عرض مشاركة واحدة
 
  #3  
قديم 02-28-2011
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي مقدمة الطبعة الأولى

مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد .
فإن الزكاة هي الركن المالي الاجتماعي من أركان الإسلام الخمسة، وبها -مع التوحيد وإقامة الصلاة- يدخل المرء في جماعة المسلمين، ويستحق أخوتهم والانتماء إليهم، كما قال تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (التوبة: 11).
وهى -وإن كانت تذكر في باب العبادات باعتبارها شقيقة للصلاة- تعد في الحقيقة جزءًا من نظام الإسلام المالي والاجتماعي، ومن هنا ذكرت في كتب السياسية الشرعية والمالية.فلا عجب أن عُنِيَ علماء الإسلام ببيان أحكامها وأسرارها، كل في دائرة اختصاصه.
فالمفسرون
يتعرضون لها في تفسير الآيات التي تتعلق بشأنها، مثل الآية رقم (267) وما بعدها من سورة البقرة، والآية رقم (141) من سورة الأنعام، والآيات (34، 60، 103) من سورة التوبة وغيرها من الآيات في سور شتى. وقد أوسع القول في هذه الآيات المفسرون الذين يعنون بأحكام القرآن، كأبي بكر الرازي المعروف بالجصاص، وأبى بكر بن العربي، وأبى عبد الله القرطبي.
والمحدثون وشراح الحديث
يتعرضون لها عند ذكر الأحاديث الخاصة بها، وفى كل كتاب من كتب السنة المصنفة على أبواب الفقه - كموطأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم، وجامع الترمذي، وسنن النسائي وأبى داود وابن ماجة - كتاب خاص بالزكاة، وما جاء فيها من السنن القولية والعملية، وفى صحيح البخاري وحده، اشتمل كتاب "الزكاة" من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث واثنين وسبعين حديثًا، وافقه مسلم علىتخريجها سوى سبعة عشر حديثًا، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين عشرون أثرًا (انظر: خاتمة كتاب الزكاة من فتح البارى: 4/120 - ط . الحلبي بمصر).
والفقهاء
يعرضون للزكاة في كتب الفقه باعتبارها العبادة الثانية في الإسلام، ولهذا تذكر في أبواب العبادات عقب الصلاة استنانًا بالقرآن والسنة.
وعلماء الفقه المالي والإداري في الإسلام
يعرضون لها باعتبارها جزءًا من النظام الإسلامي المالي والاجتماعى، ولهذا نجدها في كتاب الخراج لأبى يوسف، والخراج ليحيى بن آدم، والأموال لأبى عبيد، والأحكام السلطانية لكل من الماوردي الشافعي، وأبى يعلى الحنبلي، والسياسة الشرعية لابن تيمية. وإذن فالمادة التي يحتاج إليها الباحث في الزكاة غزيرة، ومصادرها موفورة، فما وجه الحاجة إذن إلى بحث جديد في الزكاة؟. وبعبارة أخرى: هل كانت المكتبة الإسلامية الحديثة في حاجة إلى بحث كبير كهذا البحث، يبين أحكام الزكاة وأهدافها وآثارها في حياة الفرد والمجتمع، ومكانها من الأنظمة المالية والاجتماعية المعاصرة؟. ونستطيع أن نجيب مطمئنين بالإيجاب، بل نؤكد أن الحاجة لمثل هذا البحث شديدة وماسة من عدة نواحٍ:
1- فإن مثل هذا الركن الخطير من أركان الإسلام يحتاج من الباحثين والكاتبين إلى إعادة عرضه، وجمع ما تبعثر من أحكامه وأسراره في شتى المصادر، وإبرازه في قالب عصري وبأسلوب عصري، ولا يكتفي بما ألفه فيه علماؤنا في العصور الماضية، فإنهم ألفوا لعصرهم، وبأسلوب عصرهم، ولكل عصر لغة، ولكل مقام مقال: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) (إبراهيم :4).
إن في الاقتصاد الإسلامي موضوعين رئيسيين يجب أن يُدْرسا ويُخْدما ويُجَلَّيا من كل جوانبهما: وهما موضوعان متقابلان: أحدهما في الجانب الإيجابي، والثاني في الجانب السلبي، أحدهما في فرائض الإسلام بل في أركانه الأساسية الخمسة، والآخر في محرمات الإسلام بل في الكبائر الموبقات السبع؛ فالأول هو الزكاة، والثاني هو الربا، فمن أنكر فرضية الأول، أو حرمة الثاني كان كافرًا مرتدًا بالإجماع.
والواقع أن الموضوع الثاني -الربا- قد لقى شيئًا من العناية والخدمة أكثر مما لقيه الموضوع الأول. فقد كتب فيه الأساتذة أبو الأعلى المودودي (في كتابه "الربا" وقد نشر بالعربية وطبع عدة مرات). ومحمد عبد الله دراز (في رسالة "الربا" وقد ألقاها كممثل للأزهر فى مؤتمر الفقه الإسلامي بباريس سنة 1951)، وعيسى عبده (في رسالته "لماذا حرم الله الربا" وقد نشرتها مكتبة المنار الإسلامية بالكويت في سلسلة "نحو اقتصاد إسلامي سليم")، ومحمد أبو زهرة (في رسالة "تحريم الربا تنظيم اقتصادي" نشرت في السلسلة المذكورة)، ومحمد عبد الله العربي (في بحث له عن "الملكية الخاصة وحدودها في الإسلام" ألقاه في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ونشره المجمع في كتابه الأول)، ومحمود أبو السعود (في كتابه: "خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي" وفي بحث له: هل يمكن إنشائي بنك إسلامي؟ نشرته مكتبة المنار أيضًا)، ومحمد باقر الصدر (في كتابه "اقتصادنا" نشرته "دار الفكر" في لبنان، وفى رسالة "البنك اللاربوي")، ومحمد عزيز (في بحثه "عوامل النجاح في البنك اللاربوي" نشرته "المنار" فى سلسلتها أيضًا) إلى غير ذلك من البحوث والمقالات التي تناولت الربا من زاوية إسلامية خالصة، أو من زاوية متأثرة بالنظرة الرأسمالية الغربية إلى المال وإلى الحياة.
ولا زال الموضوع في حاجة إلى خدمة أعمق وأوسع، ولا يزال المجال فسيحًا لمن يبذل فيه جهدًا أكبر، معتمدًا على الدراسة المقارنة، مع الرجوع إلى مصادر الإسلام الأصلية . ولكنه على كل حال نال قسطًا من العناية. أما موضوع الزكاة فلم يأخذ حقه من عناية العلماء والباحثين . ولم يُخدم كما ينبغي لموضوع مثله، له مكانته ومنزلته فى فرائض الإسلام وفى نظامه المالي والاقتصادي والاجتماعي.
2- وهناك مسائل قديمة اختلف فيها الفقهاء من قديم، وكلٌّ أبْدَى رأيه، وذكر أدلته، وترك أصحاب الفتوى يُناقض بعضهم بعضًا، كلٌّ ينصر مذهبه، ويعضد إمامه، وجمهور المستفتين في حيرة أمام تناقض المفتين، فكانت الحاجة ماسة أشد المساس إلى إعادة النظر في هذه الأقوال، وأدلة كل منها، ومناقشتها في حياد وإنصاف، وعرضها على الكتاب والميزان اللذين أنزلهما الله، والوصول بعد ذلك إلى الرأي الراجح الذي يستطيعه باحث غير معصوم. وعلى هذه الحاجة نبَّه الأستاذ الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" (الإسلام عقيدة وشريعة ص109 - ط . دار القلم بمصر) . حيث قال تحت عنوان "الزكاة ركن ديني عام":
"على رغم ما أعتقد من أن الخلاف النظري يدل على حيوية فكرية قوية، وعلى سماحة النظام الذي يكون في ظله ذلك الخلاف، على الرغم من ذلك، فكم يضيق صدري حينما أرى مجال الخلاف بين الأئمة في تطبيق هذه الفريضة يتسع على النحو الذي تراه في كتب الفقه والأحكام. "هذه الفريضة التي كثيرًا ما تقترن بالصلاة، يجب أن يكون شأن المسلمين فيها أو شأنها عندهم جميعًا كشأنهم في الصلاة، وشأن الصلاة فيهم، تحديد بين واضح لا لبس فيه ولا خلاف، خمس صلوات في اليوم والليلة". "هذه الفريضة تكون معظم جهاتها في الأصل والمقدار محل خلاف بين العلماء، وبالتالي تكون باختلافهم فيها مظهر تفرق في الواجب الديني بين المسلمين جميعًا لاختلافهم في التقليد وتعدد السبل".
"هذا يزكى مال الصبي والمجنون، وذاك لا يزكيه، وهذا يزكى كل ما يستنبته الإنسان في الأرض، وذاك لا يزكى إلا نوعًا خاصًا أو ثمرة خاصة، وهذا يزكى الدين وذاك لا يزكيه، وهذا يزكى عروض التجارة وذاك لا يزكيها، وهذا يزكى حلى النساء وذاك لا يزكيه، وهذا يشترط النصاب وذاك لا يشترط وهذا وهذا إلى آخر ما تناولته الآراء فيما تجب زكاته وما لا تجب، وفيما تصرف فيه الزكاة وما لا تصرف".
ثم نادى الشيخ الأكبر بالمسارعة إلى إعادة النظر فيما أثر عن الأئمة من موضوعات الخلاف التي خشي أن تمس أصل هذه الفريضة ويكون ذلك النظر الجديد على أساس الهدف الذي قصده القرآن من افتراضها، وجعلها واجبًا دينيًا تكون نسبة المسلمين فيه وفى جميع نواحيه على حد سواء (الإسلام عقيدة وشريعة ص109 - ط . دار القلم بمصر).
3- ثم إن هناك أمورًا جدت في عصرنا، لم يعرفها فقهاؤنا القدامى ولا المتأخرون، وهذه الأمور تحتاج إلى إصدار حكم في شأنها، يريح الناس من البلبلة، ويرد على الأسئلة الحائرة على ألسنة جمهور المسلمين: هناك ثروات ودخول حديثة غير الأنعام والنقود الزروع والثمار . هناك العمارات الشاهقة التي تشيد للإيجار والاستغلال، والمصانع الكبيرة والآلات والأجهزة المتنوعة، وشتى رؤوس الأموال الثابتة أو المنقولة التي تدر على أصحابها أموالاً غزيرة من إنتاجها أو كرائها للناس كالسفن والسيارات والطائرات والفنادق والمطابع وغيرها ؛ هناك أنواع من الشركات التجارية والصناعية . هناك دخل ذوى المهن الحرة كالطبيب والمهندس والمحامى وغيرهم، ودخل الموظفين والعمال من رواتب وأجور ومكافآت - هل تدخل هذه الإيرادات الوفيرة وتلك الأموال النامية في " وعاء الزكاة " ؟ أم تقتصر الزكاة على ما كان في عهد السلف ؟ وإذا قلنا بوجوب الزكاة فيها، فما مقدار الواجب ؟ ومتى يجب ؟ وما الأساس الفقهي لذلك ؟. هناك الأنصبة والمقادير الشرعية التي وردت بها النصوص في الزكاة، كالأوسق الخمسة، في نصاب الزرع والثمر، والصاع في زكاة الفطر، والدراهم المائتين، والدنانير العشرين في زكاة النقود، كيف نحدد هذه الأنصبة الآن ؟ وكيف نترجمها إلى مقاييس العصر؟ وهل هي ثابتة أم تقبل التغيير، نظرًا لتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية وهبوط القدرة الشرائية للنقود - وبخاصة الفضية منها - عما كانت عليه في العهود الإسلامية الأولى؟. ثم هناك الضرائب الحديثة - النوعية وغير النوعية، النسبية والتصاعدية - التي تفرضها الحكومات المعاصرة، وتنفق حصيلتها في تغطية النفقات العامة للدولة، وتحقيق بعض الأهداف الاجتماعية.
ما علاقة هذه الضرائب بالزكاة؟ وما وجه المشابهة والمفارقة بينهما في المصدر والمصرف والمبادئ والأهداف؟ وهل يمكن أن تقوم الضرائب مقام الزكاة؟ وإذا لم يمكن فهل يجوز شرعًا فرض الضرائب بجوار أخذ الزكاة؟.
أسئلة يتطلب عصرنا الجواب عليها، ولا بد لنا أن نبدي فيها رأيًا. وربما يصعب على بعض الناس في عصرنا، أن يصدر عالم اليوم حكمًا في قضية لم يعرف فيها حكم للفقهاء السابقين، وهذا من أثر القول بسد باب الاجتهاد الذي انتشر في بعض العصور، وهو قول ثبت خطؤه وضلاله بلا ريب. ولا يملك أحد إغلاق باب فتحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . على أن المحققين من علماء الأصول قرروا: أن الاجتهاد يتجزأ، فيمكن أن يكون بعض العلماء مجتهدًا في بعض الأبواب أو بعض المسائل دون غيرها، وهذا أمر ليس بالمتعذر ولا بالمتعسر، على من أراد ذلك من علماء المسلمين، إذا أعد العدة لذلك من دراسة الشريعة واللغة، والرجوع إلى مصادر هذا الدين، وأوتى الملكة التي تمكنه من الموازنة والاستنباط. وأنا أعتقد أن الفصل في هذه الأمور برأي قاطع ملزم يحتاج إلى اجتهاد جماعي، من جماعة علماء المسلمين، ولكنى أعتقد أيضًا أن الاجتهادات والبحوث الفردية المتأنية في مختلف الموضوعات هي التي تنير الطريق لاجتهاد جماعي صحيح، غير مرتجل ولا مبتسر. كما أن الاجتهاد الجماعي الذي يتمثل فيه رأى الأقوياء الأمناء من علماء الإسلام في كافة الأقطار، لا زالت تحول دونه عوائق شتى، يرجع معظمها إلى ألاعيب السياسة، وأهواء الحاكمين. وهناك أفهام خاطئة سائدة - للأسف - عند كثير من المسلمين، حتى الذين يعدون في المثقفين منهم. أفهام تتصور الزكاة بضعة قروش أو ريالات، أو كيلة أو كيلات من حبوب، يتفضل بها رجل غنى محسن على معدم فقير، يسد بها جوعته أيامًا، تقل أو تكثر، ثم يظل هذا الفقير محتاجًا إلى مثل هذا السيد المحسن ليتقبل منه صدقته، ويقبل يده الطاهرة، ويدعو له بالخير والبركة في ماله وولده ... الخ. هذه الصورة التي لا صلة لها بتعاليم الإسلام، والتي حدثت - للأسف أيضًا - في بعض العصور، هي الرائجة لدى الكثيرين.
ولقد وجدنا من الصحفيين اللامعين (هو الكاتب الاشتراكي أحمد بهاء الدين في إحدى مقالاته الأسبوعية في صحيفة أخبار اليوم سنة 1961) من يكتب في إحدى الصحف السيارة في مصر، زاعمًا أن الزكاة لا تصلح في مجتمعنا الحديث، لأن أنظمته الاقتصادية والاجتماعية لا تقوم على الصدقات، وإنما تقوم على العمل والإنتاج!! كأن الزكاة الإسلامية صدقة للمتسولين، أو معونة للمتبطلين القاعدين !.
وكتب غيره كتابًا سمى فيه العدالة الإسلامية "اشتراكية الصدقات" (عن كتاب "من هنا نبدأ" لخالد محمد خالد) وهذا كله لا يدل إلا على جهل فاضح أو قصد سيئ. وبهذا الذي عرضناه هنا، يتبيَّن لنا وجه الحاجة إلى هذا البحث، وضرورة القيام به لمن يقدر عليه، فذلك- كما أعتقد - فرض كفاية على أهل العلم، إذا لم يقم به بعضهم أَثِمَ الجميع. ولقد عجب بعض الباحثين - (هو الأستاذ محمود أبو السعود فى مقال له بمجلة "المسلمون" منذ بضع سنوات) - المعنيين بشئون الاقتصاد والمال في الإسلام كيف خلت المكتبة الإسلامية الحديثة حتى اليوم من مؤلف جاد عن الزكاة، برغم أهميتها ومنزلتها في دين المسلمين، وقد أكد المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف في مصر هذه الحاجة حين أعلن منذ تسع سنوات عن مسابقة كبرى في عدة بحوث إسلامية، دعا فيها رجال الفكر والقلم من أنحاء العالم الإسلامي إلى الكتابة فيها، بحيث لا يقل البحث عن 350 صفحة كبيرة، وكان منها "الزكاة في الإسلام". وزاد تأكيد هذه الحاجة ما أعلنه مجمع البحوث الإسلامية الذي انعقد بالقاهرة في مارس سنة 1963، وحضره من علماء الإسلام ممثلون لأكثر من أربعين دولة فقد كان من أهم قراراته:. "وأن موضوع الزكاة والموارد المالية في الإسلام وطُرق الاستثمار وعلاقتها بالأفراد والمجتمعات، وحقوق العامة والخاصة، هي موضوعات الساعة، لأنها ملتقى شُعبتين من الشريعة الإسلامية وهما العبادة والسلوك الاجتماعي، ومن أ جل ذلك يقرر المؤتمر أن تكون هذه الموضوعات محور نشاط المجمع في دورته المقبلة" (المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية ص 314).
ومن هنا كانت مهمة هذا البحث محاولة الوفاء بالمقاصد الآتية
(أ) تجميع ما تبعثر عن الموضوع في المصادر الأصلية، بين كتب الحديث والتفسير، وكتب الفقه بمختلف المذاهب، وكتب السياسة الشرعية و المالية، وغيرها من مصادر الثقافة الإسلامية وعرضه عرضًا جيدًا، يعين على تصوير حكم الإسلام فيه.
(ب) محاولة تمحيص ما ورد في الموضوع من خلافات كثيرة، بُغية الوصول إلى أرجح الآراء، وفق الأدلة الشرعية، وعلى ضوء حاجة المسلمين ومصلحتهم في هذا العصر، قدر ما يستطيعه جهد فردى محدود.
(جـ) محاولة إبداء الرأي فيما جد من مسائل وأحداث، متعلقة بالموضوع، لم يعرفها علماؤنا السابقون، مما لا يسع الباحث الإسلامي المعاصر أن يغفله.
(د) تجلية حقيقة الزكاة باعتبارها ضريبة إسلامية، والموازنة بينها وبين الضرائب الحديثة، وبيان ما بينهما من مشابهات ومفارقات.
(هـ) بيان أهداف الزكاة وآثارها في حياة المجتمع المسلم، وحل مشكلاته كالفقر والتشرد والتسول، والكوارث ونحوها، وسبقها لما عرف في هذا العصر بالضمان الاجتماعي والتأمين الاجتماعي.
(و) تصحيح ما شاع من أفكار خاطئة حول الزكاة، بسبب سوء الفهم وسوء التطبيق لها، أو بسبب الشبهات التي يثيرها خصوم الإسلام.
تلك هي الأغراض التي توخى هذا البحث أن يحققها، وأرجو أن يكون قد سدد وقارب.
منهج البحث وخطته
أستطيع أن أحدد خطوات المنهج الذي سلكته في هذا البحث، والخطة التي سرت عليها في النقاط التالية:
1- تحديد المصادر وجمع المادة
كان أول ما علىِّ أن أقوم به تجميع المادة المطلوبة من مظانها، أعني تجميع النصوص والأقوال اللازمة للبحث من مصادرها القديمة والحديثة، الشرعية والوضعية، وخاصة نصوص القرآن والسنة، التي هي الأساس الأول الذي اعتمدنا عليه في بيان حقيقة الزكاة وأحكامها وأهدافها، ومكانتها في الإسلام.
ومصادرنا في هذا البحث غزيرة موفورة، وهى مزيج من: كتب التفسير في مختلف الأعصار؛ التفسير بالرواية، والتفسير بالرأى، وخاصة تفاسير آيات الأحكام. وكتب الحديث متونه وشروحه، روايته ودرايته، وجرحه وتعديله، ولا سيما كتب فقه الحديث كمنتقى الأخبار، وبلوغ المرام وشرحيهما. وكتب الفقه المذهبي والمقارن وبخاصة تلك التي تُعْنَى بالأدلة والرد على المخالفين. وكذلك كتب الأصول والقواعد الفقهية. وكتب الفقه المالي والإداري وأعظمها بلا ريب "الأموال" للفقيه الحجة الإمام أبى عبيد القاسم بن سلام. وكتب وبحوث حديثة بعضها في الناحية المالية والاقتصادية وبعضها في الناحية الاجتماعية، وبعضها دراسات إسلامية تتناول جانبًا أو جوانب من نظام الإسلام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي. وكتب مساعدة ككتب اللغة والتاريخ والتراجم وداوئر المعارف والفهارس ونحوها. وما نقلته من هذه الكتب - قديمها وحديثها - قد نبهت عليه في صلب البحث، أو سجلت في أسفل الصفحة عنوان الكتاب المنقول منه، ورقم الصفحة، واسم الؤلف، مالم يكن الكتاب مشهورًا متداولاً بين الباحثين، أو يكن قد مر ذكره، فاكتفى باسم الكتاب أو ما يدل عليه، وربما تمر عبارات قليلة أكتفي بشهرتها عن نسبتها إلى مصدر معين، وذلك نادر، وفيما لا يترتب عليه حكم . ولقد تعلمنا من سلفنا أن نعزو كل قول إلى صاحبه، حتى قالوا: " إن من بركة القول أن يسند إلى قائله ".ويطيب لي أن أسجل هنا: أن من بركات هذا البحث أنه فتح لي نافذة على الدراسات المالية والاقتصادية التي كنت - بمقتضى تخصصي - في عزلة عنها، فأطللت من هذه النافذة على النظام الاقتصادي في الإسلام، فاتضحت لي معالمه، ولاحت أمام عيني مبادئه ودعائمه، وهو ما أنوي - إن شاء الله - أن أصدره في كتاب مستقل . كما أعانني هذا البحث على إصدار كتابي" مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام".
2- تقسيم البحث وترتيب أبوابه
ولقد اقتضتني طبيعة الموضوع، وترابط أجزائه، وتكامل مسائله، أن أتناوله كله على سعته، لأن بعضه متصل ببعض اتصالاً وثيقًا، لأجعل من هذا البحث - قدر طاقتي المحدودة - مرجعًا علميًا عصريًا في هذا الموضوع الإسلامي الخطير، ولهذا طال البحث نسبيًا . فاشتمل هذا البحث على تسعة أبواب وخاتمة، وقد سلكت في ترتيب أبوابه الطريق المنطقى، مبينًا أولاً: وجوب الزكاة، ثم على من تجب ؟ ثم فيم تجب ؟ وكم ؟ ثم لمن تصرف ؟ وعلى من تحرم ؟ ثم طريقة أدائها وتحصيلها، ثم بيان أهدافها وآثاها، ثم عن زكاة الفطر، ثم عما يجب في المال من حقوق بعد الزكاة ثم بيان العلاقة بينها وبين الضريبة الحديثة مشابهة ومخالفة.
فالباب الأول: يبحث عن وجوب الزكاة، وفيه بينَّا اشتراك الأديان جميعًا في العناية بالفقراء والضعفاء، وزيادة الإسلام عليها جميعًا منذ عهده المكي، وتتويجه هذه العناية البالغة بتشريع الزكاة المحدودة في المدينة، وهى النظام الفذ الذي لم يسبق به دين ولا قانون.
والباب الثاني: يبحث عمن تجب عليه الزكاة، وفيه فصلنا القول في حكم الزكاة في مال الصبي والمجنون، وهل يمكن أن تؤخذ الزكاة من غير المسلم أم لا؟.
والباب الثالث: يبحث عن وعاء الزكاة ومقاديرها، أي الأموال التي تجب فيها الزكاة من الثروة الحيوانية، والنقدية، والتجارية، والزراعية والمعدنية، والبحرية، والمنتجات الحيوانية كالعسل ونحوه، وبينا حكم الزكاة في العمائر الاستغلالية، والمصانع، وإيراد رؤوس الأموال غير التجارية وكذلك المرتبات والأجور، وإيراد ذوى المهن الحرة.
والباب الرابع: عن مصارف الزكاة الثمانية التي ذكرها القرآن، وقد بينَّاها بتفصيل، وكم يعطى كل صنف؟ وهل يجب استيعابهم على السوية؟ ومن الذين يمنع صرف الزكاة إليهم؟.
والباب الخامس: عن طريقة أداء الزكاة، وعلاقة الدولة بها، وما يتعلق بأدائها من جواز تعجيلها أو تأخيرها، ونقلها من بلد إلى بلد، ودفع القيمة، وما شابه ذلك من المسائل.
والباب السادس: عن أهداف الزكاة وآثارها، وفيه بينَّا أهداف الزكاة بالنسبة للمُعطِى، وبالنسبة للآخذ، وبالنسبة للجماعة كلها، كما وضحنا بالتفصيل أثرها في حل بعض المشكلات الهامة في المجتمع كمشكلات البطالة والتسول والفوارق والكوارث والخصومات والتشرد، فضلاً عن المشكلة الأولى وهى مشكلة الفقر.
والباب السابع: عن زكاة الفطر وأحكامها.
والباب الثامن: عن الحقوق الأخرى الواجبة في المال بعد الزكاة بين المثبتين والنافين وأدلة كل منهما، وتحديد موضع النزاع بين الفريقين، وترجيح الراجح.
والباب التاسع: عن الزكاة والضريبة. وفيه بينَّا خصائص الزكاة باعتبارها ضريبة متميزة في حقيقتها وأساسها، ومبادئها وضماناتها وأهدافها، وسبقها لكثير من المبادئ والأحكام التي انتهى إليها تطور الفكر الضريبي الحديث، وامتيازها بأحكام ومعانٍ وأهداف وضمانات تَقْصُر عنها الضريبة، كما بينَّا: هل تجيز الشريعة فرض الضرائب مع أخذ الزكاة؟ وهل يمكن أن تغنى الضرائب عن دفع الزكاة؟.
والخاتمة: تتضمن تلخيصًا لحقيقة نظام الزكاة وشهادات بعض الكُتَّاب الأجانب والمسلمين للزكاة، وأثرها في تحقيق العدل والمساواة والتكافل بين أبناء المجتمع.
وبهذا يكون البحث قد استوعب أهم ما يتعلق بموضوع الزكاة، أحكامًا ومبادئ، وأهدافًا وآثارًا.
تلك هي النقطة الثانية في البحث. وأما النقطة الثالثة فهي:
3- المقارنة والموازنة
وهي تأخذ صورتين:
الأولى: مقارنة داخل المذاهب الإسلامية لانتقاء أصح الآراء وأقواها دليلاً.
الثانية: مقارنة بين الشريعة الإسلامية والشرائع الأخرى، سماوية كانت أو وضعية، قديمة أو حديثة. وذلك لبيان ما امتازت به شريعة الله الخاتمة الخالدة، على الشرائع السماوية المنسوخة، أو الشرائع الأرضية القاصرة.
وفي المقارنة داخل المذاهب الإسلامية لم أقتصر على المذاهب الأربعة المتبوعة المعروفة، فإن ذلك يكون ظلمًا كبيرًا لسائر المذاهب والأقوال في الفقه الإسلامي فهناك مذاهب لفقهاء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لا يجوز شرعًا ولا عقلاً إهمالها وعدم الانتفاع بها، فإذا تركنا الصحابة الذين لا خلاف في فضلهم وعلمهم، وجدنا مذاهب لأمثال ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز والزهري والنخعي والحسن وعطاء والشعبي وميمون بن مهران وغيرهم من سادات التابعين، وإذا نظرنا إلى من بعدهم وجدنا أمثال الثوري والأوزاعى وأبى عبيد والطبري وداود الظاهري وغيرهم، وأقوال هؤلاء ثروة علمية عظيمة يعتبر إهمالها خطأ في العلم، وخطيئة في الدين. بل لم أقتصر على المذاهب السنية، فرجعت إلى فقه الزيدية والإمامية، لعلمي أن الخلاف بيننا وبينهم في الفروع قليل ميسور، وقد رأينا من المتأخرين رجلاً - كالصنعانى في "سبل السلام" والشوكاني في "نيل الأوطار" - يذكر مذاهب الزيدية والإمامية كالهادي والقاسم والباقر والناصر وغيرهم، ويتداول ذلك علماء أهل السنة، ولا يرون فيه حرجًا. وفى المقارنة خارج الفقه الإسلامي، كان لا بد لنا أن نوازن بين الزكاة وما شرع في الأديان السابقة من صدقات مندوبة أو مفروضة، وبين الزكاة وما شرع في العصر الحديث من ضرائب مالية، وبينها وبين ما عرفه الناس من أنظمة الضمان الاجتماعي.
4- التفسير والتعليل
لم أكتف ببيان الحكم الشرعي مجردًا في كل مسألة، بل عُنيت بتفسير الحكمة من وراء تشريعه، والسر فيما أوجبه الشارع أو استحبه، أو نهى عنه أو أذن فيه، وهذا اقتداء بالشارع نفسه الذي عُنِىَ بتعليل الأحكام، وبيان مقاصدها ومنافعها للبشر أفرادًا وجماعات، ولم يكتفِ بالتكليف المجرد، والإلزام الصارم، اعتمادًا على التزام المكلفين - بحكم إيمانهم - بامتثال كل ما يصدر عن الشارع، عقلوا حكمته أو لم يعقلوها. وإذا كان بيان الحكمة من التشريع أمرًا محمودًا على كل حال، فهو في عصرنا أمر لازم، لغلبة الأفكار المفسدة، والتيارات المضللة، والوافدة من الشرق والغرب، فلم يعد يكفى إصدار الحكم المجرد، وانتظار صيحات المكلفين بعده: (سمعنا وأطعنا) (البقرة: 285).
5- التمحيص والترجيح
ولا يغنى الباحث استيعاب المصادر المختلفة، وتجميع الأقوال والنصوص المتفرقة والمقارنة بين بعضها وبعض، إذا كان هو أسيرًا لقول، أو مقلدًا لمذهب، يقف جهده على نصرته وتأييده، ورد غيره وتفنيده. ولهذا حررت نفسي من ربقة التمذهب والتقليد، فإنه أمر مستحدث لم يعرفه سلف الأمة، وقد نهى الأئمة أنفسهم عن تقليدهم، ومن قلد فقيهًا في كل مسألة - وإن ظهر ضعف دليها أو خطؤه - فكأنما اتخذه شارعًا، وفى التقليد إبطال للعقل ومنفعته، كما قال ابن الجوزي: "لأنه خلق للتدبر والتأمل، وقبيح بمن أعطى شمعة يستضئ بها أن يطفئها ويمشى في الظلمة".
وقال غيره: لا يقلد إلا عصبي أو غبي.
ومن هنا لم أكن أقرأ الأقوال والنصوص قراءة المقلد المتحيز، بل قراءة الفاحص الممحص، الباحث عن الحق، لا يبالي أين وجده ولا مع من وجده قد يجده عند المتقدمين، وقد يجده عند المتأخرين، قد يجده في مدرسة الرأي، وقد يجده في مدرسة الحديث، وقد يجده في فقه الظاهرية، قد يجده في المذاهب الأربعة، وقد يجده عند غيرهم من الأئمة، وما أكثرهم! .
إنني لم أقف مع المتعصبين المتزمتين الجامدين على كل قديم، والزاعمين بأن لا أئمة بعد الأربعة، ولا اجتهاد بعد القرون الأولى، ولا علم إلا في كتب المتأخرين المقلدين، ومن عارضهم في ذلك اتهموه بكل نقيصة.
ومع هذا لم أكن لأنساق وراء أدعياء الاجتهاد الذين لم يملكوا وسائله، ودعاة التجديد الذين سخر منهم الرافعي الأديب بأنهم " يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر" !!.
وإنما أقف موقفًا وسطًا عدلاً: أرحب بكل جديد نافع، وأحرص على كل قديم صالح . ولم تمنعني صفرة الكتب القديمة، ورداءة طبع الكثير منها، ودقة خطها، من الغوص في أعماقها، واستخراج كنوزها، ومعاناة متونها وشروحها وحواشيها، وهكذا انتفعت بالقديم وبالجديد، دون تزمت ولا تحلل . بل موقفي من هذا وذاك موقف المنتخب المتخير الذي يبحث ما وسعه البحث، ويحلل ما أمكنه التحليل، ويوازن ما أسعفته الموازنة، ثم ينصر ما قويت حجته، واتضحت أدلته، غير متعصب لقول قائل، ولا لمذهب إمام، فقد آخذ في مسألة بمذهب أبى حنيفة، وأخرى بمذهب مالك، وثالثة بقول الشافعي أو أحمد أو سفيان أو والأوزاعى أو أبى عبيد أو أي إمام قبلهم أو بعدهم. وقد أدع هؤلاء جميعًا وآخذ بقول صح عن صحابي أو تابعي.
وليس هذا تلفيقًا -كما يقال- وإنما هو اتباع للدليل حيثما ظهر، ولا يجوز للعالم الباحث أن يقيد نفسه إلا بالنصوص المعصومة الهادية من كتاب الله وسنة رسوله، وقد جاء عن ابن عباس وعطاء ومالك وغيرهم: "كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وهذا قد يجعلني في بعض المسائل آخذ بقول مهجور غير مشهرر، وأعرض عن قول الجمهور، فليس الصواب دائمًا مع الكثرة، ولا الخطأ دائمًا مع القلة، فرب رأى انفرد به فقيه، تؤيده الحجة، ويشد أزره المنقول والمعقول، وهذا على كل حال يحدث على قلة . ولكنى لا أخاف عقباه. وما الذي يخيفني من هذا، وقد رأيت من كبار الأئمة من لا يبالي أن يقف وحده متمسكًا برأيه، وإن رأى جمهور الناس على خلافه؟!. فهذا ابن عباس يقول :" أمر ليس في كتاب الله عز وجل، ولا في قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وستجدونه في الناس كلهم: ميراث الأخت مع البنت" (الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ص541) فلم ير الناس كلهم حجة على نفسه. وهذا مالك يفتى بالشفعة في الثمار، ويقول إثر فتياه به: "إنه لشيء ما سمعته ولا بلغني أن أحدًا قاله" (المرجع نفسه ص542).
ولكل إمام من الأئمة المتبوعين مسائل شتى انفردوا فيها برأي لم يسبق لغيرهم، ولم يروا في ذلك حرجًا، وقد نظمت مفردات مذهب الإمام أحمد في كتاب خاص.
قواعد البحث للاختيار والترجيح والاستنباط
وقد ارتكز هذا البحث على جملة قواعد أصولية - كانت هي مستنده الشرعي في اختيار ما يتبناه من وجوه النظر، وترجيح ما يرجحه من الأحكام الخلافية، واستنباط ما يؤدى إليه اجتهاده من آراء جديدة أو كالجديدة . ونستطيع أن نجمل هذه القواعد فيما يأتي:
1- الأخذ بعموم النصوص ما لم يخصصها دليل
إن كثيرًا من نصوص الدين جاء بألفاظ عامة، ليندرج في مفهومها أفراد وجزئيات كثيرة، وهذا من جملة أسرار خلود هذا الدين، وصلاحيته لكل زمان ومكان. ولهذا أرى أن العموميات التي جاءت في آيات القرآن وأحاديث الرسول يجب أن يؤخذ بها، ويعمل بمقتضى عمومها، ما لم يخصصها نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة، فحينئذ نقدم الخاص على العام. فلست مع الذين يردون السنن الصحيحة المحكمة بالظواهر والعمومات القرآنية، ولا مع الذين يسارعون إلى التخصيص بالحديث، ولو في سنده لين، أو بالصحيح ولو في دلالته ضعف أو غموض. إني أخالف الإمام أبا حنيفة الذي رد حديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة " إبقاء على عموم: (ومما أخرجنا لكم من الأرض)(البقرة 267)، وعموم: "فيما سقت السماء العُشر"، لأن الحديث صحيح متفق عليه، وتأويله بأنه في أوسق التمر إذا كانت للتجارة تأويل ضعيف مرجوح بل متهافت . ولهذا رجحت رأى الصاحبين والجمهور في اعتبار النصاب فيما أخرجت الأرض كسائر الأموال الأخرى، وهو الموافق لحكمة الشارع في فرض الزكاة على الأغنياء.
ولكنى أوافق أبا حنيفة كل الموافقة في تمسكه بعموم: "(ومما أخرجنا لكم من الأرض)..وعموم حديث :"فيما سقت السماء العشر" ولا أخصص هذا العموم بمثل حديث: "ليس في الخضراوات صدقة" لأنه حديث ضعيف، على أنه يمكن تأويله بأن المعنى: ليس فيها صدقة يأخذها الجباة، لأنها مما يسرع إليه التلف والفساد، فلا تبقى في بيت المال، فإذا لم يكن شرع أخذها كالمواشي والزرع فإن ذلك لا يسقط إيجابها باللفظ العام السابق. إن عمومات القرآن والسنة يجب أن تحترم وتؤخذ كما هي حتى يخصصها دليل صحيح صريح، ومن هنا أخذنا بعموم الآيات والأحاديث التي افترضت الزكاة من كل مال، مثل قوله تعلى: "(خذ من أموالهم صدقة)(التوبة 103). (والذين في أموالهم حق معلوم)(المعارج: 24)..وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أدُّوا زكاة أمولكم" من غير فصل بين مال ومال، ولم نخرج من ذلك إلا ما خصصه الدليل.
2- احترام الإجماع المتيقن
فإن اتفاق علماء الأمة جميعًا على حكم شرعي -وخاصة في القرون الأولى- يدل دلالة واضحة على أنهم استندوا فيما أجمعوا عليه إلى اعتبار شرعي صحيح من نص أو مصلحة أو أمر محسوس، فينبغي أن يحترم إجماعهم، لتبقى مواضع الإجماع في الشريعة، هي الضوابط التي تحفظ التوازن، وتمنع البلبلة والاضطراب الفكري. وذلك كإجماعهم على وجوب الزكاة في الذهب بنسبة زكاة الفضة: ربع العشر، وكإجماعهم على أن المثقال درهم وثلاثة أسباع ... إلى غير ذلك من الأمثلة.
وإنما قلت :"الإجماع المتيقن"لأن بعض الفقهاء نقل الإجماع في مسائل ثبت فيها الخلاف عند غيرهم، وسبب هذا: "أن العلماء المجتهدين في العصور الأولى كانوا منتشرين في عامة الأقطار والبلدان، وكانوا من الكثرة بحيث يتعسر معرفة أقوالهم في كل مسألة اجتهادية، وهذا ما جعل الإمام أحمد يقول: " من أدعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا ما يدريه؟ ولم ينته إليه فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك".
وهناك أمثلة كثيرة ادعى فيها الإجماع أو قرر فيها عدم العلم بالخلاف، ومع هذا ثبت الخلاف.
فهذا الشافعي يقول في زكاة البقر: في الثلاثين تبيع، وفى الأربعين: مسنة لا أعلم فيه خلافًا، مع ثبوت الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وقتادة، وعمال ابن الزبير بالمدينة وغيرهم (الأحكام لابن حزم).وهذا ابن المنذر ينقل الإجماع على أن زكاة الأموال لا يجوز أن تُعْطَى لغير المسلمين مع أن غيره روى عن الزهري وابن سيرين وعكرمة جواز الصرف منها لغير المسلمين، وهو ظاهر مذهب عمر فيما روى عنه (انظر مبحث "إعطاء الزكاة لغير المسلمين" من باب "مصارف الزكاة"). وقال ابن قدامة في "المغنى" لا نعلم خلافًا في أن بنى هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، وعلق على ذلك الحافظ ابن حجر في "الفتح : "بقوله: كذا قال، وقد نقل الطبري الجواز أيضًا عن أبى حنيفة، وقيل عنه: يجوز لهم إذا حرموا سهم ذوى القربى. حكاه الطحاوي ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم وهو وجه لبعض الشافعية، وعن أبى يوسف: يحل من بعضهم لبعض، وعند المالكية فى ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه (انظر فتح الباري: 3/227، وانظر هذا المبحث من الفصل التاسع من مصارف الزكاة).. الخ. إن هذا الإجماع المُدَّعى، لا حرج علينا إذا خالفناه لدليل رأيناه، لأنه في الواقع ليس بإجماع. أما الإجماع المتيقن - أعنى الذي لم يعرف فيه خلاف قط - فرغم ما أثير من جدل حول إمكانه ووقوعه وحجيته، فلم ألجأ إلى مخالفته في حكم من الأحكام، للاعتبار الذي ذكرته قبل. لكنى قد أخالف الإجماع على رأي من يقول من علماء الأصول: إذا اختلف أهل عصر في مسألة على قولين فلا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، لأن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد أجمعت -من جهة المعنى- على المنع من إحداث قول ثالث، واختار الآمدي: أن القول الثالث إن كان يرفع ما اتفق عليه القولان فهو غير جائز، وإلا بأن وافق كل واحد من القولين من وجه وخالفه من وجه فهو جائز إذ ليس فيه خرق الإجماع. (انظر الأحكام للآمدي: 1/137، 138). مثال ذلك أن أبا حنيفة قال: العشر على مالك الأرض، وقال الجمهور: على المستأجر، فالمتفق عليه بين القولين: أن العُشر واجب، فإذا قلنا: إن العُشر على المستأجر في محصول الزرع بعد رفع قيمة الإيجار الذي دفعه للمالك، وقلنا: إن على المالك تزكية الأجرة التي أخذها من المستأجر لا نكون -على رأى الآمدي- خارقين للإجماع. على أن من العلماء من قال: إن الاختلاف على قولين في مسألة دليل تسويغ الاجتهاد فيها، والقول الثالث إنما هو وليد الاجتهاد فهو جائز، وقد أحدث بعض التابعين قولاً ثالثاُ في بعض المسائل لم يقله الصحابة، كما روى عن ابن سيرين ومسروق (انظر الأحكام للآمدي: 1/137، 138) وغيرهم، وهو المختار ما دامت المسألة من المسائل الاجتهادية التي تحتمل أوجهًا للنظر والاجتهاد.
3- إعمال القياس الصحيح
القياس هو إعطاء الشيء حكم نظيره لعلة مشتركة بينهما، وهو أمر أودعه الله في العقول والفطر، وهذا - كما قال ابن القيم -من الميزان الذي أنزل الله مع كتابه، وجعله قرينه ووزيره، فقال تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) (الشورى: 17)، (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد: 25)،والميزان يراد به العدل، والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده، والقياس الصحيح هو الميزان، والأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به، وهو اسم مدح، واجب على كل واحد، في كل حال، بحسب الإمكان، بخلاف اسم القياس، فإنه ينقسم إلى حق وباطل، وممدوح ومذموم، وصحيح وفاسد، والصحيح هو الميزان الذي أنزله الله مع كتابه
(إعلام الموقعين: 1/133). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح والقياس الفاسد، فالقياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، الأول: قياس الطرد، والثاني: قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله. "فالقياس الصحيح: مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها، ومثل هذا القياس لا تأتى الشريعة بخلافه قط . وكذلك القياس بإلغاء الفارق: وهو ألا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الفرع، فمثل هذا القياس لا تأتى الشريعة بخلافه" (رسالة القياس لابن تيمية - نشر المطبعة السلفية سنة 1375 هـ). والمقصود أن القياس إذا اتضحت علته الجامعة بين الأصل والفرع، ولم يكن بينهما فارق ظاهر أو خفي، ولم يوجد معارض معتبر، وجب الأخذ به باعتباره دليلاً شرعيًا لا مطعن فيه. وقد يعترض معترض فيقول: إن الزكاة عبادة، والأمور التعبدية لا مدخل للقياس فيها، ونحن نقول: نعم، إن الأمور التعبدية الخالصة لا يدخلها القياس، إذ لا تدرك علتها على وجه تفصيلي والأصل فيها الامتثال لأمر الله دون الالتفات إلى العلل، فالعبادات المحضة كالصلاة والصيام والحج لا يصح أن يجرى فيها القياس، حتى لا نشرع للناس من الدين ما لم يأذن به الله تكليفًا أو إسقاطًا. أما الزكاة فلها شأن آخر. إنها ليست عبادة محضة، بل هي حق معلوم، وضريبة مقررة، وجزء من النظام المالي والاجتماعي والاقتصادي للدولة، بجانب ما فيها من معنى العبادة، والعلة في تشريعها وأحكامها بصفة عامة معلومة واضحة، فلماذا لا نقيس على المنصوص عليه فيها ما يشبهه ويشاركه في العلة؟. ولقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من بعض الحبوب والثمار كالشعير والتمر والزبيب، فقاس عليه الشافعي وأحمد وأصحابهما كل ما يُقتات، أو غالب قوت البلد، أو غالب قوت الشخص نفسه، ولم يجعلوا هذه الأجناس المأخوذة مقصودة لذاتها تعبدًا، فلا يقاس عليها. وكذلك في زكاة الزروع والثمار ذهب جمهور الأئمة إلى قياس كثير من الحبوب على ما وردت به النصوص ولم يقصروا الزكاة على ما جاء في بعض الأحاديث من الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وقد جاء عن عمر: أنه أدخل القياس في باب الزكاة، وذلك حين أمر بأخذ الزكاة من الخيل لما تبين له أن فيها ما يبلغ قيمة الفرس الواحدة منه ثمن مائة ناقة فقال: نأخذ من أربعين شاة، ولا نأخذ من الخيل شيئًا؟، وتبعه في ذلك أبو حنيفة بشروط معلومة (ستأتي هذه البحوث في مواضعها- إن شاء الله). وهذا ما جعلنا نقيس العمارات المؤجرة للسكن ونحوها على الأرض الزراعية، ونقيس الرواتب والأجور على الأعطيات التي كان يأخذ منها ابن مسعود ومعاوية وعمر بن عبد العزيز الزكاة عند صرفها مع دخولها في العمومات أيضًا.
ونقيس القز والمنتجات الحيوانية كالألبان ونحوها على العسل الذي وردت الآثار بأخذ العشر منه.
ويكفى أن نذكر من أهمية القياس ما ذكره الإمام الشافعي في "الرسالة" عن "زكاة الذهب" فقال:
"وفرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الورق (نقود الفضة) صدقة، وأخذ المسلمين في الذهب بعده صدقة، إما بخبر عن النبي لم يبلغنا، وإما قياسًا على أن الذهب والورق نقد الناس الذي اكتنزوه وأجازوه أثمانًا على ما تبايعوا به في البلدان قبل الإسلام وبعده" (الرسالة ص193، 194).
فأخذ الزكاة من النقود الذهبية -وهى الرصيد العالمي للنقود في معظم أمم العالم- ليس بالأمر الهين، ومع هذا أخذ المسلمون بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقياس، وهو الاحتمال الأقوى، أما أن يكون هناك حديث لم يبلغ الشافعي مع طلبه وتحريه لمثله، وكذلك لم يبلغ مالكًا ولا البخاري ولا مسلمًا، فهذا احتمال بعيد، ولهذا اعتمد مالك في ذلك على العمل لا الخبر فقال: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، أن الزكاة تجب في عشرين دينارًا عينًا (ذهبًا) كما تجب في مائتي درهم (فضة).
4- اعتبار المقاصد والمصالح
قرر المحققون من علماء الإسلام، أن أحكام الشريعة إنما شرعت لمصالح العباد في المعاش والمعاد، سواء أكانت هذه المصالح ضرورية أم حاجة أم تحسينية. ودليل ذلك -كما قال الإمام الشاطبي- هو استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، فليس ذلك مقصورًا على نص واحد، أو واقعة خاصة، بل الشريعة كلها دائرة على ذلك (الموافقات: 2/51). وذكر الشاطبي قاعدة مهمة هي: "أن الأصل في العبادات -بالنسبة إلى المكلف- التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات (المعاملات) الالتفات إلى المعاني (المرجع السابق ص300) وأقام على ذلك أدلة ناصعة لا يتسع المجال لذكرها هنا. وأعود هنا فأؤكد ما ذكرته من قبل: أن الزكاة -وإن كانت تذكر مع الصلاة في فقه العبادات- ليست في الحقيقة عبادة محضة، بل هي أقرب إلى ما يسمى بالعادات، المعاملات، لأنها من الشئون المالية للمسلمين، وهى -إلى حد كبير- علاقة بين الدولة ورب المال، أو بينه وبين الفقير عند تخلى الدولة، والدليل على ذلك: أن كتب الفقه المالي والإداري في الإسلام تذكرها ضمن مباحثها وأبوابها (كالخراج والأموال والأحكام السلطانية والسياسة الشرعية) فهي في الحقيقة جزء من نظام الدولة في الإسلام.
ولو أردنا أن نؤلف الفقه على الطريقة الحديثة، لوجب أن نجعل الزكاة من الفقه المالي والاجتماعي، لا مع العبادات المحضة، وكذلك عند التقنين، فإنها داخلة -لا محالة- في دائرة التشريع المالي والاجتماعي.
وهذا لا يخرج أحكام الزكاة كلها عن دائرة التعبد، فقد قرر الشاطبي: أن العادات إذا وجد فيها التعبد، فلا بد من التسليم والوقوف مع النصوص، كطلب الصداق في النكاح، والذبح في المحل المخصوص في الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث، وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية وما أشبه ذلك.
وأنا أدخل فيها مقادير الزكاة وأنصبتها لأنها أمور ضبطها الشارع وحددها وفرغ منها، وأجمع المسلمون عليها في كافة الأعصار، فوجب الوقوف عند النصوص والإجماع في ذلك. ولهذا خالفت الذين يريدون أن يخضعوا مقادير الزكاة وأنصبتها للتغير والتحوير حسب الزمان والمكان والحال، تحت عنوان "رعاية المقاصد والمصالح" فإن هذا يمحو معالم الزكاة الشرعية ويحولها إلى ضريبة مدنية بحتة، كالضرائب التي تفرضها شتى الحكومات في شتى الأقطار.
والخلاصة: أن مقاصد الشريعة إنما هي جلب المصالح للناس ودرء المضار والمفاسد عنهم، ودعامة هذا الأصل هو ما ذهب إليه مالك وأصحابه من اعتبار المصلحة المرسلة دليلاً شرعيًا، يجب العمل به كما يجب العمل بسد الذرائع (بل قال القرافي: المصلحة المرسلة غيرنا يصرح بإنكارها، ولكنهم عند التفريع يعللون بمطلق المصلحة ولا يطالبون أنفسهم عند الفروق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، انظر: كتاب: "مالك " للأستاذ الكبير محمد أبى زهرة).
على أن كثيرًا من الحنابلة ينزعون هذا المنزع، وقد نصر ذلك الاتجاه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في كتبهما، وأفاضا في تأييده بالأدلة والاعتبارات الشرعية الصحيحة.
وعلى أساس ذلك عقد ابن القيم فصلاً رائعًا في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، قال في مقدمته: "وهذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتى به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهى عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خليقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتم دلالة وأصدقها، وهى نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون (إعلام الموقعين: 3/14) وهذا كلام يجب أن نحرص عليه ونشيعه في الناس، وهو الذي لا يجوز أن يقال غيره في عصرنا . ولقد كان ابن القيم مسددًا حين جعل الذي يتغير بتغير الأزمنة والأحوال هو الفتوى، وليس الحكم الشرعي -أي أن تطبيق الحكم وتنزيله على الواقعة هو الذي يتغير... الشريعة إذن لا تتغير ولكن الفقه يتغير، فالشريعة وحي الله، والفقه والفتوى والقضاء عمل الناس.
إن عمر -رضى الله عنه- حين أبى أن يعطى من الزكاة قومًا كانوا من : "المؤلفة قلوبهم" في عصر الرسول وقال: "إن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم" لم يغير بذلك حكمًا شرعيًا ولم يعطل نصًا قرآنيًا، كما قد يفهم بعض الناس، ولكنه غير الفتوى بتغير الزمن والحال عن عهد الرسول، فلم يعد عيينة بن حصن، ولا الأقرع بن حابس وإضرابهما من الطامعين، ممن يحتاج الإسلام ودولته إلى تأليف قلوبهم، ولم يكتب الرسول -صلى الله عليه وسلم- صكًا لهؤلاء يبقيهم مؤلفة إلى الأبد، والمؤلف هو الذي يرى الإمام تأليفه، فإذا لم يرَ تأليف شخص أو أناس بأعيانهم أو لم يرَ التأليف مطلقًا في عهده لعدم الحاجة إليه أو لأن هناك مصارف أهم منه، فهذا من حقه ولا يكون ذلك إسقاطًا لسهم المؤلفة إلى الأبد كما فهم بعض الحنفية وغيرهم، ولا تعطيلاً للنص كما ظن بعض المعاصرين، فإن عمر والأمة كلها لا تملك تعطيل نص صريح من كتاب الله، ولكنه رأى مصلحة المسلمين في عصره، أن يسد الطريق على الطامعين في أموال الزكاة باسم التأليف، ولم يرد عنه ما يمنع من التأليف وإعطاء المؤلفة عند الحاجة واقتضاء المصلحة (راجع هذا المبحث بتفصيل في باب "مصارف الزكاة" فصل "المؤلفة قلوبهم").
إن عمل عمر هذا مثال جيد لاعتبار المصلحة المرسلة، وسد الذريعة إلى المفسدة، وهو مثال جيد كذلك لتغير الفتوى بتغير الأزمان والأحوال. ومما غير عمر فيه الفتوى بتغير الحال "زكاة الخيل"، فقد جاءه أناس من الشام يريدون إعطاء الزكاة منها، فتردد في ذلك لأنه أمر لم يفعله الرسول ولا أبو بكر، ثم جاء أنه أوجب الزكاة في الخيل في قصة يعلى بن أمية وأخيه حين وجد الفرس يبلغ ثمنها مائة ناقة مستدلاً بما ذكرناه من القياس، وهو نوع من مراعاة المقاصد والمصالح والعدل الذي قامت عليه الشريعة.
ومن الأمثلة التي تُذكر هنا من تغير الفتوى بتغير المكان والحال، أن معاذ بن جبل حين بعثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن وأمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم ويردها على فقرائهم، كان مما أوصاه به: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل" ولكن لم يفهم هذه الوصية إلا أنها تيسير على الناس، وأن هذا ما يطالبون به، فلما وجد الأيسر عليهم أن يدفعوا القيمة رحب بذلك، لما فيه من الرفق بهم، والنفع لمن وراءهم بالمدينة، عاصمة الإسلام، إذا فضل شئ عنهم وأرسله إلى هناك، ففي خطبة معاذ باليمن قال :"ائتوني بخميس أو لبيس (ملابس من صنعهم) آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة (راجع هذا المبحث بتفصيل في باب "طريقة أداء الزكاة" فصل "إخراج القيمة").
فاعتبار المصلحة ورعاية مقصد الشارع من الزكاة هو الذي جعل معاذًا -وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام كما في الحديث- يؤثر أخذ القيمة "ثيابًا يمنية" بدلاً من الحبوب، مع ما يظن من مخالفته ظاهر الحديث الآخر، وما كان لمعاذ أن يخالف حديث رسول الله - وهو الذي جعل اجتهاده في المرتبة الثالثة بعد الكتاب والسنة. ولكنه أدرك مقصود الحديث فلم يتجاوز به موضعه، ولهذا اشترط الأصوليون في المجتهد: أن يكون عالمًا بمدارك الأحكام ومقاصد الشريعة، وأن يكون أيضًا عالمًا بمصالح الناس في عصره . وهذا حق فإن من حصل كثيرًا من العلم ووسائل الاجتهاد ولكنه يعيش في برج عاجي، أو صومعة منعزلة، غافلاً عن مصالح المجتمع ومفاسده وما يدور في العقول من أفكار، وفى الأنفس من نوازع، وفى الحياة من وقائع وتيارات.. مثل هذا -على علمه- لا يعد من أهل الاجتهاد والفتيا والحكم في شريعة الإسلام. إن اعتبار المصالح والمقاصد العامة للشريعة هو الذي جعلنا نرجح ما أفتى به كثير من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن لا زكاة في حلى النساء، لأن مقصد الشريعة في الزكاة -كما فهموها من الأموال التي أخذ منها رسول الله الزكاة في عصره- أن تفرض في المال النامي أو الذي من شأنه أن ينمو، ليكون الأخذ في الغالب من الفضل والنماء، ويبقى الأصل لمالكه مصدر دخل له، والحلي الذي أباحه الله للمرأة ليس ناميًا ولا من شأنه أن ينمو بل هو من جنس ثياب الزينة وأثاث البيت وما إلى ذلك. ورعاية العدل الذي بُنيت عليه الشريعة هو الذي جعلنا نرجح قول التابعي الجليل الإمام عطاء بن رباح في رفع نفقة الزرع من جملة المحصول ثم تزكية الباقي، وجعلنا نختار أن يزكى المستأجر الزرع الخارج بعد طرح النفقات، ومنها أجرة الأرض، وأن يزكى مالك الأرض الأجرة التي يقبضها بمجرد قبضها، ويخرج منها العشر أو نصفه، لأنها بدل عما يستحقه من الخارج لو زارع عليها .. إلى غير ذلك من الأمثلة.
أسلوب البحث
وقد توخيت أن يكون أسلوب هذا البحث جامعًا بين السهولة والدقة، متجنبًا وعورة العبارات التي يقتضيها البحث العلمي أحياناَ، متخيرًا في النقل عن الكتب القديمة ما كان أوضح بيانًا، وأنصع عبارة، متصرفًا أحيانًا قليلة في النقل مع المحافظة على المعنى. إن الأسلوب الناجح هو الذي يجمع دقة العالم إلى وضوح الداعية، وكذلك أردت أن أكون، ولعلى بلغت ما أريد أو قاربت.
وبعد.. مرة أخرى فقد كنت أعددت هذه الدراسة منذ أكثر من ست سنوات لأحصل بها على درجة علمية، ثم حالت دون ذلك حوائل، وكان الخير فيما اختاره الله، فظلت هذه الدراسة بين يدي أقلب فيها، فأزيد وأرتب وأنقح وأهذب، حتى شاء الله أن تنشر في صورتها هذه، فعسى أن تنال قبول الباحثين المنصفين، ولا تحرم من ملاحظات الناقدين المخلصين.
ومهما يكن فقد بذلك الجهد، ولم أدخر وسعًا عندي لتجلية حقيقة هذه الفريضة المحكمة، وذلك النظام الإسلامي الفذ "الزكاة"، وإماطة اللثام عن عدالة أحكامها، ومكنون أسرارها وجليل أهدافها وآثارها، عسى أن يصحح المسلمون إسلامهم، ويعودوا إليه بعد غربة وطول غياب، ويجعلوا هذه الفريضة جزءًا أصيلاً من نظامهم المالي والاجتماعي، فيحوزوا بذلك رضوان الله، ويحلوا بها كثيرًا من مشكلات مجتمعهم، ويحصنوا شبابهم من الأفكار المنحرفة، والمبادئ الهدامة.
فإن أصابت هذه الدراسة الهدف منها، فهذا ما أحمد الله عليه، وهو الذي إليه قصدت، وله سعيت وجهدت، ولله وحده المنة والفضل، وهو المسئول أن ينفع بهذا الجهد، ويبارك فيه وإن قصرت عن بلوغ المرمى، فحسبي أنى اجتهدت وتحريت، ولم آلُ جهدًا أو أدخر وسعًا، وعسى ألا أحرم أجر من اجتهد ومثوبة من نوى، ولكل مجتهد نصيب، ولكل امرئ ما نوى.
وما توفيقي إلا بالله.. عليه توكلت وإليه أنيب.
الدوحة - جمادى الأولى 1389 هـ.
يونيو (تموز) 1969م.
يوسف القرضاوي.
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس