عرض مشاركة واحدة
 
  #57  
قديم 12-09-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق 21-30 من 45

تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق 21-30 من 45




وقيل الحمد لله وأحمد الله ونحوه حمد شرعى لا لغوى، أعنى أنه وضع للإنشاء كما وضع بعت واشتريت لإنشاء العقد، فيترتب عليه فوائد الحمد اللغوى، وإن لم يصدق التعريف عليه، وهذا على الاحتمال غير بعيد، وأما على الاعتماد والظن فلا يكونان إلا عن دليل، والذى يعلم من الشرع أنه اكتفى به فى مقام الحمد، ومنهم من قال الحمد ها هنا بمعنى المحمود به، فكأنه قيل الكمال لله، ولا يخفى أن ذلك إنما يظهر فى الجملة الاسمية، وأما إذا قيل أحمد الله فمعناه أنسب الكمال إلى الله وأصفه به فلا يفيد إلا دعوى الفصل فيرد عليه الإشكال السابق، وجعل المصدر بمعنى المحمود به ما أشفى العليل ولا أروى الغليل إلا أن يكون لإنشاء النسبة، وقيل لم يرد بذلك إلا إظهار محمودية الله وحامدية العباد ولا يلزم أن يكون حمداً وهو المراد حيث أمر به الشارع وهو منسوب إلى الشيخ عبد القاهر، ويلزم من ذلك فى نحو أحمد وتحمد أن يكون هناك حمداً جزاء ويكون فى اللفظ تجوز بعيد. والله أعلم.

وجملة الحمد خبرية لفظاً إنشائية معنى، لأن الإنشاء ما قارن لفظه معناه أو تبقت الحرف الأخير منه على الخلاف فى ذلك، والقصد من هذه الجملة إنشاء الحمد، ولا شك أن المراد من الإتيان بجملة الحمد لم يكن موجوداً قبل وجودها من الحامد حتى يكون مخبراً بذلك، ولهذا اشتق له اسم الحامد، ولو كان مجرد خبر لم يشتق له من متعلق إخباره اسم، إذ من لم يقم به الوصف لا يشتق له من لفظ ذلك الواصف وإن تلفظ به فلا يقال لنم قام زيد أو زيد له القائم قائم بخلاف الناطق بجملة الحمد فإنه قام به وصف الحمد المراد من تلك الجملة، وإن كان الأصل فى القصد بالخبر إعلام المخاطب بالحكم الذى هو مضمون الخبر، وقد يقصد به إعلام المخاطب بأن المخبر عالم بذلك والأول يسمى فائدة الخبر. والثانى لازمها كما فى علم المعانى، وكل مهنهما ليس مراداً بمجرده من جملة الحمد، وظاهر كلام المصنف أنه يتعين أن تكون إنشائية، ولكن تقدم أنه يجوز أن تكون خبرية لفظاً ومعنى مع حصول الحمد بطريق اللزوم، إذ الإخبار عن الحمد بأنه مملوك أو مستحق لله يستلزم نسبة مالكية الحمد واستحقاقه إليه، وذلك جميل قطعا، فيكون الوصف به حمداً لا بطريق المطابقة ولعله مراد من دل كلامه على عدم حصول الحمد على تقدير الإخبار، وحينئذ يشكل تعليل شيخ الإسلام كون الجملة خبرية لفظا إنشائية معنى بحصول الحمد بالتكلم بها مع الإذعان لمدلولها، لأنه لا ينتج الإنشائية معنى لحصوله مع الخبرية إلا أن يريد حصول الحمد لها بنفسها، وأما ما قيل من أنه لا بد فى تحقيق الحمد من الإذعان لمدلول الجملة والإخبار لا يستلزمه فلا يتحقق حمد على تقديره، ففى الغاية السقوط لأنه إنما يأتى على أن المراد بالتعظيم الباطنى الاعتقاد، ولأنه لا وجه للفرق فى عدم استلزام المذكور بين الإخبار والإنشاء، وقد علم تحقيق الإنشاء مع عدم الادعاء، بل مع إذعان العدم، ولأن اعتبار الإذعان وعدم لزومه للإخبار لا يسوغ إطلاق منع الإخبار وعدم حصول الحمد على تقديره، بل وزانه وزان سائر المعتبرات فى الحمد كالتعظيم ظاهراً، فغاية الأمر توقف تحقق الحمد على تحققه، وبالغ بعضهم فى إنكار كون الحمد لله إنشاء لما يلزم عليه من انتفاء الاتصاف بالجميل قبل حمد الحامد ضرورة أن الإنشاء يقارن معناه لفظه فى الوجود، وبحث فيه الكمال ابن الهمام بأن الحمد ثابت بلا شك والحامدون كذلك، وبأنه لا يصاغ لغة للمخبر عن غيره من متعلق إخباره اسم، فلا يقال لقائل زيد له القيام قائم، فلو كان الحمد إخبار معنى كما هو لفظ لم يقل لقائل الحمدلله حامد ولا انتفى الحامدون، واللازم من مقارنة معنى الإنشاء للفظة انتفاء وصف الواصف المعين لا الاتصاف، لأن الحمد إظهار الصفات لا ثبوتها، نعم قد يقال يلزم كون كل مخبر منشأ حيث كان واصفاً للواقع ومظهرا له، لكن يدفع هذا بأن الحمد يؤخذ فيه مع ذكر الواقع كونه على وجه ابتداء التعظيم، وهذا لس جزء ماهية الخبر، فاختلف الحقيقتان كظهر أن منشأ الغلط هو الغفلة عن اعتبار هذا القيد جزء ماهية الحمد، إذ بالغفلة عنه ظن أنه إخبار لوجود خارج يطابقه وهو الاتصاف بالجميل ولا خارج للإنشاء، وأنت علمت أن هذا خارج جزء المفهوم وهو الوصف بالجميل وتمامة وهو المركب معه من كونه على وجه ابتداء التعظيم لا خارج له بل هو ابتداء معنى لفظة علة له.

والله أعلم.

-21-

وتقدم أن الحمد مختص بالله ومن حصر فيه تحقيقاً أو مبالغة، لأن كل جميل فهو له ومنه، خلقاً وتمكيناً وتيسيرا، ويبحث بأن أفعال العباد ترجع إلى الله تعالى من جهة الخلق والإقدار وتحصيل الأسباب والتوفيق، ولكن ترجع إلى العبد أيضاً من جهة المباشرة والكسب بعد الإرادة سواء قيل إنه غير مؤثرة، كما هو مذهب أبى الحسن الأشعرى والزاعمين أنهم أهل السنة لو قيل مؤثرة، وهذه الجهة وإن رجعت إلى الله تعالى لأنه خلق القدرة والإرادة وتحصيل الأسباب ورفع الموانع، لأنه ترجع إلى العبد أيضاً لأنه شخص خلق الله تعالى فيه الجميل ومكنه من مباشرته بعد خلق الإرادة وبإرادته ومباشرته يمدح ويثاب ويذم ويعاقب، فيجث بالضرورة أن ترجع إلى العبد بوجه ما يخص به فيحمد باعتبار هذه الجهة، فرجوع الحمد إلى الله تعالى لا يقتضى حصر الحمد فيه.

-22-

وإن قلت لو رجع الحمد إلى الله تعالى باعتبار المذكور لرجع لمصالح وحكم ومنافع لا يرعف تفصيلها إلا العليم الحكيم، وهو وإن تضمن شرا بالنسبة إلى شخص فجهات خيريته أتم أكثر فهو خبر، وإنما المذموم مباشرة المكلف له وإرادته، قال صلى الله عليه وسلم: " والشر ليس إليك " أى ليست شريته من جهة راجعة إليك بالله كالخلق والأقدار. وقيل المراد حصر الاستحقاق والسؤال بحاله والأشكال على منوال، لأنه إذا رجع إلى العبد بوجه فقد استحقه بالجملة ولو كان ضعيفاً وأكثر المتأخرين الناظرين على أن الحصر مبالغة وادعاء. قال بعضهم: وبه صرح السعد فى حاشية الكشاف، والمراد: أن الأفعال لما رجعت إليه وكذا المحامد، أمكن ادعاء الحصر فيه، ويحتمل أن يكون فسر اختصاص الحمد فى الكشاف بأنه لا أحق منه، والمراد أنه أحق من غيره، فالمراد حصراً حقيقة الحمد، لكن القاضى لما قال ذلك أعقبه بقوله: بل لا يستحق فى الحقيقة الحمد غيره، وقال فى له الحمد دل على اختصاصه به فى الحقيقة فعاد الإشكال، ثم إنه قال فى قوله الحمد فى الآخرة: إن النعم الدنيوية قد تكون بواسطة من يستحق الحمد لأجلها، وهو صريح فى أن العبد يستحق الحمد فى الدنيا، فقيل فى رفع المنافاة بين كلاميه أن المنفى الاستحقاق، وبمعنى أنه لازم له لو ترك يكون ظلماً وتجاوزاً عما يجب، فالعبد لا يستحق الحمد عند التحقيق، كما أنه لا يستحق الثواب بطاعته، وإنما ذلك من فضل الله الرحمن الرحيم، فإذا أثبتنا للعبد حمداً أو ثواباً وقلنا باستحقاقه، فعلى معنى تأهله لذلك بمقتضى وعد الله وكون الله - عز وجل - لا يضع الشئ فى غير موضعه، وليس استحقاقاً واجب الأداء شرعاً أو عقلا، بل مناسبة واستحسان، وزعمت المعتزلة أن الثواب لازم وكلا الاستحقاقين حقيقان، فلا حاجة إلى قول القاضى بالحقيقة، اللهم إلا إن أراد بها أن استحقاق العبد للحمد كعدمه، لأن الله هو مولى الخير والجميل، ويحتمل أن يكون قد حمل الاستحقاق فى الحقيقة على ما لم يكن للغير دخل فيه، وهذا ليس إلا لله، فإن كل حمد لغيره فلله الجهة العليا منه وفيه بعد، وتحصل من ذلك أنه يجوز أن يكون غير الله محموداً، لكن الله تعالى هو الكامل فى المحمودية، وقال الدوانى: القصر على الحقيقة فلا محمود حقيقة إلا الله، والإشكال مندفع لأن الحمد مختص بالفعل الاختيارى ولا اختيار لغيره تعالى حقيق، وإنما العبد مضطر فى صورة مختار على ما صرح به السعد فى شرح المقاصد، فيلزم اختصاص الحمد اللغوى، إذ المحمود عليه يجب أن يكون بالاختيار ونسبة الفعل إلى العبد ولو كانت حقيقة، لكن يعتبر فيه الكسب لا التأثير والاختيار الذى هو أنه لا يقع إلا ما أراد، والمعتبر فى مفهوم الحمد الاختيار لا الكسب، فلا يلزم إطلاق الحمد على ما يتعلق بالعبد، والجميل فى قولهم على الجميل صفة للفعل، كيف والمحمود عليه يجب أن يكون وصفاً للمحمود والقائم بالعبد كالصلاة مخلوق لله - عز وجل - لا فعل له ولا مخلوق للعبد، بل فعل للعبد وليس اختياراً له بمعنى أنه لما أراده استحال ألا يقع، لكنه لا يخفى أن الاختيار إما بمعنى أنه لا يصير إلا ما أراد المريد، من حيث إنه إرادة وهو مختص بالله عز وعلا، وإما بمعنى صدور الشئ بعد الإرادة وهو مستعمل فى العرف ومتبادر عند الإطلاق، إذ قيل فعل فلان باختياره أو فلان مختار، والمراد به نفى الخبر والاضطرار وليكن هذا هو المأخوذ فى تعريف الحمد وهو شائع فى اللغة، وشاع فيها حمد غير الله سبحانه، وليس الاختيار بذلك المعنى مجازاً بل حقيقة لغوية وإلا فلا أقل من أن يقال عرفية، والتعريف للمتأخرين المستنبطين لا اللغويين، فلا يقال كيف يستعمل المجاز فى التعريف، بل لو كان مجازاً لم يمتنع التعريف به لأنه مشهور أو لأنه حقيقة عرفية، فليس الحمد معتبرا فيه الاختيار المختص بالله تعالى.

-23-

وأما كون الجميل صفة للفعل، ففيه أن الفعل يجوز إطلاقه على ما ينافى الكسب، ولا يقتضى إلا المباشرة وهو المعنى بقوله تعالى:

{ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } (تكررت إثنان وخمسون مرة)

وهو شائع فى عرف اللغويين وغيرهم، فلا بعد فى إرادته فى التعريف ولا سيما إن أريد الفعل عرفاً، ثم إن الفعل كثيراً ما يطلق على الحاصل من الفعل فيحتمل أن يكون المراد الأعم بعموم المجاز يدل له ما ذكر السعد: أن الحمد على الإنعام أمكن، وهو أيضاً يدل على أن المحمود عليه لا يجب أن يكون وصفاً حقيقياً، ثم إنهم صرحوا بأن الفعل الاختيارى أعم من أن يكون حقيقة أو حكما، وزعم الاختصاص مدع لكن يبقى النظر فى قوله تعالى:

{ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ } (التغابن64: 1)

والظاهر منه الاختصاص حقيقة، ولو لم يكن الاختيار بالمعنى الحقيقى لم يصح الحصر، إذ ليس فى التعريف شئ آخر يقتضى الاختصاص، كذا قيل. ولا يخفى أنه بعد تسليم أنه ليس هنا شئ آخر حقيقة، إنما يتم إذا كان اللام فى الحمد للجنس أو للاستغراق، وكان التقديم للحصر والاختصاص، وكل منهما ممنوع عند النزاع، وكون ذلك هو الأظهر الذى لا ينبغى أن يعدل عنه يحتاج إلى دليل وتفصيل، ولا سيما وقد اشتهر أن الشئ عند الإطلاق يصرف إلى الفرد الكامل، والتقديم ما يكون لتقوية الحكم والاتصاف أن المتبادر من السوق الحصر، وحيث لم يكن عهدا ظاهرا فالمتبادر الجنس أو الاستغراق، والحق أن لا جزم بأحد الوجهين ولا الترجيح التام، ولكل وجه وجهة، أما الحمل على المعنى الحقيقى الأصلى فلأنه المتبادر عند الإطلاق، أى إذا لم يطلق على المتعلق بالعبد، بل من حيث هى ويؤيده قيود التعريف محمولة على الظاهر، وأنه لا يعدل عن المتبادر الظاهر فيها ما لم يمنع عنه مانع، وحينئذ يظهر الاختصاص والاختيار، وإن كان أعم من الحكمى، إلا أنه لما فسر بأن يكون منشأ لفعل اختيارى يلزم ثبوت الاختيار، فلا يصح ممن ليس له اختيار أصلا، وهو الاختيار الذى لا محيد عن مقتضاه، والعبد ليس له هذا الاختيار.


-24-

وأما المعنى الثانى العرفى فلأنه الشائع الذائع بين أهل اللغة والعرف العام، ويؤيده أن التعاريف اللغوية يكتفى فى قيودها بما هو الشائع لا ينظر إلى التدقيقات الحكمية، وأنه قد شاع بين الجمهور حمد غيره تعالى، والمتبادر الحقيقة لا المجاز، وحينئذ لا يتم الاختصاص بمعنى الحصر الحقيقى.

وأما ما قيل من الثانى فى قوة الخطأ ولا يحمل عليه إلا لضرورة، فهو مبالغة لا تعويل عليه، فإن قلنا بالاختصاص الحقيقى فالوجه فى دفع التناقض بين كلامى القاضى أن يقال الاستحقاق والحمد الحقيقيان، وإن اختصا بالله تعالى لكن فى الدنيا قد يرى للعبد أفعال يستحق أن يحمد عليها مجازاً ظاهرا، أو يراد حمده مجازا، أو يراد حمد الله بسبب ما جرى على يده، وبالجملة لما كان له فى الجملة دخل ما فى ظهور المحمود عليه ناسب أن يكون له دخل فى الحمد، وأما فى الآخرة فيظهر أن لا دخل لغيره تعالى، فلا يستحق ذلك القدر العبد، و يقال لما اعتبر فى الحمد الاختيار وليس لغير الله تعالى اختيار حقيقة بل ظاهرا، هذا كله إذا أريد زيادة المناسبة وشدة الخصوصية، وهو الذى يقتضيه لام الاختصاص كما فى قولك الجل للفرس، فلا إشكال فى المقام، لأن الجنس للحمد وكذا لا إفراده خصوصية بالله تعالى لا تكون لغيره، إذا كل كمال أو جمال مضمحل فى جماله ويرجع إليه بوجوه عائدة، وكل اختيار لغيره يعود إلى اضطرار وظاهره يرجع إليه، وكل معظم هو مستحق لما فوقه وذلك يعود إليه، وله تعالى محامد يستقل بها، فللجنس والإفراد زيادة خصوصية، وتعلق به تعالى ولله الحمد أولا وآخرا ظاهرا وباطنا.

{ رَبِّ العَالَمِينَ }: أى مالكهم أو سيدهم أو مصلحهم أو مربيهم أو خالقهم أو معبودهم أو مدبرهم أو جابرهم أو صاحبهم أو ثابتهم، أى الثابت لهم وقريهم، أى القريب إليهم وجامعهم فى أنفسهم وآمرهم أو محيطهم كذلك، أو كثير الخير لهم أو مولى النعم لهم.

-25-

فهذه خمسة عشر معنى، كلها تدل على معنى الحفظ والتربية، وكلها صفات فعل، إلا المالك والسيد والثابت فصفات ذات، وليس لفظ رب مشتقاً من التربية لكنه بمعناه كما علمت، فإن لامه باء موحدة ولامها ياء مثناة تحتية، وهى تبلغ الشئ إلى كماله شيئاً فشيئا.

وإن قلت كيف يدل المالك وما ذكر على التربية والحفظ؟ قلت التزاماً لا مطابقة ولا تضمنا، فإن من شأن من يملك الشئ أن يسعى فى حفظه ونمائه وكذا ما ذكر، ولا يطلق رب على غير الله تعالى إلا مقيداً كقوله تعالى:

{ ارْجِع إِلَى رَبِّكَ } (يوسف12: 50)

وقول الأندلسي:

فسل ربهم أعنى العظيم برومةلماذا أجازوا الغدر بعد أمانة


ولا يقال الرب بأل لغير الله تعالى، ولو لم يكن لبس لقرينة تأدباً وحوطة، ولو جاز بالنظر إلى اللغة وجاز إطلاقه على غيره مجموعاً، كما تقول رب الأرباب، قال الله سبحانه وتعالى:

{ ءَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } (يوسف12: 39)

ولفظ رب فى الأصل مصدر وصف به للمبالغة، كالصوم والعدل وهى مبالغة نحوية وهى الكثرة، وفى ذلك أيضا بلاغة، على ما مر، ولا تنافى المصدرية المعانى السابقة، لأنه استعمل فيها بعد إخراجه عن معنى مجرد ما وضع له، فوصف به حتى كأنه اسم فاعل أو صفة من الصفات، فهو محتمل للضمير، وقيل لا وكذا كل ما ليس صفة إذا جعل نعتاً أو جرياً مجرى النعت، فبطل ادعاء بعضهم المنافاة، وقيل صفة مشبهة من ربه يربه فهو رب كنم الحديث ينمه فهو نم، فوزنه لعل - بفتح الفاء وإسكان العين - يقال ربه بمعنى ساسه وقام بتدبيره، وهو من باب نصر ينصر، ومجئ الصفة المشبهة من هذا الباب عزيز، وإن قلت: كيف تصاغ الصفة المشبهة منه وهو متعد؟ قلت: صيغت منه بعد جعله لازما بنقله إلى فعل - بضم العين - أو بتنزيله منزلة اللازم، بقطبع النظر عن تعلقه بالمفعول وعدم ملاحظة له، لفظاً ولا معنى، إذ لم يذكر ولا نوى حين قيل: هو رب أو نحو ذلك، وقيل اسم فاعل أصله راب بالألف حذفت الألف لكثرة الاستعمال، كما يقال فى بار: بر، لالتقاء الساكنين، لجواز التقائهما إذا كان الأول ألفاً أو واواً أو ياء والآخر مدغماً، وضعف لأنه خلاف الأصل ولا دليل عليه، واختيار بعضهم أن لفظ رب مشترك بين المصدر والصفة لجواز اشتراك اللفظ بين المصدر والصفة، فتحمل الآية ونحوها على المصدر أو على الصفة، فأحد وجهيها الصفة المشبهة أو اسم الفاعل.


والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم والقالب، فيقال لما تنظر فيه المرأة حيضها عالم كما يقال لها علم، وكذا يقال لما يقاس عليه النعل ونحوها ثم غلب على ما يعلم به الصانع - سبحانه وتعالى - وهو ما سواه من جسم وعرض، فان الأجسام والأعراض تدل على وجوده لإمكانها وافتقارها إلى مؤثر واجب لذاته، ومعنى إمكانها أن وجودها جائز لذاتها، ولو وجب بمقتضى قضاء الله وقدره والصانع يعرف بصنعته، لأن الصنعة تدل على الصانع وكل شئ لله سبحانه وتعالى.

-26-

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله صانع كل صانع وصنعته " والعالم مشتق من العلم - بكسر العين وإسكان اللام، لأن الصانع يعلم به وليس كما قال بعض العلماء مشتق من العلامة، من أن تلك الأشياء علامة على الله تعالى، لأن العلامة نفسها مشتقة من العلم - بكسر فسكون - اللهم إلا إن أريد التقرب للأفهام.

وإن قلت: إذا كان العالم اسماً لما سوى الله تعالى فما فائدة جمعه؟ قلت: يطلق العالم على كل فرد فرد وجزء جزء، فزيد عالم وبكر عالم، وكل جزء منهما وإن دق عالم فيجمع ليشمل كل الأفراد والأجزاء، ويطلق العالم على كل نوع نوع، فالناس عالم، والملائكة عالم، والجن عالم، والنمل عالم، والخيل عالم، والجبال عالم، والأرضون عالم، والسماوات عالم، وهكذا فيجمع ليشمل الأنواع، ويطلق ويراد به ما سوى الله عز وجل جميعاً، فيجمع تنصيصاً على الأنواع، فمعنى العالم ما سوى الله جميعاً من غير تعرض للأنواع، ومعنى العالمين جميع الأنواع كالجلوس يدل عن النوع التزاماً، والجلسة يدل عليها مطابقة وتصريحاً، هذا ما تراه منى ولا تراه لغيرى والله أعلم.

وإن قلت ليس علماً لعاقل ولا صفة له، فكيف يجمع جمع سلامة لمذكر؟ قلت: جمع شذوذا من حيث فقد العلمية والوصفية، وقد يقال: اعتبر فيه معنى الدال، فكان كوصف فساغ جمعه قياساً بالتغليب، أو إذا كان العاقل، وأما جهة العقل فقد يقال فيها إنه جمع تغليباً للعاقل على غيره، أو يقال إنه جمع للعالم الذى هو عاقل كالملائكة والناس والجن، وأن أنواع العقلاء هى المرادة فقط، فهذه كما يطلق قائم على العقال ويطلق على غير العاقل، ولا يجمع على قائمين إلا المطلق على العاقل، أو المطلق عليه والمطلق على غيره معاً تغلبياً، هذا ما يظهر لى.

وذكر أبو حيان أن أل للاستغراق وأنه جمع سلامة لعالم الذى هو اسم جنس، وقياسه ألا يجمع وشذ جمعه جمع السلامة المذكور، لأنه ليس علماً ولا صفة ولم يناف ما ذكرته، وقال وذكر ابن مالك فى شرح التسهيل: إلى أن عالمين اسم جمع لمن يعقل وليس جمع عالم، لأن العالم عام للعقلاء وغيرهم، والعالمين خاص بهم، ويعنى الجمع يجب أن يكون أعم من مفرده لا أخص ولا مساوياً. قلت يرده أن عموم العالم كعموم قائم فى العقل وغيره، والمأخوذ فى الجمع هو المستعمل فى العاقل أو فيه مع المستعمل فى غيره معاً تغليباً، كما وعمومه بدلى وعموم العالمين كعموم الرجال شمولى، والعموم الشمولى هو المعتبر فى الجمع، فإذا أخذت العالم فى العاقل وجمعته كان العقلاء الذين شملهم الجمع أكثر من الذين شملهم العالم، وكذا فى التغليب بل أعظم، فاذا فهمت عنى ظهر لك أنه لا حاجة إلى جواب بعض بأن كون الجمع أعم أغلبى، وبأنه يجوز كونه مساوياً، بل ذلك باطل والحق كونه أعم أبدا، وقد قيل المراد فى الآية ذووا العلم فقط الملائكة والإنس والجن، وتناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع، وقيل المراد فيها الإنس فقط، لأن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر فى العالم الكبير من الأجسام والأعراض يعلم به الصانع كما يعلم بما أبدعه فى العالم، ولذلك سوى بين النظر فى الإنس والعالم الكبير، إذ قال:

-27-

{ وَفِي أَنفُسِكُم أَفَلَا تُبْصِرُونَ } (الذاريات 51: 21)

ووجه ذلك أن الإنسان يشتمل على ما فى غيره من الكمال ويزيد عليه بالتمكن والاستنباط والإمداد بالمعارف، واكتساب الخصال الحميدة، وإنما جميع العالم بالياء والنون مع أن الجمع بذلك جمع قلة تنبيهاً على أن الأجناس والأنواع وإن كثرت قليلة فى جنب عظمة الله وكبريائه ومراعاة لأنواع العقلاء وأجناسهم، لأنها قليلة ولو كثرت أفرادهم.


واختلف فى العوالم فقيل ألف عالم أربعمائة فى البر وستمائة فى البحر، وقيل ثمانية عشر ألف عالم، عالم الدنيا كلها عالم واحد، وقيل أربعون ألف عالم، الدنيا واحد منها، وقيل ثلثمائة وستون عالماً، ثلثمائة حفاة عراة لا يعرفون خالقهم، وستون يلبسون الثياب والريش، وقيل ثمانون ألف عالم، أربعون فى البر وأربعون فى البحر.

وقال كعب الأحبار: لا يحصى عدد العالم إلا الله تعالى:

{ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ } (المدثر74: 31)

وقيل المراد فى الآية كل ذى روح دب على الأرض.


وقيل المراد سكان أرض بيضاء مثل الدنيا ثلاثون مرة مملوءة بخلق الله سبحانه، لا يعرفون آدم ولا إبليس.

وقيل المراد ملائكة الأرض وهم ثمانية عشر ألف ملك فى كل ناحية منها أربعة آلاف وخمسمائة، مع كل واحد منهم عدد من إنس وجن، وبهم رفع الله سبحانه العذاب عن أهل الأرض، وقيل رهط من الملائكة فى الجهات الأربع مع كل منهم من الأعوان ما لا يعلم عدتهم إلا الله سبحانه وتعالى، ومن وراء تلك الجهات أرض بيضاء كالرخام، عرضها مسيرة الشمس أربعين يوماً مملوءة بملائكة الله، يقال لهم الروحانيون، لهم زجل بالتسبيح والتهليل، لو كشف عن صورة أحدهم لهلك أهل الأرض من صورته، ومنتهاهم إلى حملة العرش.

وذكر بعض فى الأخبار: أن بنى آدم عشر الجن، وبنى آدم والجن عشر حيوانات البر، وحيوانات البر عشر الطير، والطير عشر حيوانات البحر، وحيوانات البحر عشر ملائكة الأرض، وملائكة الأرض عشر ملائكة السماء الدنيا، وهكذا كل سماء عشر ما فوقها، وملائكة السابعة عشرة ملائكة سرادق واحد من سرادقات العرش التى عددها مائة ألف طول كل منها كعرض السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما، وما مقدار شبر من ذلك إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم لله تعالى، له زجل بأنواع التسبيح والتهليل والتقديس، وكلهم فى الذين يحومون حول العرش كقطرة فى بحر، والعالم الكبير إما ظاهر محسوس وهو ما ظهر للحواس، ويقال له عالم الملك، وهو يكون بعضه من بعض، وإما باطن معقول كعالم الملكوت، وهو ما أوجده الله بالأمر الأزلى بلا تدريج، وبقى على حال واحدة بلا زيادة ولا نقصان، وإما عالم الجبروت، وهو ما بين العالمين مما يشبه أن يكون فى الظاهر من عالم الملك، فجبر بالقدرة الأزلية بما هو من عالم الملكوت، والإنسان ينقسم إلى ظاهر محسوس كالعلم، وإلى باطن كالروح والعقل والإرادة، وإلى ما هو مشابه، وإلى مشابه لعالم الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس والقوى الموجودة بأجزاء البدن.

-28-

ورب نعت للفظ الجلالة أو بدل، وليس البدل أبداً هو المقصود بالحكم، بل هذا غالب، والآية من غير الغالب، بل معنى كونه المقصود بالحكم عندى أنه يقصد تارة بوجه من الوجوه، كقصده هنا ليناسب الحمد، لأن دلالته لبادئ الرأى على الجميل أظهر من دلالة لفظ الجلالة، ويقصد تارة بالحكم وحده بحيث لا يكون الأول إلا تمهيداً له، وليست الآية من هذا، ويجوز كونه عطف بيان للمدح، وقرأه زيد بن على بالنصب على المدح، كذا قال القاضى عطف بيان للمدح، وقرأه زيد بن على بالنصب على المدح، كذا قال القاضى وجار الله، ومثلهما من المحققين، والذى يظهر أن مرادهم أنه منصوب بأمدح محذوف أو بأعنى أو بأخص، وأن وجه المدح على تقدير أعنى إثبات العناية والإعلام بها ولو محذوفة، ولكن المعنى عظيما يعلم ما وصف به وأعلق باسمه، ولو حذف ذلك الذى كان وصفاً أو علق به أو على النداء، أى يا رب العالمين على طريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، أو فعل محذوف دل عليه الحمد، أى أحمد رب العالمين.

وفى قوله { رَبِّ الْعَالَمِينَ } دليل على أن الأشياء محتاجة إلى إبقائه إياها بعد حدوثها، كما احتاجت إلى إحداثها قبل وجودها، فلولاه لم تبق بعد حدوثها، كما أنه لولاه لم تكن، ووجه الدلالة أن الرب بمعنى المربى، أو غير ذلك من معانيه، هو القائم بإبقاء الشئ وإصلاحه حال بقائه.

{ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }: إنما كررها لتعليل استحقاق الحمد، كما وصف برب العالمين لذلك. وكما وصف لذلك بقوله: { مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ } كأنه قيل إن الله حقيق بالحمد لا أحد أحق به منه، ولا يستحقه على الحقيقة سواه، لكونه موجداً للعالمين، مبقياً لهم حال بقائهم، منعماً عليهم بالنعم كلها ظاهرها وباطنها، عاجلها وآجلها، ملكا لأمورهم يوم الثواب والعقاب، فإن ترتيب الوصف على الحكم يشعر بكون الوصف علة للحكم، فالوصف بالربوبية والرحمة والملك بعد الحمد يشعر بأنها علة الحمد فيفهم، ذلك أن من لا يتصف بتلك الصفات لا يكون أهلا للحمد، فضلا عن أن يثبت له الحكم بالعبادة والاستعانة به المذكورين بعد، فالوصف بالربوبية بعد ذكر الحمد لبيان ما أوجب الحمد وهو الإيجاد والتربية والإبقاء، وبالرحمة للدلالة على أنه متفضل بالإيجاد والتربية والإبقاء، مختار فى ذلك لا مضطر ولا موجب عليه ذلك بالذات، ولا يعارض كأعمال الخلق، بل فضل يستحق عليه الحمد.

-29-

وعن سليمان: أن الله تبارك وتعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة، كل رحمة منها طبقاها السماوات والأرض، فأنزل منها رحمة واحدة فيها يتراحم الخلائق حتى ترحم البهيمة بيهمتها، والوالدة ولدها، فإذا كان يوم القيامة جاء بتلك التسعة والتسعين، ونزع تلك الرحمة من قلوب الخلائق، فأكملها مائة رحمة، ثم يصبها على خلقه، فالخائب من خاب من تلك المائة.

وعن الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " " والذى نفسى بيده لا يدخل الجنة إلا رحيم " قالوا: يا رسول الله كلنا رحيم، يرحم الرجل نفسه وولده ويرحم أهله. قال: " لا حتى يرحم الناس جميعاً " " ، والوصف بملك يوم الدين لتحقيق الاختصاص، فإنه لا يشاركه أحد بوجه ما من الوجوه فى كونه ملك يوم الدين، ولتضمين الوعد للحامد والوعيد للكافر المعرض عن، الحمد، وقيل كرر الرحمن الرحيم لأنه لم يذكر فى البسملة من أنعم عليه، وهنا قد ذكره وهو العالمون فى قوله: { رَبِّ العَالَمِينَ } ، وقوله: { الَّذِين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } وليس هذا منافياً لما ذكرته أولا من أنه كررها لتعليل استحقاق الحمد وخصهما بالتكرير تنبها، على غلبة رحمته غضبه، وعلى أن العناية الرحمة أكثر منها بسائر الأمور، فلذلك كررهما دون لفظ الجلالة ولفظ رب ولفظ ملك، وذلك خمسة أسماء مذكورة فى السورة: الله والرب والرحمن والرحيم والملك، كأنه قال خلقتك أولا فأنا إله، ثم ربيتك بإسباغ نعمتى فأنا رب، ثم عصيت فسترت فأنا رحمان، ثم تبت فغرت فأنا رحيم، ولا بد من إيصال الجزاء فأنا ملك يوم الدين، أى ملك يوم الجزاء كقوله تعالى فى بعض كتبه: " يا ابن آدم كما تدين تدان " وصيرته العرب مثلا وورد فى الحديث عنه صلى الله عليه وسلم فهو حديث قدسى.

وقول الشاعر:

واعلم وأيقن أن ملكك زائلواعلم بأنك كما تدين تدان


وقول الشاعر:

ولم يبق سوى العدوان دناهم كما دانوا


يقال دانهم الله بفعلهم ديناً بكسر الدال وفتحها، وإضافة ملك على ظاهرها يعنى أن يوم الجزاء وهو يوم البعث فى ملكه يحضره إذا شاء، ويجوز أن تكون من إضافة الوصف إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتساع بعد حذف المفعول، والأصل ملك الأمور يوم الدين، وهو يوم لما يحضر نزل منزلة الحاضر أو الماضى، كذا قيل.

-30-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس