عرض مشاركة واحدة
 
  #3  
قديم 02-10-2012
نائل أبو محمد نائل أبو محمد غير متواجد حالياً
عضو بناء
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 6,651
افتراضي رد: ما هو السر وراء حب المعرفة والقراءة والكتابة ..

الجمعة 18 ربيع الأول 1433


رجال في الشمس... رجال في "علبة سردين" بقلم: د.حسن عبد الله
نشر الخميـس 19/01/2012 الساعة 12:08

عندما كتب القاص والروائي الشهيد غسان كنفاني "رجال في الشمس" عبّر وبشكل مكثف عن جانب من تداعيات مأساة الفلسطينيين بعد النكبة. وأقول جانب لأن تداعيات وانعكاسات الاقتلاع كثيرة ولا حصر لها، لاسيما بعد ان هام اللاجئون على وجوههم في ساحات الشتات، يبحثون عن (طعام، مأوى، عمل...) يبحثون عن حياة تعيد اليهم الحياة. مع أن لملمة اشلاء الحياة خارج الوطن، عملية ليست سهلة، حيث مطلوب من اللاجئ ان يجترح معجزة حقيقية، لكي يصدق، انه اصبح محسوباً على الأحياء.
لقد اختنق الفلسطينيون الثلاثة (من شخصيات رواية رجال في الشمس) ، في صهريج كان في طريقه الى دولة عربية نفطية، قبل ان يتسنى لهم مغافلة الحراس والدخول بلا تأشيرات، لعلهم يقتاتون نفطاً، او يجمعون دنانير ودولارات تحميهم من العوز والتشرد، ولا يهم إنْ كانت برائحة الكاز او البنزين او برائحة الصحراء. المهم انها تجعل من اللاجئ، قادراً على التمتع بالمال حتى لو كان بعيداً عن الوطن. فالمال على رأي ابي الخيزران-هو وطن!!
وأبو الخيزران شخصية أخرى في رواية كنفاني وهو مهرب وانتهازي. شخصية لها أبعاد ومقومات غريبة عجيبة، لكن ما يهمنا هنا ان الفلسطينيين الثلاثة المختفين في الصهريج قد اختنقوا، أو احترقوا في لهيب الصحراء. قابلوا الموت بصمت المقهورين، لم يطرقوا جدران الخزان طلباً للنجاة، خشية ان ينفضح امرهم، الموت كان اسهل عليهم من العودة دون الوصول الى بلد نفطي.
التاريخ يعيد نفسه، المأساة هي المأساة، تتناسخ، تتكرر. المضمون هو ذاته، رغم اختلاف الاسماء والوجوه والجغرافيا. هذا ما اخبرنا به الاعلامي الدكتور ناصر اللحام في برنامجه "جولة في الصحافة العبرية"، عندما نقل صوراً عن احدى المحطات التلفزية الاسرائيلية لعمال فلسطينيين، تم تهريبهم في قبو، بل في علبة سردين داخل وسيلة نقل، متراصين، لا يستطيع الواحد منهم تحريك يده. والأنكى من ذلك انه تم تغطيتهم ليصبح سقفهم بمثابة ارضية وسيلة النقل المذكورة.
علبة السردين، أو القبو، ، أو القبر، أو حفرة الإذلال والقهر، التي لا ادري عندما شاهدها وشهدها القرن الواحد والعشرون بتقنياته الاستثنائية، هل خجل من قرنه او اسمه، ام صمت لأنه لا يتعامل بلغة القلوب والعواطف وحسابات البشر!!!
العمال الأحياء- الموتى، أو الموتى – الأحياء. العمال (البشر – السردين)، اعتقلوا بتهمة التسلل الى العمل، او التشبه بالسمك. فلا مجال لانسان فلسطيني مقموع ان يرتقي ليصبح سمكة، لأنه مقهور ، في حين ان السمكة تتمتع بالحرية، تتحرك، تسبح، تتلعبط في الماء، وهو يقبع في قعر حقير في وسيلة نقل بدائية، مصمماً على الوصول الى ورشة، يبيع فيها قوة عمله، مهرباً، مطارداً، منبوذاً، ميتاً يمشي على قدمين تتشبهان بالحياة.
واللحام في برنامجه، اعتاد ان يلتقط بعين الاعلامي المجرّب، كل مؤثر ومثير. لكنه وهو الاعلامي طليق اللسان، تلقائي التعبير، بدا "على الهواء" لا يصدق ما كان نقله بنفسه عن محطة تلفزية اسرائيلية، إذ ترنحت الكلمات في حنجرته .. ماذا يقول.. وكيف يصف المشهد؟! فقد قرأ "رجال في الشمس"، خلال فترة اعتقاله، ربما قرأها مرة او مرتين او ثلاث، كما كنا نفعل في فترات اعتقالنا، من باب استحضار صور مأساة تفوق مأساتنا المعاشة خلف القضبان لتسلية الذات أو تصبيرها. وربما لعن اللحام ابا الخيزران عشرات المرات، وربما لعن أيضاً علب السردين، وعلب الاسمنت، فهو في الاساس من مخيم الدهيشة الذي تتراص وتتزاحم فيه العلب الإسمنتية. ورغم ذلك أؤكد أنه لم يخطر في باله، ولم يقدهُ خيال خارق، ليكتشف ان "الرجال في الشمس"، قد يبعثون من جديد، ليصبحوا رجالاً في البرد، في الصقيع، رجالاً في قبر، حيث لا علاقة للقهر في تجربة الفلسطينيين، بفصل معين، بزمن معين. انه قهر معتق منقوع في العلقم. رجال في الشمس... رجال في الصقيع... رجال في القبر.. رجال في علبة سردين. رجال في قعر شاحنة لنقل المواشي.. رجال يخاطرون بالحياة، للوصول الى ورشة عمل تمتص دماءهم وتستنزف زمنهم. رجال يسلخ اعمارهم السنون، وتسلخ جلودهم المعاناة، فيشبحون في الصهاريج وعلب السردين والقبور كالشياه المذبوحة.
وأمام كل ذلك، هناك من يتحدث في بلادنا عن التنمية، والتأسيس لدولة مؤسسات، مع ان الاستثمار لا يتركز سوى في المقاهي والمطاعم والمتنزهات. اما المصانع والمؤسسات الانتاجية القادرة على المنافسة، والتي توفر الفرص للأيدي العاملة الفلسطينية، فإنها تأتي في اسفل اهتمامات برامج التنمية. بعد ان اصبحت المقاهي اكثرعدداً من المتاجر والمعامل والمرافق الانتاجية الأخرى.
"تنمية اللاتنمية"، جعلت العامل يساوي بين الموت في علبة سردين، وبين البقاء متعطلاً، منكسراً، يرقب اولاده وهم يتضورون جوعاً، فيفضل الموت المعلب، على الموت في الهواء الطلق. انها معادلة مختلفة للموت، لا وجود لها، الا هنا.
رد مع اقتباس