عرض مشاركة واحدة
 
  #4  
قديم 06-11-2012
ابو عبد الله العقبي ابو عبد الله العقبي غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Jun 2012
المشاركات: 12
افتراضي رد: الخلافة على المنهاج و كيف تقام : للشيخ عبد الرحمن العقبي

المسألة السابعة

التأسي به ص في كيفية إقامة الخلافة على المنهاج واجب


السبيل الذي يجب أن يُسلك لإيجاد الجماعة على إمام وإقامة دولة الخلافة الموعودة هو السبيل الذي سلكه محمد ص في إقامة الدولة الأولى في دار الهجرة حيث وُجدت دار الإسلام الأولى. والأدلة على هذا الكتاب والسنة وإجماع الصحابة:
أما الكتاب فقوله تعالى:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} (الأحزاب:21)
{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (الحشر:7)
{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
(آل عمران:31)
{فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (الأعراف:158)
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (النور:63)
{مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} (النساء:80)
وأما السنة فما رواه:
• مسلم عن زرارة أَنَّ سَعْدَ بْنَ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَأَرَادَ أَنْ يَبِيعَ عَقَارًا لَهُ بِهَا فَيَجْعَلَهُ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ وَيُجَاهِدَ الرُّومَ حَتَّى يَمُوتَ. فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَقِيَ أُنَاسًا مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فَنَهَوْهُ عَنْ ذَلِكَ وَأَخْبَرُوهُ أَنَّ رَهْطًا سِتَّةً أَرَادُوا ذَلِكَ فِي حَيَاةِ نَبِيِّ اللَّهِ ص، فَنَهَاهُمْ نَبِيُّ اللَّهِ ص وَقَالَ: "أَلَيْسَ لَكُمْ فِيَّ أُسْوَةٌ؟!".
• ابن سعد بسند جوَّدَهُ الألباني عن ابن شهاب أن عثمان بن مظعون أراد أن يختصي ويسيح في الأرض. فقال له رسول الله ص: "أليس لك فِيَّ أسوة حسنة؟ فأنا آتي النساء وآكل اللحم وأصوم وأفطر. إِنَّ خصاء أمتي الصيام، و ليس من أمتي من خصى أو اختصى".
• أحمد بسند صحيح: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: دَخَلَتْ امْرَأَةُ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ -أَحْسِبُ اسْمَهَا خَوْلَةَ بِنْتَ حَكِيمٍ- عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ بَاذَّةُ الْهَيْئَةِ، فَسَأَلْتُهَا: مَا شَأْنُكِ؟ فَقَالَتْ: زَوْجِي يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ. فَدَخَلَ النَّبِيُّ ص، فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ ذَلِكَ لَهُ، فَلَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ ص عُثْمَانَ فَقَالَ: "يَا عُثْمَانُ إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا، أَفَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ؟! فَوَاللَّهِ إِنِّي أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ".
وأما إجماع الصحابة فإن تأسيهم به واتباعهم له ص وأمرهم بذلك وتواصيهم به لا يكاد يُحصى. فمن ذلك ما رواه:
• البخاري بإسناده عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَسِيرُ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بِطَرِيقِ مَكَّةَ. فَقَالَ سَعِيدٌ: فَلَمَّا خَشِيتُ الصُّبْحَ نَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ ثُمَّ لَحِقْتُهُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَيْنَ كُنْتَ؟ فَقُلْتُ: خَشِيتُ الصُّبْحَ فَنَزَلْتُ فَأَوْتَرْتُ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَلَيْسَ لَكَ فِي رَسُولِ اللَّهِ ص إِسْوَةٌ حَسَنَةٌ؟ فَقُلْتُ: بَلَى وَاللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص كَانَ يُوتِرُ عَلَى الْبَعِيرِ.
• أحمد بإسناد صحيح عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص صَلَّى فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَخَلَعَ النَّاسُ نِعَالَهُمْ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: "لِمَ خَلَعْتُمْ نِعَالَكُمْ؟" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ رَأَيْنَاكَ خَلَعْتَ فَخَلَعْنَا. قَالَ: "إِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي فَأَخْبَرَنِي أَنَّ بِهِمَا خَبَثًا، فَإِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْلِبْ نَعْلَهُ فَلْيَنْظُرْ فِيهَا، فَإِنْ رَأَى بِهَا خَبَثًا فَلْيُمِسَّهُ بِالْأَرْضِ ثُمَّ لِيُصَلِّ فِيهِمَا".
• مسلم عن جابر بن عبد الله قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِذَا اغْتَسَلَ مِنْ جَنَابَةٍ صَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ حَفَنَاتٍ مِنْ مَاءٍ، فَقَالَ لَهُ الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ: إِنَّ شَعْرِي كَثِيرٌ. قَالَ جَابِرٌ: فَقُلْتُ لَهُ: يَا ابْنَ أَخِي كَانَ شَعْرُ رَسُولِ اللَّهِ ص أَكْثَرَ مِنْ شَعْرِكَ وَأَطْيَبَ.
• مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَيْسٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ وِتْرِ رَسُولِ اللَّهِ ص فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. قُلْتُ: كَيْفَ كَانَ يَصْنَعُ فِي الْجَنَابَةِ؟ أَكَانَ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَنَامَ أَمْ يَنَامُ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ؟ قَالَتْ: كُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ يَفْعَلُ، رُبَّمَا اغْتَسَلَ فَنَامَ وَرُبَّمَا تَوَضَّأَ فَنَامَ. قُلْتُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ فِي الْأَمْرِ سَعَةً.
• البخاري أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ س قَالَ لِلرُّكْنِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ص اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ. فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ: فَمَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ، إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ. ثُمَّ قَالَ: شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ ص فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ.
• مسلم عَنْ هَمَّامٍ قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، فَقِيلَ: تَفْعَلُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص بَالَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ.
• مسلم:... قَالَ يَزِيدُ أَخْبَرَنَا قَالَ: كَانَ سَلَمَةُ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاكَ تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ. قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ ص يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا.
• البخاري عَنْ النَّزَّالِ قَالَ: أَتَى عَلِيٌّ س عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ فَشَرِبَ قَائِمًا, فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهُوَ قَائِمٌ، وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ ص فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِي فَعَلْتُ.
وممن حكى إجماع الصحابة على وجوب التأسي بفعله ص عياض في الشفا والشيرازي في اللمع والتبصرة والقرافي في شرح تنقيح الفصول وابن العربي في القبس والأرموي في التحصيل والجويني في البرهان والرازي في المحصول.
ورسول الله ص قد أقام دولة، وهذا إن كان فعلا فنحن مأمورون بالتأسي بفعله قطعًا كما مرَّ، وإن كانت هنا أدلة من الكتاب والسنة متعلقة بإقامتها فنحن مخاطبون بها على وجهها كما سيأتي في تفاصيل كيفية إقامتها إن شاء الله. أما في الجملة فإننا مأمورون باتباعه والتأسي به في هذه الكيفية.

المسألة الثامنة

الجهاد ليس طريقة لإقامة الدولة


لم يختلف المسلمون منذ عصر الصحابة إلى يومنا هذا أن الجهاد فرض بعد الهجرة إلى المدينة. قال الحافظ في فتح الباري: "فَأَوَّل مَا شُرِّعَ الْجِهَاد بَعْد الْهِجْرَة النَّبَوِيَّة إِلَى الْمَدِينَة اِتِّفَاقًا". قُلت: روى أحمد في مسنده بإسناد صحيح: وَأَمَّا مَعْبَدُ بْنُ كَعْبٍ فَحَدَّثَنِي فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَخِيهِ عَنْ أَبِيهِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ ص الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ، ثُمَّ تَتَابَعَ الْقَوْمُ. فَلَمَّا بَايَعَنَا رَسُولُ اللَّهِ ص صَرَخَ الشَّيْطَانُ مِنْ رَأْسِ الْعَقَبَةِ بِأَبْعَدِ صَوْتٍ سَمِعْتُهُ قَطُّ: يَا أَهْلَ الْجُبَاجِبِ -وَالْجُبَاجِبُ الْمَنَازِلُ- هَلْ لَكُمْ فِي مُذَمَّمٍ وَالصُّبَاةُ مَعَهُ قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى حَرْبِكُمْ. قَالَ عَلِيٌّ: يَعْنِي ابْنَ إِسْحَاقَ مَا يَقُولُهُ عَدُوُّ اللَّهِ مُحَمَّدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: هَذَا أَزَبُّ الْعَقَبَةِ هَذَا ابْنُ أَزْيَبَ، اسْمَعْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ أَمَا وَاللَّهِ لَأَفْرُغَنَّ لَكَ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: ارْفَعُوا إِلَى رِحَالِكُمْ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَئِنْ شِئْتَ لَنَمِيلَنَّ عَلَى أَهْلِ مِنًى غَدًا بِأَسْيَافِنَا. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: "لَمْ أُومَرْ بِذَلِكَ"، قَالَ: فَرَجَعْنَا فَنِمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا... الحديث.
فالجهاد فرض بعد الهجرة أي بعد قيام الدولة، فكيف يكون طريقًا لإقامتها؟! فمن المقطوع به أن رسول الله ص لم يستعمل الجهاد طريقا لإقامة دولة الإسلام الأولى. وهذا لا خلاف فيه، ولكن المخالف يفرق بين إقامة دولة الإسلام الأولى والثانية، فيحتج بأحاديث المنابذة بالسيف عند رؤية الكفر البواح، وبذلك يعتبر السيف طريقا لإقامة الدولة. وقبل الرد عليه أستعرض هذه الأحاديث وهي:
• مسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَالَ: "سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ"، قَالُوا: أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: "لَا مَا صَلَّوْا".
• مسلم عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ص عَنْ النَّبِيِّ ص أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: "لَا، مَا صَلَّوْا".
• الترمذي وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ النَّبِيِّ ص قَالَ: "إِنَّهُ سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةٌ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِيءَ وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ". فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: "لَا، مَا صَلُّوا".
• أبو داود بإسناد صحيح عن أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ ص قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: "سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةٌ تَعْرِفُونَ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ -قَالَ أَبُو دَاوُد قَالَ هِشَامٌ بِلِسَانِهِ- فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ كَرِهَ بِقَلْبِهِ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ". فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نَقْتُلُهُمْ؟ -قَالَ ابْنُ دَاوُدَ: "أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟"- قَالَ: "لَا، مَا صَلَّوْا".
• أحمد بإسناد حسن: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَنْبَأَنَا فَرَجُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ قَرَظَةَ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ ص قَالَ: "خِيَارُكُمْ وَخِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ، وَشِرَارُكُمْ وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: "لَا، مَا صَلَّوْا لَكُمْ الْخَمْسَ. أَلَا وَمَنْ عَلَيْهِ وَالٍ فَرَآهُ يَأْتِي شَيْئًا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ فَلْيَكْرَهْ مَا أَتَى وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ".
• أحمد بإسناد صحيح: حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ ضَبَّةَ بْنِ مُحْصِنٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: "إِنَّهُ سَتَكُونُ أُمَرَاءُ تَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: "لَا، مَا صَلَّوْا لَكُمْ الْخَمْسَ".
• البخاري بإسناده عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ، قُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ، حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ ص. قَالَ: دَعَانَا النَّبِيُّ ص فَبَايَعْنَاهُ, فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ.
• البخاري عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ ص عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ أَوْ نَقُولَ بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا لَا نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
هذه الأحاديث كلها تنطبق على الواقع الذي تكون فيه الدار دار إسلام، ولا تنطبق على دار الكفر. ونحن اليوم في دار كفر قد طبقت الدنيا، ولا وجود لدار الإسلام مطلقا. والدليل على أن موضوع هذه الأحاديث هو دار الإسلام ما يلي:
أولاً: في حديث أم سلمة يقول ص "فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ" أي أننا نرى معروفًا ونرى منكرًا، فهم يخلطون المعروف بالمنكر. وهذا الخلط لا يكون إلا في دار الإسلام، أما دار الكفر فلا يُرى فيها إلا المنكر الصرف، كما هو الحال في زماننا هذا زمان إمرة السفهاء الذين لا يهتدون بهدي محمد ص ولا يستنون بسنته.
ثانيًا: حديث أم سلمة عند الترمذي وأبي داود يقول ص "سَيَكُونُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةٌ"، "سَتَكُونُ عَلَيْكُمْ أَئِمَّةٌ" والأئمة لا تكون إلا في دار الإسلام. وما نحن فيه اليوم ليس فيه أئمة، فموضوع هذه الأحاديث هو دار الإسلام لا دار الكفر.
ثالثًا: في حديث عوف وحديث أم سلمة عند أحمد يقول ص: "لَا، مَا صَلَّوْا لَكُمْ الْخَمْسَ". والذين يصلون الخمس بالناس هم الأئمة في دار الإسلام، أما السفهاء الصبيان فلا يصلون للناس ولا بهم، ولا أظن أنهم يصاون أصلا. وهذا يدل على أن موضوع هذه الأحاديث هو دار الإسلام لا دار الكفر.
رابعًا: حديث عبادة عند البخاري يقول ص: "وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ"، والأمر هنا هو الخلافة، وأهلها هم الخلفاء الشرعيون، والدليل على أن الأمر هو الخلافة ما يلي:
• البخاري عن معاوية: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: "إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ...".
• البخاري عَنْ ابْنِ عُمَرَ م عَنْ النَّبِيِّ ص قَالَ: "لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمْ اثْنَانِ".
• البخاري عن علي: "وَلَكِنَّا نَرَى لَنَا فِي هَذَا الْأَمْرِ نَصِيبًا".
• البخاري عن العباس: "اذْهَبْ بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص فَلْنَسْأَلْهُ فِيمَنْ هَذَا الْأَمْرُ...".
• البخاري عن أبي بكر الصديق: "وَلَنْ يُعْرَفَ هَذَا الْأَمْرُ إِلَّا لِهَذَا الْحَيِّ مِنْ قُرَيْشٍ...".
• البخاري عن عبد الرحمن بن عوف: "لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ...".
• مسلم عن جابر بن سمرة: "لَا يَزَالُ هَذَا الْأَمْرُ عَزِيزًا إِلَى اثْنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً...".
• أحمد بإسناد حسن عن أبي بكر الصديق قال: "وَلَقَدْ عَلِمْتَ يَا سَعْدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَالَ وَأَنْتَ قَاعِدٌ: قُرَيْشٌ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ، فَبَرُّ النَّاسِ تَبَعٌ لِبَرِّهِمْ، وَفَاجِرُهُمْ تَبَعٌ لِفَاجِرِهِمْ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: صَدَقْتَ، نَحْنُ الْوُزَرَاءُ وَأَنْتُمْ الْأُمَرَاءُ".
• أحمد بإسناد صحيح عن عبد الله بن مسعود قال: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ص فِي قَرِيبٍ مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلًا... فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، فَإِنَّكُمْ أَهْلُ هَذَا الْأَمْرِ...".
• أحمد بإسناد صحيح عَنْ ذِي مِخْمَرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَالَ: "كَانَ هَذَا الْأَمْرُ فِي حِمْيَرَ فَنَزَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُمْ فَجَعَلَهُ فِي قُرَيْشٍ".
ورسول الله ص ينهانا عن منازعة الأمر أهله، وأهل الأمر -أي أهل الخلافة- لا يوجدون إلا في دار الإسلام. فالحديث إذن موضوعه دار الإسلام لا دار الكفر. ولا تكون المنازعة إلا عند ظهور الكفر البواح الذي لا خلاف في أنه كفر.
فالنتيجة التي لا مراء فيها أن الجهاد ليس طريقا لإقامة الخلافة.

المسألة التاسعة

الرسول ص أنشأ حزبًا في مكة


من الثابت أنه ص شكَّل حزبًا في مكة، وقبل ذكر الأدلة على ذلك يحسُن أن نُعَرِّفَ الحزب:
• قال الجوهري في الصحاح: حزب الرجل أصحابه.
• قال الفيروزبادي في القاموس: الحزب جُند الرجل وأصحابه الذين على رأيه.
• قال صاحب العين: والحزب أصحاب الرجل على رأيه وأمره... وكل طائفة تكون أهواؤهم واحدة فهم حزب.
فحزب محمد ص في مكة هم أصحابه الذين كانوا على رأيه، فيخرج بذلك من كان على رأيه ولم يصحبه، ولا يدخل في حزبه إلا من توفَّر فيه الشرطان، أن يكون على رأيه، وأن يكون صاحبا.
وقد كان أصحاب محمد ص حزبه ومن لم يصحبه ليس من حزبه ولو كان على رأيه، ومن أدلة ذلك:
• حديث أنس الصحيح عند أحمد قال: قال رسول الله ص: "يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ أَقْوَامٌ هُمْ أَرَقُّ مِنْكُمْ قُلُوبًا". قَالَ: فَقَدِمَ الْأَشْعَرِيُّونَ فِيهِمْ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ الْمَدِينَةِ كَانُوا يَرْتَجِزُونَ يَقُولُونَ: غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّهْ، مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ".
قُلت: الأشعريون عندما قالوا هذا القول كانوا مؤمنين، ولم يكونوا من حزبه ص، وإن كانوا من أمته. وبعد أن لقوه وصحبوه صاروا من حزبه. ولو كانوا من حزبه قبل أن يلقوه لما صلح أن يرتجزوا ما قالوه، وإنما صلح أن يقولوا: "غَدًا نَلْقَى الْأَحِبَّهْ، مُحَمَّدًا وَحِزْبَهْ" لأنهم لم يكونوا بعد منهم.
• حديث ذكوان الصحيح عند أحمد أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ لِابْنِ عَبَّاسٍ عَلَى عَائِشَةَ وَهِيَ تَمُوتُ... فَدَخَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ثُمَّ سَلَّمَ وَجَلَسَ، وَقَالَ: أَبْشِرِي يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ فَوَاللَّهِ مَا بَيْنَكِ وَبَيْنَ أَنْ يَذْهَبَ عَنْكِ كُلُّ أَذًى وَنَصَبٍ -أَوْ قَالَ وَصَبٍ- وَتَلْقَيْ الْأَحِبَّةَ مُحَمَّدًا وَحِزْبَهُ -أَوْ قَالَ أَصْحَابَهُ- إِلَّا أَنْ تُفَارِقَ رُوحُكِ جَسَدَكِ....
• حديث أبي عبد الرحمن السلمي عند ابن عبد البر في الاستيعاب: ...وسمعت عماراً يقول يومئذ لهاشم بن عقبة: يا هاشم تقدم الجنة تحت البارقة اليوم ألقى الأحبة: محمداً وحزبه.
قلتُ: كان هذا في صِفِّين.
• حديث سلمان الذي يرويه البيهقي في الشعب: عن معاوية بْنِ قُرَّةَ، قَالَ: قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: "ثَلَاثٌ أَعْجَبَتْنِي حَتَّى أَضْحَكَتْنِي... وَثَلَاثٌ أَحْزَنَتْنِي حَتَّى أَبْكَتْنِي: فِرَاقُ مُحَمَّدٍ ص وَحِزْبِهِ -أَوْ قَالَ: فِرَاقُ مُحَمَّدٍ وَالْأَحِبَّةَ. شَكَّ حَمَّادٌ-، وَهَوْلُ الْمَطْلَعِ، وَالْوُقُوفُ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ ﻷ، لَا أَدْرِي إِلَى جَنَّةٍ يُؤْمَرُ بِي أَوْ إِلَى نَارٍ".
قلتُ: هؤلاء الصحابة كانوا يذكرون محمدا ص وحزبه كأمر مسلّم ثابت لا يشكون أو يرتابون في وجوده. هذا من حيث النقل في الجملة. أما من حيث التفصيل فهناك أدلة على وجود هذا الحزب، وهي أدلة عملية وقولية تثبت أن محمدا ص كان له حزب ومنها:
أولاً: تكليف بعض الصحابة بالتبليغ وحمل الدعوة:
• مسلم عن أبي ذر: "... ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ لَا أُرَاهَا إِلَّا يَثْرِبَ فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ؟ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ فَأَتَيْتُ أُنَيْسًا فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. قَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكَ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. فَأَتَيْنَا أُمَّنَا فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ. فَاحْتَمَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارًا فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ...".
وفي رواية البخاري: "... فَسَمِعَ مِنْ قَوْلِهِ وَأَسْلَمَ مَكَانَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ص: ارْجِعْ إِلَى قَوْمِكَ فَأَخْبِرْهُمْ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي...".
• مسلم عن ابن عباس: "أَنَّ ضِمَادًا قَدِمَ مَكَّةَ... قَالَ: فَقَالَ: هَاتِ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ: فَبَايَعَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: وَعَلَى قَوْمِكَ. قَالَ: وَعَلَى قَوْمِي...".
قُلت: في هذين الحديثين دليل على أنه ص كلّف كلاًّ من أبي ذر وضماد بدعوة قومه، فقال لأبي ذر: "فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ؟ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُمْ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ". وقال لضماد: "وَعَلَى قَوْمِكَ". وفي حديث أبي ذر أسلم نصف غفار بدعوة أبي ذر. فيمكن اعتبار هذا التكليف عملا من أعمال الحزب.
ثانيًا: إقرار بعض الصحابة على التبليغ وحمل الدعوة:
• البخاري عن أبي هريرة قال: قَدِمَ طُفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو الدَّوْسِيُّ وَأَصْحَابُهُ عَلَى النَّبِيِّ ص فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ دَوْسًا عَصَتْ وَأَبَتْ فَادْعُ اللَّهَ عَلَيْهَا. فَقِيلَ: هَلَكَتْ دَوْسٌ. قَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِ دَوْسًا وَأْتِ بِهِمْ.
• ابن اسحق: فلما أسلم أبو بكر وأظهر إسلامه ودعا إلى الله ورسوله، وكان أبو بكر رجلاً مألفاً لقومه، محبباً سهلاً، وكان أنسب قريش لقريش، وأعلم قريش بما كان فيها من خير أو شر، وكان رجلاً تاجراً، ذا خلق ومعروف. وكان رجال قومه يأتونه ويألفونه لغير واحد من الأمر لعلمه وتجارته وحسن مجالسته، فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه ممن يغشاه ويجلس إليه، فأسلم على يديه فيما بلغني الزبير بن العوام وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف ن. فانطلقوا إلى رسول الله ص ومعهم أبو بكر، فعرض عليهم الإسلام، وقرأ عليهم القرآن، وأنبأهم بحق الإسلام، وبما وعدهم الله من كرامة فآمنوا.
• موسى بن عقبة في مغازيه عن ابن شهاب أن النفر الستة من الخزرج أسلموا وقالوا لرسول الله ص: "وَإِنَّا نُشِيُرُ عَلَيْكَ بِمَا تَرَى، فَامْكُثْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ حَتَّى نَرْجِعَ إِلَى قَوْمِنَا فَنُخْبِرَهُمْ بِشَأْنِكَ، وَنَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَلَعَلَّ اللَّهَ يُصْلِحُ بَيْنَنَا وَيَجْمَعُ أَمْرَنَا، فَإِنَّا الْيَوْمَ مُتَبَاعِدُونَ مُتَبَاغِضُونَ، وَإِنْ تَقْدُمْ عَلَيْنَا الْيَوْمَ وَلَمْ نَصْطَلِحْ لَمْ يَكُنْ لَنَا جَمَاعَةٌ عَلَيْكَ، وَلَكِنْ نُوَاعِدُكَ الْمَوْسِمَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَرَضِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي قَالُوا، فَرَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ فَدَعَوْهُمْ سِرًّا وَأَخْبَرُوهُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ، وَدَعَا إِلَيْهِ بِالْقُرْآنِ حَتَّى قَلَّ دَارٌ مِنْ دُورِ الأَنْصَارِ إِلا أَسْلَمَ فِيهَا نَاسٌ لا مَحَالَةَ".
• أحمد بإسناد صحيح عن جابر بن عبد الله: "... حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ يَثْرِبَ فَآوَيْنَاهُ وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ...".
• البخاري عن أبي موسى: "بَلَغَنَا مَخْرَجُ النَّبِيِّ ص وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ أَنَا وَأَخَوَانِ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمْ، أَحَدُهُمَا أَبُو بُرْدَةَ وَالْآخَرُ أَبُو رُهْمٍ، إِمَّا قَالَ فِي بِضْعٍ وَإِمَّا قَالَ فِي ثَلَاثَةٍ وَخَمْسِينَ أَوْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي. فَرَكِبْنَا سَفِينَةً فَأَلْقَتْنَا سَفِينَتُنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ...".
قُلت: معلوم أن أبا موسى أسلم بمكة ثم رجع إلى قومه، والظاهر أن أصحاب السفينة هؤلاء أسلموا على يديه دون تكليف منه ص.
ثالثًا: تكليف بعض الصحابة بإقراء القرآن والتفقيه في الدين كل من دخل في الإسلام:
• ابن عبد البر في الاستيعاب: وكان رسول الله ص قد بعث مصعب بن عمير إلى المدينة قبل الهجرة بعد العقبة الثانية يقرئهم القرآن ويفقههم في الدين، وكان يدعى القارىء والمقرىء.
• الحافظ في الإصابة: وقال ابن إسحاق في المغازي عن يزيد بن أبي حبيب: لما انصرف الناس عن العقبة بعث النبي ص معهم مصعب بن عمير يفقههم.
رابعًا: التبرعات المالية وإقراره ص إياهم عليها:
• أحمد بإسناد حسن عن عائشة قالت: قال رسول الله ص: "... مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ ﻷ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ ﻷ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ".
• مسلم عن أبي سعيد: "... وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي مَالِهِ وَصُحْبَتِهِ أَبُو بَكْرٍ...".
• البخاري عن أبي الدرداء: "... فَقَالَ النَّبِيُّ ص: إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ: كَذَبْتَ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ. وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ".
خامسًا: إقراره ص أصحابه على الصراع الفكري دون أن يكلفهم:
• البخاري عن خباب قال: كُنْتُ رَجُلًا قَيْنًا فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، فَاجْتَمَعَ لِي عِنْدَهُ، فَأَتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَقْضِيكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ. فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ حَتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ فَلَا. قَالَ: وَإِنِّي لَمَيِّتٌ ثُمَّ مَبْعُوثٌ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ سَيَكُونُ لِي ثَمَّ مَالٌ وَوَلَدٌ فَأَقْضِيكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} (مريم:77).
• أحمد في فضائل الصحابة بإسناد صحيح عن عروة قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله ص بمكة عبد الله بن مسعود، قال: اجتمع يوما أصحاب رسول الله ص فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط، فمن رجل يسمعهموه؟ قال عبد الله بن مسعود: "أنا"، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: "دعوني فإن الله عز وجل سيمنعني". قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، فقام عند المقام، ثم قال: "بسم الله الرحمن الرحيم -رافعا صوته- {الرَّحْمَنُ | عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (الرحمن:1-2)". قال: ثم استقبلها يقرأ فيها. قال: وتأملوا فجعلوا يقولون: ما يقول ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد. فقاموا إليه فجعلوا يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه وقد أثروا في وجهه، فقالوا: هذا الذي خشينا عليك. قال: "ما كان أعداء الله أهون علي منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها"، قالوا: حسبك فقد أسمعتهم ما يكرهون.
سادسًا: إقراره ص دفع أذى الكفار باليد عند القدرة:
• البخاري عن عروة بن الزبير قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو عَنْ أَشَدِّ مَا صَنَعَ الْمُشْرِكُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ ص قَالَ: رَأَيْتُ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ص وَهُوَ يُصَلِّي، فَوَضَعَ رِدَاءَهُ فِي عُنُقِهِ فَخَنَقَهُ بِهِ خَنْقًا شَدِيدًا، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَفَعَهُ عَنْهُ، فَقَالَ: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} (غافر:28).
• ابن اسحاق: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ ص إذَا صَلّوْا ذَهَبُوا فِي الشّعَابِ فَاسْتَخْفَوْا بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ ص فِي شِعْبٍ مِنْ شِعَابِ مَكّةَ، إذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ يُصَلّونَ، فَنَاكَرُوهُمْ وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ حَتّى قَاتَلُوهُمْ. فَضَرَبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ بَعِيرٍ فَشَجّهُ، فَكَانَ أَوّلَ دَمٍ أُهْرِيقَ فِي الْإِسْلَامِ.
• ابن اسحاق بسند صحيح قال: وَحَدّثَنِي نَافِعٌ مَوْلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمّا أَسْلَمَ أَبِي عُمَرُ قَالَ: أَيّ قُرَيْشٍ أَنْقَلُ لِلْحَدِيثِ؟ فَقِيلَ لَهُ: جَمِيلُ بْنُ مَعْمَرٍ الْجُمَحِيّ. قَالَ: فَغَدَا عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ: فَغَدَوْت أَتْبَعُ أَثَرَهُ وَأَنْظُرُ مَا يَفْعَلُ وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ كُلّ مَا رَأَيْتُ، حَتّى جَاءَهُ فَقَالَ لَهُ: أَعَلِمْتَ يَا جَمِيلُ أَنّي قَدْ أَسْلَمْت وَدَخَلْت فِي دِينِ مُحَمّدٍ؟ قَالَ: فَوَاَللّهِ مَا رَاجَعَهُ حَتّى قَامَ يَجُرّ رِدَاءَهُ، وَاتّبَعَهُ عُمَرُ وَاتّبَعْت أَبِي، حَتّى إذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ -وَهُمْ فِي أَنْدِيَتِهِمْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ- أَلَا إنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ قَدْ صَبَأَ. قَالَ: ويَقُولُ عُمَرُ مِنْ خَلْفِهِ: كَذَبَ، وَلَكِنّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَشَهِدْتُ أَنْ لَا إلَهَ إلّا اللّهُ وَأَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَثَارُوا إلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ حَتّى قَامَتْ الشّمْسُ عَلَى رُءُوسِهِمْ. قَالَ وَطَلِحَ فَقَعَدَ وَقَامُوا عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: افْعَلُوا مَا بَدَا لَكُمْ، فَأَحْلِفُ بِاَللّهِ أَنْ لَوْ قَدْ كُنّا ثَلَاثَ مِئَةِ رَجُلٍ لَقَدْ تَرَكْنَاهَا لَكُمْ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا لَنَا. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إذْ أَقْبَلَ شَيْخٌ مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِ حُلّةٌ حِبْرَةٌ وَقَمِيصٌ مُوَشّى، حَتّى وَقَفَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: صَبَا عُمَرُ. فَقَالَ: فَمَهْ رَجُلٌ اخْتَارَ لِنَفْسِهِ أَمْرًا فَمَاذَا تُرِيدُونَ؟ أَتَرَوْنَ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ يُسْلِمُونَ لَكُمْ صَاحِبَهُمْ هَكَذَا؟ خَلّوا عَنْ الرّجُلِ. قَالَ: فَوَاَللّهِ لَكَأَنّمَا كَانُوا ثَوْبًا كُشِطَ عَنْهُ. قَالَ: فَقُلْت لِأَبِي بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ: يَا أَبَتْ مَنْ الرّجُلُ الّذِي زَجَرَ الْقَوْمَ عَنْك بِمَكّةَ يَوْمَ أَسْلَمْت، وَهُمْ يُقَاتِلُونَك؟ فَقَالَ: ذَاكَ أَيْ بُنَيّ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السّهْمِيّ.
• قال ابن اسحاق: وَكَانَ إسْلَامُ عُمَرَ فِيمَا بَلَغَنِي أَنّ أُخْتَه فَاطِمَةَ بِنْتَ الْخَطّابِ، وَكَانَتْ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، وَكَانَتْ قَدْ أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَ بَعْلُهَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَهُمَا مُسْتَخْفِيَانِ بِإِسْلَامِهِمَا مِنْ عُمَرَ، وَكَانَ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ النّحّامُ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ بَنِي عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ قَدْ أَسْلَمَ، وَكَانَ أَيْضًا يَسْتَخْفِي بِإِسْلَامِهِ فَرَقًا مِنْ قَوْمِهِ، وَكَانَ خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ يَخْتَلِفُ إلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ الْخَطّابِ يُقْرِئُهَا الْقُرْآنَ. فَخَرَجَ عُمَرُ يَوْمًا مُتَوَشّحًا سَيْفَهُ يُرِيدُ رَسُولَ اللّهِ ص وَرَهْطًا مِنْ أَصْحَابِهِ قَدْ ذُكِرُوا لَهُ أَنّهُمْ قَدْ اجْتَمَعُوا فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصّفَا، وَهُمْ قَرِيبٌ مِنْ أَرْبَعِينَ مَا بَيْنَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ، وَمَعَ رَسُولِ اللّهِ ص عَمّهُ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي قُحَافَةَ الصّدّيقُ وَعَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فِي رِجَالٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ن مِمّنْ كَانَ أَقَامَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ ص بِمَكّةَ وَلَمْ يَخْرَجْ فِيمَنْ خَرَجَ إلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ، فَلَقِيَهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا عُمَرُ؟ فَقَالَ أُرِيدُ مُحَمّدًا هَذَا الصّابِئَ الّذِي فَرّقَ أَمْرَ قُرَيْشٍ وَسَفّهُ أَحْلَامَهَا وَعَابَ دِينَهَا وَسَبّ آلِهَتَهَا فَأَقْتُلَهُ. فَقَالَ لَهُ نُعَيْمٌ: وَاَللّهِ لَقَدْ غَرّتْك نَفْسُك مِنْ نَفْسِك، يَا عُمَرُ أَتَرَى بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ تَارِكِيك تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ قَتَلْت مُحَمّدًا؟ أَفَلَا تَرْجِعُ إلَى أَهْلِ بَيْتِك فَتُقِيمَ أَمْرَهُمْ؟ قَالَ: وَأَيّ أَهْلِ بَيْتِي؟ قَالَ: خَتَنُك وَابْنُ عَمّك سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرٍو وَأُخْتُك فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطّابِ، فَقَدْ وَاَللّهِ أَسْلَمَا، وَتَابَعَا مُحَمّدًا عَلَى دِينِهِ، فَعَلَيْك بِهِمَا. قَالَ: فَرَجَعَ عُمَرُ عَامِدًا إلَى أُخْتِهِ وَخَتَنِهِ وَعِنْدَهُمَا خَبّابُ بْنُ الْأَرَتّ مَعَهُ صَحِيفَةٌ فِيهَا: {طَه} يُقْرِئُهُمَا إيّاهَا، فَلَمّا سَمِعُوا حِسّ عُمَرَ تَغَيّبْ خَبّابٌ فِي مِخْدَعٍ لَهُمْ أَوْ فِي بَعْضِ الْبَيْتِ، وَأَخَذَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطّابِ الصّحِيفَةَ فَجَعَلَتْهَا تَحْتَ فَخِذِهَا. وَقْدَ سَمِعَ عُمَرُ حِينَ دَنَا إلَى الْبَيْتِ قِرَاءَةَ خَبّابٍ عَلَيْهِمَا، فَلَمّا دَخَلَ قَالَ: مَا هَذِهِ الْهَيْنَمَةُ الّتِي سَمِعْتُ؟ قَالَا لَهُ: مَا سَمِعْتَ شَيْئًا. قَالَ: بَلَى وَاَللّهِ، لَقَدْ أُخْبِرْت أَنّكُمَا تَابَعْتُمَا مُحَمّدًا عَلَى دِينِهِ. وَبَطَشَ بِخَتَنِهِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَامَتْ إلَيْهِ أُخْتُهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ الْخَطّابِ لَتَكُفّهُ عَنْ زَوْجِهَا، فَضَرَبَهَا فَشَجّهَا. فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ وَخَتَنُهُ: نَعَمْ، قَدْ أَسْلَمْنَا وَآمَنّا بِاَللّهِ وَرَسُولِهِ فَاصْنَعْ مَا بَدَا لَك. فَلَمّا رَأَى عُمَرُ مَا بِأُخْتِهِ مِنْ الدّمِ نَدِمَ عَلَى مَا صَنَعَ فَارْعَوى، وَقَالَ لِأُخْتِهِ: أُعْطِينِي هَذِهِ الصّحِيفَةَ الّتِي سَمِعْتُكُمْ تَقْرَءُونَ آنِفًا أَنْظُرْ مَا هَذَا الّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمّدٌ. وَكَانَ عُمَرُ كَاتِبًا، فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ قَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ: إنّا نَخْشَاك عَلَيْهَا. قَالَ: لَا تَخَافِي. وَحَلَفَ لَهَا بِآلِهَتِهِ لَيَرُدّنّهَا إذَا قَرَأَهَا إلَيْهَا، فَلَمّا قَالَ ذَلِكَ طَمِعَتْ فِي إسْلَامِهِ فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي، إنّكَ نَجِسٌ عَلَى شِرْكِكَ وَإِنَّهُ لا يَمَسُّها إِلا الطاهِرُ، فَقامَ عُمَرُ فَاغْتَسَلَ فَأَعْتَطْهُ الصَّحِيفَةَ وَفِيها {طَه}، فَقَرَأَهَا، فَلَمّا قَرَأَ مِنْهَا صَدْرًا قَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا الْكَلَامَ وَأَكْرَمَهُ. فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ خَبّابٌ خَرَجَ إلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: يَا عُمَرُ وَاَللّهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللّهُ قَدْ خَصّك بِدَعْوَةِ نَبِيّهُ، فَإِنّي سَمِعْته أَمْسِ وَهُوَ يَقُولُ: اللّهُمّ أَيّدْ الْإِسْلَامَ بِأَبِي الْحَكَمِ بْنِ هِشَامٍ أَوْ بِعُمَرِ بْنِ الْخَطّابِ، فَاَللّهَ اللّهَ يَا عُمَرُ. فَقَالَ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ عُمَرُ: فَدُلّنِي يَا خَبّابُ عَلَى مُحَمّدٍ حَتّى آتِيَهُ فَأُسْلِمَ. فَقَالَ لَهُ خَبّابٌ: هُوَ فِي بَيْتٍ عِنْدَ الصّفَا، مَعَهُ فِيهِ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَأَخَذَ عُمَرُ سَيْفَهُ فَتَوَشّحَهُ، ثُمّ عَمَدَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ص وَأَصْحَابِهِ، فَضَرَبَ عَلَيْهِمْ الْبَابَ، فَلَمّا سَمِعُوا صَوْتَهُ قَامَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحابِ رَسُولِ اللهِ ص فَنَظَرَ مِنْ خَلَلِ الْبَابِ فَرَآهُ مُتَوَشّحًا السّيْفَ، فَرَجَعَ إلَى رَسُولِ اللّهِ ص وَهُوَ فَزِعٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ، هَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ مُتَوَشّحًا السّيْفَ. فَقَالَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ: فَأْذَنْ لَهُ فَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ خَيْرًا بَذَلْنَاهُ لَهُ، وَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ شَرّا قَتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ ص: ائْذَنْ لَهُ. فَأَذِنَ لَهُ الرّجُلُ، وَنَهَضَ إلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ ص حَتّى لَقِيَهُ فِي الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَ حُجْزَتَهُ أَوْ بِمِجْمَعِ رِدَائِهِ ثُمّ جَبَذَهُ بِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، وَقَالَ: مَا جَاءَ بِك يَا ابْنَ الْخَطّابِ؟ فَوَاَللّهِ مَا أَرَى أَنْ تَنْتَهِيَ حَتّى يُنْزِلَ اللّهُ بِك قَارِعَةً. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللّهِ جِئْتُك لِأُومِنَ بِاَللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ. قَالَ فَكَبّرَ رَسُولُ اللّهِ ص تَكْبِيرَةً عَرَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ ص أَنّ عُمَرَ قَدْ أَسْلَمَ، فَتَفَرّقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ ص مِنْ مَكَانِهِمْ وَقَدْ عَزّوا فِي أَنْفُسِهِمْ حِينَ أَسْلَمَ عُمَرُ مَعَ إسْلَامِ حَمْزَةَ، وَعَرَفُوا أَنّهُمَا سَيَمْنَعَانِ رَسُولَ اللّهِ ص وَيَنْتَصِفُونَ بِهِمَا مِنْ عَدُوّهِمْ. فَهَذَا حَدِيثُ الرّوَاةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَنْ إسْلَامِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ حِينَ أَسْلَمَ.
قُلت: هذا الحديث رواه ابن اسحاق بلاغا وقال في آخره فهذا حديث الرواة من أهل المدينة، ولكن ابن عبد البر في الاستيعاب قال عن هذا الحديث مرة: "وبسبب زوجه كان إسلام عمر بن الخطاب وخبرهما في ذلك خبر حسن"، وقال في موضع آخر: "وخبرها في إسلام عمر خبر عجيب". وعليه فإني سأناقش هذا الخبر على أساس أنه حسن يحتج به مع سائر الأحاديث والآثار فأقول:
في حديث البخاري دفع أبو بكر عقبة بن أبي معيط عن رسول الله ص ولم يدفع رسول الله ص عن نفسه، وفي حديث ابن اسحق تقاتل المسلمون والمشركون في الشعب وشجَّ سعد أحدهم، وفي خبر ابن اسحق الصحيح عن ابن عمر في قصة إسلام عمر أنهم قاتلوه وقاتلهم، وفي روايته الأخيرة التي حسَّنها ابن عبد البر لم يدفع سعيد بن زيد عن نفسه وكذلك خباب، وقال حمزة: "وَإِنْ كَانَ جَاءَ يُرِيدُ شَرّا قَتَلْنَاهُ بِسَيْفِهِ"، ونهض إليه رسول الله ص فأخذ بحجزته وجبذه.
سابعًا: اكتفاؤه ص بالدعاء على من آذاهم:
• البخاري عن عبد الله بن مسعود أَنَّ النَّبِيَّ ص كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْض: أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى سَجَدَ النَّبِيُّ ص وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَنَا أَنْظُرُ لَا أُغْنِي شَيْئًا لَوْ كَانَ لِي مَنَعَةٌ. قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ ص سَاجِدٌ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ ص رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ، قَالَ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ. ثُمَّ سَمَّى: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ"، وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ يَحْفَظْ، قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ ص صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ.
ثامنًا: الصبر على الأذى والثبات على الحق:
• البخاري عن عائشة أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ ص: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ، وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ، فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ: ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ ص: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا".
• مسلم عن أبي ذر: ...فَأَتَيْتُ مَكَّةَ فَتَضَعَّفْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ فَقُلْتُ: أَيْنَ هَذَا الَّذِي تَدْعُونَهُ الصَّابِئَ؟ فَأَشَارَ إِلَيَّ فَقَالَ: الصَّابِئَ؟ فَمَالَ عَلَيَّ أَهْلُ الْوَادِي بِكُلٍّ مَدَرَةٍ وَعَظْمٍ حَتَّى خَرَرْتُ مَغْشِيًّا عَلَيَّ. قَالَ: فَارْتَفَعْتُ حِينَ ارْتَفَعْتُ كَأَنِّي نُصُبٌ أَحْمَرُ. قَالَ: فَأَتَيْتُ زَمْزَمَ فَغَسَلْتُ عَنِّي الدِّمَاءَ وَشَرِبْتُ مِنْ مَائِهَا.
• البخاري عن سَعِيدٍ بْنِ زَيْدٍ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنَّ عُمَرَ لَمُوثِقِي عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عُمَرُ، وَلَوْ أَنَّ أُحُدًا ارْفَضَّ لِلَّذِي صَنَعْتُمْ بِعُثْمَانَ لَكَانَ.
قلتُ: هذا الخبر يتعارض مع رواية ابن اسحق السابقة في إسلام عمر، إذ فيها أن عمر أسلم في اليوم الذي علم فيه بإسلام أخته وختنه، فمتى وثقه؟ وعند هذا التعارض يعمل بحديث البخاري ويُردُّ حديث ابن اسحق لأني لا أجد مجالا للجمع بينهما.
• الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وابن حبان عن عبد الله قال: إن أول من أظهر إسلامه سبعة: رسول الله ص فمنعه الله بعمه أبي طالب، وأما أبو بكر س فمنعه الله تعالى بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون، فألبسوهم أدراع الحديد وأوقفوهم في الشمس، فما من أحد إلا قد آتاهم كلما أرادوا غير بلال، فإنه هانت عليه نفسه في الله ﻷ، وهان على قومه فأعطوه الولدان فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة وجعل يقول: أحد أحد.
• الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي عن جابر أن رسول الله ص مرَّ بعمار وأهله وهم يعذبون، فقال: "أبشروا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة".
• البخاري عن خباب يقول: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ص وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً وَهُوَ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ لَقِينَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ شِدَّةً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا تَدْعُو اللَّهَ؟ فَقَعَدَ وَهُوَ مُحْمَرٌّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: "لَقَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ لَيُمْشَطُ بِمِشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عِظَامِهِ مِنْ لَحْمٍ أَوْ عَصَبٍ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُوضَعُ الْمِنْشَارُ عَلَى مَفْرِقِ رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَيْنِ، مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَلَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ"، زَادَ بَيَانٌ: "وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ".
تاسعًا: الإذن بالهجرة إلى دار يأمنون فيها على دينهم قبل وجود دار الإسلام:
• ابن كثير في البداية والنهاية: وأما رواية أم سلمة فقد قال يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبدالرحمن بن حارث بن هشام عن أم سلمة ل، أنها قالت: لما ضاقت مكة وأوذي أصحاب رسول الله ص وفتنوا ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله ص لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله في منعة من قومه ومن عمه، لا يصل إليه شئ مما يكره ومما ينال أصحابه، فقال لهم رسول الله ص: "إن بأرض الحبشة ملكا لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجا ومخرجا مما أنتم فيه". فخرجنا إليها أرسالا، حتى اجتمعنا بها، فنزلنا بخير دار إلى خير جار آمنين على ديننا، ولم نخش فيها ظلما....
عاشرًا: الإذن بالدخول بجوار أحد وجوه القوم وأشرافهم:
• الحافظ في الفتح: الْفَاكِهِيّ بِإِسْنَادٍ حَسَن مُرْسَل وَفِيهِ: أَنَّ الْمُطْعِم أَمَرَ أَرْبَعَة مِنْ أَوْلَاده فَلَبِسُوا السِّلَاح، وَقَامَ كُلّ وَاحِد مِنْهُمْ عِنْد رُكْن مِنْ الْكَعْبَة. فَبَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا فَقَالُوا لَهُ: أَنْتَ الرَّجُل الَّذِي لَا تُخْفَر ذِمَّتك.
• ابن كثير في البداية والنهاية: وقد ذكر الأموي في مغازيه أن رسول الله ص بعث أريقط إلى الاخنس بن شريق، فطلب منه أن يجيره بمكة، فقال: إن حليف قريش لا يجير على صميمها. ثم بعثه إلى سهيل بن عمرو ليجيره، فقال: إن بني عامر بن لؤي لا تجير على بني كعب بن لؤي. فبعثه إلى المطعم بن عدي ليجيره، فقال: نعم، قل له فليأت. فذهب إليه رسول الله ص فبات عنده تلك الليلة، فلما أصبح خرج معه هو وبنوه ستة أو سبعة متقلدي السيوف جميعا، فدخلوا المسجد، وقال لرسول الله ص: طف. واحتبوا بحمائل سيوفهم في المطاف، فأقبل أبو سفيان إلى مطعم، فقال: أمجير أو تابع؟ قال: لا، بل مجير. قال: إذًا لا تخفر. فجلس معه حتى قضى رسول الله ص طوافه، فلما انصرف انصرفوا معه،وذهب أبو سفيان إلى مجلسه. قال: فمكث أياما ثم أذن له في الهجرة.
• البخاري أَنَّ عَائِشَةَ ل زَوْجَ النَّبِيِّ ص قَالَتْ: لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَيَّ قَطُّ إِلَّا وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ إِلَّا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ ص طَرَفَيْ النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً. فَلَمَّا ابْتُلِيَ الْمُسْلِمُونَ خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ مُهَاجِرًا نَحْوَ أَرْضِ الْحَبَشَةِ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَرْكَ الْغِمَادِ لَقِيَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ وَهُوَ سَيِّدُ الْقَارَةِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَخْرَجَنِي قَوْمِي، فَأُرِيدُ أَنْ أَسِيحَ فِي الْأَرْضِ وَأَعْبُدَ رَبِّي. قَالَ ابْنُ الدَّغِنَةِ: فَإِنَّ مِثْلَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ وَلَا يُخْرَجُ، إِنَّكَ تَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَأَنَا لَكَ جَارٌ، ارْجِعْ وَاعْبُدْ رَبَّكَ بِبَلَدِكَ. فَرَجَعَ وَارْتَحَلَ مَعَهُ ابْنُ الدَّغِنَةِ، فَطَافَ ابْنُ الدَّغِنَةِ عَشِيَّةً فِي أَشْرَافِ قُرَيْشٍ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَا يَخْرُجُ مِثْلُهُ وَلَا يُخْرَجُ، أَتُخْرِجُونَ رَجُلًا يَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَيَصِلُ الرَّحِمَ وَيَحْمِلُ الْكَلَّ وَيَقْرِي الضَّيْفَ وَيُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ، فَلَمْ تُكَذِّبْ قُرَيْشٌ بِجِوَارِ ابْنِ الدَّغِنَةِ، وَقَالُوا لِابْنِ الدَّغِنَةِ: مُرْ أَبَا بَكْرٍ فَلْيَعْبُدْ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَلْيُصَلِّ فِيهَا وَلْيَقْرَأْ مَا شَاءَ وَلَا يُؤْذِينَا بِذَلِكَ وَلَا يَسْتَعْلِنْ بِهِ، فَإِنَّا نَخْشَى أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا. فَقَالَ ذَلِكَ ابْنُ الدَّغِنَةِ لِأَبِي بَكْرٍ، فَلَبِثَ أَبُو بَكْرٍ بِذَلِكَ يَعْبُدُ رَبَّهُ فِي دَارِهِ وَلَا يَسْتَعْلِنُ بِصَلَاتِهِ وَلَا يَقْرَأُ فِي غَيْرِ دَارِهِ، ثُمَّ بَدَا لِأَبِي بَكْرٍ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَيَنْقَذِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ وَهُمْ يَعْجَبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، وَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَأَرْسَلُوا إِلَى ابْنِ الدَّغِنَةِ، فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَقَالُوا: إِنَّا كُنَّا أَجَرْنَا أَبَا بَكْرٍ بِجِوَارِكَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ، فَقَدْ جَاوَزَ ذَلِكَ فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ فَأَعْلَنَ بِالصَّلَاةِ وَالْقِرَاءَةِ فِيهِ، وَإِنَّا قَدْ خَشِينَا أَنْ يَفْتِنَ نِسَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا، فَانْهَهُ، فَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ فِي دَارِهِ فَعَلَ، وَإِنْ أَبَى إِلَّا أَنْ يُعْلِنَ بِذَلِكَ فَسَلْهُ أَنْ يَرُدَّ إِلَيْكَ ذِمَّتَكَ، فَإِنَّا قَدْ كَرِهْنَا أَنْ نُخْفِرَكَ، وَلَسْنَا مُقِرِّينَ لِأَبِي بَكْرٍ الِاسْتِعْلَانَ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَتَى ابْنُ الدَّغِنَةِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: قَدْ عَلِمْتَ الَّذِي عَاقَدْتُ لَكَ عَلَيْهِ، فَإِمَّا أَنْ تَقْتَصِرَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيَّ ذِمَّتِي، فَإِنِّي لَا أُحِبُّ أَنْ تَسْمَعَ الْعَرَبُ أَنِّي أُخْفِرْتُ فِي رَجُلٍ عَقَدْتُ لَهُ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَإِنِّي أَرُدُّ إِلَيْكَ جِوَارَكَ، وَأَرْضَى بِجِوَارِ اللَّهِ ﻷ... الحديث.
مما سبق في سادسا وسابعا وثامنا وتاسعا وعاشرا يتبين جواز ما يلي لأفراد الحزب:
1. دفع الأذى باليد عند القدرة بشكل فردي.
2. الدعاء على الذين يؤذون أفراد الحزب.
3. الصبر على الأذى والثبات على الحق.
4. الهجرة إلى مكان لا يفتن فيه حامل الدعوة.
5. الدخول في جوار أحد المتنفذين طلبا للحماية.
ولا بد من بيان الحكم بشكل أوضح، يعني هل هذه الأمور المار ذكرها واجبة أم مندوبة أم مباحة؟ ثم هل الحكم الشرعي يتعلق بالأفراد أم بالحزب؟ وهل هنالك أدلة من غير السنة تتعلق بهذا الأمر، أعني دفع أذى الكفار والمنافقين والسفهاء وأعوانهم؟
أقول: إن الله ـ يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (الشورى:39)، فهل لهذه الآية علاقة بمسألتنا؟ الآية اختلف في نسخها واختلف في كونها مكية أم مدنية واختلف في الباغين أهم المشركون أم المسلمون أم المشركون والمسلمون. سلمنا أنها غير منسوخة، والذي يهمنا هنا قول من قال: المقصود بالباغين هم المشركون. قال ابن الجوزي في زاد المسير: قال عطاء: هم المؤمنون الذين أخرجهم الكفار من مكة وبَغَوْا عليهم، ثم مَكنَّهم الله منهم فانتصروا. وقال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله ص فرقتين بمكة، فرقة كانت تُؤذَى فتَعفو عن المشركين، وفرقة كانت تُؤذَى فتنتصر، فأثنى اللهُ ﻷ عليهم جميعاً، فقال في الذين لم ينتصروا: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} (الشورى:37)، وقال في المنتصِرين: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} (الشورى:39)، أي: من المشركين.
قُلت: على رأي عطاء الانتصار كان بعد قيام الدولة، وعلى رأي زيد بن أسلم الانتصار كان في مكة.
سلمنا أن الانتصار المطلوب كان في مكة فجاءت السنة فبينته، فالذي قدر على الانتصار لنفسه انتصر، كما ورد في حديث ابن عمر الصحيح عند ابن اسحق حيث قال عن أبيه عمر: "وَثَارُوا إلَيْهِ، فَمَا بَرِحَ يُقَاتِلُهُمْ وَيُقَاتِلُونَهُ". ويروي البخاري في الصحيح عن ابن عمر عن أبيه قال: بَيْنَمَا هُوَ فِي الدَّارِ خَائِفًا إِذْ جَاءَهُ الْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ السَّهْمِيُّ أَبُو عَمْرٍو عَلَيْهِ حُلَّةُ حِبَرَةٍ وَقَمِيصٌ مَكْفُوفٌ بِحَرِيرٍ وَهُوَ مِنْ بَنِي سَهْمٍ وَهُمْ حُلَفَاؤُنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ لَهُ: مَا بَالُكَ؟ قَالَ: زَعَمَ قَوْمُكَ أَنَّهُمْ سَيَقْتُلُونِي إِنْ أَسْلَمْتُ. قَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَيْكَ. بَعْدَ أَنْ قَالَهَا أَمِنْتُ. فَخَرَجَ الْعَاصِ فَلَقِيَ النَّاسَ قَدْ سَالَ بِهِمْ الْوَادِي، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ فَقَالُوا: نُرِيدُ هَذَا ابْنَ الْخَطَّابِ الَّذِي صَبَا. قَالَ: لَا سَبِيلَ إِلَيْهِ. فَكَرَّ النَّاسُ.
وإعمالا للدليلين أقول: إن المرة الأولى التي كان فيها قتاله لهم كان يوم أسلم. وكأنهم فيما بعد قرروا قتله فردَّهم العاص بن وائل. وإن أردنا الترجيح فرواية البخاري أرجح. ولكن لا حاجة للترجيح فعمر عندما كان قادرا على دفع الأذى دفع وقاتل. لكن لما وصل الأمر إلى القتل خاف ولزم بيته.
وأما حديث ابن اسحاق الذي يرويه بلاغًا والذي أشار ابن عبد البر إلى تحسينه فإنه يتعارض مع حديث سَعِيدٍ بْنِ زَيْدٍ الصحيح عند البخاري، والصحيح مرجح على الحسن المروي بلاغا. ومن أراد إعمال الدليلين قال إن المسلمين الذين كانوا مع النبي ص في بيت عند الصفا كانت لديهم القدرة على رد البغي والانتصار لأنفسهم ودفع الأذى.
وإذا استعرضنا ردود فعل الصحابة على مشركي قريش وجدناهم صنفين، صنف صبر وثبت ولم ينتصر كآل ياسر وبلال وسعيد بن زيد وأبي ذر وابن مسعود، وصنف انتصر كأبي بكر وعمر وسعد. وكلاًّ أقر رسول الله ص على موقفه.
بل إن رسول الله ص فعل الأمرين: ففي حديث عبد الله بن مسعود عند البخاري عندما وضعوا سلى الجزور على ظهره دعا عليهم فقال: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلَاثَ مَرَّاتٍ... ثُمَّ سَمَّى: "اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ...". وفي حديث عبد الله بن عمرو الصحيح عند أحمد: قَالَ يَعْقُوبُ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: مَا أَكْثَرَ مَا رَأَيْتَ قُرَيْشًا أَصَابَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ فِيمَا كَانَتْ تُظْهِرُ مِنْ عَدَاوَتِهِ؟ قَالَ: حَضَرْتُهُمْ وَقَدْ اجْتَمَعَ أَشْرَافُهُمْ يَوْمًا فِي الْحِجْرِ فَذَكَرُوا رَسُولَ اللَّهِ ص فَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَ مَا صَبَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ قَطُّ، سَفَّهَ أَحْلَامَنَا وَشَتَمَ آبَاءَنَا وَعَابَ دِينَنَا وَفَرَّقَ جَمَاعَتَنَا وَسَبَّ آلِهَتَنَا، لَقَدْ صَبَرْنَا مِنْهُ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ -أَوْ كَمَا قَالُوا-. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ طَلَعَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ ص فَأَقْبَلَ يَمْشِي حَتَّى اسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ طَائِفًا بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا أَنْ مَرَّ بِهِمْ غَمَزُوهُ بِبَعْضِ مَا يَقُولُ، قَالَ: فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى فَلَمَّا مَرَّ بِهِمْ الثَّانِيَةَ غَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَعَرَفْتُ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ مَضَى، ثُمَّ مَرَّ بِهِمْ الثَّالِثَةَ، فَغَمَزُوهُ بِمِثْلِهَا، فَقَالَ: تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ. فَأَخَذَتْ الْقَوْمَ كَلِمَتُهُ حَتَّى مَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا كَأَنَّمَا عَلَى رَأْسِهِ طَائِرٌ وَاقِعٌ، حَتَّى إِنَّ أَشَدَّهُمْ فِيهِ وَصَاةً قَبْلَ ذَلِكَ لَيَرْفَؤُهُ بِأَحْسَنِ مَا يَجِدُ مِنْ الْقَوْلِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَقُولُ: انْصَرِفْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، انْصَرِفْ رَاشِدًا، فَوَاللَّهِ مَا كُنْتَ جَهُولًا. قَالَ: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ ص حَتَّى إِذَا كَانَ الْغَدُ اجْتَمَعُوا فِي الْحِجْرِ وَأَنَا مَعَهُمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ذَكَرْتُمْ مَا بَلَغَ مِنْكُمْ وَمَا بَلَغَكُمْ عَنْهُ حَتَّى إِذَا بَادَأَكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ تَرَكْتُمُوهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ طَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ ص فَوَثَبُوا إِلَيْهِ وَثْبَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ لَهُ: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُمْ عَنْهُ مِنْ عَيْبِ آلِهَتِهِمْ وَدِينِهِمْ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ص: نَعَمْ، أَنَا الَّذِي أَقُولُ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَجُلًا مِنْهُمْ أَخَذَ بِمَجْمَعِ رِدَائِهِ، قَالَ: وَقَامَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ س دُونَهُ يَقُولُ وَهُوَ يَبْكِي: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} (غافر:28). ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَأَشَدُّ مَا رَأَيْتُ قُرَيْشًا بَلَغَتْ مِنْهُ قَطُّ.
قُلت: في اليوم الأول انتصر ص لنفسه فقال: "تَسْمَعُونَ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَمَا وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِالذَّبْحِ"، وفي اليوم الثاني لم ينتصر ودفع عنه أبو بكر.
وعندما حاصره المشركون في الشعب لم ينتصر المسلمون ولم يحاولوا الاعتداء على المشركين وأموالهم، وفي الشعب رسول الله ص ثلاث سنين. وكذلك فإنه ص لما رجع من الطائف لم ينتصر ولو بالدعاء عليهم، بل قال في رواية عائشة عند البخاري: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا"، وقال لآل ياسر: "أبشروا آل عمار وآل ياسر فإن موعدكم الجنة".
فيمكن إيجاز الأحكام كما يلي:
• الثبات على الحق فرض إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان.
• الصبر على الأذى مندوب.
• الانتصار ودفع الأذى قولا وعملا أقرهم الرسول ص على فعله وعلى تركه. وانتصر هو قولا ولا يؤثر عنه أنه فعله، أي لا يؤثر عنه أنه دفع عن نفسه باليد، فيمكن القول أن الدفع والانتصار بالقول مندوب، وذلك لأنه ص فعله وأقر أصحابه على فعله. والقرينة التي تصرفه عن الوجوب إلى الندب كونه ص تركه أحيانا وأقر الصحابة على تركه. وأما الفعل أي الإنتصار ودفع الأذى باليد فإنه من المباح، والقرينة على ذلك أن رسول الله ص لم يفعله مطلقا، ولو كان مندوبا لفعله على الأقل حينا وتركه حينا، فلما لم يفعله مطلقا ترجح أنه على الإباحة. وعلى كل حال فلا اختلاف في كونه مندوبا أو مباحا عندي بحال.
وينبغي التنبه أن الانتصار والدفع يختلف حكمهما عن الابتداء والمبادرة، فلم يُرْوَ أنه ص وحزبه بدأوا المشركين في مكة بأي نوع قتال.
حادي عشر: نهيه ص أحد أصحابه عن الاقامة معه في مكة:
• مسلم عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ السُّلَمِيُّ: كُنْتُ وَأَنَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَظُنُّ أَنَّ النَّاسَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ. فَسَمِعْتُ بِرَجُلٍ بِمَكَّةَ يُخْبِرُ أَخْبَارًا، فَقَعَدْتُ عَلَى رَاحِلَتِي فَقَدِمْتُ عَلَيْهِ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ ص مُسْتَخْفِيًا، جُرَءَاءُ عَلَيْهِ قَوْمُهُ، فَتَلَطَّفْتُ حَتَّى دَخَلْتُ عَلَيْهِ بِمَكَّةَ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا نَبِيٌّ. فَقُلْتُ: وَمَا نَبِيٌّ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي اللَّهُ. فَقُلْتُ: وَبِأَيِّ شَيْءٍ أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: أَرْسَلَنِي بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ وَكَسْرِ الْأَوْثَانِ وَأَنْ يُوَحَّدَ اللَّهُ لَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ. قُلْتُ لَهُ: فَمَنْ مَعَكَ عَلَى هَذَا؟ قَالَ: حُرٌّ وَعَبْدٌ. قَالَ: وَمَعَهُ يَوْمَئِذٍ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ مِمَّنْ آمَنَ بِهِ. فَقُلْتُ: إِنِّي مُتَّبِعُكَ. قَالَ: إِنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ يَوْمَكَ هَذَا، أَلَا تَرَى حَالِي وَحَالَ النَّاسِ؟ وَلَكِنْ ارْجِعْ إِلَى أَهْلِكَ، فَإِذَا سَمِعْتَ بِي قَدْ ظَهَرْتُ فَأْتِنِي. قَالَ: فَذَهَبْتُ إِلَى أَهْلِي.
قال النووي في شرح هذا الحديث: ("فَقُلْت: إِنِّي مُتَّبِعك. قَالَ: إِنَّك لَا تَسْتَطِيع ذَلِكَ يَوْمك هَذَا، أَلَا تَرَى حَالِي وَحَال النَّاس؟ وَلَكِنْ اِرْجِعْ إِلَى أَهْلك فَإِذَا سَمِعْت بِي قَدْ ظَهَرْت فَأْتِنِي" مَعْنَاهُ: قُلْت لَهُ: إِنِّي مُتَّبِعك عَلَى إِظْهَار الْإِسْلَام هُنَا، وَإِقَامَتِي مَعَك فَقَالَ: لَا تَسْتَطِيع ذَلِكَ لِضَعْفِ شَوْكَة الْمُسْلِمِينَ وَنَخَاف عَلَيْك مِنْ أَذَى كُفَّار قُرَيْش، وَلَكِنْ قَدْ حَصَلَ أَجْرك فَابْقَ عَلَى إِسْلَامك، وَارْجِعْ إِلَى قَوْمك وَاسْتَمِرَّ عَلَى الْإِسْلَام فِي مَوْضِعك حَتَّى تَعْلَمنِي ظَهَرْت فَأْتِنِي، وَفِيهِ مُعْجِزَة لِلنُّبُوَّةِ وَهِيَ إِعْلَامه بِأَنَّهُ سَيَظْهَرُ).
قُلت: هذا النهي لعمرو بن عبسة دليل قاطع على وجود حزب لمحمد ص يأمرهم وينهاهم، أحيانا تكون الأوامر والنواهي أحكاما شرعية وأحيانا إدارية كهذا النهي.
ثاني عشر: استعانته ص ببعض أفراد حزبه في طلب النصرة:
• البيهقي في دلائل النبوة وحسنه الحافظ: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي قال: أنبأنا أبو بكر محمد بن إسماعيل الفقيه الشاشي قال: حدثنا الحسن بن صاحب بن حميد الشاشي قال: حدثني عبد الجبار بن كثير الرقي قال: حدثنا محمد بن بشر اليماني، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن أبان بن تغلب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: حدثني علي بن أبي طالب، من فِيهِ قال: لما أمر الله تبارك وتعالى رسوله ص أن يعرض نفسه على قبائل العرب، خرج وأنا معه، وأبو بكر س، فدفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدم أبو بكر س وكان مقدما في كل خير، وكان رجلا نسّابة، فسلَّم وقال: ممن القوم؟ قالوا: من ربيعة... الحديث.
ثالث عشر: استعانته ص ببعض أفراد حزبه للقيام بعمل مادي خاص:
• أحمد بإسناد صحيح عن علي قال: انْطَلَقْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّ ص حَتَّى أَتَيْنَا الْكَعْبَةَ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص: اجْلِسْ. وَصَعِدَ عَلَى مَنْكِبَيَّ، فَذَهَبْتُ لِأَنْهَضَ بِهِ، فَرَأَى مِنِّي ضَعْفًا، فَنَزَلَ وَجَلَسَ لِي نَبِيُّ اللَّهِ ص وَقَالَ: اصْعَدْ عَلَى مَنْكِبَيَّ. قَالَ: فَصَعِدْتُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ. قَالَ: فَنَهَضَ بِي. قَالَ: فَإِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي لَوْ شِئْتُ لَنِلْتُ أُفُقَ السَّمَاءِ، حَتَّى صَعِدْتُ عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَيْهِ تِمْثَالُ صُفْرٍ أَوْ نُحَاسٍ، فَجَعَلْتُ أُزَاوِلُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ص: اقْذِفْ بِهِ. فَقَذَفْتُ بِهِ فَتَكَسَّرَ كَمَا تَتَكَسَّرُ الْقَوَارِيرُ، ثُمَّ نَزَلْتُ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ ص نَسْتَبِقُ حَتَّى تَوَارَيْنَا بِالْبُيُوتِ خَشْيَةَ أَنْ يَلْقَانَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ.
قُلت: هذا الحديث فيه دلالة على أن الرسول ص شكَّل حزبًا، وكان افراد هذا الحزب يطيعونه في أمره ونهيه.
لكن قد يَظُنُّ ظان أن هذا الحديث فيه دلالة على جواز قيام الحزب بأعمال مادية قبل قيام الدولة. وهذا خطأ لأن هذا العمل كان خاصًّا بقيادة الحزب، ولم يعلم به أحد من أفراد الحزب ولا من سائر الناس إلا عليًّا بحكم أنه ص استعان به. وحتى بعد انتهاء العمل فإنه لم يعلم به أحد، وهذا يدل على أن هذا الفعل ليس محل تأسٍ، إذ كيف يكون كذلك وهم لا يعلمون به؟ ومما يؤكد ذلك أنه لم يتكرر لا منه ص ولا من أحد من أفراد حزبه.
رد مع اقتباس