عرض مشاركة واحدة
 
  #5  
قديم 06-11-2012
ابو عبد الله العقبي ابو عبد الله العقبي غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Jun 2012
المشاركات: 12
افتراضي رد: الخلافة على المنهاج و كيف تقام : للشيخ عبد الرحمن العقبي


المسألة العاشرة

الدعوة السرية والجهرية


من أراد أن ينشئ حزبا مجزئا لاقامة الخلافة على منهاج النبوة وإيجاد الجماعة على إمام راشد فعليه أن يتأسى بما فعله محمد ص في إيجاد حزبه، ومما ثبت عنه ص أنه دعا إلى الله سرًّا فترة من الزمن ثم جهر. والأدلة على هذا التقسيم ما يلي:
• عبد الرزاق في المصنف قال معمر: قال الزهري: ... ثم دعا رسول الله ص إلى الاسلام سرا وجهرا.
• ابن هشام في السيرة: فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ ص يَذْكُرُ مَا أَنْعَمَ اللّهُ بِهِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْعِبَادِ بِهِ مِنْ النّبُوّةِ سِرًّا إلَى مَنْ يَطْمَئِنّ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ.
• أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن اسحق: كان ص من حين أُنزل عليه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} (العلق:1) إلى أن كلف الدعوة وإظهارها فيما أنزل عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر:94)، {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (الشعراء:214)، {وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ} (الحجر:89) ثلاث سنين لا يظهر الدعوة إلا للمختصين به.
• ابن هشام عن ابن اسحق: ثُمّ دَخَلَ النّاسُ فِي الْإِسْلَامِ أَرْسَالًا مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ حَتّى فَشَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ بِمَكّةَ وَتُحَدّثَ بِهِ. ثُمّ إنّ اللّهَ ﻷ أَمَرَ رَسُولَهُ ص أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ وَأَنْ يُبَادِيَ النّاسَ بِأَمْرِهِ وَأَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ، وَكَانَ بَيْنَ مَا أَخْفَى رَسُولُ اللّهِ ص أَمْرَهُ وَاسْتَتَرَ بِهِ إلَى أَنْ أَمَرَهُ اللّهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِ دِينِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ -فِيمَا بَلَغَنِي- مِنْ مَبْعَثِهِ ثُمّ قَالَ اللّهُ تَعَالَى لَهُ: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر:94)، وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ | وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء:214-215)، {وَقُلْ إِنّي أَنَا النّذِيرُ الْمُبِينُ} (الحجر:89).
• ابن الجوزي في الوفا بأحوال المصطفى: كان ص في أول نبوته يدعو الناس إلى الإسلام سرًّا، وكان أبو بكر يدعو أيضا من يثق به من قومه، فلما مضت من النبوة ثلاث سنين نزل عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر:94)، فأظهر الدعوة.
• الطبري في التفسير: حدثني المثنى، قال: ثنا إسحاق، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: مازال النبيّ ص مستخفيا حتى نزلت: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر:94)، فخرج هو وأصحابه.
• الماوردي في الحاوي: "وَاسْتَسَرَّ رَسُولُ اللَّهِ ص بِالْإِنْذَارِ مَنْ يَأْمَنُهُ... وَجَعَلَ أَبُو بَكْرٍ س يَدْعُو إِلَى الْإِسْلَامِ مَنْ وَثِقَ بِهِ: لِأَنَّهُ كَانَ تَاجِرًا ذَا خُلُقٍ، وَمَعْرُوفًا، وَكَانَ أَنْسَبَ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ، وَأَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، حَسَنَ التَّآلُفِ لَهُمْ، وَكَانُوا يُكْثِرُونَ غِشْيَانَهُ، فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ: فَجَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص حَتَّى اسْتَجَابُوا لَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَصَلَّوْا، فَصَارُوا مَعَ مَنْ تَقَدَّمَ ثَمَانِيَةً أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَصَلَّى، ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ فِي الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص عَلَى الِاسْتِسْرَارِ بِدُعَائِهِ مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ مَبْعَثِهِ، وَقَدِ انْتَشَرَتْ دَعْوَتُهُ فِي قُرَيْشٍ، إِلَى أَنْ أُمِرَ بِالدُّعَاءِ جَهْرًا، وَنَزَلَ عَلَيْهِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (الحجر:94)، فَلَزِمَهُ الْجَهْرُ بِالدُّعَاءِ، وَأُمِرَ أَنْ يَبْدَأَ بِإِنْذَارِ عَشِيرَتِهِ الأقربين، فَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ | وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (الشعراء:214-215). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ ص الصَّفَا، فَهَتَفَ: يَا صَاحِبَاهُ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، حَتَّى ذَكَرَ الْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، وَقَالُوا: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَمَا كُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟ قَالُوا: بَلَى، مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا. قَالَ: فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ ثُمَّ قَامَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} (المسد:1)، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ".
أقولُ: السرية في إنشاء الحزب مطلوبة شرعًا أولا. وثانيا فإن العقول لا تأباها، وذلك أن الحزب أول نشوئه يكون قليل العدد، مما يُسهِّل القضاء عليه في مهده، خصوصا ونحن في إمرة السفهاء الذين لا يرعوون عن السجن والقتل والمحاربة في الأرزاق، ولا قوة إلا بالله الذي أمرنا أن نأخذ بالأسباب.


المسألة الحادية عشرة

من أعمال الحزب الصراع الفكري


الصراع الفكري لا يكون إلا مع أفكار الكفر. وليس من الصراع الفكري الاختلاف بين المذاهب الإسلامية حيث يسوغ الاختلاف. فالمسلم المخالف في الاجتهاد مأجور ولا يُقصد بالحوار معه أن تصرعه كما تفعل مع الكافر، لأن الصراع مع أفكار الكفر لمحوها من الوجود، أما مع المسلم فلا يُسمى صراعا وإنما هو مناظرة أو جدل أو حوار، وهو أشبه بالتناصح لبيان الصواب من الخطأ.
والصراع مع أفكار الكفر فعله ص وفعله أصحابه قبل قيام الدولة أي في دار الكفر، ومن أمثلة ذلك ما رواه:
• الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، ثنا أبو البختري عبد الله بن محمد بن شاكر، ثنا جعفر بن عون، ثنا الأجلح بن عبد الله، عن الذيال بن حرملة، عن جابر بن عبد الله م، قال: اجتمعت قريش يوما، فأتاه عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فقال: يا محمد، أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله ص. فقال له رسول الله ص: "أفرغت؟" قال: نعم، فقال رسول الله ص: "بسم الله الرحمن الرحيم {حم | تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} (فصلت:1-2)" حتى بلغ "{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} (فصلت:13)". فقال له عتبة: حسبك حسبك، ما عندك غير هذا؟ قال: "لا". فرجع عتبة إلى قريش، فقالوا: ما وراءك؟ فقال: ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه إلا قد كلمته، قالوا: فهل أجابك؟ قال: نعم، لا والذي نصبها بنية ما فهمت شيئا مما قال غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود. قالوا: ويلك يكلمك رجل بالعربية، ولا تدري ما قال؟ قال: لا والله ما فهمت شيئا مما قال، غير ذكر الصاعقة.
• مسلم: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْأَشَجُّ وَاللَّفْظُ لِعَبْدِ اللَّهِ قَالَا: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: كَانَ لِي عَلَى الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ دَيْنٌ فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ لِي: لَنْ أَقْضِيَكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنِّي لَنْ أَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ. قَالَ: وَإِنِّي لَمَبْعُوثٌ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ؟ فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إِذَا رَجَعْتُ إِلَى مَالٍ وَوَلَدٍ. قَالَ وَكِيعٌ كَذَا قَالَ الْأَعْمَشُ قَالَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} (مريم:77) إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا} (مريم:80).
• عبد الرزاق في المصنف: عن ابن التيمي عن أبيه قال: أنبأني قتادة أن رسول الله ص قال لرجل نصراني: أسلم أبا الحارث. فقال النصراني: قد أسلمت، فقال له: أسلم أبا الحارث. فقال: قد أسلمت، فقال له الثالثة: أسلم أبا الحارث. فقال: قد أسلمت قبلك. فغضب وقال: كذبت، حال بينك وبين الاسلام خلال ثلاث: شريك الخمر -ولم يقل: شربك- وأكلك الخنزير، ودعاؤك لله ولدا.
• البغوي في التفسير: قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِين} (يس:77)... نزلت في أبي بن خلف الجمحي خاصم النبي ص في إنكار البعث، وأتاه بعظم قد بلي ففتته بيده، وقال: أترى يحيى الله هذا بعد ما رَمَّ؟ فقال النبي ص: "نعم ويبعثك ويدخلك النار" فأنزل الله هذه الآيات.
• الطبراني في الكبير: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بن الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَلِيُّ بن الْمَدِينِيِّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بن آدَمَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بن عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمِ ابْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (الأنبياء:98), قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن الزِّبَعْرَى: أَنَا أَخْصِمُ لَكُمْ مُحَمَّدًا, فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ, أَلَيْسَ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} (الأنبياء:98)؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَذِهِ النَّصَارَى تَعْبُدُ عِيسَى, وَهَذِهِ الْيَهُودُ تَعْبُدُ عُزَيْرًا, وَهَذِهِ بنو تَمِيمٍ تَعْبُدُ الْمَلائِكَةَ, فَهَؤُلاءِ فِي النَّارِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﻷ: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (الأنبياء:101).
• أحمد بإسناد صحيح: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ابْنَةِ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ زَوْجِ النَّبِيِّ ص قَالَتْ: لَمَّا نَزَلْنَا أَرْضَ الْحَبَشَةِ جَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ النَّجَاشِيَّ، أَمِنَّا عَلَى دِينِنَا وَعَبَدْنَا اللَّهَ لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ فِينَا رَجُلَيْنِ جَلْدَيْنِ وَأَنْ يُهْدُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَا مِمَّا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَتَاعِ مَكَّةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا إِلَيْهِ الْأَدَمُ، فَجَمَعُوا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَتْرُكُوا مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقًا إِلَّا أَهْدَوْا لَهُ هَدِيَّةً، ثُمَّ بَعَثُوا بِذَلِكَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ وَأَمَرُوهُمَا أَمْرَهُمْ، وَقَالُوا لَهُمَا: ادْفَعُوا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمُوا النَّجَاشِيَّ فِيهِمْ، ثُمَّ قَدِّمُوا لِلنَّجَاشِيِّ هَدَايَاهُ ثُمَّ سَلُوهُ أَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْكُمْ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَهُمْ. قَالَتْ: فَخَرَجَا فَقَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ وَنَحْنُ عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ وَعِنْدَ خَيْرِ جَارٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْ بَطَارِقَتِهِ بِطْرِيقٌ إِلَّا دَفَعَا إِلَيْهِ هَدِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ، ثُمَّ قَالَا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ مِنْهُمْ إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَى الْمَلِكِ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ لِيَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَا الْمَلِكَ فِيهِمْ فَتُشِيرُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يُسْلِمَهُمْ إِلَيْنَا وَلَا يُكَلِّمَهُمْ، فَإِنَّ قَوْمَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا لَهُمَا: نَعَمْ. ثُمَّ إِنَّهُمَا قَرَّبَا هَدَايَاهُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا مِنْهُمَا، ثُمَّ كَلَّمَاهُ فَقَالَا لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُ قَدْ صَبَا إِلَى بَلَدِكَ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ فَارَقُوا دِينَ قَوْمِهِمْ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكَ وَجَاءُوا بِدِينٍ مُبْتَدَعٍ لَا نَعْرِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ، وَقَدْ بَعَثَنَا إِلَيْكَ فِيهِمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِمْ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَعْمَامِهِمْ وَعَشَائِرِهِمْ لِتَرُدَّهُمْ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ وَعَاتَبُوهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَبْغَضَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مِنْ أَنْ يَسْمَعَ النَّجَاشِيُّ كَلَامَهُمْ، فَقَالَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ: صَدَقُوا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعَلَى بِهِمْ عَيْنًا وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ، فَأَسْلِمْهُمْ إِلَيْهِمَا فَلْيَرُدَّاهُمْ إِلَى بِلَادِهِمْ وَقَوْمِهِمْ. قَالَ: فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ ثُمَّ قَالَ: لَا هَايْمُ اللَّهِ إِذَنْ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْهِمَا وَلَا أُكَادُ قَوْمًا جَاوَرُونِي وَنَزَلُوا بِلَادِي وَاخْتَارُونِي عَلَى مَنْ سِوَايَ حَتَّى أَدْعُوَهُمْ فَأَسْأَلَهُمْ مَاذَا يَقُولُ هَذَانِ فِي أَمْرِهِمْ، فَإِنْ كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ أَسْلَمْتُهُمْ إِلَيْهِمَا وَرَدَدْتُهُمْ إِلَى قَوْمِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ مَنَعْتُهُمْ مِنْهُمَا وَأَحْسَنْتُ جِوَارَهُمْ مَا جَاوَرُونِي. قَالَتْ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ ص فَدَعَاهُمْ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، ثُمَّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَا تَقُولُونَ لِلرَّجُلِ إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللَّهِ مَا عَلَّمَنَا وَمَا أَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا ص كَائِنٌ فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا جَاءُوهُ، وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ فَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ، سَأَلَهُمْ فَقَالَ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ وَلَمْ تَدْخُلُوا فِي دِينِي وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَمِ؟ قَالَتْ: فَكَانَ الَّذِي كَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ، فَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ وَالْكَفِّ عَنْ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنْ الْفَوَاحِشِ وَقَوْلِ الزُّورِ وَأَكْلِ مَالَ الْيَتِيمِ وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ. قَالَ: فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الْإِسْلَامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنْ الْخَبَائِثِ، فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَشَقُّوا عَلَيْنَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ وَاخْتَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ وَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ. قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: هَلْ مَعَكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ عَنْ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيُّ: فَاقْرَأْهُ عَلَيَّ. فَقَرَأَ عَلَيْهِ صَدْرًا مِنْ "كهيعص". قَالَتْ: فَبَكَى وَاللَّهِ النَّجَاشِيُّ حَتَّى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ، وَبَكَتْ أَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا مَصَاحِفَهُمْ حِينَ سَمِعُوا مَا تَلَا عَلَيْهِمْ. ثُمَّ قَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ، انْطَلِقَا فَوَاللَّهِ لَا أُسْلِمُهُمْ إِلَيْكُمْ أَبَدًا وَلَا أُكَادُ. قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: فَلَمَّا خَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَاللَّهِ لَأُنَبِّئَنَّهُمْ غَدًا عَيْبَهُمْ عِنْدَهُمْ، ثُمَّ أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ. قَالَتْ: فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا: لَا تَفْعَلْ فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا. قَالَ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَبْدٌ. قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ الْغَدَ فَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ قَوْلًا عَظِيمًا، فَأَرْسِلْ إِلَيْهِمْ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا يَقُولُونَ فِيهِ. قَالَتْ: فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ. قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلُهُ، فَاجْتَمَعَ الْقَوْمُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَاذَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى إِذَا سَأَلَكُمْ عَنْهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللَّهِ فِيهِ مَا قَالَ اللَّهُ وَمَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا كَائِنًا فِي ذَلِكَ مَا هُوَ كَائِنٌ. فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُمْ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ لَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ. قَالَتْ: فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ يَدَهُ إِلَى الْأَرْضِ فَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا ثُمَّ قَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْعُودَ. فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حَوْلَهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ، اذْهَبُوا فَأَنْتُمْ سُيُومٌ بِأَرْضِي -وَالسُّيُومُ الْآمِنُونَ-، مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، ثُمَّ مَنْ سَبَّكُمْ غُرِّمَ، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي دَبْرًا ذَهَبًا وَأَنِّي آذَيْتُ رَجُلًا مِنْكُمْ -وَالدَّبْرُ بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْجَبَلُ-، رُدُّوا عَلَيْهِمَا هَدَايَاهُمَا فَلَا حَاجَةَ لَنَا بِهَا، فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي الرِّشْوَةَ حِينَ رَدَّ عَلَيَّ مُلْكِي فَآخُذَ الرِّشْوَةَ فِيهِ، وَمَا أَطَاعَ النَّاسَ فِيَّ فَأُطِيعَهُمْ فِيهِ. قَالَتْ: فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ مَقْبُوحَيْنِ مَرْدُودًا عَلَيْهِمَا مَا جَاءَا بِهِ، وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ بِخَيْرِ دَارٍ مَعَ خَيْرِ جَارٍ. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ إِنَّا عَلَى ذَلِكَ إِذْ نَزَلَ بِهِ -يَعْنِي مَنْ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ_. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزْنًا قَطُّ كَانَ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَى النَّجَاشِيِّ، فَيَأْتِيَ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُ مِنْ حَقِّنَا مَا كَانَ النَّجَاشِيُّ يَعْرِفُ مِنْهُ. قَالَتْ: وَسَارَ النَّجَاشِيُّ وَبَيْنَهُمَا عُرْضُ النِّيلِ. قَالَتْ: فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ص: مَنْ رَجُلٌ يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْعَةَ الْقَوْمِ ثُمَّ يَأْتِيَنَا بِالْخَبَرِ؟ قَالَتْ: فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: أَنَا. قَالَتْ: وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا. قَالَتْ: فَنَفَخُوا لَهُ قِرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ ثُمَّ سَبَحَ عَلَيْهَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى نَاحِيَةِ النِّيلِ الَّتِي بِهَا مُلْتَقَى الْقَوْمِ، ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى حَضَرَهُمْ. قَالَتْ: وَدَعَوْنَا اللَّهَ لِلنَّجَاشِيِّ بِالظُّهُورِ عَلَى عَدُوِّهِ وَالتَّمْكِينِ لَهُ فِي بِلَادِهِ، وَاسْتَوْثَقَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحَبَشَةِ، فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص وَهُوَ بِمَكَّةَ.


المسألة الثانية عشرة

من عمل الحزب التثقيف


قد تولى رسول الله ص التثقيف بنفسه، وأمر بعض الصحابة بذلك، فقد أقرأ بعضهم القرآن. ثم أنهم جميعا صحبوه وعلموا سنته القولية والفعلية، وأمر ص بعضهم بإقراء غيرهم القرآن وتفقيههم. هذا كله كان مع قوم يعرفون العربية سليقة، ولم يكن أحد منهم يحتاج إلى أن يفهم نصا من القرآن أو من السنة عن طريق تعلم العربية، ولذلك جاز لهم أن يرووا السنة بالمعنى إجماعا، قال ابن العربي في عارضة الأحوذي: الثاني إجماع الأمة على قبول خبر الصاحب وهو يقول أمر رسول الله بكذا ونهى عن كذا وهذا نقل المعنى.
وكلام هؤلاء القوم وشعرهم حجة في اللغة، والأدلة على كل هذا كثيرة، منها ما رواه:
• البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ ص قَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُقْرِئَكَ الْقُرْآنَ". قَالَ: أَاللَّهُ سَمَّانِي لَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَقَدْ ذُكِرْتُ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: "نَعَمْ". فَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ.
• أحمد باسناد صحيح: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ حَدَّثَنَا شَرِيكٌ عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص يُعَلِّمُنَا التَّشَهُّدَ كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ.
• أحمد باسناد صحيح عن جابر بن عبد الله: "... حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ يَثْرِبَ فَآوَيْنَاهُ وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ".
• ابن عبد البر في الاستيعاب: وكان رسول الله ص قد بعث مصعب بن عمير إلى المدينة قبل الهجرة بعد العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وكان يدعى القارئ والمقرئ.
• البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ س قَالَ: قَرَأَ النَّبِيُّ ص النَّجْمَ بِمَكَّةَ، فَسَجَدَ فِيهَا وَسَجَدَ مَنْ مَعَهُ غَيْرَ شَيْخٍ أَخَذَ كَفًّا مِنْ حَصًى أَوْ تُرَابٍ فَرَفَعَهُ إِلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِينِي هَذَا. فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا.
• البخاري: وَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَابْتَنَى أَبُو بَكْرٍ مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَتَقَصَّفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ، وَالنَّبِيُّ ص يَوْمَئِذٍ بِمَكَّةَ.
• البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ س قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ ص بِمِنًى، فَقَالَ: اشْهَدُوا. وَذَهَبَتْ فِرْقَةٌ نَحْوَ الْجَبَلِ. وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ انْشَقَّ بِمَكَّةَ....
• البخاري عن عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَتْ: لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ص بِمَكَّةَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ: {بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} (القمر:46).
• الطبري باسناد صحيح: حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق المروزي، قال سمعت أبي يقول: حدثنا الحسين بن واقد، قال: حدثنا الأعمش، عن شَقيق، عن ابن مسعود، قال: كانَ الرجل مِنَّا إذا تعلَّم عَشْر آياتٍ لم يجاوزهُنّ حتى يعرف معانيهُنَّ، والعملَ بهنَّ.
• الطبري باسناد صحيح: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جَرير، عن عطاء، عن أبي عبد الرحمن، قال: حدثنا الذين كانوا يُقرِئوننا: أنهم كانوا يستقرِئون من النبي ص، فكانوا إذا تعلَّموا عَشْر آيات لم يخلِّفوها حتى يعملوا بما فيها من العمل، فتعلَّمنا القرآن والعمل جميعًا.
• البخاري عن الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ م قَالَ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَكَانَا يُقْرِئَانِ النَّاسَ... الحديث.
وفي رواية عنده أيضا عن البراء قال: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ص مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَجَعَلَا يُقْرِئَانِنَا الْقُرْآنَ... الحديث
أقولُ: هذه مجموعة من الأدلة تُبيِّن أنه ص كان يُقرئ أصحابه ويفقههم، وكانوا يُقرئون ويفقهون غيرهم، وأن مادة القراءة والتعليم كانت القرآن والسنة، أما اللغة فكانوا أهلها، بل إنهم كانوا يأمرون باصلاح اللسان ويؤدبون على اللحن، من ذلك ما رواه:
• القاسم بن سلاَّم في فضائل القرآن: حدثنا أبو معاوية، عن عاصم بن سليمان، عن مورق العجلي، قال: قال عمر بن الخطاب: تعلموا اللحن والفرائض والسنن كما تعلمون القرآن.
• الدارمي في السنن: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ عَنْ مُوَرِّقٍ الْعِجْلِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَاللَّحْنَ وَالسُّنَنَ كَمَا تَعَلَّمُونَ الْقُرْآنَ.
• سعيد بن منصور في السنن: حدثنا أبو عوانة، وأبو الأحوص، وجرير بن عبد الحميد، عن عاصم الأحول، عن مورق العجلي، قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: تعلموا الفرائض واللحن والسنة، كما تعلمون القرآن.
• ابن أبي شيبة في المصنف: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَن ثَوْرٍ عَنْ عُمَر بْنِ زَيْدٍ قَالَ: كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أَبِي مُوسَى: أَمَّا بَعْدُ فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ, وَتَفَقَّهُوا فِي الْعَرَبِيَّةِ, وَأَعْرِبُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ, وَتَمَعْدَدُوا فَإِنَّكُمْ مَعَدّيّونَ.
• ابن أبي شيبة في المصنف: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ قَالَ: حدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَاصِلٌ مَوْلَى أَبِي عُيَيْنَةَ عَن يَحْيَى بْنِ عَقِيلٍ عَن يَحْيَى بْنِ يَعْمَُرَ عَن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: تَعَلَّمُوا الْعَرَبِيَّةَ كَمَا تَعَلَّمُونَ حِفْظَ الْقُرْآنِ.
• ابن أبي شيبة في المصنف: حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَن لَيْثٍ عَن مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ.
• ابن أبي شيبة في المصنف: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَن سُفْيَانَ عَن عُقْبَةَ الأَسَدِيِّ عَنْ أَبِي الْعَلاءِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: أَعْرِبُوا الْقُرْآنَ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ.
• الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي والسامع: أنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران المعدل نا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار نا محمد بن عيسى العطار نا كثير بن هشام نا عيسى بن إبراهيم عن الحكم بن عبد الله عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: مر عمر بن الخطاب على قوم يرمون رشقا، فقال: بئس ما رميتم. فقالوا: يا أمير المؤمنين، إنا قوم متعلمين. فقال: والله لذنبكم في لحنكم أشد علي من لحنكم في رميكم. سمعت رسول الله ص يقول: رحم الله رجلا أصلح من لسانه.
أنا أبو القاسم عبد الرحمن بن عبيد الله الحربي أنا علي بن محمد بن الزبير المكي الكوفي نا الحسن بن علي بن عفان العامري نا زيد بن الحباب حدثني عبد الوارث بن سعيد العنبري قال: حدثني أبو مسلم منذ خمسين سنة أن عمر بن الخطاب قال: تعلموا العربية فإنها تزيد في المروءة.
أنا محمد بن أحمد بن روق أنا المظفر بن يحيى الشرابي نا أحمد بن محمد المرثدي عن أبي إسحاق الطلحي: أن علي بن أبي طالب كان يضرب الحسن والحسين على اللحن.
أنا عبد الرحمن بن عبيد الله الحربي أنا علي بن محمد بن الزبير الكوفي نا الحسن بن علي بن عفان نا زيد بن الحباب حدثني أبو الربيع السمان نا عمرو بن دينار: أن ابن عمر وابن عباس كانا يضربان أولادهما على اللحن.
قلتُ: بناء على ما سبق من الأدلة يجب على الحزب أن يدرس أفراده الكتاب والسنة والعربية، دون أن يُسوِّي بينهم في التكاليف، بل يفسح المجال أمام كل واحد منهم أن يحفظ من الكتاب والسنة ومن التفسير والشروح والنحو والبلاغة قدر استطاعته، وكذلك من أصول الدين وأصول الفقه. وذلك أن الصحابة لم يكونوا في تلقي العلم سواء، بل كانوا متفاوتين، ولم ينكر عليهم ص ذلك.
رد مع اقتباس