عرض مشاركة واحدة
 
  #55  
قديم 12-09-2010
الصورة الرمزية admin
admin admin غير متواجد حالياً
Administrator
 
تاريخ التسجيل: May 2009
المشاركات: 14,425
افتراضي تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 45

تفسير هميان الزاد إلى دار المعاد / اطفيش (ت 1332 هـ) مصنف و مدقق 1-10 من 45


{ الْحَمْدُ لِلَّهِ } - أل: فى الحمد للاستغراق، وكأنه قيل كل فرد من أفراد الحمد لله. وإن قلت فالاسم بعده نكرة، إذا قلت: بل معرفة فإن أل لتعريف الجنس، بغير كونه مراد به استغراق أفراده، تلك هى الحقيقة، واختصاص الجنس على هذا الوجه لا يستلزم اختصاص جمع الأفراد، فيظهر أن الحمل على الجنس محافظة على الجنس محافظة على مذهبه، إلا أن يقال: إنه يمكن اختيار الاستغراق، بناء على تنزيل ما عدا محامده - تعالى - منزلة العدم، إذ لا يعتد بمحامد غيره - تعالى - بالقياس إلى محامده. فلا فرق إذاً بين اختصاص الجنس والاستغراق، فى أنهما ينافيان ظاهرا طريقة الاعتزال فيه قاعدة خلق الأعمال وأن منافاتهم تندفع بأحد الجوابين المذكورين فلا ترجيح لاختيار أحدهما على الآخر من هذا الوجه.

وقال ابن عبد السلام: هى للعهد أى لتعريف الشىء المعهود. وأجازه الواحدى على معنى: أن الحمد الذى حمد الله - سبحانه وتعالى - به نفسه، وحمده به أنبياؤه مختص به تعالى. وبحث بأن الحمد الذى حمد به نفسه وحمده به من ذكر من لازمه أنه مختص به، فلا حاجة إلى دلالة الجملة عليه ولا فائدة فيه، إذ لا يتصور إضافته لغيره. وأجيب بأن الذى هو من لازمه الاختصاص الوقوعى، والمقصود الدلالة على الاختصاص الاستحقاقى تأمل والعبرة بحمد من ذكر، فلا فرد من الحمد لغير الله تعالى وأولى الأقوال أنها للجنس لأن فيه سلوك طريق البرهان ويزيد بالنسبة للثالث. إن العهد لا يفيد اختصاص الحمد مطلقا. وكما يقال للام التعريف إنها للجنس، يقال إنها للحقيقة وللطبيعة وللماهية المطلقة، والماهية تارة تعتبر بشرط لا شئ، وتارة لا بشرط شئ، والأولى مقيدة بالعدم. وقد تسمى مطلقة كتسمية الماء المقيد بعدم التغير بالماء المطلق. والمراد هذا المطلقة بالمعنى الثانى.

واعلم أن أل إذا دخلت اسم جنس فإما أن يشار بها إلى حصة معينة من مسماه: فردا كانت أو أفرادا، مذكورة تحقيقا أو تقديرا. وتسمى لام العهد الخارجى، ونظيره العلم الشخصى. وإما أن يشار بها إلى مسماه من حيث هو كما فى التعاريف. ونحو قولك: الرجل خير من المرأة، وتسمى لام الحقيقة والطبيعة، ونظيره العلم الجنسى. وإما أن يقصد المسمى من حيث هو موجود فى ضمن الأفراد بقرينة الأحكام الجارية عليه الثابتة له فى ضمنها. فأما فى جميعها كما فى المقام الخطابى لعلة إيهام فىأن القصد إلى بعضها دون بعض، ترجيح لأحد المتساويين على الآخر. وتسمى لام الاستغراق. ونظيره كلمة كل مضافة إلى نكرة، وأما فى بعضها كقولك: ادخل السوق حيث لا عهد، ويسمى معهود ذهنيا، ومؤداه مؤدى النكرة.

-1-

وأدرج المعاينون العهد الذهنى مع العهد الذكرى، تحت قولهم العهد الخارجى. وجعلوا الذهنى أن تكون الإشارة باللام إلى الحقيقة، ومن حيث وجودها فى ضمن الأفراد كقولك: ادخل السوق واشتر اللحم، حيث لا عهد فى سوق أو اللحم. ومعنى أل مطلقا التعريف، ولام الاستغراق جنسية أيضا فيما ذكر المحققون.. والله أعلم.

والحمد هو الثناء على الجميل الذي ليس باضطرارى من نعمة أو غيرها على جهة التعظيم، وإنما قلت الذى ليس باضطرارى ليشتمل ما هو اختيارى وما لا يصدق عليه أنه ضرورى، والاختيارى كصفات الله الذاتية فإن إطلاق الضرورة عليها محال لاقتضاء أنه مغلوب مقهور، تعالى عن ذلك وعن كل نقص، ولاقتضائه حدوثها فإن المقهور به حادث أحل فى المقهور وإطلاق الاختيار عليها محال أيضا لاقتضائه حدوثها، وأنه أحدثها بعد أن لم تكن ولا يصح إطلاقه عليها إلا بمعنى مجرد نفى الضرورة أو بتنزيلها منزلة الاختيارية إذا انتفى عنها الاضطرار. وإن قلت الثناء يكون باللفظ فلا حمد مما لا يوصف باللفظ، ونحن لا نشك فى أن الله عز وجل حمد نفسه، ولا فى قوله وإن من شئ إلا يسبح بحمده. قلت: المراد إنما هو تعريف الحمد اللفظى، بل لا مانع من جعل حمد الله اللفظى مثل أن يخلق اللفظ فى الهواء، أو فى لسان جبريل، أو زيد مثلا، أو حيث شاء، وأن يخلق اللفظ مستقلا كالذات. والفرق بين الحمد المخلوق على لسان جبريل مثلا، وبين حمده هو لله، أن الأول يجرى على لسانه من غير قصد إليه وإلى تأليفه المخصوص. وأيضاً الغالب فى الحمد أن يكون باللفظ ويبحث بقوله تعالى:

{ مَا نَفِدَت كَلِمَاتُ اللَّهِ } (لقمان31: 27)

ويجاب بأن المراد الغالبية فى القول الحمدى، وأيضاً يصح أن يقال: أريد بالثناء ما عدا ما يكون بالجنان والأركان. وعبرنا بالثناء لأن الغالب حمد باللفظ، وحاصل التعريف أنه ثناء يكون باللسان غالبا، ولا يرد عليه أنه يلزم دخول ما بالجنان والأركان فى الجملة. لأن المراد أن الحمد هو الثناء على وجه يكون ذلك الوجه غالبا باللسان، أو الحاصل أنه الثناء بغير الجنان والأركان. والمراد بالثناء الإتيان بما يدل على الجميل من قول ونحوه، وإن لم يكن باللسان فيكون حمد الله تعالى نفسه مثلا الدلاله على الاتصاف وإثبات القول اللفظى قائماً بذاته منزها به عن الترتيب والحدوث والزوال والكلام النفسى، أى المعنى لا اللفظى يفضى إلى التشبيه بجعله محلا. وإذا أوجد الله سبحانه لفظا فى محل أو فى الهواء، فقد صح صدور القول وما يدل على الاتصاف من غير الجنان والأركان، فيكون حامدا وليس من شرط إطلاق كل مشتق حقيقة لن يقوم المبدأ بمن أطلق عليه حقيقة. ألا تراهم يقولون: حداد ولبان وتمار، ولابن وتامر، وليس الحديد واللبن والتمر حادثة منه حدوث أفعاله منه، فيجوز كون الحمد من هذا القبيل، فيكون حمد الله لنفسه حقيقة، وهو حامد حق ويدل لذلك أن كل كمال يجب ثبوته له، ومن الكمال أن يكون محمودا حق الحمد، وغيره لا يقدر على حق الحمد.


-2-

وقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم: " سبحانك ما عرفناك حق معرفتك " وورد عنه صلى الله عليه وسلم: " لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " وإن قلت من الكمال أن يعبد حق عبادته، ولبس معبودا حقها، قلت الفرق ظاهر، لأن عبادة الشئ نفسه غير معقول، بخلاف حمد نفسه، فلا يكون هذا نقضا. وأما قوله تعالى:

{ وَإِن مِن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } (الإسراء17: 44)

فمجاز، ولكل شئ كلام إذا أراد الله أسمعه من شاء، كما سلم الحجر والشجر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولك أن تقول: ما فى الكتاب والسنة مما يخالف التعريف السابق. ما أول مصروف عن الظاهر، فقول الله تعالى: { الْحَمْدُ لِلَّهِ } إخبار باستحقاق الحمد، أو رجوع المحامد، أو ثبوت كماله، أو اختصاص الحمد، أو أمر بالحمد أو الإخبار، أو مجاز عن إظهار صفة الكمال. وهو بالفعل أقوى، أو هو حمد شرعى، وهو أعم من اللغوى المراد بالتعريف فلا يلزم ما فى المجاز المحض من البعد والمنقول الشرعى أكثر من أن يحصى، والنقل والاصطلاح لا يثبتان بالاحتمال، لكن ثبت الدليل الظنى من الثقات أن الحمد اللغوى إنما يكون بالآلة. وقد ثبت فى الشرع الحمد ممن تنزه عن الآلة. وكلام الشارع محمول على الحقيقة بحسب الإمكان. فالظاهر أن له فيه اصطلاحا، والحمد حينئذ حقيقة عرفية. وهذا القدر بل دونه يكتفى به فى الظنيات، أما ترى أن الوضع الشرعى غالباً لم يثبت إلا بالإمارات، واحتمال شهرة المجاز موجود فى الكل أو الحل، ورجح بعض من خشى على المطول أن الحمد مما ليس له لسان مجاز، وقال: لما ثبت النقل الصريح أن الحمد فى اللغة لا يكون إلا فى اللسان، تعين أن يكون الحمد إذا أطلق على ما لا يكون باللسان مجاز. انتهى.


ويبحث بأن النقل إنما يوجب الجزم واليقين لو لم يكن قابلا للتأويل لما جاز التأويل بالصرف عن الظاهر وبأنه حقيقة شرعية لم يتعين المجاز أصلا، وإن أراد بالتعيين كما للترجيح والأولوية مبالغة لأن المسامحة فى التعريف بعيدة جدا، ففيه أن حمل نص الكتاب والسنة على المجاز فى مواضع عديدة أبعد، وقد تقرر أن الحمل على المجاز لا يجوز إلا عند المانع من الحقيقة والمسامحة فى التعريف، ولا سيما فى العلوم النقلية والمعانى اللغوية عند قيام القرينة شائعة وإطلاق الحمد والثناء فى كلام الله تعالى ورسوله والبلغاء والعرب العرباء على ما ليس باللسان قرينة تامة والأرجح حمل مثل ذلك التعريف على المسامحة بالتأويل فى كلام الله ورسوله والبلغاء، وأما ما مر من كونه حمدا شرعنا فلا يدفع البعد بالكلية، والمسامحة فى التعريف أولى وأقرب من ترك الظاهر والحقيقة اللغوية من غير داع، إذ قل ما يوجد تعريف تام خال من المسامحة والتكليف بالكلية على أنه إذا دار الأمر بين الوضع الجديد والمسامحة فى التعريف، فلعل الثانى أولى لما اشتهر من أن المجاز خير من الاشتراك، وما نحن فيه يشبه ذلك.

-3-
ومعنى قولنا على الجميل لأجل الجميل بأن يكون الثناء بالجميل بإزائه ومقابله، بمعنى أن المحمود لما كان له ذلك الشىء ذكر جميله وأظهر كماله فهو لأجل حصوله له، ولولاه لم يوصف أى لم يتحقق ذلك الوصف، فهو كالعلة الباعثة للواصف على الوصف، كما فى حمد الله تعالى، إذ لا باعث فى حقه تعالى. أو هو العلة كما فى حمد الخلق، وإنما وجب فى المحمود عليه أن يكون جميلا، وكمالا لأنه لا يكون غير الكمال سببا لإظهار الكمال والتعظيم. ويحتمل أن يكون أعم من الكمال فى ذاته، أو فى زعم الحامد أو المحمود كما فى المحمود به، إذ لا فرق بين المحمود عليه والمحمود به فى ذلك، وقد يفرق بأن الباعث على التعظيم لا بد أن يكون أمرا عظيما عند المعظم، وكون الشىء عظيما عند غيره مع نقصه عنده، لا يصير سببا للتعظيم بخلاف المحمود به، فإنه فى الحقيقة ما يظهر بإجرائه على الموصوف إذ الواصف يعظمه. ولا يبعد أن يظهر ذلك بما هو عظيم عند من يظهر له، وهو المحمود بأيه يفهم منه فى الجملة الكمال وقصد التعظيم. ومن هنا تحقق أن المحمود عليه يجب أن يكون جميلا فى اعتقاد الحامد. وإنما قلت على الجميل يشمل ما هو فعل الفاعل وما ليسه..

وقال الفخر والسعد والدوانى: الفعل الجميل يعنى أن فعلا صادرا عن المحمود، كما صرح به الفخر فقال: لا يحمد إلا الفاعل المختار على ما صدر عنه بالاختيار، فلا يكفى أن يكون للمحمود دخل فى صدوره عن الغير على وجه الفاعلية، لأن التعظيم حينئذ من جهة تعلق الفعل به لا من جهة كونه فعلا، فيضيع اشتراط كونه فعلا. فإن قلت من الجائز أن يكون للذات اختيار فى حصول صفة، ولا يكون فاعلا لها، فلا يلزم من التقييد بالاختيار أن يكون المحمود فاعلا، قلت هذا لو جاز عقلا لكن النقل يخالفه. وأما الجواب بأن المراد أنه يلزم أن يكون فعلا، وإن لم يكن ذلك محمودا عليه، وذلك لازم من التقييد فهو بعيد عن التحقيق، لأن المحمود عليه يجب أن يكون فعلا للمحمود. فان قلت: كثيراً ما يحمد على العلم والكرم والأخلاق العلية النفسانية. قلت: المدح يجوز على صفات الذات كالعلم وصفات الفعل كالعطاء.
-4-

والحمد لا يجوز إلا على صفات الفعل كالخلق والرزق، ولكن ظاهر تحقيقات المتأخرين: أن المراد الفعل عرفا، والعرف يعد ذلك أفعالا، تقول: علمت وحلمت، كما يقال: أكرمت وأعطيت، وهو كلام النحاة. وقد صرح السيد الشريف وغيره، بكون الكيفيات النفسانية تعد أفعالا، فالحمد حقيقة على الإنعام لا النعمة، إذا النعمة ليست فعلا حقيقة ولا فعلا بالعرف. ولذا قال التفتازانى: النعمة بمعنى الإنعام، ولكن قوله فى المطول: الحمد على الإنعام أمكن من الحمد على النعمة، يدل على جواز الحمد على النعمة، وهى غير فعل لا تحقيقا ولا عرفا. فلعله أراد جواز الحمد عليها من حيث تعلقها بالمحمود بالصدور عنه لا لذاتها. فيرجع ذلك إلى الحمد على الإنعام والحمد على الإنعام لذاته فكان أمكن. فلا شبهة لعاقل فى أن المحمود عليه يجب أن يكون أمرا فى المحمود، فإن الأمر الأجنبى عن شخص لا يكون سببا لثناء ذلك الشخص وتعظيمه، وإلا كان ممكنا أن يحمد زيد على ما لم يتعلق به من فعل بكر وغيره. وقولى: على جهة التعظيم، معناه على جهة التعظيم ظاهرا وباطنا، فيندفع ما قد يقال: الكون على جهة التعظيم لا يقتضى حتما أن يكون التعظيم موجودا، لأن الأعم لا يستلزم الصدق بأخص المعين. وتعلم من إطلاقى أنه لا يلزم أن يكون الحمد فى مقابلة إحسان إلى الحامد، وخرج بذكر التعظيم الثناء على الجميل استهزاء أو تقريعا على زعم الموصوف، نحو:

{ ذُق إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ } (الدخان44: 49)

وتمليحا أن إتيانا بالشئ المليح للإضحاك أو غيره، أو إخبارا بالواقع. هكذا يقال فى مثل ذلك التعريف، وقد يقال: لا حاجة فى خروج الاستهزاء والتقريع إلى ذكر التعظيم، لخروجه بقولهم على الجميل، لأن المحمود عليه. فإن المعنى أن الجميل الاختيارى باعث على الثناء وسبب فيه. ولا يكون الجميل الاختيارى باعثا على الثناء وسببا فيه، إلا على جهة التعظيم. ولا يتصور ثناء متسبب من جميل اختيارى حقيقة على وجه الاستهزاء أو التقريع، إلا أن يقال: قولهم على الجميل يشمل ما كان لأجله، بحسب ما يدل عليه اللفظ أو السياق، وإن لم يكن بحسب الحقيقية. وقد يقال: يتصور ذلك كما فى إعطاء شئ حقير وإن قلت المستهزئ لم يرد الوصف بالجميل بل بنقيضه، قلت: إن إريد الجميل حينئذ مستعمل فى غير ما وضع له تجوزا. فهو ممنوع، فإن القائل بمنزلة من يعلم كذب كلامه، وإلا فقد وجب قيد آخر على أنه لا يجرى فى التقريع. والإيضاح مقصود فى التعريف والتعظيم قسمان: ظاهر وباطن، فالظاهر يشعر به اللفظ على أن يكون فى قوله أو فعله مد يدل على التحقير والهزء، والباطن مطابقة الاعتقاد، فإن كان ما يدل على ذلك أو لم يطابق الاعتقاد اللفظ لم يكن حمدا، وكذا إذا قصد مجرد الإخبار، وقد يبحث فيه بأنه لا يعد فى أن يكون الدلالة على التعظيم كافية فإن الوصف الحسن إذا لم يقترن بالمخالف يعد حسنا عرفا، ولا يعد الواصف مستهزئاً غير أنه قد صرح الثقات: كأبى سليمان داود رحمه الله باشتراط التعظيم، وإن قلت اشتراط كون المحمود عليه جميلا دال على اشتراط قصد التعظيم إذا الجميل لا يكون سببا لغيره.

-5-

قلت: إن سلمنا ذلك فليكن ذكره للإيضاح وبيان الواقع، فإن المأتى به فى الحدود لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما الإدخال، وإما الإخراج، وإما بيان الواقع. وليس ذكر الشئ فى التعريف لبيان الواقع حشوا، مع أنا لا نسلم ما قلت وإنما الظاهر أنه لا يكون سببا للاستهزاء والتحقير، وإن نوقش فيه أيضا كما فى إعطاء شئ حقير. وإما أن يستلزم قصد التعظيم فلا لجواز قصد الإخبار أو التخييل أو التصوير أو الحكاية، أو رعاية خاطر الموصوف، أو غيره من المقاصد الحسنة سوى التعظيم. فلم يظهر قول كثيرين أن تقييد المحمود عليه بالجميل يغنى عن ذكر التعظيم، وأن بعضا حذفه لذلك، إلا أن يريدوا أنه يشعر به إشعارا لا يكتفى به فى التعاريف، وكأنهم ظنوا أن ذكر التعظيم لمجرد الاحتراز عن الهزء، وهو لا يصح، فالحذف إنما هو للاعتماد على الشهرة، مع ذلك الإشعار، ولا يخفى أن مدار استحسان الوصف على التعظيم ودلالته عليه، فلم نجعل مجرد الدلالة على التعظيم بدون قصده معتبرا، وإنما نعتبر ما يتحقق معه التعظيم الباطن، وهو مدلول اللفظ، وما عداه ملحق بالهزء فى عدم الاعتداد، وعدم العد من الحمد، وإن لم يكن هزءاً حقيقة ولا عرفا، وإن قلت فإن قصد التعظيم بالقصد مع أن الإثناء بما لا يعتقده المعظم المثنى فهل يكون ذلك حمداً، قلت: هو حمد عند الجمهور، وذلك كالقصائد المشتملة على وصف الممدوح بما يعلم انتفاؤه. وإن قلت لا نسلم أن الوصف عند مخالفة الاعتقاد لما يدل عليه اللفظ من التعظيم، أو عند مخالفة الجوارح استهزاء، بل الاستهزاء فعل الأركان، إلا إذا علم أن الواصف قصد بفعل الأركان صرفه عن التعظيم، إلا إذا لم يعلم ذلك، ولا سيما إذا كان فعل الأركان لمصلحة فلا يتم الإطباق. قلت: لا شك أن بيان الكمال دال على التعظيم، والعظمة والتعظيم وبيان العظمة أمران مستحسنان فاستحسنوهما، ولو علم أنه لم يرد بوصفه وبيانه تعظيمه، بل أراد تحقيره، لصار مذموماً وعد هزءا، وكذا ما لم يعرف وإن كان فى نفس الأمر كذلك، لأنه لم يكن فى الحقيقة حسناً، فإذا خلا الوصف عن موانع التعظيم، حمل على ظاهره وعد حسنا. وإذا اقترن بما ينافى التعظيم فحينئذ جاز عقلا أن يعد كل من الوصف والفعل بما يقتضيه.
-6-

فيعد الوصف حمداً وتعظيماً والفعل تحقيرا وهزءا، لأنهم لم يعتبروا ذلك الوصف وعدوه أيضا هزءا، لأن اللفظ قد يكون للهزء والتحقير، فهو ذا محلين فحيث وجدت قرينة صارفة للفعل على المحل الآخر جمعاً بين مدلولى القول والفعل، ولم يعكس لأن الفعل المذكور لا يحتلم التعظيم، وكونه لمصلحة غير التحقير بعيد عن الفهم، فكذا لا يتبادر إلى الفهم إلا التحقير، وإذا لم يتبادر منه إلا ذلك فكأنه نص فى التحقير، فحمد المحتمل على ما هو كالمقطوع به، على أنه يكفى فى ترجيح مدلول الفعل على القول أن هذا الفعل لا يكون للتعظيم قطعا ويتبادر منه التحقير، وهذا اللفظ كثيرا ما يكون للهزء لا للتعظيم، ولم يحمل كل منهما على مدلوله، لأن التعظيم والتحقير من شخص واحد فى آن واحد لا يجتمعان، ولو اجتمعا فى التعظيم فى غاية الضعف، فلم يعتبرا ولأن الهزء والتحقير فى القبح والذم إثم، وأشد من الحمد والتعظيم فى الحسن والقبول والكمال، ولذا ترى أن أدنى ما يوهم الهزء يترتب عليه الذم والنكال. وقد لا يترتب على الحمد والذم الصريحين ما يناسبهما. ولما كان كذلك أسقطت الدلالة على الهزء وذلك الحسن الضعيف الذى فى مجرد الوصف عن درجة الاعتبار. والحاصل أن قولهم: إذا اقترن الوصف بالجميل لمخالفة الجوارح صار استهزاء معناه: أنه صار ذلك عندهم وفى اعتبارهم، فإن العرب وأهل اللغة يعدون ذلك الوصف مستهزءا محقرا، لا حامدا معظماً تغليبا لجانب الهزء ولما مر فلا بد من قصد التعظيم.

قال السيد: وإنما اشترط كون الوصف على جهة التعظيم ظاهرا وباطنا، لأنه عرى عن مطابقة الاعتقاد أو خالفه أفعال الجوارح لم يكن حمداً حقيقة بل استهزاء وسخرية، والظاهر أن المراد بالمطابقة أن يعتقد الواصف اتصاف المحمود بالمحمودية، فيطابق اعتقاد ما يفهم من الوصف من اتصافه به، سواء كان إنشاء أو خبرا أو نعتا نحويا، ويؤيد ذلك قول بعض المتقدمين: لو لم يطابق لكان كذبا واستهزاء على ما قررناه ولا يرد أن مطابقة الاعتقاد والكذب لا يصح ولا يحتمل إذا لم يكن الوصف على وجه الإخبار وذلك لما مر من أنه يفهم منه على التقادير أن المحمود متصف بالجميل المذكور، ويتجه على ما مر عن السيد وغيره أمران:

الأول: أن السلاطين وغيرهم كثيرا ما يحمدون ويوصفون بأوصاف بعلم قطعا عدم اتصافهم بها فى الواقع، بل فى زعم الواصف، وقد أراد بها تعظيمهم، وهم يقبلون ذلك ويجزونهم جميلا، ولا توهموا فيها أدنى شائبة هزء لعاقبوه أشد العقاب، فلا يكون استهزاء ولا معدودا منه عرفا. فما مر عن السيد من أنه لو لم يطابق فهو استهزاء يقدح فيه سواء أراد الهزء حقيقة أو عرفا بل اشتراط تلك المطابقة فى حيز المنع كما سيجئ تفصيله، وإنه يستلزم خروج تلك الأوصاف مع قصد التعظيم: وأجيب بجوابين الأول أن الواصف يعتقد اتصاف المحمود بما ذكر ويرده أن مما يوصف به المحمود ما يعلم كل عاقل أن اتصاف المحمود به ممتنع أو غير واقع فكيف يعتقده فحول الشعراء والأذكياء وذلك كما يقال زيد فرسه من الفلك وهو أظهر من الشمس.
-7-

الثانى: أن الواصف يريد معانى مجازية واعتقد اتصاف الموصوف بها ورد الدوانى الجوابين بأن الأول خلاف البديهة والثانى خلاف الواقع، واعترض بمصدر الأفاضل بأن الأول لو كان خلاف البديهة لم تقصد العقلاء إفادته فلم يكن اللفظ فى معناه الحقيقى مستعملا. والثانى لو كان خلاف الواقع لم يكن اللفظ مستعملا فى معناه المجازى فيلزم ألا يكون اللفظ حقيقة ولا مجازا، ثم إنه يبحث بأن حاصل الرد الأول إنما ذكره من اعتقد الاتصاف بديهى البطلان، إذ يعلم كل عاقل أن عاقلا لا يعتقد اتصاف أحد بما تذكر الواصفون المبالغون، بل هم معترفون به عند السؤال فمقتضى الجواب فاسد قطعاً، فحينئذ لا يتجه ما ذكر إذ لا يلزم من عدم الاعتقاد عدم الإفادة، كما أن المتكلم قد يعتقد أن الخبر كاذب، وهو يعيده ويذكره، وكأنه حمل التضعيف على أن مضمون الوصف خلاف البديهة، فلا يحمل حال العقلاء على اعتقاده فأورد عليه ما ذكره، ثم إنه لو سلم أن المراد ذلك فالملازمة التى ذكرها بقوله: لو كان خلاف البديهة لم يقصد العقلاء إفادته ممنوعة بل فاسدة، ألا ترى أن المخيلات الشعرية مع أن أحسنها أكذبها مستحسنة مقصودة بالإفادة عند البلغاء؟ ومضمونها الحقيقى ربما يكون خلاف البديهة؟ فمن الجائز أن يكتفوا بالقصائد والأثنية يمثل ذلك أى الوصف الحسن على سبيل التخييل أو ادعاء المبالغة، وتحقيق ذلك المقام أن اللفظ قد يقصد به إفادة الحكم أى الوقوع أو لا وقوع اعتقادا. وقد يقصد به تخييل المعنى وتصويره. ومنه المجاز العقلى، وبعض الاستعارات عند الجمهور، فلا يكون كذبا لأنه إنما يريد به التصوير لا الحكم، ومنه الأخبار الواقعة فى الأشعار، لما علم عرفا انه لم يقصد بها إيقاع السامع فى الغلط. وإفادة التصديق بأن الأمر كما ذكره فى نفس الأمر، بل أريد بها تخييل ذلك وترتيبه على الوجه المقرر بينهم. فهى ليست بكذب مذموم فى العرف، بل مستحسنة مقبولة، لما اعتبر فيها من جهة حسن النظم والتخييل واللفظ مستعمل فى الموضوع له لتخييله. وإذا كان ذلك جائزا بل واقعاً على ما صرحوا به فى المجاز العقلى، فليجز أن يكون المقصود بأوصاف السلاطين. والمحبوب فى القصائد ويغرها كما فى سائر الأشعار، إفادة المعانى الوضعية منها لأجل التخييل والتعظيم، وإن كان تحققها فى نفس الأمر بديهى البطلان، وجرى العرف على ذلك واستحسنها وقد علم أنها أريد بذلك التعظيم والوصف الحسن صارت مطبوعة مقبولة، وجوزيت بالجميل، وقوبلت بالجزيل، فظهر أنه لا يلزم من بداهة عدم تحقق الحكم أو الوصف ألا يقصدها العقلاء أصلا.
-8-

وإن أراد أنه لا يقصد حينئذ إفادتها على وجه الحكم والتصديق فمسلم. ولكن لا يلزم منه ألا يكون اللفظ مستعملا فى معناه الحقيقى، وإن قلت الكلام موضوع لإفادة الحكم فلو لم يرد به ذلك لم يكن مستعملا فى المعنى الحقيقى. قلت: إفادة الحكم أعم من أن تكون لأجل التخييل أو الاعتقاد والإيقاع والانتزاع، على أنه لا يجرى في الإنشاء والأوصاف، وإن علم، فمن الجائز أن يكتفى فى الحامد فى السلاطين بادعاء الأمر والمبالغة فيكون حقيقة، وإن كان المعنى بديهى البطلان. وأما الجواب عن احتمال كونها مجازات، فتوضيحه أنه خلاف الواقع والمعلوم بالتتبع، فإنا لو تصفحنا عن القائلين، علمنا أنهم لم يقصدوا معنى مجازيا صحيحا بحسب ما اعترفوا به، ولأنهم ربما يذكرون أمورا لم يقدروا على أن يحصلوا لها معانى صحيحة يفهمونها بعد التأمل والتدبر، فضلا عن أن يقصد من اللفظ ذلك بادئ الرأى عند التكلم، وإذا كان الجواب خلاف الواقع والتحقيق، فلا ينبغى أن يعتمد عليه، وإن كان محتملا عند العقل على أنه يبقى الكلام حينئذ فيما إذا لم يقصد به معنى مجازى صحيح. بل أرادوا الادعاء والتخييل، فيلزم خروجه عن الحمد، وأن يكون استهزاء وفيه ما فيه، ثم مدائح السلاطين إن وردت على وجه النقص والاعتراض، فيمكن أن يدفع بأنا لا نسلم أنها جمل، وإن كانت أثنية مقبولة كالوصف على غير الاختيارى. ولعل معنى قول السيد وغيره: لو لم يطابق الاعتقاد كان استهزاء أنه لما شابه الاستهزاء فى عدم الاعتقاد وقصد إفادته أخرج عن الحمد كالاستهزاء فى كثير من المواضع أو الأكثر لم يتعبروا فى الحمد إلا الوجه الكامل. وإن وردت سندا لمنع الاشتراط أو لأجل تحقيق المقام، وأنه لا دليل على خروجها من الحمد، مع أنها من مستحسن مقبول، متضمن للتعظيم فى العرف الخاص والعام، غير معدود من الاستهزاء عرفا وعقلا، فهو كلام قوى مقبول، إن لم يضعفه نقل صريح صحيح.

الأمر الثانى: أنه اعتقد الواصف اتصاف المحمود، ولكن لم يقصد بالكلام تعظيمه، بل محض الإخبار أو الحكاية أو نحوها فليس بحمد. وإن سلم ذلك فلا شك فى أنه مع ذلك الاعتقاد يجوز أن يقصد بالكلام الهزء، عنادا ومكابرة، كما كان لبعض الكفرة الفجرة، وذلك الكلام ليس بحمد قطعاً، فلا يكفى فى الحمد والتعظيم الباطنى المعتبر فيه مجرد ما ذكر من مطابقة الاعتقاد، بل لا بد من اعتبار أمر آخر هو قصد التعظيم. اللهم إلا أن يقال عدم قصد الهزء، فهم من باعثيه الجميل كما مر، وذلك مع استلزام لاكتفاء بالدلالة الالتزامية فى التعريف.
-9-

وألا يكون قيد التعظيم الباطنى لإخراج الاستهزاء. والله أعلم.

وذكر السيد وغيره: أن اللازم فى الحمد قصد التعظيم بالوصف لا الاعتقاد، فلو أريد بالثناء تعظيم الموصوف بشرطه، صار حمدا وإن لم يعتقد أنه موصوف بما يذكر ولا يعد فيه كما توهم. ويبحث فى اشتراط التعظيم بعض من حشى على (المختصر للسعد) بأن التعريف إن كان للحمد اللغوى، فالتعظيم الظاهرى غير معتبر فيه، فضلا عن قصد التعظيم، ألا ترى أن الحمد فى كتب اللغة الفارسية إنما فسروه بستودون وإن كان للحمد العرفى فكذلك أيضا لأن مدح الأكابر يعد حمداً عرفا وإن لم يكن للحامد تعظيما إلا أن صدر منه تحقير لم يعد حمدا. ويرده أن الثقات نقلوا أنه لا يصح الحمد إلا بتعظيم، فكأنهم نقلوه عن اللغويين، فقوله: لم يعتبر فيه التعظيم لا يقبل، لأنه شهادة نفى، وقد علم أن شهادة الإثبات ولا سيما من المحققين. مقدمة على شهادة النفى، مع أنه لا ينبغى أن يصدر ذلك النفى إلا بعد الاستقراء التام لنصوصهم، وأما منع صحة وطلب تصحيح النقل منهم، فله وجه مقبول عن أرباب النقول وأصحاب العقول. أما ترى الفقهاء والمحدثين والنحاة وغيرهم، إذا نقل جلهم وجليل منهم عن إمام، فلا اعتبار عندهم لمنع عدم صحة النقل وطلب التصحيح؟ ولو فتح ذلك الباب لم يبق اعتماد على ما فى الكتب، ولم يصح التعويل عليهم، ولا ينبغى التعرض لذلك إلا لموجب يعارض المنقول، وإلا فلا يفيده فائدة، وأما الإسناد لما فى بعض الكتب الفارسية بل العربية، فلا تأييد فيه على وجه يعتد به. لأنه إن سلم أنه أعم فثبوت الأعم لا ينافى ثبوت الأخص، لجواز الاشتراك والنقل والتعريف بالأعم، ومن تتبع كتب اللغة علم أن كلا من هذه الأقسام فى غاية الشيوع، ولا يكاد يوجد كتاب يستوعب معانى الألفاظ، ولهذا لو فسر ثقة لفظاً بغير ما فسر به آخر لجمع بينهما بأحد الأمور الثلاثة، ولا يحكم بالفساد فهؤلاء العلماء الأعلام، لم يكونوا فى مرتبة واحدة من مصنفى كتب اللغة، على أن شأن كتب اللغة الإجمال والتعبير بلفظ أشهر بالحد والرسم، فمن أين لا يعتبر فى ستودون فى أصل الوضع أو فى عرف التعظيم ومجرد الاحتمال لا يعبأ به فى القدح فى التعاريف كما حقق فى محله، مع أن بعض العلماء استدل بذلك التفصيل عن قصد التعظيم، وهو دليل على أنه يفهم منه التعظيم ولو فى عرف، ثم إنه إن سلم التنافى بين النقلين، فحمل القصور على مصنف أو مصنفين فى اللغة أخرى من جمل الخطأ على العلماء المحققين المشهورين. ومما ذكرنا علم أن حال ما ذكره فى العرف، وانتقاده بحمد السلاطين، لا قوة له أصلا، فإن الغالب أنهم يريدون به تعظيمهم، فمن أين علم بهم لا يقصدون التعظيم الباطنى ولا الظاهرى، بمعنى عدم مخالفة الجوارح.
-10-
__________________
اللهم علمنا ما ينفعنا - وإنفعنا بما علمتنا
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه - وأرنا الباطل باطلا وأرزقنا إجتنابه
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
اللهم إجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبة وسلم
رد مع اقتباس