عرض مشاركة واحدة
 
  #77  
قديم 12-11-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 21-29 من 29

تفسير تفسير صدر المتألهين/ صدر المتألهين الشيرازي (ت 1059 هـ) مصنف و مدقق 21-29 من 29




{ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ }

والثالث: إن نسبة الماهيّات الى الباري جلّ ذكره، إن كانت اتّحادية، يلزم كون الواجب تعالى ذا ماهيّة غير الوجود، بل ذا ماهيّات متعدّدة، وقد ثبت أنّه صِرْف الإنيّة، وإن كانت نسبتُها إليه تعالى تعلّقية ارتباطيّة وتعلق الشيء بالشيء فرعٌ على وجودهما وتحقّقهما، فيلزم أن يكون لكلّ من الماهيّات وجودٌ خاصّ متقدّم على انتسابها إليه تعالى وتعلّقها به، إذ لا شُبهة في أن معانيها غير معنى التعلّق بغيرها، فإنّا كثيراً ما نتصوّر الماهيّات ونغفل عن ارتباطها الى الحقّ، وهذا الكلام لا يجرى في الوجودات، إذ يمكن لأحدٍ أن يدّعى انّ هوياتها تعلّقية، كما سنكشف على من هو أهلُه.

الرابع: قوله: الوجود واحدٌ والموجود كثيرٌ، هوسٌ محض لأنه إذا كان معنى الوجود أمراً نسبيّا عنده، فلا فرق بين مذهبه ومذهب من يَرى انّ الوجود أمرٌ عام مصدري انتزاعي، إلا بأنه سمّى المعنى الانتزاعي بالإنتساب الى الجاعل، فالقول بأنّ الوجود على هذه الطريقة واحدٌ شخصيّ، والموجود كليّ متعدد دون الطريقة الأخرى، تحكّمٌ محض.

وأما انّ كلمة " لا هو إلاّ هو " لا يدل على ما قرره في مسألة التوحيد، فذلك بوجهين.

أحدهما: إنّ غاية ما ذكره، أن شيئاً من الماهيّات لم يكن ماهية قبل الجعل والتأثير، فبقدرته تعالى صارت الماهيّات ماهيّات، ولا تقرّر لشيء منها إلاّ بتقريره كما ذكره وأين هذا المعنى من معنى " لا هو إلاّ هو " إلا أن يرتكب حذف وإضمار وقيل: معناه لا هو بلا جعل وتأثير إلا هو، وهذا أمرٌ لا يحتاج الى مزيد تقرير، إذ لا شُبهة لأحد من العقلاء المعتبرين فيه إلاّ المعتزلة القائلة بثبوت الماهيّات بلا جعل، فإنّ الحكماء سواء ذهبوا الى أن أثر الفاعل هو الماهيّة، أو ذهبوا الى أنّه الموجوديّة، متّفقون على أن الماهيّة قبل الجعل غير حاصلة، إلا انّ إحدى الطائفتين قالت: إنّ الماهيّة مجعولة أولاً، والوجود تابعٌ لها في الجعل، والأخرى قالت: إن صيرورة الماهيّة موجودة أثر الجاعل، والماهيّة تابعة له كما هو المشهور من توابع المشّائين.

وما أورده هذا القائل عليهم من أن الوجود أيضاً ماهيّة، فيجب أن لا يكون مجعولاً واقعاً بتأثير الفاعل، مما علمتَ حالَه من تضاعيف أحوال الوجود وكذا قوله فإن التزموا ذلك وقالوا: الواقع بتأثير الفاعل هو موصوفيّة الماهيّة بالوجود، فهي إن لم تكن مفهوماً مغايراً لهما امتنع استنادها الى الفاعل، وإن كان مغايراً فلا بد أن يكون له ماهيّة، فيعود الكلام انتهى.

-21-

وذلك لأن مذهب هؤلاء، هو إنّ مفاد الجعل وأثرُ الجاعل هو صيرورة الماهيّة موجودة، أي هذه الهيئة التركيبيّة، لا أنّ شيئاً من الماهيات ولا الوجود أثره، ولا ماهيّة هذه الصيرورة أيضاً اثره، لأنها مستغنية عن الجعل، وهذا مِثْل أن يقال: إنّ التصديقَ عبارة عن نحو إذعان أنّ زيداً قائم مثلاً، فكما إنّ التصديق ليس بتصوّر المحكوم عليه، ولا تصوّر المحكوم به ولا تصوّر النسبة بل الهيئة الإذعانيّة على الوجه الذي يكون الموضوع متلبّساً بالمحمول، فمفاد التصديق اعتقاد أنّ زيداً قائمٌ، لا تصوّر هذا الإذعان، ولا تصوّر قيام زيدٍ، لأنهما من باب التصوّر ولا تصور زيد قائم، لما ذكرنا، بل إدراك النسبة على أنّها نسبة وعلى أنها معنى حرفي، لا على أنّها معنى اسميّ منسوب أو منسوب اليه.

فهكذا قولهم في كون أثر الجاعل اتّصاف الماهيّة بالوجود، فمفاد الجعْل في الخارج عندهم كمفاد التصديق في الذهن، فاندفع النقض الذي أورده عليهم عنهم، سواء كان مذهبهم صحيحاً أو فاسداً.

الوجه الثاني: إنّ ضمير " هو " وسائر الضمائر كأنا وأنت وغيرها، ليس معانيها إلاّ أنحاء الوجودات، والدليل عليه أنّ كلمة " هو " - الذي كلامنا فيه - لو كانت موضوعة لغير الوجود الخاص فهي إمّا موضوعة لماهيّة مخصوصة، فيجب أن لا يطلق على غيرها وتتبادر هي الى الفهم عند الاطلاق بعد العلم بوضعها إيّاها، والواقع بخلافه؛ وإمّا موضوعة لجميع الماهيات بوضع واحد، فهو ظاهر البطلان، وإلا فينبغي أن يتبادر الى الذهن عند الإطلاق، وليس كذلك، وإما موضوعة لماهيّات متعدّدة غير متناهية بأوضاع متعدّدة غير متناهية، وهو ظاهر البطلان أيضاً، ولا انّها موضوعة لماهيّة ما من حيث هي، وإلاّ لم يفهم منها ماهيّة مخصوصة، إذ العامّ لا دلالة له على الخاصّ، والواقع خلافه، ولا أيضاً يصحّ أن يقال إنّها موضوعة لماهيّة ما بشرط كونها غائبة، وإلاّ لزم أن لا يفهم من كلمة " هو " إلاّ هذا المفهوم، بل الحق انّ الضمائر كلّها: كهو وأنت وغيرهما، وكذا أسماء الإشارات كلّها: كهذا وذلك وغيرهما، موضوعة لأنحاء الهويّات الوجوديّة، إذ الوجود حقيقة واحدة، وله أفراد وأعداد متمايزة الأشخاص؛ يصحّ أن يتصوّرها الواضع من جهة وحدة حقيقتها المشتركة، ويضع الإسم لأفرادها الخاصّة بحسب أوصافها الوجوديّة التي حكمها حكم أصل الوجود في وحدتها وتعدّدها.

وهذا معنى قولهم في أسماء الإشارة: إنّ الوضع فيها عامّ والموضوع له هو الخصوصيات؛ فعلى هذا " لا هو " لا يدل على نفي الماهيّة، بل على نفي الهويّة.

لا يقال: الماهيّة مشتقّة من الهويّة، لأنّها مأخوذة من " ما هو " وهو السؤال عمّا به الشيء هو هو، فيكون كلاهما مشيراً الى شيء واحد، فلا فرق بينهما بحسب جوهر اللفظ ومادّته اللغوية.

-22-

قلنا: الفرق بأن " هو " عبارة عن الوجود الشخصي و " ما هو " سؤال عن طلب ذاتيّاته، وهي المعاني الكليّة المتّحدة به في مرتبة وجوده الذاتي، الصادقة عليه بحسب تلك المرتبة فيما له ماهيّة غير الهويّة، فمدلول " هو " غير ما وقع في جواب " ما هو " ، لأنّه من المطالب الكليّة، فهما متغايران معنىً، ولهذا افترقت الهويّة عن الماهيّة في الواجب تعالى، وكذا في الهويّات الوجوديّة بما هي هويّات في العلم الحضوري الشهودي فافهم واغتنم.

الفصل الرابع

في الاشارة الى لمعة من لوامع علم التوحيد الخاصي

إنّ لنا بإعلام الله وإلهامه برهاناً شريفاً على هذا المطلب الشريف، الذي هو الوجهة الكبرى لأهل السلوك العلمي محكماً في سماء وثاقته التي ملئت حرساً شديداً وشُهُباً، لا يصل إليه لمس شياطين الأوهام، ولا يمسّه القاعدون منه مقاعد للسمع، إلا المطهّرون من أرجاس الجاهليّة المكتسبة من ظلمات الأجسام.

بيانه: أن الواجب تعالى، لمّا كان منتهى سلسلة الحاجات والتعلّقات، فليس وجوده متعلّقاً بشيء متوقّفاً على شيء، فيكون بسيط الحقيقة لا ينقسم في وجود ولا في عقل ولا في فهم، فذاتّه واجب الوجود من جميع الجهات، كما أنّه واجب الوجود بحسب الذات، فليس فيه جهة إمكانيّة ولا امتناعيّة، وإلاّ لزم التركيب بوجه من الوجوه، المستدعي للإمكان. فإذا تقرّرت هذه المقدّمة التي مفادها أنّ كلّ وجود وكلّ كمال وجود يجب أن يكون حاصلاً لذاته، فايضاً عنه، مترشّحاً على غيره، كما قال

{ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } [غافر40: 7]

وهما عين ذاته، فلو كان في الوجود إله غيره فيكون لا محالة منفصل الذات عنه، لاستحالة أن يكون بين الواجبين علاقة وجودية، وإلاّ لزم معلوليّة أحدهما، وهو خرْق الفرْض، فلكلّ منهما على الفرض المذكور مرتبة من الكمال الوجودي ليس للآخر، ولا منبعثاً منه، فايضاً من لدنه، فيكون كلّ منهما عادماً لكمال وجودي، فذاته حينئذ لا تكون محض حيثية الفعليّة والوجوب، بل يكون ذاته بذاته مصداقاً لحصول شيء وفقْد شيء آخر، فلا يكون بسيط الحقيقة خالصاً بل مزدوجاً، والازدواج ينافي الوجوب الذاتي كما مرّ.


ومن هنا ظهر أن كلّ بسيط الحقيقة يجب أن يكون كلّ الوجود وكلّه الوجود، كما يعلمه الراسخون في العرفان.

وبالجملة، فواجب الوجود يجب أن يكون من فرط التحصيل وكمال الفعليّة جامعاً لجميع النشئآت الوجودية، فلا مكافئ له في الوجود، ولا ثاني له في الكون، ولا شبيه له ولا ندْبل ذاتُه من تمام الفضيلة يجب أن يكون مستند جميع الكمالات، ومنبع كلّ الخيرات، فيكون بهذا المعنى تاماً وفوق التمام، فهذا هو بيان التوحيد الخاصّي، أي نفي المشارك في الوجوب، وقد انجرّ الى التوحيد الأخصّي، وهو نفي المشارك في الوجود.

الفصل الخامس

في أن الباري هو الحق وكل ما سواه باطل دون وجهه الكريم

بيانه: أنّ العليّة والمعلوليّة - كما ثبت وتقرّر - لا يكونان إلاّ في نفس الوجود لِمَا علمت انّ الماهيات لا تأصّل لها في الكون ولا في الجعْل، وعلمت أيضاً أنّ هويّة الشيء وذاته هي عين نحو وجوده الخاص به، فالجاعل جاعل بنفس وجوده، والمجعول مجعول بنفس وجوده جعلاً بسيطاً، لا بصفة زائدة على نفس هويّته الوجوديّة.

-23-

فإذا تقرّر هذا فنقول: لمّا كان كلّ موجود معلول فهو في حد ذاته متعلّق بغيره ومرتبط به، فيجب أن تكون ذاته الوجودية ذاتاً تعلقيّة ووجوده وجوداً تعلقيّاً.

لا بمعنى انّه شيء وذلك الشيء موصوف بالتعلّق، بل هو بما هو هو عين معنى التعلّق بشيء والانتساب إليه، وإلاّ فلو كانت له هويّة غير التعلّق والافتقار الى الجاعل، ويكون التعلّق والافتقار زائدين على ذاته، فلم يكن ذاته بذاته متعلّقاً بفاعله مجعولاً له، فيكون المجعول بالذات شيئاً آخر، وهو خلاف المقدّر، ويكون هذا المفروض مجعولاً مستقل الحقيقة غير متعلّق الهويّة بفاعله. فإذا ثبت أنّ كل علّةٍ علّة بذاتها، وكل معلولٍ معلول بذاته، وثبت انّ ذات الشيء هي وجوده، وانّ الماهيّات امور كليّة اعتباريّة منتزعة من أنحاء الوجودات بحسب هويّاتها، فينكشف انّ المسمّى بالمعلول، ليست هويّته أمراً مبايناً لهويّة علّته المفيضة، ولا يمكن للعقل أن يشير في المعلول إلى هويّة منفصلة عن هويّة موجده، حتّى يكون هناك هويّتان مستقلّتان في الإشارة العقليّة إحداهما مفيضة والأخرى مفاضة، وإلاّ لم تكن ذاته بذاته مفاضة.

نعم للعقل أن يشير إلى المهيّات والأعيان الثابتة، لعدم تعلّقها بذواتها إلى علّة فاعلة، فإذن المجعول بالجعل البسيط، لا ذات له مباينة لذات مبدِعه، فإذا ثبت تناهي سلسلة الموجودات إلى حقيقة واحدة بسيطة، ظهَر انّ لجميع الموجودات حقيقةً واحدة، ذاته بذاته وجود وموجد وهو بحقيقته محقّق الحقائق، وبسطوع نوره منوّر ماهيّات السموات والأرض، فهو الحقيقة والباقي شؤونه، وهو الذات وغيره أسماؤه، وهو الأصل وما سواه أطواره وفروعه وحيثياته.

فعلى هذا يتبيّن وينكشف معنى ما ورد في الأذكار الشريفة الإلهية: يا هو، يا من هو يا من لا هو إلا هو، إذ قد ثبت أنّ الهويّات الوجوديّة التي بعد مرتبة الهويّة الإلهية، كما لا يمكن حصولها في الخارج منحازةً عن الذات الأحديّة، بل هي مقوّمة قوامها ومقرّرة حقائقها، كذلك لا يمكن للعقل أن يشير إليها إشارة عقليّة أو حسيّة، بحيث تنالها الإشارة منحازة عن الإشارة إلى قيّومها الأحدي، بل هو المشار إليه في كل إشارة، ولا إشارة إليه فيكون محدوداً وهو المشهود في كل شهود ولا شهادة، وهو المنظور بكل عين، ولا نظر إليه فيكون محاطاً به، وهو المسموع بكل سمْع، ولا جهة له، وهو المعقول بكلّ عقل ولا اكتناه به،

-24-

{ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ ٱللَّهِ } [البقرة2: 115].

فهو في كل مكان بلا مكان، وهو في كل زمان بلا زمان، فلا كيْف لذاته، ولا علْم بصفاته، ولا حين لزمانه، ولا كنْه لشأنه، ولا حيث حيث هو، ولا أين أين هو، ولا متى حين هو، فهو هو، ولا هو إلاّ هو، ولا هو بلا هو إلاّ هو، ذلكم الله ربّكم خالق كل شيء لا إله إلاّ هو.

وصلّى الله على سيّد الورى محمد المصطفى وآله مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى.

فصل

[الرحمن والرحيم]

الرَحمان؛ فَعلان، من رَحِم، كغَضْبان وسَكْران من غَضِب وسَكَر والرحيم؛ فعَيلٌ منه ايضاً، كمَريض وسَقيم من مرِضَ وسَقم، فهما اسمان بُنيا على صيغتين من صيَغ المبالغة. وفي الفعلان من المبالغة ما ليس في الفعيل، يدل عليه زيادته في البناء، كما في كبار وكبّار وشُقدُف وشِقِنداف، ولذلك يقال تارةً: يا رحمن الدنيا والآخرة، ورحيم الدنيا هذا بحسب الكيفية، ويقال تراة: يا رحمن الدنيا ورحيم الآخرة، هذا بحسب الكميّة، لأنّ رحمة الدنيا تعمّ المؤمن والكافر، ورحمة الآخرة تخصّ المؤمن، والرَّحْمٰن من الصفات الغالبة كالدَبَران والعَيُّوق والصَعِق ولهذا لم يستعمل في غير الله، كما انّ الله من الأسماء الغالبة. وإطلاق بني حنيفة رحمٰن اليمامة على مُسيلمة، وقع من باب التعنّت في كفرهم، والسبب في ذلك أنّ معناه الحقيقي الأصلي: البالغ في الرحمة غايتها، وهذا المعنى لا يكون صادقاً في حقّ غير الله، لأن ما سواه وإن فُرض كونه راحماً فليست رحمته بالغةً حدّ الغاية، وهو ظاهر، لأنّ من عداه ناقص استفاض الرحمة منه أولاً، ثمّ أعطى شيئاً مما استفاضه، والحقّ الحقيق بالإذعان، إنّ اطلاقه على غيره مجاز رأساً بوجوه:

الأول: أنّ الجود إفادة ما ينبغي لا لعوضٍ، وكل أحد غير الله لا يعطي شيئاً إلاّ ليأخذ عوضاً. لأنّ الأعواض والأغراض بعضها جسمانيّة، وبعضها حسيّة، وبعضها خياليّة وبعضها عقليّة.

فالأول: كمن أعطى ديناراً ليأخذ ثوباً.

والثاني: كمن يُعطى المال لطلب الخدمة أو الإعانة.

والثالث: كمن يعطيه لطلب الثناء الجميل.

والرابع: كمن يعطيه لطلب الثواب الجزيل، أو لإزالة حبّ الدنيا، أو الرقّة الجنسيّة عن قلبه. وهذه الأقسام كلّها أعواض، فيكون ذلك الإعطاء بالحقيقة معاملةً ومعاوضةً ولا يكون جوداً ولا هِبةً وإعطاء، وأما الحقّ تعالى، فهو لمّا كان كاملاً في ذاته وصفاته، فيستحيل أن يعطي شيئاً ليستفيد به كمالاً، فهو الجواد المطلق والراحم الحقّ.

واعلم: أنّ هذا إنّما يتمّ على مذهب أهل الحقّ، القائلين بأنّه تعالى تامّ الفاعليّة بحسب ذاته وصفاته، لا يعتريه قصد زائد ولا لفعله غاية سوى ذاته، وكان صدور الأشياء منه على سبيل العناية والفيض، دون القصد والرويّة، كما زعمَه الأكثرون، تعالى عنه علواً كبيراً.

الثاني: إنّ كلّ ما سواه ممكن الوجود بحسب ماهيّته، والممكن مفتقر في وجوده إلى إيجاد الواجب إيّاه ابتداء، إذ إمكان الشيء علّة احتياجه إلى المؤثّر الواجب، كما بُرهن عليه في مقامه، وكلّ رحمة تصدر من غير الله فهي إنّما دخلت في الوجود بايجاد الله، لا بايجاد غير الله، إذ ليس لغيره صفة الايجاد، بل إنّما شأن غيره الإعداد والتخصيص في الاستناد، فيكون الراحم في الحقيقة هو الله.

-25-

الثالث: إنّ فلاناً يعطى الحِنطَة مثلاً ولكن لا يقع الانتفاع بها ما لم تحصل المعدة الهاضمة للطعام، والشهوة الراغبة إلى أكله، والقوى الناهضة لذلك، والآلات المعدّة لنقله وطَحْنه وعَجْنه وطبْخه وغير ذلك، وما يتوقّف عليها من الخشَب والحديد والنجّار والحدّاد، والأرض التي يقومون عليها، والهواء الذي يتنفسّون به، والفلَك الذي يحدّد جهات أمكنتهم وأزمنتهم، والكواكب التي تنوّر في الليل والنهار بحركاتها أكنافهم، وتسخّن أطرافهم، وتنضج حبوبهم وأثمارهم التي يتغذّون بها، والملائكة الذين يدبّرون السموات ويحرّكون الكواكب كالشمس والقمر وغيرهما على سبيل المباشرة، والملائكة العلويّة الذين يدبّرون هذه الملائكة على سبيل التشويق بالوحي والإعلام، فما دام لم يخلق الله هذه الأشياء لم يحصل الانتفاع بتلك الحِنطة، فخالق الحنطة تلك والممكّن لنا من الانتفاع بحفظ هذه الأسباب حتّى يحصل الانتفاع، هو الراحم.

فصل

[تقديم الرحمن على الرحيم]

قيل في تقديم " الرحمن " على " الرحيم " والقياس يقتضي في ذكر النعوت الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، كقولهم: فلان عالِم نِحرير، وفلانٌ شجاع باسل، إنّه لما صار كالعلَم - كما مرّ - يكون أولى بالتقديم. أو لأنّ الرحمن لمّا دلّ على عظائم النِعَم وجلائلها وأصولها، ذكر الرحيم ليتناول ما خرَج منها، فيكون كالتتمّة والرديف. وإنّما وقعت التسمية بهذه الأسماء دون غيرها، ليدلّ على أن الحريّ بالاستعانة به في مجامع المهمّات هو المعبود الحقيقي الذي هو مولى النِعَم ومبدأ الخيرات كلّها عاجلها وآجلها، وجليلها وقيقها، ليتوجّه العارف بجميع قواه ومشاعره إلى جناب القدس، وينقطع نظره عن ما سواه، ويشغل سرّه بذكر مولاه، والاستمداد به في مقاصد أولاه وأخراه.

واعلم: أنّ الأشياء أربعة أقسام: الضروري النافع، والنافع الغير الضروري، وعكسه، والذي لا ضرورة فيه ولا نفع.

أمّا الأول: فهو إمّا في الدنيا فكالتنفّس، فإنّه لو انقطع منك لحظه واحدةً مات القالب، وإما أن يكون في الآخرة، فهو معرفةُ الله، فإنّها إن زالت عن القلب لحظةً واحدةً مات القلب واستوجب العذاب الدائم.

وأمّا الثاني: فهو كالمال في الدنيا وساير العلوم في الآخرة.

وأمّا الثالث: فهو كالمضارّ التي لا بد منها، كالموت والمرض والهرم والفقر، ولا نظير لهذا القسم في الآخرة، فإنّ منافع الآخرة لا يلزمها شيء من المضارّ.

واما الرابع: فهو كالفقر في الدنيا، والجهل، والعذاب في الآخرة.

إذا عرفت هذا فنقول: قد ذكرنا أنّ النَفَس في الدنيا ضروري نافع، وبانقطاعه يحصل الموتُ، وكذا المعرفة في الآخرة، فلو زالت عن القلب لحظة لهلك، لكن الموت الأول أسهل من الثاني، لأنه لا يتألّم فيه إلاّ ساعة واحدة، وأما الموت الثاني، فإنّه يبقى عذابه أبد الآباد.

-26-

وكما انّ النَفَس له أثران: ادخالُ النسيم الطيّب على القلب، وإبقاء اعتداله وسلامته، وإخراجُ الهواء الفاسد المحترق عن القلب، كذلك الفكر له أثران، أحدهما: ايصال نسيم البرهان إلى القلب الحقيقي، وإبقاء اعتدال الايمان والمعرفة عليه، والثاني: إخراج الأهوية الفاسدة المتولّدة من الشبهات عنه، وما ذلك إلاّ بأن يعرف انّ هذه المحسوسات متناهية في مقاديرها تنتهي بالأخرة الى الفناء بعد وجودها، وأنّ وراء هذا العالم عالمٌ إليه مرجع نفوسنا المطهّرة عن شوائب الأدناس والأرجاس، ليس في ذلك العالَم دثور ولا فناء، بل كلّه حياة وبقاء. ومن وقَف على هذه الأحوال بقي آمِناً من الآفات، واصِلاً الى الخيرات والمبّرات، وبكمال معرفة هذا الأمر، ينكشف لعقلك انّ كلّ ما وجدته ووصلتَ إليه فهو قطرة من بحار رحمة الله، وذرّة من أنوار إحسانه، فعند ذلك ينفتح على قلبك معرفة كون الله تعالى رحماناً رحيماً، وانّه مبدأ الخيرات كلّها ومعطي جلائل النعم ودقائقها، وسوابق المنافع ولواحقها.

فصل

[اتصافه تعالى بالرحمة]

قد ذكر في توجيه وصفه تعالى بالرحمة، ومعناها التعطّف والحُنُوّ، ومنها الرحِم لانعطافها على ما فيها، انه مجاز عن إنعامه على عباده، وقيل: إنّ أسماء الله تعالى إنّما اخذت باعتبار الغايات التي هي الأفعال والآثار، لا باعتبار مباديها التي تكون انفعالات، هذا غاية ما حصل لأصحاب الأنظار من العلم بمثل هذه الأسماء والصفات.

واعلم انّ هذا العلم أيضاً مما خصّ الله به أهل الاشارة دون العبارة، إذ ما ذكروه يؤدّي إلى فتح باب التأويل في أكثر ما ورد في أحوال المبدأ، وقد مرّ في مفاتيح الغيب شيء مما يتعلق بهذه المسألة.

واعلم أنّ جمهور أهل اللسان، لمّا صادَفوا بالاستقراء جزئيّاتِ ما يطلق عليه اسم النار في هذه الدار حارّة، حكموا بأنّ كلّ نار حارّة، ولكن مَن انفتح على قلبه باب الى الملكوت، فربما شاهد نيرانات كامنة في بواطن الأمور، تسخّن الأشياء تسخيناً أشدّ من تسخين هذه النار المحسوسة، ومع ذلك ليست متسخّنة ذات حرارة، وهي كقوّة الغضب وما فوقها، كالنفس وما فوقها، كقهر الله، فالحكم بأنّ كل نار حارّة على عمومه غير صحيح عنده، وكذلك لما شاهدوا في هذا العالَم كلّ محرك لشيء متحرّكاً، وكلّ فاعل لشيء متغيّراً في فاعليّة، حكمَوا بأنّ كلّ محرّك متحرّك، وكلّ فاعل لشيء فاعل بعد ما لم يكن، وعند التحقيق والعرفان، ظهر أن ما زعموه مخالف للبرهان، وكذلك أشياء كثيرة من هذا القبيل.

والسر في الجميع، انّ موجودات هذا العالَم كلّها، لنقصانها في درجة الموجودية، ونزولها في أقصى مرتبة النزول والخسّة تصحبها أعدام وقوى وانفعالات من جهة المادة الجسميّة، فمبادي أفاعليها لا تنفكّ عن انفعالات، وليس هنا فاعل غير منفعل، ولا مؤثّر غير متأثّر، ولا معط غير آخذ، ولا راحم غير مرحوم، وهذا انما هو بحسب الاتّفاق، لا أنّ هذه الأفاعيل داخلة في مفهوماتها تلك الانفعالات.

-27-

فقول أهل الحجاب وأصحاب الارتياب: كلّ كاتب متحرّك الأصابع، وكل فَلَك متحرّك، ليس عند أهل المشاهدة صحيحاً، بل كلّية هذه القضايا عندهم ممنوعة بل ممتنعة، إذ مفهوم الكاتب هو المصوّر للمعاني والمنقّش للحقائق، وليست حركة الأصابع داخلة في مفهومه، ولا من شرطه تحريك الأنامل، فربّ كاتب عندهم كالكرام الكاتبين لم تتحرّك أصابعه عند الكتابة، بل ثمَّ كاتب لم تتغيّر ذاته ولا صفاته ولا كتابته وفعله، وهو الذي كتبَ على نفسه الرحمة، تعالى ذاته وصفاته وقضاؤه عن التبديل والتحويل، كما قال:

{ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ ٱللَّهِ تَحْوِيلاً } [فاطر35: 43].

وكذا في الوجود أفلاك نوريّة عقليّة يعرفها أهل الله، غير متحرّكة ولا ذات وضع هي السموات العلى، وكذا في الوجود أرض بيضاء نيّرة ليست كهذه الأرض. كدِرة ثقيلة يابسة ذات لون غبراء يعرفها الربّانيون من الحكماء، كما ورد في الحديث: إن لله أرضاً بيضاء مسيرة الشمس فيها ثلاثون يوماً، هي مثل أيام الدنيا ثلاثون مرّة، مشحونة خلقاً لا يعلمون أنّ الله يُعصى في الأرض، ولا يعلمون أنّ الله خلَق آدم وإبليس.


وإليه الإشارة بقوله تعالى

{ يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [إبراهيم14: 48]

فكذلك حكم الراحم حيث تصحبه ها هنا رقّة القلب لخصوصية المادّة، لا لضرورة المعنى الموضوع له، ألا ترى أنّ أفاعيل الإنسان - سيّما النفسانية - صادرة من النفس، وإطلاق الأسماء المشتقّة منها عليها على سبيل الحقيقة دون المجاز؟ فإذا نسبت الرحمة إلى النفس وحكم عليها بأنّها راحمة، لم يكن عند أهل اللغة مجازاً، مع أنّها جوهر غير جسماني، فاستقم في هذا المقام، فإنّه من مزالّ الأقدام، وكن متثبّتاً على صراط التحصيل، غير منحرف إلى جانبي التشبيه والتعطيل، والله الهادي إلى سواء السبيل.


مكاشفة

اعلم أن رحمة الله وسِعَت كل شيء وجوداً وماهيّة، فوجود الغضب ايضاً من رحمة الله على عين الغضب، فعلى هذا سبقت رحمتُه غضبَه، لأنّ الوجود عين الرحمة الشاملة للجميع، كما قال سبحانه:

{ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [الأعراف7: 156]

ومن جملة الأعيان والماهيّات التي نالتها كلهال الرحمة الوجودية هو عين الغضب والانتقام. فبالرحمة أوجد الله عينَ الغضب فيكون أصله خيراً وكذا ما يترتّب عليه من الآلام والأسقام والبلايا والمحن وأمثالها مما لا يلائم بعض الطبائع، وإليه أشار عليه وآله السلام بقوله: الخيرُ كلّه بيديك والشرَّ ليس اليك. ومن أمعن النظرَ في لوازم الغضب من الأمراض والآلام والفقر والجهل والموت وغير ذلك، يجدها كلّها بما هي أعداماً أو أموراً عدميّة معدودة من الشرور وأما بما هي موجودات فهي كلّها خيرات فائضة من منبع الرحمة الواسعة والوجود الشامل لكل شيء فعلى هذا يجزم العقل بأنّ صفة الرحمة ذاتيّة لله تعالى وصِفَة الغضب عارضيّة ناشية من أسباب عدميّة.


-28-

إمّا لقصور الوجودات الإمكانية عن الكمال بحسب درجات بُعدها عن الحقّ القيّوم أو لعجز المادّة عن قبول الوجود على الوجه الأتم فينكشف عند ذلك انّ مآل الكلّ إلى الرحمة كما ورد في الحديث فيقول الله: شفعت الملائكةُ، وشفع النبيّون، وشفع المؤمنون، ولم يبق إلا أرحم الراحمين.

قال الشيخ العربي في الفتوحات المكية: واعلم أنّ الله يشفع من حيث أسماؤه، فيشفع اسمه أرحم الراحمين عند اسمه القهّار وشديد العقاب ليرفع عقوبته عن هؤلاء الطوائف. فيخرج من النار من لم يعمل خيراً قط، وقد نبّه الله تعالى على هذا المقام فقال

{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم19: 85]

فالمتّقي إنّما هو جليس الاسم الإلهي الذي يقع منه الخوف في قلوب العباد، فسمّي جليسه متّقياً منه، فيحشره الله من هذا الاسم إلى الاسم الذي يعطيه الأمان ممّا كان خائفاً منه، ولهذا يقول (صلى الله عليه وآله) في باب الشفاعة: وبقي أرحم الراحمين. فهذه النسبة، تنسب الشفاعة الى الحقّ من الحقّ من حيث أسماؤه. انتهى كلامه.


حكى الشيخ العراقي في رسالته المسماة باللمعات انه: سمع أبو يزيد البسطامي هذه الآية:

{ يَوْمَ نَحْشُرُ ٱلْمُتَّقِينَ إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [مريم19: 85]

فشهق شهقة وقال: من يكون عنده كيف يحشره إليه. وجاء آخر فقال: من اسم الجبّار إلى اسم الرحمن ومن القهّار الى الرحيم. انتهى.


أقول: إنّما أشار العراقي بقوله: وجاء آخر: إلى الشيخ المذكور الذي نقلنا كلامه المشار إليه سابقاً.

واعلم أنّ معرفة أسماء الله تعالى علم شريف ذوقي، ومشرب عظيم دقيق، قلّ مِن الحكماء من تفطّن بعلم حقائق الأسماء، إلاّ من كوشف بكون وجوده تعالى بأحديّته الجمعيّة كل الموجودات قبل حصولها، وانّ عالم أسمائه عالَم عظيم الفسْحة، فيه صوَر جميع الأعيان والماهيّات، وسنذكر نبذاً من هذا المقام في مستأنف الكلام، عند بيان قوله تعالى:

{ وَعَلَّمَ آدَمَ ٱلأَسْمَآءَ كُلَّهَا } [البقرة2: 31]

فانتظره موفقاً انشاء الله.


-29-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس