عرض مشاركة واحدة
 
  #12  
قديم 03-03-2012
نائل أبو محمد نائل أبو محمد غير متواجد حالياً
عضو بناء
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 6,651
افتراضي رد: التغيير حتمية الدولة الإسلامية, كتاب للكاتب محمود عبد الكريم حسن

(4)
طلـبُ النُّصْـرَة
قلنا في الحلقة السابقة إن الدولة الإسلامية هي كيان تنفيذي للإسلام. ولا يمكن تنفيذ شيء في الدنيا إلا بقوةٍ قادرةٍ على ذلك. فإلزام الناس بنظام أو قانون، وحماية دولة سواء من الداخل أو من الخارج يلزمه قوة قادرة على ذلك.
وإذا كانت الأفكار التي يراد إيجاد دولة على أساسها قد صار لها وجود وانتشار، وصار الناس يرون أن حَمَلَة الدعوة إلى إقامة الخلافة وتطبيق الإسلام هم أهل الحق، وأن أعداءهم هم أهل الباطل، فيجب إذاً إيجاد القوة التي تسند وتحمي تطبيق الإسلام. والتفكير الجاد والمخلص يجب أن يتركز على كيفية إيجاد هذا السند. وتشير الوقائع والمحاولات إلى طُرُقٍ نُجْمِلها بثلاث:
الأولى: أن يتم استمداد الدعم والقوة من جهة تملكهما ضمن صفقة يتم التنازل فيها عن بعض الأفكار أو الأحكام الشرعية، أو يتم فيها تحقيق مصالح لتلك الجهة تجعل تطبيق الإسلام مشروطاً أو منقوصاً، أو تجعل الدولة خاضعة لمن يقدم لها القوة والحماية، وذلك كأن يُعتمَد على الدعم من دولة أخرى لإسقاط النظام. ومثل هذا ـ إذا حصل ـ يجعل الدولة الجديدة مسـتندة إلى الكفار أو العملاء، وبالتالي فهي لن تطـبق الإسـلام إلا بمقدار ما يسمح به الكفار أو العملاء. وستطبق الكفر، وتنتهي وتزول عندما ينتهي دورها الذي يحدده لها من قدم لها القوة والحماية.
وهذه الطريقة خطأ وباطلة. إذ الهدف أن يصل الإسلام إلى الحكم، وليس رجال ظاهرهم إسلامي. والتنازل عن تطبيق الإسلام أو بعضه هو استبدال كفر بكفر. ووضع شروط على الدولة من أية جهة يعني أن لهذه الجهة سلطاناً عليها. وهذا حرام، قال تعالى: ولن يجعل الله للكافريـن على المؤمنيـن سـبيـلاً (سورة النسـاء 141) وقال: ولا تركنـوا إلى الذين ظلموا فتمَسَّـكم النار وما لكم من دون الله من أوليـاء ثم لا تنصـرون (سـورة هـود 113). وقال : «لا تستضيئـوا بنار المشركين» (رواه أحمد والنسائي).
وقد رفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم مثل هذه الصفقات كأن يجعلوه ملكاً ويسوِّدوه. أو أن يعبدوا إلهه سنة ويعبد آلهتهم سنة.
ونجد الذين استندوا إلى أنظمة الكفر في مواجهة الكفر آل أمرهم إلى هزائم أكبر. فالمجاهدون في أفغانستان ركنوا إلى دعم من أميركا بواسطة باكستان والسعودية، فحققوا لأميركا مصلحتها في طرد الروس وأخفقوا في ما نادوا به من دولة إسلامية، ووقعوا في شراك الشيطان وبراثنه.
والمنظمات الفلسطينية التي استمدت القوة والدعم من الأنظمة العميلة والكافرة، زعمت أنها تثور لأجل فلسطين وصدقتها غالبية أهل فلسطين، فإذا هم يتنازلون عن الأرض ويعترفون بسيادة دولة يهود عليها وبحقها في الوجود الآمن ويعملون شرطة عند اليهود.
وتلك الصفقة بين المسمى الشريف حسين بن علي مع الإنجليز مقابل إعلانه خليفة بدل الخليفة العثماني، فانخدع وأعلن الثورة على الخليفة وعلى جيوش المسلمين وساهم في إسقاط الخلافة، فحقق للإنجليز هدفهم ولم يحصل الخائن على شيء، بل رُفِعت أعلام بريطانيا وفرنسا فوق البلاد الإسلامية، ومُزِّقت دولة الخلافة، وخلَّفَ لنا الشياطينُ وأولياؤهم هذه الدويلات الهزيلة العميلة، وهؤلاء الحكام الأنذال الخونة.
لهذا، ولغيره، فإن هذه الطريقة في إيجاد القوة محرَّمة وباطلة وخطِرة، ويجب أن تدرك الأمة واقعها لتنصرف عنها. وهي طريق الشيطان فلا تتبع خطواته ولا تقع في أحابيله بل تحْذره وتحاربه، ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدوٌّ مبين (سورة البقرة 168).
الطريقة الثانية: هي أن يعمد حَمَلَة الدعوة أو تعمد الحركة إلى بناء قوةٍ مادية ذاتية ليواجهوا بها قوة الباطل ليهزموها ويقيموا دولة الإسلام. وهذه الطريقة وهمية وغير ممكنة، فالمال والسلاح والعسكر والإعلام والأدوات والأجهزة هي بأيدي دولة الباطل. وما يمكن بناؤه ذاتياً ضئيل جداً بالنسبة لما تملكه دولة الباطل، إضافة إلى ما يأتيها من مدد في مقابل حصار دعوة الحق، إذ الدول كلها عدوة للإسلام.
وهذه الأنظمة ليس ثمة ما يمنعها من قصف المدن والناس وإبادتهم إذا أحست بخطر الإسلام، ويتم هذا بتشجيع وتعتيم من كل الأنظمة القائمة.
ومثل هذا الصراع المادي العسكري يجعل حَمَلَة الدعوة بحاجة إلى مدد مالي وعسكري وفني دائم يحول دونه الضعفُ وأعباءُ الحياة. والحصول عليه يرهن من يقوم به لمن يقدم له العون، ويفتح طريق الشيطان لتسويغات لا وجود لها شرعاً. ويحرك العملاء المتظاهرين بالتدين ليقدّموا مثل هذا العون فتقع الدعوة في شراك الكفر. وهذا ما حصل في أفغانستان ومصر والجزائر وفلسطين ولبنان وسورية...
إن مثل هذه الطـريقة في بناء القـوة لتطـبيق الإسـلام وحمايته مبنيةٌ على حماسةٍ تفتقر إلى حسن النظر، أو على أوهامٍ وحساباتٍ موغلة في الخطأ، أو نصائح من المضللين الذين يهمهم تحويل الصراع إلى صراع قوى مادية، تتغلب فيه دولة الباطل، ويهمهم تحييد الصراع العَقَدي والفكري الذي تنكشف فيه أضاليل دولة الكفر وزعمائها وأكاذيبهم وخياناتهم.
لذلك كان من الخطأ والسذاجة أن يقع حَمَلَة الدعوة في فخ تحويل الصراع إلى صراع مادي أو عسكري، أو إدخال هذا العنصر فيه. ونحن نرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم طوال فترة الصراع في مكة، حيث كانت السلطة بيد زعماء الكفر، نراه حيّد الصراع المادي والتزم بالصراع الفكري والكفاح السياسي رغم تعذيب المشركين لأتباعه، ورغم تجمد المجتمع في وجه دعوته، ورغم ميل بعض الصحابة أحياناً إلى استعمال القوة. وعندما عُرض عليه هذا العمل عند بيعة العقبة قال: «لم نؤمر بذلك» (سيرة ابن هشام). وقد بيّن الله تعالى أن المسلمين كانوا ممنوعين من هذا العمل في مكة، قال تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة (سورة النساء 77).
ولا يقال هنا: إن أهل الإيمان يُعِدّون ما يستطيعون معتمدين على إيمانهم: كم من فئة قليلةٍ غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين (سورة البقرة 249)، ولا يحسب أي حساب للفرق في القوى المادية مهما كان شاسعاً. لا يقال ذلك لأن هذا ليس موضع هذا القول. فالرسول  رفض استعمال القوى المادية في مثل هذا الواقع، فيكون عمل الرسول  هو الحكم الشرعي لهذا الواقع. ولقد أكدت وقائع كثيرة أن مثل هذا العمل إما أن ينتهي إلى اليأس والخمود وإما أن يتسلم زمامه دخلاء مدسوسون ويستمرون به ليؤدي خدمات للكفار باسم الإسلام والدعوة. وتستغل الأنظمة القائمة هذا الأمر بشكل خبيث يبرئها ويشوه الحقائق وحَمَلَة الدعوة ويضلل المسلمين.
وعلى ذلك فإن هذه الطريقة في إيجاد القوة لإعلان الدولة الإسلامية خطأ وخطر، وهي تستهلك حَمَلَة الدعوة وتشوِّه الدعوة، وفيها منكرات، وتؤدي إلى اليأس.
الطريقة الثالثة: وهي تحويل القوى الموجودة في المجتمع أو بعضها لتصبح سنداً لدعوة الحق بدل أن تكون سنداً للباطل ونظامه. وذلك بأن يقوم أهل القوة والمنَعة في المكان الذي يتم التحضير والإعداد لإقامة الدولة فيه، أو بعضهم، بوضع قواهم وإمكانياتهم لتكون سنداً للحق ولتطبيق الإسلام. فكما أن الحقائق تؤثر في أفكار الناس ومفاهيمهم وولاءاتهم، والدعوة إلى الإسلام تخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتحولهم إلى مؤيدين ومناصرين لدعاة الحق، وإلى حَمَلَة دعوة، وإلى أعداء ومبغضين للأنظمة الحاكمة، كذلك الأمر نفسه حيث يتم تحويل هذه الفئة من الناس إلى حماة لتطبيق الإسلام. وهذا يحتاج إضافة إلى استمرار الدعوة إلى الإسلام بالصراع الفكري والكفاح السياسي، وسقي الأمة بمفاهيم الإسلام وأفكاره، يحتاج إلى أن توجَّه الدعوة إلى هذه الفئة توجيهاً مركزاً وفق برنامج خاص ليكونوا مستعدين لتقديم ولاء كامل لتطبيق الإسلام كاملاً بلا أي شرط. وهذا هو طلب النصرة. والقوة المطلوب أخذ ولائها لهذه الفكرة هي بالقدر اللازم والكافي لإعلان الدولة وبسط سلطانها ومنع الخروج عليها وحمايتها من الداخل والخارج.
وهذه القوى التي يراد تحويلها هي من قوى الأمة أصلاً، جرى تضليلها فكرياً حتى صارت ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، أو لا ترى. فبالدعوة والمثابرة، وبالحكمة، والصبر، وببيان الحقائق يتم تغيير الأفكار وتبديل الولاءات، وباستمرار المد الفكري الإسلامي في الأمة، وربط الأمة بعقيدتها وبدينها، وبدعوتها إلى اتباع طريقة النبي  في إقامة الدولة الإسلامية، يحصل الانقلاب في ولاء ذوي القوة والمنعة ويندفعون لإعطاء ولائهم ونصرتهم للإسلام وللحزب الذي يقوم على أساس عقيدة الإسلام ويهدف إلى إقامة الخلافة.
وهذه الطريقة، أي طلب النصرة، لا تعتمد على خوارق أو معجزات، ولا على وسائل أو أدوات غير متوفِّرة، ولذلك فهي حل واقعي أي عملي، وهي السبيل الفعال والموصـل إلى الغاية، ولا سبيل غيره.
وهذا الطريق لا يجعل إرادة الدولة الناشئة مرهونة لجهة تعطيها القوة والسند، ولا يجعل طالب النصرة مرهوناً لمن ينصره، ولا يجعل تطبيق الإسلام مشروطاً أو منقوصاً. وقد رأينا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رغم كل ما تحمّله مع صحبه من معاناةٍ وأذىً، ورغم تجمُّد المجتمع في وجه الدعوة، لم يتنازل عن شيء ولم يبدِّل وإنما لجأ إلى طلب النصرة، وظل يطلبها حتى حصل عليها من أهل المدينة المنورة. فهاجر صلى الله عليه وآله وسلم إليها، وكان وصوله إعلاناً للدولة الإسلامية.
وطلبُ النصرة هذا ليس مجرد عمل سياسي ناتج عن فهم دقيق للحقائق، وإنما هو حكم شرعي دلت عليه النصوص، فهو الطريقة الشرعية لإقامة الدولة الإسلامية. وهذا ما سنعرضه الآن ـ إن شاء الله ـ بشيء من التفصيل.
بعد أن أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة في مكة ثار المشركون على المسلمين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم، فهاجر بعض المسلمين إلى الحبشة فراراً بدينهم، وعُذِّبَ بلال وعمار وضرب أبو بكر حتى كاد يموت، وجاء عقبة بن أبي معيط إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي فخنقه بردائه لولا أن أبا بكر خلصه منه. (رواه البخاري 3678، فتح الباري 7/22).
وهكذا أُعلنت الحرب على النبي  ودعوته وصحبه. وتجمد مجتمع مكة في وجه الدعوة، ولم يعد يؤمن إلا من قد آمن.
ومما جاء في صعوبة هذه المرحلة أن سعيد بن جبير سأل عبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله ما يُعذَرون به في ترك دينهم ؟ فقال: «نعم والله إنْ كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شـدة الضر الذي نزل به...». (سيرة ابن هشام. الروض الآنف ج2).
وجاء في صحيح البخاري: «عن خَبّاب بن الأَرَتّ قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال: قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون».
وهكذا يتجمد المجتمع في وجه الدعوة، ويبلغ الأذى حداً لا يحتمل، ويمضي النبي  بدعوته، لا تبديل ولا تغيير ولا مهادنة ولا مساومة بتثبيت ورعاية من الله سبحانه وتعالى: ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئاً قليلاً  إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعـف الممات ثم لا تجـد لك علينا نصـيراً (سـورة الإسـراء 74ــ75)، يمضي مطبقاً شعاره «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته» (سيرة ابن هشام).
وينتفخ زعماء قريش بتجمد الاسـتجـابة للدعوة، ويعلن أبو جهل لقريش: «امضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بيننا وبينه» (سيرة ابن هشام، الروض الآنف ج2).
في هذا الحال أمر الله تعالى نبيه بطلب النصرة. جاء في فتح الباري (ج7/ ص220): أخرج الحاكم وأبو نعيم والبيهقي عن عليِّ بن أبي طالب  قال: «لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على القبائل خرج وأنا معه وأبو بكر إلى منى» وروى ابن كثير عن علي  قال: «لما أمر الله نبيه أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر حتى دفعنا إلى مجلس من مجالس العرب» والعرض على القبائل يعني أن يعرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم نفسه ودعوته على رؤساء القبائل ليقدموا الحماية والسند له ولدعوته. فطلب النصرة هذا ليس مجرد رأي أو أسلوب، وإنما هو حكم شرعي أمر الله به نبيه فهو العلاج الشرعي أو الطريقة الشرعية لتحقيق هدف شرعي.
رد مع اقتباس