وكيف كان فإن المشبهة حملوا لفظ العظيم والكبير على الجسمية والمقدار وحملوا لفظ العلي على العلو في المكان والجهة، وأما أهل التنزيه والتقديس فإنهم حملوا العظيم والكبير على وجوه لا تفيد الجسمية والمقدار: فأحدها: أنه عظيم بحسب مدة الوجود، وذلك لأنه أزلي أبدي، وذلك هو نهاية العظمة والكبرياء في الوجود والبقاء والدوام، وثانيها: أنه عظيم في العلم والعمل، وثالثها: أنه عظيم في الرحمة والحكمة، ورابعها: أنه عظيم في كمال القدرة، وأما العلو فأهل التنزيه يحملون هذا اللفظ على كونه منزهاً عن صفات النقائص والحاجات.


-123-

إذا عرفت هذا فلفظ العظيم والكبير عند المشبهة من أسماء الذات، وعند أهل التوحيد من أسماء الصفات، وأما لفظ العلي فعند الكل من أسماء الصفات، إلا أنه عند المشبهة يفيد الحصول في الحيز الذي هو العلو الأعلى، وعند أهل التوحيد يفيد كونه منزهاً عن كل ما لا يليق بالإلهية، فهذا تمام البحث في هذا الباب.

الفصل التاسع

في الأسماء الحاصلة لله تعالى من باب الأسماء المضمرة

الأسماء المضمرة:

اعلم أن الأسماء المضمرة ثلاثة: أنا، وأنت، وهو، وأعرف الأقسام الثلاثة قولنا: «أنا»أن هذا اللفظ لفظ يشير به كل أحد إلى نفسه، وأعرف المعارف عند كل أحد نفسه، وأوسط هذه الأقسام قولنا: «أنت» لأن هذا خطاب للغير بشرط كونه حاضراً، فلأجل كونه خطاباً للغير يكون دون قوله أنا، ولأجل أن الشرط فيه كون ذلك المخاطب حاضراً يكون أعلى من قوله: «هو» فثبت أن أعلى الأقسام هو قوله: «أنا» وأوسطها «أنت» وأدناها «هو» وكلمة التوحيد وردت بكل واحدة من هذه الألفاظ، أما لفظ «أنا» فقال في أول سورة النحل

{ أَنْ أَنْذِرُواْ أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } [النحل16: 2]

وفي سورة طه

{ إِنَّنِى أَنَا للَّهِ لاَ إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } [طه20: 14]

وأما لفظ أنت فقد جاء في قوله:

{ فَنَادَىٰ فِى ٱلظُّلُمَـٰتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ } [الأنبياء21: 87]

وأما لفظ هو فقد جاء كثيراً في القرآن أولها في سورة البقرة في قوله:

{ وَإِلَـٰهُكُمْ إِلَـٰهٌ وٰحِدٌ لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ ٱلرَّحِيمُ } [البقرة2: 163]

وآخرها في سورة المزمل وهو قوله:

{ رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [المزمل73: 9]

وأما ورود هذه الكلمة مقروناً باسم آخر سوى هذه الأربعة فهو الذي حكاه الله تعالى عن فرعون أنه قال:

{ آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو اسرائيل } [يونس10: 90]

ثم بين الله تعالى أن تلك الكلمة ما قبلت منه.


إذا عرفت هذا فلنذكر أحكام هذه الأقسام فنقول: أما قوله: { لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } فهذا الكلام لا يجوز أن يتكلم به أحد إلا الله أو من يذكره على سبيل الحكاية عن الله، لأن تلك الكلمة تقتضي إثبات الإلهية لذلك القائل، وذلك لا يليق إلا بالله سبحانه، واعلم أن معرفة هذه الكلمة مشروطة بمعرفة قوله: «أنا» وتلك المعرفة على سبيل التمام والكمال لا تحصل إلا للحق سبحانه وتعالى؛ لأن علم كل أحد بذاته المخصوصة أكمل من علم غيره به، لا سيما في حق الحق تعالى، فثبت أن قوله: «لا إله إلا أنا» لم يحصل العلم به على سبيل الكمال إلا للحق تعالى، وأما الدرجة الثانية وهي قوله: «لا إله إلا أنت» فهذا يصح ذكره من العبد لكن بشرط أن يكون حاضراً لا غائباً، لكن هذه الحالة إنما اتفق حصولها ليونس عليه السلام عند غيبته عن جميع حظوظ النفس، وهذا تنبيه على أن الإنسان ما لم يصر غائباً عن كل الحظوظ لا يصل إلى مقام المشاهدة، وأما الدرجة الثالثة وهي قوله: «لا إله إلا هو» فهذا يصح من الغائبين.

-124-

واعلم أن درجات الحضور مختلفة بالقرب والبعد، وكمال التجلي ونقصانه، وكل درجة ناقصة من درجات الحضور فهي غيبة بالنسبة إلى الدرجة الكاملة، ولما كانت درجات الحضور غير متناهية كانت مراتب الكمالات والنقصانات غير متناهية، فكانت درجات الحضور والغيبة غير متناهية، فكل من صدق عليه أنه حاضر فباعتبار آخر يصدق عليه أنه غائب، وبالعكس وعن هذا قال الشاعر: ـ

أبا غائباً حاضراً في الفؤادسلام على الغائب الحاضر


ويحكى أن الشبلي لما قربت وفاته قال بعض الحاضرين: قل لا إله إلا الله، فقال: ـ

كل بيت أنت حاضرهغير محتاج إلى السرج
وجهك المأمول حجتنايوم تأتي الناس بالحجج


أسرار من التصوف في لفظ «هو»:

واعلم أن لفظ «هو» فيه أسرار عجيبة وأحوال عالية، فبعضها يمكن شرحه وتقريره وبيانه، وبعضها لا يمكن، قال مصنف الكتاب: وأنا بتوفيق الله كتبت أسراراً لطيفة، إلا أني كلما أقابل تلك الكلمات المكتوبة بما أجده في القلب من البهجة والسعادة عند ذكر كلمة «هو» أجد المكتوب بالنسبة إلى تلك الأحوال المشاهدة حقيراً، فعند هذا عرفت أن لهذه الكلمة تأثيراً عجيباً في القلب لا يصل البيان إليه، ولا ينتهي الشرح إليه، فلنكتب ما يمكن ذكره فنقول: فيه أسرار: الأول: أن الرجل إذا قال: «يا هو» فكأنه يقول: من أنا حتى أعرفك، ومن أنا حتى أكون مخاطباً لك، وما للتراب ورب الأرباب، وأي مناسبة بين المتولد عن النطفة والدم وبين الموصوف بالأزلية والقدم؟ فأنت أعلى من جميع المناسبات وأنت مقدس عن علائق العقول والخيالات، فلهذا السبب خاطبة العبد بخطاب الغائبين فقال: يا هو.

والفائدة الثانية: أن هذا اللفظ كما دل على إقرار العبد على نفسه بالدناءة والعدم ففيه أيضاً دلالة على أنه أقر بأن كل ما سوى الله تعالى فهو محض العدم، لأن القائل إذا قال: «يا هو» فلو حصل في الوجود شيئان لكان قولنا: «هو» صالحاً لهما جميعاً، فلا يتعين واحد منهما بسبب قوله: «هو» فلما قال: (يا هو) فقد حكم على كل ما سوى الله تعالى بأنه عدم محض ونفي صرف، كما قال تعالى:

-125-

{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص28: 88]

وهذان المقامان في الفناء عن كل ما سوى الله مقامان في غاية الجلال، ولا يحصلان إلا عند مواظبة العبد على أن يذكر الله بقوله: يا هو.

والفائدة الثالثة: أن العبد متى ذكر الله بشيء من صفاته لم يكن مستغرقاً في معرفة الله تعالى؛ لأنه إذا قال: «يا رحمن» فحينئذٍ يتذكر رحمته فيميل طبعه إلى طلبها فيكون طالباً للحصة، وكذلك إذا قال: (يا كريم، يا محسن، يا غفار، يا وهاب، يا فتاح) وإذا قال: (يا ملك) فحينئذٍ يتذكر ملكه وملكوته وما فيه من أقسام النعم فيميل طبعه إليه فيطلب شيئاً منها، وقس عليه سائر الأسماء، أما إذا قال: (يا هو) فإنه يعرف أنه هو، وهذا الذكر لا يدل على شيء غيره ألبتة، فحينئذٍ يحصل في قلبه نور ذكره، ولا يتكدر ذلك النور بالظلمة المتولدة عن ذكر غير الله، وهناك يحصل في قلبه النور التام والكشف الكامل.

والفائدة الرابعة: أن جميع الصفات المعلومة عند الخلق: إما صفات الجلال، وإما صفات الإكرام، أما صفات الجلال فهي قولنا ليس بجسم ولا بجوهر ولا عرض ولا في المكان ولا في المحل، وهذا فيه دقيقة؛ لأن من خاطب السلطان فقال: أنت لست أعمى ولست أصم ولست كذا ولا كذا ويعد أنواع المعايب والنقصانات فإنه يستوجب الزجر والحجر والتأديب، ويقال: إن مخاطبته بنفي هذه الأشياء عنه إساءة في الأدب، وأما صفات الإكرام فهي كونه خالقاً للمخلوقات مرتباً لها على النظم الأكمل، وهذا أيضاً فيه دقيقة من وجهين: الأول: لا شك أن كمال الخالق أعلى وأجل من كمال المخلوق بمراتب لا نهاية لها، فإذا شرحنا نعوت كمال الله وصفات جلاله بكونه خالقاً لهذه المخلوقات فقد جعلنا كمال هذه المخلوقات كالشرح والبيان لكمال جلال الخالق، وذلك يقتضي تعريف الكامل المتعالى بطريق في غاية الخسة والدناءة،وذلك سوء أدب، والثاني: أن الرجل إذا أخذ يمدح السلطان القاهر بأنه أعطى الفقير الفلاني كسرة خبز أو قطرة ماء فإنه يستوجب الزجر والحجر، ومعلوم أن نسبة جميع عالم المخلوقات من العرش إلى آخر الخلاء الذي لا نهاية له إلى ما في خزائن قدرة الله أقل من نسبة كسرة الخبز وقطرة الماء إلى جميع خزائن الدنيا، فإذا كان ذلك سوء أدب فهذا أولى أن يكون سوء أدب فثبت أن مدح الله وثناءه بالطريقين المذكورين فيه هذه الاعتراضات، إلا أن ههنا سبباً يرخص في ذكر هذه المدائح، وهو أن النفس صارت مستغرقة في عالم الحس والخيال فالإنسان إذا أراد جذبها إلى عتبة عالم القدس احتاج إلى أن ينبهها على كمال الحضرة المقدسة، ولا سبيل له إلى معرفة كمال الله وجلاله إلا بهذين الطريقين، أعني ذكر صفات الجلال وصفات الإكرام فيواظب على هذين النوعين حتى تعرض النفس عن عالم الحس وتألف الوقوف على عتبة القدس فإذا حصلت هذه الحالة فعند ذلك يتبنه لما في ذينك النوعين من الذكر من الاعتراضات المذكورة وعند ذلك يترك تلك الأذكار ويقول: (يا هو) كأن العبد يقول: أجل حضرتك أن أمدحك وأثني عليك بسلب نقائص المخلوقات عنك أو بإسناد كمالات المخلوقات إليك، فإن كمالك أعلى وجلالك أعظم، بل لا أمدحك ولا أثني عليك إلا بهويتك من حيث هي، ولا أخاطبك أيضاً بلفظة (أنت) لأن تلك اللفظة تفيد التيه والكبر حيث تقول الروح إني قد بلغت مبلغاً صرت كالحاضر في حضرة واجب الوجود، ولكني لا أزيد على قولي (هو) ليكون إقراراً بأنه هو الممدوح لذاته بذاته، ويكون إقراراً بأن حضرته أعلى وأجل من أن يناسبه حضور المخلوقات، فهذه الكلمة الواحدة تنبه على هذه الأسرار في مقامات التجلي والمكاشفات، فلا جرم كان هذا الذكر أشرف الأذكار لكن بشرط التنبيه لهذه الأسرار.

-126-

الفائدة الخامسة: في هذا الذكر: أن المواظبة على هذا الذكر تفيد الشوق إلى الله، والشوق إلى الله ألذ المقامات وأكثرها بهجة وسعادة، إنما قلنا أن المواظبة على هذا الذكر تورث الشوق إلى الله وذلك لأن كلمة (هو) ضمير الغائب فالعبد إذا ذكر هذه الكلمة علم أنه غائب عن الحق ثم يعلم أن هذه الغيبة ليست بسبب المكان والجهة، وإنما كانت بسبب أنه موصوف بنقصانات الحدوث والإمكان، ومعيوب بعيب الكون في إحاطة المكان والزمان، فإذا تنبه العقل لهذه الدقيقة وعلم أن هذه الصفة حاصلة في جميع الممكنات والمحدثات فعند هذا يعلم أن كل المحدثات والإبداعيات غائبة عن عتبة علو الحق سبحانه وتعالى، وعرف أن هذه الغيبة إنما حصلت بسبب المفارقة في النقصان والكمال والحاجة والاستغناء، فعند هذا يعتقد أن الحق موصوف بأنواع من الكمال متعالية عن مشابهة هذه هذه الكمالات ومقدسة عن مناسبة هذه المحادثات، واعتقد أن تصوره غائب عن العقل والفكر والذكر، فصارت تلك الكمالات مشعوراً بها من وجه دون وجه، والشعور بها من بعض الوجوه يشوق إلى الشعور بدرجاتها ومراتبها، وإذا كان لا نهاية لتلك المراتب والدرجات فكذلك لا نهاية لمراتب هذا الشوق، وكلما كان وصول العبد إلى مرتبة أعلى مما كان، أسهل كان شوقه إلى الترقي عن تلك الدرجة أقوى وأكمل، فثبت أن لفظ «هو» يفيد الشوق إلى الله تعالى، وإنما قلنا إن الشوق إلى الله أعظم المقامات، وذلك لأن الشوق يفيد حصول آلام ولذات متوالية متعاقبة، لأن بقدر ما يصل يلتذ وبقدر ما يمتنع وصوله إليه يتألم، والشعور باللذة حال زوال الألم يوجب مزيد الالتذاذ والإبتهاج والسرور، وذلك يدل على أن مقام الشوق إلى الله أعظم المقامات، فثبت أن المواظبة على ذكر كلمة «هو» تورث الشوق إلى الله تعالى وثبت أن الشوق إلى الله أعظم المقامات وأكثرها بهجة وسعادة فيلزم أن يقال: المواظبة على ذكر هذه الكلمة تفيد أعلى المقامات وأسنى الدرجات.

-127-

الفائدة السادسة: في شرح جلالة هذا الذكر: واعلم أن المقصود لا يتم إلا بذكر مقدمتين: المقدمة الأولى: أن العلم على قسمين: تصور، وتصديق، أما التصور فهو أن تحصل في النفس صورة من غير أن تحكم النفس عليها بحكم ألبتة لا بحكم وجودي ولا بحكم عدمي، أما التصديق فهو أن يحصل في النفس صورة مخصوصة، ثم أن النفس تحكم عليها إما بوجود شيء أو عدمه إذا عرفت هذا فنقول: التصور مقام التوحيد، وأما التصديق فإنه مقام التكثير. المقدمة الثانية: أن التصور على قسمين: تصور يتمكن العقل من التصرف فيه، وتصور لا يمكنه التصرف فيه: أما القسم الأول: فهو تصور الماهيات المركبة، فإنه لا يمكنه تصور الماهيات المركبة إلا بواسطة استحضار ماهيات أجزاء ذلك المركب، وهذا التصرف عمل وفكر، وتصرف من بعض الوجوه، وأما القسم الثاني: فهو تصور الماهيات البسيطة المنزهة عن جميع جهات التركيبات فإن الإنسان لا يمكنه أن يعمل عملاً يتوسل به إلى استحضار تلك الماهية، فثبت بما ذكرنا أن التصديق يجري مجرى التكثير بالنسبة إلى التصور، وأن التصور توحيد بالنسبة إلى التصديق وثبت أيضاً أن تصور الماهية البسيطة هو النهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة، وإذا عرفت هذا فنقول: قولنا في الحق سبحانه وتعالى: «يا هو» هذاتصور محض خالٍ عن التصديق، ثم إن هذا التصور تصور لحقيقة منزهة عن جميع جهات التركيب والكثرة، فكان قولنا: «يا هو» نهاية في التوحيد والبعد عن الكثرة، وهو أعظم المقامات.

الفائدة السابعة: أن تعريف الشيء إما أن يكون بنفسه، أو بالأجزاء الداخلة فيه، أو بالأمور الخارجة عنه، أما القسم الأول ـ وهو تعريفه بنفسه ـ فهو محال؛ لأن المعرف سابق على المعرف، فتعريف الشيء بنفسه يقتضي تقدم العلم به على العلم به، وذلك محال، وأما القسم الثاني ـ وهو تعريفه بالأمور الداخلة فيه ـ فهذا في حق الحق محال؛ لأن هذا إنما يجري في الماهية المركبة، وذلك في حق الحق محال، وأما القسم الثالث ـ وهو تعريفه بالأمور الخارجة عنه ـ فهذا أيضاً باطل محال؛ لأن أحوال الخلق لا يناسب شيء منها شيئاً من أحوال القديم الواجب لذاته؛ لأنه تعالى مخالف بذاته المخصوصة وبهويته المعينة لكل ما سواه ولما كان كذلك امتنع أن تكون أحوال الخلق كاشفة عن ماهية الله تعالى وحقيقته المخصوصة فإذا كان كذلك فقد انسدت أبواب التعريفات بالنسبة إلى هويته المخصوصة وماهيته المعينة، فلم يبق طريق إليه إلا من جهة واحدة، وهو أن يوجه الإنسان حدقة عقله وروحه إلى مطلع نور تلك الهوية على رجاء أنه ربما أشرق ذلك النور حال ما كانت حدقة عقله متوجهة إليها فيستسعد بمطالعة ذلك النور، فقول الذاكر «يا هو» توجيه لحدقة العقل والروح إلى الحضرة القدسية على رجاء أنه ربما حصلت له تلك السعادة.

-128-

الفائدة الثامنة: أن الرجل إذا دخل على الملك المهيب والسلطان القاهر ووقف بعقله على كمال تلك المهابة وعلى جلال تلك السلطنة فقد يصير بحيث تستولي عليه تلك المهابة وتلك السلطنة فيصير غافلاً عن كل ما سواه، حتى أنه ربما كان جائعاً فينسى جوعه، وربما كان به ألم شديد فينسى ذلك الألم في تلك الحالة، وربما رأى أباه أو ابنه في تلك الحالة ولا يعرفهما، وكل ذلك لأن استيلاء تلك المهابة عليه أذهله عن الشعور بغيره، فكذلك العبد إذا قال: «يا هو» وتجلى لعقله وروحه ذرة من نور جلال تلك الهوية وجب أن يستولي على قلبه الدهشة وعلى روحه الحيرة، وعلى فكرة الغفلة، فيصير غائباً عن كل ما سوى تلك الهوية، معزولاً عن الإلتفات إلى شيء سواها، وحينئذٍ لا يبقى معه في تلك الحالة إلا أن يقول بعقله: «هو» وبلسانه «هو» فإذا قال العبد «هو» وواظب على هذا الذكر فهذا منه تشبه بتلك الحالة على رجاء أنه ربما وصل إلى تلك الحالة، فنسأل الله تعالى الكريم أن يسعدنا بها.

الفائدة التاسعة: من فوائد هذا الذكر العالي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من جعل همومه هماً واحداً كفاه الله هموم الدنيا والآخرة " فكأن العبد يقول: همومي في الدنيا والآخرة غير متناهية، والحاجات التي هي غير متناهية لا يقدر عليها إلا الموصوف بقدرة غير متناهية، ورحمة غير متناهية، وحكمة غير متناهية، فعلى هذا أنا لا أقدر على دفع حاجاتي ولا على تحصيل مهماتي، بل ليس القادر على دفع تلك الحاجات وعلى تحصيل تلك المهمات إلا الله سبحانه وتعالى، فأنا أجعل همي مشغولاً بذكره فقط، ولساني مشغولاً بذكره فقط فإذا فعلت ذلك فهو برحمته يكفيني مهمات الدنيا والآخرة.

الفائدة العاشرة: أن العقل لا يمكنه الاشتغال بشيء حالة الاستغراق في العلم بشيء آخر، فإذا وجه فكره إلى شيء يبقى معزولاً عن غيره، فكأن العبد يقول: كلما استحضرت في ذهني العلم بشيء فاتني في ذلك الوقت العلم بغيره، فإذا كان هذا لازماً فالأولى أن أجعل قلبي وفكري مشغولاً بمعرفة أشرف المعلومات، وأجعل لساني مشغولاً بذكر أشرف المذكورات؛ فلهذا السبب أواظب على قوله: «يا هو».

الفائدة الحادية عشرة: أن الذكر أشرف المقامات، قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: " إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه "

-129-

وإذا ثبت هذا فنقول: أفضل الأذكار ذكر الله بالثناء الخالي عن السؤال، قال عليه السلام حكاية عن الله تعالى: " من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، " إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: العبد فقير محتاج، والفقير المحتاج إذا نادى مخدومه بخطاب يناسب الطلب والسؤال كان ذلك محمولاً على السؤال، فإذا قال الفقير للغني «يا كريم» كان معناه أكرم وإذا قال له: «يا نفاع» كان معناه طلب النفع، وإذا قال: «يا رحمن» كان معناه ارحم، فكانت هذه الأذكار جارية مجرى السؤال، وقد بينا أن الذكر إنما يعظم شرفه إذا كان خالياً عن السؤال والطلب، أما إذا قال: «يا هو» كان معناه خالياً عن الإشعار بالسؤال والطلب، فوجب أن يكون قولنا: «هو» أعظم الأذكار.

ولنختم هذا الفصل بذكر شريف رأيته في بعض الكتب: يا هو، يا من لا هو إلا هو، يا من لا إله إلا هو، يا أزل، يا أبد، يا دهر، يا ديهار، يا ديهور، يا من هو الحي الذي لا يموت.

ومن لطائف هذا الفصل أن الشيخ الغزالي رحمة الله عليه كان يقول: «لا إله إلا الله» توحيد العوام، «ولا إله إلا هو» توحيد الخواص، ولقد استحسنت هذا الكلام وقررته بالقرآن والبرهان: أما القرآن فإنه تعالى قال: { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً ءاخَرَ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } ثم قال بعده:

{ كُلُّ شَىْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [القصص28: 88]

معناه إلا هو، فذكر قوله إلا هو بعد قوله لا إله فدل ذلك على أن غاية التوحيد هي هذه الكلمة، وأما البرهان فهو أن من الناس من قال: إن تأثير الفاعل ليس في تحقيق الماهية وتكوينها، بل لا تأثير له إلا في إعطاء صفة الوجود لها، فقلت: فالوجود أيضاً ماهية، فوجب أن لا يكون الوجود واقعاً بتأثيره، فإن التزموا ذلك وقالوا الواقع بتأثير الفاعل موصوفية الماهية بالوجود فنقول: تلك الموصوفية إن لم تكن مفهوماً مغايراً للماهية والوجود امتنع إسنادها إلى الفاعل، وإن كانت مفهوماً مغايراً فذلك المفهوم المغاير لا بدّ وأن يكون له ماهية؛ وحينئذٍ يعود الكلام، فثبت أن القول بأن المؤثر لا تأثير له في الماهيات ينفي التأثير والمؤثر، وينفي الصنع والصانع بالكلية، وذلك باطل فثبت أن المؤثر يؤثر في الماهيات، فكل ما بالغير فإنه يرتفع بارتفاع الغير، فلولا المؤثر لم تكن تلك الماهية ماهية ولا حقيقة، فبقدرته صارت الماهيات ماهيات، وصارت الحقائق حقائق وقبل تأثير قدرته فلا ماهية ولا وجود ولا حقيقة ولا ثبوت، وعند هذا يظهر صدق قولنا: «لا هو إلا هو» أي: لا تقرر لشيء من الماهيات ولا تخصص لشيء من الحقائق إلا بتقريره وتخصيصه، فثبت أنه «لا هو إلا هو»،والله أعلم.


-130-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس