عرض مشاركة واحدة
 
  #28  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة

الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة



وإذا كانت زكاة الخارج من الأرض من زرع وثمر ثابتة -في الجملة- بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول -كما قرر العلماء- فأي هذه الحاصلات الزراعية يجب فيها الزكاة المعلومة - العُشر أو نصفه؟ أتجب في كل ما يخرج من الأرض أم في بعضه؟ وما هذا البعض؟ وما وجه تخصيصه؟
اختلفت المذاهب في الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة :
1- مذهب ابن عمر وطائفة من السلف: "وجوب الزكاة في الأقوات الأربعة خاصة"
ذهب ابن عمر وبعض التابعين ومن بعدهم: أن لا زكاة في شيء من الحبوب غير الحنطة والشعير، ولا شيء في ثمار الفاكهة إلا في التمر والزبيب.
وهو رواية عن أحمد، وموسى بن طلحة، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وابن المبارك، وأبي عبيد (المحلي: 5/209 وما بعدها) ووافقهم إبراهيم وزاد: "الذرة" (المغني: 2/691).
واحتج أصحاب هذا القول:
(1) بما روى ابن ماجة والدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: "إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب" وزاد ابن ماجه: "الذرة" (قال الشوكاني: في إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي وهو متروك - نيل الأوطار:4/143).
(2) وبما روى عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن - يُعلِّمان الناس أمر دينهم - فأمرهما ألا يأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب (قال الحافظ: رواه الطبراني والحاكم (بلوغ المرام ص122)، وقال في التلخيص (ص179): قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل، وقال في الدراية ص174: في الإسناد يحيى بن طلحة، مختلف فيه، وهو أمثل ما في الباب- قال في المرعاة 3/39: وفيه أيضًا: أنه اختلف في رفعه ووقفه، وانظر: الخراج ليحيى بن آدم ص2153، والسنن الكبرى: 4/152، ونصب الراية: 2/319، والمحلي: 5/221) ولأن غير هذه الأربعة لا نص فيه ولا إجماع ولا هو في معناها في غلبة الاقتيات بها، وكثرة نفعها ووجودها، فلم يصح قياسه عليها ولا إلحاقه بها، فيبقى على الأصل.

2- مذهب مالك والشافعي "الزكاة في كل ما يقتات ويدخر"
وذهب مالك والشافعي إلى أن الزكاة تجب في كل ما يقتات ويدخر، وييبس من الحبوب والثمار، مثل الحنطة والشعير والذرة والأرز وما أشبه ذلك، والمراد بالمقتات: ما يتخذه الناس قوتًا يعيشون به في حال الاختيار، لا في الضرورة، فلا زكاة عند المالكية والشافعية في الجوز واللوز والبندق والفستق وما كان مثلها وإن كان ذلك مما يدخر، لأنه ليس مما يقتات الناس به، وكذلك لا زكاة في التفاح والرمان ولا في الكمثرى والخوخ والبرقوق ونحها لأنها مما ييبس ولا يدخر.
واختلف المالكية في التين، فذهب جماعة منهم إلى أن لا زكاة في التين، وذلك أن مالكًا قال في الموطأ: "السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم: أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك (الفرسك - بكسر الفاء والسين: الخوخ، أو ضرب منه أحمر) والتين، وما أشبه ذلك وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه" (الموطأ: 1/276- باب "ما لا زكاة فيه من الفواكه والقضب والبقول").
قال أبو عمر ابن عبد البر: "فأدخل التين في هذا الباب، وأظنه -والله أعلم- لم يعلم بأنه ييبس ويُدخر ويُقتات، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب، لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان، وقد بلغني عن الأبهرى وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يفتون بالزكاة فيه، يرونه مذهب مالك على أصوله عندهم" (نقل هذه الأقوال القرطبي في تفسيره: 7/103).
وذكر الخرشي في شرحه على متن "خليل": أن الزكاة تجب في عشرين نوعًا: القطاني السبعة: الحمص والفول واللوبيا والعدس والترمس والجلبان والبسيلة، وأيضًا القمح والشعير والسلت والعدس والأرز والذرة والدخن والزبيب والتمر؛ وأيضًا الأربعة ذوات الزيوت وهي: الزيتون والجلجلان -أي السمسم- وحب الفجل (أي الأحمر) والقرطم، فلا تجب في التين -على المعتمد- ولا في قصب ولا فاكهة ولا في حب الفجل (أي الأبيض) والعصفر والكتان، ولا في التوابل ونحو ذلك (شرح الخرشي على خليل مع حاشية العدوي: 2/168).
قال القرطبي: "وقال الشافعي: لا زكاة في شيء من الثمار غير التمر والعنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما، وكانا قوتًا بالحجاز يدخر.
قال: وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما؛ لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتًا فيما علمت، وإنما كانا فاكهة.
قال الشافعي: ولا زكاة في الزيتون لقوله تعالى: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) (الأنعام:141) فقرنه مع الرمان ولا زكاة فيه.
هذا قول الشافعي بمصر، وله قول بالعراق: أن فيه الزكاة" (انظر تفسير القرطبي:7/103).
ولم يختلف قول مالك في الزيتون -يعني أن فيه الزكاة- فقد ذكر في الموطأ أنه سأل ابن شهاب عن الزيتون، قال القرطبي: فقال: فيه العُشر (الموطأ:1/272: وقال مالك: إنما يؤخذ من الزيتون العُشر بعد أن يُعصر، ويبلغ زيته خمسة أوسق - المرجع نفسه).
ويدل هذا على: أن الآية عندهما محكمة غير منسوخة، واتفقا جميعًا على أن لا زكاة في الرمان، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه (تفسير القرطبي:7/103).
واستدل صاحب المهذب وشارحه لمذهب الشافعي بأمرين:
الأول: حديث معاذ بن جبل، وفيه: "فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضر فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" (رواه البيهقي في السنن الكبرى)، وروى جملة أحاديث ثم قال: هذه الأحاديث كلها مراسيل، إلا أنها من طرق مختلفة، فيؤكد بعضها بعضًا، ومعها قول الصحابة رضي الله عنهم، ثم روي عن عليّ وعمر وعائشة رضي الله عنهم.
الثاني: أن الأقوات تعظم منفعتها فهي كالأنعام في الماشية (المهذب مع المجموع:5/493).
وكلا الدليلين لا يكفي لمقاومة عموم القرآن والسنة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض وما سقت السماء، وبحث بعض المالكية في ثمن ما يباع من غلة البساتين التي تتخذ للغلة مما لا زكاة فيه عندهم كالتفاح ونحوه، فأشار إلى خلاف فيه هل يستقبل صاحبه بالثمن حولاً أم يعامله كعروض المحتكر، فيزكي كل ما يبيعه منها في الحال؟ لم يفصل القول في ذلك في شرح الرسالة، وأحاله على المطولات (شرح الرسالة لزروق:1/329).

3- مذهب أحمد: "في كل ما ييبس ويبقى ويكال"
ونقل عن أحمد عدة أقوال: أظهرها وأشهرها ما ذكره في المغني (الجزء الثاني: ص690-692) أن الزكاة تجب فيما جمع هذه الأوصاف: الكيل والبقاء واليبس - من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون إذا نبت في أرضه: سواء أكان قوتًا كالحنطة والشعير والسلت والأرز والذرة والدخن، أو من القطنيات كالباقلاء (الفول) والعدس، والماش، والحمص، أو من الأبازير: كالأكسفرة والكمون والكراويا، أو البذور: كبذر الكتان والقثاء والخيار، أو من حب البقول كالرشاد وحب الفجل والقرطم، والترمس والسمسم وسائر الحبوب، وتجب أيضًا فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار: كالتمر والزبيب والمشمش -أي المجفف- واللوز والفستق والبندق.
ولا زكاة في سائر الفواكه: كالخوخ والكمثرى والتفاح والمشمش.
ولا في الخضر: كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر، وبهذا قال عطاء في الحبوب كلها، ونحوه قول أبي يوسف ومحمد" اهـ.
فلم يشترط أحمد الإنبات كما اشترطه المذهب السابق.
والدليل على هذا القول: أن عموم قوله صلى الله عليه وسلم : "فيما سقت السماء العُشر"، وقوله لمعاذ: "خذ الحب من الحب"(جزء من حديث رواه أبو داود وابن ماجه كما في المنتقى، وقال الشوكاني: صححه الحاكم على شرطهما، وفي إسناده عطاء عن معاذ، ولم يسمع منه -نيل الأوطار: 4/152) يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناوله اللفظ، خرج منه ما لا يكال وما ليس بحب، بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : "وليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق"(انظر: نصب الراية: 2/384 الحديث 38) (رواه مسلم والنسائي)، فدل هذا الحديث: على انتفاء الزكاة مما لا توسيق فيه، أي لا كيل، وأما فيما هو مكيل فيبقى على العموم (المغني:2/692).

4- مذهب أبي حنيفة: "في كل ما أخرجت الأرض الزكاة"
وذهب أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة -العُشر أو نصفه- في كل ما أخرج الله من الأرض، مما يُقصد بزراعته نماء الأرض، وتُستغل به عادة، ولهذا استثنى الحطب والحشيش والقصب الفارسي؛ لأنها مما لا يستنبته الناس في العادة في الأرض، بل تنفي عنها، حتى لو اتخذ أرضه مقصبة أو مشجرة أو منبتًا للحشيش يجب فيها العُشر (الهداية - مع الفتح -: 2/2-5، وذكر في الفتح ص2: أنه لا شيء في الأدوية، ولا فيما يخرج من الأشجار كالصمغ والقطران، ولكن ينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يصبح ثروة تطلب وتقصد، فقد تزرع بعض النباتات للأدوية، وقد تستغل بعض الأشجار للصمغ، فيجب أن تدخل حينئذ في العموم).
فلم يشترط أن يكون الخارج من الأقوات، ولا أن يكون مما ييبس ويدخر ولا أن يكون مما يكال، ولا أن يكون مأكولاً.
ولذلك قال داود الظاهري وأصحابه -ما عدا ابن حزم- إن في كل ما أنبتت الأرض: الزكاة، ولا يستثنون شيئًا، وهو قول النخعي -في إحدى الروايتين- وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وحماد بن أبي سليمان (المحلي: 5/212،213).
وخالف أبا حنيفة صاحباه -أبو يوسف ومحمد- فيما ليس له ثمرة باقية (وهو ما يبقى سنة بلا علاج غالبًا، والعلاج: الحاجة إلى التقليب أو التعليق ..انتهى ملخصًا من فتح القدير: 2/2) وهي الخضراوات كالبقول والرطاب والخيار والقثاء ونحوها.
وعلى مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: يجب إخراج الزكاة من قصب السكر والزعفران والقطن والكتان وما شابهها، وإن لم تكن مما يقتات أو يؤكل.
وعلى قول أبي حنيفة يجب إخراج العُشر من الفواكه جميعها: كالتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والتين والمانجو وغيرها، سواء أكانت تجفف وتيبس أم لا؛ ويجب إخراج العُشر عنده من الخضراوات جميعًا كالخيار والقثاء والبطيخ والباذنجان والجزر واللفت والفجل وغيرها.
وحجة أبي حنيفة فيما ذهب إليه:
أولاً: عموم قوله تعالى في سورة البقرة: (ومما أخرجنا لكم من الأرض)(البقرة:267) ولم يُفرِّق بين مخرج ومخرج (قال الفخر الرازي في تفسير الآية (7/65): ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض على ما هو قول أبي حنيفة -رحمه الله- واستدلاله بهذه الآية ظاهر جدًا، إلا أن مخالفيه خصصوا عموم هذه الآية بقوله صلى الله عليه وسلم : "ليس في الخضراوات صدقة" أ هـ.
أقول: ولكن الحديث -كما سيأتي- ليس من الصحة بحيث يخصص عموم الآية، فبقي استدلال أبي حنيفة ظاهرًا جدًّا كما قال).
ثانيًا: قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده)(الأنعام:141) وذلك بعد ذكر أنواع المأكولات -من الجنات- معروشات وغير معروشات - والنخل والزرع، والزيتون والرمان، وأحق ما يحمل الحق عليه الخضراوات؛ لأنها هي التي يتيسر إيتاء الحق منها يوم القطع، وأما الحبوب فيتأخر الإيتاء فيها إلى يوم التنقية (بدائع الصنائع:2/59).
ثالثًا: قوله صلى الله عليه وسلم : "وفيما سقت السماء العُشر، وفيما سُقِى بالنضح نصف العشر" من غير فصل بين ما يبقى وما لا يبقى، وما يؤكل وما لا يؤكل، وما يُقتات وما لا يُقتات.

تعقيب وترجيح
وأولى هذه المذاهب بالترجيح هو مذهب أبي حنيفة الذي هو قول عمر بن عبد العزيز ومجاهد وحماد وداود والنخعي: أن في كل ما أخرجت الأرض الزكاة (لا أكاد أجد فرقًا في الواقع بين قول أبي حنيفة وقول من ذكرنا؛ لأن استثناء أبي حنيفة للحطب والقصب والحشيش لا يخرجه عن القول بعموم الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، لأن المقصود بما يخرج منها ما يزرع ويستنبت فيها، وإن كان ثمة فرق فليس له أثر يذكر) فهو الذي يعضده عموم النصوص من القرآن والسنة، وهو الموافق لحكمة تشريع الزكاة، فليس من الحكمة - فيما يبدو لنا - أن يفرض الشارع الزكاة على زارع الشعير والقمح، ويعفى صاحب البساتين من البرتقال أو "المانجو" أو التفاح، أما أحاديث حصر الصدقة في الأقوات الأربعة، فلم يسلم فيها حديث من طعن (انظر: المراعاة على المشكاة:3/39) إما بالانقطاع أو ضعف بعض الرواة -أو وقف ما ادعى رفعه- وعلى فرض التسليم بصحتها فقد تأولها ابن الملك وغيره من العلماء بأنه لم يكن ثمة غير الأربعة (انظر: المرقاة:4/153) أو يُحمل الحصر على أنه إضافي لا حقيقي، ولهذا لم يأخذ به أحد من أصحاب المذاهب المتبوعة.
والعجيب أن العلاَّمة السيد رشيد رضا أيد هذا المذهب المضيق! وأضاف إلى الأربعة: "الذرة"، كما في بعض الروايات، وقال: إن صح أن يقاس عليها شيء فالأرز، ولا سيما عند من هو قوتهم الغالب، قاله تعليقًا على كتاب المغني (انظر: المغني المطبوع مع الشرح الكبير:2/551) هذا مع أن الاعتبار الذي استند إليه في إيجاب الزكاة في الثروة التجارية، ونقلناه عنه هناك، وارد هنا أيضًا في الثروة الزراعية، وربما كانت نعمة الله في إخراج الزرع والثمر من الأرض: أظهر منها في أي مال آخر، ولهذا جاء الأمر بإيتاء حق الزرع يوم الحصاد منذ العهد المكي، وإن لم يبين مقدار هذا الحق ونصابه إلا في المدينة.
ولعل عذر السيد أنه عرض للموضوع بسرعة في تعليق خفيف عاجل بمناسبة طبع الكتاب، ولم يكن قصده تحقيق المسألة، ومهما يكن السبب فكل عالم يؤخذ منه ويُترك.
وقد أيَّد "ابن العربي" الفقيه المالكي: مذهب أبي حنيفة في "أحكام القرآن" .(أحكام القرآن - القسم الثاني: ص755-764 طـ دار المعرفة بيروت).
وفي شرح الترمذي قال: "وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلاً، وأحوطها للمساكين، وأولاها قيامًا بشكر النعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث" .(شرح الترمذي:3/135).
وفي تفسير آية: (وآتوا حقه يوم حصاده)(الأنعام:141) أطال القول في تأييد مذهب أبي حنيفة والرد على المذاهب الأخرى.
قال: أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق، فأوجبها في المأكول قوتًا كان أو غيره، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عموم قوله: "وفيما سقت السماء العُشر".
فأما قول أحمد: إنه فيما يوسق، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق" ..الحديث، فضعيف، لأن الذي يقتضيه طاهر الحديث أن يكون النصاب معتبرًا في الثمر والحب، فأما سقوط الحق عما عداها فليس في قوة الكلام، وأما المتعلق بالقوت (يعني الشافعية) فدعوى ومعنى ليس له أصل يرجع إليه، وإنما تكون المعاني موجهة لأحكامها بأصولها على ما بيناه في كتاب "القياس".
"فكيف يذكر الله سبحانه النعمة في القوت والفاكهة، وأوجب الحق فيها كلها، فيما تنوع حاله كالكرم والنخيل، وفيما تنوع جنسه كالزرع، وفيما ينضاف إلى القوت من الاستسراج الذي به تمام النعمة في المتاع بلذة البصر، إلى استيفاء النعم في الظلم"؟
فإن قيل: إنما تجب الزكاة في المقتات الذي يدوم، فأما في الخضر فلا بقاء لها، ولذلك لم تؤخذ الزكاة في الأقوات من أخضرها، وإنما أخذت من يابسها.
قلنا: إنما تؤخذ الزكاة من كل نوع عند انتهائه، واليبس انتهاء اليابس، والطيب انتهاء الأخضر، ولذلك إذا كان الرطب لا يتمر، والعنب لا يتزبب، تؤخذ الزكاة منهما على حالهما،ولو لم تكن الفاكهة الخضرية أصلاً في اللذة، وركنًا في النعمة ما وقع الامتنان بها في الجنة، ألا تراه وصف جمالها ولذتها فقال: (فيهما فاكهة ونخلٌ ورُمَّانٌ).(الرحمن:68) فذكر النخل أصلاً في المقتات، والرمان أصلاً في الخضراوات، أو لا ينظرون إلى وجه امتنانه على العموم لكم ولأنعامكم بقوله: (أنَّا صببنا الماء صبًا، ثُمَّ شققنا الأرض شقًا، فأنبتنا فيها حبًا، وعنبًا وقضبًا، وزيتونًا ونخلاً، وحدائق غلبًا، وفاكهة وأبًا)(عبس:25-31).
ثم قال ابن العربي:
فإن قيل: فلم لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر؟
قلنا: كذلك عول علماؤنا، وتحقيقه: أنه عدم دليل لا وجود دليل.
فإن قيل: لو أخذها لنقل.
قلنا: وأي حاجة إلى نقله والقرآن يكفي عنه" أ هـ.
وأما الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس في الخضراوات صدقة" فضعيف الإسناد لا يُحتج بمثله .(انظر تعليق الحافظ في التلخيص ص179، وفتح القدير لابن الهمام: 2/3- طبع مصطفى محمد، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/68-69 عن طلحة مرفوعًا، وقال: "زاده الطبراني في الأوسط والبتراء، وفيه الحارث بن نبهان، وهو متروك، وقد وثقه ابن عدي") فضلاً عن أن يُخصص به عموم القرآن والأحاديث المشهورة.
وقد رواه الترمذي ثم قال: إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، فلا يصح في هذا الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .(كتاب الزكاة - باب "ما جاء في زكاة الخضراوات"، وصحيح الترمذي بشرح ابن العربي ص132،133).
على أن للحديث محملاً عند فقهاء الحنفية -على فرض صحته- ومعناه: أنه ليس فيها صدقة تؤخذ بواسطة العمال والجباة، بل أربابها هم الذين يؤدونها بأنفسهم .(بدائع الصنائع: 2/59) وذلك لأن الخضراوات لا بقاء لها، فيسرع إليها التلف قبل أن تصل إلى المستحقين.
ومن هنا ذهب بعض الفقهاء إلى أخذ الزكاة من أثمان الخضراوات لا من عينها، روى ذلك يحيى بن آدم في "خراجه" عن الزهري قال:.
"ما كان سوى القمح والشعير والنخل والعنب والسلت (السلت: نوع من الشعير لا قشر له يتزودون به في الصيف) والزيتون، فإني أرى أن تخرج صدقته من أثمانه" .(الخراج اليحيى بن آدم ص145- طبع السلفية).
وروى أبو عبيد هذا القول عن ميمون بن مهران -مع الزهري- ثم قال: وأظن الأوزاعي ثالثهما .(الأموالص504) إلا أن الزهري جعل صدقتها صدقة النقدين، وكذلك ميمون بن مهران قال: ليس لها زكاة حتى تباع، فإذا بيعت فبلغت مائتي درهم فإن فيها خمسة دراهم .(الأموال ص 504).
وكذلك إذا كانت الثمار رطبًا لا يكون منه تمر، أو كانت عنبًا لا يكون منه زبيب، فإنه يحكى عن مالك -فيما ذكر أبو عبيد- أنه قال: "إذا بلغ خرصه (تقديره بالتقريب) خمسة أوسق كان في ثمنه إذا بيع، في كل مائتي درهم خمسة دراهم، وكذلك الزيتون الذي لا يكون منه الزيت صدقته على هذا، غير أنه لا يخرص إنما هو إلى ما يرفعه أهله .(المصدر السابق ص496).
وقد أحسن هؤلاء الأئمة إذ أوجبوا الزكاة في أثمان الخضراوات والفواكه التي لا يمكن أن تؤخذ وتحفظ في بيت المال، بل يسرع إليها التلف والفساد، ولكني أخالفهم في مقدار الواجب هنا، فلا يصح أن يكون ربع العشر، كما في زكاة النقدين، بل الواجب أن يكون العشر أو نصفه، لأنه بدل عن الخارج من الأرض، فيأخذ حكمه، ويقدر بقدره، فإن للبدل حكم المبدل.
وهذا ما يفهم من الروايات التي أطلقت أن فيها الزكاة بلا تحديد، وقد جاء عن الشعبي فيمن باع كرمه عنبًا، قال: يخرج من ثمنه العُشر أو نصف العُشر .(الخراج ليحيى بن آدم ص152).
وقال ابن أبي زيد في "الرسالة": ويُزكي الزيتون، إذا بلغ حبه خمسة أوسق أخرج من زيته، فإذا باع ذلك أجزأه أن يخرج من ثمنه إن شاء الله.
وقال ابن ناجي في شرحه: وهذا القول مروي عن مالك، قال: يخرج عُشر الثمن، قال: والمشهور من المذهب: أن الزيتون الذي له زيت إنما يخرج عنه الزيت فقط وما لا زيت له يخرج من ثمنه" اهـ .(انظر الرسالة وشرحها لابن ناجي:1/320-321).
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس