عرض مشاركة واحدة
 
  #5  
قديم 06-11-2012
ابو عبد الله العقبي ابو عبد الله العقبي غير متواجد حالياً
عضو جديد
 
تاريخ التسجيل: Jun 2012
المشاركات: 12
افتراضي رد: مسائل سلطانية : للشيخ عبد الرحمن العقبي

المسألة الرابعة عشرة

من هو المخول بالتفاوض عن المسلمين؟ أي من هو صاحب الصلاحية في تمثيلهم شرعا؟ ومتى يكونون ملزمين بما يبرمه من موادعات واتفاقيات؟ ومن هم الملزمون؟ وما هي حدود هذا الالتزام؟


المسلمون إما أن يكونوا جميعا وإما أن يكونوا متفرقين، أي أن يكون لهم جماعة على إمام أو أن يكونوا لا جماعة لهم ولا إمام.
ففي الحال الأولى عندما يكونون جميعا كما أمرهم الله ـ في قوله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} (آل عمران:103)، فالذي له صلاحية التفاوض وعقد الموادعات والاتفاقيات هو الإمام أو من ينيبه، والأدلة على ذلك الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب فقوله تعالى في سورة الأنفال: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)}. ففي هذه الآيات أسند ـ المعاهدة والنبذ للرسول ص. وهذه الصلاحية تكون لخلفائه من بعده. وأيضا فإنه ـ يقول في نفس السورة: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)}، وهذا خطاب له ص ولخلفائه من بعده. فإن قيل إن الله ـ يقول في سورة التوبة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1)}، ويقول في نفس السورة: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}، ففي هاتين الآيتين أسند ـ العهد وإتمامه إلى المسلمين، وهذا يُشعر بوجود تعارض بين هاتين الآيتين والآيات السابقة، قيل: لا تعارض مطلقا، بل إن آيات التوبة تؤكد آيات الأنفال، إذ أن الله ـ اعتبر العهد من الرسول ص عهدًا من المسلمين، فقال ﻷ في الأنفال: {عَاهَدْتَ} وقال في التوبة: {عَاهَدْتُمْ}، فاعتبر عهده ص عهدا من كل المسلمين. ويُبيّن هذا تمام البيان ما سيأتي إن شاء الله تعالى في السنة، فإنه ص هو الذي كان يتولى إبرام العهود، وقوله ـ في التوبة: {عَاهَدْتُمْ} توكيد لهذا المعنى وهو أن إبرام المعاهدات من صلاحياته ص. ثم هي من صلاحيات خلفائه من بعده، والمسلمون ملزمون بما عاهد عليه رسول الله ص. إذ أنه ﻷ اعتبر عهده ص عهد المسلمين.
وأما الدليل من السنة فما رواه:
• البخاري عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ م قَالَ: صَالَحَ النَّبِيُّ ص الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ...
• البخاري: حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ عَوْفٍ الْأَنْصَارِيَّ وَهُوَ حَلِيفٌ لِبَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ وَكَانَ شَهِدَ بَدْرًا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلَاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ...
• البخاري عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ النَّبِيِّ ص تَبُوكَ، وَأَهْدَى مَلِكُ أَيْلَةَ لِلنَّبِيِّ ص بَغْلَةً بَيْضَاءَ وَكَسَاهُ بُرْدًا وَكَتَبَ لَهُ بِبَحْرِهِمْ.
• البخاري عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ س قَالَ: اعْتَمَرَ النَّبِيُّ ص فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَأَبَى أَهْلُ مَكَّةَ أَنْ يَدَعُوهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ حَتَّى قَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
• البخاري في باب قصة نجران: عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: جَاءَ الْعَاقِبُ وَالسَّيِّدُ صَاحِبَا نَجْرَانَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ص يُرِيدَانِ أَنْ يُلَاعِنَاهُ، قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: "لَا تَفْعَلْ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فَلَاعَنَّا لَا نُفْلِحُ نَحْنُ وَلَا عَقِبُنَا مِنْ بَعْدِنَا". قَالَا: "إِنَّا نُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَنَا، وَابْعَثْ مَعَنَا رَجُلًا أَمِينًا وَلَا تَبْعَثْ مَعَنَا إِلَّا أَمِينًا". فَقَالَ: "لَأَبْعَثَنَّ مَعَكُمْ رَجُلًا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ". فَاسْتَشْرَفَ لَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ ص، فَقَالَ: "قُمْ يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ"، فَلَمَّا قَامَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: "هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ".
وأما الاجماع فهذا مستنده:
• خليفة في تاريخه: حدثنا بكر عن ابن إسحاق قال: نا محمد بن طلحة بن ركانة عن سالم بن عبد الله بن عمر قال: خرج أهل إيلياء إلى عمر فصالحوه على الجزية وفتحوها.
قُلتُ: كان صلح عمر لأهل إيلياء على مسمع ومرأى من الصحابة وانتشر خبره في كل من الحجاز والشام والصحابة فيهما متوافرون ولم ينكر عليه فكان إجماعا منهم على أن الخليفة يتولى إبرام عقود الصلح والموادعات.
أما مستند الإجماع على أن لأمرائه أن ينوبوا عنه في ذلك فأحداثه أكثر من أن تحصى، وسأحاول اختصار عقود الصلح التي أبرمها الأمراء في عهد الخلفاء الراشدين بالترتيب التاريخي:
• عهد أبي بكر الصديق:
o قال خليفة في تاريخه: سنة اثنتي عشرة: فيها بعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى أرض البصرة، وكانت تسمى أرض الهند. فحدثنا عون بن كهمس بن الحسن قال: نا عمران بن حدير قال نا رجل منا يقال له: مقاتل عن قطبة بن قتادة السدوسي قال: حمل علينا خالد بن الوليد في خيله فقلنا: إنا مسلمون، فتركنا وغزونا معه الأبلّة ففتحناها، حتى إنهم ليولغون كلابهم في آنية الذهب والفضة. قال علي بن محمد: صالحه أهل نهر المرة على اثني عشر ألف درهم وانصرف عنهم. قال علي بن محمد صالحته من رأس الفهرج إلى نهر المرة. الوليد بن هشام عن أبيه عن جده أن خالدا دخل ميسان فأصاب بها غنائم وسبايا من أهل القرى وصالحته طماهيج صاحبة نهر المرة... قال علي بن محمد وأبو عبيدة وأبو اليقظان وغيرهم: صالح ابن صلوتا على أليس وقرى السواد في صفر من سنة اثنتي عشرة على ألف دينار... وصالحه عبد المسيح بن بقيلة وإياس بن قبيصة الطائي على تسعين ألفا. ثم سار إلى الأنبار فصالحوه... سنة ثلاث عشرة:... قال ابن إسحاق: وكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد فسار إلى الشام فأغار على غسان بمرج راهط، ثم سار فنزل على قناة بصرى، وقدم عليه يزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة بن الجراح وشرحبيل بن حسنة، فصالحت بصرى فكانت أول مدائن الشام فتحت. وصالح خالد في وجهه ذلك أهل تدمر.
o أبو يوسف في كتاب الخراج: وحَدَّثَنِي محمد بن إسحاق وغيره من أهل العلم بالفتوح والسير، بعضهم يزيد فِي الحديث عَلَى بعض، قالوا: لما قدم خالد بن الوليد من اليمامة دخل عَلَى أبي بكر الصديق س وخرج فأقام أياما ثم قال له أبو بكر: تهيأ حتى تخرج إِلَى العراق، فوجهه أبو بكر إلى العراق... ومعه خمسة آلاف أو أقل أو أكثر... فانتهوا إلى المغيثة... وفتح الحصن وقتل من فيه من المقاتلة وسبى النساء والذراري وأخذ جميع ما كان فيه من السلاح والمتاع والدواب وهدم الحصن. ثُمَّ مضى حَتَّى انتهى إِلَى العذيب وفيه حصن فيه مسلحة لكسرى فواقعهم خالد فقتلهم وأخذ ما كان فِي الحصن من متاع وسلاح ودواب وهدم الحصن وضرب أعناق الرجال وسبى النساء والذراري. فعزل الخمس مما فتح الله عليه وقسم الأربعة أخماس بين أصحابه الذين افتتحوه. فلما رأى ذلك أهل القادسية طلبوا الصلح وأعطوه الجزية... ثم بعث طليعة لَهُ إِلَى أهل أُلَّيس وفيها حصن فيه رجال لكسرى مسلحة، فحاصرهم وفتح الحصن وأخرج من فيه من الرجال وضرب أعناقهم وسبى نساءهم وذراريهم وأخذ ما كان فيه من المتاع والسلاح وهدم الحصن وأحرقه. فلما رأى أهل أُلّيس ما صنع خالد بأهل الحصن طلبوا منه الصلح عَلَى أداء الجزية، فأعطاهم فأدوا إليه الجزية... ثم مضى إِلَى الحيرة... فقَالَ له إياس بن قبيصة :ما لنا فِي حربك من حاجة وما نريد أن ندخل معك فِي دينك، نقيم عَلَى ديننا ونعطيك الجزية. وصالحه عَلَى تسعين ألفا وكتب بينهم هذا الكتاب: "بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ، هذا كتاب من خالد بن الوليد لأهل الحيرة، إن خليفة رَسُوْل اللهِ ص أبا بكر الصديق س أمرني أن أسير بعد منصرفي من أهل اليمامة إِلَى أهل العراق... فعرضت عليهم الجزية أو الحرب فقالوا: لا حاجة لنا بحربك ولكن صالحنا عَلَى ما صالحت عليه غيرنا من أهل الكتاب... ثُمَّ إن خالدا مضى إلى قرية أسفل الفرات يقال لها بانقيا... فلما رأى أهل بانقيا ذلك طلبوا الصلح منه على أداء الجزية. فكان الذي ولي الصلح منهم هانئ بن جابر الطائي فصالحه عنهم على ثمانين ألفا... ثم بعث جرير بن عبد الله إِلَى قرية بالسواد، فلما اقحم جرير بالفرات ليعبر إِلَى أهل القرية ناداه دهقانها صلوبا: لا تعبر، أنا أعبر إليك، فعبر إليه، فصالحه عَلَى مثل ما صالحه عليه أهل بانقيا وأعطاه الجزية. وصالحه أهل باروسما وما حولها من القرى عَلَى ما صالحه عليه أهل الحيرة... ثم بعث سعد بن عمرو الأنصاري فِي جمع من المسلمين حَتَّى انتهى إِلَى صندودا وفيها قوم من كندة ومن إياد نصارى، فحاصرهم أشد الحصار ثُمَّ صالحهم عَلَى جزية يؤدونها إليه... ثم مضى من بلاد تغلب ومعه أدلاء من أهلها حَتَّى أتى النقيب والكواثل، فلقي جمعا كثيرا لم ير مثله فاقتتلوا قتالا شديدا حَتَّى قتل خالد عدة بيده، فأغار عَلَى ما حولها من القرى فأخذ أموالهم وما كان لهم وحاصرهم، فلما اشتد الحصار عليهم طلبوا الصلح عَلَى مثل ما صالح عليه أهل عانات. و قد كان مر ببلاد عانات فخرج إليه بطريقها فطلب الصلح فصالحه وأعطاه ما أراد... ثم مضى حَتَّى أتى بلاد قرقيسياء فأغار عَلَى ما حولها فأخذ الأموال وسبى النساء والصبيان وقتل الرجال وحاصر أهلها أياما، ثم إنهم بعثوا يطلبون الصلح فأجابهم إِلَى ذلك وأعطاهم مثل ما أعطى أهل عانات.
o أبو عبيد في الأموال: حدثنا سعيد بن أبي مريم حدثنا السري بن يحيى حدثنا حميد بن هلال أن رجلا من بني شيبان أتى رسول الله ص فقال: اكتب لي بابنة بقيلة عظيم الحيرة فقال: "يا فلان أترجو أن يفتحها الله لنا؟" فقال: والذي بعثك بالحق ليفتحنها الله لنا، قال: فكتب له بها في أديم أحمر فقال: فغزاهم خالد بن الوليد بعد وفاة رسول الله ص، وخرج معه ذلك الشيباني، قال: فصالح أهل الحيرة، ولم يقاتلوا...
• عهد عمر بن الخطاب:
o أحمد باسناد صححه الزين وأخرجه الترمذي وقال حسن صحيح، ولفظ إحدى الطريقين عند أحمد: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْفَيْضِ عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَ مُعَاوِيَةُ يَسِيرُ بِأَرْضِ الرُّومِ وَكَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ أَمَدٌ فَأَرَادَ أَنْ يَدْنُوَ مِنْهُمْ فَإِذَا انْقَضَى الْأَمَدُ غَزَاهُمْ، فَإِذَا شَيْخٌ عَلَى دَابَّةٍ يَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص قَالَ: "مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَحِلَّنَّ عُقْدَةً وَلَا يَشُدَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ". فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَرَجَعَ وَإِذَا الشَّيْخُ عَمْرُو بْنُ عَبَسَةَ.
o أبو عبيد في الأموال: وحدثني هشام بن عمار عن إسماعيل بن عياش أن حبيب بن مسلمة الفهري صالح أهل جرزان وبلاد أرمينية على أن عليهم إنزال الجيش من حلال طعام أهل الكتاب.
o أبو عبيد في الأموال: وحدثني هشام بن عمار عن الهيثم بن عمار العنسي قال: سمعت جدي عبد الله بن أبي عبد الله يقول: لما ولي عمر بن الخطاب زار أهل الشام فنزل الجابية وأرسل رجلا من جديلة إلى بيت المقدس فافتتحها صلحا ثم جاء عمر...
o أبو عبيد في الأموال: حدثنا كثير بن هشام قال: حدثنا جعفر بن برقان عن المعمر بن صالح عن العلاء بن أبي عائشة قال: كتب إلي عمر بن عبد العزيز: أن سل أهل الرها: هل عندهم صلح؟ قال: فسألتهم، فأتاني أسقفهم بدرج أو حق فيه كتاب صلحهم، فإذا في الكتاب: هذا كتاب من عياض بن غنم ومن معه من المسلمين لأهل الرها: أني أمنتهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم ومدينتهم وطواحينهم إذا أدوا الحق الذي عليهم، شهد الله وملائكته. قال: فأجازه لهم عمر بن عبد العزيز. قال أبو عبيد: وفي غير حديث كثير بن هشام: أن عياضا لما صالح أهل الرها دخل سائر أهل الجزيرة فيما دخل فيه أهل الرها من الصلح.
o قال أبو عبيد: حدثني أحمد بن الأزرق من أهل إرمينية قال: قرأت كتاب حبيب بن مسلمة، أو قرئ وأنا أنظر إليه في مصالحة أهل تفليس، فإذا فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من حبيب بن مسلمة لأهل طفليس...".
o خليفة في تاريخه: سنة أربع عشرة فيها فتحت دمشق... حدثنا عبد الله بن المغيرة عن أبيه قال: صالحهم أبو عبيدة على أنصاف كنائسهم ومنازلهم وعلى رؤوسهم... قال ابن إسحاق وغيره: وفيها يعنون سنة أربع عشرة فتحت حمص وبعلبك صلحا... سنة خمس عشرة: حدثني عبد الله بن المغيرة عن أبيه قال: افتتح شرحبيل بن حسنة الأردن كلها عنوة ما خلا طبرية فإن أهلها صالحوه، وذلك بأمر أبي عبيدة... سنة ست عشرة: حدثني الوليد بن هشام عن أبيه عن جده قال: سار المغيرة إلى الأهواز فصالحه البروان على ألفي ألف درهم وثمان مائة ألف وتسعين ألفا ثم غزاهم الأشعري بعد. وفي هذه السنة افتتحت حلب وأنطاكية ومنبج. فحدثني عبد الله بن المغيرة قال: حدثني أبي أن أبا عبيدة بعث عمرو بن العاصي بعد فراغه من اليرموك إلى قنسرين، فصالح أهل حلب ومنبج وأنطاكية... وحدثني حاتم بن مسلم... سنة سبع عشرة:... ثم رجع المسلمون إلى المدائن، وجاء أهل الطساسيج إلى سعد فصالحوه وأقرهم في بلادهم... سنة ثمان عشرة:... وحدثني حاتم بن مسلم: أن أبا موسى الأشعري افتتح الرها وسميساط صلحا... ويقال: وجه أبو عبيدة خالد بن الوليد إلى الجزيرة، فوافق أبا موسى قد افتتح الرها وسميساط، فوجه خالد أبا موسى وعياضا إلى حران فصالحا أهلها، ثم مضى خالد إلى نصيبين فافتتحها، ثم رجع إلى آمد فافتتحها صلحا... وفيها افتتح جندي سابور والسوس صلحا، صالحهم أبو موسى... سنة اثنتين وعشرين: قال أبو عبيدة: مضى حذيفة بن اليمان بعد نهاوند إلى مدينة نهاوند، فصالحه دينار على ثماني مائة ألف درهم في كل سنة... وفيها افتتح عمرو بن العاصي إطرابلس صلحا.
• عهد عثمان بن عفان:
o أبو عبيد في الأموال: حدثنا هشام بن عمار عن الوليد بن مسلم قال: حدثني صفوان بن عمرو وغيره أن معاوية غزا قبرس بنفسه ونفر من أصحاب رسول الله ص فيهم أبو ذر وأبو الدرداء وشداد بن أوس والمقداد بن الأسود، ومن التابعين كعب الأحبار وجبير بن نفير. قال: فقفل منها وقد فتح الله لهم فتحا عظيما وغنمهم غنائم كثيرة ثم لم يزل المسلمون يغزونهم حتى صالحهم معاوية في ولايته صلحا دائما على سبعة آلاف دينار وعلى النصيحة للمسلمين وإنذارهم مسير عدوهم من الروم إليهم. هذا أو نحوه.
o خليفة في تاريخه: سنة ست وعشرين فيها فتحت سابور، وأميرها عثمان بن أبي العاصي الثقفي. الوليد بن هشام عن أبيه عن جده: أن عثمان بن أبي العاصي صالحهم على ثلاثة آلاف ألف وثلاث مائة ألف وزن سبعة... سنة سبع وعشرين: فيها فتحت أرمان ودرأبجرد علي بن محمد عن مسلمة بن محارب عن داود بن أبي هند قال: صالح عثمان ابن أبي العاصي وأبو موسى الأشعري أهل إرمان سنة سبع وعشرين على ألفي ألف ومائتي ألف، وصالح أهل درأبجرد على ألفي ألف ومائتي ألف... وفيها عزل عثمان بن عفان عمرو بن العاصي عن مصر وولاها عبد الله بن سعد بن أبي سرح، فغزا ابن أبي سرح افريقية ومعه العبادلة: عبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن الزبير. فلقي جرجير، وجرجير في مائتي ألف بسبيطلة على سبعين ميلا من القيروان فقتل جرجير وسبوا وغنموا أهل القصور والمدائن فصالحوه على مائتي ألف رطل ذهبا... سنة ثمان وعشرين:... قال الوليد عن أبيه عن جده عن الحسن قال: غزا ابن عامر وعلى مقدمته عبد الله بن بديل الخزاعي، فأتى أصفهان وخلف على البصرة فصالحوه على أن يؤدوا إليه كما يؤدي أهل فارس... قال أبو خالد: قال أبو البراء: غزا سلمان البيلقان فصالحوه، ثم أتى برذعة فصالحوه واستولى عليها، وبعث صاحبه خيله إلى جرزان فصالحوه، ومضى سلمان إلى حيزان فصالحوه، ثم انتهى إلى مسقط فصالحه أهلها... قال أبو الحسن:... ثم سار ابن عامر يريد خراسان... وحاصر مدينة زرنج فصالحوه على ألف وصيف، مع كل وصيف جام من ذهب... وافتتح ابن عامر أبرسهر صلحا ويقال عنوة. وبعث ابن عامر أمين بن أحمر اليشكري فافتتح طوس وما حولها، وصالح من جاء من أهل سرخس على مائة ألف وخمسين ألفا... وبعث أهل مرو يطلبون الصلح فصالحهم ابن عامر على ألفي ألف ومائتي ألف... ثم سار الأحنف من مرو الروذ إلى بلخ وصالحوه على أربع مائة ألف....
وبهذا يثبت بشكل قاطع أن أمراء الجيوش كانوا ينوبون عن الإمام في المفاوضات وعقد الصلح، وأن هذا الفعل من الصحابة كان إجماعا قاطعا.
أما في الحال الثانية وهي الحال التي يكون المسلمون فيها متفرقين على غير جماعة ولا إمام كما هي حالهم اليوم حيث يحكمهم أمراء الفرقة الصبيان السفهاء الصغار، وحيث توجد منهم التنظيمات العسكرية منها والسياسية بنوعيها المخلص والعميل، فإنه لا يمثل المسلمين أحد، لا من الصبيان ولا من قادة التنظيمات. فالعملاء أمرهم أوضح من أن ننشغل به، إذ أنهم قطعا يفاوضون ويقاتلون لتنفيذ مخططات الكفر، وهذا العمل غير مقبول منهم، وهم آثمون في فعله لا شك في ذلك، ولا يخطر ببال مسلم أن يمثلوه في مفاوضات أو عهود أو اتفاقيات، إلا أن يكون ممن تبعهم على ذلك وكثر سوادهم فإنه منهم، إلا أن ينجيه جهله بواقعهم أو بالحكم الشرعي. وأما التنظيمات المخلصة التي لها قادة وأمراء فإنها لا يجوز لها أن تتكلم باسم المسلمين عامة، وأمراؤها إن يمثلون إلا من تبعهم. والدليل على ذلك أن الذي يمثل المسلمين هو الإمام أو من ينيبه الإمام، وحيث لا إمام فلا يوجد نائب، ولا يمكن أن يوجد النائب قبل من هو نائب عنه، وهذا بحث عقلي أي بحث في الواقع. وفوق هذا فإن رسول الله ص عيّن الولاة بعد أن أقام الدولة في المدينة لا قبل إقامتها. فالمخلصون يمثلون أنفسهم وأتباعهم فقط، وأقصى ما يقال فيهم أنهم أمراء متغلبون في بقعة من الأرض، أما أن يمثلوا المسلمين كافة فلا سبيل إلى ذلك.
وأمراء الفرقة الصبيان الذين لا يقتدون بهديه ص ولا يستنون بسنته فقد نهينا عن الدخول عليهم وأمرنا باعتزالهم. ففي حديث أبي سعيد الخدري الصحيح عند أحمد عن النبي ص قال: "فَمَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ"، وفي حديث جابر الصحيح عند أحمد أن رسول الله ص قال: "يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ أُعِيذُكَ بِاللَّهِ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ" قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "أُمَرَاءٌ سَيَكُونُونَ مِنْ بَعْدِي مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِحَدِيثِهِمْ وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلَيْسُوا مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُمْ وَلَمْ يَرِدُوا عَلَيَّ الْحَوْضَ..."، ففي هذين الحديثين نهينا عن الدخول عليهم. وفي حديث حذيفة المتفق عليه أمرنا باعتزالهم في قوله ص: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ"، قاله جوابا لحذيفة عندما سأله فإن لم تكن لهم جماعة ولا إمام. وأيضا فإن هؤلاء الأمراء لا يزعمون أنهم يمثلون المسلمين، فكل واحد منهم يمثل قطعة الأرض التي تسلط على أهلها بمساندة من الكفار الذين عينوه، ولذلك فإنهم يلجأون أحيانا إلى الجامعة العربية أو المؤتمر الإسلامي وأشباههما من الكيانات التي أنشأها الكفار لخدمة مصالحهم.
فإن قال مخلص أو عميل إن صلاح الدين الأيوبي قد وقع صلح الرملة مع الصليبيين ولم يكن إماما ولا نائبا عن الإمام. قيل إن صلاح الدين كان واليا من قبل الخليفة العباسي. روى أبو شامة في كتاب الروضتين قال: "وكتب الفاضل عن السلطان إلى الديوان ببغداد: ورد إلى الخادم التقليد الشريف بولاية آمد..."، وفي نفس المصدر روى أبو شامة نص كتاب من صلاح الدين للديوان العزيز ببغداد يستأذنه في فتح بيت المقدس وفيه: "وعلمنا أن البيت المقدس إن لم تتيسرّ الأسباب لفتحه، وأمر الكُفر إن لم يُجرد العزم في قلعه، وإلا نبتت عروقه، واتسعت على أهل الدين خُروقه؛ وكانت الحجة لله قائمة، وهمم القادرين بالقعود آثمة. وإنا لانتمكن بمصر منه مع بعد المسافة، وانقطاع العمارة، وكلال الدواب التي بها على الجهاد القوة، وإذا جاورناه كانت المصلحة بادية..."، فصلاح الدين كان واليا يتصرف نيابة عن الخليفة، فلا وجه للاحتجاج في فعله لأحد في هذه الأيام التي ليس فيها إمام ولا من ينوب عنه.
فإن قيل إن ولاة رسول الله ص وعماله ظلوا على رأس عملهم بعد موته، وكذلك ولاة وعمال خلفائه، كان أحدهم يستمر في عمله حتى يأتيه جديد من الخليفة الجديد، إما أن يقره على عمله أو يعزله. وقد تطول هذه الفترة أو تقصر حسب المكان الذي فيه الأمير أو الوالي أو العامل. وهذا يثبت أنهم كانوا يتصرفون في فترة ما دون أن يكونوا نوابا عن أحد. قيل في الجواب: صحيح إنهم كانوا يستمرون في أعمالهم، ولكن بأمر رسول الله ص أو أمر الخليفة الميت. وقد أجمع الصحابة على إنفاذ أوامره ص وأوامر خلفائه وهذا أمر مستفيض لا ينكر. فعندما فهم عتاب أنه انعزل بموته ص وترك عمله ردّه الصحابة إلى عمله واليا على مكة. وعندما ولي أبو بكر أنفذ بعث أسامة، وظل عثمان بن أبي العاص واليا على الطائف بعد وفاته ص خلافة أبي بكر وسنتين من خلافة عمر. قال الماوردي في الحاوي: "قَدْ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهُ ص عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ قَضَاءَ مَكَّةَ وَصَدَقَاتِ أَهْلِهَا. فَلَمَّا مَاتَ اخْتَبَأَ عَتَّابٌ وَامْتَنَعَ مِنَ الْقَضَاءِ فَأَظْهَرَهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَقَالَ: إِنْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ ص قَدْ مَاتَ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ بَاقُونَ، فَعَادَ عَتَّابٌ إِلَى نَظَرِهِ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فَصَارَ إِجْمَاعًا". وقال ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة عثمان بن أبي العاص: "استعمله رسول الله ص على الطائف فلم يزل عليها حياة رسول الله ص وخلافة أبي بكر س وسنتين من خلافة عمر س".
وعليه فإنه ليس لأحد أن يمثل المسلمين غير الخليفة أو من يكلفه الخليفة بذلك وإن فعل ذلك عميل فإنه لا يمثّل إلا نفسه، لأن تمثيله للناس غير حقيقي، فهو لا يمثل أتباعه المنتفعين من السير في ركابه، والذي يربطهم به فقط هو الهوى والمصلحة, فحتى أتباعه فإنهم غير ملزمين باتفاقياته. وأما إن فاوض مخلص أو عقد صلحا أو عاهد عهدا فإنه يمثل أتباعه فقط ولا يمثل المسلمين. والذي يوقع المخلصين في هذا المأزق هو تركهم لطريقة رسول الله ص في إقامته الخلافة، فإنه ص لم يُقم الدولة بالجهاد والقتال. وإنما فُرض الجهاد بعد إقامتها. أما ما يسمى بقتال الدفع إذا دهم العدو بلدا فلا حاجة لإذن أحد في دفعه، سواء كان في الأرض خليفة أم لا، وسواء أذن أو لم يأذن.

المسألة الخامسة عشرة

ما هو حكم القتال الذي لا نكاية فيه؟


قتال المسلمين لاعدائهم الذي لا نكاية فيه حرام وذلك باتفاق العلماء. قال القرافي في الذخيرة: "قال إمام الحرمين من الشافعية: إذا تيقن المسلمون أنهم لا يؤثرون شيئا البتة وأنهم يُقتلون من غير نكاية العدو ولا أثر أصلا وجبت الهزيمة من غير خلاف بين العلماء وهو متجه" انتهى كلام القرافي. وإذا وجبت الهزيمة فقد حرم القتال، والذي يحصل اليوم في بعض بلدان المسلمين أنهم يُقتلون دون أن ينكأوا العدو، يعني أن النكاية فيهم، ففي مثل هذا الوضع يحرم القتال دون إيجاب الهزيمة، فإن العدو يرضى أحيانا من المسلمين بالقعود، فإذا لم يقاتلهم ليخرجهم ورضي منهم بالقعود والعيش تحت سلطانه حرم عليهم القتال، وفي خروجهم وهجرتهم أحكام الهجرة المعروفة، لا بمعنى الانتقال إلى دار الإسلام لأنها غير موجودة، وإنما بمعنى الانتقال إلى مكان آمن كالحبشة، فقد سُميت هجرة وإن لم تكن دار إسلام.
وأما إذا كان المسلمون ينكأون العدو كما يحصل في بعض البلدان فالقتال واجب لدفع العدو، وهو فرض عين. والذي يهمنا هنا الإجابة على السؤال فقط، لا بيان أحكام القتال المختلفة. وهو حكم القتال الذي لا نكاية فيه للعدو بل النكاية للمسلمين.
ومن القائلين بهذا الرأي أي بوجوب الفرار:
• النووي في الروضة قال: "وقال الامام: إن كان في الثبات الهلاك المحض من غير نكاية، وجب الفرار قطعا، وإن كان فيه نكاية فوجهان. قلت: هذا الذي قاله الامام هو الحق، وأصح الوجهين، أنه لا يجب، لكن يستحب، والله أعلم". انتهى كلام النووي، فالإمام والنووي رأيهما أن الفرار واجب إذا لم تكن نكاية.
• العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: "المثال الأربعون: التولي يوم الزحف مفسدة كبيرة لكنه واجب إذا علم أنه يُقتل من غير نكاية في الكفار".
وهناك من لم يُصرّح بوجوب الفرار أو التولي منهم بل عبّر بألفاظ أخرى، منهم:
• محمد بن الحسن في السير الكبير: "إن رجلاً لو حمل على ألف رجل وهو وحده لم يكن بذلك بأس، إذا كان يطمع في نجاة أو نكاية، فإن كان لا يطمع في نجاة ولا نكاية، فإني أكره له ذلك، لأنه عرض نفسه للتلف من غير منفعة للمسلمين". وتعريض النفس للتلف من غير منفعة لا أظن أنه مجرد مكروه, وإنما كانوا يتورعون عن إطلاق لفظ الحرام حتى لا يقع أحدهم في الذم أو احتمال الذم. قال الرازي في المحصول: "المحظور: وكثيرا ما يقول الشافعي : أكره كذا وهو يريد به التحريم".
ويمكن الاستدلال لتحريم القتال وايجاب الهزيمة والتولي بما يلي:
• قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} (النساء:29)، والذي لا يولي إذا كان لا يطمع في نجاة أو نكاية، يعرض نفسه للقتل من غير منفعة للمسلمين يكون متسببا أو مُعينا على قتل نفسه من غير نكاية أو منفعة. فإن كانت هناك نكاية أو منفعة جاز، وذلك كفعل الأنصار السبعة الذين قُتلوا في أُحد وهم يدفعون عن رسول الله ص مع علمهم بأنهم سيقتلون. روى مسلم عن أنس بن مالك: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ص أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهِقُوهُ قَالَ: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟" فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، ثُمَّ رَهِقُوهُ أَيْضًا فَقَالَ: "مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟" فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص لِصَاحِبَيْهِ: "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا".
• قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (البقرة:195) على رأي من يقول أن معناها التقحم في القتال من غير نكاية. قال الماوردي في النكت والعيون: "أبو القاسم البلخي: التقحم في القتال من غير نكاية في العدو"، وذكر الزمخشري في الكشاف أن من معاني الآية: "أو عن الاستقتال والاخطار بالنفس".
• قاعدة "الممنوع إذا جاز وجب"، ومن المعلوم أن التولي يوم الزحف من غير عذر حرام، بل هو من الكبائر، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ | وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الانفال:15-16)، وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه أن رسول الله ص قال: "اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: "... وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ...".
وهذا التولي مدحه ص في حديث ابن عمر عند الشافعي في الأم قال: "عن ابن عمر قال: بعثنا رسول الله ص في سرية فلقوا العدو فحاص الناس حيصة، فأتينا المدينة وفتحنا بابها فقلنا يا رسول الله: نحن الفرارون. قال: "أنتم العكارون وأنا فئتكم""، ففرار الصحابة هنا يُحمل على أنهم فروا لما رأوا أنهم لا نكاية لهم بالعدو، بل ربما كانت النكاية فيهم، فمدحهم ص بقوله: "أنتم العكارون"، ولذلك قال الشافعي في الأم قبل ذكر هذا الحديث: "وإذا غزا القوم فذهبت دوابهم لم يكن لهم عذر بأن يولوا، وإن ذهب السلاح والدواب وكانوا يجدون شيئا يدفعون به من حجارة أو خشب أو غيرها فكذلك. وإن لم يجدوا من هذا شيئا فأحب إلى أن يولوا فإن فعلوا أحببت أن يجمعوا مع الفعل على أن يكونوا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة..."، فإذا وصل المسلمون إلى مثل هذا الوضع، أي أنهم لا نكاية لهم في العدو، لا يؤثرون فيه ولا نفع للمسلمين من الثبات وأن النكاية فيهم فقط وأنهم يُقتلون من غير نكاية صار التولي واجبا بناء على قاعدة "الممنوع إذا جاز وجب".
• قاعدة "الوسيلة إلى الحرام محرمة". والقتال الذي لا ينكأ العدو نوعان: نوع يقوم به مخلصون، بقيادة مخلصة، ولكنهم يعجزون عن النكاية في عدوهم، وينعكس الأمر عليهم فتكون النكاية فيهم، وهنا يجب التولي. ونوع لا ينكأ العدو بل ينكأ المسلمين وبالإضافة إلى ذلك يكون وسيلة لتنفيذ مخططات الكفار في هذه الأيام.


المسألة السادسة عشرة

هل كان راشد السلمي على المظالم في قومه زمن رسول الله ص؟


ورد في العقد الفريد ما يلي:
"حديث راشد بن عبد ربه السلمي: عبد الله بن الحكم الواسطي عن بعض أشياخ أهل الشام قال قال: استعمل رسول الله ص أبا سفيان بن حرب على نجران، فولاه الصلاة والحرب، ووجه راشد بن عبد ربه أميراً على القضاء والمظالم. فقال راشد بن عبد ربه:
صحا القلب عن سلمى وأقصر شأوه
وردت عليه ما نفته تماضر

وحكمه شيب القذال عن الصبا
وللشيب عن بعض الغواية زاجر

فأقصر جهلي اليوم وارتد باطلي
عن الجهل لما ابيض مني الغدائر

على أنه قد هاجه بعد صحوة
بمعرض ذي الآجام عيس بواكر

ولما دنت من جانب الغوط أخصبت
وحلت ولاقاها سليم وعامر

وخبرها الركبان أن ليس بينها
وبين قرى بصرى ونجران كافر

فألقت عصاها واستقرت بها النوى
كما قر عيناً بالإياب المسافر

"
هذه الرواية لم أجدها في غير العقد الفريد، وهي ضعيفة لجهالة بعض أشياخ أهل الشام. والذي وجدته في كتب الرجال والسّير أن رسول الله ص "عقد له على قومه". ويقال أن اسمه راشد بن عبد الله.
وروى الدارقطني في السنن عن عائشة قالت: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ ص أَبَا سُفْيَانَ عَلَى نَجْرَانَ الْيَمَنِ عَلَى صَلاَتِهَا وَحَرْبِهَا وَصَدَقَاتِهَا، وَبَعَثَ مَعَهُ رَاشِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ إِذَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ص قَالَ: "رَاشِدٌ خَيْرٌ مِنْ سُلَيْمٍ وَأَبُو سُفْيَانَ خَيْرٌ مِنْ عُرَيْنَةَ". قَالَ: وَكَانَ فِيمَا عَهِدَ إِلَى أَبِى سُفْيَانَ أَوْصَاهُ بِتَقْوَى اللَّهِ وَقَالَ "لاَ يُطَلِّقُ رَجُلٌ مَا لَمْ يَنْكِحْ وَلاَ يَعْتِقُ مَا لاَ يَمْلِكُ وَلاَ نَذْرَ فِى مَعْصِيَةِ اللَّهِ"). وهذا الحديث في إسناده معمر بن بكار، قال الحافظ عنه: "ليس بحافظ". ثم إن الحديث ليس فيه ذكر المظالم ولا القضاء.


المسألة السابعة عشرة

هل خرج الصحابة من دار الأرقم في صفين مع رسول الله ص في أحدها حمزة وفي الآخر عمر حتى دخلوا المسجد الحرام؟


الحديث المروي في هذه الحادثة ضعيف, قال الذهبي في سير أعلام النبلاء تحت عنوان سبب تسمية عمر بن الخطاب بالفاروق: "ويروى عن ابن عباس بإسناد ضعيف قال: سألت عمر ..." وهذا الخبر أخرجه محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه, قال الحافظ في الإصابة: " وأخرج محمد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه بسند فيه اسحق بن أبي فروة عن ابن عباس أنه سأل عمر عن إسلامه ...".
وأخرج هذا الخبر عن طريق محمد بن عثمان بن أبي شيبة المذكور كل من أبي نعيم في الدلائل وابن عساكر في تاريخ دمشق, وفي إسنادهما أيضا اسحق بن أبي فروة وفيه عندهما كليهما: "فأخرجناه في صفين حمزة في أحدهما وأنا في الآخر...".
ومما قالوه في اسحق بن أبي فروة كما ورد في تهذيب الكمال للحافظ المزي:
• ابن سعد: وكان إسحاق كثير الحديث، يروي أحاديث منكرة، ولا يحتجون بحديثه.
• الزهري: قاتلك الله يا ابن أبي فروة، ما أجراك على الله ؟ ألا تسند أحاديثك، تحدثنا بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة.
• محمد بن عاصم: حججت ومالك حي، فلم أر أهل المدينة يشكون أن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة متهم؟ قلت له: فيما ذا؟ قال: في الاسلام، وفي رواية: على الدين.
• وقال البخاري: تركوه.
• أحمد بن حنبل: لا تحل عندي الرواية عن إسحاق بن أبي فروة، وفي رواية: ما هو بأهل أن يحمل عنه ولا يروى عنه.
• يحيى بن معين: حديثه ليس بذاك,وفي موضع آخر: لا يكتب حديثه ليس بشئ, وفي رواية: ضعيف, وفي رواية: ليس بثقة, وفي رواية: كذّاب.
• ابن المديني: منكر الحديث.
• ابن عمار: ضعيف ذاهب.
• عمرو بن علي: متروك الحديث.
• أبو زرعة: متروك الحديث, وزاد ذاهب الحديث.
• أبو حاتم: متروك الحديث.
• النسائي: متروك الحديث,وقال في موضع آخر: ليس بثقة، ولا يكتب حديثه.
• ابن خزيمة: لا يحتج بحديثه.
• الدارقطني: متروك.
• البرقاني: متروك.
• ابن عدي: بين الأمر في الضعفاء.
• البزار: ضعيف.
• وذكره ابن الجارود والعقيلي والدولابي وأبو العرب والساجي وابن شاهين في الضعفاء وزاد الساجي ضعيف الحديث ليس بحجة.
• وقال أبو حاتم بن حبان في الضعفاء: يقلب الأسانيد ويرفع المراسيل.
فهذا الخبر مردود رواية ولا يحتج به.

المسألة الثامنة عشرة

هل عرض عبد الرحمن بن عوف الخلافة على علي قبل عثمان


روى الطبري في تاريخه قال:
وَأَمَّا الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ فَإِنَّ الرِّوَايَةَ عِنْدَنَا عَنْهُ مَا حَدَّثَنِي سَلْمُ بْنُ جُنَادَةَ أَبُو السَّائِبِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عبد العزيز ابن أَبِي ثَابِتِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أبيه عن المسور بن مخرمة... ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى عَلِيٍّ وَعُثْمَانَ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ سَأَلْتُ عَنْكُمَا وَعَنْ غَيْرِكُمَا فَلَمْ أَجِدِ النَّاسَ يَعْدِلُونَ بِكُمَا... ثُمَّ تَكَلَّمَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ سَأَلْتُكُمْ سِرًّا وَجَهْرًا عَنْ إِمَامِكُمْ فَلَمْ أَجِدْكُمْ تَعْدِلُونَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: إِمَّا عَلِيٌّ وَإِمَّا عُثْمَانُ، فَقُمْ إِلَيَّ يَا عَلِيُّ. فَقَامَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَوَقَفَ تَحْتَ الْمِنْبَرِ فَأَخَذَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بِيَدِهِ فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَايِعِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ لا، وَلَكِنْ عَلَى جَهْدِي مِنْ ذَلِكَ وَطَاقَتِي. قَالَ: فَأَرْسَلَ يَدَهُ ثُمَّ نَادَى: قُمْ إِلَيَّ يَا عُثْمَانُ. فَأَخَذَ بِيَدِهِ -وَهُوَ فِي مَوْقِفِ عَلِيٍّ الَّذِي كَانَ فِيهِ- فَقَالَ: هَلْ أَنْتَ مُبَايِعِي عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَفِعْلِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ؟ قَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَى سَقْفِ الْمَسْجِدِ وَيَدُهُ فِي يَدِ عُثْمَانَ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اسْمَعْ وَاشْهَدِ، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ مَا فِي رَقَبَتِي مِنْ ذَاكَ فِي رَقَبَةِ عُثْمَانَ قَالَ: وَازْدَحَمَ النَّاسُ يُبَايِعُونَ عُثْمَانَ حَتَّى غَشَوْهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَقَعَدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَقْعَدَ النَّبِيِّ ص مِنَ الْمِنْبَرِ وَأَقْعَدَ عُثْمَانَ عَلَى الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ فَجَعَلَ النَّاسُ يُبَايِعُونَهُ، وَتَلَكَّأَ عَلِيٌّ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً}. فَرَجَعَ عَلِيٌّ يَشُقُّ النَّاسَ حَتَّى بَايَعَ وَهُوَ يقول: خُدْعَةٌ وَأَيُّمَا خُدْعَةٌ! قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَإِنَّمَا سَبَبُ قَوْلِ عَلِيٍّ: خُدْعَةٌ، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ كانَ...
أقول:
هذه الرواية مردودة لما يلي:
أولا: أن في إسنادها عبد العزيز بن أبي ثابت ومما قالوه فيه:
يحيى بن معين: ليس بثقة إنما كان صاحب شعر.
البخاري: لا يكتب حديثه.
النسائي: متروك.
الذهبي في التلخيص: عبد العزيز بن أبي ثابت واه.
ثانيا: فيها اتهام لبعض الصحابة على لسان علي بأنهم مخادعون.
ثالثا: فيها اتهام لعلي بأنه تلكأ في البيعة حتى عد عبد الرحمن ذلك نكثا حتى قال له: فمن نكث فإنما ينكث على نفسه.
رابعا: أنها تخالف الرواية الصحيحة عند البخاري ولفظها: "حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنَّ المِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلَّاهُمْ عُمَرُ اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: لَسْتُ بِالَّذِي أُنَافِسُكُمْ عَلَى هَذَا الأَمْرِ وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ لَكُمْ مِنْكُمْ. فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَمْرَهُمْ فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلاَ يَطَأُ عَقِبَهُ وَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي أَصْبَحْنَا مِنْهَا فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ، قَالَ المِسْوَرُ: طَرَقَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ مِنَ اللَّيْلِ فَضَرَبَ البَابَ حَتَّى اسْتَيْقَظْتُ فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ نَوْمٍ، انْطَلِقْ فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا. فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا ثُمَّ دَعَانِي فَقَالَ: ادْعُ لِي عَلِيًّا. فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِيٍّ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِي عُثْمَانَ. فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا المُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ، فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ وَاجْتَمَعَ أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ المِنْبَرِ فَأَرْسَلَ إِلَى مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَجْنَادِ وَكَانُوا وَافَوْا تِلْكَ الحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا. فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ. فَبَايَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ المُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الأَجْنَادِ وَالمُسْلِمُونَ".
أقول:
الروايتان عن المسور الأولى ضعيفة وفيها: "فَلَمْ أَجِدْكُمْ تَعْدِلُونَ بِأَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: إِمَّا عَلِيٌّ وَإِمَّا عُثْمَانُ، فَقُمْ إِلَيَّ يَا عَلِيُّ" والثانية صحيحة وفيها: "فَلَمَّا اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَلِيُّ إِنِّي قَدْ نَظَرْتُ فِي أَمْرِ النَّاسِ فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ بِعُثْمَانَ فَلاَ تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلًا".

المسألة التاسعة عشرة

هل المسلمون اليوم في الملك الجبري


رسول الله ص لم يتحدث ولم يخبر عن ملك جبري مطلقا، وإنما أخبر عن خلافة ملك جبرية. والفرق بين العبارتين هائل وهو الفرق بين الكفر والإيمان. فالملك بمفهومه الحديث نظام كفر أي كملوك بريطانيا. أما خلافة الملك بنوعيها فهي نظام إسلامي ولكنه أدنى مرتبة من الخلافة التي على المنهاج، وقد أخبر ص عن خلافة الملك مرة بإجمال ومرة بتفصيل، فأجمل في حديث سفينة الصحيح عند أحمد قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ص يَقُولُ: "الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ عَامًا، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُلْكُ" قَالَ سَفِينَةُ: أَمْسِكْ خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ سَنَتَيْنِ وَخِلَافَةَ عُمَرَ عَشْرَ سِنِينَ وَخِلَافَةَ عُثْمَانَ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً وَخِلَافَةَ عَلِيٍّ سِتَّ سِنِينَ). ولفظه عند أبي داود بسند صحيح عن سفينة قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: "خِلَافَةُ النُّبُوَّةِ ثَلَاثُونَ سَنَةً...". وفصّل رسول الله ص في حديث حذيفة الصحيح عند أحمد قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ص: ("تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ نُبُوَّةٍ"، ثُمَّ سَكَتَ). والمراد بالتفصيل أنه ص فصّل نوعي خلافة الملك بأنهما خلافة ملك عاض وخلافة ملك جبرية، وينبغي التنبه إلى أن لفظ العاض مما يستوي فيه المذكر والمؤنث، فيقال خلافة عاض وملك عاض.
ومما يدل على أن الخبر عن خلافة لا عن ملك قوله ص: "جَبْرِيَّةً" ولم يقل جبريا. وأيضا فقد ورد في الخبر عنها خمسة ضمائر مؤنثة وهي في الألفاظ التالية: (تَكُونُ، فَتَكُونُ، تَكُونَ، يَرْفَعُهَا، يَرْفَعَهَا) فهذه خمسة ضمائر مؤنثة تثبت أن الحديث عن خلافة لا عن ملك. فالقول بأن الحديث عن ملك لا عن خلافة فهم غير صحيح للحديث ولا يحتمله النص، ولا تحل نسبته إلى الرسول ص. وخلافة الملك الجبرية هي الخلافة العثمانية لأن العثمانيين أخذوها جبرا عن أهلها وهم القرشيون عندما أخذها السلطان سليم جبرا من آخر خليفة عباسي وكان ذلك في مصر. وقد انتهت هذه الخلافة بانتهاء الخلافة العثمانية. والذي نحن فيه اليوم هو إمرة السفهاء الصبيان الصغار الطواغيت كما ورد في الأحاديث. وبعدها تكون الخلافة الثانية على المنهاج كما ورد في الرياض النضرة لمحب الدين الطبري قال: "وعن سهل بن أبي خيثمة قال: قال رسول الله ص: ألا وإن الخلفاء بعدي أربعة والخلافة بعدي ثلاثون سنة نبوة ورحمة ثم خلافة ثم ملك ثم جبرية وطواغيت ثم عدل وقسط، ألا إن خير هذه الأمة أولها وآخرها. أخرجه أبو الخير القزويني الحاكمي" انتهى كلام الطبري.
وورد عند أبي عمرو الداني في السنن الواردة في الفتن بإسناد حسن: حَدَّثَنَا ابْنُ عَفَّانَ قَالَ: حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ شِمْرِ بْنِ عَطِيَّةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "إِنَّهَا نُبُوَّةٌ وَرَحْمَةٌ ثُمَّ خِلَافَةٌ وَرَحْمَةٌ ثُمَّ مُلْكٌ عَضُوضٌ ثُمَّ جَبْرِيَّةٌ ثُمَّ طَوَاغِيتُ". ففي حديث أنس هذا الذي له حكم المرفوع يخبر أن الطواغيت يكونون بعد الجبرية وفي حديث حذيفة السابق عند أحمد يخبر أن الذي بعد الجبرية هي الخلافة الثانية على المنهاج. والجمع بينهما بينته رواية محب الدين الطبري عن سهل بن أبي خيثمة السابقة حيث قال ص: "ثم جبرية وطواغيت ثم عدل وقسط" والعدل والقسط هو الخلافة على المنهاج. وأيضا فإن حديث حذيفة يعدد أنواع الخلافة وأدوارها بأنها على المنهاج ثم عاض ثم جبرية ثم على المنهاج، فلا مجال لادخال الطواغيت خلال أدوار الخلافة والله أعلم.
رد مع اقتباس