عرض مشاركة واحدة
 
  #32  
قديم 12-27-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 9-15 من 15

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 9-15 من 15


{ ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }


أما الحركة الذاتية له، فهي حركة جوهريّة، لها كسائر الحركات فاعلٌ وقابلٌ، ومسافةٌ وبدايةٌ ونهايةٌ، إلا انّ الحركة في الجوهر تُخالف غيرَها في أمر، وهو أنّ مسافة هذه الحركة هي عين المتحرّك حقيقة ووجوداً وغيره كمالاً ونقصاً، بخلاف الحركة في سائر المقولات، فإنّ المسافة فيها تُباين ذاتَ المتحرّك كما هو المقرّر عند العقلاء. ونحن قد بيّنا صحّة الحركة في مقولة الجوهر في أسفارنا ببيانات برهانيّة، يضطرّ أهل النظر على الاعتراف بها، والآيات القرآنيّة الدالّة على هذه الحركة، وخصوصاً ما للانسان كثيرة.

منها: في باب حركة الجواهر الأرضية في ذاتها، كقوله تعالى:


ومنها: في باب حركة الجواهر السماويّة في ذاتها، كقوله


ومنها: في تقلّب الانسان في أطوار الوجود، بقوله:


ومنها: في انقلاب الكلّ إليه كقوله

{ ٱللَّهُ يَبْدَأُ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [الروم30: 11]. وقوله:
{ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } [الأنبياء21: 93]. وقوله:
{ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ق50: 15].

ففاعل هذه الحركة الذاتيّة الانسانيّة - أي محرّكها - هو الله وقابلها - أي موضوعها - هو النفس الإنسانيّة باعتبار قوّتها الاستعداديّة النفسانيّة، وعقلها المنفعل الهيولاني، وابتداعها من حين كونها ساذجة عن جميع الصوَر الإدراكيّة الجزئية والكلّية، وإليه الإشارة في قوله:

{ هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [الإنسان76: 1].

وانتهاؤها حالته التي يكون عليها في القيامة. ومسافتها منازل الإنسان بحسب أكوانه الجوهريّة التدريجيّة، ودرجاته الوجوديّة بحسب قُربه وبُعده من الله، فله تكوّن بعد تكوّن على نعت الاتّصال التدريجي من الأكثف فالأكثف إلى الألطَف فالألطفِ، فينتقل من كلّ ظاهر إلى باطنه، ومن كلّ صورة الى معناها، فيدخل من الجماديّة والنباتيّة، ومن الحيوانيّة إلى البشريّة، ومن التجسّم الى التروّح، وينقلب من الدنيا الى الآخرة. وبالجملة من نشاة إلى نشأة إلى أن ينتهي الى موطنه الذي تعيّن له عند الله.


وبهذا المعنى يكون الموتُ طبييعيّاً للإنسان، لا كَمَا زعمَه الأطبّاء وغيرهم من أنه بواسطة نفاد الحرارة الغريزيّة، أو غلبة الرطوبة عليها، أو لاجل تناهي القوى البدنيّة لكونها جسمانيّة، إلى غير ذلك من آرائهم القاصرة.

وذلك لأنّ النفس الإنسانيّة - كما علمت - متقلّبةٌ في أكوانها الجوهريّة وكلّما انطوت لها نشأةٌ دخلت في نشأة تتلوها. ففي هذه النشاة الدنيويّة تطوّرت بجميع الأطوار الداخلة في عالم الشهادة، من الجسميّة والجماديّة والنباتيّة على درجاتها، والحيوانيّة على مراتبها، فإذا تمّ لها آخر هذه المراتب الواقعة في هذه النشأة، أخذت في الإنقطاع والولوج في النشأة الآخرة، وأطوارها الداخلة في عالَم الغيب بحسب الطِباع الأصليّ لها، من غير قَسر قاسرٍ وسياق سائقٍ خارجي، بل يسوقها سائقٌ داخليّ جبليّ من جانب الله تعالى كما قال جلّ ذكره:
-9-

{ وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق: 21]. وقوله:
{ ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مِوْتِـهَا } [الزمر: 42].


ومما يؤيّد هذا ما ذكره الشيخ المحقّق في الباب الرابع والثمانين ومأتين من الفتوحات حيث قال: اعلم أن الروح الإنساني أوجده الله منذ أوجده مدبراً لصورة طبيعيّة حسيّة له، سواء كان في الدنيا، أو في البرزخ، أو في الدار الآخرة، أو حيث كان.

فأول صورة لبسها، الصورة التي أخذ عليه فيها الميثاق بالإقرار بربوبيّة الحقّ عليه، ثمّ إنّه حُشِر من تلك الصورة الى هذه الصورة الجسميّة الدنيويّة، وحُبس بها في رابع شهر من تكوين صورة جسده في بطن أمّه إلى ساعة موته، فإذا ماتَ حُشر الى صورة اخرى من حين موته إلى سؤالِه، فإذا جاء وقتُ سؤاله، حُشر من تلك الصورة الى صورة جسدِه الموصوف بالموت، فيحيى به، ويؤخذ بأسماع الناس وأبصارهم عن حياته بذلك الروح، إلاّ من خصّه الله بالكشف على ذلك من نبيٍّ أو وليٍّ من الثقلين.

وأمّا سائر الحيوان، فإنّهم يشاهدون حياته وما هو فيه عيناً، ثمّ يحشر بعد السؤال إلى صورة أخرى في البرزخ يمسك فيها، بل تلك الصورة [هي] عين البرزخ، والنوم والموت في ذلك على السواء إلى نفخة البعث، فينبعث من تلك الصورة ويحشر الى الصورة التي فارقَها في الدنيا، إن كان بقي عليه سؤال. فإن لم يكن من أهل ذلك الصنف، حُشر في الصورة التي يدخل بها الجنّة.

والمسؤول يوم القيامة أيضاً إذا فرغ من سؤاله، حُشر الى الصورة التي يدخل بها الجنّة أو النار.

وأهل النار كلّهم مسؤولون، فإذا دخلوا الجنّة واستقرّوا فيها، ثمّ دعوا الى الرؤية ونودوا، حُشروا في صورة لا تصلح إلاّ للرؤية، فإذا عادوا حُشروا في صورة تصلَح للجنّة، وفي كلّ صورة يُحشر يُنسئ الصورة السابقة التي كان عليها، ويرجع حكمه الى حكم الصورة التي انتقل إليها وحُشر فيها.

فإذا دخل سوق الجنة، ورأى ما فيه من الصوَر، فأيّة صورة رآها واستحسنها حُشر فيها، فلا يزال في الجنة دائماً يُحشر من صورة الى صورة إلى ما لا نهاية له ليعلم بذلك الاتّساع الإلهي، فكما لا تتكرر عليه صورة التجلّي، كذلك يحتاج هذا المتجلّى له أن يقابل كلّ صورة تتجلّى له بصورة اخرى ينظر إليه في تجلّيه، فلا يزال يُحشر في الصور دائماً يأخذها من سوق الجنّة، ولا يقبل من تلك الصور التي في السوق ولا يستحسن منها إلاّ ما يناسب صورة التجلّي الذي يكون في المستقبل، لأنّ تلك الصورة هي كالاستعداد الخاصّ لذلك التجلّي - فاعلم هذا فإنّه من لُباب المعرفة الإلهيّة -.
-10-

ولو تفطّنت لعلِمت أنّك الآن كذلك تُحشر في كل نفس في صورة الحال التي أنت عليها، ولكن يحجبك عن ذلك رؤيتك المعهودة، وإن كنتَ تحسّ بانتقالك في أحوالك التي عنها تتصرّف في ظاهرك وباطنك، ولكن لا تعلم انّها صور لروحك تدخل فيها في كل آن، وتحشر فيها، ويبصرها العارفون صوراً صحيحة [ثابتة] ظاهرة العين.

انتهى كلامه الشريف النوري، وفيه من الفوائد الكشفيّة مما لا يمكن وصفُه فضلاً وشرفاً، إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين.

وأما الحركة الإرادية للإنسان إلى الله، فهي حركة في الكيف النفساني، معدّة له في سرعة اللحوق له إلى الله من جهة استكمال كِلا جزئَيه العلمي والعملي بواسطة الأفكار والأذكار الملطفة له والأعمال والأفعال المقرّبة إيّاه الى الله، وجنس هذه الحركة مما يتطرّق فيه الصواب والخطأ، والاستقامة على الصراط والضلال، بخلاف الحركة الأولى، لكونها جوهريّة ذاتيّة متوجّهة شطرَ كعبة الحقّ لا يتصور فيها الخطأ والانحراف، والانتكاس، ولا تكون إلاّ على وجه الصواب والاستقامة، كما في قوله:

{ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } [البقرة2: 148].

فقوله: { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } إشارة إلى الحركة الغريزية الشوقية المفطورة عليها جميع المكوّنات، وقوله: { فَٱسْتَبِقُواْ ٱلْخَيْرَاتِ } إشارة إلى هذه الحركة الإراديّة للإنسان، التي بها يقع الاستباق للخيرات، وسرعة الانسياق إلى الدار الآخرة، والالتحاق بملكوت ربّنا الأعلى.


ولقائل أن يقول: إذا كان الكلّ متوجّه إلى الله تعالى توجّهاً غريزيّاً نحو الفطرة الأخرويّة والكمال الوجودي والفعليّة، فأين الشقاوة للكفار وأهل المعاصي إذا كان الجميع من أحبّاء الله، المفطورة على طاعة الحقّ، والتقرّب منه، فيلزم كون الناس كلهم سعداء مقرّبين؟

فنقول: اعلم أنّ هذا التوجّه الغريزي للأشياء كلّها نحو مسبّب الأسباب، لا ينافي شقاوةَ الأشقياء وعذاب الكفار والمنافقين والعاصين، فإنّ السعادة شيء، والقُرب من الله يرفع الوسائط شيءٌ آخر، وكذا يجب أن يعلم أنّ الفعليّة الوجوديّة وقوّة التجوهر الحاصلة للنفوس الإنسانيّة من جهة انسلاخها من هذا البدن، وخروجها من القوّة إلى الفعل، وحدّة بصرها بسبب رفع الغواشي الماديّة، لا تنافي الشقاوة الأخرويّة، بل تؤكّدها، فإنّ غمور النفس بهذا البدن الكثيف، يوجب لها حالة كالخدر والسكْر لها، لأجل تلك الحالة، لا يمكنها إدراك الأمور الأخرويّة من المَثوبات واللذّات التي تكون للسعداء، والعقوبات والآلام التي تكون للأشقياء.

فإذا خرجت من غشاوة الدنيا، وزال عنها سكْر الطبيعة وتخديرها، وحانَ وقتُ أن يقعَ بصرُها إلى ذاتها، فإن كانت من جملة الأشقياء المردودين، واطّلعت على ما اكتسبته من النقائص والآفات، تتألّم بها أشدّ الآلام، وخروجها من القوّة إلى الفعل، ووجود القوّة الدرّاكة فيها، وزوال مانع الإدراك عنها، يوجبان أن تطّلع على صحيفة ذاتها وما كسبته من السعادة أو الشقاوة، فتلتذّ غاية التلذّذ أو تتألّم غاية التألّم.
-11-

فقد ظهر أنّ فعلية الوجود وتأكّده في الجملة، لا ينافيان الشقاوة بإدراك الآلام الحاصلة من الكفر والمعاصي، وكذا الرجوع الإضطراري إلى الحضرة الإلهيّة لا ينافي الشقاوة والعذاب، فإنّ أنوار النفوس الإنسانيّة، إنّما هبطت كالكواكب الى هذا القالب الفاني مدّة هذا الكون الجسماني وغربت فيه، وستطلع عند خراب القالب، وانقطاع عمره، وبوار نشأته من مغربها إلى مشرقها الأصلي، وخالقها وباريها، إمّا مظلمةً منكسفةً وإمّا زاهرة مشرقة.

والزاهرة المشرِقة غير محجوبة عن الحضرة الإلهيّة، والمظلمة أيضاً راجعة إلى الحضرة، إذ المرجع والمصير للكلّ إليه كما مرّ، إلا انّها ناكسةُ الرؤوس عن جهة أعلى علّيين الى جهة أسفل سافلين، منقلبة الوجود الى الدنيا ولذّاتها وطيّباتها التي هي بعينها منشأ آلام الآخرة وخبثياتها.

أَوَ لاَ ترى النبات في نموّه ونشوئه يتقارب الى عالم السماء والضياء، إلا انّه منكوس الرأس، متوجّه نحو السِفل، ولذلك قال تعالى:

{ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ ٱلْمُجْرِمُونَ نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ } [السجدة32: 12]

فبيّن انّ نفوس الأشقياء أيضاً عند ربّهم، إلا انّهم منكوسون منحوسون، قد انقلبت وجوهُهم الى أقفيتهم، وانتكست رؤوسهم عن جهة فوق الى جهة تحت، وذلك حكم الله وقضاؤه فيمن حرمه توفيقه ولم يهد له سلوك صراطه المستقيم، نعوذُ بالله من الضلال، والعدول عن منهج أهل الكمال.


فإن قلت: إذا كان الكلّ مفطوراً على حبّه تعالى وطلبه والتشوّق إليه، فما سبب تفاوت هذه النفوس الإنسانيّة في الهداية والضلال، والطاعة والمعصية؟

قلنا: لتفاوتها في الصفاء والكدورة، والقوّة والضعف، والشرافة والخسّة، وبحسب ما يتّفق لها من الأسباب البدنية والأحوال الدنيويّة من الاستعدادات الماديّة، والعوارض الإتفاقية المتسلسلة المنتهية إلى الأمور العلوية، والقضاء السابق الأزلي.

فالأرواح الإنسية متفاوتة بحسب أصل الفطرة الأولى، مختلفة في الصفاء والكدورة، والضعف والقوّة، مترتّبة في درجات القُرب والبُعد من الله تعالى، والموادّ السفليّة الواقعة بإزائها متباينة في اللطافة والكثافة، ومزاجاتها متفاوتة في القُرب والبُعد من الاعتدال الحقيقي، فقابليّتها لما يتعلّق بها من الأرواح متفاوتة، وقد قدّر الله تعالى في القضاء السابق بإزاء كل روح ما يناسبه من المودّ وبازاء كلّ معنى ما يحاذيه من الصورة، فألطف الموادّ والصوَر لأشرف الأرواح وأنوار النفوس.

وقد علمت سابقاً، أن تفاوت النفوس البشرية - المتخالفة الحقائق - ، لتفاوت أصولها ومعادنها العقليّة، ومفاتيح أبوابها الإلهيّة، ومن أجلها ومن أجل تفاوتها في الإدراكات والإرادات والأشواق، وقَع الاختلاف بينها في الهداية والضلال، والطاعة والعصيان، والتوفيق والخذلان، والسعادة والشقاوة، وحسن العاقبة وسوءها، والثواب والعقاب، والجنّة والنار.

فإن قلت: ما الفائدة في التكليف بالطاعات، والدعوة بالآيات، والأمر والنهي، والترغيب والترهيب، إذا كان الجميع منتهياً الى قضاء الله وتقديره، وما تأثير السعي والجهد والطاعة والعبادة؟

قلنا: هذه الأمور من جملة الأشياء الواقعة بقضاء الله وقدَره، والأسباب المقدّرة التي جعلها الله تعالى مهيّجات للأشواق والإرادات، ومحرّكات ودواعي الى طلب الخيرات، واكتساب الدرجات، ومحرّضات على أعمال حسنة مورثة لعادات محمودة، وأخلاق جميلة، وملكات فاضلة مزكيّة للنفوس، منوّرة للقلوب، مقرّبة إيّاها الى الله، نافعة في معاشنا ومعادنا، يحسن بها حالنا في دنيانا، وتحصل بها سعادة عقبانا، أو محذّرات من الشرور والقبائح، والذنوب والرذائل المكدّرة للنفوس، المسوّدة للقلوب، مما يضرّنا في العاجل ونشقى به في الآجل.
-12-

وكذلك السعي والجدّ والتدبير والحذر، مهيِّئة لمطالبنا، موصِلة إيّانا الى مقاصدنا، مخرِجة لكمالاتِنا من القوّة الى الفعل، كما قال (صلّى الله عليه وآله) لمن سأله: هل يغني الدواء والرُقْية من قدَر الله؟ فقال: " الدواءُ والرقية أيضاً من قدَرِ الله ".

ولمّا قال (صلّى الله عليه وآله): " جفَّ القلمُ بما هو كائن ". قيل: ففيمَ العملُ؟ فقال: " اعملُوا فكلٌ ميسِّر لِما خُلقَ له ".

ولما سئل: أنحنُ في أمرٍ فُرغ منه أو في أمرٍ مستأنَف؟ فقال: " في أمرٍ مفروغٍ منه وفي أمرٍ مستأنف ".

فإن قلت: لِماذا وقعَ هذا التفاضُلُ والتخالفُ في أصل الفِطَر والغرائز ولم تتساو في الشرف والخسّة؟ فما بالنا كنّا مختلفين في الجواهر بحسب الصفاء والكدورة، ولم نتشاكل في السعادة ولا نتعادل، فصار السعيدُ مبروراً والشقيُّ محروماً؟ وما سبب التفاوت في هذه القسمة من خزانة الغيب، الزيادة والنقصان في النصيب من الرحمة الإلهيّة؟ وما هذا الحيف والجورُ لنا؟ وأين عدلُ الله فينا وكُلّنا عبيدُه والمحتاجون إلى قسمته ورزقه وقد قال الله:


فنُجيبك: يا أخا الطريقة بعد ما زالت عنك الدهشة، وآب إليك القرار، ورجعت السكينة والوقار، فلستَ أولَ من زلَّ في هذا المقام، واستنفر من هذا الكلام، ثمَّ رجع وتاب وآمن وأناب، بمثل ما قال الشاعر:

هون على بصري ما شقّ منظرهفإنّما يقظات العين كالحلم


أما كون الشريفِ شريفاً والخسيسِ خسيساً، فليس بجعْل جاعلٍ وتأثير مؤثّر. وأما السؤال بأنّه لِمَ خلق الله الشيءَ الخسيس في العالم، ولم يجعل الايجادَ مقصوراً على الأشرف؟ فجوابك؛ بأنّه لو اقتصر على الممكن الأشرف في الايجاد، لبقيت كلّ الموجودات طبقةً واحدة، بل انحصرت في العقل الأول، ولبقيت المراتبُ الباقيةُ في كتْم العَدم مع إمكان وجودها، فكان حَيفاً عليها وجَوراً، لا عدلاً وقسطاً.

فالعناية الإلهيّة تقتضي نظم الوجود على أحسن ما يمكن، فلو أمكن أحسن مما هو عليه الآن، لوُجِد من جود الواهب المنّان، ولو تساوت الموجودات في الشرف والكمال والنقص والتمام، لفاتَ الحُسن في ترتيب النظام، وارتفع الصلاح، ولو لم توجد النفوسُ الشقيّة والطبايع الغليظةُ لكان لا تتمشّى أمورهم ولا تتهيّأ مصالحهم، وبقي الاحتياج إليها في العالَم مع فقْدها.
-13-

كما لو كان البصل زعفراناً، والدِفلى أقحواناً، أو لم يوجد البصل والدُفلى أصلاً لحرمت الناس من منافعها، وتضرّروا في فقْدها مع إمكان وجودها.

وكما لا يختلج في صدرك أنّ البصَل لِمَ لمْ يكن زعفراناً، والقيصوم ضَيْمَراناً، والكلْب أسداً والوهمُ عقلاً؛ فيجب أن لن ينقدح في بالك أنّ الباقل لماذا لم يكن سَحْباناً، والفقير سلطاناً، والشقيّ سعيداً، والجاهل الشرّير عالِماً خيّراً؟ إذ لو كان كذلك، لاضطرّ السلطان إلى صنعة الكنْس، والحكيمُ المتألّه الى مباشرة الرجس، فما بقي التناسل على تقدير التماثل، وبطل النظام، ووقع الهَرْج والمَرْج، فلم يكن ذلك عدلاً بل كان ظُلماً وجوراً.

ثمّ إنّ الدنيَّ لا يتألّم من دناءته، والخسيسَ لا يتضرّر من خسّته، والجاهلَ جهلاً بسيطاً لا يتعذّب بجهله، والعامي الأعمى البصيرة لا يشقى بعماه الأصلي، لكون كلّ منهم لم يغيّر ما هو عليه ليتألّم بفقْد كمالِه، ويتعذّب بضدّ حالِه، بل كلّ أحدٍ يعشق ذاتَه ويحبُّ نفسَه، وإن كان خسيساً دَنِياً.

وفي المَثَل السائر: غِثُّكَ خير من سمين غيرك. فمَن أساء عمله وأخطأ في اعتقاده، فإنّما ظلَم نفسَه بظُلمة جوهره وسوء استعداده، وكان أهلاً للشقاوة، ينادي على لسان الحال، مهلاً فيداك أوكتا وفُوكَ نفَخ، وإنّما قصُر استعداده وأظلمَ جوهره لعدم إمكان كونه أحسن مما وجد. كما لا يمكن أن يحصل من أعمى القلبِ البصيرةُ، وأن يلِدَ القِردُ إنساناً في أحسن صورة وأكمل سيرة:

{ وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ *إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود11: 118- 119].


وبالجملة، تفاوت الخَلْق في الكمال والنقص، والسعادة والشقاوة، إمّا بأمور ذاتيّة جوهريّة، وإمّا بأمور عارضة كسبيّة بواسطة الأعمال والأفعال. فالاختلاف بحسب الأمور الذاتيّة بمحض العناية الإلهية المقتضية لحسن الترتيب وفضيلة النظام، وليس منشأ للإشكال أصلاً كما علمت.

وإمّا بحسب العوارض اللاحقة، فهي من اللوازم والتوابع الحاصلة بمصادمات الأسباب، وكل آفة وشرّ يلحق الشيء بسبب أمر خارج إتّفاقي، فليس مما يدوم عليه، بل يزول بزوال سببه، وسيعود الشيءُ الى ما كان عليه أولاً من طبيعته الأصليّة، والأسباب الإتّفاقية غير دائمة ولا أكثريّة الوجود. اللّهم إلاّ أن تنقلب طبيعةُ الشيء الى طبيعة أخرى، فتكون هذه الثانية طبيعة أصليّة، والكلام فيها عائد من أنّ ما يكون عارضاً غريباً لها يزول عنها بسرعة، فعلم من هذا انّ أكثر أحوال الشيء الخير والسلامة، وأن الآفة والشرّ من النوادر الاتّفاقية.

وأمّا حديث الانتقام الإلهي بالغضب والعقوبات الدائمة للكفّار، فسيأتي الكلام فيه في تحقيق قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم }. ولنرجع إلى ما كنّا بصدده إنشاء الله.

مشاهدة إشراقية

اعلم أنّ الصراط الذي إذا سلكتَ عليه، وثبّت الله عليك أقدامك، حتّى أوصلك إلى الجنّة، صورةُ الهدى الذي أنشأته لنفسك في الدار الدنيا، بما هداك الله من الأعمال القلبيّة والبدنيّة، فهو في هذه الدار لا تشاهَد له صورة حسيّة، وأما في القيامة، وعلى منظر أصحاب البصيرة الغالب عليهم شهود النشأة الآخرة، فقد مُدّ لك جسراً محسوساً على متن جهنّم، أوّله في الموقف وآخره على باب الجنة، كل من يشاهده يعرف أنّه صنعَتُك وبناؤكَ، ويعلم أنّه قد كان في الدنيا جسراً ممدوداً على متن جهنمك من نار طبيعتك التي فيها ظلّ حقيقتك.
-14-

ظلٌّ ذو ثلاث شُعَب، غير ظليل ولا يغنيها من اللهب بل هو الذي يقودها الى لهب الشهوات، ويضرم فيها نار النفْس الحيوانية.

فالإنسان الكامل السالك الى الله، المهتدي بنوره، يعجل بقيامته بإطفاء نار جحيمه بنور ايمانه ونار توبته في الموطن الذي ينفعه لقيامته، ويقبل منه توبته، وهو موطن الدنيا، فإنّ بعد قيامه الدار الأخرى، لا ينفع فيها عملٌ، إذ لا تكليف فيها بعملٍ. لأنّها موطن الجزاء.

والصراط قد علمتَ أنّه صراطان: صراط الوجود، وصراط الايمان والتوحيد، فالمشرك لا قَدم له على صراط الوجود، والمعطَّل لا قدَم له على صراط الوجود أيضاً.

ومن أشرك بالله فهو من الموقف الى النار مع المعطّلة، ومن أهل النار الذين هم أهلها، إلاّ المنافقين، فلا بدّ لهم أن ينظروا الى الجنة وما فيها من النعيم، فيطمعون على حسب داعيتهم وشوقهم الى الكمال، فذلك نصيبهم من نعيم أهل الجنان، ثمّ يُصْرَفون الى النار. وهذا من عدل الله فيهم فقوبلوا بأعمالهم.

وأما الموحّد، فلا يخلّد في النار، إنّما يُمْسَك ويُسأل ويُعذّب على الصراط، والصراط على متْن جهنم كما مرّ غائب فيها الكلاليب التي فيها، يمسكهم الله عليه.

ولمّا كان الصراط في النار، وما ثَمَّ طريقٌ الى الجنّة إلاّ عليه، قال تعالى:


تصوير ايماني

قد ورَد في صفة الصراط: أنّه أدقّ من الشَعْر وأَحَدُّ من السيف. وكذا علم حقيقة الايمان والتوحيد، والعمل بالأركان والتجريد، ولا تزال في كل ركعة من الصلاة تقول: { أهْدِنا الصِّراطَ المُستَقيم }. فلأمر مّا أوجب الله عليك ذلك، فأعظمُ الأمور وأجلّها منفعة لك، تحقيق هذا الصراط وعرفانه، فإنّه أدقُّ من الشَعْر وأحدُّ من السيف، فظهوره في الدنيا ظهور عقليٌّ، وفي الآخرة ظهور حسّي أبينُ وأوضحُ من ظهوره في الدنيا، إلاّ لمن دعى الى الله على بصيرة كما قال تعالى:


وقد جاء في الخبر أيضاً: إن الصراط يظهر يوم القيامة منه للأبصار على قدْر نور المارّين عليه، فيكون دقيقاً في حقّ بعض، وعريضاً في حقّ آخرين، يصدّق هذا الخبر قوله تعالى:

{ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } [الحديد57: 12]

والسعي مشي، وما ثَمَّ طريقٌ الى الله إلاّ الصراط وإنّما قال: بأيمانِهم، لأنّ المؤمن في الآخرة لا شمال له، كما انّ الكافر لا يمين له. هذا بعض أحوالك.

-15-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس