عرض مشاركة واحدة
 
  #12  
قديم 12-27-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 61-70 من 259

تفسير مفاتيح الغيب ، التفسير الكبير/ الرازي (ت 606 هـ) مصنف و مدقق 61-70 من 259





{ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }


والقول الثاني: أن كثيراً من الناس أثبتوا أنها موجودات غير متحيزة ولا حالة في المتحيز، وزعموا أنها موجودات مجردة عن الجسمية، ثم هذه الموجودات قد تكون عالية مقدسة عن تدبير الأجسام بالكلية، وهي الملائكة المقربون، كما قال الله تعالى:

{ وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } [الأنبياء21: 19]

ويليها مرتبة الأرواح المتعلقة بتدبير الأجسام، وأشرفها حملة العرش، كما قال تعالى:

{ وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَـٰنِيَةٌ } [الحاقة: 17]

والمرتبة الثانية: الحافون حول العرش، كما قال تعالى:

{ وَتَرَى ٱلْمَلَـٰئِكَةَ حَافّينَ مِنْ حَوْلِ ٱلْعَرْشِ } [الزمر: 75]

والمرتبة الثالثة: ملائكة الكرسي، والمرتبة الرابعة: ملائكة السموات طبقة طبقة، والمرتبة الخامسة: ملائكة كرة الأثير، والمرتبة السادسة: ملائكة كرة الهواء الذي هو في طبع النسيم، والمرتبة السابعة: ملائكة كرة الزمهرير، والمرتبة الثامنة: مرتبة الأرواح المتعلقة بالبحار، والمرتبة التاسعة: مرتبة الأرواح المتعلقة بالجبال، والمرتبة العاشرة: مرتبة الأرواح السفلية المتصرفة في هذه الأجسام النباتية والحيوانية الموجودة في هذاالعالم.


واعلم أنه على كلا القولين فهذه الأرواح قد تكون مشرقة إلهية خيرة سعيدة، وهي المسماة بالصالحين من الجن، وقد تكون كدرة سفلية شرير شقية، وهي المسماة بالشياطين.

واحتج المنكرون لوجود الجن والشياطين بوجوه: الحجة الأولى: إن الشيطان لو كان موجوداً لكان إما أن يكون جسماً كثيفاً أو لطيفاً، والقسمان بطلان فيبطل القول بوجوده وإنما قلنا أنه يمتنع أن يكون جسماً كثيفاً لأنه لو كان كذلك لوجب أن يراه كل من كان سليم الحس، إذ لو جاز أن يكون بحضرتنا أجسام كثيفة ونحن لا نراها لجاز أن يكون بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة ورعود وبروق مع أنا لا نشاهد شيئاً منها، ومن جوز ذلك كان خارجاً عن العقل، وإنما قلنا إنه لا يجوز كونها أجساماً لطيفة وذلك لأنه لو كان كذلك لوجب أن تتمزق أو تتفرق عند هبوب الرياح العاصفة القوية، وأيضاً يلزم أن لا يكون لها قوة وقدرة على الأعمال الشاقة، ومثبتو الجن ينسبون إليها الأعمال الشاقة، ولما بطل القسمان ثبت فساد القول بالجن.

الحجة الثانية: أن هذه الأشخاص المسماة بالجن إذا كانوا حاضرين في هذا العالم مخالطين للبشر فالظاهر الغالب أن يحصل لهم بسبب طول المخالطة والمصاحبة إما صداقة وإما عداوة، فإن حصلت الصداقة وجب ظهور المنافع بسبب تلك الصداقة، وإن حصلت العداوة وجب ظهور المضار بسبب تلك العداوة، إلا أنا لا نرى أثراً لا من تلك الصداقة ولا من تلك العداوة وهؤلاء الذين يمارسون صنعة التعزيم إذا تابوا من الأكاذيب يعترفون بأنهم قط ما شاهدوا أثراً من هذا الجن، وذلك مما يغلب على الظن عدم هذه الأشياء وسمعت واحداً ممن تاب عن تلك الصنعة قال إني واظبت على العزيمة الفلانية كذا من الأيام وما تركت دقيقة من الدقائق إلا أتيت بها ثم إني ما شاهدت من تلك الأحوال المذكورة أثراً ولا خبراً.

-61-

الحجة الثالثة: أن الطريق إلى معرفة الأشياء إما الحس، وإما الخبر، وإما الدليل: أما الحس فلم يدل على وجود هذه الأشياء؛ لأن وجودها إما بالصورة أو الصوت فإذا كنا لا نرى صورة ولا سمعنا صوتاً فكيف يمكننا أن ندعي الإحساس بها، والذين يقولون أنا أبصرناها أو سمعنا أصواتها فهم طائفتان: المجانين الذين يتخيلون أشياء بسبب خلل أمزجتهم فيظنون أنهم رأوها، والكذابون المخرفون، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة أخبار الأنبياء والرسل فباطل لأن هذه الأشياء لو ثبتت لبطلت نبوة الأنبياء فإن على تقدير ثبوتها يجوز أن يقال إن كل ما تأتي به الأنبياء من المعجزات إنما حصل بإعانة الجن والشياطين، وكل فرع أدى إلى إبطال الأصل كان باطلاً، مثاله إذا جوزنا نفوذ الجن في بواطن الإنسان فلم لا يجوز أن يقال: إن حنين الجذع إنما كان لأجل أن الشيطان نفذ في ذلك الجذع ثم أظهر الحنين ولم لا يجوز أن يقال إن الناقة إنما تكلمت مع الرسول عليه السلام لأن الشيطان دخل في بطنها وتكلم، ولم لا يجوز أن يقال إن الشجرة إنما انقلعت من أصلها لأن الشيطان اقتلعها، فثبت أن القول بإثبات الجن والشياطين يوجب القول ببطلان نبوة الأنبياء عليهم السلام، وأما إثبات هذه الأشياء بواسطة الدليل والنظر فهو متعذر، لأنا لا نعرف دليلاً عقلياً يدل على وجود الجن والشياطين، فثبت أنه لا سبيل لنا إلى العلم بوجود هذه الأشياء، فوجب أن يكون القول بوجود هذه الأشياء باطلاً، فهذه جملة شبه منكري الجن والشياطين.

والجواب عن الأولى: بأنا نقول: إن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسماً، فلم لا يجوز أن يقال إنه جوهر مجرد عن الجسمية والجواب عن الأولى بأنا نقول: أن الشبهة التي ذكرتم تدل على أنه يمتنع كون الجن جسماً فلم لا يجوز أن يقال: إنه جوهر مجرد عن الجسمية.

واعلم أن القائلين بهذا القول فِرَق: الأولى الذين قالوا: النفوس الناطقة البشرية المفارقة للأبدان قد تكون خيرة، وقد تكون شريرة، فإن كانت خيرة فهي الملائكة الأرضية، وإن كانت شريرة فهي الشياطين الأرضية، ثم إذا حدث بدن شديد المشابهة ببدن تلك النفوس المفارقة وتعلق بذلك البدن نفس شديدة المشابهة لتلك النفس المفارقة فحينئذٍ يحدث لتلك النفس المفارقة ضرب تعلق بهذا البدن الحادث، وتصير تلك النفس المفارقة معاونة لهذه النفس المتعلقة بهذا البدن على الأعمال اللائقة بها، فإن كانت النفسان من النفوس الطاهرة المشرقة الخيرة كانت تلك المعاونة والمعاضدة إلهاماً، وإن كانتا من النفوس الخبيثة الشريرة كانت تلك المعاونة والمناصرة وسوسة، فهذا هو الكلام في الإلهام والوسوسة على قول هؤلاء.

-62-

الفريق الثاني الذين قالوا: الجن والشياطين جواهر مجردة عن الجسمية وعلائقها، وجنسها مخالف لجنس النفوس الناطقة البشرية، ثم إن ذلك الجنس يندرج فيه أنواع أيضاً، فإن كانت طاهرة نورانية فهي الملائكة الأرضية، وهم المسمون بصالحي الجن، وإن كانت خبيثة شريرة فهي الشياطين المؤذية، إذا عرفت هذا فنقول: الجنسية علة الضم، فالنفوس البشرية الطاهرة النورانية تنضم إليها تلك الأرواح الطاهرة النورانية وتعينها على أعمالها التي هي من أبواب الخير والبر والتقوى، والنفوس البشرية الخبيثة الكدرة تنضم إليها تلك الأرواح الخبيثة الشريرة وتعينها على أعمالها التي هي من باب الشر والإثم والعدوان.

الفريق الثالث، وهم الذين ينكرون وجود الأرواح السفلية، ولكنهم أثبتوا وجود الأرواح المجردة الفلكية، وزعموا أن تلك الأرواح أرواح عالية قاهرة قوية، وهي مختلفة بجواهرها وماهياتها، فكما أن لكل روح من الأرواح البشرية بدنا معيناً فكذلك لكل روح من الأرواح الفلكية بدن معين، وهو ذلك الفلك المعين، وكما أن الروح البشرية تتعلق أولاً بالقلب ثم بواسطته يتعدى أثر ذلك الروح إلى كل البدن، فكذلك الروح الفلكي يتعلق أولاً بالكواكب ثم بواسطة ذلك التعلق يتعدى أثر ذلك الروح إلى كلية ذلك الفلك وإلى كلية العالم، وكما أنه يتولد في القلب والدماغ أرواح لطيفة وتلك الأرواح تتأدى في الشرايين والأعصاب إلى أجزاء البدن ويصل بهذا الطريق قوة الحياة والحس والحركة إلى كل جزء من أجزاء الأعضاء، فكذلك ينبعث من جرم الكواكب خطوط شعاعية تتصل بجوانب العالم وتتأدى قوة تلك الكواكب بواسطة تلك الخطوط الشعاعية إلى أجزاء هذا العالم وكما أن بواسطة الأرواح الفائضة من القلب والدماغ إلى أجزاء البدن يحصل في كل جزء من أجزاء ذلك البدن قوى مختلفة وهي الغاذية والنامية والمولدة والحساسة ـ فتكون هذه القوى كالنتائج والأولاد لجوهر النفس المدبرة لكلية البدن، فكذلك بواسطة الخطوط الشعاعية المنبثة من الكواكب الواصلة إلى أجزاء هذا العالم تحدث في تلك الأجزاء نفوس مخصوصة مثل نفس زيد ونفس عمرو، وهذه النفوس كالأولاد لتلك النفوس الفلكية، ولما كانت النفوس الفلكية مختلفة في جواهرها وماهياتها، فكذلك النفوس المتولدة من نفس فلك زحل مثلاً طائفة، والنفوس المتولدة من نفس فلك المشتري طائفة أخرى، فتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل متجانسة متشاركة، ويحصل بينها محبة ومودة، وتكون النفوس المنتسبة إلى روح زحل مخالفة بالطبع والماهية للنفوس المنتسبة إلى روح المشتري، وإذا عرفت هذا فنقول: قالوا: إن العلة تكون أقوى من المعلول، فكل طائفة من النفوس البشرية طبيعة خاصة، وهي تكون معلولة لروح من تلك الأرواح الفلكية وتلك الطبيعة تكون في الروح الفلكي أقوى وأعلى بكثير منها في هذه الأرواح البشرية، وتلك الأرواح الفلكية بالنسبة إلى تلك الطائفة من الأرواح البشرية كالأب المشفق والسلطان الرحيم، فلهذا السبب تلك الأرواح الفلكية تعين أولادها على مصالحها وتهديها تارة في النوم على سبيل الرؤيا، وأخرى في اليقظة في سبيل الإلهام، ثم إذا اتفق لبعض هذه النفوس البشرية قوة قوية من جنس تلك الخاصية وقوى اتصاله بالروح الفلكي الذي هو أصله ومعدنه ظهرت عليه أفعال عجيبة وأعمال خارقة للعادات، فهذا تفصيل مذاهب من يثبت الجن والشياطين، ويزعم أنها موجودات ليست أجساماً ولا جسمانية.

-63-

واعلم أن قوماً من الفلاسفة طعنوا في هذا المذهب، وزعموا أن المجرد يمتنع عليه إدراك الجزئيات، والمجردات يمتنع كونها فاعلة للأفعال الجزئية.

واعلم أن هذا باطل لوجهين: الأول: أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص المعين بأنه إنسان وليس بفرس، والقاضي على الشيئين لا بدّ وأن يحضره المقضي عليهما، فههنا شيء واحد هو مدرك للكلي، وهو النفس، فيلزم أن يكون المدرك للجزئي هو النفس. الثاني: هب أن النفس المجردة لا تقوى على إدراك الجزئيات ابتداء، لكن لا نزاع أنه يمكنها أن تدرك الجزئيات بواسطة الآلات الجسمانية، فلم لا يجوز أن يقال: إن تلك الجواهر المجردة المسماة بالجن والشياطين لها آلات جسمانية من كرة الأثير أو من كرة الزمهرير، ثم إنها بواسطة تلك الآلات الجسمانية تقوى على إدراك الجزئيات وعلى التصرف في هذه الأبدان، فهذا تمام الكلام في شرح هذا المذاهب.

وأما الذين زعموا أن الجن أجسام هوائية أو نارية فقالوا: الأجسام متساوية في الحجمية والمقدار، وهذان المعنيان أعراض، فالأجسام متساوية في قبول هذه الأعراض، والأشياء المختلفة بالماهية لا يمتنع اشتراكها في بعض اللوازم، فلم لا يجوز أن يقال: الأجسام مختلفة بحسب ذواتها المخصوصة وماهياتها المعينة، وإن كانت مشتركة في قبول الحجمية والمقدار؟ وإذا ثبت هذا فنقول: لم لا يجوز أن يقال: أحد أنواع الأجسام أجسام لطيفة نفاذة حية لذواتها عاقلة لذواتها، قادرة على الأعمال الشاقة لذواتها، وهي غير قابلة للتفرق والتمزق؟ وإذا كان الأمر كذلك فتلك الأجسام تكون قادرة على تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة، ثم إن الرياح العاصفة لا تمزقها، والأجسام الكثيفة لا تفرقها، أليس أن الفلاسفة قالوا: إن النار التي تنفصل عن الصواعق تنفذ في اللحظة اللطيفة في بواطن الأحجار والحديد، وتخرج من الجانب الآخر؟ فلم لا يعقل مثله في هذه الصورة، وعلى هذا التقدير فإن الجن تكون قادرة على النفوذ في بواطن الناس وعلى التصرف فيها، وأنها تبقى حية فعالة مصونة عن الفساد إلى الأجل المعين والوقت المعلوم، فكل هذه الأحوال احتمالات ظاهرة، والدليل لم يقم على إبطالها، فلم يجز المصير إلى القول بإبطالها.

-64-

وأما الجواب عن الشبهة الثانية: أنه لا يجب حصول تلك الصداقة والعداوة مع كل واحد وكل واحد لا يعرف إلا حال نفسه، أما حال غيره فإنه لا يعلمها، فبقي هذا الأمر في حيز الاحتمال.

وأما الجواب عن الشبهة الثالثة فهو أنا نقول: لا نسلم أن القول بوجود الجن والملائكة يوجب الطعن في نبوة الأنبياء عليهم السلام، وسيظهر الجواب عن الأجوبة التي ذكرتموها فيما بعد ذلك، فهذا آخر الكلام في الجواب عن الشبهات.

دليل وجود الجن من القرآن:

المسألة الثانية: اعلم أن القرآن والأخبار يدلان على وجود الجن والشياطين: أما القرآن فآيات: الآية الأولى قوله تعالى:

{ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ ٱلْجِنّ يَسْتَمِعُونَ ٱلْقُرْءانَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُواْ أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِىَ وَلَّوْاْ إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ *قَالُواْ يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم } [الأحقاف: 29، 30]

وهذا نص على وجودهم وعلى أنهم سمعوا القرآن، وعلى أنهم أنذروا قومهم، والآية الثانية قوله تعالى:

{ وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ ٱلشَّيَـٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَـٰنَ } [البقرة2: 102]

والآية الثالثة قوله تعالى في قصة سليمان عليه السلام:

{ يَعملونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَـٰرِيبَ وَتَمَـٰثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ راسِيَـٰتٍ ٱعْمَلُواْ } [سبأ34: 13] وقال تعالى:
{ وَٱلشَّيَـٰطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ *وَءاخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِى ٱلأَصْفَادِ } [صۤ38: 37، 38] وقال تعالى:
{ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } [سبأ34: 12] والآية الرابعة قوله تعالى:
{ يَمَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُم أَن تَنفُذُوا مِن أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } [الرحمن55: 33] والآية الخامسة قوله تعالى:
{ إِنَّا زَيَّنَّا ٱلسَّمَاء ٱلدُّنْيَا بِزِينَةٍ ٱلْكَوٰكِبِ *وَحِفْظاً مّن كُلّ شَيْطَـٰنٍ مَّارِدٍ } [الصافات38: 6، 7]

وأما الأخبار فكثيرة: ـ


الخبر الأول: روى مالك في «الموطأ»، عن صيفي بن أفلح، عن أبي السائب مولى هشام بن زهرة أنه دخل على أبي سعيد الخدري، قال: فوجدته يصلي، فجلست أنتظره حتى يقضي صلاته، قال: فسمعت تحريكاً تحت سريره في بيته، فإذا هي حية، فقمت لأقتلها، فأشار أبو سعيد أن إجلس، فلما انصرف من صلاته أشار إلى بيت في الدار فقال: ترى هذا البيت؟ فقلت نعم، فقال: إنه كان فيه فتى حديث عهد بعرس، وساق الحديث إلى أن قال: فرأى امرأته واقفة بين الناس، فأدركته غيرة فأهوى إليها بالرمح ليطعنها بسبب الغيرة فقالت: لا تعجل حتى تدخل وتنظر ما في بيتك، فدخل فإذا هو بحية مطوقة على فراشه فركز فيها رمحه فاضطربت الحية في رأس الرمح وخر الفتى ميتاً، فما ندري أيهما كان أسرع موتاً: الفتى أم الحية، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بالمدينة جناً قد أسلموا، فمن بدا لكم منهم فآذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان.

-65-

الخبر الثاني: روى مالك في «الموطأ» عن يحيـى بن سعيد قال: لما أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم رأى عفريتاً من الجن يطلبه بشعلة من نار كلما التفت رآه، فقال جبريل عليه السلام: ألا أعلمك كلمات إذا قلتهن طفئت شعلته وخر لفيه، قل: أعوذ بوجه الله الكريم، وبكلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء، ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما نزل إلى الأرض، وشر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن.

والخبر الثالث: روى مالك أيضاً في «الموطأ» أن كعب الأخبار كان يقول: أعوذ بوجه الله العظيم الذي ليس شيء أعظم منه، وبكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وبأسمائه كلها ما قد علمت منها وما لم أعلم، من شر ما خلق وذرأ وبرأ.

والخبر الرابع: روى أيضاً مالك أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله، إني أروع في منامي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قل: أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين، وأن يحضرون.

والخبر الخامس: ما اشتهر وبلغ مبلغ التواتر من خروج النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن وقراءته عليهم، ودعوته إياهم إلى الإسلام.

والخبر السادس: روى القاضي أبو بكر في «الهداية» أن عيسى بن مريم عليهما السلام دعا ربه أن يريه موضع الشيطان من بني آدم، فأراه ذلك فإذا رأسه مثل رأس الحية واضع رأسه على قلبه، فإذا ذكر الله تعالى خنس، وإذا لم يذكره وضع رأسه على حبة قلبه.

والخبر السابع: قوله عليه السلام: " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم " وقال: " ما منكم أحد إلا وله شيطان " قيل: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: " ولا أنا، إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم " والأحاديث في ذلك كثيرة، والقدر الذي ذكرناه كاف.

خلق الجن من النار:

المسأل الثالثة: في بيان أن الجن مخلوق من النار: والدليل عليه قوله تعالى:

{ وَٱلْجَآنَّ خَلَقْنَـٰهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ ٱلسَّمُومِ } [الحجر15: 27]

وقال تعالى حاكياً عن إبليس لعنه الله أنه قال:

{ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [الأعراف7: 12]

واعلم أن حصول الحياة في النار غير مستبعد، ألا ترى أن الأطباء قالوا: المتعلق الأول للنفس هو القلب والروح، وهما في غاية السخونة، وقال جالينوس: إني بقرت مرة بطن قرد فأدخلت يدي في بطنه، وأدخلت أصبعي في قلبه فوجدته في غاية السخونة بل تزيد، ونقول: أطبق الأطباء على أن الحياة لا تحصل إلا بسبب الحرارة الغريزية، وقال بعضهم: الأغلب على الظن أن كرة النار تكون مملوءة من الروحانيات.


-66-

سبب تسمية الجن جنا:

المسألة الرابعة: ذكروا قولين في أنهم لم سموا بالجن، الأول: أن لفظ الجن مأخوذ من الاستتار، ومنه الجنة لاستتار أرضها بالأشجار، ومنه الجنة لكونها ساترة للإنسان، ومنه الجن لاستتارهم عن العيون، ومنه المجنون لاستتار عقله، ومنه الجنين لاستتاره في البطن ومنه قوله تعالى:

{ ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً } [المجادلة58: 16]
{ ٱتَّخَذْواْ أَيْمَـٰنَهُمْ جُنَّةً } [المنافقون63: 2]

أي وقاية وستراً، واعلم أن هذا القول يلزم أن تكون الملائكة من الجن لاستتارهم عن العيون، إلا أن يقال: إن هذا من باب تقييد المطلق بسبب العرف. والقول الثاني: أنهم سموا بهذا الاسم لأنهم كانوا في أول أمرهم خزان الجنة والقول الأول أقوى.


طوائف المكلفين:

المسألة الخامسة: اعلم أن طوائف المكلفين أربعة: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين، واختلفوا في الجن والشياطين فقيل: الشياطين جنس والجن جنس آخر، كما أن الإنسان جنس والفرس جنس آخر، وقيل: الجن منهم أخيار ومنهم أشرار والشياطين اسم لأَشرار الجن.

تسلط الجن على الإنس:

المسألة السادسة: المشهور أن الجن لهم قدرة على النفوذ في بواطن البشر، وأنكر أكثر المعتزلة ذلك، أما المثبتون فقد احتجوا بوجوه: الأول: أنه إن كان الجن عبارة عن موجود ليس بجسم ولا جسماني فحينئذٍ يكون معنى كونه قادراً على النفوذ في باطنه أنه يقدر على التصرف في باطنه، وذلك غير مستبعد، وإن كان عبارة عن حيوان هوائي لطيف نفاذ كما وصفناه كان نفاذه في باطن بني آدم أيضاً غير ممتنع قياساً على النفس وغيره. الثاني: قوله تعالى:

{ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ ٱلَّذِى يَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّيْطَـٰنُ مِنَ ٱلْمَسّ } [البقرة2: 275]

الثالث: قوله عليه السلام: " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم "


أما المنكرون فقد احتجوا بأمور: الأول: قوله تعالى حكاية عن إبليس لعنه الله

{ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سُلْطَـٰنٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِى } [إبراهيم14: 22]

صرح بأنه ما كان له على البشر سلطان إلا من الوجه الواحد، وهو إلقاء الوسوسة والدعوة إلى الباطل. الثاني: لا شك أن الأنبياء والعلماء المحققين يدعون الناس إلى لعن الشيطان والبراءة منه، فوجب أن تكون العداوة بين الشياطين وبينهم أعظم أنواع العداوة، فلو كانوا قادرين على النفوذ في بواطن البشر وعلى إيصال البلاء والشر إليهم لوجب أن يكون تضرر الأنبياء والعلماء منهم أشد من تضرر كل أحد، ولما لم يكن كذلك علمنا أنه باطل.


صفة الملائكة:

المسألة السابعة: اتفقوا على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأما الجن والشياطين فإنهم يأكلون وشربون، قال عليه السلام في الروث والعظم: " إنه زاد إخوانكم من الجن "

-67-

وأيضاً فإنهم يتوالدون قال تعالى:

{ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاء مِن دُونِى } [الكهف18: 50].


وسوسة الشيطان:

المسألة الثامنة في كيفية الوسوسة بناءً على ما ورد في الآثار: ذكروا أنه يغوص في باطن الإنسان، ويضع رأسه على حبة قلبه، ويلقي إليه الوسوسة واحتجوا عليه بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم، ألا فضيقوا مجاريه بالجوع " وقال عليه السلام: " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات "

ومن الناس من قال: هذه الأخبار لا بد، من تأويلها، لأنه يمتنع حملها على ظواهرها، واحتج عليه بوجوه: الأول: أن نفوذ الشياطين في بواطن الناس محال؛ لأنه يلزم إما اتساع تلك المجاري أو تداخل تلك الأجسام. الثاني: ما ذكرنا أن العداوة الشديدة حاصلة بينه وبين أهل الدين، فلو قدر على هذا النفوذ فلم لا يخصهم بمزيد الضرر؟ الثالث: أن الشيطان مخلوق من النار، فلو دخل في داخل البدن لصار كأنه نفذ النار في داخل البدن، ومعلوم أنه لا يحس بذلك. الرابع: أن الشياطين يحبون المعاصي وأنواع الكفر والفسق، ثم إنا نتضرع بأعظم الوجوه إليهم ليظهروا أنواع الفسق فلا نجد منه أثراً ولا فائدة، وبالجملة فلا نرى لا من عداوتهم ضرراً ولا من صداقتهم نفعاً.

وأجاب مثبتو الشياطين عن السؤال الأول: بأن على القول بأنها نفوس مجردة فالسؤال زائل، وعلى القول بأنها أجسام لطيفة كالضوء والهواء فالسؤال أيضاً زائل، وعن الثاني: لا يبعد أن يقال: إن الله وملائكته يمنعونهم عن إيذاء علماء البشر، وعن الثالث: أنه لما جاز أن يقول الله تعالى لنار إبراهيم

{ يٰنَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَـٰمَا عَلَىٰ إِبْرٰهِيمَ } [الأنبياء21: 69]

فلم لا يجوز مثله ههنا، وعن الرابع: أن الشياطين مختارون، ولعلهم يفعلون بعض القبائح دون بعض.


تحقيق الكلام في الوسوسة:

المسألة التاسعة، في تحقيق الكلام في الوسوسة على الوجه الذي قرره الشيخ الغزالي في كتاب «الإحياء»، قال: القلب مثل قبة لها أبواب تنصب إليها الأحوال من كل باب، أو مثل هدف ترمى إليه السهام من كل جانب، أو مثل مرآة منصوبة تجتاز عليها الأشخاص، فتتراءى فيها صورة بعد صورة، أو مثل حوض تنصب إليه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة واعلم أن مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب ساعة فساعة إما من الظاهر كالحواس الخمس، وإما من البواطن كالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة في مزاج الإنسان، فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب، وكذا إذا هاجت الشهوة أو الغضب حصل من تلك الأحوال آثار في القلب، وأما إذا منع الإنسان عن الإدراكات الظاهرة فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى، وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال، فالقلب دائماً في التغير والتأثر من هذه الأسباب، وأخص الآثار الحاصلة في القلب هي الخواطر، وأعني بالخواطر ما يعرض فيه من الأفكار والأذكار، وأعني بها إدراكات وعلوماً إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر، وإنما تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بالخيال بعد أن كان القلب غافلاً عنها، فالخواطر هي المحركات للإرادات، والإرادات محركة للأعضاء، ثم هذه الخواطر المحركة لهذه الإرادات تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة ـ وإلى ما ينفع ـ أعني ما ينفع في العاقبة ـ فهما خاطران مختلفان، فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً، والمذموم يسمى وسواساً، ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر أحوال حادثة فلا بدّ لها من سبب، والتسلسل محال، فلا بدّ من انتهاء الكل إلى واجب الوجود، وهذا ملخص كلام الشيخ الغزالي بعد حذف التطويلات منه.

-68-

تحقيق كلام الغزالي:

المسألة العاشرة: في تحقيق الكلام فيما ذكره الغزالي: اعلم أن هذا الرجل دار حول المقصود إلا أنه لا يحصل الغرض إلا من بعد مزيد التنقيح، فنقول: لا بدّ قبل الخوض في المقصود من تقديم مقدمات.

المقدمة الأولى: لا شك أن ههنا مطلوباً ومهروباً. وكل مطلوب فأما أن يكون مطلوباً لذاته أو لغيره، ولا يجوز أن يكون كل مطلوب مطلوباً لغيره. وأن يكون كل مهروب مهروباً عنه لغيره: وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل، وهما محالان، فثبت أنه لا بدّ من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوباً لذاه، وبوجود شيء يكون مهروباً عنه لذاته.

المقدمة الثانية: إن الاستقراء دل على أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور، والمطلوب بالتبع ما يكون وسيلة إليهما، والمهروب عنه بالذات هو الألم والحزن، والمهروب عنه بالتبع ما يكون وسيلة إليهما.

المقدمة الثالثة: إن اللذيذ عند كل قوة من القوى النفسانية شيء آخر، فاللذيذ عند القوة الباصرة شيء، واللذيذ عند القوة السامعة شيء آخر، واللذيذ عند القوة الشهوانية شيء ثالث، واللذيذ عند القوة الغضبية شيء رابع، واللذيذ عند القوة العاقلة شيء خامس.

المقدمة الرابعة: إن القوة الباصرة إذا أدركت موجوداً في الخارج لزم من حصول ذلك الإدراك البصري وقوف الذهن على ماهية ذلك المرئي، وعند الوقوف عليه يحصل العلم بكونه لذيذاً أو مؤلماً أو خالياً عنهما، فإن حصل العلم بكونه لذيذا ترتب على حصول هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى تحصيله، وإن حصل العلم بكونه مؤلماً ترتب على هذا العلم أو الاعتقاد حصول الميل إلى البعد عنه والفرار منه، فإن لم يحصل العلم بكونه مؤلماً ولا بكونه لذيذاً لم يحصل في القلب لا رغبة إلى الفرار عنه ولا رغبة إلى تحصيله.

-69-

المقدمة الخامسة: إن العلم بكونه لذيذاً إنما يوجب حصول الميل والرغبة في تحصيله إذا حصل ذلك العلم خالياً عن المعارض والمعاوق، فأما إذا حصل هذا المعارض لم يحصل ذلك الاقتضاء، مثاله إذا رأينا طعاماً لذيذاً فعلمنا بكونه لذيذاً، إنما يؤثر في الإقدام على تناوله إذا لم نعتقد أنه حصل فيه ضرر زائد، أما إذا اعتقدنا أنه حصل فيه ضرر زائد فعند هذا يعتبر العقل كيفية المعارضة والترجيح، فأيهما غلب على ظنه أنه أرجح عمل بمقتضى ذلك الرجحان، ومثال آخر لهذا المعنى: إن الإنسان قد يقتل نفسه وقد يلقي نفسه من السطح العالي، إلا أنه إنما يقدم على هذا العمل إذا اعتقد أنه بسبب تحمل ذلك العمل المؤلم يتخلص عن مؤلم آخر أعظم منه، أو يتوصل به إلى تحصيل منفعة أعلى حالاً منها، فثبت بما ذكرنا أن اعتقاد كونه لذيذاً أو مؤلماً إنما يوجب الرغبة والنفرة إذا خلا ذلك الاعتقاد عن المعارض.

المقدمة السادسة: في بيان أن التقرير الذي بيناه يدل على أن الأفعال الحيوانية لها مراتب مرتبة ترتيباً ذاتياً لزومياً عقلياً، وذلك لأن هذه الأفعال مصدرها القريب هو القوى الموجودة في العضلات، إلا أن هذه القوى صالحة للفعل وللترك، فامتنع صيرورتها مصدراً للفعل بدلاً عن الترك، وللترك بدلاً عن الفعل، إلا بضميمة تنضم إليها، وهي الإرادات ثم إن تلك الإرادات إنما توجد وتحدث لأجل العلم بكونها لذيذة أو مؤلمة، ثم إن تلك العلوم إن حصلت بفعل الإنسان عاد البحث الأول فيه، ولزم إما الدور وإما التسلسل وهما محالان، وإما الانتهاء إلى علوم وإدراكات وتصورات تحصل في جوهر النفس من الأسباب الخارجة، وهي إما الاتصالات الفلكية على مذهب قوم أو السبب الحقيقي وهو أن الله تعالى يخلق تلك الاعتقادات أو العلوم في القلب، فهذا تلخيص الكلام في أن الفعل كيف يصدر عن الحيوان.

إذا عرفت هذا فاعلم أن نفاة الشيطان ونفاة الوسوسة قالوا: ثبت أن المصدر القريب للأفعال الحيوانية هو هذه القوى المذكورة في العضلات والأوتار، فثبت أن تلك القوى لا تصير مصادر للفعل والترك إلا عند انضمام الميل والإرادة إليها، وثبت أن تلك الإرادة من لوازم حصول الشعور بكون ذلك الشيء لذيذاً أو مؤلماً، وثبت أن حصول ذلك الشعور لا بدّ وأن يكون يخلق الله تعالى ابتداء أو بواسطة مراتب شأن كل واحد منها في استلزام ما بعده على الوجه الذي قررناه، وثبت أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله أم لازم لزوماً ذاتياً واجباً، فإنه إذا أحس بالشيء وعرف كونه ملائماً مال طبعه إليه، وإذا مال طبعه إليه تحركت القوة إلى الطلب، فإذا حصلت هذه المراتب حصل الفعل لا محالة، فلو قدرنا شيطاناً من الخارج وفرضنا أنه حصلت له وسوسة كانت تلك الوسوسة عديمة الأثر؛ لأنه إذا حصلت تلك المراتب المذكورة حصل الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، وءن لم يحصل مجموع تلك المراتب امتنع حصول الفعل سواء حصل هذا الشيطان أو لم يحصل، فعلمنا أن القول بوجود الشيطان وبوجود الوسوسة قول باطل، بل الحق أن نقول: إن اتفق حصول هذه المراتب في الطرف النافع سميناها بالإلهام، وإن اتفق حصولها في الطرف الضار سميناها بالوسوسة، هذا تمام الكلام في تقرير الإشكال.

-70-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس