منتدى المسجد الأقصى المبارك

منتدى المسجد الأقصى المبارك (http://al-msjd-alaqsa.com:81/vb/index.php)
-   المنتدى الفكري (http://al-msjd-alaqsa.com:81/vb/forumdisplay.php?f=36)
-   -   ثناء ابن باز رحمه الله تعالى على كتـــــــــــــاب فقه الزكاة للشيخ العلامة القرضاوي (http://al-msjd-alaqsa.com:81/vb/showthread.php?t=11811)

محب الأقصى 02-28-2011 08:26 PM

ثناء ابن باز رحمه الله تعالى على كتـــــــــــــاب فقه الزكاة للشيخ العلامة القرضاوي
 
يقول الشيخ القرضاوي في مذكراته:

(ولقد استُقبِل الكتاب بحفاوة وتقدير كبيرين، وجاءتني رسائل من عدد من الشخصيات المرموقة التي أهديت الكتاب إليها، منهم الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الله بن زيد المحمود، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ أبو الأعلى المودودي، والشيخ أبو الحسن الندوي، والأستاذ محمد المبارك، والشيخ محمد الغزالي، وغيرهم ممن لا أذكره الآن.

وأثنى عليه الشيخ علي الطنطاوي في برنامجه في إذاعة السعودية، وفي برنامجه التليفزيوني "على مائدة الإفطار" في رمضان أكثر من مرة.

وقال عنه الأستاذ أبو الأعلى المودودي: إنه كتاب القرن (أي الرابع عشر الهجري) في الفقه الإسلامي. نقل ذلك عنه الأستاذ خليل أحمد الحامدي مدير القسم العربي بالجماعة الإسلامية بباكستان.

وكتب الأستاذ المبارك في مقدمة كتابه عن "الاقتصاد" في "نظام الإسلام" منوهًا به، ومنبها أهل العلم على قيمته، فقال: "ومن الكتب الحديثة ما هو خاص بموضوع معين، ومن هذا النوع كتاب فقه الزكاة للأستاذ يوسف القرضاوي، وهو موسوعة فقهية في الزكاة استوعبت مسائلها القديمة والحديثة، وأحكامها النصية والاجتهادية على جميع المذاهب المعروفة المدونة، لم يقتصر فيها على المذاهب الأربعة، مع ذكر الأدلة ومناقشتها، وعرض لما حدث من قضايا ومسائل، مع نظرات تحليلية عميقة، وهو بالجملة عمل تنوء بمثله المجامع الفقهية، ويعتبر حدثًا هامًّا في التأليف الفقهي، جزى الله مؤلفه خيرًا".

وقال عنه الشيخ محمد الغزالي: "لم يؤلَّف في الإسلام مثله في موضوعه". قال ذلك في كتابه: مائة سؤال عن الإسلام.

نقلا عن احد الكتاب في ملتقى أهل الحديث


لتوثيق هذا الكلام من الشيخ محمد إسماعيل المقدم

بدون وصلات سيئة

http://www.youtube.com/user/abdelmeg.../3/_GoasXe2AE0



الشيخ المقدم ينكر سب القرضاوي

من كلماته

ونحن صغار وقعنا في شيء من هذا - تجميع الأخطاء -

هواة البحث في القمامة !!!

http://www.youtube.com/user/MrAbooma...16/_nunEBK6OGM



http://www.youtube.com/watch?v=_nunE...eature=related




admin 02-28-2011 09:13 PM

مقدمة الطبعة السادسة عشرة
 
مقدمة الطبعة السادسة عشرة
هذا الكتاب عمل على تجميع ما تبعثر عن (الزكاة ) في المصادر الأصلية ، محاولا تمحيص ما ورد في الموضوع من خلافات كثيرة بغية الوصول إلى أرجح الآرآء وفق الأدلة الشرعية وعلى ضوء حاجة المسلمين ومصلحتهم في هذا العصر ، ومحاولة إبداء الرأي فيما جد من مسائل وأحداث متعلقة بالموضوع ، وتصحيح ما شاع من أفكار خاطئة حول الزكاة ، وقد ترجم هذا الكتاب لعدة لغات إسلامية وعالمية..
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله (من "خطبة الحاجة" التي كان يعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه، ورواها عنه ستة منهم، وهي في صحيح مسلم وغيره). صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد .
عناية الإسلام بالمجتمع الإنساني
فقد عُنِيَ الإسلام في كتابه وسنته بالمجتمع الإنساني، وعلاج مشكلاته وأدوائه، وذلك لأنه دين إنساني، جاء بتكريم الإنسان، وتحرير الإنسان، ففيه تتعانق المعاني الروحية والمعاني الإنسانية، وتسيران جنبًا إلى جنب.
والإسلام لا يتصور الإنسان فردًا منقطعًا في فلاة، أو منعزلاً في كهف أو دير، بل يتصوره دائمًا في مجتمع، يتأثر به ويؤثر فيه . ويعطيه كما يأخذ منه، ولهذا خاطب الله بالتكاليف الجماعة المؤمنة لا الفرد المؤمن: (يا أيها الذين آمنوا)، وكانت مناجاة المؤمن لربه في صلاته بلسان الجماعة لا بضمير المفرد: (إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم) (الفاتحة: 5/6) .لهذا قلنا: إن مقتضى عناية الإسلام بالإنسان، العناية بالمجتمع كله، فالإنسان اجتماعي بالفطرة، أو مدني بالطبع، على حد تعبير القدماء.
وإذا كان الإسلام قد عُنِيَ بالمجتمع عمومًا، فإنه عُنِيَ عناية خاصة بالفئات الضعيفة فيه، وهذا سر ما نلاحظه في القرآن الكريم من تكرار الدعوة إلى الإحسان باليتامى والمساكين وابن السبيل وفى الرقاب، يستوي في ذلك مكي القرآن ومدنيه . وذلك لأن كل واحد من هذه الأصناف يشكو ضعفًا في ناحية، فاليتيم ضعفه من فقد الأب، والمسكين ضعفه من فقد المال، وابن السبيل ضعفه من فقد الوطن، والرقيق ضعفه من فقد الحرية.
وإذا كانت بعض المجتمعات تهمل هذه الفئات الشعبية الضعيفة، ولا تلقى لها بالاً في سياستها الاجتماعية والاقتصادية، ولا تكاد تعترف لها بحق: لأنها لا تُرْجَى ولا تُخْشَى، وليس بيدها خزائن المال، ولا مقاليد السلطان - فإن رسول الإسلام محمدًا - صلى الله عليه وسلم - قد نبه على قيمة هذه الفئات ومكانها من المجتمع، فهي عدة النصر في الحرب، وصانعة الإنتاج في السلم؛ فبجهادها وإخلاصها يتنزل نصر الله على الأمة كلها، وبجهودها وكدحها في سبيل الإنتاج يتوافر الرزق لها.
وإلى هذه الحقيقة يشير حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبى وقاص، حين قال له فيما رواه البخاري: "هل تُنصرون وتُرزقون إلا بضعفائكم" ؟.
ومن هنا حرص الإسلام على أن تكون هذه الفئات الجاهدة المجاهدة، مستريحة في حياتها، مطمئنة إلى أن معيشتها مكفولة، وأن حقوقها في العيش الكريم مضمونة، بحيث يجب أن يوفر لكل فرد فيها على الأقل حد الكفاية، بل تمام الكفاية من مطالب الحياة الأساسية، إذا عجز عن العمل، أو قدر عليه ولم يجده، أو وجده ولم يكن دخله منه يكفيه، أو يكفيه بعض الكفاية دون تمامها. على أن الإسلام لم يغفل من حسابه أن القوي قد تطرأ عليه ظروف تجعله في مركز الضعف والحاجة، لغرم في مصلحة خاصة أو عامة، أو لانقطاعه عن ماله ووطنه في سفر وغربة، ففرض لهذا النوع من الزكاة ما ينهض بهم إذ عثروا، ويمدهم بالقوة إذ ضعفوا.
ولكن ما المورد المالي الذي يحقق هذه الأهداف، ويفي بهذه المطالب ؟.
هنا يأتي دور الزكاة التي جعل الشرع جل حصيلتها لهذه الأغراض الاجتماعية، وهى ليست بالشيء الهين، إنها العشر أو نصفه مما أنبت الله من الثروة الزراعية، وربع العشر من الثروة النقدية والتجارية، ونحو هذا المقدار - تقريبًا - من الثروة الحيوانية، وخمس ما يعثر عليه من الكنوز، بالإضافة إلى خمس الثروة المعدنية والبحرية كما يرى بعض الفقهاء.
ولقد كان من روائع الإسلام، بل من معجزاته الدالة على أنه دين الله حقًا، أنه سبق الزمن، وتخطى القرون، فعنى - منذ أربعة عشر قرنًا مضت - بعلاج مشكلة الفقر والحاجة، ووضع الفقراء والمحتاجين، دون أن يقوموا بثورة، أو يطالبوا - أو يطالب لهم أحد بحياة إنسانية كريمة، بل دون أن يفكروا هم مجرد تفكير في أن لهم حقوقًا على المجتمع يجب أن تؤدى، فقد توارث هؤلاء على مر السنين والقرون أن الحقوق لغيرهم، وأما الواجبات فعليهم!!.
ولم تكن عناية الإسلام بهذا الأمر سطحية ولا عارضة، فقد جعلها من خاصة أسسه، وصلب أصوله، وذلك حين فرض للفقراء وذوى الحاجة حقًا ثابتًا في أموال الأغنياء، يَكْفُر مَن جَحَدَه، ويَفْسُق من تَهرَّب منه، ويُؤخذ بالقوة ممن منعه، وتُعلن الحرب من أجل استيفائه ممن أبَى وتمرد.
كان ذلك الحق هو الزكاة ؛ الفريضة الإسلامية العظيمة التي اهتم بها القرآن والسنة، وجعلاها ثالثة دعائم الإسلام.
أهمية موضوع الزكاة
هذه الفريضة الجليلة - الزكاة - لها أكثر من وجه يجعل لها أهمية خاصة.
فهي - من جهة - عبادة من العبادات الأربع، كالصلاة والصيام والحج، ومن هذا الوجه تقرن في القرآن والحديث بالصلاة، وتأتى بعدها عادة في كتب الفقه في قسم العبادات. وهى - من وجه آخر - مورد أساسي من الموارد المالية في الدولة الإسلامية، وهذا يخرجها عن أن تكون عبادة محضة، فهي جزء من النظام المالي والاقتصادي في الإسلام، ولهذا عنيت بها كتب الفقه المالي في الإسلام مثل: "الخراج" لأبى يوسف، و"الخراج" ليحيى بن آدم، و "الأموال" لأبى عبيد، و"الأموال" لابن زنجويه، وغيرها. ومثلها كتب السياسة الشرعية، مثل: "الأحكام السلطانية" لكل من الماوردي، وأبى يعلى، و"السياسة الشرعية" لابن تيمية ونحوها.
وهى -من وجه ثالث- المؤسسة الأولى للضمان الاجتماعي في الإسلام، ونظرة سريعة إلى مصرفها، كما نص عليها القرآن، تشير بوضوح إلى الوجه الاجتماعي للزكاة، وإلى الأهداف الإنسانية التي تتوخى تحقيقها في المجتمع المسلم، فإن خمسة من مصارفها الثمانية تتمثل في ذوى الحاجات الأصلية أو الطارئة من الفقراء والمساكين وفى الرقاب والغارمين وابن السبيل، ومصرف سادس لخدمة هذه المصارف وهو الجهاز الإداري لجمع الزكاة وتفريقها.
أما المصرفان الباقيان فلهما علاقة بسياسة الدولة الإسلامية ورسالتها في العالم، ومهمتها في الداخل والخارج، فلها -من مال الزكاة- أن تؤلف القلوب على الإسلام، استمالة إليه، أو تثبيتًا عليه، أو ترغيبًا في الولاء لأمته، والمناصرة لدولته، أو نحو ذلك مما تقتضيه المصلحة العليا للأمة.
كما أن للزكاة دورًا في تمويل الجهاد، ومنه نشر الدعوة، وحماية الأمة من الفتنة، وإعانة المجاهدين والدعاة حتى تعلو كلمة الإسلام، ويظهر دين محمد -صلى الله عليه وسلم- على الدين كله، ولو كره المشركون.
وربما يقول بعض الناس: إن كتبنا القديمة قد حفلت بالشيء الكثير عن الزكاة وأحكامها، وفصلت فيها القول، حيث تعرض لها المفسرون والمحدثون والفقهاء، كل في مجال اختصاصه، وخلفوا لنا من بحوثهم ثروة غير قليلة. فما وجه حاجتنا إلى بحث جديد، وما مهمة هذا البحث؟.
والجواب: إن مادة البحث المتعلقة بالزكاة غزيرة وموفورة بلا ريب. ولكن يلاحظ على هذه المادة أمور:
(أ) أنها كتبت بلسان غير لسان عصرنا، إذ لا شك أنها تحمل طابع عصرها، من حيث العرض والأسلوب والتقسيم والمصطلحات والتقديرات وغيرها. فلا بد من إعادة عرضها عرضًا يلائم روح العصر، ويعين على تصور حكم الإسلام فيها، كما يجب ترجمة المعايير والتقديرات القديمة إلى مقاييس زمننا، ليمكن فهمها وتطبيقها.
(ب) أن هذه المادة مبعثرة بين مختلف المصادر والمظان: من كتب التفسير إلى كتب الحديث، إلى كتب الفقه العامة، إلى كتب الفقه المالي والإداري، وغيرها من مراجع الثقافة الإسلامية؛ فلا بد من جمع شتاتها، وضم بعضها إلى بعض ضمًا يجعل منها عقدًا منتظمًا.
(جـ) أنها بقدر غزارتها حافلة بالاختلافات بين المذاهب بعضها وبعض، وفى داخل كل مذهب بين الروايات والأقوال والوجوه، وما حولها من تصحيحات وترجيحات. وهذا -برغم دلالته على الخصوبة والسعة والتسامح الفكري- يجعل أخذ رأى من الآراء المعروضة للعمل به أمرًا صعبًا، وخصوصًا إذا تولت أمر الزكاة مؤسسة عامة من قبل الدولة، أو بإشرافها.
فلا بد إذن من اختيار أرجح الآراء، وفقًا لنصوص الشريعة ومقاصدها الكلية، وقواعدها العامة، مع مراعاة طبيعة عصرنا، وتطور أوضاع المجتمع الإسلامي فيه، فقد يصلح رأى لزمن ولا يصلح لغيره، ويصلح لبيئة ولا يصلح لأخرى، ويفتى به في حال، ولا يفتى به في حال آخر . ولهذا قرر المحققون كابن القيم وغيره: أن الفتوى تختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال والعوائد.
(د) أن هناك أموالاً جدت في عصرنا لم تكن معروفة في عصور الاجتهاد الفقهي، وإن كان بعضها موجودًا، فهو لم يكن بحجمه اليوم، كالعمارات السكنية الاستغلالية والمصانع والأسهم وغيرها. فما رأى الفقه المعاصر فيها ؟ وما موقف المجتهد المسلم منها ؟. لا بد من جواب بالإثبات أو النفي أو التفصيل.
(هـ) أنها لم تُعطَ عناية كبيرة لتجلية الأهداف والمقاصد الإنسانية والاجتماعية المنوطة بهذه الفريضة، لعدم شعورهم بكثير من الحاجة إليها، ونظرًا لغلبة الطابع التعبدي عليها، وإن كان الباحث الصبور لا يعوزه أن يجد هنا وهناك لقطات وقبسات ذات دلالة واضحة.
فلا بد من تجلية هذه الأهداف، وإلقاء الضوء الكافي عليها، وبخاصة أن غلبة الشكوك والشبهات في زمننا - نتيجة ضعف المسلمين وتخلفهم، وقوة خصومهم وتقدمهم - جعلت العقول لا تكتفي بمعرفة الحكم حتى تدرك سره وحكمته.
ولنا في تعليلات القرآن والسنة للأحكام والأوامر والنواهي، بشتى أساليب التعليل وأدواته - أسوة حسنة.
(و) وبعد ذلك، أن لكل عصر اهتماماته ومشكلاته الفكرية والنفسية والاجتماعية، التي تشغل أهله، وتترك أثرها في إنتاجهم العلمي، وتراثهم الفكري، ثم يأتي عصر آخر، فتنطفئ جمرة هذه المشكلات، وتخف حرارتها حتى تتحول إلى رماد. على حين تثور قضايا ومشكلات جديدة تشغل أفكار اللاحقين، لم تكن ذات بال، بل ربما لم يكن لها وجود عند السابقين.
وفى عصرنا برزت المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في العالم كله، وتعددت المذاهب والأنظمة الداعية إلى حلها، وقام من أجل ذلك صراع مذهبي رهيب، قسم العالم إلى معسكرين فكريين متقابلين: معسكر الرأسمالية ومن يمشى في ركابها، ومعسكر الشيوعية ومن يدور في فلكها؛ على حين يقف المسلمون بين هؤلاء وهؤلاء متفرجين أحيانًا، ومائلين أحيانًا أخرى إلى هذا المعسكر أو ذاك، كأنما ليس لهم نظامهم الفذ، ومذهبهم المتميز الذي جعلهم الله به أمة وسطًا.
ولا بد أن يسهم الباحثون المسلمون - بقدر ما آتاهم الله من علم وفكر - في توضيح الفكرة الإسلامية، وتحديد الموقف الإسلامي، وخاصة في المجال الاقتصادي والاجتماعي. حتى نستغني بما عندنا عن الاستيراد من عند غيرنا، ولا سيما إذا كان ما عندنا أعدل وأكمل وأمثل؛ لأنه صبغة الله: (ومن أحسن من الله صبغة)(البقرة: 138).
ولعل هذا الكتاب يساهم بنصيب متواضع فى هذه السبيل، وعسى أن تتبعه بحوث وبحوث، تجلى ما نقصد إليه من بيان تميز الإسلام وتفوقه على جميع المذاهب الاجتماعية في العالم.
كلمة عن مصادر الاستدلال والمعرفة للزكاة
لن أتحدث هنا عن منهج البحث في هذا الكتاب وقواعده في الاستنباط والاختيار والترجيح، فقد وضحت ذلك في مقدمة الطبعة الأولى، ولكنى أزيد هنا كلمة عن مصادر المعرفة والاستدلال، التي اعتمدت عليها، وموقفي منها.
وإذا كان البحث عن "فقه الزكاة" في الإسلام، فلا بد من الرجوع إلى منابع أو مصادر المعرفة الإسلامية الصحيحة، لنتبين منها حقيقة الزكاة وأهدافها، كما جاء بها الإسلام. ولا بد من تحديد قيمة كل مصدر منها، ومرتبته من غيره، وطريقة الأخذ منه والاستدلال به.
القرآن الكريم
ولا ريب أن أول هذه المصادر التي يستمد منها الباحث معرفته عن " الزكاة " هو القرآن الكريم. الذي أشار إلى وجوب الزكاة منذ العهد المكي. ثم أكد وجوبها في المدينة بشتى الأساليب، ونبه إلى بعض الأموال التي تجب فيها الزكاة مثل الكسب وما خرج من الأرض والذهب والفضة، كما نص على مصارف الزكاة الثمانية، وأشار إلى بعض أهدافها. وكرر الحديث عن الزكاة والصدقة والإنفاق في كثير من الآيات التي تناولتها بالشرح والبيان كتب التفسير على اختلاف ألوانها، وبخاصة ما عُنِىَ منها بالأحكام أو وضع له ابتداء.
والقرآن باعتباره دستور الإسلام، لم يتعرض للجزئيات والتفصيلات، ولهذا كثرت فيه العمومات والإطلاقات . ورأى هو الأخذ بها، وإعمالها، ما لم يخصصها أو يقيدها دليل صحيح من السنة، أو من قواعد الشرع العامة.
ولهذا مِلت إلى التوسعة في "وعاء الزكاة" عملاً بعموم: (خذ من أموالهم) (التوبة: 103). وما شابهها. ورجحت رأي أبى حنيفة في تزكية كل ما خرج من الأرض، عملاً بعموم: (ومما أخرجنا لكم من الأرض) (البقرة: 267) على حين خالفته - رضي الله عنه - في عدم اشتراط النصاب، لصحة حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" ثبوتًا ودلالة. ولم آخذ بإطلاق: "في سبيل الله" حسب وضعها اللغوي الأصلي، لما قيدها من استعمال الشرع، ومن حكم السياق. ولكنى رجحت توسيع مدلول الجهاد -الذي فهمه الجمهور من العبارة- بحيث يشمل كل معاني الجهاد: العسكرية والفكرية والتربوية والاجتماعية، ونحوها.
السنة النبوية
وثاني هذه المصادر هو السنة النبوية -قولية وعملية وتقريرية-. فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- هو المبين للناس ما نزل إليهم بنص القرآن، ولهذا كانت سنته هي الشرح النظرى، والتفسير العملي لكتاب الله، فهي التي تفصل ما أجمله، وتفسر ما أبهمه، وتقيد ما أطلقه، وتخصص ما عممه، وتضع الصور العملية لتطبيقه ؛ فلولا السنة لم يعرف المسلم صلاته ولا زكاته ولا حجة ولا عمرته، متى تكون؟ وكيف تكون؟ وكم تكون؟ فإنه مجملة في القرآن العزيز غاية الإجمال.
روى أبو داود: أن رجلاً قال لعمران بن حصين -رضى الله عنه-: يا أبا نجيد! إنكم لتحدثوننا بأحاديث ما نجد لها أصلاً في القرآن، فغضب عمران، وقال للرجل: أوجدتم: في كل أربعين درهما درهم؟ ومن كل كذا شاة شاة؟ ومن كل كذا وكذا بعيرًا كذا؟ أوجدتم هذا في القرآن؟! قال: لا. قال: فممن أخذتم هذا؟ أخذتموه عنا، وأخذناه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وذكر أشياء نحو هذا (انظر: مختصر السنن للمنذري: 2/174).
يعنى أنه ذكر له أشياء من الصلاة والحج وغيرهما مما جاء في القرآن مجملاً وبينته السنة.
ولا غرو أن تكون السنة هي المصدر الخصب لأحكام الزكاة وأسرارها، وأن يكون للزكاة في كتب السنة مجال رحب، ومكان فسيح.
ففي كتاب الزكاة من الجامع الصحيح للإمام البخاري من الأحاديث المرفوعة (172) مائة واثنان وسبعون حديثًا، وافقه مسلم على تخريجها سوى سبعة عشر حديثًا (ذكر ذلك الحافظ فى خاتمة كتاب الزكاة من فتح الباري: 4/120 - ط. الحلبي)0، وهذا عدا الآثار المروية عن الصحابة والتابعين.
وفى مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري (70) سبعون حديثًا (من الحديث رقم (500) إلى رقم (570) ط. وزارة الأوقاف الكويتية. تحقيق الشيخ ناصر الدين الألباني).
وفى سنن أبى داود (145) مائة وخمسة وأربعون حديثًا (من الحديث رقم (1556) إلى رقم (1700) - 2/126 - 180 تحقيق الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد).
وفى سنن ابن ماجة (61) واحد وستون حديثًا (من الحديث رقم (783) إلى رقم (844) - ط . عيسى الحلبي. تحقيق: المرحوم محمد فؤاد عبد الباقي).
وفى مسند أحمد (252) مائتان واثنان وخمسون حديثًا، وفق ترتيب المرحوم الشيخ أحمد عبد الرحمن البنا للمسند على الأبواب (انظر: الجزأين الثامن والتاسع من "الفتح الرباني" ترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني للشيخ أحمد عبد الرحمن البنا).
وفى سنن الدارقطني في كتاب الزكاة وزكاة الفطر (251) مائتان وواحد وخمسون حديثًا (من ص89 - 154 من الجزء الثاني - ط . دار المحاسن للطباعة بالقاهرة).
وفى "السنن الكبرى" للبيهقي عدد جم من الأحاديث ملأ (119) مائة وتسع عشرة من الصفحات من القطع الكبير (من ص81 -199 من الجزء الرابع- ط. حيدر آباد بالهند).
وفى كتاب "جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد" (195) مائة وخمسة وتسعون حديثًا (لمؤلفه العلامة محمد بن محمد بن سليمان الروداني الفاسي المغربي (المتوفى بدمشق سنة 1094 هـ) . الذي جمع فيه أحاديث 14 كتابًا: الكتب الستة، والموطأ، ومسانيد أحمد والدارمي وأبى يعلى والبزار ومعاجم الطبراني الثلاثة. بتعليق وتحقيق السيد محمد هاشم اليماني).
وفي "الترغيب والترهيب" للمنذري (328) ثلاثمائة وثمانية وعشرون حديثًا (من الحديث رقم (1068) إلى رقم (1396) - 2/98 - 208 - ط. السعادة تحقيق المرحوم الشيخ محمد محيى الدين عبد الحميد).
وفي "المطالبة العالية بزوائد المسانيد الثمانية" (المراد بها: مسانيد أبى داود الطيالسي، والحميدي، وابن أبي عمر، ومسدد، وأحمد بن منيع، وأبى بكر بن أبى شيبة، وعبد بن حميد، والحارث بن أبى أسامة، والمسانيد كتبت مرتبة على أساس إفراد ما رواه كل صحابي على حده، في أي باب كان، وسواء أكان الحديث صحيحًا أم حسنًا أم ضعيفًا . فيقال مثلاً: مسند أبى بكر، ويروى فيه كل ما رواه أبو بكر.. وهكذا) للحافظ ابن حجر (98) ثمانية وتسعون حديثًا (من رقم (809) إلى رقم (907) - 1/231 - 265 - ط. المطبعة العصرية بالكويت... نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت).
على أن الاستدلال بالسنة، والاستشهاد بالأحاديث، مزلة قدم لمن يأخذ أي حديث يصادفه في أي كتاب من الكتب المشهورة في الفقه أو التصوف أو التفسير ونحوها، ممن لم يلتزم مؤلفوها تخريج ما يذكرونه من الحديث، أو حتى مجرد نسبته إلى من أخرجه من أئمة السنة، وهذا أمر لم يسلم منه جماعة من كبار الفقهاء والمتصوفة والمفسرين.
كما أن عزو الكتاب إلى مصدره لا يكفى إلا في الكتب التي يكون العزو إليها معلمًا بالصحة، كالصحيحين وصحيح ابن خزيمة وصحيح ابن حبان، وإن كان في تصحيحهما بعض التساهل، كما نبه على ذلك أئمة النقد، وهما على كل حال أفضل من مستدرك الحاكم الذي لم يفِ فيه بما اشترط على نفسه من التزام إخراج الصحيح فحسب، فأخرج الضعيف والواهي والمنكر، بل الموضوع.
ولهذا ألزمت نفسي غالبًا بأمرين

1-ألا آخذ الحديث إلا من مصادره المعتمدة من دواوين الحديث، وكتبه المشهورة، إما بالرجوع إلى الكتب الأصلية نفسها كالكتب الستة والموطأ ومسند أحمد ونحوها، أو بالرجوع إلى كتب التجميع مثل جامع الأصول، ومجمع الزوائد وجمع الفوائد، والجامع الصغير، وكنز العمال ونحوها، أو الكتب الخاصة بنوع معين من الحديث، كالترغيب والترهيب، ومنتقى الأخبار، وبلوغ المرام، ونحوها.
وحين أضطر إلى نقل حديث من كتاب فقهي أو نحوه، أعمل على تخريجه من كتب التخريج المعروفة التي خدم بها حفاظ الحديث ونقاده الكتب الشهيرة في الفقه وغيره، مثل " نصب الراية لأحاديث الهداية " للحافظ الزيلعي، وملخصه للحافظ ابن حجر المسمى بـ "الدراية" و "تلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير" لابن حجر أيضًا، ومثل ذلك تخريج الحافظ زين الدين العراقي لكتاب "إحياء علوم الدين" للغزالي.
2- بيان درجة الحديث من حيث الصحة، أو الحسن، أو الضعف.
فما لم يكن في الصحيحين وما ألحق بها من الكتب التي التزمت الصحة، فغالبًا ما أبين درجته نقلاً عن أئمة هذا الشأن، إذ ليس كل ما في كتب السنن والمسانيد والمعاجم في درجة الصحة أو الحسن المحتج به، ففيها الضعيف، والضعيف جدًا، بل الموضوع.
وعمدتي في الاستدلال إنما هو الحديث الصحيح أو الحسن، فأما الضعيف فلا أذكره إلا للاستئناس به، وتأييد ما ثبت بغيره من أدلة الشرع ونصوصه وقواعده؛ إذ من المقرر المعرف أن الضعيف لا يعمل به في الأحكام، وإنما أستأنس بالضعيف المقارب، أما الشديد الضعف، أو ما لا أصل له، فلم أُدخله في كتابي -والحمد لله- إلا إذا جاء ضمن نص منقول، فأبقيه حسبما تقتضيه الأمانة العلمية، مع التنبيه على درجته في الحاشية.
3- سنن الخلفاء الراشدين المهديين
وثالث هذه المصادر: السوابق التطبيقية للصحابة وخاصة سنة الخلفاء الراشدين المهديين الذين ألحق الرسول - صلى الله عليه وسلم- سنتهم بسنته، وأمرنا بالتمسك بها والحرص عليها، في حديثه الذي رواه عنه العرباض بن سارية: " إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى، عضوا عليها بالنواجذ"
(رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي: حسن صحيح. وهو الحديث الثامن والعشرون من الأربعين النووية).
وأولى من ينطبق عليه هذا الحديث هم الخلفاء الأربعة -رضى الله عنهم-، وألحق بهم بعض العلماء: عمر بن عبد العزيز الذي عدوه خامس الراشدين بحق كما تشهد بذلك سيرته وأعماله ومآثره -رضى الله عنه-.
وإليه ذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه (المنار المنيف لابن القيم بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبى غدة ص150).
ومن هنا احتفلنا بهدي العمرين في جمع الزكاة وتفريقها، وخصوصًا عمر الأول. فإن سنته التي سار عليها مع وجود الصحابة وإقرارهم لها -رضى الله عنهم- تعد جزءًا من مصادر التوجيه والتشريع في الإسلام، بنص الحديث النبوي المذكور.
4- أقوال الفقهاء
ورابع تلك المصادر: أقوال الفقهاء وآراؤهم، سواء أكانت تفسيرًا للنصوص، أم استنباطًا منها، أو قياسًا عليها، أو تعليلاً لها، فما كان من هذه الأقوال موضع إجماع متيقن فهو حجة لا أعدوه، وما لم يكن كذلك فهو "رصيد" ثمين أستفيد منه وأنتفع به، ولكنى لا ألتزم مذهبًا واحدًا آخذ بكل أقواله واجتهاداته، فقد يسوغ هذا للمرء في خاصة نفسه.
أما إذا أريد لنظام كالزكاة أن يوضع موضع التنفيذ في دولة عصرية مسلمة، فلا بد من التخير من أقوال الفقهاء، ما يكون أقوى حجة، وأقرب إلى مقاصد الشرع، وروح الإسلام. ولا أعنى بالفقهاء أئمة المذاهب الأربعة -رضى الله عنهم- وأتباعهم فحسب، بل أعنى فقهاء الإسلام منذ عهد الصحابة، فقد أستدل بقول أحد الراشدين أو معاذ أو عائشة أو ابن عمر أو ابن عباس أو غيرهم، وقد أستشهد بقول تابعي كالزهري أو عطاء أو الحسن أو مكحول أو النخعي، وقد آخذ بقول الأتباع وأتباعهم كالثوري والأوزاعي وأبى عبيد وإسحاق وغيرهم.
فأئمتنا المتبوعون على فضلهم ومكانتهم، ليسوا هم كل فقهاء الأمة، وإن كانت مذاهبهم بما تيسر لها من خدمة أصحابهم وتلاميذهم وأتباعهم في مختلف الإعصار والأقطار، قد نمت ونضجت واتسعت، وأصبحت بذلك النبع الثر، والمصدر السخي لكل دارس لشريعة الإسلام.
ولكننا نحجر واسعًا، إذا أغلقنا الباب دون الانتفاع بتراث السلف كله، وهو ثروة طائلة من العلم الأصيل، والاجتهاد المستقل، لا تقدر بثمن. وقد انتفعت بحمد الله بهذا وهذا كله، فرجعت إلى تراث الصحابة والسلف في الكتب التي عنيت بذلك مثل كتاب "الخراج" ليحيى بن آدم، و"الخراج" لأبى يوسف، وكتاب "الأموال" لأبى عبيد القاسم بن سلام ، ومثل "مُصنَّف عبد الرزَّاق"، و "مصنف ابن أبى شيبة"، وهما أعظم سجل لفقه الصحابة والتابعين، وإلى كتب الحديث وشروحها بصفة عامة، وبخاصة مثل "سنن البيهقي" و "وفتح الباري" لابن حجر و "نيل الأوطار" للشوكاني و "سبل السلام" للصنعاني، وما شابهها.
هذا الكتاب و هذه الطبعة
هذا .. ويسرني أن أقدم لهذه الطبعة من "فقه الزكاة" التي تنشر لأول مرة في مصر العزيزة، بعد أن طبع الكتاب خمس عشرة طبعة في لبنان وانتشر في العالم الإسلامي كله بحمد الله، وترجم إلى عدة لغات إسلامية وعالمية. ومن فضل الله أن أهل العلم في أقطار الأمة الإسلامية، تقبلوا الكتاب بقبول حسن، وأضفوا على مؤلفه من الأوصاف ما يشكر الله تعالى عليه، سواء منهم المشتغلون بالعلوم الشرعية، والمشتغلون بالعلوم الاقتصادية والمالية والقانونية والاجتماعية. فقد غدا الكتاب مرجعًا أساسيًا لكل باحث في هذه الميادين من وجهة النظر الإسلامية. وقد وصلت المؤلف رسائل جمة من كبار الشخصيات الإسلامية العالمية تنوه بالكتاب وأصالته وتشيد بما بذل فيه من جهد، وما أدى من خدمة للفقه الإسلامي والاقتصادي الإسلامي المعاصرين.
وآخرون أشادوا به في مناسبات شتى: في كتبهم، أو محاضراتهم، أو حلقاتهم لقرائهم، أو طلابهم أو مشاهديهم أو مستمعيهم. أذكر من هؤلاء الأجلاء الكبار: الشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ أبا الحسن الندوي، الأستاذ مصطفى الزرقا، الشيخ عبد الله بن زيد المحمود، الشيخ على الطنطاوي، الأستاذ البهي الخولي، الدكتور محمد البهي، الدكتور محمود أبو السعود. وقال عنه الأستاذ أبو الأعلى المودودي: إنه كتاب هذا القرن -أي الرابع عشر الهجري- في الفقه الإسلامي (نقل ذلك عنه الأستاذ خليل أحمد الحامدي، مدير القسم العربي بالجماعة الإسلامية بباكستان). وقال الأستاذ محمد المبارك - رحمه الله - في مقدمة كتابه "نظام الإسلام الاقتصادي":. "ومن الكتب الحديثة ما هو خاص بموضوع معين، ومن هذا النوع كتاب "فقه الزكاة" للأستاذ يوسف القرضاوي، وهو موسوعة فقهية في الزكاة استوعبت مسائلها القديمة والحديثة، وأحكامها النصية والاجتهادية على جميع المذاهب المعروفة المدونة، لم يقتصر فيها على المذاهب الأربعة، مع ذكر الأدلة ومناقشتها، وعرض لما حدث من قضايا ومسائل، مع نظرات تحليلية عميقة، وهو بالجملة عمل تنوء بمثله المجامع الفقهية، ويعتبر حدثًا هامًا في التأليف الفقهي .. جزى الله مؤلفه خيرًا ". وقال عنه الشيخ محمد الغزالي: لم يؤلف في الإسلام مثله في موضعه. (قال ذلك في كتابه: مائة سؤال في الإسلام). ولا غرو أن عُنِىَ الإخوة المسلمون في أقطار شتى بنقله إلى لغاتهم، بعضهم بإذن منى، وبعضهم بلا إذن ! اعتقادًا منهم بأني لا أمانع في نشر كتبى، كما فعلوا في أكثر مؤلفاتي، أسأل الله أن ينفع بها. وقد ترجم الكتاب إلى الأوردية، مختصرًا في الهند أولاً، ثم كاملاً بعد ذلك في باكستان وكذلك ترجم إلى التركية والبنغالية (لغة جمهورية بنجلاديش) والإندونيسية. كما تبنى المركز العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي، التابع للملك عبد العزيز بجدة، ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، وكلف بذلك الباحث الاقتصادي الإسلامي المعروف الدكتور منذر قحف، وقد أبلغني مدير المركز منذ عام بأنه أنجز ترجمة الجزء الأول، وفى سبيله لإكمال الجزء الآخر.
كما عرفت في زيارتي لماليزيا في شهر مارس الماضي، أن جامعة الملايو كلفت لجنة للقيام بترجمة الكتاب إلى اللغتين: الإنجليزية والماليزية.
وأحمد الله حمدًا كثيرًا طيبًا، أن وجد المسلمون في الكتاب ما يلبى حاجة من حاجاتهم العلمية في عصرنا.
ومن جهة أخرى كان الكتاب مرجعًا أساسيًا لكل القوانين التي صدرت في البلاد الإسلامية عن "الزكاة" وإن لم يأخذوا بكل ما فيه من اجتهادات، نظرًا لغلبة الطابع المذهبي على الفقه السائد إلى اليوم.
ولا ريب أن الاجتهادات الجديدة لا تتقبل بسهولة في مجتمعات مثل مجتمعاتنا، وتحتاج إلى زمن حتى تثبت وجودها، ويكثر أنصارها.
وكم من اجتهادات رفضت وعدت من الشذوذ المردود، حتى جاء زمن أصبحت فيه محور الإصلاح والتجديد، كما رأينا في آراء شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم.
وكم من آراء رفضت في قانون الأسرة منذ عقود من السنين قبلت بعد ذلك، وغدت سائغة.
وحسبي اليوم أن المؤتمرات والمجامع الفقهية التي تبحث في بعض موضوعات الزكاة، ينقسم أعضاؤها إلى قسمين: قسم يؤيد ما تبناه "فقه الزكاة" وهم حتى اليوم أقل عددًا. وقسم لا يوافق عليه. وأعتقد أن القسم الأول ينمو ويزداد مع الأيام.
وأود أن أشير إلى أن هذه الطبعة ليس فيها إضافة، إلا لمسات قليلة جعلتها بين معقوفين، للدلالة على أنها من زيادة هذه الطبعة، ومعظمها في الحواشى، وبعضها تصحيح أخطاء مطبعية قام باستدراكها الأخ الفاضل الشيخ عبد التواب هيكل جزاه الله خيرًا وهى ليست كثيرة بالنسبة لحجم الكتاب، وأهم ما صححته خطأ حسابي في تقدير الصاع بالكيلو جرام، ترتب عليه خطأ في تقدير نصاب الزروع والثمار ؛ وكنت اعتمدت في حساب ذلك على زميل يدرس الرياضيات، كان معي في معهد قطر الديني الثانوي، فسامحه الله وسامحنا معه.
والمهم الآن هو تصحيح مقدار الصاع وهو بالجرامات: 2146 (حسب الوزن بالقمح) وقد حسب في الطبعة الأولى -التي صورت عنها الطبعات السابقة- 2176 من الجرامات . ومقدار النصاب، وهو ثلاثمائة صاع يساوى: 646.96 ك.ج (وبالتقريب 674 ك.ج) قد حسب من قبل على أنه 652.8 ك.ج .(أو بالتقريب 653 ك.ج).
وأرجو ممن يقتنى الكتاب في طبعاته السابقة أن يهتم بتصويب هذا الخطأ. وكذلك الذين ترجموه إلى اللغات الأخرى.
والفرق على كل حال يسير، وهو مما يتسامح في مثله شرعًا، وبخاصة أن الشريعة لم تحدد المقادير مثل هذا التحديد الدقيق الصارم؛ بل قالوا في تقدير المد- وهو ربع الصاع: هو ملء يدي الرجل المتوسط.
ولكن ما دمنا قد قدرنا بالمعايير الحديثة، فعلينا ضبطها بها ضبطًا سليمًا ليكون أقرب إلى المطلوب شرعًا، بحسب اجتهادنا البشري.
وأخيرًا .. أسأل الله جل وعلا أن ينفع بهذا الكتاب -في الدنيا والآخرة- من ألفه، أو ترجمه، أو نشره، أو قرأه، أو ساهم في ذلك من قريب أو بعيد.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علمًا. نحمدك اللهم على كل حال، ونعوذ بك من حال أهل النار.
القاهرة في 14 ربيع الآخر سنة 1406 هـ.
ديسمبر سنة 1985م.
يوسف القرضاوي.

admin 02-28-2011 09:17 PM

مقدمة الطبعة الأولى
 
مقدمة الطبعة الأولى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد .
فإن الزكاة هي الركن المالي الاجتماعي من أركان الإسلام الخمسة، وبها -مع التوحيد وإقامة الصلاة- يدخل المرء في جماعة المسلمين، ويستحق أخوتهم والانتماء إليهم، كما قال تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (التوبة: 11).
وهى -وإن كانت تذكر في باب العبادات باعتبارها شقيقة للصلاة- تعد في الحقيقة جزءًا من نظام الإسلام المالي والاجتماعي، ومن هنا ذكرت في كتب السياسية الشرعية والمالية.فلا عجب أن عُنِيَ علماء الإسلام ببيان أحكامها وأسرارها، كل في دائرة اختصاصه.
فالمفسرون
يتعرضون لها في تفسير الآيات التي تتعلق بشأنها، مثل الآية رقم (267) وما بعدها من سورة البقرة، والآية رقم (141) من سورة الأنعام، والآيات (34، 60، 103) من سورة التوبة وغيرها من الآيات في سور شتى. وقد أوسع القول في هذه الآيات المفسرون الذين يعنون بأحكام القرآن، كأبي بكر الرازي المعروف بالجصاص، وأبى بكر بن العربي، وأبى عبد الله القرطبي.
والمحدثون وشراح الحديث
يتعرضون لها عند ذكر الأحاديث الخاصة بها، وفى كل كتاب من كتب السنة المصنفة على أبواب الفقه - كموطأ مالك وصحيحي البخاري ومسلم، وجامع الترمذي، وسنن النسائي وأبى داود وابن ماجة - كتاب خاص بالزكاة، وما جاء فيها من السنن القولية والعملية، وفى صحيح البخاري وحده، اشتمل كتاب "الزكاة" من الأحاديث المرفوعة على مائة حديث واثنين وسبعين حديثًا، وافقه مسلم علىتخريجها سوى سبعة عشر حديثًا، وفيه من الآثار عن الصحابة والتابعين عشرون أثرًا (انظر: خاتمة كتاب الزكاة من فتح البارى: 4/120 - ط . الحلبي بمصر).
والفقهاء
يعرضون للزكاة في كتب الفقه باعتبارها العبادة الثانية في الإسلام، ولهذا تذكر في أبواب العبادات عقب الصلاة استنانًا بالقرآن والسنة.
وعلماء الفقه المالي والإداري في الإسلام
يعرضون لها باعتبارها جزءًا من النظام الإسلامي المالي والاجتماعى، ولهذا نجدها في كتاب الخراج لأبى يوسف، والخراج ليحيى بن آدم، والأموال لأبى عبيد، والأحكام السلطانية لكل من الماوردي الشافعي، وأبى يعلى الحنبلي، والسياسة الشرعية لابن تيمية. وإذن فالمادة التي يحتاج إليها الباحث في الزكاة غزيرة، ومصادرها موفورة، فما وجه الحاجة إذن إلى بحث جديد في الزكاة؟. وبعبارة أخرى: هل كانت المكتبة الإسلامية الحديثة في حاجة إلى بحث كبير كهذا البحث، يبين أحكام الزكاة وأهدافها وآثارها في حياة الفرد والمجتمع، ومكانها من الأنظمة المالية والاجتماعية المعاصرة؟. ونستطيع أن نجيب مطمئنين بالإيجاب، بل نؤكد أن الحاجة لمثل هذا البحث شديدة وماسة من عدة نواحٍ:
1- فإن مثل هذا الركن الخطير من أركان الإسلام يحتاج من الباحثين والكاتبين إلى إعادة عرضه، وجمع ما تبعثر من أحكامه وأسراره في شتى المصادر، وإبرازه في قالب عصري وبأسلوب عصري، ولا يكتفي بما ألفه فيه علماؤنا في العصور الماضية، فإنهم ألفوا لعصرهم، وبأسلوب عصرهم، ولكل عصر لغة، ولكل مقام مقال: (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) (إبراهيم :4).
إن في الاقتصاد الإسلامي موضوعين رئيسيين يجب أن يُدْرسا ويُخْدما ويُجَلَّيا من كل جوانبهما: وهما موضوعان متقابلان: أحدهما في الجانب الإيجابي، والثاني في الجانب السلبي، أحدهما في فرائض الإسلام بل في أركانه الأساسية الخمسة، والآخر في محرمات الإسلام بل في الكبائر الموبقات السبع؛ فالأول هو الزكاة، والثاني هو الربا، فمن أنكر فرضية الأول، أو حرمة الثاني كان كافرًا مرتدًا بالإجماع.
والواقع أن الموضوع الثاني -الربا- قد لقى شيئًا من العناية والخدمة أكثر مما لقيه الموضوع الأول. فقد كتب فيه الأساتذة أبو الأعلى المودودي (في كتابه "الربا" وقد نشر بالعربية وطبع عدة مرات). ومحمد عبد الله دراز (في رسالة "الربا" وقد ألقاها كممثل للأزهر فى مؤتمر الفقه الإسلامي بباريس سنة 1951)، وعيسى عبده (في رسالته "لماذا حرم الله الربا" وقد نشرتها مكتبة المنار الإسلامية بالكويت في سلسلة "نحو اقتصاد إسلامي سليم")، ومحمد أبو زهرة (في رسالة "تحريم الربا تنظيم اقتصادي" نشرت في السلسلة المذكورة)، ومحمد عبد الله العربي (في بحث له عن "الملكية الخاصة وحدودها في الإسلام" ألقاه في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة، ونشره المجمع في كتابه الأول)، ومحمود أبو السعود (في كتابه: "خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي" وفي بحث له: هل يمكن إنشائي بنك إسلامي؟ نشرته مكتبة المنار أيضًا)، ومحمد باقر الصدر (في كتابه "اقتصادنا" نشرته "دار الفكر" في لبنان، وفى رسالة "البنك اللاربوي")، ومحمد عزيز (في بحثه "عوامل النجاح في البنك اللاربوي" نشرته "المنار" فى سلسلتها أيضًا) إلى غير ذلك من البحوث والمقالات التي تناولت الربا من زاوية إسلامية خالصة، أو من زاوية متأثرة بالنظرة الرأسمالية الغربية إلى المال وإلى الحياة.
ولا زال الموضوع في حاجة إلى خدمة أعمق وأوسع، ولا يزال المجال فسيحًا لمن يبذل فيه جهدًا أكبر، معتمدًا على الدراسة المقارنة، مع الرجوع إلى مصادر الإسلام الأصلية . ولكنه على كل حال نال قسطًا من العناية. أما موضوع الزكاة فلم يأخذ حقه من عناية العلماء والباحثين . ولم يُخدم كما ينبغي لموضوع مثله، له مكانته ومنزلته فى فرائض الإسلام وفى نظامه المالي والاقتصادي والاجتماعي.
2- وهناك مسائل قديمة اختلف فيها الفقهاء من قديم، وكلٌّ أبْدَى رأيه، وذكر أدلته، وترك أصحاب الفتوى يُناقض بعضهم بعضًا، كلٌّ ينصر مذهبه، ويعضد إمامه، وجمهور المستفتين في حيرة أمام تناقض المفتين، فكانت الحاجة ماسة أشد المساس إلى إعادة النظر في هذه الأقوال، وأدلة كل منها، ومناقشتها في حياد وإنصاف، وعرضها على الكتاب والميزان اللذين أنزلهما الله، والوصول بعد ذلك إلى الرأي الراجح الذي يستطيعه باحث غير معصوم. وعلى هذه الحاجة نبَّه الأستاذ الأكبر المرحوم الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة" (الإسلام عقيدة وشريعة ص109 - ط . دار القلم بمصر) . حيث قال تحت عنوان "الزكاة ركن ديني عام":
"على رغم ما أعتقد من أن الخلاف النظري يدل على حيوية فكرية قوية، وعلى سماحة النظام الذي يكون في ظله ذلك الخلاف، على الرغم من ذلك، فكم يضيق صدري حينما أرى مجال الخلاف بين الأئمة في تطبيق هذه الفريضة يتسع على النحو الذي تراه في كتب الفقه والأحكام. "هذه الفريضة التي كثيرًا ما تقترن بالصلاة، يجب أن يكون شأن المسلمين فيها أو شأنها عندهم جميعًا كشأنهم في الصلاة، وشأن الصلاة فيهم، تحديد بين واضح لا لبس فيه ولا خلاف، خمس صلوات في اليوم والليلة". "هذه الفريضة تكون معظم جهاتها في الأصل والمقدار محل خلاف بين العلماء، وبالتالي تكون باختلافهم فيها مظهر تفرق في الواجب الديني بين المسلمين جميعًا لاختلافهم في التقليد وتعدد السبل".
"هذا يزكى مال الصبي والمجنون، وذاك لا يزكيه، وهذا يزكى كل ما يستنبته الإنسان في الأرض، وذاك لا يزكى إلا نوعًا خاصًا أو ثمرة خاصة، وهذا يزكى الدين وذاك لا يزكيه، وهذا يزكى عروض التجارة وذاك لا يزكيها، وهذا يزكى حلى النساء وذاك لا يزكيه، وهذا يشترط النصاب وذاك لا يشترط وهذا وهذا إلى آخر ما تناولته الآراء فيما تجب زكاته وما لا تجب، وفيما تصرف فيه الزكاة وما لا تصرف".
ثم نادى الشيخ الأكبر بالمسارعة إلى إعادة النظر فيما أثر عن الأئمة من موضوعات الخلاف التي خشي أن تمس أصل هذه الفريضة ويكون ذلك النظر الجديد على أساس الهدف الذي قصده القرآن من افتراضها، وجعلها واجبًا دينيًا تكون نسبة المسلمين فيه وفى جميع نواحيه على حد سواء (الإسلام عقيدة وشريعة ص109 - ط . دار القلم بمصر).
3- ثم إن هناك أمورًا جدت في عصرنا، لم يعرفها فقهاؤنا القدامى ولا المتأخرون، وهذه الأمور تحتاج إلى إصدار حكم في شأنها، يريح الناس من البلبلة، ويرد على الأسئلة الحائرة على ألسنة جمهور المسلمين: هناك ثروات ودخول حديثة غير الأنعام والنقود الزروع والثمار . هناك العمارات الشاهقة التي تشيد للإيجار والاستغلال، والمصانع الكبيرة والآلات والأجهزة المتنوعة، وشتى رؤوس الأموال الثابتة أو المنقولة التي تدر على أصحابها أموالاً غزيرة من إنتاجها أو كرائها للناس كالسفن والسيارات والطائرات والفنادق والمطابع وغيرها ؛ هناك أنواع من الشركات التجارية والصناعية . هناك دخل ذوى المهن الحرة كالطبيب والمهندس والمحامى وغيرهم، ودخل الموظفين والعمال من رواتب وأجور ومكافآت - هل تدخل هذه الإيرادات الوفيرة وتلك الأموال النامية في " وعاء الزكاة " ؟ أم تقتصر الزكاة على ما كان في عهد السلف ؟ وإذا قلنا بوجوب الزكاة فيها، فما مقدار الواجب ؟ ومتى يجب ؟ وما الأساس الفقهي لذلك ؟. هناك الأنصبة والمقادير الشرعية التي وردت بها النصوص في الزكاة، كالأوسق الخمسة، في نصاب الزرع والثمر، والصاع في زكاة الفطر، والدراهم المائتين، والدنانير العشرين في زكاة النقود، كيف نحدد هذه الأنصبة الآن ؟ وكيف نترجمها إلى مقاييس العصر؟ وهل هي ثابتة أم تقبل التغيير، نظرًا لتغير الظروف الاقتصادية والاجتماعية وهبوط القدرة الشرائية للنقود - وبخاصة الفضية منها - عما كانت عليه في العهود الإسلامية الأولى؟. ثم هناك الضرائب الحديثة - النوعية وغير النوعية، النسبية والتصاعدية - التي تفرضها الحكومات المعاصرة، وتنفق حصيلتها في تغطية النفقات العامة للدولة، وتحقيق بعض الأهداف الاجتماعية.
ما علاقة هذه الضرائب بالزكاة؟ وما وجه المشابهة والمفارقة بينهما في المصدر والمصرف والمبادئ والأهداف؟ وهل يمكن أن تقوم الضرائب مقام الزكاة؟ وإذا لم يمكن فهل يجوز شرعًا فرض الضرائب بجوار أخذ الزكاة؟.
أسئلة يتطلب عصرنا الجواب عليها، ولا بد لنا أن نبدي فيها رأيًا. وربما يصعب على بعض الناس في عصرنا، أن يصدر عالم اليوم حكمًا في قضية لم يعرف فيها حكم للفقهاء السابقين، وهذا من أثر القول بسد باب الاجتهاد الذي انتشر في بعض العصور، وهو قول ثبت خطؤه وضلاله بلا ريب. ولا يملك أحد إغلاق باب فتحه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . على أن المحققين من علماء الأصول قرروا: أن الاجتهاد يتجزأ، فيمكن أن يكون بعض العلماء مجتهدًا في بعض الأبواب أو بعض المسائل دون غيرها، وهذا أمر ليس بالمتعذر ولا بالمتعسر، على من أراد ذلك من علماء المسلمين، إذا أعد العدة لذلك من دراسة الشريعة واللغة، والرجوع إلى مصادر هذا الدين، وأوتى الملكة التي تمكنه من الموازنة والاستنباط. وأنا أعتقد أن الفصل في هذه الأمور برأي قاطع ملزم يحتاج إلى اجتهاد جماعي، من جماعة علماء المسلمين، ولكنى أعتقد أيضًا أن الاجتهادات والبحوث الفردية المتأنية في مختلف الموضوعات هي التي تنير الطريق لاجتهاد جماعي صحيح، غير مرتجل ولا مبتسر. كما أن الاجتهاد الجماعي الذي يتمثل فيه رأى الأقوياء الأمناء من علماء الإسلام في كافة الأقطار، لا زالت تحول دونه عوائق شتى، يرجع معظمها إلى ألاعيب السياسة، وأهواء الحاكمين. وهناك أفهام خاطئة سائدة - للأسف - عند كثير من المسلمين، حتى الذين يعدون في المثقفين منهم. أفهام تتصور الزكاة بضعة قروش أو ريالات، أو كيلة أو كيلات من حبوب، يتفضل بها رجل غنى محسن على معدم فقير، يسد بها جوعته أيامًا، تقل أو تكثر، ثم يظل هذا الفقير محتاجًا إلى مثل هذا السيد المحسن ليتقبل منه صدقته، ويقبل يده الطاهرة، ويدعو له بالخير والبركة في ماله وولده ... الخ. هذه الصورة التي لا صلة لها بتعاليم الإسلام، والتي حدثت - للأسف أيضًا - في بعض العصور، هي الرائجة لدى الكثيرين.
ولقد وجدنا من الصحفيين اللامعين (هو الكاتب الاشتراكي أحمد بهاء الدين في إحدى مقالاته الأسبوعية في صحيفة أخبار اليوم سنة 1961) من يكتب في إحدى الصحف السيارة في مصر، زاعمًا أن الزكاة لا تصلح في مجتمعنا الحديث، لأن أنظمته الاقتصادية والاجتماعية لا تقوم على الصدقات، وإنما تقوم على العمل والإنتاج!! كأن الزكاة الإسلامية صدقة للمتسولين، أو معونة للمتبطلين القاعدين !.
وكتب غيره كتابًا سمى فيه العدالة الإسلامية "اشتراكية الصدقات" (عن كتاب "من هنا نبدأ" لخالد محمد خالد) وهذا كله لا يدل إلا على جهل فاضح أو قصد سيئ. وبهذا الذي عرضناه هنا، يتبيَّن لنا وجه الحاجة إلى هذا البحث، وضرورة القيام به لمن يقدر عليه، فذلك- كما أعتقد - فرض كفاية على أهل العلم، إذا لم يقم به بعضهم أَثِمَ الجميع. ولقد عجب بعض الباحثين - (هو الأستاذ محمود أبو السعود فى مقال له بمجلة "المسلمون" منذ بضع سنوات) - المعنيين بشئون الاقتصاد والمال في الإسلام كيف خلت المكتبة الإسلامية الحديثة حتى اليوم من مؤلف جاد عن الزكاة، برغم أهميتها ومنزلتها في دين المسلمين، وقد أكد المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بوزارة الأوقاف في مصر هذه الحاجة حين أعلن منذ تسع سنوات عن مسابقة كبرى في عدة بحوث إسلامية، دعا فيها رجال الفكر والقلم من أنحاء العالم الإسلامي إلى الكتابة فيها، بحيث لا يقل البحث عن 350 صفحة كبيرة، وكان منها "الزكاة في الإسلام". وزاد تأكيد هذه الحاجة ما أعلنه مجمع البحوث الإسلامية الذي انعقد بالقاهرة في مارس سنة 1963، وحضره من علماء الإسلام ممثلون لأكثر من أربعين دولة فقد كان من أهم قراراته:. "وأن موضوع الزكاة والموارد المالية في الإسلام وطُرق الاستثمار وعلاقتها بالأفراد والمجتمعات، وحقوق العامة والخاصة، هي موضوعات الساعة، لأنها ملتقى شُعبتين من الشريعة الإسلامية وهما العبادة والسلوك الاجتماعي، ومن أ جل ذلك يقرر المؤتمر أن تكون هذه الموضوعات محور نشاط المجمع في دورته المقبلة" (المؤتمر الأول لمجمع البحوث الإسلامية ص 314).
ومن هنا كانت مهمة هذا البحث محاولة الوفاء بالمقاصد الآتية
(أ) تجميع ما تبعثر عن الموضوع في المصادر الأصلية، بين كتب الحديث والتفسير، وكتب الفقه بمختلف المذاهب، وكتب السياسة الشرعية و المالية، وغيرها من مصادر الثقافة الإسلامية وعرضه عرضًا جيدًا، يعين على تصوير حكم الإسلام فيه.
(ب) محاولة تمحيص ما ورد في الموضوع من خلافات كثيرة، بُغية الوصول إلى أرجح الآراء، وفق الأدلة الشرعية، وعلى ضوء حاجة المسلمين ومصلحتهم في هذا العصر، قدر ما يستطيعه جهد فردى محدود.
(جـ) محاولة إبداء الرأي فيما جد من مسائل وأحداث، متعلقة بالموضوع، لم يعرفها علماؤنا السابقون، مما لا يسع الباحث الإسلامي المعاصر أن يغفله.
(د) تجلية حقيقة الزكاة باعتبارها ضريبة إسلامية، والموازنة بينها وبين الضرائب الحديثة، وبيان ما بينهما من مشابهات ومفارقات.
(هـ) بيان أهداف الزكاة وآثارها في حياة المجتمع المسلم، وحل مشكلاته كالفقر والتشرد والتسول، والكوارث ونحوها، وسبقها لما عرف في هذا العصر بالضمان الاجتماعي والتأمين الاجتماعي.
(و) تصحيح ما شاع من أفكار خاطئة حول الزكاة، بسبب سوء الفهم وسوء التطبيق لها، أو بسبب الشبهات التي يثيرها خصوم الإسلام.
تلك هي الأغراض التي توخى هذا البحث أن يحققها، وأرجو أن يكون قد سدد وقارب.
منهج البحث وخطته
أستطيع أن أحدد خطوات المنهج الذي سلكته في هذا البحث، والخطة التي سرت عليها في النقاط التالية:
1- تحديد المصادر وجمع المادة
كان أول ما علىِّ أن أقوم به تجميع المادة المطلوبة من مظانها، أعني تجميع النصوص والأقوال اللازمة للبحث من مصادرها القديمة والحديثة، الشرعية والوضعية، وخاصة نصوص القرآن والسنة، التي هي الأساس الأول الذي اعتمدنا عليه في بيان حقيقة الزكاة وأحكامها وأهدافها، ومكانتها في الإسلام.
ومصادرنا في هذا البحث غزيرة موفورة، وهى مزيج من: كتب التفسير في مختلف الأعصار؛ التفسير بالرواية، والتفسير بالرأى، وخاصة تفاسير آيات الأحكام. وكتب الحديث متونه وشروحه، روايته ودرايته، وجرحه وتعديله، ولا سيما كتب فقه الحديث كمنتقى الأخبار، وبلوغ المرام وشرحيهما. وكتب الفقه المذهبي والمقارن وبخاصة تلك التي تُعْنَى بالأدلة والرد على المخالفين. وكذلك كتب الأصول والقواعد الفقهية. وكتب الفقه المالي والإداري وأعظمها بلا ريب "الأموال" للفقيه الحجة الإمام أبى عبيد القاسم بن سلام. وكتب وبحوث حديثة بعضها في الناحية المالية والاقتصادية وبعضها في الناحية الاجتماعية، وبعضها دراسات إسلامية تتناول جانبًا أو جوانب من نظام الإسلام الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي. وكتب مساعدة ككتب اللغة والتاريخ والتراجم وداوئر المعارف والفهارس ونحوها. وما نقلته من هذه الكتب - قديمها وحديثها - قد نبهت عليه في صلب البحث، أو سجلت في أسفل الصفحة عنوان الكتاب المنقول منه، ورقم الصفحة، واسم الؤلف، مالم يكن الكتاب مشهورًا متداولاً بين الباحثين، أو يكن قد مر ذكره، فاكتفى باسم الكتاب أو ما يدل عليه، وربما تمر عبارات قليلة أكتفي بشهرتها عن نسبتها إلى مصدر معين، وذلك نادر، وفيما لا يترتب عليه حكم . ولقد تعلمنا من سلفنا أن نعزو كل قول إلى صاحبه، حتى قالوا: " إن من بركة القول أن يسند إلى قائله ".ويطيب لي أن أسجل هنا: أن من بركات هذا البحث أنه فتح لي نافذة على الدراسات المالية والاقتصادية التي كنت - بمقتضى تخصصي - في عزلة عنها، فأطللت من هذه النافذة على النظام الاقتصادي في الإسلام، فاتضحت لي معالمه، ولاحت أمام عيني مبادئه ودعائمه، وهو ما أنوي - إن شاء الله - أن أصدره في كتاب مستقل . كما أعانني هذا البحث على إصدار كتابي" مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام".
2- تقسيم البحث وترتيب أبوابه
ولقد اقتضتني طبيعة الموضوع، وترابط أجزائه، وتكامل مسائله، أن أتناوله كله على سعته، لأن بعضه متصل ببعض اتصالاً وثيقًا، لأجعل من هذا البحث - قدر طاقتي المحدودة - مرجعًا علميًا عصريًا في هذا الموضوع الإسلامي الخطير، ولهذا طال البحث نسبيًا . فاشتمل هذا البحث على تسعة أبواب وخاتمة، وقد سلكت في ترتيب أبوابه الطريق المنطقى، مبينًا أولاً: وجوب الزكاة، ثم على من تجب ؟ ثم فيم تجب ؟ وكم ؟ ثم لمن تصرف ؟ وعلى من تحرم ؟ ثم طريقة أدائها وتحصيلها، ثم بيان أهدافها وآثاها، ثم عن زكاة الفطر، ثم عما يجب في المال من حقوق بعد الزكاة ثم بيان العلاقة بينها وبين الضريبة الحديثة مشابهة ومخالفة.
فالباب الأول: يبحث عن وجوب الزكاة، وفيه بينَّا اشتراك الأديان جميعًا في العناية بالفقراء والضعفاء، وزيادة الإسلام عليها جميعًا منذ عهده المكي، وتتويجه هذه العناية البالغة بتشريع الزكاة المحدودة في المدينة، وهى النظام الفذ الذي لم يسبق به دين ولا قانون.
والباب الثاني: يبحث عمن تجب عليه الزكاة، وفيه فصلنا القول في حكم الزكاة في مال الصبي والمجنون، وهل يمكن أن تؤخذ الزكاة من غير المسلم أم لا؟.
والباب الثالث: يبحث عن وعاء الزكاة ومقاديرها، أي الأموال التي تجب فيها الزكاة من الثروة الحيوانية، والنقدية، والتجارية، والزراعية والمعدنية، والبحرية، والمنتجات الحيوانية كالعسل ونحوه، وبينا حكم الزكاة في العمائر الاستغلالية، والمصانع، وإيراد رؤوس الأموال غير التجارية وكذلك المرتبات والأجور، وإيراد ذوى المهن الحرة.
والباب الرابع: عن مصارف الزكاة الثمانية التي ذكرها القرآن، وقد بينَّاها بتفصيل، وكم يعطى كل صنف؟ وهل يجب استيعابهم على السوية؟ ومن الذين يمنع صرف الزكاة إليهم؟.
والباب الخامس: عن طريقة أداء الزكاة، وعلاقة الدولة بها، وما يتعلق بأدائها من جواز تعجيلها أو تأخيرها، ونقلها من بلد إلى بلد، ودفع القيمة، وما شابه ذلك من المسائل.
والباب السادس: عن أهداف الزكاة وآثارها، وفيه بينَّا أهداف الزكاة بالنسبة للمُعطِى، وبالنسبة للآخذ، وبالنسبة للجماعة كلها، كما وضحنا بالتفصيل أثرها في حل بعض المشكلات الهامة في المجتمع كمشكلات البطالة والتسول والفوارق والكوارث والخصومات والتشرد، فضلاً عن المشكلة الأولى وهى مشكلة الفقر.
والباب السابع: عن زكاة الفطر وأحكامها.
والباب الثامن: عن الحقوق الأخرى الواجبة في المال بعد الزكاة بين المثبتين والنافين وأدلة كل منهما، وتحديد موضع النزاع بين الفريقين، وترجيح الراجح.
والباب التاسع: عن الزكاة والضريبة. وفيه بينَّا خصائص الزكاة باعتبارها ضريبة متميزة في حقيقتها وأساسها، ومبادئها وضماناتها وأهدافها، وسبقها لكثير من المبادئ والأحكام التي انتهى إليها تطور الفكر الضريبي الحديث، وامتيازها بأحكام ومعانٍ وأهداف وضمانات تَقْصُر عنها الضريبة، كما بينَّا: هل تجيز الشريعة فرض الضرائب مع أخذ الزكاة؟ وهل يمكن أن تغنى الضرائب عن دفع الزكاة؟.
والخاتمة: تتضمن تلخيصًا لحقيقة نظام الزكاة وشهادات بعض الكُتَّاب الأجانب والمسلمين للزكاة، وأثرها في تحقيق العدل والمساواة والتكافل بين أبناء المجتمع.
وبهذا يكون البحث قد استوعب أهم ما يتعلق بموضوع الزكاة، أحكامًا ومبادئ، وأهدافًا وآثارًا.
تلك هي النقطة الثانية في البحث. وأما النقطة الثالثة فهي:
3- المقارنة والموازنة
وهي تأخذ صورتين:
الأولى: مقارنة داخل المذاهب الإسلامية لانتقاء أصح الآراء وأقواها دليلاً.
الثانية: مقارنة بين الشريعة الإسلامية والشرائع الأخرى، سماوية كانت أو وضعية، قديمة أو حديثة. وذلك لبيان ما امتازت به شريعة الله الخاتمة الخالدة، على الشرائع السماوية المنسوخة، أو الشرائع الأرضية القاصرة.
وفي المقارنة داخل المذاهب الإسلامية لم أقتصر على المذاهب الأربعة المتبوعة المعروفة، فإن ذلك يكون ظلمًا كبيرًا لسائر المذاهب والأقوال في الفقه الإسلامي فهناك مذاهب لفقهاء الصحابة والتابعين ومن بعدهم، لا يجوز شرعًا ولا عقلاً إهمالها وعدم الانتفاع بها، فإذا تركنا الصحابة الذين لا خلاف في فضلهم وعلمهم، وجدنا مذاهب لأمثال ابن المسيب وعمر بن عبد العزيز والزهري والنخعي والحسن وعطاء والشعبي وميمون بن مهران وغيرهم من سادات التابعين، وإذا نظرنا إلى من بعدهم وجدنا أمثال الثوري والأوزاعى وأبى عبيد والطبري وداود الظاهري وغيرهم، وأقوال هؤلاء ثروة علمية عظيمة يعتبر إهمالها خطأ في العلم، وخطيئة في الدين. بل لم أقتصر على المذاهب السنية، فرجعت إلى فقه الزيدية والإمامية، لعلمي أن الخلاف بيننا وبينهم في الفروع قليل ميسور، وقد رأينا من المتأخرين رجلاً - كالصنعانى في "سبل السلام" والشوكاني في "نيل الأوطار" - يذكر مذاهب الزيدية والإمامية كالهادي والقاسم والباقر والناصر وغيرهم، ويتداول ذلك علماء أهل السنة، ولا يرون فيه حرجًا. وفى المقارنة خارج الفقه الإسلامي، كان لا بد لنا أن نوازن بين الزكاة وما شرع في الأديان السابقة من صدقات مندوبة أو مفروضة، وبين الزكاة وما شرع في العصر الحديث من ضرائب مالية، وبينها وبين ما عرفه الناس من أنظمة الضمان الاجتماعي.
4- التفسير والتعليل
لم أكتف ببيان الحكم الشرعي مجردًا في كل مسألة، بل عُنيت بتفسير الحكمة من وراء تشريعه، والسر فيما أوجبه الشارع أو استحبه، أو نهى عنه أو أذن فيه، وهذا اقتداء بالشارع نفسه الذي عُنِىَ بتعليل الأحكام، وبيان مقاصدها ومنافعها للبشر أفرادًا وجماعات، ولم يكتفِ بالتكليف المجرد، والإلزام الصارم، اعتمادًا على التزام المكلفين - بحكم إيمانهم - بامتثال كل ما يصدر عن الشارع، عقلوا حكمته أو لم يعقلوها. وإذا كان بيان الحكمة من التشريع أمرًا محمودًا على كل حال، فهو في عصرنا أمر لازم، لغلبة الأفكار المفسدة، والتيارات المضللة، والوافدة من الشرق والغرب، فلم يعد يكفى إصدار الحكم المجرد، وانتظار صيحات المكلفين بعده: (سمعنا وأطعنا) (البقرة: 285).
5- التمحيص والترجيح
ولا يغنى الباحث استيعاب المصادر المختلفة، وتجميع الأقوال والنصوص المتفرقة والمقارنة بين بعضها وبعض، إذا كان هو أسيرًا لقول، أو مقلدًا لمذهب، يقف جهده على نصرته وتأييده، ورد غيره وتفنيده. ولهذا حررت نفسي من ربقة التمذهب والتقليد، فإنه أمر مستحدث لم يعرفه سلف الأمة، وقد نهى الأئمة أنفسهم عن تقليدهم، ومن قلد فقيهًا في كل مسألة - وإن ظهر ضعف دليها أو خطؤه - فكأنما اتخذه شارعًا، وفى التقليد إبطال للعقل ومنفعته، كما قال ابن الجوزي: "لأنه خلق للتدبر والتأمل، وقبيح بمن أعطى شمعة يستضئ بها أن يطفئها ويمشى في الظلمة".
وقال غيره: لا يقلد إلا عصبي أو غبي.
ومن هنا لم أكن أقرأ الأقوال والنصوص قراءة المقلد المتحيز، بل قراءة الفاحص الممحص، الباحث عن الحق، لا يبالي أين وجده ولا مع من وجده قد يجده عند المتقدمين، وقد يجده عند المتأخرين، قد يجده في مدرسة الرأي، وقد يجده في مدرسة الحديث، وقد يجده في فقه الظاهرية، قد يجده في المذاهب الأربعة، وقد يجده عند غيرهم من الأئمة، وما أكثرهم! .
إنني لم أقف مع المتعصبين المتزمتين الجامدين على كل قديم، والزاعمين بأن لا أئمة بعد الأربعة، ولا اجتهاد بعد القرون الأولى، ولا علم إلا في كتب المتأخرين المقلدين، ومن عارضهم في ذلك اتهموه بكل نقيصة.
ومع هذا لم أكن لأنساق وراء أدعياء الاجتهاد الذين لم يملكوا وسائله، ودعاة التجديد الذين سخر منهم الرافعي الأديب بأنهم " يريدون أن يجددوا الدين واللغة والشمس والقمر" !!.
وإنما أقف موقفًا وسطًا عدلاً: أرحب بكل جديد نافع، وأحرص على كل قديم صالح . ولم تمنعني صفرة الكتب القديمة، ورداءة طبع الكثير منها، ودقة خطها، من الغوص في أعماقها، واستخراج كنوزها، ومعاناة متونها وشروحها وحواشيها، وهكذا انتفعت بالقديم وبالجديد، دون تزمت ولا تحلل . بل موقفي من هذا وذاك موقف المنتخب المتخير الذي يبحث ما وسعه البحث، ويحلل ما أمكنه التحليل، ويوازن ما أسعفته الموازنة، ثم ينصر ما قويت حجته، واتضحت أدلته، غير متعصب لقول قائل، ولا لمذهب إمام، فقد آخذ في مسألة بمذهب أبى حنيفة، وأخرى بمذهب مالك، وثالثة بقول الشافعي أو أحمد أو سفيان أو والأوزاعى أو أبى عبيد أو أي إمام قبلهم أو بعدهم. وقد أدع هؤلاء جميعًا وآخذ بقول صح عن صحابي أو تابعي.
وليس هذا تلفيقًا -كما يقال- وإنما هو اتباع للدليل حيثما ظهر، ولا يجوز للعالم الباحث أن يقيد نفسه إلا بالنصوص المعصومة الهادية من كتاب الله وسنة رسوله، وقد جاء عن ابن عباس وعطاء ومالك وغيرهم: "كل أحد يؤخذ من كلامه ويرد عليه، إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-". وهذا قد يجعلني في بعض المسائل آخذ بقول مهجور غير مشهرر، وأعرض عن قول الجمهور، فليس الصواب دائمًا مع الكثرة، ولا الخطأ دائمًا مع القلة، فرب رأى انفرد به فقيه، تؤيده الحجة، ويشد أزره المنقول والمعقول، وهذا على كل حال يحدث على قلة . ولكنى لا أخاف عقباه. وما الذي يخيفني من هذا، وقد رأيت من كبار الأئمة من لا يبالي أن يقف وحده متمسكًا برأيه، وإن رأى جمهور الناس على خلافه؟!. فهذا ابن عباس يقول :" أمر ليس في كتاب الله عز وجل، ولا في قضاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وستجدونه في الناس كلهم: ميراث الأخت مع البنت" (الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ص541) فلم ير الناس كلهم حجة على نفسه. وهذا مالك يفتى بالشفعة في الثمار، ويقول إثر فتياه به: "إنه لشيء ما سمعته ولا بلغني أن أحدًا قاله" (المرجع نفسه ص542).
ولكل إمام من الأئمة المتبوعين مسائل شتى انفردوا فيها برأي لم يسبق لغيرهم، ولم يروا في ذلك حرجًا، وقد نظمت مفردات مذهب الإمام أحمد في كتاب خاص.
قواعد البحث للاختيار والترجيح والاستنباط
وقد ارتكز هذا البحث على جملة قواعد أصولية - كانت هي مستنده الشرعي في اختيار ما يتبناه من وجوه النظر، وترجيح ما يرجحه من الأحكام الخلافية، واستنباط ما يؤدى إليه اجتهاده من آراء جديدة أو كالجديدة . ونستطيع أن نجمل هذه القواعد فيما يأتي:
1- الأخذ بعموم النصوص ما لم يخصصها دليل
إن كثيرًا من نصوص الدين جاء بألفاظ عامة، ليندرج في مفهومها أفراد وجزئيات كثيرة، وهذا من جملة أسرار خلود هذا الدين، وصلاحيته لكل زمان ومكان. ولهذا أرى أن العموميات التي جاءت في آيات القرآن وأحاديث الرسول يجب أن يؤخذ بها، ويعمل بمقتضى عمومها، ما لم يخصصها نص صحيح الثبوت، صريح الدلالة، فحينئذ نقدم الخاص على العام. فلست مع الذين يردون السنن الصحيحة المحكمة بالظواهر والعمومات القرآنية، ولا مع الذين يسارعون إلى التخصيص بالحديث، ولو في سنده لين، أو بالصحيح ولو في دلالته ضعف أو غموض. إني أخالف الإمام أبا حنيفة الذي رد حديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق من التمر صدقة " إبقاء على عموم: (ومما أخرجنا لكم من الأرض)(البقرة 267)، وعموم: "فيما سقت السماء العُشر"، لأن الحديث صحيح متفق عليه، وتأويله بأنه في أوسق التمر إذا كانت للتجارة تأويل ضعيف مرجوح بل متهافت . ولهذا رجحت رأى الصاحبين والجمهور في اعتبار النصاب فيما أخرجت الأرض كسائر الأموال الأخرى، وهو الموافق لحكمة الشارع في فرض الزكاة على الأغنياء.
ولكنى أوافق أبا حنيفة كل الموافقة في تمسكه بعموم: "(ومما أخرجنا لكم من الأرض)..وعموم حديث :"فيما سقت السماء العشر" ولا أخصص هذا العموم بمثل حديث: "ليس في الخضراوات صدقة" لأنه حديث ضعيف، على أنه يمكن تأويله بأن المعنى: ليس فيها صدقة يأخذها الجباة، لأنها مما يسرع إليه التلف والفساد، فلا تبقى في بيت المال، فإذا لم يكن شرع أخذها كالمواشي والزرع فإن ذلك لا يسقط إيجابها باللفظ العام السابق. إن عمومات القرآن والسنة يجب أن تحترم وتؤخذ كما هي حتى يخصصها دليل صحيح صريح، ومن هنا أخذنا بعموم الآيات والأحاديث التي افترضت الزكاة من كل مال، مثل قوله تعلى: "(خذ من أموالهم صدقة)(التوبة 103). (والذين في أموالهم حق معلوم)(المعارج: 24)..وقوله -صلى الله عليه وسلم-: "أدُّوا زكاة أمولكم" من غير فصل بين مال ومال، ولم نخرج من ذلك إلا ما خصصه الدليل.
2- احترام الإجماع المتيقن
فإن اتفاق علماء الأمة جميعًا على حكم شرعي -وخاصة في القرون الأولى- يدل دلالة واضحة على أنهم استندوا فيما أجمعوا عليه إلى اعتبار شرعي صحيح من نص أو مصلحة أو أمر محسوس، فينبغي أن يحترم إجماعهم، لتبقى مواضع الإجماع في الشريعة، هي الضوابط التي تحفظ التوازن، وتمنع البلبلة والاضطراب الفكري. وذلك كإجماعهم على وجوب الزكاة في الذهب بنسبة زكاة الفضة: ربع العشر، وكإجماعهم على أن المثقال درهم وثلاثة أسباع ... إلى غير ذلك من الأمثلة.
وإنما قلت :"الإجماع المتيقن"لأن بعض الفقهاء نقل الإجماع في مسائل ثبت فيها الخلاف عند غيرهم، وسبب هذا: "أن العلماء المجتهدين في العصور الأولى كانوا منتشرين في عامة الأقطار والبلدان، وكانوا من الكثرة بحيث يتعسر معرفة أقوالهم في كل مسألة اجتهادية، وهذا ما جعل الإمام أحمد يقول: " من أدعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا ما يدريه؟ ولم ينته إليه فليقل: لا نعلم الناس اختلفوا، أو لم يبلغني ذلك".
وهناك أمثلة كثيرة ادعى فيها الإجماع أو قرر فيها عدم العلم بالخلاف، ومع هذا ثبت الخلاف.
فهذا الشافعي يقول في زكاة البقر: في الثلاثين تبيع، وفى الأربعين: مسنة لا أعلم فيه خلافًا، مع ثبوت الخلاف في ذلك عن جابر بن عبد الله وسعيد بن المسيب وقتادة، وعمال ابن الزبير بالمدينة وغيرهم (الأحكام لابن حزم).وهذا ابن المنذر ينقل الإجماع على أن زكاة الأموال لا يجوز أن تُعْطَى لغير المسلمين مع أن غيره روى عن الزهري وابن سيرين وعكرمة جواز الصرف منها لغير المسلمين، وهو ظاهر مذهب عمر فيما روى عنه (انظر مبحث "إعطاء الزكاة لغير المسلمين" من باب "مصارف الزكاة"). وقال ابن قدامة في "المغنى" لا نعلم خلافًا في أن بنى هاشم لا تحل لهم الصدقة المفروضة، وعلق على ذلك الحافظ ابن حجر في "الفتح : "بقوله: كذا قال، وقد نقل الطبري الجواز أيضًا عن أبى حنيفة، وقيل عنه: يجوز لهم إذا حرموا سهم ذوى القربى. حكاه الطحاوي ونقله بعض المالكية عن الأبهري منهم وهو وجه لبعض الشافعية، وعن أبى يوسف: يحل من بعضهم لبعض، وعند المالكية فى ذلك أربعة أقوال مشهورة: الجواز، المنع، جواز التطوع دون الفرض، عكسه (انظر فتح الباري: 3/227، وانظر هذا المبحث من الفصل التاسع من مصارف الزكاة).. الخ. إن هذا الإجماع المُدَّعى، لا حرج علينا إذا خالفناه لدليل رأيناه، لأنه في الواقع ليس بإجماع. أما الإجماع المتيقن - أعنى الذي لم يعرف فيه خلاف قط - فرغم ما أثير من جدل حول إمكانه ووقوعه وحجيته، فلم ألجأ إلى مخالفته في حكم من الأحكام، للاعتبار الذي ذكرته قبل. لكنى قد أخالف الإجماع على رأي من يقول من علماء الأصول: إذا اختلف أهل عصر في مسألة على قولين فلا يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث، لأن الأمة إذا اختلفت على قولين فقد أجمعت -من جهة المعنى- على المنع من إحداث قول ثالث، واختار الآمدي: أن القول الثالث إن كان يرفع ما اتفق عليه القولان فهو غير جائز، وإلا بأن وافق كل واحد من القولين من وجه وخالفه من وجه فهو جائز إذ ليس فيه خرق الإجماع. (انظر الأحكام للآمدي: 1/137، 138). مثال ذلك أن أبا حنيفة قال: العشر على مالك الأرض، وقال الجمهور: على المستأجر، فالمتفق عليه بين القولين: أن العُشر واجب، فإذا قلنا: إن العُشر على المستأجر في محصول الزرع بعد رفع قيمة الإيجار الذي دفعه للمالك، وقلنا: إن على المالك تزكية الأجرة التي أخذها من المستأجر لا نكون -على رأى الآمدي- خارقين للإجماع. على أن من العلماء من قال: إن الاختلاف على قولين في مسألة دليل تسويغ الاجتهاد فيها، والقول الثالث إنما هو وليد الاجتهاد فهو جائز، وقد أحدث بعض التابعين قولاً ثالثاُ في بعض المسائل لم يقله الصحابة، كما روى عن ابن سيرين ومسروق (انظر الأحكام للآمدي: 1/137، 138) وغيرهم، وهو المختار ما دامت المسألة من المسائل الاجتهادية التي تحتمل أوجهًا للنظر والاجتهاد.
3- إعمال القياس الصحيح
القياس هو إعطاء الشيء حكم نظيره لعلة مشتركة بينهما، وهو أمر أودعه الله في العقول والفطر، وهذا - كما قال ابن القيم -من الميزان الذي أنزل الله مع كتابه، وجعله قرينه ووزيره، فقال تعالى: (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان) (الشورى: 17)، (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) (الحديد: 25)،والميزان يراد به العدل، والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده، والقياس الصحيح هو الميزان، والأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به، وهو اسم مدح، واجب على كل واحد، في كل حال، بحسب الإمكان، بخلاف اسم القياس، فإنه ينقسم إلى حق وباطل، وممدوح ومذموم، وصحيح وفاسد، والصحيح هو الميزان الذي أنزله الله مع كتابه
(إعلام الموقعين: 1/133). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "القياس لفظ مجمل، يدخل فيه القياس الصحيح والقياس الفاسد، فالقياس الصحيح هو الذي وردت به الشريعة، وهو الجمع بين المتماثلين، والفرق بين المختلفين، الأول: قياس الطرد، والثاني: قياس العكس، وهو من العدل الذي بعث الله به رسوله. "فالقياس الصحيح: مثل أن تكون العلة التي علق بها الحكم في الأصل موجودة في الفرع من غير معارض في الفرع يمنع حكمها، ومثل هذا القياس لا تأتى الشريعة بخلافه قط . وكذلك القياس بإلغاء الفارق: وهو ألا يكون بين الصورتين فرق مؤثر في الفرع، فمثل هذا القياس لا تأتى الشريعة بخلافه" (رسالة القياس لابن تيمية - نشر المطبعة السلفية سنة 1375 هـ). والمقصود أن القياس إذا اتضحت علته الجامعة بين الأصل والفرع، ولم يكن بينهما فارق ظاهر أو خفي، ولم يوجد معارض معتبر، وجب الأخذ به باعتباره دليلاً شرعيًا لا مطعن فيه. وقد يعترض معترض فيقول: إن الزكاة عبادة، والأمور التعبدية لا مدخل للقياس فيها، ونحن نقول: نعم، إن الأمور التعبدية الخالصة لا يدخلها القياس، إذ لا تدرك علتها على وجه تفصيلي والأصل فيها الامتثال لأمر الله دون الالتفات إلى العلل، فالعبادات المحضة كالصلاة والصيام والحج لا يصح أن يجرى فيها القياس، حتى لا نشرع للناس من الدين ما لم يأذن به الله تكليفًا أو إسقاطًا. أما الزكاة فلها شأن آخر. إنها ليست عبادة محضة، بل هي حق معلوم، وضريبة مقررة، وجزء من النظام المالي والاجتماعي والاقتصادي للدولة، بجانب ما فيها من معنى العبادة، والعلة في تشريعها وأحكامها بصفة عامة معلومة واضحة، فلماذا لا نقيس على المنصوص عليه فيها ما يشبهه ويشاركه في العلة؟. ولقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من بعض الحبوب والثمار كالشعير والتمر والزبيب، فقاس عليه الشافعي وأحمد وأصحابهما كل ما يُقتات، أو غالب قوت البلد، أو غالب قوت الشخص نفسه، ولم يجعلوا هذه الأجناس المأخوذة مقصودة لذاتها تعبدًا، فلا يقاس عليها. وكذلك في زكاة الزروع والثمار ذهب جمهور الأئمة إلى قياس كثير من الحبوب على ما وردت به النصوص ولم يقصروا الزكاة على ما جاء في بعض الأحاديث من الحنطة والشعير والتمر والزبيب، وقد جاء عن عمر: أنه أدخل القياس في باب الزكاة، وذلك حين أمر بأخذ الزكاة من الخيل لما تبين له أن فيها ما يبلغ قيمة الفرس الواحدة منه ثمن مائة ناقة فقال: نأخذ من أربعين شاة، ولا نأخذ من الخيل شيئًا؟، وتبعه في ذلك أبو حنيفة بشروط معلومة (ستأتي هذه البحوث في مواضعها- إن شاء الله). وهذا ما جعلنا نقيس العمارات المؤجرة للسكن ونحوها على الأرض الزراعية، ونقيس الرواتب والأجور على الأعطيات التي كان يأخذ منها ابن مسعود ومعاوية وعمر بن عبد العزيز الزكاة عند صرفها مع دخولها في العمومات أيضًا.
ونقيس القز والمنتجات الحيوانية كالألبان ونحوها على العسل الذي وردت الآثار بأخذ العشر منه.
ويكفى أن نذكر من أهمية القياس ما ذكره الإمام الشافعي في "الرسالة" عن "زكاة الذهب" فقال:
"وفرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الورق (نقود الفضة) صدقة، وأخذ المسلمين في الذهب بعده صدقة، إما بخبر عن النبي لم يبلغنا، وإما قياسًا على أن الذهب والورق نقد الناس الذي اكتنزوه وأجازوه أثمانًا على ما تبايعوا به في البلدان قبل الإسلام وبعده" (الرسالة ص193، 194).
فأخذ الزكاة من النقود الذهبية -وهى الرصيد العالمي للنقود في معظم أمم العالم- ليس بالأمر الهين، ومع هذا أخذ المسلمون بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالقياس، وهو الاحتمال الأقوى، أما أن يكون هناك حديث لم يبلغ الشافعي مع طلبه وتحريه لمثله، وكذلك لم يبلغ مالكًا ولا البخاري ولا مسلمًا، فهذا احتمال بعيد، ولهذا اعتمد مالك في ذلك على العمل لا الخبر فقال: السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، أن الزكاة تجب في عشرين دينارًا عينًا (ذهبًا) كما تجب في مائتي درهم (فضة).
4- اعتبار المقاصد والمصالح
قرر المحققون من علماء الإسلام، أن أحكام الشريعة إنما شرعت لمصالح العباد في المعاش والمعاد، سواء أكانت هذه المصالح ضرورية أم حاجة أم تحسينية. ودليل ذلك -كما قال الإمام الشاطبي- هو استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية، فليس ذلك مقصورًا على نص واحد، أو واقعة خاصة، بل الشريعة كلها دائرة على ذلك (الموافقات: 2/51). وذكر الشاطبي قاعدة مهمة هي: "أن الأصل في العبادات -بالنسبة إلى المكلف- التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات (المعاملات) الالتفات إلى المعاني (المرجع السابق ص300) وأقام على ذلك أدلة ناصعة لا يتسع المجال لذكرها هنا. وأعود هنا فأؤكد ما ذكرته من قبل: أن الزكاة -وإن كانت تذكر مع الصلاة في فقه العبادات- ليست في الحقيقة عبادة محضة، بل هي أقرب إلى ما يسمى بالعادات، المعاملات، لأنها من الشئون المالية للمسلمين، وهى -إلى حد كبير- علاقة بين الدولة ورب المال، أو بينه وبين الفقير عند تخلى الدولة، والدليل على ذلك: أن كتب الفقه المالي والإداري في الإسلام تذكرها ضمن مباحثها وأبوابها (كالخراج والأموال والأحكام السلطانية والسياسة الشرعية) فهي في الحقيقة جزء من نظام الدولة في الإسلام.
ولو أردنا أن نؤلف الفقه على الطريقة الحديثة، لوجب أن نجعل الزكاة من الفقه المالي والاجتماعي، لا مع العبادات المحضة، وكذلك عند التقنين، فإنها داخلة -لا محالة- في دائرة التشريع المالي والاجتماعي.
وهذا لا يخرج أحكام الزكاة كلها عن دائرة التعبد، فقد قرر الشاطبي: أن العادات إذا وجد فيها التعبد، فلا بد من التسليم والوقوف مع النصوص، كطلب الصداق في النكاح، والذبح في المحل المخصوص في الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث، وعدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية وما أشبه ذلك.
وأنا أدخل فيها مقادير الزكاة وأنصبتها لأنها أمور ضبطها الشارع وحددها وفرغ منها، وأجمع المسلمون عليها في كافة الأعصار، فوجب الوقوف عند النصوص والإجماع في ذلك. ولهذا خالفت الذين يريدون أن يخضعوا مقادير الزكاة وأنصبتها للتغير والتحوير حسب الزمان والمكان والحال، تحت عنوان "رعاية المقاصد والمصالح" فإن هذا يمحو معالم الزكاة الشرعية ويحولها إلى ضريبة مدنية بحتة، كالضرائب التي تفرضها شتى الحكومات في شتى الأقطار.
والخلاصة: أن مقاصد الشريعة إنما هي جلب المصالح للناس ودرء المضار والمفاسد عنهم، ودعامة هذا الأصل هو ما ذهب إليه مالك وأصحابه من اعتبار المصلحة المرسلة دليلاً شرعيًا، يجب العمل به كما يجب العمل بسد الذرائع (بل قال القرافي: المصلحة المرسلة غيرنا يصرح بإنكارها، ولكنهم عند التفريع يعللون بمطلق المصلحة ولا يطالبون أنفسهم عند الفروق والجوامع بإبداء الشاهد لها بالاعتبار بل يعتمدون على مجرد المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، انظر: كتاب: "مالك " للأستاذ الكبير محمد أبى زهرة).
على أن كثيرًا من الحنابلة ينزعون هذا المنزع، وقد نصر ذلك الاتجاه شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في كتبهما، وأفاضا في تأييده بالأدلة والاعتبارات الشرعية الصحيحة.
وعلى أساس ذلك عقد ابن القيم فصلاً رائعًا في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد، قال في مقدمته: "وهذا فصل عظيم النفع جدًا، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتى به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهى عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خليقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله - صلى الله عليه وسلم - أتم دلالة وأصدقها، وهى نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون (إعلام الموقعين: 3/14) وهذا كلام يجب أن نحرص عليه ونشيعه في الناس، وهو الذي لا يجوز أن يقال غيره في عصرنا . ولقد كان ابن القيم مسددًا حين جعل الذي يتغير بتغير الأزمنة والأحوال هو الفتوى، وليس الحكم الشرعي -أي أن تطبيق الحكم وتنزيله على الواقعة هو الذي يتغير... الشريعة إذن لا تتغير ولكن الفقه يتغير، فالشريعة وحي الله، والفقه والفتوى والقضاء عمل الناس.
إن عمر -رضى الله عنه- حين أبى أن يعطى من الزكاة قومًا كانوا من : "المؤلفة قلوبهم" في عصر الرسول وقال: "إن الله أعز الإسلام وأغنى عنهم" لم يغير بذلك حكمًا شرعيًا ولم يعطل نصًا قرآنيًا، كما قد يفهم بعض الناس، ولكنه غير الفتوى بتغير الزمن والحال عن عهد الرسول، فلم يعد عيينة بن حصن، ولا الأقرع بن حابس وإضرابهما من الطامعين، ممن يحتاج الإسلام ودولته إلى تأليف قلوبهم، ولم يكتب الرسول -صلى الله عليه وسلم- صكًا لهؤلاء يبقيهم مؤلفة إلى الأبد، والمؤلف هو الذي يرى الإمام تأليفه، فإذا لم يرَ تأليف شخص أو أناس بأعيانهم أو لم يرَ التأليف مطلقًا في عهده لعدم الحاجة إليه أو لأن هناك مصارف أهم منه، فهذا من حقه ولا يكون ذلك إسقاطًا لسهم المؤلفة إلى الأبد كما فهم بعض الحنفية وغيرهم، ولا تعطيلاً للنص كما ظن بعض المعاصرين، فإن عمر والأمة كلها لا تملك تعطيل نص صريح من كتاب الله، ولكنه رأى مصلحة المسلمين في عصره، أن يسد الطريق على الطامعين في أموال الزكاة باسم التأليف، ولم يرد عنه ما يمنع من التأليف وإعطاء المؤلفة عند الحاجة واقتضاء المصلحة (راجع هذا المبحث بتفصيل في باب "مصارف الزكاة" فصل "المؤلفة قلوبهم").
إن عمل عمر هذا مثال جيد لاعتبار المصلحة المرسلة، وسد الذريعة إلى المفسدة، وهو مثال جيد كذلك لتغير الفتوى بتغير الأزمان والأحوال. ومما غير عمر فيه الفتوى بتغير الحال "زكاة الخيل"، فقد جاءه أناس من الشام يريدون إعطاء الزكاة منها، فتردد في ذلك لأنه أمر لم يفعله الرسول ولا أبو بكر، ثم جاء أنه أوجب الزكاة في الخيل في قصة يعلى بن أمية وأخيه حين وجد الفرس يبلغ ثمنها مائة ناقة مستدلاً بما ذكرناه من القياس، وهو نوع من مراعاة المقاصد والمصالح والعدل الذي قامت عليه الشريعة.
ومن الأمثلة التي تُذكر هنا من تغير الفتوى بتغير المكان والحال، أن معاذ بن جبل حين بعثه الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن وأمره أن يأخذ الزكاة من أغنيائهم ويردها على فقرائهم، كان مما أوصاه به: "خذ الحب من الحب، والشاة من الغنم، والبعير من الإبل" ولكن لم يفهم هذه الوصية إلا أنها تيسير على الناس، وأن هذا ما يطالبون به، فلما وجد الأيسر عليهم أن يدفعوا القيمة رحب بذلك، لما فيه من الرفق بهم، والنفع لمن وراءهم بالمدينة، عاصمة الإسلام، إذا فضل شئ عنهم وأرسله إلى هناك، ففي خطبة معاذ باليمن قال :"ائتوني بخميس أو لبيس (ملابس من صنعهم) آخذه منكم مكان الذرة والشعير فإنه أهون عليكم وأنفع للمهاجرين بالمدينة (راجع هذا المبحث بتفصيل في باب "طريقة أداء الزكاة" فصل "إخراج القيمة").
فاعتبار المصلحة ورعاية مقصد الشارع من الزكاة هو الذي جعل معاذًا -وهو أعلم الصحابة بالحلال والحرام كما في الحديث- يؤثر أخذ القيمة "ثيابًا يمنية" بدلاً من الحبوب، مع ما يظن من مخالفته ظاهر الحديث الآخر، وما كان لمعاذ أن يخالف حديث رسول الله - وهو الذي جعل اجتهاده في المرتبة الثالثة بعد الكتاب والسنة. ولكنه أدرك مقصود الحديث فلم يتجاوز به موضعه، ولهذا اشترط الأصوليون في المجتهد: أن يكون عالمًا بمدارك الأحكام ومقاصد الشريعة، وأن يكون أيضًا عالمًا بمصالح الناس في عصره . وهذا حق فإن من حصل كثيرًا من العلم ووسائل الاجتهاد ولكنه يعيش في برج عاجي، أو صومعة منعزلة، غافلاً عن مصالح المجتمع ومفاسده وما يدور في العقول من أفكار، وفى الأنفس من نوازع، وفى الحياة من وقائع وتيارات.. مثل هذا -على علمه- لا يعد من أهل الاجتهاد والفتيا والحكم في شريعة الإسلام. إن اعتبار المصالح والمقاصد العامة للشريعة هو الذي جعلنا نرجح ما أفتى به كثير من أصحاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن لا زكاة في حلى النساء، لأن مقصد الشريعة في الزكاة -كما فهموها من الأموال التي أخذ منها رسول الله الزكاة في عصره- أن تفرض في المال النامي أو الذي من شأنه أن ينمو، ليكون الأخذ في الغالب من الفضل والنماء، ويبقى الأصل لمالكه مصدر دخل له، والحلي الذي أباحه الله للمرأة ليس ناميًا ولا من شأنه أن ينمو بل هو من جنس ثياب الزينة وأثاث البيت وما إلى ذلك. ورعاية العدل الذي بُنيت عليه الشريعة هو الذي جعلنا نرجح قول التابعي الجليل الإمام عطاء بن رباح في رفع نفقة الزرع من جملة المحصول ثم تزكية الباقي، وجعلنا نختار أن يزكى المستأجر الزرع الخارج بعد طرح النفقات، ومنها أجرة الأرض، وأن يزكى مالك الأرض الأجرة التي يقبضها بمجرد قبضها، ويخرج منها العشر أو نصفه، لأنها بدل عما يستحقه من الخارج لو زارع عليها .. إلى غير ذلك من الأمثلة.
أسلوب البحث
وقد توخيت أن يكون أسلوب هذا البحث جامعًا بين السهولة والدقة، متجنبًا وعورة العبارات التي يقتضيها البحث العلمي أحياناَ، متخيرًا في النقل عن الكتب القديمة ما كان أوضح بيانًا، وأنصع عبارة، متصرفًا أحيانًا قليلة في النقل مع المحافظة على المعنى. إن الأسلوب الناجح هو الذي يجمع دقة العالم إلى وضوح الداعية، وكذلك أردت أن أكون، ولعلى بلغت ما أريد أو قاربت.
وبعد.. مرة أخرى فقد كنت أعددت هذه الدراسة منذ أكثر من ست سنوات لأحصل بها على درجة علمية، ثم حالت دون ذلك حوائل، وكان الخير فيما اختاره الله، فظلت هذه الدراسة بين يدي أقلب فيها، فأزيد وأرتب وأنقح وأهذب، حتى شاء الله أن تنشر في صورتها هذه، فعسى أن تنال قبول الباحثين المنصفين، ولا تحرم من ملاحظات الناقدين المخلصين.
ومهما يكن فقد بذلك الجهد، ولم أدخر وسعًا عندي لتجلية حقيقة هذه الفريضة المحكمة، وذلك النظام الإسلامي الفذ "الزكاة"، وإماطة اللثام عن عدالة أحكامها، ومكنون أسرارها وجليل أهدافها وآثارها، عسى أن يصحح المسلمون إسلامهم، ويعودوا إليه بعد غربة وطول غياب، ويجعلوا هذه الفريضة جزءًا أصيلاً من نظامهم المالي والاجتماعي، فيحوزوا بذلك رضوان الله، ويحلوا بها كثيرًا من مشكلات مجتمعهم، ويحصنوا شبابهم من الأفكار المنحرفة، والمبادئ الهدامة.
فإن أصابت هذه الدراسة الهدف منها، فهذا ما أحمد الله عليه، وهو الذي إليه قصدت، وله سعيت وجهدت، ولله وحده المنة والفضل، وهو المسئول أن ينفع بهذا الجهد، ويبارك فيه وإن قصرت عن بلوغ المرمى، فحسبي أنى اجتهدت وتحريت، ولم آلُ جهدًا أو أدخر وسعًا، وعسى ألا أحرم أجر من اجتهد ومثوبة من نوى، ولكل مجتهد نصيب، ولكل امرئ ما نوى.
وما توفيقي إلا بالله.. عليه توكلت وإليه أنيب.
الدوحة - جمادى الأولى 1389 هـ.
يونيو (تموز) 1969م.
يوسف القرضاوي.

admin 02-28-2011 09:19 PM

معنى الزكاة لغة وشرعًا
 
معنى الزكاة لغة وشرعًا
الزكاة لغة: مصدر "زكا الشيء" إذا نمى وزاد، وزكا فلان إذا صلح، فالزكاة هي: البركة والنماء والطهارة والصلاح (المعجم الوسيط: 1/398). قال في لسان العرب: وأصل الزكاة في اللغة: الطهارة والنماء والبركة والمدح، وكله قد استعمل في القرآن والحديث. والأظهر - كما قال الواحدي وغيره -: أن أصل مادة "زكا " الزيادة والنماء. يقال زكا الزرع يزكو زكاء. وكل شيء ازداد فقد زكا. ولما كان الزرع لا ينمو إذا خلص من الدغل كانت لفظة " الزكاة " تدل على الطهارة أيضًا. وإذا وصف الأشخاص بالزكاة - بمعنى الصلاح - فذلك يرجع إلى زيادة الخير فيهم، يقال: رجل زكى، أي زائد الحد من قوم أزكياء، و "زكى القاضي الشهود" إذا بين زيادتهم في الخبر. والزكاة في الشرع: تطلق على الحصة المُقدرة من المال التي فرضها الله للمستحقين. كما تطلق على نفس إخراج هذه الحصة (قال الزمخشرى في الفائق: 1/536 ط. أولى: " الزكاة فعلة كالصدقة، وهي من الأسماء المشتركة، تطلق على عين: وهي الطائفة من المال المزكى بها، وعلى معنى: وهو الفعل الذي هو التزكية ز ومن الجهل بهذا أتى من ظلم نفسه بالطعن على قوله - عز وجل -: (والذين هم للزكاة فاعلون) ذاهبًا إلى العين، وإنما المراد: المعنى الذي هو الفعل، أعنى التزكية" ). وسُميت هذه الحصة المخرجة من المال زكاة لأنها تزيد في المال الذي أخرجت منه، وتوفره في المعنى، وتقيه الآفات. كما نقله النووي عن الواحدي (المجموع: 5/324). وقال ابن تميمة: نفس المتصدق تزكو، وماله يزكو: يَطْهُر ويزيد في المعنى (مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تميمة: 25/8). والنماء والطهارة ليسا مقصورين على المال، بل يتجاوزانه إلى نفس معطى الزكاة كما قال تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة: 103 ). وقال الأزهري: إنها تُنَمِى الفقير، وهي لفتة جميلة إلى أن الزكاة تُحقق نموًا ماديًا ونفسيًا للفقير أيضًا، بجانب تحقيقها لنماء الغنى: نفسه وماله. ونقل النووي عن صاحب الخاوي قال: " اعلم أن الزكاة لفظة عربية معروف قبل ورود الشرع، مستعملة في أشعارهم، وذلك أكثر من أن يستدل له. " وقال داود الظاهري: لا أصل لهذا الاسم في اللغة، وإنما عرف بالشرع. قال صاحب الحاوي: وهذا القول وإن كان فاسدًا، فليس الخلاف فيه مؤثرًا في أحكام الزكاة " (المجموع: 5/324).
إذا عرفنا ما تقدم لم نجد مجالاً لدعوى المستشرق اليهودي المعروف " شاخت " كاتب مادة "زكاة" في دائرة المعارف الإسلامية المترجمة، حيث زعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعمل كلمة " زكاة " بمعنًى أوسع من استعمالها اللغوي بكثير، آخذًا من استعمالها عند اليهود (في اليهودية - الآرامية " زاكوت ")،. قال: وكان النبي - عليه السلام - وهو ما يزال في مكة يستعمل كلمة " زكاة " ومشتقات مختلفة من مادة "زكا" بمعنى "طهر" ترتبط بالزكاة، بحسب الإحساس اللغوي عند العرب، وهذه المشتقات نفسها لا يكاد يكون لها في القرآن سوى ذلك المعنى الذي ليس عربيًا أصيلاً. بل هو مأخوذ عن اليهودية: وهو "التقوى"
(دائرة المعارف الإسلامية: 10/355، 356). وهؤلاء المستشرقون من شاخت وأمثاله لهم غرام جنوني بنسبة كل ما يستطيعونه من مفاهيم الإسلام، وألفاظه، وأحكامه، وأفكاره، وأخلاقه إلى مصادر يهودية أو نصرانية، أو ما شاءوا من مصادر شرقية أو غربية، لا يتبعون في ذلك إلا الظن وما تهوى الأنفس. وحسبنا في الرد على هذا الكلام أمران:
الأول: أن القرآن استعمل الزكاة في معناها المعروف لدى المسلمين منذ أوائل العهد المكي، كما ترى ذلك في سورة الأعراف (آية 156)، وسورة مريم (آية 31، 55)، وسورة الأنبياء (آية 72)، وسورة المؤمنون (آية 4)، وسورة النمل (آية 3)، وسورة الروم (آية 39)، وسورة لقمان (آية 3)، وسورة فصلت (آية 7). ومعروف بيقين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يعرف العبرية، ولا أي لغة غير العربية كما أنه لم يتصل باليهود إلا بعد هجرته إلى المدينة، فمتى وكيف أخذ عن اليهود واليهودية كما زعم " شاخت "؟.
الثاني: أن من المُجازفة المنافية لخلق العلماء ومناهج التحقيق أن يزعم زاعم نقل لغة عن أُخرى إذا وجد كلمة مشتركة في معناها بين اللغتين، فإن الاشتراك لا يقتضي ضرورة نقل إحدى اللغتين عن الأخرى. ثم إن تعين إحداهما بأنها الناقلة والأخرى منقولة عنها - تحكم بلا دليل، وترجيح بلا مرجح، فمن اتخذ هذا النهج له ديدنًا، فقد برئ من أمانة العلم، وأخلاق العلماء.
معنى الصدقة:
والزكاة الشرعية قد تسمى في لغة القرآن والسنة " صدقة "، حتى قال الماوردي:" الصدقة زكاة والزكاة صدقة، يفترق الاسم ويتفق المسمى (ذكره في أول الباب الحادي عشر في ولاية الصدقات من "الأحكام السلطانية"). قال تعالى: (خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(التوبة: 103).
وقال:
(ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أُعطوا منها رضوا وإن لم يُعطوا منها إذا هم يسخطون)(التوبة:58). وقال: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين).. الآية (التوبة: 60)، إلى غيرها من الآيات (ذكر أستاذنا المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى في تعليقه على " شاخت " في دائرة المعارف أن القرآن أشار أولاً إلى الزكاة باسم الصدقة ثم استعمل لفظة الزكاة ولكن الذي يتأمل القرآن المكى يجد أن الكلمة التي استعملها القرآن أولاً هي الزكاة ولم يكد يستخدم كلمة الصدقة والصدقات إلا في المدينة). وفي الحديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة وليس فيما دون خمس ذود صدقة، وليس فيما دون خمس أواق صدقة"(رواه الشيخان وغيرهما. وسيأتي). وفي حديث إرسال معاذ إلى اليمن: "أعلمهم أن الله افترض عليهم في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم". وهذه النصوص كلها قد جاءت في شأن الزكاة عبرت عنها بالصدقة، ومنه سمى العامل على الزكاة مصدقًا لأنه يجمع الصدقات ويفرقها. بيد أن العرف قد ظلم كلمة الصدقة، وأصبحت عنوانًا على التطوع وما تجود به النفس على مثل المتسولين والشحاذين. ولكن المدلولات العرفية يجب أن لا تخدعنا عن حقائق الكلمات في لغة العرب في عهد نزول القرآن، ومادة الصدقة مأخوذة من الصدق. وللقاضي أبى بكر بن العربي كلام قيم في معنى تسمية الزكاة صدقة، قال: " وذلك مأخوذ من الصدق في مساواة الفعل للقول والاعتقاد ".
وبناء " ص د ق " يرجع إلى تحقيق شيء بشيء وعضده به، ومنه صداق المرأة، أي تحقيق الحل وتصديقه بإيجاب المال والنكاح على وجه مشروع. ويختلف كله بتصريف الفعل، يقال، صدق في القول صداقًا وتصديقًا وتصدقتُ بالمال تصدقًا، وأصدقت المرأة إصداقًا، وأرادوا باختلاف الفعل الدلالة على المعنى المختص به في الكل، ومشابهة الصدق ههنا للصدقة: أن من أيقن من دينه أن البعث حق، وأن الدار الآخرة هي المصير، وأن هذه الدار قنطرة إلى الآخرة، وباب إلى السوء أو الحسنى - عمل لها، وقدم ما يجده فيها، فإن شك فيها أو تكاسل عنها، وآثر عليها - بخل بماله واستعد لآماله،، وغفل عن مآله "
(أحكام القرآن - القسم الثاني ص 946. بتحقيق البجاوي) أقول: ولهذا جمع الله بين الإعطاء والتصديق كما جمع بين البخل والتكذيب في قوله تعالى: (فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى)(الليل:5-10).

فالصدقة إذن دليل الصدق "في الإيمان" والتصديق بيوم الدين. ولهذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"الصدقة برهان" (رواه مسلم في صحيحه).
الزكاة في القرآن الكريم:
وقد تكررت كلمة الزكاة معرفة (إنما قلنا "معرفة". لأنها وردت منكرة في آيتين بمعنى آخر: (خيرًا منه زكاة)(الكهف 81)، (وحنانًا من لدنَّا وزكاة) (مريم: 13) في القرآن الكريم (30) ثلاثين مرة، ذكرت في (27) سبع وعشرين منها مقترنة بالصلاة في آية واحدة، وفي موضع منها ذكرت في سياق واحد مع الصلاة وإن لم تكن في آيتها. وذلك قوله تعالى: (والذين هم للزكاة فاعلون)(المؤمنون: 4) .. بعد آية واحدة من قوله تعالى: (الذين هم في صلاتهم خاشعون) (المؤمنون 2).
والمتتبع للمواضع الثلاثين التي ذكرت
فيها الزكاة يجدأن (8) ثمانية منها في السور المكية وسائرها في السور المدنية (راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم: كلمة" الزكاة" للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي). وقد ذكر بعض المؤلفين أن الزكاة قرنت بالصلاة في (82) اثنين وثمانين موضعًا من القرآن (كذا في"الدر المختار" و "البحر" و "النهر" وغيرها من كتب الفقه الحنفي، ونقل ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار" تصوبيه باثنين وثلاثين، والواقع أن اقترانها بالصلاة في (28) موضعًا فقط... ولعل المصوب أراد عدد مرات ورودها كلها معرفة ومنكرة.)
وهو عدد مبالغ فيه ويرده الإحصاء الذي ذكرناه، حتى لو قالوا: المراد بالزكاة كل ما يدل عليها مثل "الإنفاق" و"الماعون" و"طعام المسكين" ونحو ذلك، لم يجتمع لنا هذا العدد، والظاهر أن العدد محرف من اثنين وثلاثين إلى اثنين وثمانين.
أما كلمة " الصدقة " و" الصدقات " فقد وردت في القرآن اثنتي عشرة مرة، كلها في القرآن المدني.


admin 02-28-2011 09:21 PM

رد: ثناء ابن باز رحمه الله تعالى على كتـــــــــــــاب فقه الزكاة للشيخ العلامة القرضاوي
 
التحذير الشديد من منع الزكاة
وفي أحاديث أخرى: أنذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مانعىالزكاة بالعذاب الغليظ في الآخرة؛ لينبه بهذا الوعيد القلوب الغافلة، ويحرك النفوسالشحيحة إلى البذل، ويسوقها بعصا الترغيب والترهيب إلى أداء الواجب طوعًا، وإلاسيقت إليه بعصا القانون وسيف السلطان كرهًا.
العذاب الأخروي
روى البخاري عن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم
-:"من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته، مثل له يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يُطَوِّقُه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه - يعنى بشدقيه - ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية: (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرًا لهم، بل هو شر لهم، سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة)(آل عمران: 180)
. الشجاع: الحية الذكر... والأقرع: الذي لا شعر له، لكثرة سمه، وطول عمره. الزبيبتان: نقطتان سوداوان فوق العينين وهو أخبث الحيات.
وروى مسلم عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال
: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدِّى حقها إلا جُعلت له يوم القيامة صفائح، ثم أُحْمِىَ عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله، إما إلى الجنة وإماإلى النار. وما من صاحب بقر ولا غنم لا يؤدى حقها إلا أُتِىَ بها يوم القيامة تطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، كلما مضى عليه أخراها رُدَّت عليه أولاها، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون. ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار ".

العقوبة الدنيوية لمن منعالزكاة:.
ولم تقف السنة عند حدالوعيد بالعذاب الأخروي لمن يمنع الزكاة. بل هددت بالعقوبة الدنيوية - الشرعيةوالقدرية - كل من يبخل بحق الله وحق الفقير في ماله. وفي العقوبة القدرية - التييتولاها القدر الأعلى - يقول عليه الصلاة والسلام: "ما منع قومالزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين"(رواه الطبراني فيالأوسط ورواته ثقات، والحاكم البيهقي في حديث إلا أنهما قالا: "ولا منع قوم الزكاةإلا حبس الله عنهم القطر" وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. الترغيب والترهيب: 1/270- ط. المنبرية. ومجمع الزوائد: 3/96) - جمع سنة - وهي المجاعة والقحط. وفيحديث ثان: "ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر منالسماء، ولولا البهائم لم يمطروا"(رواه ابن ماجةوالبزار البيهقي واللفظ له من حديث ابن عمر - المصدر نفسه. ورواه الحاكم وصححهووافقه الذهبي وله شواهد، انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني - الحديث رقم "105"). وفي حديث آخر: "ما خالطت الصدقة - أو قال: الزكاة - مالاً إلا أفسدته" (رواه البزار البيهقي كمافي الترغيب. وقال في المنتقى: رواه الشافعي والبخاري في تاريخه والحميدي وزاد: يكونقد وجب عليك في مالك صدقة فلا تخرجها فيهلك الحرام الحلال. نيل الوطار: 4/126) .
وهذا الحديث يتحمل معنيين كما قال المنذريالأول: أن الصدقة - بمعنى الزكاة - ما تركت في مال ولمتخرج منه إلا كانت سببًا في هلاكه وفساده. ويشهد لهذا المعنى ما روى في حديث آخر: "ما تلف مال في بر ولا بحر إلا بحبس الزكاة"(قال في مجمع الزوائد (3/93): رواه الطبراني في الأوسط وفيه عمر بنهارون وهو ضعيف).
الثاني: أن الرجل يأخذ الزكاة وهو غنى عنها، فيضعها مع ماله، فيهلكه. وبهذا فسر الإمام أحمد (الترغيب والترهيب، المرجع السابق).
العقوبة الشرعية لمانع الزكاة
وفي العقوبة الشرعية القانونية - التي يتولاها الحاكم أو ولى الأمر - جاء قوله - صلى الله عليه وسلم - في الزكاة: "من أعطاها مؤتجرًا فله أجره، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا، لا يحل لآل محمد منها شئ"(رواه أحمد والنسائي وأبو داود من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده " معاوية بن حيدة "، ورواه البيهقي في سننه: 4/105، وقال هذا حديث أخرجه أبو داود في "السنن". فأما البخاري ومسلم رحمهما الله فلم يخرجاه، جريًا على عادتهما في أن الصحابي أو التابعي إذا لم يكن له إلا راوٍ واحد لم يخرجا حديثه في الصحيحين. ومعاوية بن حيدة القشيري لم يثبت عندهما رواية ثقة عنه غير ابنه فلم يخرجا حديثه في الصحيح والله أعلم. وتعقبه ابن التركماني في "الجوهر النقي" بما يدل على أن عادة الشيخين التي ذكرها البيهقي غالبة لا مطردة، وانظر الكلام على الحديث في نيل الأوطار: 4/312 - ط. العثماينة -سيأتي مزيد من كلام عن هذا الحديث في الباب الخامس، فليراجع هناك-)
.
تضمن هذا الحديث الكريم جملة مبادئ هامة في باب الزكاة أحدها: أن الأصل في الزكاة أن يعطيها المسلم مؤتجرًا، أي طالبًا الأجر، ومحتسبًا الثواب عند الله تعالى، لأنه يتعبد لله بأدائها، فمن فعل ذلك فله أجره، ومثوبته عند ربه.
الثاني: أن من غلب عليه الشح وحب الدنيا، ومنع الزكاة لم يترك وشأنه، بل تؤخذ منه قهرًا، بسلطان الشرع، وقوه الدولة، وزيد على ذلك فعوقب بأخذ نصف ماله تعزيرًا وتأديبًا لمن كتم حق الله في ماله، وردعًا لغيره أن يسلك سبيله.
وقد قيل: إن هذا كان في ابتداء الإسلام ثم نسخ
(ذكر ذلك الشيرازي في المهذب "المجموع: 5/332"ورد عليه النووي ص 334)
، ولكن لا دليل على النسخ، ولا يثبت بالاحتمال. والذي أراه: أن هذه عقوبة مفوضة إلى تقدير الإمام. ينفذها حيث يرى تمادى الناس في منع الزكاة، ولم يجد سبيلاً لزجرهم غير هذا. وسنعود لهذه المسألة في باب "أداء الزكاة".
الثالث: أن هذا التشديد في أمر الزكاة إنما هو لرعاية حق الفقراء والمستحقين الذين فرض الله لهم الزكاة، وأما النبي - صلى الله عليه وسلم - وآله، فليس لهم نصيب في هذه الزكاة ولا يحل لهم منها شئ. على خلاف ما عرف في الصدقات عند اليهود، حيث كان عُشرها مخصصًا لآل هارون (اللاويين)الذين كانوا كهانًا بالنسل والوراثة , وكان جزء آخر منها يصرف إلى أصحاب المناصب الدينية
(انظر: الأركان الأربعة للأستاذ أبى الحسن الندوي ص129).


admin 02-28-2011 09:23 PM

قتال الممتنعين من أداء الزكاة
 
قتال الممتنعين من أداء الزكاة

ولم يقف الإسلام عند عقوبة مانع الزكاة بالغرامة المالية، أو بغيرها من العقوبات التعزيرية، بل أوجب سل السيوف وإعلان الحرب على كل فئة ذات شوكة تتمرد على أداء الزكاة. ولم يبال في سبيل ذلك بقتل الأنفس، وإراقة الدماء التي جاء لصيانتها والمحافظة عليها.لأن الدم الذي يراق من أجل الحق لم يضع هدرًا. النفس التي تقتل في سبيل الله وإقامة عدله في الأرض لم تمت. ولن تموت.
هذا إذا نظرنا إلى أنفس المؤمنين المقاتلين من أجل الحق، المدافعين عن شرع الله. أما أنفس الآخرين الذي عصوا الله ورسوله، وامتنعوا من أداء حقه، ولم يرعوا أمانة ما استخلفهم فيه من ماله، فقد أهدروا هم بتصرفهم ما ثبت لهم من الحرمة، ونقضوا - بسبب سلوكهم - ما لأنفسهم وأموالهم من العصمة. وهذا الأمر - قتال المتمردين على الزكاة - قد ثبت بالأحاديث الصحيحة وبإجماع الصحابة رضى الله عنهم. أما الأحاديث فقد روى الشيخان عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإن فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله". وعن أبى هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي، وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". (أخرجه الشيخان والنسائي وأخرج مسلم والنسائي نحوه من حديث جابر بن عبد الله) (نيل الأوطار: 4/121 - ط. العثمانية). فهذه الأحاديث تدل دلاله صريحة على أن مانع الزكاة يُقاتل حتى يعطيها. والظاهر أنها بهذه الألفاظ الصريحة لم تبلغ الصدَّيق ولا الفاروق (ليس بمستغرب، فقد يسمع بعض الصحابة ما لم يسمع الآخر، وقد قال عمر في حديث أبى موسى في الاستئذان: ألهاني عنى الصفق بالأسواق. ولا يبعد أن يكون الصديق قد سمع الحديث الصريح ولكنه رد على عمر أخذًا من الحديث الذي احتج به نفسه فقلب عليه حجته واستظهر بهذا الدليل النظري).رضى الله عنهما، حين تحاورا في جواز قتال مانعي الزكاة إذا أقروا بشرائع الإسلام الأخرى كالصلاة والصيام. ففي عهد الخليفة الأول لرسول الله، تمردت قبائل شتى من العرب على أداء الزكاة واكتفوا من الإسلام بالصلاة دون الزكاة، وظاهروا بموقفهم المرتدين المارقين الذين اتبعوا زعماءهم من أدعياء النبوة، مثل مسيلمة الكذاب وقومه، سجاح وقومها، وطليحة الأسدي وقومه. كان موقف أبى بكر موقفًا تاريخيًا فذًا، فلم يقبل التفرقة أبدًا بين العبادة البدنية (الصلاة) والعبادة المالية (الزكاة) ولم يقبل التهاون في أي شئ كان يؤدى لرسول الله ولو كان عنزة صغيرة أو عقال بعير. ولم يثن من عزمه: تحفزات المتنبئين الكذابين، وما يتوقع من خطرهم على المدينة، ولم يضعف من إصراره على قتالهم اشتباه بعض الصحابة في أمرهم.
ولندع راوية الصحابة الأول أبا هريرة - رضى الله عنه - يروى لنا هذا الموقف الرائع: قال لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب فقال عمر: كيف تقاتل الناس، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا منى دمائهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله تعالى"؟.
فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها لرسول الله لقاتلتهم على منعها.
قال عمر: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبى بكر للقتال، فعرفت أنه الحق (رواه الجماعة إلا ابن ماجة). وفي رواية بعضهم: "عقالاً" بدل "عناقًا" (نيل الأوطار: 4/119 - ط العثمانية. والعناق: الأنثى من أولا المعز، والعقال: الحبل الذي يعقل به البعير. وقيل: العقال زكاة عام وله شواهد في اللغة، ورد بعض المحققين بأنه تعسف وذهاب عن طريقة العرب، لأن الكلام خرج مخرج التشديد والتضييق والمبالغة، فيقتضي قلة ما علق به العقال وحقارته، وإذا حمل على صدقة العام لم يحصل هذا المعنى.- المرجع نفسه).
تعلق الفاروق بظاهر الكلام دون أن ينظر في آخره ويتأمل شرائطه، فرأي أن الدخول في الإسلام يعصم الدم والمال كما هو عموم الحديث.
واحتج الصديق بأمرين:
أحدهما: نص الحديث الذي علق هذه العصمة على شرط فقال: "إلا بحقها" والزكاة حق المال، وهذا لا يخالف فيه عمر ولا غيره.
وثانيهما: قياس الزكاة على الصلاة، فهي أختها وقرينتها في كتاب الله وسنة رسوله. ويبدو من احتجاج أبى بكر: أن عمر والصحابة كانوا مجمعين على قتال الممتنع جهرة من الصلاة، فرد المختلف فيه إلى المتفق عليه. فلما استقر عند عمر صحة رأي أبى بكر، وتبين له صوابه: تابعه على قتال القوم، وهو معنى قوله: "فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبى بكر للقتال فعرفت أنه الحق "يشير - كما قال الخطابى - إلى الحجة التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه نصًا ودلالة (نفس المصدر ص120، وانظر معالم السنن: 2/165). هذا ما صنعه الخليفة الأول أبو بكر الصديق - رضى الله عنه - بمن أصر من العرب على منع الزكاة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ما أقره عليه الصحابة الأعلام، الذين أجمعوا معه على قتالهم، حتى من اشتبه أول الأمر في شأنهم. وبهذا صار قتال الممتنعين عن الزكاة من مواضع الإجماع في شريعة الإسلام. قال الإمام النووي: إذا منع واحد أو جمعٌ الزكاة وامتنعوا بالقتال، وجب على الإمام قتالهم، لما ثبت في الصحيحين من رواية أبى هريرة: أن الصحابة - رضى الله عنهم - اختلفوا أولاً في قتال مانعي الزكاة، ورأي أبو بكر - رضى الله عنه - قتالهم، واستدل عليهم، فلما ظهرت لهم الدلائل وافقوه، فصار قتالهم مجمعًا عليه. ولعل الدولة الإسلامية في عهد أبى بكر هي أول دولة - فيما يعرف التاريخ - تقاتل من أجل حقوق الفقراء والمساكين والفئات الضعيفة في المجتمع، التي طالما أكلتها الطبقات القوية، ولم تجد عونًا لدى الحكام الذين كانوا يقفون دومًا في صف الأغنياء والأقوياء. هذا ولم يبال أبو بكر ولا من معه من الصحابة بتلك الشبهة الواهية التي تعلق بها بعض المانعين للزكاة.
فقد تمسك أولئك بظاهر الآية الكريمة من سورة التوبة:
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلاتك سكن لهم، والله سميععليم)(المجموع: 5/334 - والآية من سورة التوبة: 103)
.
قالوا: فهذا: خطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - يقتضي بظاهره اقتصاره عليه، فلا يأخذ الصدقة سواه، ويلزم على هذا سقوطها بسقوطه، وزوال تكليفها بموته. وقالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطينا عوضًا عن الزكاة التطهير والتزكية لنا، والصلاة علينا، وصلاته سكن لنا، وقد عدمنا ذلك من غيره. والشبهة التي تمسك بها القوم واهية الأساس، حتى قال القاضي أبو بكر بن العربى: هذا كلام جاهل بالقرآن، غافل من مآخذ الشريعة، متلاعب بالدين، متهافت في النظر
(أحكام القرآن:2/995)
.
فإن الخطاب وإن كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأصل، فهو خطاب لكل من يقوم بأمر الأمة من بعده. فهو ليس من الخطاب الخاص به - صلى الله عليه وسلم - مثل
: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك)... الآية (الأحزاب: 50)، ومثل: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك)(الإسراء: 79)
.. ففي هاتين الآيتين دليل على الخصوصية لم يوجد مثله في الآية الكريمة التي استندوا إليها.
قال الإمام الخطابى: خطاب كتاب الله على ثلاثة أوجه:. خطاب عام كقوله تعالى
:(يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم).... الآية (المائدة: 6)، ونحوها. وخطاب خاص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يشركه فيه غيره وهو ما أبين به عن غيره بسمة التخصيص، وقطع التشريك. كقوله تعالى: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك)(الإسراء: 79)، وكقوله:(خالصة لك من دون المؤمنين)(الأحزاب: 50). وخطاب مواجهة للنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو وجميع أمته في المراد به سواء - كقوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل)(الإسراء: 78)، وكقوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله)(النحل:98).. ونحو ذلك. ومنه قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة)(التوبة: 103).. وهذا غير مختص به بل تشاركه فيه الأمة. والفائدة في مواجهة النبي - صلى الله عليه وسلم - بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله، المبين عنه معنى ما أراده، فقدم اسمه ليكون سلوك الأمة في شرائع الدين على حسب ما ينهجه لهم. وما قالوه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعطيهم عوضًا عن الصدقة التطير والتزكية والصلاة عليهم، ولا يوجد ذلك من غيره - فدعوى غير مسلمة. فإن التطهير والتزكية إنما يتمان بواسطة الزكاة فهي أداة التطهير:(تطهرهم وتزكيهم بها)(التوبة:103)، وهذا لا يختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - . وكذلك الصلاة عليهم - بمعنى الدعاء لهم - فكان من يأخذ الزكاة: من الإمام أو نائبه، مأمور أن يدعو لمعطيها بالبركة والأجر ففي هذا الدعاء لرب المال سكينة لنفسه وتثبيت لقلبه، وفقًا لسنة الله في الأسباب والمسببات . وهذا أمر ملموس، ولا يختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وإن كان دعاؤه في المقام الأسمى من التأثير في سكن النفس وطمأنينتها. ولذا قال العلماء: وأما التطهير والتزكية والدعاء منه - صلى الله عليه وسلم - لصاحب الصدقة. فإن الفاعل لها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله فيها. وكل ثواب على عمل بر كان في زمنه - صلى الله عليه وسلم - فهو باق غير منقطع (انظر معالم السنن للخطابي: 2/165، وأحكام القرآن لابن العربى قسم 2 ص 994 - 996. ونيل الأوطار للشوكاني: 4/102، 103 - ط. مصطفي البابي الحلبي 1347هـ). وهذا صنف ممن خرج على أبى بكر، وهم أمثلهم طريقة، وغيرهم كفر بالله كفرًا صريحًا من غير تأويل، وأنكر النبوة، وساعد مسيلمة الكذاب ومن شابهه من مدعى النبوة، وجحد وجوب الصلاة والزكاة (نفس المرجع السابق).

الزكاة مما علم من الدين بالضرورة
والمهم بعد ذلك أن نعلم أن الزكاة مما علم من الدين بالضرورة، وأنها أحد أركان الإسلام، وتناقل ذلك الخاص والعام، وأن فرضيتها ثبتت بالآيات القرآنية الصريحة المتكررة، وبالسنة النبوية المتواترة، وبإجماع الأمة كلها خلفًا عن سلف، وجيلاً إثر جيل
بل قال بعض العلماء: إن العقل أيضًا دل على فرضيتها، كما دل الكتاب والسنة والإجماع، ومراده عقل المسلم الذي يؤمن بحكمة الله تعالى ورحمته بخلقة، وذلك من وجوه ذكرها صاحب "البدائع": (3/3). أحدهما: أن أداء الزكاة من باب إعانة الضعيف، وإغاثة اللهيف، وإقدار العاجز وتقويته على أداء ما افترض الله عز وجل عليه من التوحيد والعبادات، والوسيلة إلى أداء المفروض مفروضة.
الثاني: أن الزكاة تطهر نفس المؤدى من أنجاس الذنوب، وتزكى أخلاقه بتخلق الجود والكرم، وترك الشح والضن، إذ النفس مجبولة على الضن بالمال، فتتعود السماحة، وترتاض لأداء الأمانات، وإيصال الحقوق إلى مستحقيها، وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى:
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها).

والثالث:أن الله تعالى قد أنعم على الأغنياء، وفضلهم بصنوف النعمة والأموال الفاضلة عن الحوائج الأصلية، وخصهم بها، فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش. وشكر النعمة فرض عقلاً وشرعًا. وأداء الزكاة إلى الفقير من باب شكر النعمة فكان فرضًا.

admin 02-28-2011 09:25 PM

جاحد الزكاة كافر
 
جاحد الزكاة كافر

وإذا كان هذا هو مكان فريضة الزكاة من شرائع الإسلام؛ فقد قرر العلماء: أن من أنكرها، وجحد وجوبها، فقد كفر، ومرق من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.
قال النووي: إذا امتنع من أداء الزكاة منكرًا لوجوبها، فإن كان ممن يخفي عليه ذلك لكونه قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة أو نحو ذلك: لم يحكم بكفره، بل يعرف وجوبها، وتؤخذ منه، فإن جحدها بعد ذلك: حكم بكفره.
وإن كان ممن لا يخفي عليه ذلك، كمسلم مختلط بالمسلمين؛ صار بجحدها كافرًا، وجرت عليه أحكام المرتدين، من الاستتابة والقتل وغيرهما، لأن وجوب الزكاة معلوم من دين الله تعالى ضرورة، فمن جحد وجوبها فقد كذب الله، وكذب رسوله - صلى الله عليه وسلم - فحكم بكفره
انظر المجموع:5/334. وهذا الذي قرره النووي، قرره كذلك ابن قدامة المغنى: 2/573 - الطبعة الثالثة ط. المنار.وغيره من فقهاء الإسلام. وبهذا الحكم الشرعي الواضح الصريح المجمع عليه، نعرف مكان أولئك الذين يحقرون من شأن الزكاة، ويجهرون بأنها لا تصلح لهذا العصر، وهم أبناء مسلمين، ناشئون في قلب ديار الإسلام. إنها "ردة ولا أبا بكر لها" (عنوان رسالة لطيفة للسيد أبى الحسن الندوى).


admin 02-28-2011 09:30 PM

فروق أساسية بين الزكاة في الإسلام والزكاة في الأديان الأخرى
 
فروق أساسية بين الزكاة في الإسلام والزكاة في الأديان الأخرى

بعد أن بينا فرضية الزكاة ومنزلتها في دين الإسلام، مستندين إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة، نستطيع أن نسجل بعض الملاحظات المهمة الموجزة حول هذه الفريضة، التي تميزها عما دعت إليه الأديان السابقة من البر والإحسان إلى الفقراء والضعفاء.
أولاً: إن الزكاة الإسلامية لم تكن مجرد عمل طيب من أعمال البر، وخلة حسنة من خلال الخير، بل هي ركن أساسي من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره الكبرى، وعبادة من عباداته الأربع، يوصم بالفسق من منعها، ويحكم بالكفر على من أنكر وجوبها، فليست إحسانًا اختياريًا ولا صدقة تطوعية، وإنما هي فريضة تتمتع بأعلى درجات الإلزام الخلقي والشرعي.
ثانيًا: إنها في نظر الإسلام حق للفقراء في أموال الأغنياء. وهو حق قرره مالك المال الحقيقي وهو الله تعالى، وفرضه على من استخلفهم من عباده فيه، وجعلهم خزانًا له، فليس فيها معنى من معنى التفضل والامتنان من الغنى على الفقير، إذ لا منة لأمين الصندوق إذا أمره صاحب المال بصرف جزء من ماله على عياله.
ثالثًا: إنها "حق معلوم" قدر الشرع الإسلامي نصبه ومقاديره وحدوده وشروطه، ووقت أدائه وطريقة أدائه. حتى يكون المسلم على بينة من أمره، ومعرفة بما يجب عليه، وكم يجب؟ ومتى يجب؟ ولم تجب؟.
رابعًا: هذا الحق لم يوكل لضمائر الأفراد وحدها، وإنما حملت الدولة المسلمة مسئولية جبايتها بالعدل وتوزيعها بالحق. وذلك بواسطة " العاملين عليها "فهي ضريبة" تؤخذ "وليست تبرعًا يمنح. ولهذا كان تعبير القرآن الكريم:(خذ من أموالهم صدقة)(التوبة: 103)، وتعبير السنة: أنها "تؤخذ من أغنيائهم".
خامسًا: إن من حق الدولة أن تؤدب - بما تراه من العقوبات المناسبة - كل من يمتنع من أداء هذه الفريضة. وقد يصل هذا إلى حد مصادرة نصف المال، كما في حديث: "إنا آخذوها وشطر ماله".
سادسًا: إن أي فئة ذات شوكة تتمرد على أداء هذه الفريضة. فإن من حق إمام المسلمين - بل من واجبه - أن يقاتلهم ويعلن عليهم الحرب حتى يؤدوا حق الله وحق الفقراء في أموالهم. وهذا ما صرحت به الأحاديث الصحيحة، وما طبقه الخليفة الأول أبو بكر ومن معه من الصحابة الكرام، رضى الله عنهم.
سابعًا: إن الفرد المسلم مطالب بأداء هذه الفريضة العظيمة وإقامة هذا الركن الأساسي في الإسلام، وإن فرطت الدولة في المطالبة بها، أو تقاعس المجتمع عن رعايتها. فإنها - قبل كل شئ - عبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه، ويزكى بها نفسه وماله، فإن لم يطالبه بها السلطان، طالبه بها الإيمان والقرآن. وعليه - ديانة - أن يعرف من أحكام الزكاة ما يمكنه من أدائها على الوجه المشروع المطلوب.
ثامنًا: إن حصيلة الزكاة لم تترك لأهواء الحكام. ولا لتسلط رجال الكهنوت - كما كان الحال في اليهودية - ولا لمطامع الطامعين من غير المستحقين، تنفقها كيف تشاء، بل حدد الإسلام مصارفها ومستحقيها كما في آية:(إنما الصدقات للفقراء والمساكين)(التوبة: 6)، وكما فصَّلت ذلك السنة بدقة ووضوح. فقد عرف البشر من تجاربهم أن المهم ليس هو جباية المال. إنما المهم هو أين يصرف؟ ولذلك أعلن - صلى الله عليه وسلم - أن لا يحل له ولآله منها شيء - وإنما تؤخذ من أغنياء كل إقليم لترد على فقرائه فهي منهم وإليهم.
تاسعًا: إن هذه الزكاة لم تكن مجرد معونة وقتية. لسد حاجة عاجلة للفقير وتخفيف شيء من بؤسه. ثم تركه بعد ذلك لأنياب الفقر والفاقة. بل كان هدفها القضاء على الفقر، وإغناء الفقراء إغناءً دائمًا. يستأصل شأفة العوز من حياتهم. ويقدرهم على أن ينهضوا وحدهم بعبء المعيشة. وذلك لأنها فريضة دورية منتظمة دائمة الموارد، ومهمتها أن تيسر للفقير قوامًا من العيش. لا لقيمات أو دريهمات كما سنفصل ذلك في مصارف الزكاة.
عاشرًا: إن الزكاة - بالنظر إلى مصارفها التي حددها القرآن وفصلتها السنة - قد عملت لتحقيق عدة أهداف روحية وأخلاقية واجتماعية وسياسية. ولهذا تصرف على المؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله، فهي أوسع مدى، وأبعد أهدافًا من الزكاة في الأديان الأخرى.
وبهذه المميزات يتضح لنا: أن الزكاة في الإسلام نظام جديد متميز يغاير ما جاءت به الديانات السابقة؛ من وصايا ومواعظ، ترغب في البر والإحسان، وتحذر من البخل والإمساك. كما أنها شىء آخر، يخالف الضرائب والمكوس التي كان يجبيها الملوك والأباطرة. وكانت كثيرًا ما تؤخذ من الفقراء لترد على الأغنياء، وتنفق على أبهة الحاكمين وترفهم وإرضاء أقاربهم وأنصارهم وحماية سلطانهم من الزوال

admin 02-28-2011 09:32 PM

وضع الفقراء في الحضارات السابقة
 
وضع الفقراء في الحضارات السابقة

تمهيد
قبل أن أُبَيِّن وجوب الزكاة ومنزلتها في دين الإسلام، يحسن بى أن أعرض لما كان عليه الفقراء والطبقات الضعيفة في المجتمع قبل الإسلام، وإلى أي حد عنيت الشرائع والديانات السابقة برعاية حاجتهم وعلاج مشكلتهم، حتى نعرف بالدراسة والموازنة كيف سبق الإسلام كل الديانات والمذاهب بعلاج هذا الجانب المهم علاجًا جذريًا أصيلاً، وأقام بنيان العدل والتكافل الاجتماعى، على أمتن الأسس، وأرسخ القواعد التي جاء بها كتاب الله، وبينتها سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -.

الفقراء في الحضارات السابقة
عرف الإنسان الفقر والحرمان من أزمنة قديمة، وعرف التاريخ الفقراء والمحرومين من عهود سحيقة، ومن الإنصاف أن نقول: إن الحضارة الإنسانية لم تخلُ في عهد من عهودها من أناس يدعونها إلى ذلك المعنى الإنساني الأصيل، وهو إحساس الإنسان بآلام أخيه، ومحاولة إنقاذه من بؤسه وحرمانه، أو التخفيف من ويلاته على الأقل.
غير أن الوضع الذي كان عليه الفقراء عمليًا كان سيئًا للغاية، وكان نقطة سوداء في جبين الإنسانية، ولم يتقيد المجتمع بما أوصى به الحكماء، ونادى به العقلاء. وهذا باحث كبير
(هو الأستاذ المرحوم العلامة محمد فريد وجدى، مؤلف دائرة معارف القرن العشرين، ورئيس تحرير" مجلة الأزهر " لسنين عديدة. وهذا النقل من كتابه "الإسلام دين عام خالد " ص 179 -181 -ط.أولى.)
يحدثنا عن هذا التاريخ الأسود منذ أقدم الحضارات، تاريخ العلاقة بين الأغنياء الواجدين والفقراء المحرومين فيقول:
" في أية أمة من الأمم أجال الباحث نظره فوجد طبقتين من الناس لا ثالثة لهما: الطبقة الموسرة، والطبقة المعسرة، ووجد بإزاء هذا أمرًا جديرًا بالملاحظة، وهو أن الطبقة الموسرة تتضخم إلى غير حد، والطبقة المعسرة لا تفتأ تهزل حتى تلتصق بأديم الأرض، معيية رازحة، فيتداعى البناء الاجتماعى، لوهن اساسه، وقد لا يدرى المترفون من أي النواحي خر عليهم السقف.
كانت "مصر في عهدها القديم جنة الله في الأرض، وكانت تنبت من الخيرات ما يكفي أضعاف أهلها عددًا، ولكن الطبقة الفقيرة فيها كانت لا تجد ما تأكله، لأن الطبقة الموسرة كانت لا تترك لهم شيئًا غير حثالة لا تسمن ولا تغنى من جوع. فلما أصابتها المجاعة - على عهد الأسرة الثانية عشرة - باع الفقراء أنفسهم للأغنياء وساموهم الخسف وأذاقوهم عذاب الهون. و في "مملكة " بابل" كان الأمر على ما كان عليه في "مصر"؛ لا حَظَّ للفقراء من ثمرات بلادهم، مع أنها كانت تسامى بلاد الفراعنة نماء وخصوبة. وكانت تجرى مجراها "فارس ". أما لدى الأغارقة " اليونان " الأقدمين فكان الأمر لا يعدو ما تقدم، بل تروى عن بعض ممالكهم أمور تقشعر من هولها الجلود، فقد كانوا يسوقون الفقراء بالسياط إلى أقذر الأعمال ويذبحونهم لأقل الهفوات ذبح الأغنام.
أما في "إسبارطة" من ممالكهم فقد كان الموسرون تركوا للمعسرين الأرض التي لا تصلح للإنبات فذاقوا ألوان الفاقة غير مرحومين. وكان الأغنياء في " أثينا " يتحكمون في الفقراء إلى حد أنهم كانوا يبيعونهم بيع العبدان، إذا لم يؤدوا لهم ما كانوا يفرضونه من الإتاوات.
أما في" روما " منبع الشرائع والقوانين، ووطن الفقهاء والأصوليين، فقد كان الموسرون مستولين على العامة، ومتميزين عنهم تميزًا يجعل العامة بإزائهم كالطائفة المنبوذة لدى الهنديين وما كانوا يرضخون لهم
(رضخ له: أعطاه عطاء مقارنًا.)
بصبابة إلا بعد أن ينال منهم الإعياء، فيهجرون المدن، ويقاطعون الجماعة مرغمين.
قال العلامة "ميشيليه" في المملكة الرومانية في هذه الناحية:.
كان الفقراء يزدادون كل يوم فقرًا، والأغنياء يزدادون غنى، وكانوا يقولون: ليهلك الوطني، وليمت جوعًا إذا لم يستطع أن يذهب إلى ساحات القتال.
فلما زالت الدولة الرومانية، وقامت على أنقاضها الممالك الأوروبية، ازدادت حالة الفقراء سوءًا، فكانوا في جميع أصقاعها يباعون كالماشية مع أراضيهم"
(المرجع السابق).

هذا هو وضع الفقراء في تلك القرون المديدة، وهذا هو موقف الأغنياء منهم، فماذا صنعت الأديان لإصلاح وضع الفقراء، وتقريب الثقة بينهم وبين الأغنياء؟


admin 02-28-2011 09:35 PM

عناية الأديان برعاية الفقراء
 
عناية الأديان برعاية الفقراء

الواقع أن الأديان كلها - حتى الوضعية منها التي لم تعرف لها صلة بكتاب سماوي - لم تغفل هذا الجانب الإنساني الاجتماعي، الذي لا يتحقق إخاء ولا حياة طيبة بدونه.
وهكذا نجد في بلاد ما بين النهرين قبل أربعة آلاف سنة، كيف أن "حمورابي" في استهلال أول سجل للشرائع وجد حتى الآن، قال: إن الآلهة أرسلته لمنع الأقوياء من اضطهاد الضعفاء، وليرشد الناس، ويَؤَمِّن الرفاهية للخلق. وقبل آلاف السنين كان الناس في مصر القديمة يشعرون بأنهم يؤدون واجبًا دينيًا عندما يقولون: لقد أعطيت الخبز للجائع، والكساء للعارى، وحملتُ بزورقي أولئك الذين لم يستطيعوا العبور، وكنت أبًا لليتيم، وزوجًا للأرملة، ووقاءً للمقرور من عصف الريح
(من محاضرة الدكتور "كارل شوبنز" في حلقة الدراسات الاجتماعية. الدورة الثالثة ص 546).

عناية الأديان السماوية
بيد أن الأديان السماوية كانت دعوتها إلى البر بالفقراء والضعفاء أجهر صوتًا، وأعمق أثرًا من كل فلسفة بَشرية، أو ديانة وضعية أو شريعة أرضية، ولا أحسب دعوة نبي من الأنبياء خلت من هذا الجانب بَيْدَ أن الأديان السماوية كانت دعوتها إلى البر
بالفقراء والضعفاء أجهر صوتًا، وأعمق أثرًا، من كل فلسفة الإنساني الذي سماه القرآن " الزكاة ".
ونحن إذا رجعنا في ذلك إلى القرآن الكريم - وهو أصح وثيقة سماوية بقيت للبَشر - وجدناه يتحدث عن إبراهيم وإسحاق ويعقوب فيقول:
(وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا وأوحينا إليهم فعل الخيرات وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وكانوا لنا عابدين) (الأنبياء: 73)
.
ويتحدث عن إسماعيل فيقول:
(وأذكر في الكتاب إسماعيل، إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيًا وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيًا)(مريم: 54 - 55)
.
ويتحدث عن ميثاقه لبنى إسرائيل فيقول:
(وإذ أخذنا ميثاق بنى إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانًا وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسنًا وأقيموا الصلاة وآتو الزكاة) (البقرة: 83)
.
وفي سورة أخرى:
(ولقد أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا، وقال الله إنى معكم، لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضًا حسنًا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجرى من تحتها الأنهار، فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل) (المائدة: 12)
.
وقال على لسان المسيح عيسى في المهد:
(وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيًا) (مريم: 31)
.
وقال تعالى في أهل الكتاب عامة:
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة)(البينة: 5).

وإذا نظرنا إلى أسفار التوراة والإنجيل (العهد القديم، والعهد الجديد) - التي بين أيدينا الآن - نجدها تشتمل على كثير من الوصايا والتوجيهات الخاصة بالعطف على الفقراء والمساكين، والبرَّ بالأرامل واليتامى والضعفاء.
ففي التوراة نقرأ في الإصحاح (21) من سفر الأمثال ما نصه: " مَن يسد أذنيه عن صراخ المسكين فهو أيضاَ يصرخ ولا يستجاب له، الهدية في الخفاء تطفئ الغضب ".
وفي الإصحاح (22) منه: " الصالح العين هو يُبارَك لأنه يعطى من خبزه للفقير". وفي الفقرة (27) من سفر الأمثال: " من يعطى الفقير لا يحتاج، ومن يحجب عنه عينيه عليه لعنات كثيرة". وفي الإصحاح (15) من سفر التثنية: " إن كان فيك فقير أحد من إخوتك في أحد أبوابك، في أرضك التي يعطيك الرب إلهك؛ فلا تقس قلبك، ولا تقبض يدك عن أخيك الفقير، بل افتح يدك له، وأقرضه مقدار ما يحتاج إليه، أعطه ولا يسؤ قلبك عندما تعطيه، لأنه بسبب هذا الأمر يباركك الرب إلهك في كل أعمالك وجميع ما تمتد إليه يدك، لأنه لا تُفقد الفقراء في الأرض، لذلك أنا أوصيك قائلاَ: افتح يدك لأخيك المسكين والفقير في أرضك". كما ورد في الإصحاح (14) منه: "تعشيرًا تعشر كل محصول زرعك الذي يخرج من الحقل سنة بسنة، في آخر ثلاث سنين تخرج كل عشر محصولك في تلك السنة، وتضعه في أبوابك، فيأتي اللاوي، لأنه ليس له قسم ولا نصيب معك، والغريب واليتيم والأرملة الذين في أبوابك، ويأكلون ويشبعون لكي يباركك الرب إلهك في كل عمل يدك الذي تعمل".
وكذلك نقرأ في الإنجيل في الفقرة (33) من الإصحاح (13) من إنجيل لوقا: " بيعوا ما لكم وأعطوا صدقة ".
وفي الفقرات (10 - 14) من إنجيل لوقا: "من له ثوبان فليعط من ليس له، ومن له طعام فليفعل هكذا".
وفي الفقرة (41) من الإصحاح (11): "بل أعطوا ما عندكم صدقة فهو ذا كل شىء، نقيًا لكم".
وفي الفقرات (12 - 14) من الإصحاح (14): "وقال أيضًا للذي دعاه: إذا صنعت غداءً أو عشاءً فلا تدع أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء، لئلا يدعوك هم أيضًا، فتكون لك مكافأة، بل إذا صنعت فادع المساكين الجدع، العرج، العمى، فيكون لك الطوبى، إذ ليس لهم أن يكافئوك، لأنك تكافأ في قيامة الأبرار".
وفي الفقرات (1 - 4) من الإصحاح (21): "وتطلع فرأي الأغنياء يلقون قرابينهم في الخزانة، ورأي أيضًا أرملة مسكينة ألقت هناك فلسين، فقال: بالحق أقول لكم: إن هذه الأرملة ألقت أكثر من الجميع، لأن هؤلاء من غنى ألقوا في قرابين الله، أما هذه فمن إعوازها ألقت كل المعيشة".
وفي الفقرتين (41، 42) من الإصحاح (5) من إنجيل متى: "من سأل فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده".
وفي الفقرات (1 - 4) من الإصحاح (6): " احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس، لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات. فمتى صنعت صدقة فلا تصوت قدماك بالبوق كما يفعل المراؤون في المجامع وفي الأزقة لكي يمجدوا من الناس. الحق أقول لكم: إنهم استوفوا أجرهم. وأما أنت فمتى صنعت صدقة فلا تعرف شمالك ما تفعل يمينك لكي تكون صدقتك في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك. علانية ".
وفي الفقه (42) من الإصحاح (10): "ومن سقى أحد هؤلاء الصغار كأس ماء بارد فقط باسم تلميذ، فالحق أقول لكم: إنه لا يضيع أجره".

ملاحظات على موقف الأديان من الفقر
هذه نماذج رائعة من عناية الأديان السابقة بالفقراء وذوى الحاجات. وهذه هي دعوة الكتب السماوية - قبل القرآن - إلى رعايتهم.
ولكن ينبغي هنا أن نبدي بعض الملاحظات
1- إن هذه النماذج لا تعدو أن تكون ترغيبًا في الإحسان والعطف، وترهيبًا من الأنانية والبخل، ودعوة جهيرة إلى التصدق الفردي الاختباري.
2- إنها لم تتمتع بدرجة عالية من الإيجاب والإلزام، بحيث يشعر من تركها أنه ترك شيئًا من أساسيات الدين، يعاقبه الله عليه في الدنيا والآخرة بالعذاب الشديد.
3- إنها وكلت ذلك إلى أريحية الأفراد , وإلى ضمائرهم، ولم تجعل للدولة سلطانًا عليهم، في التحصيل والتوزيع.
4- إنها لم تحدد المال الذي تجب منه الصدقة والإحسان، ولا شروطه، ولا مقدار الواجب فيه، وهذا ما يجعل التفكير في تحصيله من قبل الدولة ممتنعًا، إذ كيف تحصل شيئًا غير مقدر ولا محدود.
5- إن المقصود من الإحسان إلى الفقراء لم يكن هو علاج مشكلة الفقر، واستئصال جذوره، وتحويل الفقراء إلى ملاك، بل كان المقصود لا يتجاوز التقليل من بؤسهم، والتخفيف من ويلاتهم.
وبهذا نقول: إن الفقراء والضعفاء كانوا تحت رحمة الأغنياء القادرين ومنتهم، إذا حركهم حب الله والآخرة، أو حب الثناء، والمروءة، فجادوا بشيء - ولو قليلاً - على ذوى الضعف والحاجة والفقر، فهم أصحاب الفضل والمنة، وإذا غلب عليهم حب المال وحب الذات، ضاع الفقراء، وافترستهم مخالب الفاقة، ولم يجدوا من يدافع عنهم، أو يطلب لهم حقًا، إذ لم يكن لهم حق معلوم. وهذا هو خطر الإحسان الموكول إلى الأفراد.

admin 02-28-2011 09:37 PM

إيتاء الزكاة في مكة
 
إيتاء الزكاة في مكة

هذه جملة من أساليب القرآن المكي، في الدعوة إلى رعاية الفقراء والمساكين، وإيتائهم حقوقهم من المال، حتى لا يضيعوا في مجتمع من المؤمنين.
وقد توجت هذا الأساليب بأسلوب آخر هو "إيتاء الزكاة" ثناء على فاعليها أو ذمًا لتاركيها، كما نرى ذلك واضحًا في مجموعة من سور القرآن المكية.
ففي سورة "الروم" يأمر الله تعالى بأداء حق القريب والمسكين، وابن السبيل، ويوازن بهن أثر الربا الذي يزيد المال في الظاهر، وينقصه في الحقيقة - وبين أثر الزكاة - التي تنقص المال ظاهرًا وتنمية باطنًا - يقول الله تعالى
: (فآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل، ذلك خير للذين يريدون وجه الله، وأولئك هم المفلحون وما آتيتم من ربًا ليربوا في أموال الناس فلا يربوا عند الله، وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) (الروم: 38 - 39).وفي مطلع سورة "النمل" وصف الله المؤمنين الذي جعل كتابه هدى لهم وبشرى فقال: (تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون) (النمل: 1-3). وفي عطف إيتاء الزكاة على إقامة الصلاة دليل على أنها زكاة المال، كما هي سنة القرآن . وفي مطلع سورة "لقمان" قال: (هدى ورحمة للمحسنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة) (لقمان: 3 - 4).... الآية.

وما قيل في الآية السابقة يقال هنا. وقال في سورة "المؤمنين" يبين أوصاف المؤمنين الذين يرثون الفردوس: (والذين هم للزكاة فاعلون)(المؤمنون: 4).
وفي سورة "الأعراف" أثناء ذكره تعالى لقصة موسى وقومه قال:
(ورحمتي وسعت كل شئ، فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين همبآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي)(الأعراف: 156 - 157). وفي سورة "فصلت" توعد الله المشركين، وذكر أخص أوصافهم، فكان عدم إيتاء الزكاة والكفر بالآخرة. قال سبحانه: (وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون)(فصلت: 6 - 7). فإذا كان المؤمنون المحسنون يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون، فهؤلاء لا يؤتون الزكاة وبالآخرة هم كافرون. وذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بالزكاة هنا: زكاة النفس وطهارتها من الرذائل، وعلى رأسها الشرك. كقوله تعالى: (قد أفلح من زكاها) الشمس: 9، (قد أفلح من تزكى)(الأعلى:14). وذلك فرار من القول بالزكاة المالية التي اشتهر أنها لم تشرع إلا بالمدينة. ورد ابن جرير الطبري هذا القول واختار أن المعنى: لا ينفقون من أموالهم زكاتها، ومما استدل به على ذلك: اشتهار لفظ "الزكاة" في زكاة المال (انظر تفسير الطبري: 24/93 - ط. الحلبي). ومما يؤيد اختيار الطبري: اقتران الزكاة بالإيتاء، والإيتاء هو: الإعطاء، وأولى شئ بذلك هو زكاة المال. والملاحظ في حديث السور المكية عن "الزكاة": أنها لم توردها بصيغة "الأمر" الدال على الوجوب دلالة مباشرة، ولكنها أوردتها في صورة خبرية باعتبارها وصفًا أساسيًا للمؤمنين والمتقين والمحسنين (يُستثنى من ذلك ما جاء في الآية الأخيرة من سورة المزمل: (فاقرأوا ما تيسر منه، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) وهذا على القول بأنها مكية، كما هو مذهب بعض العلماء، ويرى آخرون أنها مدنية، معضدين ذلك بمضمون الآية واختلاف حجمها وفاصلتها عن بقية آيات السورة.)، الذين يؤتون الزكاة أو الذين هم للزكاة فاعلون، والذين خصهم الله بالفلاح: (وأولئك هم المفلحون)(الروم: 38)، كما أخبر أن تركها من خصائص المشركين: (الذين لا يؤتون الزكاة) (فصلت: 7)
.
وإذا كان إيتاء الزكاة من الأوصاف الأساسية للمؤمنين المفلحين، وتركها من الأوصاف اللازمة للمشركين، فذلك يدل على الوجوب، إذ التحلي بصفات المؤمنين، والخروج عن خصائص المشركين، أمر واجب لا نزاع فيه. يضاف إلى ذلك الأمر في قوله تعالى:
(وآتوا حقه يوم حصاده)(الأنعام:141).

الزكاة في العهد المكي زكاة مطلقة
ولكن المعروف في تاريخ التشريع الإسلامي: أن الزكاة فرضت في المدينة. فكيف يتفق هذا وذكر القرآن لها في آيات كثيرة من سوره المكية؟.
والجواب: أن الزكاة التي ذكرت في القرآن المكي، لم تكن هي بعينها الزكاة التي شرعت بالمدينة، وحددت نصبها ومقاديرها، وأرسل السعاة لجبايتها وصرفها، وأصبحت الدولة مسئولة عن تنظيمها. الزكاة في مكة كانت زكاة مطلقة من القيود والحدود، وكانت موكولة إلى إيمان الأفراد وأريحيتهم وشعورهم بواجب الأخوة نحو إخوانهم من المؤمنين. فقد يكفي في ذلك القليل من المال، وقد تقتضي الحاجة بذل الكثير أو الأكثر. وقد استنتج بعض الباحثين من تعبيرات القرآن في السور المكية:
(حقه)(الإسراء: 26) و(حق للسائل والمحروم)(الذاريات: 19) و (حق معلوم)(المعارج: 24).. في الآيات، أنها يمكن أن تلهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد حدد مقادير معينة على أموال القادرين من المسلمين زكاة عن أموالهم المتنوعة (سيرة الرسول - صورة مقتبسة من القرآن الكريم تأليف محمد عزة دروزة 2/341).
ولكن لم ينقل ما يؤيد هذا الاستلهام، بل نقل ما يخالفه. ولم تكن هناك حاجة إلى هذا التحديد، والقوم يبذلون أنفسهم وكل ما بأيديهم. وليس من الضروري ألا يكون الحق معلومًا إلا بتعيين النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل يصح أن يكون معلومًا بتعيين المنفق نفسه، كما ذكر المفسرون، أو بتعيين العرف حسب المصلحة والحاجة.
قال الحافظ ابن كثير في تفسير سورة "المؤمنين" عند قوله تعالى:
(والذين هم للزكاة فاعلون)(المؤمنون:4): "الأكثرون على أن المراد بالزكاة ههنا زكاة الأموال، مع أن هذه الآية مكية، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة، في سنة اثنتين من الهجرة، والظاهر أن التي فرضت بالمدينة إنما هي ذات النصب والمقادير الخاصة، وإلا فالظاهر أن أصل الزكاة كان واجبًا بمكة. قال تعالى في سورة الأنعام - وهي مكية: (وآتوا حقه يوم حصاده)(تفسير ابن كثير 3/238، 239 - ط. الحلبي، والآية من سورة الأنعام: 141)
.
وهذا الذي استظهره هنا تعضده الآيات الكثيرة التي سقناها.


admin 02-28-2011 09:39 PM

السنة تؤكد وتبين ما أجمله القرآن
 
السنة تؤكد وتبين ما أجمله القرآن


القرآن دستور الإسلام ومرجعه الأساسي، لهذا اشتمل على القواعد الكلية، والمبادئ العامة، ولم يتعرض للجزئيات والتفصيلات إلا فيما يخشى أن تضطرب فيه الآراء، وتضل عنه الأهواء. أما السنة فهي البيان القولي، والتطبيق العملي للقرآن: تفسر ما أبهمه، وتفصل ما أجمله، وتحدد ما أطلقه، وتخصص ما عممه، وفقًا لما فهم الرسول المعصوم عن ربه. وقد قال تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) (النحل: 44). وفي الزكاة جاءت السنة بتأكيد ما جاء به القرآن من وجوب الزكاة، وذلك منذ العهد المكي. نجد جعفر بن أبى طالب المتحدث باسم المسلمين المهاجرين إلى الحبشة يخاطب النجاشي ويخبره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول له فيما قال له: " ويأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام " (رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث أم سلمة). والمراد بذلك مطلق الصلاة والصيام والزكاة، لا الصلوات الخمس، ولا صيام رمضان، ولا الزكاة المخصوصة ذات النصب والحول؛ إذ أن هذه الفرائض المحددة لم تكن شرعت بعد (فتح الباري: 3/171). أما في المدينة فقد كانت مجالاً رحبًا للحديث عن فريضة الزكاة: لتحديد نصبها ومقاديرها وشروطها، ولبيان مكانتها، والترغيب في أدائها، والترهيب من منعها، ولإعطاء الصور العملية لتنفيذها.

admin 02-28-2011 09:41 PM

الزكاة ثالثة دعائم الإسلام
 
الزكاة ثالثة دعائم الإسلام

أكد النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة فرضية الزكاة وبين مكانها في دين الله، وأنها أحد الأركان الأساسية لهذا الدين، ورغب في أدائها ورهب من منعها بأحاديث شتى، وأساليب متنوعة، تقرأ في حديث جبريل المشهور حين جاء يعلم المسلمين دينهم بحسن السؤال: أنه سأل - النبي - صلى الله عليه وسلم - ما الإسلام؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتى الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً" (متفق عليه). وفي حديث ابن عمر المشهور: "بنى الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً " (متفق عليه). أعلن الرسول عليه السلام في هذين الحديثين وغيرهما أن أركان الإسلام خمسة، بدأها بالشهادتين، وثناها بالصلاة، وثلثها بالزكاة. فالزكاة في السنة - كما هي في القرآن - ثالثة دعائم الإسلام، التي لا يقوم بناؤه إلا بها، ولا يرتكز إلا عليها. وقد يكتفي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحيان بذكر بعض هذه الأركان الخمسة دون بعض، بيد أن الصلاة والزكاة كانتا دائمًا في مقدمة ما يأمر به، ويدعو إليه، ويبايع عليه. ومن ذلك حديث ابن عباس في الصحيحين: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معاذ (قال الشوكاني: كان بعثه سنة عشر قبل حج النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ذكره البخاري في أواخر المغازى، وقيل: كان ذلك سنة تسع عند منصرفه من تبوك... وقيل بعثه عام الفتح سنة ثمان... واتفقوا على أنه لم يزل باليمن إلى أن قدم في عهد أبى بكر، واختلفوا هل كان واليًا أو قاضيًا؟ فجزم ابن عبد البر بالثاني والنسائي بالأول (نيل الأوطار: 4/115 المطبعة العثمانية المصرية - طبعة أولى). بن جبل إلى اليمن فقال له: " إنك تأتى قومًا من أهل الكتاب(قال له ذلك تنبيهًا على أهمية الوصية لتستجمع همته عليها؛ لأن أهل الكتاب أهل علم في الجملة فلا يكون في مخاطبتهم كمخاطبة الجهال من عبدة الأوثان)فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنى رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوكلذلك(بالإقرار بوجوبها عليهم والتزامهم بها أو امتثالهم بالفعل). فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم (اكتفي بذكر الفقراء لكونهم الغالب في ذلك، وللمطابقة بينهم وبين الأغنياء).، فإن هم أطاعوك لذلك فإياك وكرائم أموالهم (الكرائم: جمع كريمة، أي نفيسة فلا يجوز للجابي أخذ خيار المال، لئلا يجحف بالمالك إلا برضاه). واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ".
وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة لشدة اهتمام الشارع بهما، وخاصة إذا كان المقام مقام الدعوة إلى الإسلام، فيكتفي بهما مع الشهادة
(أما ما أجاب به ابن الصلاح: أن ذلك تقصير من بعض الرواة، فتعقب بأنه يفضي إلى ارتفاع الثقة بكثير من الأحاديث النبوية لاحتمال الزيادة والنقصان "نيل الأوطار:4/116") كما في قوله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) (التوبة: 11).
وقد دل الحديث على بعث السعاة الذين يقومون بجمع الزكاة وتفريقها، وأن الزكاة من شأنها أن تؤخذ لا أن تترك للأفراد وحدهم، وهو تأييد لآية
: (خُذ من أموالهم صدقة)(التوبة:103)
.
ويروى البخاري عن جرير بن عبد الله قال: "بايعت النبي - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم".
وفي حديث ابن عمر في الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة "
... (الحديث).
والمراد بالناس هنا: الوثنيون من العرب، الذين نكثوا العهود وتعدوا الحدود، ولم يعد إلى مسالمتهم من سبيل، إذ لم يكن لهم دين يردعهم، ولا قانون يهيمن عليهم، ولا حاكم يأتمرون بأمره. قد أراد الله أن تكون أرض العرب حرم الإسلام ومعقله، فلا بد من تطهيرها من رجس الشرك، ورواسب الجاهلية العمياء المتجبرة في الأرض. وفي حديث أنس - عند البزار - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"من فارق الدنيا على الإخلاص لله وعبادته لا يشرك به، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، فارقها والله عنه راض". قال أنس: وهو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم قبل هرج الأحاديث، واختلاف الهواء. وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل، قال الله تعالى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم)(التوبة: 5). قال: توبتهم خلع الأوثان، وعبادة ربهم، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ثم قال في آية أخرى: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين)(تفسير ابن كثير:2/236 - والآية من سورة التوبة: 11).


admin 02-28-2011 09:43 PM

لماذا لم يوجب الإسلام الزكاة على غير المسلمين؟
 
لماذا لم يوجب الإسلام الزكاة على غيرالمسلمين؟

أجمع علماء الإسلام: على أن الزكاة تجب على المسلم البالغ العاقل الحر (يذكر الفقهاء هنا بحوثًا كثيرة حول وجوب الزكاة على العبد والمكاتب وما يتعلق بذلك، وقد تركناها لعدم الحاجة إليها في عصرنا، ومن أرادها فليرجع إليها في المجموع: 5/326، 327، والمغني مع الشرح الكبير: 2/494، ورد المحتار: 2/5، وبلغة السالك ص 206، وبداية المجتهد: 1/209 - ط. مصطفى الحلبي. وقد لخص فيها أقوال المذاهب في المسألة تلخيصًا جيدًا، مع بيان ما يستندون إليه من العلل). المالك لنصابها المخصوص بشرائطه.
وقد تبين لنا فيما سبق: أدلة هذا الوجوب، من آيات الكتاب الصريحة، وأحاديث الرسول الثابتة، التي أفاد مجموعها علمًا يقينيًا بفرضية الزكاة، وهذا مما تناقلته أجيال المسلمين، وتواترت به الأخبار، قولاً وعملاً، وعُلِمَ من دين الإسلام بالضرورة، فمن أنكر ذلك - ولم يكن حديث عهد بالإسلام - فقد كفر، وخلع رِبقة الإسلام من عنقه.
واتفق المسلمون على أن فريضة الزكاة؛ لا تجب على غير مسلم؛ لأنها فرع من الإسلام، وهو مفقود، فلا يطالب بها وهو كافر، كما لا تكون دَيْنًا في ذمته، يؤديها إذا أسلم، واستدل العلماء لذلك، بحديث ابن عباس في الصحيحين: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذًا إلى اليمن قال له:
"إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم .. (انظر فتح الباري: 3/229 وما بعدها)
.
فالحديث يدل - كما قال النووي وغيره - على أن المطالبة بالفرائض في الدنيا، لا تكون إلا بعد الإسلام، وهذا قدر متفق عليه
(هناك خلاف في الأصول: هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة؟ فيزداد عذابهم بسببها في الآخرة أم لا؟ قول الأكثرين: إنهم مخاطبون خلافًا للحنفية وهو بحث لا حاجة بنا إليه هنا)
.
قال العلماء: ولأن الزكاة أحد أركان الإسلام، فلم تجب على كافر، كالصلاة والصيام. وهناك تعليل آخر ذكره الشيرازي وأقره النووي من الشافعية. فقد ذكرا في عدم وجوبها على الكافر الأصلي: أنها حق لم يلتزمه فلا يلزمه
(هذا التعليل يفتح بابًا للتساؤل عن الحكم فيما إذا رضي أهل الذمة أداء الزكاة والتزموا أداءها كالمسلمين - كما يلتزمون الآن الخدمة العسكرية - هل يجوز أن تُقبل منهم الزكاة باعتبارها ضريبة لا عبادة، كما قُبِل منهم الخدمة في الجيش وهي عند المسلمين جهاد وقربة؟)
.
سواء أكان حربيًا أم ذميًا، فلا يطالب بها في كفره، وإن أسلم لم يطالب بها في مدة الكفر
(المجموع: 5/327 - 328)
.
وإذا كانت لا تجب على غير المسلم، فهي لا تصح منه أيضًا - بوصفها عبادة لو أداها - لانتفاء الشرط الأول للقبول، وهو الإسلام، قال تعالى:
(وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)الفرقان: (23)
ولكن من المعروف أن أعمال الخير تخفف من العذاب في الآخرة، فالعذاب دركات، كما أن النعيم درجات.
وهذا كله في الكافر الأصلي، أما من فُتِنَ وارتد -والعياذ بالله- فإن كانت الزكاة قد وجبت عليه في حال إسلامه فلا تسقط عنه بالردة، لأنها حق ثبت وجوبه فلم يسقط بردته كغرامة المتلفات.
وهذا عند الشافعية خلافًا لأبي حنيفة
(المجموع: 5/327 - 328)
.
وأما زمن الردة فقد اختلف فيه فقهاء الشافعية، واختار بعضهم القطع بوجوب الزكاة -وهو ما أختار- لأنها حق للفقراء والمستحقين، فلا يسقط بالردة كالنفقات والغرامات.

لماذا لم يوجب الإسلام الزكاة على غير المسلمين؟
وقد يعنّ هنا سؤال لبعض الناس فيقول: إن الإسلام قد وسع أهل الكتاب ومن في حكمهم من غير المسلمين، فأعطاهم ذمة الله، وذمة رسوله، على أن يعيشوا في كنف دولة الإسلام، مصونة حرماتهم، مكفولة حرياتهم، لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، فلماذا فرق الإسلام في الزكاة بين المسلمين وغيرهم من الأقليات، التي تستظل بظل دولتهم؟ هذا مع أن الزكاة: تكليف اجتماعي، وضريبة مالية، تُنفق حصيلتها في مساعدة الضعفاء، والمحتاجين، من رعايا الدولة؟
وللجواب عن هذا السؤال، أو التساؤل: ينبغي لنا أن نبيِّن، أن هنا اعتبارين يبدوان لمن يتأمل حقيقة فريضة الزكاة.
الاعتبار الأول:
أنها تكليف اجتماعي، وحق معلوم، للسائل والمحروم، وضريبة مالية، أوجب الله تعالى أن تؤخذ من أغنياء الأمة، لتُرَد على فقرائها، قيامًا بحق الأخوة، وحق المجتمع، وحق الله عَزَّ وجَلَّ.
الاعتبار الثاني:
أنها عبادة من عبادات الإسلام، ودُعامة من الدعائم الخمس، التي قام عليها بناؤه، شأنها شأن الشهادتين، وإقامة الصلاة، وصوم رمضان وحج البيت الحرام.
وقد بينا من قبل، كيف قرنها القرآن بالصلاة، في عشرات المواضع، وجعلها - مع التوبة من الشرك وإقامة الصلاة - مظهر الدخول في الإسلام، واستحقاق إخوة المسلمين، كما أن بعضًا من أسهم الزكاة، يُصرف في نُصرة الإسلام، وإعلاء كلمته، والمصالح العامة لدعوته، ودولته. وذلك هو سهم: "في سبيل الله" ومنها: ما يُصرف في تأليف القلوب، أو تثبيتها عليه. وذلك هو سهم "المؤلفة قلوبهم".
فإذا جاء في بعض الأحاديث: أنها تؤخذ من الأغنياء لترد على الفقراء فذلك على سبيل الاكتفاء بالمقصود الأول للزكاة، وهو إغناء الفقراء، ولكن القرآن فصَّل لنا مصارف ثمانية، منها ما ذكرناه: "المؤلَّفة قلوبهم" و" في سبيل الله".
ولهذا الاعتبار، أبت سماحة الإسلام وحساسيته - في معاملة غير المسلمين واحترام عقائدهم - أن يفرض عليهم ضريبة لها صبغة دينية واضحة، حتى إنها لتعد شعيرة من شعائره الكبرى، وعبادة من عباداته الأربع، وركنًا من أركانه الخمسة.


admin 02-28-2011 09:46 PM

هل يؤخذ مقدار الزكاة من غير المسلمين ضريبة؟
 
هل يؤخذ مقدار الزكاة من غير المسلمين ضريبة؟

بقي هنا بحث أو سؤال آخر: إننا لا نشك أن الزكاة لا تجب -وجوبًا دينيًا- على غير المسلمين من حيث هي عبادة وشعيرة، ولكن ألا يجوز أن يؤخذ منهم مقدارها على أنها ضريبة من الضرائب تؤخذ من الأغنياء لتُرَد على الفقراء؟
فالمسلم يدفعها فريضة وعبادة، وغيره يدفعها ضريبة! وبذلك نتفادى التفرقة بين المواطنين في دولة واحدة، ولا نُحمِّل المسلم من الأعباء المالية أكثر من غيره ونخفف التكاليف الإدارية والفنية التي تتوزع بين إدارة الزكاة للمسلمين، والضريبة الخاصة لغير المسلمين.
هذه قضية تحتاج إلى اجتهاد جماعي من علماء المسلمين القادرين على الاجتهاد، ولكن إلى أن يتاح لنا الاجتهاد الجماعي المنشود
(انظر: مقالة الأستاذ الجليل مصطفى الزرقا عن "الاجتهاد الجماعي")
لا مانع أن أبدي رأيي في هذا الأمر، على ضوء دراستي ومعاناتي للموضوع، فترة غير قصيرة. وأعتقد أن الاجتهادات الفردية هي التي تمهد السبيل إلى اجتهاد جماعي سليم.
فإذا كان هذا الرأي صوابًا فمن الله، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان.
والذي يتراءى لي بعد البحث: أنه لا مانع من أخذ الزكاة بوصفها ضريبة من غير المسلمين من أهل الذمة إذا رأى ذلك أولو الأمر ويدل على هذا أمور:
1-
إن مراد علمائنا بقولهم: "لا تجب الزكاة على غير مسلم" هو الوجوب الديني، الذي يتعلق به المطالبة في الدنيا والثواب والعقاب في الآخرة. أما الإيجاب السياسي الذي يقرره ولي الأمر بناء على اعتبار المصلحة التي يراها أهل الشورى، فلم يرد ما يمنعه.
2- إنهم علَّلوا عدم وجوب الزكاة على غير المسلم؛ بأنه حق لم يلتزمه، فلا يلزمه (المجموع للنووي: 5/327)
. ومعنى هذا أنهم لو التزموا هذا ورضوه لم يكن بذلك بأس.
3-
إن أهل الذمة في ديار الإسلام كانوا يدفعون للدولة الإسلامية ضريبة مالية سماها القرآن: "الجزية" مشاركة في النفقات العامة للدولة التي تقوم بحمايتهم والدفاع عنهم. وكفالة العيش لهم، وتأمينهم ضد العجز والشيخوخة والفقر، كالمسلمين، كما رأينا ذلك جليًا في صنيع عمر مع الشيخ اليهودي الذي رآه يسأل على الأبواب. والواقع الماثل الآن في البلاد الإسلامية: أن أهل الكتاب لا يدفعون الجزية، ويأنفون من هذا الاسم، فهل يمكن أن يدفعوا بدلاً منها ضريبة على وفق مقادير الزكاة، وإن لم تسم باسمها؟
إن الذي رواه المؤرخون والمحدِّثون وفقهاء المال في الإسلام عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في موقفه من نصارى بني تغلب، يعطينا رُخصة للنظر في هذا الأمر على ضوء الواقع والمصلحة العامة.
روى أبو عبيد بسنده عن زرعة بن النعمان - أو النعمان بن زرعة - أنه سأل عمر بن الخطاب وكلمه في نصارى بني تغلب وكان عمر قد هَمَّ أن يأخذ منهم الجزية، فتفرقوا في البلاد. فقال النعمان بن زرعة لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب، يأنفون من الجزية، وليست لهم أموال (يعني الذهب والفضة) إنما هم أصحاب حروث ومواشٍ، ولهم نكاية في العدو، فلا تُعن عدوك عليك بهم. قال: فصالحهم عمر على أن أضعف عليهم الصدقة (أي جعلها مضاعفة عليهم).
وأخرج البيهقي عن عبادة بن النعمان في حديث طويل: أن عمر لما صالحهم على تضعيف الصدقة قالوا، نحن عرب لا نؤدي ما تؤدي العجم، ولكن خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض (يعنون الصدقة) فقال عمر: لا، هذه فرض المسلمين. قالوا: زد ما شئت بهذا الاسم، لا باسم الجزية. ففعل، فتراضى هو وهم على تضعيف الصدقة عليهم.
وفي بعض روايات هذا الحديث أن عمر قال: "سموها ما شئتم"
(الأموال : ص 541 وهامشها وص 28، 29 منه. وقد ضعف ابن حزم خبر بني تغلب هذا (المحلى: 6/111) ولكن الخبر مشهور رواه ابن أبي شيبة وأبو يوسف في الخراج ص 143 - ط. السلفية، ويحيى بن آدم في في الخراج ص 66-67 ط. السلفية، والبلاذري في فتوح البلدان ص 189 - ط. مصر سنة 1319 هـ، وقال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- معقبًا على خبر بني تغلب هذا: روي من طرق كثيرة تطمئن النفس إلى أن له أصلاً صحيحًا)
.
وقد علق الإمام أبو عبيد على حكم أمير المؤمنين عمر في بني تغلب، إذ قبل منهم أموالهم ولم يجعلها جزية كسائر ما على أهل الذمة، بل جعلها صدقة مضاعفة، فقال: "وإنما استجازها فيما نرى وترك الجزية، لما رأى من نفارهم وأنفهم منها، فلم يأمن شقاقهم واللحاق بالروم، فيكونوا ظهيرًا لهم على أهل الإسلام، وعلم أنه لا ضرر على المسلمين من إسقاط ذلك الاسم عنهم مع استيفاء ما يجب عليهم من الجزية، فأسقطها عنهم، واستوفاها منهم باسم الصدقة حتى ضاعفها عليهم، فكان ذلك رتق ما خاف من فتقهم، مع الاستيفاء لحقوق المسلمين في رقابهم، وكان مسددًا. كما روي في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"إن الله تبارك وتعالى ضرب بالحق على لسان عمر وقلبه" وكقول عبد الله (يعني ابن مسعود) فيها:" ما رأيت عمر قط إلا وكأن مَلكًا بين عينيه يسدده"، ومثل قول علي: "ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر، وكقول عائشة فيه: "كان والله أحوذيًا(الأحوذي: المشمر في الأمور القاهر لها لا يشذ عليه منها شيء، والسريع في كل ما أخذ فيه والعالم بالأمر، كما في المعجم الوسيط)
نسيج وحده، قد أعد للأمور أقرانها".
قال أبو عبيد: "فكانت فعلته هذه من تلك الأقران التي أعد، في كثير من محاسنه لا تحصى"
(الأموال ص 541 وما بعدها). فهذا الفاروق -رضي الله عنه- لم يَرَ بأسًا أن يأخذ من هؤلاء النصارى ضريبة أو جزية تسمى باسم "الصدقة" لنفورهم من عنوان "الجزية"، وقد ضاعف عليهم مقادير الصدقة الواجبة علي المسلمين وفقًا لطلبهم الذي صولحوا على أساسه. ولهذا قال الزهري: ليس في مواشي أهل الكتاب صدقة، إلا نصارى بني تغلب -أو قال: نصارى العرب- الذين عامة أموالهم المواشي (الخراج ليحيى بن آدم ص 65 - ط. السلفية)
.
هذا هو فعل عمر، وقد أقرَّه من معه من الصحابة رضوان الله عليهم.
فلِمَ لا يجوز أن تُفرض ضريبة على أهل الذمة في البلاد الإسلامية في هذا العصر، تقوم مقام الجزية التي طالبهم بها النظام الإسلامي مقابل فريضتين لازمتين في أعناق المسلمين: فريضة الجهاد التي يبذلون فيها الدم، وفريضة الزكاة التي يبذلون فيها المال؟؟
لم لا يجوز فرض هذه الضريبة بعد مشورة أهل الرأي من المسلمين ومنهم؟.
وإن لم تعط هذه الضريبة اسم الصدقة والزكاة، كما طلب نصارى بني تغلب وأجابهم إلى ذلك عمر.
أعتقد أن هَدي عمر هنا نبراس يضيء الطريق لمن أراد أن يتخذ من هذا الأمر قرارًا على ضوء ظروف العصر ومشكلاته.
وقد قال الشافعية والحنابلة: إذا كان قوم غير مسلمين لهم قوة وشوكة، وامتنعوا عن أداء الجزية إلا إذا صولحوا على ما صولح عليه بنو تغلب، وخيف الضرر بترك إجابتهم إلى طلبهم، ورأى الإمام إجابتهم، دفعًا للضرر؛ جاز ذلك إذا كان المأخوذ منهم بقدر ما يجب عليهم من الجزية وزيادة، قياسًا على ما فعله عمر بنصارى بني تغلب
(انظر: أحكام الذميين والمستأمنين للدكتور عبد الكريم زيدان ص 149. نقلاً عن المغني: 8/516، ومتن المنهاج: 4/251.)
ولا شك أن هذا القول سليم، ودليله قوي.
كما لا ريب أن الزكاة في كل مال نامٍ أكثر قطعًا من الجزية التي هي مقدار زهيد لا يؤخذ إلا من الرجال القادرين على حمل السلاح، أما الزكاة فتؤخذ من الرجال والنساء جميعًا، بل من الصبيان والمجانين أيضًا عند الجمهور.
أما تضعيف الزكاة على أهل الذمة فليس أمرًا لازمًا، إنما فعل ذلك عمر مع بني تغلب؛ لأنهم هم الذين طلبوا ذلك، ووقع عليه الصلح والتزموا به. وهو أمر يرجع إلى السياسة الشرعية، ومقتضيات المصلحة العامة للدين والدولة.
وقد أصاب ابن رشد حين ذكر هذه المسألة تحت عنوان: "الزكاة على أهل الذمة" فقال: "وأما أهل الذمة فإن الأكثر على أن لا زكاة على جميعهم، إلا ما روت طائفة من تضعيف الزكاة على نصارى بني تغلب، أعني أن يؤخذ منهم مثلا ما يؤخذ من المسلمين في كل شيء، وممن قال بهذا القول: الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري، وليس عن مالك في ذلك قول وإنما صار هؤلاء لهذا، لأنه ثبت أنه فعل عمر بن الخطاب بهم، فكأنهم رأوا أن هذا توقيف ولكن الأصول تعارضه" أهـ
(بداية المجتهد: 1/209 - ط. مصطفى البابي الحلبي)
.
أقول: قد رأينا قول أبي عبيد في توجيه فعل عمر، وليس فيه معارضة للأصول، بل تحقيق مصلحة المسلمين ورفع الضرر عنهم، وليس من الضروري أن يكون ذلك عن توقيف، وقد أمرنا باتباع سُنَّة الخلفاء الراشدين.
4- ومما يؤيد رأينا أن محمد بن الحسن - صاحب أبي حنيفة - قال: إذا باع المسلم أرضه العُشرية التي لا خراج عليها لذمي، وجب على الذمي العُشر، لأنها أرض عُشرية، فلا تتبدل وظيفتها بتبدل المالك، ولا يجوز أن ينتفع بها الذمي في دار الإسلام دون مقابل (بدائع الصنائع: 2/54،55، والهداية وشروحها "فتح القدير": 2/10 وما بعدها، وقد خالف محمد في هذا الرأي الشيخين: أبا حنيفة وأبا يوسف. فأبو حنيفة قال: يجب عليه الخراج، وتصير الأرض خراجية، وأبو يوسف قال: تبقى عُشرية، كما قال محمد: ولكن عليه عُشران، كالتغلبي)
.
ولا شك أن العُشر زكاة.
5- إن أهل الكتاب مأمورون في دينهم بالزكاة، مدعوون إلى البر بالفقراء، وقد نقلنا من قبل نصوص القرآن الدالة على ذلك مثل قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة)(البينة: 5)
.
كما نقلنا من كتبهم الحالية نفسها - العهد القديم والعهد الجديد - كثيرًا من النصوص التي تدعو إلى هذا البر، وتحث عليه.
فهم إذا طولبوا بالزكاة إنما يطالبون بشيء منصوص على أصله في دينهم
(راجع في الباب الأول: "عناية الأديان السماوية بالفقراء")
. والجديد فيه: إنما هو التقدير والتحديد والإلزام.
6-
قد روي عن عمر بن الخطاب وبعض التابعين: جواز صرف الزكاة إلى أهل الذمة، وقد فصَّلنا القول في ذلك في فصل "من تحرم عليهم الزكاة" من باب "مصارف الزكاة".
فإذا جاز أن يُصرف لهم جزء من الزكاة التي تؤخذ من المسلمين، فلا مانع أن تؤخذ من أغنيائهم زكاة عن أموالهم، لتُرَد على فقرائهم، قيامًا بواجب التكافل الذي يشمل المسلم وغير المسلم ما دام يعيش في كنف دولة الإسلام.
وحينئذ تسمى "ضريبة التكافل الاجتماعي" أو "ضريبة البر" أو نحو ذلك من الأسماء، حتى تُميَّز عن الزكاة الإسلامية، فلا تُحرج ضمائرهم، ولا ضمائر المسلمين.
وينبغي أن يظل مصرف كُلٍّ مُتميِّزًا: زكاة المسلمين، وضريبة غير المسلمين. فهما تتفقان في الوعاء والشروط والمقادير، ولكن تختلفان في الاسم والمصرف، نظرًا لطبيعة كل منهما وهدفه وأصل وجوبه.


admin 02-28-2011 09:48 PM

القائلون بعدم وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
 
القائلون بعدم وجوب الزكاة في مال الصبيوالمجنون


وإذا كان العلماء قد أجمعوا على وجوب الزكاة في مال المسلم البالغ العاقل، فإنهم قد اختلفوا في مال الصبي والمجنون: هل تجب فيه الزكاة أم لا تجب حتى يبلغ الصبي ويعقل المجنون؟
هنا يختلف الفقهاء اختلافًا كبيرًا، نستطيع أن نردهم فيه إلى فريقين رئيسيين:
1-
فريق من لا يرى وجوب الزكاة في مالهما إما مطلقًا أو في بعض الأموال.
2-
وفريق من يرى وجوب الزكاة في أموالهما جميعًا.
القائلون بعدم وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
( أ ) روى أبو عبيد عن أبي جعفر الباقر والشعبي أنهما قالا: ليس في مال اليتيم زكاة (الأموال ص 435). وروى ابن حزم مثل قولهما عن النخعي وشريح (المحلى: 5/205).
(ب) ورُوِيَ عن الحسن أنه قال: "ليس في مال اليتيم زكاة إلا في زرع أو ضرع (الأموال: ص 453)
.
وقد ذكر ابن حزم في "المحلى" عن ابن شبرمة مثل قوله
(المحلى: 5/205)
.
(ج) وفي "الأموال" عن مجاهد قال: كل مال لليتيم ينمى - أو قال: كل شيء من بقر أو غنم أو زرع أو مال يُضارب به فزكِّه، وما كان له من صامت لا يُحرَّك (لا يستثمر) فلا تُزكِّه حتى يدرك فتدفعه إليه (الأموال ص 453)
. وخرج اللخمي - من علماء المالكية - قولاً بسقوط الزكاة عن الصبي، حيث لا ينمى ماله من حكم المال المعجوز عن تنميته. كالمدفون الذي ضل عنه صاحبه ثم وجده.
وكالمال الموروث الذي لم يعلم به وارثه إلا بعد حول أو أحوال. ورده ابن بشير بأن العجز في مسألة الصبي من قِبَلِ الملك. ولا خلاف أن من كان عاجزًا من المكلفين عن تنمية ماله تجب عليه الزكاة. بخلاف ما إذا كان عدم النماء من قبل المال وقال ابن الحاجب: تخريج اللخمي النقد المتروك على المعجوز عن إنمائه ضعيف. أ هـ
(شرح الرسالة لابن ناجي: 1/328)
.
( د )
وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الزكاة في زرعه وثمره فقط، أما بقية الأموال فلا (بدائع الصنائع: 2/4).
قال ابن حزم: ولا نعلم أحدًا تقدمه إلى هذا التقسيم، ولكن صاحب "البحر الزخار" - من كتب الزيدية -حكى ذلك عن زيد بن علي، وجعفر الصادق
(البحر الزخار:2/142 - ط. مطبعة السعادة سنة 1948). وهما معاصران لأبي حنيفة (قتل زيد سنة 122هـ، وتوفي جعفر سنة 148هـ وفيه قال أبو حنيفة: ما رأيت أفقه منه رضي الله عنه. أما أبو حنيفة فوفاته سنة 150هـ)
.
والعجيب أن ما ذهب إليه الأئمة -زيد والصادق والناصر من آل البيت- يخالف ما صح عن علي رضي الله عنه: أنه كان يزكي أموال بني أبي رافع وهم أيتام. وسئل في ذلك زيد -رضي الله عنه- فقال: نحن آل البيت ننكر هذا
(الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير: 2/416)
.
أدلة هؤلاء
( أ ) نظر هؤلاء العلماء إلى الاعتبار الثاني الذي ذكرناه من قبل، وهو أن الزكاة عبادة محضة كالصلاة، والعبادة تحتاج إلى نية، والصبي والمجنون لا تتحقق منهما النية، فلا تجب عليهما العبادة ولا يخاطبان بها، وقد سقطت الصلاة عنهما لفقدان النية، فوجب أن تسقط الزكاة بالعلة نفسها (انظر رد المحتار: 2/4)
.
(ب) يؤكد هذا من السنة قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "رُفِعَ القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" (قال النووي: هذا الحديث صحيح رواه أبو داود والنسائي في كتاب الحدود من سننهما من رواية علي بن أبي طالب بإسناد صحيح. ورواه أبو داود أيضًا في الحدود، والنسائي وابن ماجة في كتاب الطلاق من رواية عائشة بإسناد حسن. انظر المجموع: 6/253)
، ورفع القلم كناية عن سقوط التكليف، إذ التكليف لمن يفهم خطاب الشارع، والصِغَر والجنون والنوم حائل دون ذلك.
(ج) ومما يؤيد هذا القول الآية الكريمة: (خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) (التوبة 103)
إذ التطهير إنما يكون من أرجاس الذنوب، ولا ذنب على الصبي والمجنون حتى يحتاجا إلى تطهير وتزكية، فهما إذن خارجان عمن تؤخذ منهم الزكاة.
والحق أن الأدلة الثلاثة المذكورة، لا تصلح لأن يحتج بها الحنفية ومن شابههم ممن قال بوجوب الزكاة في بعض مال الصبي دون بعض، كما هو مروي عن مجاهد والحسن وابن شبرمة وغيرهم.
إنما يصلح أن يحتج بها الباقر والشعبي والنخعي وشريح، ممن لم يوجب الزكاة في أي مال للصبي والمجنون.
( د )
ثم هناك اعتبار المصلحة التي يرعاها الإسلام في سائر أحكامه، ومصلحة الصغير والمجنون هنا تقتضي إبقاء مالهما عليهما، خشية أن تستهلكه الزكاة، لعدم تحقق النماء الذي هو علَّة وجوب الزكاة وذلك لأن الصغير والمجنون ضعيفان لا يستطيعان القيام بأمر أنفسهما وتثمير أموالهما، وقد يخشى من تكرار أخذ الزكاة كل عام منهما أن تأتي عليهما فيتعرضا لذل الحاجة، وهوان الفقر.
ولعل هذا هو السر فيما ذكرناه عن مجاهد من وجوب الزكاة في مالهما النامي بنفسه كالزروع والمواشي، أو الذي ينمى بالعمل والتثمير، كالنقود التي يتجر بها عن طريق المضاربة ونحو ذلك.
وكذلك ما جاء عن الحسن البصري وابن شبرمة أنهما لم يستثنيا من زكاة مال الصغير إلا ذهبه وفضته خاصة، أما الثمار والزروع والمواشي ففيها الزكاة، إذا النماء متحقق في الثمار والزروع والمواشي، أما النقود من ذهب وفضة فليست مالاً ناميًا في ذاته إذ هو جماد لا يقبل النمو وإنما يُرصد للنماء بالتجارة والاستثمار، وهذان -الصبي والمجنون- لا قدرة لهما على تنمية ولا استثمار، فأعفيا من الزكاة في هذا النوع من المال.

القائلون بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
ذهب إلى وجوب الزكاة في سائر أموال الصبي والمجنون عطاء وجابر بن زيد، وطاوس ومجاهد والزهري من التابعين، ومن بعدهم ربيعة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والحسن بن صالح وابن أبي ليلى، وابن عيينة وأبو عبيد وأبو ثور، وهو مذهب الهادي والمؤيد بالله من الشيعة، وهو قول عمر وابنه وعلي وعائشة وجابر من الصحابة رضي الله عنهم. ولم يستثن هؤلاء ما استثناه مجاهد أو الحسن وابن شبرمة أبو حنيفة.
أدلة القائلين بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
استند هؤلاء إلى عدة أدلة:
1-
استندوا - أولاً - إلى عموم النصوص من الآيات والأحاديث الصحيحة التي دلت على وجوب الزكاة في مال الأغنياء وجوبًا مطلقًا، ولم تستثن صبيًا ولا مجنونًا.
وذلك كقوله تعالى:
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(التوبة: 103)
. قال أبو محمد بن حزم: فهذا عموم لكل صغير وكبير وعاقل ومجنون، لأنهم كلهم محتاجون إلى طُهرة الله تعالى لهم وتزكيته إياهم، وكلهم من الذين آمنوا.
ومثل هذا: حديث وصية معاذ حين أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وفيه:
"فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم"
. والصبيان والمجانين ترد فيهم الزكاة، إذا كانوا فقراء، فلتؤخذ منهم إذا كانوا أغنياء.
قال ابن حزم: فهذا عموم لكل غني من المسلمين، وهذا يدخل فيه الصغير والكبير إذا كانوا أغنياء
(المحلى لابن حزم: 5/201، 202)
.
2- واستدلوا - ثانيًا - بما رواه الشافعي بإسناده عن يوسف بن ماهَك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ابتغوا في مال اليتيم - أو في أموال اليتامى - لا تذهبها - أولا تستهلكها - الصدقة"
.
وإسناده صحيح - كما قال البيهقي والنووي - ولكن يوسف بن ماهك تابعي لم يدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحديثه مرسل، ولكن الشافعي عضد هذا المرسل بعموم النصوص الأخرى، وبما صح عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم
(المجموع: 5/329، والسنن الكبرى: 4/107، والروض النضير: 2/417)
.
وروى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"اتّجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة" قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (الجزء الثالث صفحة 67): أخبرني سيدي وشيخي: أن إسناده صحيح - يعني بشيخه: الحافظ زين الدين العراقي - (رمز له السيوطي في "الجامع الصغير" -المطبوع منفردًا- الحلبي ومعه شرحه: فيض القدير - بعلامة الصحة، ولكن يبدوا أن الرمز محرف. فقد ذكر شارحه -المناوي في الفيض- بأن السيوطي أشار إليه في الأصل "جمع الجوامع" بقوله: وصحح. وأما هنا فرمز لحسنه، وهو فيه متابع للحافظ ابن حجر فإنه انتصر لمن اقتصر على تحسينه فقط "فيض القدير: 1/108")
.
وروى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"من ولي يتيمًا فليتّجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة"
وفي سنده مقال.
وصح هذا المعنى موقوفًا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وروى البيهقي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال:
"ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة". قال البيهقي: هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر (السنن الكبرى: 4/107، وانظر المجموع: 5/329)
. والمراد بالصدقة: "الزكاة" كما صرحت بذلك بعض الروايات.
ووجه الاستدلال بالحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الأوصياء على اليتامى خاصة والمجتمع الإسلامي عامة: أن يعملوا على تنمية أموال اليتامى -وكذلك المجانين- بالتجارة وابتغاء الربح، وحذَّر من تركه دون تثمير ولا استغلال فتأكله الصدقات وتستهلكه، ولا ريب أن الصدقة إنما تأكله بإخراجها، وإخراجها لا يجوز إلا إذا كانت واجبة؛ لأنه لا يجوز للولي أن يتبرع بمال الصغير وينفقه في غير واجب، فيكون قربانًا له بغير التي هي أحسن
(انظر مقارنة المذاهب في الفقه للشيخين محمود شلتوت ومحمد السايس ص 48 - طبعة سنة 1953م، والمغني المطبوع مع الشرح الكبير: 2/493)
.
وقد أمر الله ألا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده
(كما جاء في الآية 152 من سورة الأنعام، والآية 34 من سورة الإسراء)
.
3-
واستندوا - ثالثًا - إلى ما صح عن الصحابة في هذه القضية.
فقد روى أبو عبيد البيهقي وابن حزم إيجاب الزكاة في مال الصبي عن عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعائشة وجابر بن عبد الله
(انظر الأموال لأبي عبيد ص 448 وما بعدها، والسنن الكبرى ص 107 وما بعدها، والمحلى: 5/208، وأيضًا مصنف ابن أبي شيبة: 4/24، 25، والتلخيص لابن حجر ص 176، وأضاف النووي في المجموع: (5/329): الحسن بن علي أيضًا ولم نعد ابن مسعود لضعف الرواية عنه كما في سنن البيهقي والمجموع والتلخيص. ورأيه: "أن يحصى الولي ما يجب في مال اليتيم من الزكاة، فإذا بلغ أعلمه، فإن شاء زكى وإن شاء لم يزك"). ولم يُعرف لهم مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا رواية ضعيفة عن ابن عباس لا يحتج بها (المحلى: 5/208، والمجموع: 5/329، وسبب الضعف: انفراد ابن الهيعة بها وهو ضعيف)
.
4-
واستندوا - رابعًا - إلى المعنى المعقول الذي من أجله فُرِضت الزكاة.
قالوا: إن مقصود الزكاة سد خلة الفقراء من مال الأغنياء، شكرًا لله تعالى وتطهيرًا للمال، ومال الصبي والمجنون قابل لأداء النفقات والغرامات، فلا يضيق عن الزكاة
(المجموع: 5/330)
.
قالوا: إذا تقرر هذا، فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما لأنها زكاة واجبة، فوجب إخراجها كزكاة البالغ العاقل. والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه. ولأنها حق واجب على الصبي والمجنون، فكان على الولي أداؤه عنهما، كنفقة أقاربه. وتعتبر نية الولي في الإخراج، كما تعتبر النية من رب المال
(المغني المطبوع مع الشرح الكبير: 2/494)
.
وقال بعض المالكية: إنما يؤمر الولي بإخراج الزكاة عن الصبي إذا أمن أن يتعقب فعله، وجعل له ذلك، وإلا فلا وإذا أخرجها أشهد عليها، فإن لم يشهد فقد قال ابن حبيب، إن كان مأمونًا صدق
(شرح الرسالة لابن ناجي: 1/328)
.
وإذا خشي الولي أن يطالبه الصبي بعد البلوغ، أو المجنون بعد الإفاقة، بغرامة ما دفع من مالهما، بناء على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه، فينبغي - كما اقترح بعض المالكية - أن يرفع الأمر لقاض - يرى وجوب الزكاة في مالهما، حتى يحكم له بلزوم الزكاة لهما، فلا يستطيع قاض بعد ذلك أن ينقض هذا الحكم؛ لأن الحكم الأول رفع الخلاف
(حاشية الصاوي على الدردير ص 206).


admin 02-28-2011 09:51 PM

القائلون بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
 
القائلون بوجوب الزكاة في مال الصبيوالمجنون


ذهب إلى وجوب الزاة في سائر أموال الصبي والمجنون عطاء وجابر بن زيد، وطاوس ومجاهد والزهري من التابعين، ومن بعدهم ربيعة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق والحسن بن صالح وابن أبي ليلى، وابن عيينة وأبو عبيد وأبو ثور، وهو مذهب الهادي والمؤيد بالله من الشيعة، وهو قول عمر وابنه وعلي وعائشة وجابر من الصحابة رضي الله عنهم. ولم يستثن هؤلاء ما استثناه مجاهد أو الحسن وابن شبرمة أبو حنيفة.
أدلة القائلين بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
استند هؤلاء إلى عدة أدلة:
1-
استندوا - أولاً - إلى عموم النصوص من الآيات والأحاديث الصحيحة التي دلت على وجوب الزكاة في مال الأغنياء وجوبًا مطلقًا، ولم تستثن صبيًا ولا مجنونًا.
وذلك كقوله تعالى:
(خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(التوبة: 103)
. قال أبو محمد بن حزم: فهذا عموم لكل صغير وكبير وعاقل ومجنون، لأنهم كلهم محتاجون إلى طُهرة الله تعالى لهم وتزكيته إياهم، وكلهم من الذين آمنوا.
ومثل هذا: حديث وصية معاذ حين أرسله النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن وفيه:
"فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم"
. والصبيان والمجانين ترد فيهم الزكاة، إذا كانوا فقراء، فلتؤخذ منهم إذا كانوا أغنياء.
قال ابن حزم: فهذا عموم لكل غني من المسلمين، وهذا يدخل فيه الصغير والكبير إذا كانوا أغنياء
(المحلى لابن حزم: 5/201، 202)
.
2- واستدلوا - ثانيًا - بما رواه الشافعي بإسناده عن يوسف بن ماهَك أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ابتغوا في مال اليتيم - أو في أموال اليتامى - لا تذهبها - أولا تستهلكها - الصدقة"
.
وإسناده صحيح - كما قال البيهقي والنووي - ولكن يوسف بن ماهك تابعي لم يدرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحديثه مرسل، ولكن الشافعي عضد هذا المرسل بعموم النصوص الأخرى، وبما صح عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم
(المجموع: 5/329، والسنن الكبرى: 4/107، والروض النضير: 2/417)
.
وروى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"اتّجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة" قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (الجزء الثالث صفحة 67): أخبرني سيدي وشيخي: أن إسناده صحيح - يعني بشيخه: الحافظ زين الدين العراقي - (رمز له السيوطي في "الجامع الصغير" -المطبوع منفردًا- الحلبي ومعه شرحه: فيض القدير - بعلامة الصحة، ولكن يبدوا أن الرمز محرف. فقد ذكر شارحه -المناوي في الفيض- بأن السيوطي أشار إليه في الأصل "جمع الجوامع" بقوله: وصحح. وأما هنا فرمز لحسنه، وهو فيه متابع للحافظ ابن حجر فإنه انتصر لمن اقتصر على تحسينه فقط "فيض القدير: 1/108")
.
وروى الترمذي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"من ولي يتيمًا فليتّجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة"
وفي سنده مقال.
وصح هذا المعنى موقوفًا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
وروى البيهقي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال:
"ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة". قال البيهقي: هذا إسناد صحيح وله شواهد عن عمر (السنن الكبرى: 4/107، وانظر المجموع: 5/329)
. والمراد بالصدقة: "الزكاة" كما صرحت بذلك بعض الروايات.
ووجه الاستدلال بالحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر الأوصياء على اليتامى خاصة والمجتمع الإسلامي عامة: أن يعملوا على تنمية أموال اليتامى -وكذلك المجانين- بالتجارة وابتغاء الربح، وحذَّر من تركه دون تثمير ولا استغلال فتأكله الصدقات وتستهلكه، ولا ريب أن الصدقة إنما تأكله بإخراجها، وإخراجها لا يجوز إلا إذا كانت واجبة؛ لأنه لا يجوز للولي أن يتبرع بمال الصغير وينفقه في غير واجب، فيكون قربانًا له بغير التي هي أحسن
(انظر مقارنة المذاهب في الفقه للشيخين محمود شلتوت ومحمد السايس ص 48 - طبعة سنة 1953م، والمغني المطبوع مع الشرح الكبير: 2/493)
.
وقد أمر الله ألا نقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده
(كما جاء في الآية 152 من سورة الأنعام، والآية 34 من سورة الإسراء)
.
3-
واستندوا - ثالثًا - إلى ما صح عن الصحابة في هذه القضية.
فقد روى أبو عبيد البيهقي وابن حزم إيجاب الزكاة في مال الصبي عن عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعائشة وجابر بن عبد الله
(انظر الأموال لأبي عبيد ص 448 وما بعدها، والسنن الكبرى ص 107 وما بعدها، والمحلى: 5/208، وأيضًا مصنف ابن أبي شيبة: 4/24، 25، والتلخيص لابن حجر ص 176، وأضاف النووي في المجموع: (5/329): الحسن بن علي أيضًا ولم نعد ابن مسعود لضعف الرواية عنه كما في سنن البيهقي والمجموع والتلخيص. ورأيه: "أن يحصى الولي ما يجب في مال اليتيم من الزكاة، فإذا بلغ أعلمه، فإن شاء زكى وإن شاء لم يزك"). ولم يُعرف لهم مخالف من الصحابة - رضي الله عنهم - إلا رواية ضعيفة عن ابن عباس لا يحتج بها (المحلى: 5/208، والمجموع: 5/329، وسبب الضعف: انفراد ابن الهيعة بها وهو ضعيف)
.
4-
واستندوا - رابعًا - إلى المعنى المعقول الذي من أجله فُرِضت الزكاة.
قالوا: إن مقصود الزكاة سد خلة الفقراء من مال الأغنياء، شكرًا لله تعالى وتطهيرًا للمال، ومال الصبي والمجنون قابل لأداء النفقات والغرامات، فلا يضيق عن الزكاة
(المجموع: 5/330)
.
قالوا: إذا تقرر هذا، فإن الولي يخرجها عنهما من مالهما لأنها زكاة واجبة، فوجب إخراجها كزكاة البالغ العاقل. والولي يقوم مقامه في أداء ما عليه. ولأنها حق واجب على الصبي والمجنون، فكان على الولي أداؤه عنهما، كنفقة أقاربه. وتعتبر نية الولي في الإخراج، كما تعتبر النية من رب المال
(المغني المطبوع مع الشرح الكبير: 2/494)
.
وقال بعض المالكية: إنما يؤمر الولي بإخراج الزكاة عن الصبي إذا أمن أن يتعقب فعله، وجعل له ذلك، وإلا فلا وإذا أخرجها أشهد عليها، فإن لم يشهد فقد قال ابن حبيب، إن كان مأمونًا صدق
(شرح الرسالة لابن ناجي: 1/328)
.
وإذا خشي الولي أن يطالبه الصبي بعد البلوغ، أو المجنون بعد الإفاقة، بغرامة ما دفع من مالهما، بناء على مذهب أبي حنيفة ومن وافقه، فينبغي - كما اقترح بعض المالكية - أن يرفع الأمر لقاض - يرى وجوب الزكاة في مالهما، حتى يحكم له بلزوم الزكاة لهما، فلا يستطيع قاض بعد ذلك أن ينقض هذا الحكم؛ لأن الحكم الأول رفع الخلاف
(حاشية الصاوي على الدردير ص 206).


admin 02-28-2011 09:53 PM

تفنيد أدلة المانعين من وجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون
 
تفنيد أدلة المانعين من وجوب الزكاة في مالالصبي والمجنون


( أ ) أما ما استدل به المانعون للوجوب من قوله تعالى: (خُذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها)(التوبة: 103) من أن التطهير لا يكون إلا بإزالة الذنوب ولا ذنب على الصبي والمجنون. فيجاب عنه بأن التطهير ليس خاصًا بإزالة الذنوب، بل يشمل تربية الخُلُق وتنمية النفس على الفضائل، وتدريبها على المعونة والرحمة، كما يشمل تطهير المال أيضًا، فمعنى "تطهرهم": تطهر مالهم.
ولو سلمنا أنه خاص بما ذكروا، فإنما نص عليه نظرًا لأنه الشأن في الزكاة، أو الغالب، كما قال النووي
(قال في المجموع: الغالب أنها تطهير، وليس ذاك شرطًا، فإنا اتفقنا على وجوب زكاة الفطر والعُشر في مالهما وإن كان تطهيرًا في أصله: 5/330)
. وهذا لا يستلزم ألا تجب إلا لذلك اللون من التطهير - وأن ذلك هو السبب الوحيد لمشروعيتها، فقد أجمع العلماء على أن للزكاة سببًا آخر، وهو سد خلة الإسلام، وسد خلة المسلمين، والصبي والمجنون من أهل الإسلام.
(ب) وأما حديث: "رفع القلم عن ثلاثة" فالمراد -كما قال النووي- رفع الإثم والوجوب. ونحن نقول: لا إثم عليهما، ولا تجب الزكاة عليهما، بل تجب الزكاة في مالهما، ويطالب بإخراجها وليهما، كما يجب في مالهما قيمة ما أتلفاه، ويجب على الولي دفعها (انظر: المجموع - المرجع المذكور، والمغني المطبوع مع الشرح الكبير: 2/493 - 494، ومقارنة المذاهب ص 49)
.
ورفع القلم عنهما لم يسقط حقوق الزوجات وذوي القربى عنهما، فلماذا يسقط حق المسكين وابن السبيل؟
(ج)
وأما استدلالهم بأن الزكاة عبادة كالصلاة، ولهذا قرن القرآن بينهما، والعبادة تحتاج إلى نية، والصبي والمعتوه ليسا من أهلها، وقد سقطت الصلاة عنهما فلتسقط الزكاة أيضًا.
فالجواب: إننا لا ننكر أن الزكاة عبادة، وأنها شقيقة الصلاة، وأنها أحد أركان الإسلام، ولكننا نقول: إنها عبادة متميزة بطابعها المالي الاجتماعي، فهي عبادة مالية تجري فيها النيابة، حتى تتأدى بأداء الوكيل، ولذا يجري فيها الجبر والاستحلاف من العامل عليها، وإنما يجريان في حقوق العباد، كما أنه يصح توكيل الذمي بأداء الزكاة عند الحنفية، والذمي ليس من أهل العبادة.
قال ابن حزم - ردًا على من قال: إنها فريضة لا تجزئ إلا بنية -: نعم، وإنما أمر بأخذها الإمام والمسلمون بقوله تعالى
: (خذ من أموالهم صدقة) فإذا أخذها من أمر بأخذها بنية أنها الصدقة أجزأت عن الغائب والمغمي عليه والمجنون والصغير ومن لا نية له (المحلى: 5/206)
.
والخلاصة أن الزكاة عبادة مالية تجري فيها النيابة، والولي نائب الصبي فيها، فيقوم مقامه في إقامة هذا الواجب، بخلاف العبادات البدنية كالصلاة والصيام، فإنها عبادات شخصية لا يجوز فيها التوكيل والإنابة، ولابد أن يباشرها الإنسان بنفسه، إذ التعبد فيها واضح باحتمال المشقة البدنية، امتثالاً لأمر الله تعالى.
وأما سقوط الصلاة عنهما فليس هناك تلازم بين الفريضتين بحيث تثبتان معًا وتزولان معًا. فإن الله لم يفرض الفرائض كلها على وجه واحد يثبت بعضها بثبوت بعض ويزول بعضها بزوال بعض
(انظر الأم للشافعي: 2/24 - ط. بولاق). ولا يلزم من سقوط الصلاة سقوط الزكاة (لأنه لا يسقط فرض أوجبه الله تعالى أو رسوله، إلا حيث أسقطه الله تعالى أو رسوله ولا يسقط فرض من أجل سقوط فرض آخر، بالرأي الفاسد بلا نص قرآن ولا سنة) (المحلى: 5/206)
.
وما أعدل ما قال أبو عبيد في هذا المقام: "إن شرائع الإسلام لا يقاس بعضها ببعض، لأنها أمهات، تمضي كل واحدة على فرضها وسنتها"
(الأموال ص 545، وقد بسط أبو عبيد، الكلام في الفرق بين الفريضتين فأحسن)
.
"إن الصلاة إنما هي حق الله عز وجل على العباد فيما بينهم وبينه، وإن الزكاة شيء جعله الله حقًا من حقوق الفقراء في أموال الأغنياء"
(الأموال ص 455)
.
وأما مصلحة الصبي والمجنون فتقابلها مصلحة الفقراء والمساكين، ومصلحة الدين والدولة، ومع هذا لم يهدر الشرع مصلحتهما بإيجاب الزكاة في مالهما، فإن الزكاة إنما تجب في المال النامي بالفعل أو ما من شأنه أن ينمي، ولو لم ينم بالفعل. كما أنها لا تجب إلا في المال الفاضل عن الحوائج الأصلية لماله كله، وقد ذهب بعض فقهاء الحنفية إلى أن النقود التي يحتاج إليها صاحبها للنفقة الضرورية لا تجب فيها الزكاة وإن بلغت نصابًا وحال عليها الحول، لأنها كالمعدومة - كما سيأتي في الباب الثالث
(في شرط "الفضل عن الحوائج الأصلية" من الفصل الأول من الباب الثالث)
- وهذا ما نختاره بالنسبة للصبي والمجنون اللذين لا يملكان إلا نقودًا لا تزيد على نفقتهما الضرورية إلى وقت البلوغ بالنسبة للصبي، وإلى العمر الغالب لأمثال المجنون.
وهنا جملة أمور ينبغي أن ننبه عليها:
*أولاً:
أن الصبي ليس مفروضًا أن يكون يتيمًا حتى تدخل العاطفة في الحكم في هذه القضية، فقد يرث المال عن أمه، أو يملكه بطريق الهبة أو الوصية من جد أو قريب أو غريب، ولهذا نرى أن العنوان الأصدق لهذه المسألة هو: "الزكاة في مال الصبي" لا في "مال اليتيم". ولنذكر أنها قد تكون ألوفًا أو عشرات الألوف أو مئات الألوف من الجنيهات أو الدنانير.
*ثانيًا: أن الأحاديث والآثار قد نبهت الأوصياء على وجوب تثمير أموال اليتامى حتى لا تلتهمها الزكاة، ففي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الناس فقال: "ألا من ولي يتيمًا له مال فليتجر له فيه ولا يتركه فتأكله الصدقة"(رواه الترمذي والدارقطني)
.
وفي حديث يوسف بن ماهك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"ابتعثوا بأموال اليتامى لا تُذْهبها الصدقة"(تقدم قريبًا)
.
فواجب على القائمين بأمر اليتامى أن ينموا أموالهم، كما يجب عليهم أن يخرجوا الزكاة عنها.
نعم، إن في هذين الحديثين ضعفًا من جهة السند أو الاتصال ولكن يقويهما:
أولاً: أن هذا المعنى قد روي من عدة طرق يقوي بعضها بعضًا (بل صحح الحافظ العراقي بعض طرقه، كما ذكرنا)
.
وثانيًا:
أنه قد صح عن بعض الصحابة ما يوافقهما.
وثالثًا: أن الأمر بالاتجار في أموال اليتامى هو الملائم لقوله تعالى: (وارزقوهم فيها واكسوهم)(النساء: 5)
ولم يقل: ارزقوهم "منها".
ورابعًا:
أنه يوافق منهج الإسلام العام في اقتصاده، القائم على إيجاب التثمير، وتحريم الكنز.
والخطاب في الأحاديث المذكورة يتوجه إلى أولياء اليتامى خاصة، وإلى جماعة المسلمين وأولي الأمر فيهم عامة، فالواجب على الجماعة المسلمة ممثلة في الحكومة أن ترعى أموال هؤلاء اليتامى، وتطمئن إلى حسن تنميتها، وتضع من التشريعات، وتقيم من الضمانات، ما يكفل لمال اليتيم بقاءه ونماءه حتى لا تأكله الزكاة إلى جوار النفقة.
*ثالثًا:
أن المجتمع الإسلامي لا يضيع فيه يتيم ولا ضعيف، فلا خشية إلا على اليتيم إذا افترضنا أن أمواله لم تنم -كما أمرت الأحاديث وأشار القرآن- وأن الزكاة بمضي السنين قد أكلتها.
نعم، لا خشية عليه، لأنه في كفالة أقاربه الموسرين أولاً، ثم في كفالة الدولة ثانيًا، قال تعالى:
(يسألونك ماذا ينفقون، قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل، وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم)(البقرة: 215)
.
(ليس البرَّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب)(البقرة: 177)
.
(واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) (الأنفال: 41)
.
(ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم)(الحشر: 7)
.
ففي أموال الأفراد نصيب لليتامى إذا أنفقوه زكاة أو شيئًا بعد الزكاة، وفي مال الدولة - من الزكاة أو الغنيمة أو الفيء - جزء لليتامى، عناية من الله بهم، ورعاية لضعفهم. وقد قال عليه السلام
: "أنا أولى بكل مسلم من نفسه، من ترك مالاً فلورثته ومن ترك دَيْنًا أو ضياعًا (يعني أولادًا ضائعين لقلة مالهم وصغر سنهم) فإليَّ وعليَّ" (متفق عليه)
.
وإذا كان اليتيم في كفالة المجتمع المسلم فلا محل للخوف عليه أن يهمل أو يضيع إذا كان من غير مال.


admin 02-28-2011 09:55 PM

موازنة وترجيح
 
موازنة وترجيح


هذه هي الأدلة التي استند إليها القائلون بوجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون وهم جمهور الأمة - كما رأينا - من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. والواقع أنها أدلة قوية بموازنة أدلة المخالفين:
( أ )
فعموم النصوص لكل صغير وكبير، وعاقل ومجنون. دليل سليم لا مطعن فيه. فإن الله فرض للفقراء والمساكين وسائر المستحقين حقًا في أموال الأغنياء، وهذا مال غني، ولم تشترط النصوص أن يكون هذا الغني بالغًا عاقلاً. مع شدة عناية الشارع بحفظ أموال اليتامى، فمن أراد التخصيص فعليه الدليل، وأين هو؟
(ب)
ثم حديث يوسف بن ماهَك الآمر بتنمية أموال اليتامى حتى لا تستهلكها الزكاة حديث صحيح السند ظاهر الدلالة. نعم هو حديث مرسل، ولكنه عضده العموم. وقوّتْه الشواهد، كما أيدته أقوال الصحابة رضي الله عنهم. ومثل ذلك حديث أنس الذي رواه الطبراني (وصححه العراقي) وأقره الهيثمي (وحسنه ابن حجر والسيوطي).
(ج) ولا ريب أن أقوال الصحابة - أمثال عمر وعلي وعائشة وابن عمر وجابر - إذا اتفقت في موضوع كهذا، يكثر وقوعه وتعم به البلوى، وخاصة في ذلك المجتمع الذي قدم الشهداء تلو الشهداء، وكثر فيه اليتامى، كان لها دلالتها واعتبارها في هذا المقام، ولا يسع عالمًا إهدار أقوالهم التي أجمعت على هذا الأمر، مع قرب عهدهم بالرسول وكمال فهمهم عنه، ومعرفتهم بالقوارع التي أنزلها الله في شأن أموال اليتامى. والحق أنه لم يصح عن أحد من الصحابة القول بعدم وجوب الزكاة في مال اليتيم. وما روي عن ابن مسعود وابن عباس فهو ضعيف لا يحتج بمثله (انظر مرعاة المفاتيح للعلامة المباركفوري: 3/25)
.
( د )
وإذا نظرنا إلى المعنى المعقول في تشريع الزكاة تبين لنا أنها حق الفقراء والمساكين والمستحقين في مال الأغنياء، والصبي والمجنون أهل لوجوب حقوق العباد المالية عليهما، فهما أهل لوجوب الزكاة أيضًا.
أما أن الزكاة حق من حقوق العباد، فلأنها داخلة في قوله تعالى:
(والذين في أموالهم حق معلوم، للسائل والمحروم)(المعارج: 24 - 25)، وأيضًا قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) الآية (التوبة:60)
، والإضافة بحرف اللام "للفقراء" تقتضي الاختصاص بجهة الملك، إذا كان المضاف إليه من أهل الملك كالفقراء ومن عطف عليهم.
ومما يدل على أن الزكاة حق من حقوق المال: قول الخليفة الأول في محاورته لعمر: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال" كما ثبت في الصحيحين.
وأما أن الصبي والمجنون أهل لوجوب حقوق العباد في ملكهما؛ فهذا ثابت باتفاق، إذ الصغر والجنون لا يمنعان حقوق الناس، ولهذا يجب في مالهما ضمان المتلفات، وتعويضات الجنايات، ونفقات الزوجات والأقارب ونحوها
(انظر: بدائع الصنائع: 2/4-5، ورد المحتار: 2/4)
.
ومن هنا نقول: إن الزكاة تجب في مال الصبي والمجنون بالشروط التي سنوضحها في المال الذي تجب فيه الزكاة، ومنها: الفضل عن الحوائج الأصلية. .
وبهذا الشرط تخرج النقود المحتاج إليها في النفقة اللازمة لهما؛ لأنها غير فاضلة عن حاجتهما.
بهذا كله يتبين لنا رجحان مذهب الأئمة الثلاثة على مذهب الحنفية. وبخاصة أنهم أوجبوا العُشر في مال الصبي والمجنون، وأوجبوا زكاة الفطر في مالهما، ولم يوجبوا الزكاة عليهما فيما عدا ذلك من الأموال.
والقياس يقتضي: أن من وجب العشر في زرعه وجبت الزكاة في سائر أمواله. ولا فرق بين ما يدل عليه قوله تعالى:
(وآتوا حقه يوم حصاده)(الأنعام: 141)، وقوله: (وفي أموالهم حق للسائل والمحروم)(الذاريات: 19)
.
كما لا فرق بين ما يدل عليه قوله عليه السلام:
"فيما سقت السماء العُشر"، وقوله: "في الرقة - الدراهم المضروبة - ربع العشر"
.
فتفرقه الحنفية بين الزروع والثمار والأموال الأخرى، وقولهم: إن الغالب في الأولى معنى المؤنة دون الثانية تفرقة ليس لها أساس معقول ولا منقول.
ومن ثَمَّ اشتد ابن حزم في النعي على هذه التفرقة فقال: "ليت شعري، ما الفرق بين زكاة الزرع والثمار وبين زكاة الماشية والذهب والفضة" ؟؟‍‍ !!.
فلو أن عاكسًا عكس قولهم فأوجب الزكاة في ذهبهما وفضتهما وماشيتهما وأسقطها عن زرعهما وثمرتها، أكان يكون بين الحكمين فرق في الفساد"؟
(المحلى: 5/205)
.
وقال ابن رشد: وأما من فرق بين ما تخرجه الأرض وما لا تخرجه، وبين الخفي والظاهر في الأموال (ويريد بالظاهر: الماشية والزرع والثمر): فلا أعلم له مستندًا في هذا الوقت
(بداية المجتهد: 1/209 - ط. مصطفى الحلبي).


admin 02-28-2011 09:56 PM

الخلاصة
 
الخلاصة

أن مال الصبي والمجنون تجب فيه الزكاة، لأنها حق يتعلق بالمال فلا يسقط بالصغر والجنون، ويستوي في ذلك أن يكون ماله ماشية سائمة أو زرعًا وثمرًا، أو تجارة أو نقودًا: بشرط ألا تكون النقود مرصدة لنفقته الضرورية، فإنها حينئذ لا تكون فاضلة عن الحاجة الأصلية له. ويطالب ولي الصبي والمجنون بإخراج الزكاة عنهما. والأولى - كما قال بعض المالكية - أن تقضي بذلك محكمة شرعية، ليرفع حكمها الخلاف، ولا يتعرض الولي للمطالبة بغرامة أو تعويض بناء على مذهب الحنفية.

admin 02-28-2011 09:59 PM

زكاة الثروة التجارية - مقدمة
 
مقدمة

أباح الله للمسلمين أن يشتغلوا بالتجارة ويكسبوا منها، بشرط ألا يتجروا في سلعة محرمة ولا يهملوا العنصر الأخلاقي في معاملاتهم، من الأمانة والصدق والنصح، ولا تلهيهم مشاغل التجارة ومكاسبها عن ذكر الله وأداء حقه سبحانه (انظر في ذلك: كتابنا "الحلال والحرام" فصل "الكسب والاحتراف").
وقد عرفنا من الفصل الماضي، كيف فرض الإسلام زكاة سنوية (2.5بالمائة) على أصحاب النقود يطهرهم ويزكيهم بها، كما يطهر أموالهم ويزكيها وعرفنا من حكمة فرض هذه الزكاة: أن الشارع جعلها دافعًا قويًا، يسوق أصحاب النقود سوقًا حثيثًا، إلى استغلال أموالهم وتثميرها في كل عمل حلال، وكسب مشروع وبذلك ينجون من إثم الكانزين الذين يحبسون نقودهم عن التداول، ويعطلونها عن العمل في ميدان التثمير، كما تفيدهم هذه التنمية في إنقاذ أموالهم من أن تأكلها الزكاة بمرور الأعوام.
والتجارة من أنواع هذا الكسب المشروع ولهذا جاءت الآثار التي ذكرنا من قبل، آمرة بالاتجار في أموال اليتامى خاصة حتى لا تأكلها الزكاة.
فلا عجب أن تتحول طائفة غير قليلة من ثروات الأمة إلى التجارة، بمختلف أنواعها وفروعها وأن تصبح التجارة مصدرًا هائلاً لكسب المال وتنميته وأن يوجد بين التجار من يملك من السلع والبضائع ما يُقدَّر بالألوف والملايين.
ولا عجب أيضًا أن يفرض الإسلام في هذه الثروات، المستغلة في التجارة، والمكتسبة منها: زكاة سنوية، كزكاة النقود، شكرًا لنعمته تعالى، ووفاءً بحق ذوي الحاجة من عباده، مساهمة في المصالح العامة للدين والدولة، كما هو الشأن في كل زكاة.
ومن هنا عنى الفقه الإسلامي ببيان أحكام هذه الزكاة، ليكون التاجر المسلم على بيِّنة مما تجب فيه الزكاة من ماله، وما يعفى عنه.
ويسمى الفقهاء الثروة التجارية: "عروض التجارة " (العروض: جمع "عَرْض" بفتح العين وسكون الراء، وهو - كما في التاج-: ما خالف النقدين من متاع الدنيا وأثاثها، بخلاف العَرَض - بفتحتين - فهو حطام الدنيا ومتاعها قال الإمام النووي: مال التجارة: كل ما قصد الاتجار فيه عند اكتساب الملك بمعاوضة محضة "يعني معاوضة مالية" قال: وتفصيل هذه القيود: أن مجرد نية التجارة لا تصير المال مال تجارة، فلو كان له عرض قنية ملكه بشراء أو غيره، فجعله للتجارة "أي نوى به ذلك" لم يصر، على الصحيح الذي قطع به الجماهير "من الشافعية" وقال الكرابيسي من أصحابنا: يصير وأما إذا اقترنت نية التجارة بالشراء، فإن المشتري يصير مال تجارة ويدخل في الحول، سواء اشترى بعرض أو نقد، أو دين، حال أو مؤجل، وإذا ثبت حكم التجارة لا تحتاج كل معاملة إلى نية جديدة، ومعنى هذا: أنه يُعَد تاجرًا منذ أول سلعة يشتريها بنية التجارة.
أما لو كان له ما يقتنيه من متاع في بيته أو دابة يركبها أو نحو ذلك فنوى أن يتاجر بها، ويبيعها لذلك فلا تكفي هذه النية حتى يبيعها بالفعل ويقبض ثمنها ويبدأ من وقتها اعتبار التجارة) ويعنون بها: كل ما عدا النقدين مما يُعَد للتجارة من المال، على اختلاف أنواعه، مما يشمل الآلات والأمتعة والثياب والمأكولات، والحلي والجواهر، والحيوانات، والنباتات، والأرض والدور، وغيرها من العقارات والمنقولات.
وعرَّف بعضهم عروض التجارة تعريفًا دقيقًا فقال: هي ما يُعَد للبيع والشراء بقصد الربح (مطالب أولي النهى: 2/96).
فمن مَلَك منها شيئًا للتجارة وحال عليه الحَوْل، وبلغت قيمته نصابًا من النقود في آخر الحَوْل، وجب عليه إخراج زكاته، وهو ربع عُشر قيمته أي 2.5بالمائة كزكاة النقود، فهي ضريبة على رأس المال المتداول وربحه، لا على الربح وحده وسنفصِّل أحكام هذا الفصل في المباحث التالية:
المبحث الأول: في أدلة وجوب الزكاة في التجارة.
المبحث الثاني: في شبهات المخالفين من الظاهرية والإمامية والرد عليهما.
المبحث الثالث: في شروط زكاة التجارة.
المبحث الرابع: كيف يزكي التاجر ثروته التجارية.

admin 02-28-2011 10:03 PM

أدلة وجوب زكاة التجارة
 
أدلة وجوب زكاة التجارة


يستند القول بوجوب الزكاة في عروض التجارة إلى ما يأتي:

أولاً من القرآن
قوله تعالى: (يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرْضِ) (البقرة: 267) قال الإمام البخاري في كتاب "الزكاة" في صحيحه (الجزء الثاني ص143- طبع الشعب) باب "صدقة الكسب والتجارة " : لقوله تعالى: (يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ).
وقال الإمام الطبري في تفسير الآية: يعني بذلك جلَّ ثناؤه: زكوا من طيب ما كسبتم بتصرفكم، إما بتجارة، أو بصناعة، من الذهب والفضة وروي من عدة طرق عن مجاهد في قوله: (مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) قال: من التجارة اهـ (تفسير الطبري: 5/555،556 بتحقيق ومراجعة الشيخين: أحمد ومحمود شاكر).
وقال الإمام الجصاص في أحكام القرآن: قد روي عن جماعة من السلف في قوله تعالى: (أنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ) أنه من التجارات، منهم الحسن ومجاهد وعموم هذه الآية يوجب الصدقة في سائر الأموال؛ لأن قوله تعالى: (مَا كَسَبْتُمْ) ينتظمها (أحكام القرآن للجصاص: 1/543).
وقال الإمام أبو بكر بن العربي: قال علماؤنا: قوله تعالى: (مَا كَسَبْتُمْ) يعني التجارة، (وَمِمَّا أخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرْضِ)(البقرة:267 يعني النبات).
وتحقيق هذا أن الأكساب (جمع كسب) على قسمين: منها ما يكون من بطن الأرض وهو النباتات كلها، ومنها ما يكون من المحاولة على وجه الأرض كالتجارة والنتاج والمناورة في بلاد العدو، والاصطياد، فأمر الله تعالى الأغنياء من عباده، بأن يؤتوا الفقراء مما آتاهم على الوجه الذي فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم (أحكام القرآن: 1/235).
وقال الإمام الرازي: ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان، فيدخل فيه زكاة التجارة، وزكاة الذهب والفضة، وزكاة النعم، لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسب اهـ (التفسير الكبير للرازي: 2/65).
ومما يؤيد ذلك قوله تعالى في أبي لهب: (مَا أغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)(المسد:2) فـ"ماله" هو ما ورثه عن أبيه، و "ما كسب": هو الذي جمعه من التجارة.
هذا فضلاً عن عموم الآيات الأخرى التي أوجبت في كل مال حقًا، مثل قوله تعالى: (وَفِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَائِلِ وَالمَحْرُومِ)(الذاريات: 19) (وَالَّذِينَ فِي أمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلومٌ لِّلسَائِلِ وَالمَحْرُومِ)(المعارج: 24-25) (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا)(التوبة:103).
ولم يأت دليل من كتاب ولا سُنَّة يعفي أموال تجار المسلمين من هذا الحق المعلوم الذي بإخراجه يتطهر المسلم ويتزكى.
قال ابن العربي: قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) عام في كل مال على اختلاف أصنافه وتباين أسمائه، واختلاف أغراضه، فمن أراد أن يخصه بشيء فعليه الدليل (شرح الترمذي: 3/104).
بل ذهب بعض العرب وهم دَوس - قبيلة أبي هريرة - إلى أن المال: الثياب والمتاع والعروض، ولا تسمى العين المنقولة مالاً، وقد جاء هذا المعنى في السنة الثابتة من رواية مالك بسنده عن أبي هريرة قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر فلم نغنم ذهبًا ولا وَرِقًا إلا الأموال: الثياب والمتاع (تفسير القرطبي: 8/245).

ثانيًا من السًنَّة
ومن السُنَّة ما رواه أبو داود بإسناده عن سمرة بن جندب، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نُخرج الصدقة مما نُعِدللبيع (الحديث رواه الدارقطني مطولاً ص214، وأبو داود من طريق جعفر بن سعد عن خبيب بن سليمان بن سمرة عن أبيه عن سمرة بن جندب؛ وسكت عنه أبو داود ثم المنذري "مختصر السنن: 2 : 175" قال ابن الهمام: وهو تحسين منهما، كما في المرقاة: 4/158- طبع ملتان وحسنه ابن عبد البر - كما في نصب الراية: 2/376، وقال الحافظ في بلوغ المرام (ص124): إسناده لين وطعن ابن حزم في إسناده بأن جعفر بن سعد وخبيب بن سليمان بن سمرة وأباه سليمان مجهولون لا يُعرف من هم قال الشيخ أحمد شاكر في هامش المحلي (5/234): بل هم معروفون ذكرهم ابن حبان في الثقات (أ.هـ) ونقل الذهبي عن ابن القطان قال: ما من هؤلاء من يُعرف حاله وقد جهد المحدثون فيهم جهدهم، وهو إسناد يروى من جملة أحاديث، وقال عبد الحق الأزدي: خبيب ضعيف وليس جعفر ممن يعتمد عليه وبكل حال، هذا إسناد مظلم لا ينهض بحكم "الميزان: 1/150").
والأمر يدل على الوجوب، لأن المفهوم من قوله: "يأمرنا" أنه ألقي إليهم ذلك بصيغة من صيغ الأمر وهي تدل على الوجوب كما أن المتبادر من كلمة "الصدقة" هو الزكاة فقد صحّت الأحاديث الكثيرة بتسميتها صدقة، وإذا عُرِّفت بــ"الـ" كما في الحديث، انصرف إلى اللفظ المعهود، وهو الزكاة وقول ابن حزم (المحلي: 5/234،235) إنه لو صح لكانت الصدقة فيه غير الزكاة، بعيد عن الظاهر المتبادر.
وروى الدارقطني عن أبي ذر قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في الإبل صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته"(رواه الدارقطني في سننه (2/101) كما رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي (1/388) إلا أنه قال: "وفي البُر" بالراء وضم الباء (أي القمح) لا بالزاي المعجمة وهو كذلك في مسند أحمد المطبوع (5/179) فلا مدخل له في زكاة التجارة لكن نقل الزيلعي عن النووي في "تهذيب الأسماء واللغات" أن الرواية بالراء تصحيف وهو غلط.
ورواه البيهقي في سننه (4/147) من عدة طرق بالزاي.
وقد أطال الزيلعي في "نصب الراية" في تخريج الحديث (2/376-378)، وقال الحافظ في "الدراية": أخرجه أحمد والدارقطني والحاكم وإسناده حسن "1/260") والبز -كما في القاموس-: الثياب أو متاع البيت من الثياب ونحوها (اهـ) فهو يشمل الأقمشة والمفروشات والأواني والخردوات، ونحوها، ولا خلاف في أن الصدقة لا تجب في عين هذه الأشياء إذا كانت للاستمتاع والانتفاع الشخصي، فلم يبق إلا أن تجب في قيمتها إذا كانت للاستغلال والتجارة.
هذا غير الأحاديث العامة الأخرى التي تطالب بالزكاة في سائر الأموال مثل: "أدوا زكاة أموالكم"(رواه الترمذي في أول كتاب الزكاة وقال: حسن صحيح (3/91)- طبع المطبعة العصرية بالأزهر) من غير فصل بين مال ومال.
على أن مال التجارة أعم الأموال؛ لأنه يشمل كل مال يتجر فيه من حيوان وحبوب وثمار وسلاح ومتاع وغير ذلك، فكان أولى بالدخول في عموم هذه النصوص كما قال بعض العلماء (مطالب أولي النهى: 2/96).

ثالثًا إجماع الصحابة والتابعين والسَلَف
ومن هَدْي الصحابة: ما رواه أبو عبيد بسنده عن عبد القاري (من قبيلة القارة) قال: "كنت على بيت المال زمن عمر بن الخطاب فكان إذا خرج العطاء جمع أموال التجار ثم حسبها: شاهدها وغائبها، ثم أخذ الزكاة من شاهد المال على الشاهد والغائب"(الخبر رواه أيضًا ابن أبي شيبة كما رواه ابن حزم في المحلي: 6/34، وقال: إن سنده صحيح ولكن زعم أن المراد بأموال التجار فيه ما كان غير العروض من فضة وذهب وغير ذلك، وهو تأويل بعيد عما يتبادر إلى الفهم من ألفاظ الخبر ورواه ابن حزم في المحلي وقال: إسناده صحيح).
وعن أبي عمرو بن حماس (قال في "أسد الغابة": حماس الليثي وذكره الواقدي فيمن ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وروى عن عمر) عن أبيه قال: مرَّ بي عمر فقال: يا حماس أدِّ زكاة مالك، فقلت: ما لي مال إلا جِعاب وأدُم، فقال: قوِّمها قيمة ثم أدِّ زكاتها" (قال الحافظ في التلخيص (ص185): رواه الشافعي وأحمد وابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور والدارقطني، وذكر طريق كل واحد من هؤلاء إلى حماس وانظر: الأم للشافعي: 2/38، والسنن للبيهقي: 4/147، وقد ضعف ابن حزم الخبر بأن حماسًا وابنه مجهولان وقال الشيخ شاكر في تعليقه على المحلي (5/235): كلا بل هما معروفان ثقتان) والجعاب جمع جعبة وهي ما يوضع فيه السهام ونحوها والأدُم: جمع أديم، وهو الجلد.
قال في المغني (الجزء الثالث ص35) تعقيبًا على هذا الخبر: وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر (أي لم ينكر هذا الحكم أحد من الصحابة) فيكون إجماعًا.
وروى أبو عبيد عن ابن عمر: ما كان من رقيق أو بز يراد به التجارة ففيه الزكاة (الأموال ص425) وروى البيهقي وابن حزم عنه قال ليس في العروض زكاة إلا أن تكون لتجارة قال ابن حزم: هو خبر صحيح انظر: المحلي: 5/324، والسنن الكبرى: 4/147وروى أبو عبيد وجوب زكاة التجارة عن ابن عباس أيضًا الأموال ص426، وصحح ابن حزم الخبر ولكنه تأوله: 5/234،235.
ولم يُنقل عن واحد من الصحابة ما يخالف قول عمر وابنه وابن عباس رضي الله عنهم بل استمر العمل والفتوى على ذلك في عهد التابعين، وقد نقلنا في الفصل السابق في نصاب الذهب ما صحّ عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى أحد عماله: انظر مَن مرّ بك من المسلمين، فخذ مما ظهر من أموالهم مما يديرون في التجارات، من كل أربعين دينارًا: دينارًا، وما نقص فبحساب ذلك، حتى تبلغ عشرين دينارًا.
وكذلك اتفق فقهاء التابعين ومن بعدهم على القول بوجوب الزكاة في أموال التجارة.
ونقل الإجماع على ذلك ابن المنذر وأبو عبيد.
قال ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن في العروض التي يراد بها التجارة: الزكاة إذا حال عليها الحول، وروى ذلك عن عمر وابنه وابن عباس، وبه قال الفقهاء السبعة والحسن وجابر بن زيد وميمون بن مهران وطاووس والنخعي والثوري، والأوزاعي، والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأصحاب الرأي (المغني:3/30) (أبو حنيفة وأصحابه) وهو مذهب مالك وأحمد.
وكذلك قال أبو عبيد في أموال التجارة: أجمع المسلمون على أن الزكاة فرض واجب فيها، ومع أنه ذكر قولاً آخر لم ينسبه لقائل، فقد قال فيه: وأما القول الآخر فليس من مذاهب أهل العلم عندنا (الأموال ص429).
قال القاضي ابن العربي: الزكاة واجبة في العروض من أربعة أدلة:
الأول: قول الله عزَّ وجَلَّ: (خُذْ مِنْ أمْوَالِهِمْ صَدَقَةٍ)(التوبة:103) وهذا عام في كل مال.
والثاني: أن عمر بن عبد العزيز كتب بأخذ الزكاة من العروض: والملأ الملأ، والوقت الوقت، بيد أنه استشار واستخار، وحكم بذلك على الأمة وقضى به، فارتفع الخلاف بحكمه.
الثالث: أن عمر الأعلى قد أخذها قبله صحيح من رواية أُنيس.
الرابع: أن أبا داود ذكر عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الزكاة مما نعد للبيع، ولم يصح فيه خلاف عن السلف اهـ (شرح الترمذي: 3/104).
وقال الخطابي: وزعم بعض المتأخرين من أهل الظاهر: أن لا زكاة فيها وهو مسبوق بالإجماع (معالم السنن:2/223).

رابعًا القياس والاعتبار
أما القياس فهو -كما ذكر ابن رشد- أن العروض المتخذة للتجارة مال مقصود به التنمية، فأشبه الأجناس الثلاثة التي فيها الزكاة باتفاق، أعني: الحرث والماشية والذهب والفضة (بداية المجتهد: 1/217- طبع مصطفى الحلبي).
وأما من جهة النظر والاعتبار المستند إلى قواعد الإسلام وروحه العامة: فإن عروض التجارة المتداولة للاستغلال نقود معنى، لا فرق بينها وبين الدراهم والدنانير التي هي أثمانها، إلا في كون النصاب يتقلب ويتغير بين الثمن وهو النقد، والمثمن وهو العروض؛ فلو لم تجب الزكاة في التجارة، لأمكن لجميع الأغنياء أو أكثرهم: أن يتجروا بنقودهم، ويتحروا ألا يحول الحَوْل على نصاب من النقدين أبدًا، وبذلك تعطل الزكاة فيهما عندهم (تفسير المنار: 10/591- الطبعة الثانية).
إن التجار في عصرنا -دون قصد منهم إلى الفرار من الزكاة- قلّما توجد لديهم نقود عينية يحول عليها الحول، فمعظم التعامل التجاري الآن يتم بغير تقابض، إلا بالشيكات ونحوها.
ورأس الاعتبار في المسألة -كما قال العلاَّمة السيد رشيد رضا- أن الله تعالى فرض في أموال الأغنياء صدقة، لمواساة الفقراء، ومن في معناهم، وإقامة المصالح العامة للدين الإسلامي وأمته، وأن الفائدة في ذلك للأغنياء: تطهير أنفسهم من رذيلة البخل، وتربيتها بفضائل الرحمة للفقراء، وسائر أصناف المستحقين، ومساعدة الدولة والأمة في إقامة المصالح العامة الأخرى، والفائدة للفقراء وغيرهم: إعانتهم على نوائب الدهر، مع ما في ذلك من سد ذريعة المفاسد، وهي تضخم الأموال وحصرها في أناس معدودين -وهو المشار إليه بقوله تعالى في حكمة قسمة الفيء: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنكُمْ)(الحشر:7)- فهل يعقل أن يخرج من هذه المقاصد الشرعية كلها التجار الذين ربما تكون معظم ثروة الأمة في أيديهم"؟ (المصدر السابق).
وأزيد على هذا فأقول:
إن أحوج الناس إلى تطهير أنفسهم وأموالهم وتزكيتها: هم التجار، فإن طرائق كسبهم لا تسلم من شوائب وشبهات، لا يسلم من غوائلها إلا الورع الصدوق الأمين، وقليل ما هم، وخاصة في هذا العصر.
وقد جاء في الحديث: "إن التجار يُبعثون يوم القيامة فجارًا إلا من اتقى الله وبر وصدق" (رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه)"إن التجار هم الفجار، قالوا: يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع؟ قال: بلى، ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدِّثون فيكذبون" (رواه أحمد بإسناد جيد، والحاكم -واللفظ له- وقال: صحيح الإسناد "ترغيب").
ومن هنا قلنا: إن نفس التاجر وماله أحوج من أي ذي مال آخر إلى التزكية والتطهير وفي هذا روى أبو داود بسنده عن قيس بن أبي غَرَزَة، قال: مرّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة".
فهذه صدقة غير محدودة بحول ولا نصاب ولا مقدار، ولكن الحديث يؤكد ما نقوله من حاجة التاجر إلى التطهر الدائم من شوائب التجارة ومكدراتها فإذا كان على التاجر من الصدقة المفروضة غير المحدودة -كما يقول ابن حزم نفسه- ما يكون كفّارة لما يشوب البيع، فكيف يُعفَى مما هو مفروض على عامة المسلمين؟

admin 02-28-2011 10:07 PM

رد: ثناء ابن باز رحمه الله تعالى على كتـــــــــــــاب فقه الزكاة للشيخ العلامة القرضاوي
 
شبهات المخالفين

(أ) مذهب الظاهرية في عروض التجارة
مذهب أهل السنة كافة هو إيجاب الزكاة في عروض التجارة (ينسب إلى الشافعي قول قديم بعدم وجوب الزكاة في التجارة، واختلف أئمة المذهب في ذلك فمنهم من قال: له في القديم قولان، ومنهم من قال: لم يثبت خلاف الجديد -انظر: الروضة للنووي:2/16) ولم يخالف في ذلك إلا بعض المتأخرين من أهل الظاهر، كما قال الخطابي، وقد تبنى مذهبهم ودافع عنه ابن حزم في المحلي (الجزء السادس ص233-240) كما أن بعض المضيقين في إيجاب الزكاة في الزمن الأخير، كالشوكاني وصِدِّيق حسن خان: مالوا إليه وأيدوه وسنذكر ما تعلقوا به من شبهات ثم نكر عليها بالإبطال:
1- تعلقوا بقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس على مسلم في عبده ولا فرسه صدقة"، وقوله: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق"(مر تخريجهما في زكاة الخيل) وظاهر ذلك عدم الوجوب في جميع الأحوال سواء أكانت للتجارة أم لغيرها.
وأجاب الجمهور عن هذه الشبهة: بأن المتأمل في عبارة الحديث يجده بمعزل عما نحن فيه، فهو ينفي الزكاة عن عبده الذي يخدمه، وفرسه الذي يركبه، وكلا الاثنين من الحوائج الأصلية، المعفاة من الصدقة بإجماع المسلمين.
2- وتعلقوا بأن الأصل في مال المسلم: الحرمة، كما أن الأصل براءة الذمم من التكاليف، فلا يصح أن نوجب على الناس في أموالهم ما لم يوجبه الله عليهم في كتاب ولا سُنَّة.
وقد كانت التجارة قائمة في عصره صلى الله عليه وسلم في أنواع مما يتجر به، ولم يرد عنه نقل صحيح يفيد وجوب ذلك قالوا: وحديثا سمرة وأبي ذر لا تقوم بمثلهما حُجَّة لضعفهما ولا سيما في التكاليف التي تعم بها البلوى (انظر الروضة الندية: 1/192-193).
وجوابنا: أنه قد عارض ما ذكروا من الأصول أصول أخرى أفادتها العمومات التي أوجبت في كل مال حقًا، وأفادتها أيضًا الأدلة الخاصة التي استقيناها من الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، وإجماع من يعتد به من أهل العلم.
وحديث سمرة بن جندب سكت عنه أبو داود والمنذري وهذا تحسين منهما، وحسنه ابن عبد البر، وقال الشيخ أحمد شاكر، ردًا على ابن حزم: رواته معروفون ذكرهم ابن حبان في الثقات.
وحديث أبي ذر صححه الحاكم وذكر له الحافظ عدة طرق ضعيفة، وقال في إحداها: هذا إسناد لا بأس به.
وقد تأيد الحديثان بالعمومات، وبعمل الصحابة، وإجماع السلف، مع ما يعضدهما من النظر الصحيح والقياس السليم.
3- وشبهة ثالثة ذكرها أبو عبيد عن "بعض من يتكلم في الفقه" قال: إنه لا زكاة في أموال التجارة واحتج بأنه إنما أوجب الزكاة فيها من أوجبها بالتقويم، وإنما يجب على كل مال الزكاة في نفسه، والقيمة سوى المتاع، فأسقط عنه الزكاة لهذا المعنى قال أبو عبيد: وهذا عندنا غلط في التأويل: لأنَّا قد وجدنا السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد يجب الحق في المال ثم يحول إلى غيره مما يكون إعطاؤه أيسر على معطيه من الأصل، ومن ذلك كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى معاذ باليمن بالجزية "إن على كل حالم (بالغ) دينارًا أو عدله من المعافر"(رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث مسروق عن معاذ وحسنه الترمذي، وهو جزء من الحديث الذي ذكرناه في زكاة البقر) والمعافر ثياب يمنية، وعدله: قيمته، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العرض مكان العين (النقد) ثم كتب إلى أهل نجران "أن عليهم ألفي حُلّة في كل عام أو عدلها من الأواقي - يعني من الدراهم" فأخذ العين (أي النقود) مكان العرض.
وكان عمر يأخذ الإبل من الجزية، وإنما أصلها الذهب والورق، وأخذ عليّ بن أبي طالب الإبر والحبال والمسالّ (جمع مسلة) من الجزية، وقد روى عن معاذ في الصدقة نفسها أنه أخذ مكانها العروض، وذلك قوله: "آتوني بخميس أو لبيس -ثياب عندهم- آخذه منكم مكان الصدقة، فإنه أهون عليكم، وأنفع للمهاجرين بالمدينة"، وورد عن ابن مسعود أن امرأته قالت له: إن لي طوقًا فيه عشرون مثقالاً، قال: أدِّي عنه خمسة دراهم، وكانت قيمة كل عشرة دراهم تساوي مثقالاً، قال أبو عبيد: وكل هذه الأشياء قد أخذت فيها حقوق من غير المال الذي وجبت فيه تلك الحقوق، فلم يدعهم ذلك إلى إسقاط الزكاة؛ لأنه حق لازم لا يزيله شيء، ولكنهم قدّروا ذلك المال بغيره، إذ كان أيسر على من يؤخذ منه، فكذلك أموال التجارة، إنما كان الأصل فيها أن يؤخذ الزكاة منها أنفسها، فكان في ذلك عليهم ضرر من القطع والتبعيض؛ لذلك رخَّصوا في القيمة، فعلى هذا أموال التجارة عندنا، وعليه أجمع المسلمون: أن الزكاة فرض واجب فيها، وأما القول الآخر، فليس من مذاهب أهل العلم عندنا، وإنما وجبت الزكاة في العروض والرقيق وغيرها إذا كانت للتجارة وسقطت عنها إذا كانت لغيرها؛ لأن الرقيق والعروض إنما عُفِيَ عنها في السنة إذا كانت للاستمتاع والانتفاع بها، ولهذا أسقط المسلمون الزكاة عن الإبل والبقر العوامل، وأما أموال التجارة فإنما هي للنماء وطلب الفضل، فهي في هذه الحال تشبه سائمة المواشي التي يُطلب نسلها وزيادتها، فوجبت فيها الزكاة لذلك، إلا أن كل واحدة منها تزكي على سنتها فزكاة التجارات على القيم، وزكاة المواشي على الفرائض (المقادير المفروضة) فاجتمعتا في الأصل على وجوب الزكاة، ثم رجعت كل واحدة في الفرع إلى سنتها" (الأموال ص427 وما بعدها).
وبهذا نعلم أن قول جمهور الأمة، هو القول الصواب، وأن الزكاة في عروض التجارة فريضة لازمة، وأن شبهات المخالفين لا تقف على قدميها أمام حجج الجمهور، وإجماع الصحابة وخير القرون.

(ب) مذهب الإمامية
وذهب فقهاء الإمامية إلى أن الزكاة لا تجب في أموال التجارة، بل تُستحب على الأصح عندهم (المختصر النافع في فقه الإمامية ص54).
ولكن لهم رأيًا آخر في أرباح التجارة، وهو وجوب الخُمس فيها (أعني في الأرباح لا في رأس المال) مستدلين بقوله تعالى: (وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مَّن شَيْءٍ فَأنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) (الأنفال:41) وقالوا: إن كل فائدة تحصل للإنسان من المكاسب وأرباح التجارات والكنوز وغيرها، يُطلق عليها في عرف اللغة اسم: الغُنْم والغنيمة، ولم يوجبوا الخُمس في أرباح التجارة إلا فيما فضل منها عن مؤونة السنة له ولعياله، قال في "جواهر الكلام" في عدّ ما يجب فيه الخُمس: "الخامس ما يفضل عن مؤونة السنة على الاقتصاد له ولعياله من أرباح التجارات والصناعات والزراعات بلا خلاف معتد به" (جواهر الكلام: 2/126) وهو -بالتعبير الحديث- ضريبة على صافي الدخل بنسبة (20) بالمائة.
قال أهل السنة: المراد بقوله: (مَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءْ)(الأنفال:41) ما بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو ما يُغنم بالقتال، لا لكل ما يُطلق عليه اسم الغنيمة، وبدلالة سياق الآية نفسها، ولو بقي على عمومه: لا ستلزم وجوب الخُمس في المواريث ونحوها، وهو خلاف الإجماع، وما استلزم الباطل: باطل (انظر الروضة الندية: 1/219).

admin 02-28-2011 10:09 PM

شروط الزكاة في مال التجارة
 
شروط الزكاة في مال التجارة



التجارة -كما عرّفها بعض الفقهاء- هي كسب المال ببدل هو مال (رد المحتار: 2/18).
ومال التجارة هو: ما يُعد لهذا الكسب عن طريق البيع والشراء.
وعرّفه بعضهم بقوله: هو ما يُعد للبيع والشراء لأجل الربح (مطالب أولى النهى جـ 2/96).
فليس كل ما يشتريه الإنسان من أشياء وأمتعة وعروض يكون مال تجارة، فقد يشتري ثيابًا للبسه، أو أثاثًا لبيته، أو دابة أو سيارة لركوبه، فلا يسمى شيء من ذلك عرض تجارة، بل عرض "قنية" بخلاف ما لو اشترى شيئًا من ذلك بقصد بيعه والربح منه.
فالإعداد للتجارة يتضمن عنصرين: عملاً ونيَّة، فالعمل هو البيع والشراء، والنيَّة هي قصد الربح/ فلا يكفي في التجارة أحد العنصرين دون الآخر (انظر الدر المختار ورد المحتار : 2 / 18 - 19، وبلغة السالك، وحاشيته : 1 /224).
لا يكفى مجرد النيَّة والرغبة في الربح دون ممارسة التجارة بالفعل (هذا هو قول الجمهور، وذهب ابن عقيل وأبو بكر من الحنابلة إلى أن عرض القنية يصير للتجارة بمجرد النية، وحكوه رواية عن أحمد لقوله فيمن أخرجت أرضه خمسة أو سق، فمكثت عنده سنين، لا يريد بها التجارة، فليس عليه زكاة، وإن كان يريد التجارة، فأعجب إلى أن يزكيه، لأن نية القنية في عرض التجارة كافية في جعله للقنية، فكذلك نية التجارة، بل أولى؛ لأن الإيجاب يغلب على الإسقاط احتياطًا، ولأنه أحظ للمساكين فاعتبر، ولحديث سمرة في إخراج الصدقة مما يُعَد للبيع، وهذا داخل في عمومه، وردوا على هذا القول بأن القنية هي الأصل، والتجارة فرع عليها، فلا ينصرف إلى الفرع بمجرد النية، كالمقيم ينوي السفر، لا يصير مسافرًا بمجرد النية ..انظر المغني - المطبوع مع الشر -: 2/631، وانظر شرح الرسالة للعلامة المالكي زروق::1/325) لا يكفي الممارسة بغير النية والقصد.
ولو اشترى شيئًا للقنية كسيارة ليركبها، ناويًا أنه إن وجد ربحًا باعها، لم يعد ذلك مال تجارة (انظر الدر المختار وحاشيته:2/19) بخلاف ما لو كان يشتري سيارات ليتاجر فيها ويربح منها، فإذا ركب سيارة منها واستعملها لنفسه حتى يجد الربح المطلوب فيها فيبيعها، فإن استعماله لها لا يخرجها عن التجارة، إذ العبرة في النية بما هو الأصل، فما كان الأصل فيه الاقتناء والاستعمال الشخصي: لم يجعله للتجارة مجرد رغبته في البيع إذا وجد ربحًا، وما كان الأصل فيه الاتجار والبيع: لم يخرجه عن التجارة طروء استعماله.
أما إذا نوى تحويل عرض تجاري معين إلى استعماله الشخصي، فتكفي هذه النية عند جمهور الفقهاء لإخراجه من مال التجارة، وإدخاله في المقتنيات الشخصية غير النامية.
وشرط بعضهم هنا شرطًا آخر، وهو عدم قيام المانع المؤدي إلى "الثَّنَى" (المرجع نفسه ص18) في الزكاة، وهو أخذ الزكاة مرتين في عام واحد، وهو الذي يسميه رجال الضرائب "الازدواج" وفسر ابن قدامة "الثَّنَى" بأنه: إيجاب زكاتين في حول واحد بسبب واحد (المغني: 2/629) وقد جاء في الحديث: "لا ثِنَى في الصدقة" (الأموال ص 375).
وعلى هذا لو اشترى أرضًا زراعية للتجارة، فزرعها وأخرجت ما يجب فيه العُشر، اكتفى بزكاة العُشر عن الخارج، ولم تجب زكاة التجارة عن الأرض نفسها، حتى لا تتكرر الزكاة في مال واحد وخالف بعض الفقهاء، فغلبوا زكاة التجارة، وذهب بعضهم إلى القول بإيجاب الزكاتين (انظر الدر المختار ورد المحتار: 2/19، والمغني ص630) بناء على أن سبب هذه غير سبب تلك، فلا يُعد ذلك ثنَى، وسنعود إلى هذا بعد.
إذا عرفنا مال التجارة: ما هو؟ فقد بقي علينا أن نعرف شروط زكاته.
ورأس مال التاجر: إما نقود، أو سلع مقومة بالنقود، فأما النقود فلا كلام فيها، وأما السلع والعروض فيُشترط لوجوب الزكاة فيها ما يُشترط لزكاة النقود، من حولان الحول، وبلوغ النصاب المعين، والفراغ من الدَّيْن، والفضل عن الحوائج الأصلية، وقد رجحنا أن نصاب النقود في عصرنا الآن ما يعادل قيمة 85 جرامًا من الذهب.
ولكن متى يُعتبر كماله النصاب؟
هل يُعتبر في آخر الحول فقط؟
أو يُعتبر كماله في جميع الحول من أوله إلى آخره؟
أو يُعتبر في أول الحول وآخره دون ما بينهما؟
أقوال ثلاثة للفقهاء
أولها: وهو قول مالك ونص الشافعي في الأم: أنه يُعتبر في آخر الحول فقط؛ لأنه يتعلق بالقيمة، وتقويم العرض في كل وقت يشق، فاعتبر حال الوجوب، وهو آخر الحول، بخلاف سائر الزكوات؛ لأن نصابها من عَيْنها فلا يشق اعتباره (المجموع:1/55).
القول الثاني: اعتبار النصاب في جميع الحول، فمتى نقص النصاب في لحظة منه، انقطع الحول؛ لأنه مال يُعتبر له النصاب والحول فوجب اعتبار كمال النصاب في جميع أيام الحول كسائر الأمور التي يُعتبر فيها ذلك، وهذا قول الثوري وأحمد وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور وابن المنذر (المغني: 3/32 وما بعدها).
والثالث: اعتبار النصاب في أول الحول وآخره دون ما بينهما، فإذا تم النصاب في الطرفين وجبت الزكاة، ولا يضر نقصه بينهما، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه، وحجته ما ذُكر في القول الأول: أن التقويم في جميع الحول يشق؛ لأنه يحتاج إلى أن يعرف قيمة السلع التي عنده في كل وقت ليعلم أتبلغ نصابًا أم لا وفي ذلك من الحرج والمشقة ما فيه، فعفى عنه إلا في أول الحول وآخره فصار الاعتبار به.
فلو مَلَك سلعة قيمتها دون النصاب فمضى نصف الحول -وهي كذلك- ثم زادت قيمة النماء بها، أو تغيرت الأسعار فبلغت نصابًا، أو باعها بنصاب، أو مَلَك في أثناء الحول عرضًا آخر، أو نقودًا تم بها النصاب: ابتدأ الحول من حينئذ، فلا يُحتسب بما مضى عند الجمهور.
أما عند مالك، وكذا الشافعي حسب نصه في الأم: فالحول ينعقد على ما دون النصاب، ولا يُشترط النصاب إلا في آخر الحول، فإذا بلغ في آخره نصابًا زكّاه (المغني: 3/31 وما بعدها).
ومن هنا رووا عن مالك قوله: إذا كانت له خمسة دنانير (وهي ربع النصاب) فاتجر فيها، فحال عليها الحول، وقد بلغت ما تجب فيه الزكاة: يزكيها (المغني: 2/31 ومابعدها).
والمختار عندي: هو قول مالك والأصح عند الشافعية (كما في الروضة: 2/267) لأن اشتراط حولان الحول على النصاب لم يقم عليه دليل، ولم يجيء به نص صحيح مرفوع، فإذا اكتمل النصاب عند الحول وجب الاعتبار به، واعتبر ابتداء السنة الزكوية للمسلم، وكلما جاء هذا الموعد من كل سنة: زكّى ما عنده إذا بلغ نصابًا، ولا يضر النقصان في أثناء السنة.
وإذا كانت الحكومة هي التي تجمع الزكاة من التجار، فإنها تحدِّد موعدًا كالمحرَّم من كل عام، فمَن وجد عنده النصاب في هذا الموعد أخِذت منه الزكاة، وإن كان نصابه لم يكمل إلا منذ شهر أو شهرين.
وهذا ما كان يحدث في زكاة المواشي، في عهد النبوة والراشدين، فقد كان السعاة يأخذون الزكاة مما حضر من المال إذا بلغ نصابًا، ولا يسألون متى تم هذا النصاب وكم شهرًا له؟ ويكتفون بتمامه عند أخذ الزكاة، ثم لا يأخذون منه زكاة إلا بعد عام قمري كامل.

admin 02-28-2011 10:14 PM

كيف يزكي التاجر ثروته التجارية
 
كيف يزكي التاجر ثروته التجارية
زكاة الثروة التجارية بمختلف صورها
الثروة التي يستغلها التاجر في تجارته، لا تخلو أن تتخذ صورة أو أكثر من الصور الثلاث الآتية:
1- فإما أن تكون الثروة التجارية في صورة: عروض وبضائع اشتراها التاجر بثمن ما، ولم تُبَع بعد.
2- أو تكون في صورة: نقود حاضرة يحوزها في يده فعلاً، أو تحت تصرفه كالتي يضعها في "البنوك" لحسابه.
3- أو تكون في صورة: ديون له على بعض العملاء أو غيرهم، مما تقتضيه طبيعة التجارة والتعامل، ولا شك أن من هذه الديون ما هو ميئوس منه، ومنها ما هو مرجو الحصول.
ولا ننسى هنا: أن التاجر كما يكون له ديون على الآخرين قلَّما يخلو أن يكون هو أيضًا مدينًا للآخرين.
فكيف يُخرج التاجر المسلم زكاة هذه الثروة بمختلف صورها؟
وللإجابة عن ذلك نذكر هنا بعض ما جاء عن أئمة التابعين في ذلك كما رواها أبو عبيد (صفحة 426).
قال ميمون بن مهران: إذا حلَت عليك الزكاة فانظر ما كان عندك من نقد أو عرض فقوِّمه قيمة النقد، وما كان من دَيْن في ملآة (الملآة: الغني واليسر فمعنى الكلمة ما كان من دين على غني مليء قادر على الدفع) فاحسبه ثم اطرح منه ما كان عليك من الدَيْن، ثم زكِّ ما بقي.
وقال الحسن البصري: إذا حضر الشهر الذي وقَّت الرجل أن يؤدي فيه زكاته: أدى عن كل مال له (يعني من النقد) وكل ما ابتاع من التجارة، وكل دين إلا ما كان منه ضمارًا لا يرجوه.
وقال إبراهيم النخعي: يقوِّم الرجل متاعه إذا كان للتجارة، إذا حلّت عليه الزكاة فيزكيه مع ماله (الأموال ص426).
ومن أقوال هؤلاء الأئمة، يتضح لنا: أن على التاجر المسلم -إذا حلَّ موعد الزكاة- أن يضم ماله بعضه إلى بعض، رأس المال والأرباح والمدخرات، والديون المرجوة، فيقوم بجرد تجارته، ويقوِّم قيمة البضائع إلى ما لديه من نقود -سواء أستغلَّها في التجارة أم لم يستغلها-إلى ما له من ديون مرجوة القضاء، غير ميئوس منها، ويُخرج من ذلك كله ربع العُشر (2.5بالمائة)، وأما الدَيْن الذي انقطع الرجاء فيه، فقد رجحنا - من قبل - الرأي القائل بأن لا زكاة فيه، إلا إذا قبضه، فيزكيه لعام واحد (وهذا هو رأي مالك في الديون كلها) بناء على اختيارنا تزكية المال المستفاد عند قبضه إذا بلغ نصابًا، وأما ما عليه من ديون فإنه يطرحها من جملة ماله، ثم يزكّى ما بقي.

تفريق "مالك" بين التاجر المحتكر والتاجر المدير
هذا هو رأي جمهور الفقهاء، وانفرد مالك عن الجمهور برأي فرَّق فيه بين صنفين من التجار: فالتاجر "المدير" وهو الذي يبيع ويشتري بالسعر الحاضر، ولا ينضبط له وقت في البيع والشراء (كتجار البقالة والخردوات والأقمشة والأدوات وغيرهم من أصحاب الحوانيت والطوَّافين بالسلع) (انظر بلغة السالك: 1/224، ونقل الصاوي في الحاشية عن ابن عاشر: الظاهر أن أرباب الصنائع، كالحاكة والدباغين مديرون وقد نص في المدونة على أن أصحاب الأسفار الذين يجهزون الأمتعة إلى البلدان مديرون ...المرجع نفسه ص 224-225) يرى مالك مع الجمهور: أن يزكّى عروضه وسلعه على رأس كل حول وإن خالف في اشتراط النصاب في أول الحول كما ذكرنا قبل.
وأما التاجر الآخر وهو الذي يشتري السلعة ويتربص بها رجاء ارتفاع السعر ويسميه "المحتكر" كالذين يشترون العقار وأراضى البناء ونحوها، ويتربصون بها مدة من الزمن، ويرصدون الأسواق، حتى ترتفع أسعارها، فيبيعوا، فيرى مالك: أن الزكاة لا يتكرر وجوبها عليه بتكرار الأعوام، بل إذا باع السلعة زكّاها لسنة واحدة، وإن بقيت عنده أعوامًا.
ويحسن أن أسوق عبارة ابن رشد التي ذكرها في بيان مذهبه، قال: "إن مالكًا قال: إذا باع العرض: زكّاه لسنة واحدة، كالحال في الدَّيْن، وذلك عنده -أي مالك- في التاجر الذي تنضبط له أوقات شراء عروضه، وأما الذين لا ينضبط لهم وقت ما يبيعونه ويشترونه، وهم الذين يخصون باسم "المدير" فحكم هؤلاء -عند مالك- إذا حال عليهم الحول من يوم ابتداء تجارتهم: أن يقوم ما بيده من عروض، ثم يضم إلى ذلك ما بيده من العَيْن (النقود) وما له من الدَّيْن الذي يرتجي قبضه -إن لم يكن عليه دَيْن مثله- وذلك بخلاف قوله في دَيْن غير المدير، فإذا بلغ ما اجتمع عنده من ذلك نصابًا: أدى زكاته (اشترط بعض المالكية -بل هو المشهور في المذهب- أن ينص للتاجر مقدار من النقود ولو درهمًا في أي وقت من السنة وروى بعضهم عدم الاشتراط ...انظر شرح الرسالة للعلاَّمة زروق:1/325، والمراد بالنص: بيع المتاع بنقد).
"وقال الجمهور (الشافعي وأبو حنيفة وأحمد والثوري والأوزاعي وغيرهم): المدير وغير المدير حكمها واحد، وأنه من اشترى عرضًا للتجارة فحال عليه الحول قوَّمه وزكّاه" (بداية المجتهد لابن رشد: 1/260-261- طبع الاستقامة بالقاهرة).
وقد عقب ابن رشد على رأي مالك بقوله: "وهذا بأن يكون شرعًا زائدًا أشبه منه بأن يكون شرعًا مستنبطًا من شرع ثابت، ومثل هذا هو الذي يعرِّفونه بالقياس المرسل، وهو الذي لا يستند إلى أصل منصوص عليه في الشرع، إلا ما يعقل من المصلحة الشرعية فيه، ومالك -رحمه الله- يعتبر المصالح، وإن لم تستند إلى أصول منصوص عليها".
واختلف قول المالكية في التاجر المدير إذا بارت سلعته وكسدت بضاعته: هل يصير محتكرا، فلا يزكّى إلا ما باعه بالفعل، أم يظل مديرًا، فيقوِّم عروضه كل عام ويزكيها، قال سحنون: يصير محتكرًا، خلافًا لابن القاسم، وبماذا يُحد البوار؟ هل يُحد بعامين أو بالعُرف؟ قولان، لسحنون وعبد الملك (انظر: شرح الرسالة ...المرجع السابق).
والحق أن رأي الجمهور، أقوى دليلاً من رأي مالك، فإن الاعتبار الذي قام على أساسه إيجاب الزكاة في عُروض التجارة: أنها مال مرصد للنماء مثل النقود، سواء أنمت بالفعل أم لم تنم، بل سواء ربحت أم خسرت؛ والتاجر -مديرًا كان أو غير مدير- قد مَلَك نصابًا ناميًا فوجب أن يزكِّيه.
ومع هذا؛ قد يكون لرأي مالك وسحنون مجال يؤخذ به فيه، وذلك في أحوال الكساد والبوار، الذي يصيب بعض السلع في بعض السنين، حتى لتمر الأعوام، ولا يباع منها إلا القليل، فمن التيسير والتخفيف على مَن هذه حاله ألا تؤخذ منه الزكاة إلا عما يبيعه فعلاً، على أن يُعفى عما مضى عليه من أعوام الكساد، وذلك لأن ما أصابه ليس باختياره ولا من صنع يده.

العروض الثابتة لا تزكى
والمعتبر في رأس مال التجارة الذي يجب تزكيته: هو المال السائل، أو رأس المال المتداول، أما المباني والأثاث الثابت للمحلات التجارية ونحوه مما لا يُباع ولا يحرك: فلا يُحتسب عند التقويم، ولا تُخْرَج عنه الزكاة، فقد ذكر الفقهاء: أن المراد بعرض التجارة هو ما يُعد للبيع والشراء لأجل الربح (مطالب أولي النهى: 2/96) بدليل حديث سمرة الذي ذكرناه في أول هذا الفصل: "كان صلى الله عليه وسلم يأمرنا أن نخرج الصدقة مما نعده للبيع".
ولهذا قالوا: لا تقوَّم الأواني التي توضع فيها سلع التجارة ولا الأقفاص والموازين، ولا الآلات، كالمنوال، والمنشار، والقدوم، والمحراث، ولا دولاب العمل اللازم للتجارة؛ لبقاء عينها فأشبهت عروض القنية (المصدر نفسه وانظر فتح القدير: 1/527، وبلغة السالك: 1/235، وشرح الأزهار:1/479-480) أي الممتلكات الشخصية التي لا تُعد للنماء.
وفصَّل بعضهم فقالوا: في الأواني التي توضع فيها عروض التجارة كقوارير العطارين، والغرائر والأكياس التي يستعملها تاجر الحبوب، والسُرج واللُّجم التي يستعملها تاجر الخيل، ونحوها -إن أريد بيعها مع هذه الأشياء فهي مال تجارة تقوَّم معها، وإن لم يرد بيعها -بل تباع العروض وتبقى هي للاستعمال- فلا تقوَّم، شأنها شأن العروض المقتناة (مطالب أولي النهى:2/96).

بأي سعر تُقوَّم سلع التجارة عند إخراج الزكاة؟
وبعد طرح الأثاث الثابت ونحوه، مما لا يُعَد للبيع، يجب تقويم السلع والبضائع التي حال عليها الحَوْل، ووجبت فيها الزكاة.
ولكن بأي سعر يقوِّمها التاجر، أو المصَدِّق إذا كانت الحكومة الإسلامية هي التي تأخذ الزكاة؟
(أ) المشهور: أن تقوَّم بالسعر الحالي الذي تباع به السلعة في السوق عند وجوب الزكاة بها، وقد جاء عن جابر بن زيد من التابعين في عرض يراد به التجارة: قوِّمه بنحو من ثمنه يوم حلّت فيه الزكاة، ثم أخْرِج زكاته (الأموال ص426) وهذا قول معظم الفقهاء.
(ب) وكان ابن عباس يقول: لا بأس بالتربص حتى يبيع، والزكاة واجبة عليه (المصدر نفسه).
والمقصود بالتربص هو الانتظار حتى يتم البيع فعلاً، للتأكد من أن التقويم يتم على أساس السعر الحقيقي الذي تباع به السلعة.
(جـ) وذكر ابن رشد: أن بعض الفقهاء قالوا: يزكي الثمن الذي اشترى به السلعة لا قيمتها (بداية المجتهد:1/260) ولم يُسمِّ ابن رشد من قال بهذا ولا دليله.
ولا يخلو الأمر من حالتين: إما هبوط الأسعار، فيتضرر التاجر من تقويم السلع بثمن ما اشتُريت به، وإما أن ترتفع، فتؤخذ الزكاة -على هذا القول- من رأس المال، دون الربح.
والمعهود في الزكاة أنها تؤخذ من رأس المال ونمائه معًا، كما في زكاة المواشي.
ولهذا كان القول الراجح هو ما عليه الجمهور، من تقويم السلعة عند الحول بسعر السوق، والمراد: سعر الجملة؛ لأنه الذي يمكن أن تباع به عند الحاجة بيسر فيما أرى.

هل يخرج التاجر زكاته من عَيْن السلعة أم من قيمتها؟
بعد تقويم السلع التجارية، كما ذكرنا، بقي أن نعرف: مم يخرج التاجر زكاته؟ هل يجوز أن يخرجها جزءًا من البضاعة التي عنده، أم يخرجها نقودًا بقيمة الواجب؟
في ذلك عدة أقوال:
فيرى أبو حنيفة والشافعي -في أحد أقواله-: أن التاجر مُخيَّر بين إخراج الزكاة من قيمة السلعة، وبين الإخراج من عَيْنها؛ فإذا كان تاجر ثياب يجوز أن يخرج من الثياب نفسها، كما يجوز أن يُخرج من قيمتها نقودًا؛ وذلك أن السلعة تجب فيها الزكاة فجاز إخراجها من عينها، كسائر الأموال (المغني:3/31).
وهناك قول ثان للشافعي: أنه يجب الإخراج من العين، ولا يجوز من القيمة (الروضة النووي:2/273).
وقال المزني : إن زكاة العروض من أعيانها لا من أثمانها (بداية المجتهد : 2 / 260).
وقال أحمد والشافعي -في القول الآخر- بوجوب إخراج الزكاة من قيمة السلع لا من عينها؛ لأن النصاب في التجارة معتبر بالقيمة، فكانت الزكاة منها كالعَيْن في سائر الأموال (المغني:2/31، والروضة -المرجع المذكور).
قال في المغني: ولا نسلِّم أن الزكاة وجبت في المال، وإنما وجبت في قيمته (المغني - المرجع نفسه).
وهذا الرأي الأخير هو الذي أرجحه نظرًا لمصلحة الفقير، فإنه يستطيع بالقيمة أن يشترى ما يلزم له، أما عَيْن السلعة فقد لا تنفعه، فقد يكون في غنى عنها، فيحتاج إلى بيعها بثمن بخس، وهذا الرأي هو المتبع، إذا كانت الحكومة هي التي تجمع الزكاة وتصرفها؛ لأن ذلك هو الأليق والأيسر.
ويمكن العمل بالرأي الأول في حال واحدة بصفة استثنائية: أن يكون التاجر هو الذي يخرج زكاته بنفسه، ويعلم أن الفقير في حاجة إلى عَيْن السلعة، فقد تحققت منفعته بها، والمسألة دائرة على اعتبار المصلحة وليس فيها نص.
وبعد أن رجَّحتُ هذا رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه ما يؤيد هذا الترجيح؛ فقد سئل عن التاجر: هل يجوز أن يخرج قيمة ما وجب عليه من بعض الأصناف عنده؟ فذكر في الجواب عن ذلك أقوالاً:
1- يجوز مطلقًا.
2- لا يجوز مطلقًا.
3- يجوز في بعض الصور للحاجة أو المصلحة الراجحة.
قال: وهذا القول هو أعدل الأقوال؛ فإن كان آخذ الزكاة يريد أن يشتري بها كسوة، فاشترى رب المال له بها كسوة وأعطاه، فقد أحسن إليه وأما إذا قوَّم هو الثياب التي عنده وأعطاها، فقد يقوٍّمها بأكثر من السعر، وقد يأخذ الثياب مَن لا يحتاج إليها، بل يبيعها، فيغرم أجرة المنادي (الدلال) وربما خسرت فيكون في ذلك ضرر على الفقراء" (فتاوى ابن تيمية:1/299).

admin 02-28-2011 10:16 PM

زكاة الثروة الزراعية - مقدمة
 
مقدمة

كان من أجلّ نِعَم الله على الإنسان: أن مهّد له هذه الأرض، وجعلها صالحة للإنبات والإثمار، وأجرى سننه الكونية بذلك، فجعلها المصدر الأول لرزق الإنسان ومعيشته، وقوام بدنه حتى إن بعض الاقتصاديين في الغرب نادوا بفرض ضريبة واحدة على الأرض الزراعية دون غيرها، باعتبارها المصدر الرئيسي لمعيشة البَشر.
وهذا لمن تأمل بعين بصيرته محض فضل الله تعالى، فهو الذي سخّرها وجعلها ذلولاً وبارك فيها وقدَّر فيها أقواتها، وجعل فيها معايش لهذا النوع المكرَّم: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ، قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ) (الأعراف:10) ولو عرفنا شيئًا قليلاً مما تحتاج إليه البذرة من النبات كي تحيى وتنمو وتثمر، من أسباب وشروط ومن سنن وقوانين لعرفنا العجب العجاب من فضل الله علينا وعلى الناس.
ليست كلّ تربة تصلح للإنبات، فلا بدّ من تربة خاصة تحتوي على العناصر اللازمة لتغذية البذرة، فمَن ذا الذي خلق التربة الأرضية مشتملة على العناصر المطلوبة للنبات؟ ولا بدَّ من ماء يسقي البذرة وإلا ماتت فمَن ذا الذي أجرى سنته بإنزال الماء من السحاب أو تفجيره ينابيع في الأرض، وجعله فيها بقدر، حتى لا يغرق الخلق ويهلك الحرث والنسل؟
ولا بد من غاز يستنشقه النبات، فمن ذا الذي أودع هذا الغاز في الهواء؟ أو من الذي علَّم النبات أن يستنشق ثاني أكسيد الكربون الذي يلفظه الإنسان والحيوان؛ ليقوم بين المملكة الحيوانية والمملكة النباتية هذا التبادل الرائع الفريد؟!
ولا بد للنبات من ضوء وحرارة معينة، لو زادت كثيرًا لاحترق، ولو نقصت كثيرًا لذوى وهلك، وما وُجدت حياة نباتية ولا غيرها، فمن الذي خلق الشمس وسخرها، وأودع فيها هذه الخصوصية وجعلها على هذه المسافة المعينة من الأرض، بحيث لا تهلك الكائنات الحية عليها من البرودة المفرطة إذا بعدت، أو الحرارة المفرطة إذا قربت؟ (راجع في هذا الكتاب القيم: "العلم يدعو إلى الإيمان" ترجمة محمود صالح الفلكي).
ثم من الذي جعل في البذرة الساكنة الجافة قابلية الحياة والنمو والتكاثر؛ بحيث تصبح النواة نخلة باسقة طلعها نضيد، وتنبت حبة القمح سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة؟
إنه الله تعالى هو الذي صنع هذا كله وقدَّره فأحسن التقدير، ودبّره فأتقن التدبير، ولا غرو أن امتن بذلك على عباده في آيات كثيرة من كتابه، ورد الفضل فيه إلى أهله، مثل قوله تعالى: (أفرأيتم ما تحرثون؟ ءأنتم تزرعونه أم نحن الزَّارعون؟! لو نشاء لجعلناه حطامًا فظللتم تفكَّهون إنَّا لمغرمون بل نحن محرومون) (الواقعة:63-67).
وقوله تعالى: (والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين، وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم، وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماءً فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين) (الحجر:19-22).
وقوله تعالى: (فلينظر الإنسان إلى طعامه، أنَّا صببنا الماء صبًا، ثم شققنا الأرض شقًا، فأنبتنا فيها حبًا، وعنبًا وقضبًا، وزيتونًا ونخلاً، وحدائق غلبًا، وفاكهة وأبًا، متاعًا لكم ولأنعامكم)(عبس:24-32).
وقوله تعالى: (وآيةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًا فمنه يأكلون، وجعلنا فيها جنَّاتٍ من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون، ليأكلوا من ثمرهِ وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون)(يس:33-35).
أجل ..إن ما تخرجه الأرض من زرع وثمر إنما هو من فضل الله ومن عمل يده سبحانه لا من عمل أيدينا القاصرة، هو الزارع المنبت حقيقة لا نحن الزارعون فلا عجب أن يطالبنا سبحانه بالشكر على هذه النعمة السابغة التي جاءتنا عفوًا صفواَ، وأكلنا منها هنيئًا مريئًا (ليأكلوا من ثمرهِ وما عملته أيديهم، أفلا يشكرون)؟
أجل ..(أفلا يشكرون؟) وأول مظاهر هذا الشكر: هو أداء الزكاة مما خرج منها وفاءً ببعض حقه سبحانه، ومواساة للمحتاجين من خلقه، وإسهامًا في نصرة دينه، وهذه الزكاة هي المعروفة في الفقه الإسلامي باسم "العُشر" (وهو الشائع عند الحنفية، ومن الغريب أن بعضهم زعم أن تسميته زكاة مجاز، أو على قول الصاحبين، لاشتراطهما النصاب والبقاء بخلاف قول الإمام، قال المحقق ابن الهمام: وليس بشيء، إذ لا شك أنه زكاة حتى يُصرف مصارفها، غاية ما في الباب: أنهم اختلفوا في إثبات بعض شروط لبعض أنواع الزكاة ونفيها، وهذا لا يُخرجه عن كونه زكاة ...فتح القدير:2/2) أو زكاة "الزروع والثمار" أو زكاة "المعشرات".
وهذه الزكاة تمتاز عن زكاة الأموال الأخرى من مواش ونقود وعروض تجارة، بأنها لا يُشترط فيها حولان الحول، بل تجب بمجرد الحصول عليها، إذ هي نماء الأرض وغلتها، فحيث وُجِدت تحقق النماء الذي هو عِلة وجوب الزكاة، فهي -بتعبير العصر- ضريبة على الإنتاج والريع الناتج من استغلال الأرض.
أما الزكاة في الأموال السالفة فهي ضريبة على رأس المال نفسه، نما أم لم ينم.
وسنفصِّل أحكام هذا الفصل في المباحث التالية:
المبحث الأول: أدلة وجوب الزكاة في الزروع والثمار.
المبحث الثاني: الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة.
المبحث الثالث: اعتبار النصاب وما يتعلق به.
المبحث الرابع: مقدار الواجب وتفاوته.
المبحث الخامس: تقدير الواجب بالخرص وما يتعلق به.
المبحث السادس: ماذا يُترك لأرباب الزرع والثمر؟
المبحث السابع: اقتطاع الديون والنفقات وتزكية الباقي.
المبحث الثامن: زكاة الأرض المستأجرة.
المبحث التاسع: اجتماع العُشر والخراج

admin 02-28-2011 10:20 PM

رد: ثناء ابن باز رحمه الله تعالى على كتـــــــــــــاب فقه الزكاة للشيخ العلامة القرضاوي
 
أدلة وجوب الزكاة في الزروع والثمار


أولاً - من القرآن
(أ) أما الكتاب فقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تُغمضوا فيه)(البقرة:267) والأمر بالإنفاق للوجوب، وقد جعله الله تعالى من مقتضى الإيمان، والقرآن كثيرًا ما يعبر عن الزكاة بالإنفاق، قال الجصاص: قوله تعالى: (أنفقوا) المراد به: الصدقة، والدليل عليه قوله تعالى: (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) يعنى: تتصدقون، ولم يختلف السلف والخلف في أن المراد به الصدقة (أحكام القرآن للجصاص:1/543).
(ب) وقال تعالى: (وهو الذي أنشأ جناتٍ معروشات وغير معروشات(الجنات: البساتين، ومعروشات: ما عرش الناس من الكروم، وغير معروشات: غير مرفوعات، مبنيات: لا ينبته الناس ولا يرفعونه، ولكن الله يرفعه وينبته وينميه -الطبري:12 / 156 - طبع المعارف)والنَّخل والزرع مختلفًا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابهْ، كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده)(الأنعام:141).
ذهب كثير من السلف إلى أن المراد بــ "الحق" هنا هو الزكاة المفروضة العُشر أو نصف العُشر.
روى أبو جعفر الطبري بسنده عن أنس بن مالك في تفسير الآية قال: الزكاة المفروضة.
وعن ابن عباس من أكثر من طريق قال: العُشر ونصف العُشر، وفي رواية عنه قال: يعني بحقه: زكاته المفروضة، يوم يُكال ويُعلم كيله.
وروى أيضًا عن جابر بن زيد والحسن وسعيد بن المسيب ومحمد ابن الحنفية وطاووس وقتادة والضحاك: أنه الزكاة أو الصدقة المفروضة أو العُشر ونصف العشر (تفسير الطبري:12/158-161) تختلف العبارات والمقصود واحد.
قال القرطبي: ورواه ابن وهب وابن القاسم عن مالك في تفسير الآية، وبه قال بعض أصحاب الشافعي (القرطبي:7/99) وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة وأصحابه (بدائع الصنائع:2/53).
وقال آخرون: كان هذا شيئًا أمر الله به المؤمنين قبل أن تُفرض عليهم الصدقة المؤقتة (المحددة)، ثم نسخته الصدقة المعلومة: العُشر أو نصف العُشر.
روى ابن جرير بسنده عن ابن عباس في تفسير الآية قال: نسخها العُشر ونصف العُشر.
وروى مثله عن محمد ابن الحنفية عن إبراهيم النخعي، وفي رواية عن إبراهيم قال: "هذه السورة مكية، نسخها العُشر ونصف العُشر".
وعن سعيد بن جبير قال: هذا قبل الزكاة، فلما نزلت الزكاة نسختها.
وعن الحسن قال: نسختها الزكاة.
وعن السدي: كانوا إذا مر بهم أحد يوم الحصاد أو الجذاذ، أطعموه منه، فنسخها الله عنهم بالزكاة، وكان فيما أنبتت الأرض العُشر ونصف العُشر.
ونحوه عن عطية العوْفي (تفسير الطبري:12/168-170).
ذكر ابن جرير هذه الآثار، ورجح بعدها القول بأن الآية منسوخة، مؤيدًا ذلك بأن الزكاة المفروضة في الحب لا يُمكن إيتاؤها يوم الحصاد، بل بعد الدياس والتذرية والتنقية.
وكذلك صدقة الثمر لا تؤخذ إلا بعد الجفاف، كما أن قوله تعالى في الآية: (وَلا تُسرفوا)(الأنعام:141) لا وجه له إذا فُسِّر الحق بالعُشر ونصفه، لأنه مقدار محدد يتولى أخذه ولاة الأمر، فكيف ينهى رب المال عن الإسراف (تفسير الطبري:12/170-173) فهذا الحق إذن حق آخر غير الزكاة، وإذا لم يكن في المال حق سوى الزكاة، فهذا الحق منسوخ، فإنها نسخت كل حق سابق في المال.
والغريب من شيخ المفسرين ابن جرير أن يختار القول بأن الآية منسوخة، مع تحريه في قبول النسخ، ورده على كثير من دعاوى النسخ في آيات أُخر، مع أن النسخ لا يُلجأ إليه إلا عند التعارض التام بين نصين، بحيث يستحيل إعمال كل منهما، فهل العلاقة بين قوله تعالى: (وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، والأحاديث الصحيحة التي فرضت العُشر أو نصفه - علاقة التضاد والتعارض التام؟ أم هي علاقة المجمل بالمفصَّل؟ والمبهم بالمفسَّر؟
إن الاحتمال الأخير هو الظاهر بوضوح لكل من تأمل العلاقة بين النصوص، وينبغي ألا يغرنا ما ذكره الطبري من الآثار عن ابن عباس وغيره من السلف: أن الحق المأمور به في الآية نسخه العُشر والزكاة المعلومة، فمن المعلوم أن النسخ في اصطلاح المتأخرين -بمعنى رفع حكم شرعي بدليل شرعي متأخر- أخص من النسخ في عُرف الصحابة والتابعين وأتباعهم، فقد كان يدخل فيه ما سمى فيما بعد: تخصيص العام، وتقييد المطلق، وتفسير المبهم، وتفصيل المجمل ونحوها.
قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي في الموافقات: "الذي يظهر من كلام المتقدمين: أن النسخ عندهم في الإطلاق أعم منه في كلام الأصوليين، فقد كانوا يطلقون على تقييد المطلق نسخًا، وعلى تخصيص العموم بدليل متصل أو منفصل نسخًا، وعلى بيان المبهم والمجمل نسخًا، كما يطلقون على رفع الحكم الشرعي بدليل متأخر نسخًا، لأن جميع ذلك مشترك في معنى واحد" (الموافقات:3/75).
وقال المحقق ابن القيم: "ومراد عامة السف بالناسخ والمنسوخ، رفع الحكم بجملته تارة -وهو اصطلاح المتأخرين- ورفع دلالة العام والمطلق وغيرها تارة، إما بتخصيص أو تقييد مطلق وحمله على المقيد وتفسيره وتبيينه حتى إنهم يسمون الاستثناء والشرط والصفة نسخًا، لتضمن ذلك رفع دلالة الظاهر وبيان المراد، فالنسخ عندهم وفي لسانهم هو بيان المراد بغير ذلك اللفظ، بل بأمر خارج عنه، ومن تأمل كلامهم رأى من ذلك فيه ما لا يُحصى وزال عنه به إشكالات أوجبها حمل كلامهم على اصطلاح الحادث المتأخر" (إعلام الموقعين:1/28،29-طبع المنيرية).
وقد أحسن ابن كثير حين عقب على القول بالنسخ في هذه الآية فقال: "وفي تسمية هذا نسخًا نظر؛ لأنه قد كان شيئًا واجبًا في الأصل، ثم إنه فصل بيانه وبين مقدار المخرج وكميته، قالوا: وكان هذا في السنة الثانية من الهجرة والله أعلم" (ابن كثير:2/182).
وبهذا يظهر لنا: أن الآثار التي ذكرت أن الحق في الآية منسوخ بالعُشر لا تعارض الرأي الأول الذي يقول: إن المراد بالحق في الآية هو العُشر.
وبه نفهم كيف روى كلا القولين عن ابن عباس وابن الحنفية والحسن؛ لأن الظاهر من تفسيرهم الحق: بالعُشر أو نصفه - مع علمهم بأن السورة مكية - أنهم يعنون: أن الإجمال فيه بُيِّن بعد الهجرة بالمقادير التي بينتها الزكاة، كأمثالها من الآيات المكية، التي ورد فيها وصف المؤمنين بإيتاء الزكاة، مع أنها لم تكن حددت وبينت بعد.
وما قيل من أن الزكاة لا يتيسر إيتاؤها يوم الحصاد، فهذا صحيح في بعض المزروعات كالقمح، أما الخضراوات والفاكهة كالعنب والرطب والزيتون والرمان - وهي الأربعة التي ذكرها الله في الآية مع الزرع - فيمكن تزكيتها يوم الحصاد، أي يوم القطع والجني.
وأول بعض العلماء إيتاء الحق بمعنى العزم عليه (انظر تفسير الفتوحات الإلهية - حاشية الجمل:2/99- طبع عيسى الحلبي).
أما النهي عن الإسراف، فيمكن صرفه إلىالأكل في قوله: (كلوا من ثمره إذا أثمر) (الأنعام:141).
ثانيًا - من السُنَّة
وأما السنة:
(أ) فروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًا: العُشر، وفيما سقى بالنضح : نصف العشر"(قال في المنتقى: رواه الجماعة إلا مسلمًا، لكن لفظ النسائي وأبي داود وابن ماجه: "أو كان بعلاً" بدل "عثريًا" ..نيل الأوطار:4/139، 140- طبع العثمانية).
والمراد بالعثريِّ: ما يشرب بعروقه من الأرض من غير سقي.
(ب) وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم : "وفيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سُقي بالساقية نصف العشور"(رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال: الأنهار والعيون - المصدر نفسه).
(جـ) وجاءت أحاديث أخرى في تحديد نصاب الزروع والثمار، وفي بعث السعاة وغير ذلك.
ثالثًا - الإجماع
وأما الإجماع فقد أجمعت الأمة على: وجوب العُشر أو نصفه فيما أخرجته الأرض في الجملة، وإن اختلفوا في التفاصيل (بدائع الصنائع:2/54).

admin 02-28-2011 10:24 PM

الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة
 
الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة



وإذا كانت زكاة الخارج من الأرض من زرع وثمر ثابتة -في الجملة- بالكتاب والسنة والإجماع والمعقول -كما قرر العلماء- فأي هذه الحاصلات الزراعية يجب فيها الزكاة المعلومة - العُشر أو نصفه؟ أتجب في كل ما يخرج من الأرض أم في بعضه؟ وما هذا البعض؟ وما وجه تخصيصه؟
اختلفت المذاهب في الحاصلات الزراعية التي تجب فيها الزكاة :
1- مذهب ابن عمر وطائفة من السلف: "وجوب الزكاة في الأقوات الأربعة خاصة"
ذهب ابن عمر وبعض التابعين ومن بعدهم: أن لا زكاة في شيء من الحبوب غير الحنطة والشعير، ولا شيء في ثمار الفاكهة إلا في التمر والزبيب.
وهو رواية عن أحمد، وموسى بن طلحة، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وابن المبارك، وأبي عبيد (المحلي: 5/209 وما بعدها) ووافقهم إبراهيم وزاد: "الذرة" (المغني: 2/691).
واحتج أصحاب هذا القول:
(1) بما روى ابن ماجة والدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: "إنما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب" وزاد ابن ماجه: "الذرة" (قال الشوكاني: في إسناده محمد بن عبيد الله العرزمي وهو متروك - نيل الأوطار:4/143).
(2) وبما روى عن أبي بردة عن أبي موسى ومعاذ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثهما إلى اليمن - يُعلِّمان الناس أمر دينهم - فأمرهما ألا يأخذا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الحنطة والشعير والتمر والزبيب (قال الحافظ: رواه الطبراني والحاكم (بلوغ المرام ص122)، وقال في التلخيص (ص179): قال البيهقي: رواته ثقات وهو متصل، وقال في الدراية ص174: في الإسناد يحيى بن طلحة، مختلف فيه، وهو أمثل ما في الباب- قال في المرعاة 3/39: وفيه أيضًا: أنه اختلف في رفعه ووقفه، وانظر: الخراج ليحيى بن آدم ص2153، والسنن الكبرى: 4/152، ونصب الراية: 2/319، والمحلي: 5/221) ولأن غير هذه الأربعة لا نص فيه ولا إجماع ولا هو في معناها في غلبة الاقتيات بها، وكثرة نفعها ووجودها، فلم يصح قياسه عليها ولا إلحاقه بها، فيبقى على الأصل.

2- مذهب مالك والشافعي "الزكاة في كل ما يقتات ويدخر"
وذهب مالك والشافعي إلى أن الزكاة تجب في كل ما يقتات ويدخر، وييبس من الحبوب والثمار، مثل الحنطة والشعير والذرة والأرز وما أشبه ذلك، والمراد بالمقتات: ما يتخذه الناس قوتًا يعيشون به في حال الاختيار، لا في الضرورة، فلا زكاة عند المالكية والشافعية في الجوز واللوز والبندق والفستق وما كان مثلها وإن كان ذلك مما يدخر، لأنه ليس مما يقتات الناس به، وكذلك لا زكاة في التفاح والرمان ولا في الكمثرى والخوخ والبرقوق ونحها لأنها مما ييبس ولا يدخر.
واختلف المالكية في التين، فذهب جماعة منهم إلى أن لا زكاة في التين، وذلك أن مالكًا قال في الموطأ: "السنة التي لا اختلاف فيها عندنا، والذي سمعته من أهل العلم: أنه ليس في شيء من الفواكه كلها صدقة: الرمان والفرسك (الفرسك - بكسر الفاء والسين: الخوخ، أو ضرب منه أحمر) والتين، وما أشبه ذلك وما لم يشبهه إذا كان من الفواكه" (الموطأ: 1/276- باب "ما لا زكاة فيه من الفواكه والقضب والبقول").
قال أبو عمر ابن عبد البر: "فأدخل التين في هذا الباب، وأظنه -والله أعلم- لم يعلم بأنه ييبس ويُدخر ويُقتات، ولو علم ذلك ما أدخله في هذا الباب، لأنه أشبه بالتمر والزبيب منه بالرمان، وقد بلغني عن الأبهرى وجماعة من أصحابه أنهم كانوا يفتون بالزكاة فيه، يرونه مذهب مالك على أصوله عندهم" (نقل هذه الأقوال القرطبي في تفسيره: 7/103).
وذكر الخرشي في شرحه على متن "خليل": أن الزكاة تجب في عشرين نوعًا: القطاني السبعة: الحمص والفول واللوبيا والعدس والترمس والجلبان والبسيلة، وأيضًا القمح والشعير والسلت والعدس والأرز والذرة والدخن والزبيب والتمر؛ وأيضًا الأربعة ذوات الزيوت وهي: الزيتون والجلجلان -أي السمسم- وحب الفجل (أي الأحمر) والقرطم، فلا تجب في التين -على المعتمد- ولا في قصب ولا فاكهة ولا في حب الفجل (أي الأبيض) والعصفر والكتان، ولا في التوابل ونحو ذلك (شرح الخرشي على خليل مع حاشية العدوي: 2/168).
قال القرطبي: "وقال الشافعي: لا زكاة في شيء من الثمار غير التمر والعنب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الصدقة منهما، وكانا قوتًا بالحجاز يدخر.
قال: وقد يدخر الجوز واللوز ولا زكاة فيهما؛ لأنهما لم يكونا بالحجاز قوتًا فيما علمت، وإنما كانا فاكهة.
قال الشافعي: ولا زكاة في الزيتون لقوله تعالى: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ) (الأنعام:141) فقرنه مع الرمان ولا زكاة فيه.
هذا قول الشافعي بمصر، وله قول بالعراق: أن فيه الزكاة" (انظر تفسير القرطبي:7/103).
ولم يختلف قول مالك في الزيتون -يعني أن فيه الزكاة- فقد ذكر في الموطأ أنه سأل ابن شهاب عن الزيتون، قال القرطبي: فقال: فيه العُشر (الموطأ:1/272: وقال مالك: إنما يؤخذ من الزيتون العُشر بعد أن يُعصر، ويبلغ زيته خمسة أوسق - المرجع نفسه).
ويدل هذا على: أن الآية عندهما محكمة غير منسوخة، واتفقا جميعًا على أن لا زكاة في الرمان، وكان يلزمهما إيجاب الزكاة فيه (تفسير القرطبي:7/103).
واستدل صاحب المهذب وشارحه لمذهب الشافعي بأمرين:
الأول: حديث معاذ بن جبل، وفيه: "فأما القثاء والبطيخ والرمان والقصب والخضر فعفو عفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم" (رواه البيهقي في السنن الكبرى)، وروى جملة أحاديث ثم قال: هذه الأحاديث كلها مراسيل، إلا أنها من طرق مختلفة، فيؤكد بعضها بعضًا، ومعها قول الصحابة رضي الله عنهم، ثم روي عن عليّ وعمر وعائشة رضي الله عنهم.
الثاني: أن الأقوات تعظم منفعتها فهي كالأنعام في الماشية (المهذب مع المجموع:5/493).
وكلا الدليلين لا يكفي لمقاومة عموم القرآن والسنة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض وما سقت السماء، وبحث بعض المالكية في ثمن ما يباع من غلة البساتين التي تتخذ للغلة مما لا زكاة فيه عندهم كالتفاح ونحوه، فأشار إلى خلاف فيه هل يستقبل صاحبه بالثمن حولاً أم يعامله كعروض المحتكر، فيزكي كل ما يبيعه منها في الحال؟ لم يفصل القول في ذلك في شرح الرسالة، وأحاله على المطولات (شرح الرسالة لزروق:1/329).

3- مذهب أحمد: "في كل ما ييبس ويبقى ويكال"
ونقل عن أحمد عدة أقوال: أظهرها وأشهرها ما ذكره في المغني (الجزء الثاني: ص690-692) أن الزكاة تجب فيما جمع هذه الأوصاف: الكيل والبقاء واليبس - من الحبوب والثمار مما ينبته الآدميون إذا نبت في أرضه: سواء أكان قوتًا كالحنطة والشعير والسلت والأرز والذرة والدخن، أو من القطنيات كالباقلاء (الفول) والعدس، والماش، والحمص، أو من الأبازير: كالأكسفرة والكمون والكراويا، أو البذور: كبذر الكتان والقثاء والخيار، أو من حب البقول كالرشاد وحب الفجل والقرطم، والترمس والسمسم وسائر الحبوب، وتجب أيضًا فيما جمع هذه الأوصاف من الثمار: كالتمر والزبيب والمشمش -أي المجفف- واللوز والفستق والبندق.
ولا زكاة في سائر الفواكه: كالخوخ والكمثرى والتفاح والمشمش.
ولا في الخضر: كالقثاء والخيار والباذنجان واللفت والجزر، وبهذا قال عطاء في الحبوب كلها، ونحوه قول أبي يوسف ومحمد" اهـ.
فلم يشترط أحمد الإنبات كما اشترطه المذهب السابق.
والدليل على هذا القول: أن عموم قوله صلى الله عليه وسلم : "فيما سقت السماء العُشر"، وقوله لمعاذ: "خذ الحب من الحب"(جزء من حديث رواه أبو داود وابن ماجه كما في المنتقى، وقال الشوكاني: صححه الحاكم على شرطهما، وفي إسناده عطاء عن معاذ، ولم يسمع منه -نيل الأوطار: 4/152) يقتضي وجوب الزكاة في جميع ما تناوله اللفظ، خرج منه ما لا يكال وما ليس بحب، بمفهوم قوله صلى الله عليه وسلم : "وليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق"(انظر: نصب الراية: 2/384 الحديث 38) (رواه مسلم والنسائي)، فدل هذا الحديث: على انتفاء الزكاة مما لا توسيق فيه، أي لا كيل، وأما فيما هو مكيل فيبقى على العموم (المغني:2/692).

4- مذهب أبي حنيفة: "في كل ما أخرجت الأرض الزكاة"
وذهب أبو حنيفة إلى وجوب الزكاة -العُشر أو نصفه- في كل ما أخرج الله من الأرض، مما يُقصد بزراعته نماء الأرض، وتُستغل به عادة، ولهذا استثنى الحطب والحشيش والقصب الفارسي؛ لأنها مما لا يستنبته الناس في العادة في الأرض، بل تنفي عنها، حتى لو اتخذ أرضه مقصبة أو مشجرة أو منبتًا للحشيش يجب فيها العُشر (الهداية - مع الفتح -: 2/2-5، وذكر في الفتح ص2: أنه لا شيء في الأدوية، ولا فيما يخرج من الأشجار كالصمغ والقطران، ولكن ينبغي أن يقيد هذا بما إذا لم يصبح ثروة تطلب وتقصد، فقد تزرع بعض النباتات للأدوية، وقد تستغل بعض الأشجار للصمغ، فيجب أن تدخل حينئذ في العموم).
فلم يشترط أن يكون الخارج من الأقوات، ولا أن يكون مما ييبس ويدخر ولا أن يكون مما يكال، ولا أن يكون مأكولاً.
ولذلك قال داود الظاهري وأصحابه -ما عدا ابن حزم- إن في كل ما أنبتت الأرض: الزكاة، ولا يستثنون شيئًا، وهو قول النخعي -في إحدى الروايتين- وعمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وحماد بن أبي سليمان (المحلي: 5/212،213).
وخالف أبا حنيفة صاحباه -أبو يوسف ومحمد- فيما ليس له ثمرة باقية (وهو ما يبقى سنة بلا علاج غالبًا، والعلاج: الحاجة إلى التقليب أو التعليق ..انتهى ملخصًا من فتح القدير: 2/2) وهي الخضراوات كالبقول والرطاب والخيار والقثاء ونحوها.
وعلى مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: يجب إخراج الزكاة من قصب السكر والزعفران والقطن والكتان وما شابهها، وإن لم تكن مما يقتات أو يؤكل.
وعلى قول أبي حنيفة يجب إخراج العُشر من الفواكه جميعها: كالتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والتين والمانجو وغيرها، سواء أكانت تجفف وتيبس أم لا؛ ويجب إخراج العُشر عنده من الخضراوات جميعًا كالخيار والقثاء والبطيخ والباذنجان والجزر واللفت والفجل وغيرها.
وحجة أبي حنيفة فيما ذهب إليه:
أولاً: عموم قوله تعالى في سورة البقرة: (ومما أخرجنا لكم من الأرض)(البقرة:267) ولم يُفرِّق بين مخرج ومخرج (قال الفخر الرازي في تفسير الآية (7/65): ظاهر الآية يدل على وجوب الزكاة في كل ما تنبته الأرض على ما هو قول أبي حنيفة -رحمه الله- واستدلاله بهذه الآية ظاهر جدًا، إلا أن مخالفيه خصصوا عموم هذه الآية بقوله صلى الله عليه وسلم : "ليس في الخضراوات صدقة" أ هـ.
أقول: ولكن الحديث -كما سيأتي- ليس من الصحة بحيث يخصص عموم الآية، فبقي استدلال أبي حنيفة ظاهرًا جدًّا كما قال).
ثانيًا: قوله تعالى: (وآتوا حقه يوم حصاده)(الأنعام:141) وذلك بعد ذكر أنواع المأكولات -من الجنات- معروشات وغير معروشات - والنخل والزرع، والزيتون والرمان، وأحق ما يحمل الحق عليه الخضراوات؛ لأنها هي التي يتيسر إيتاء الحق منها يوم القطع، وأما الحبوب فيتأخر الإيتاء فيها إلى يوم التنقية (بدائع الصنائع:2/59).
ثالثًا: قوله صلى الله عليه وسلم : "وفيما سقت السماء العُشر، وفيما سُقِى بالنضح نصف العشر" من غير فصل بين ما يبقى وما لا يبقى، وما يؤكل وما لا يؤكل، وما يُقتات وما لا يُقتات.

تعقيب وترجيح
وأولى هذه المذاهب بالترجيح هو مذهب أبي حنيفة الذي هو قول عمر بن عبد العزيز ومجاهد وحماد وداود والنخعي: أن في كل ما أخرجت الأرض الزكاة (لا أكاد أجد فرقًا في الواقع بين قول أبي حنيفة وقول من ذكرنا؛ لأن استثناء أبي حنيفة للحطب والقصب والحشيش لا يخرجه عن القول بعموم الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، لأن المقصود بما يخرج منها ما يزرع ويستنبت فيها، وإن كان ثمة فرق فليس له أثر يذكر) فهو الذي يعضده عموم النصوص من القرآن والسنة، وهو الموافق لحكمة تشريع الزكاة، فليس من الحكمة - فيما يبدو لنا - أن يفرض الشارع الزكاة على زارع الشعير والقمح، ويعفى صاحب البساتين من البرتقال أو "المانجو" أو التفاح، أما أحاديث حصر الصدقة في الأقوات الأربعة، فلم يسلم فيها حديث من طعن (انظر: المراعاة على المشكاة:3/39) إما بالانقطاع أو ضعف بعض الرواة -أو وقف ما ادعى رفعه- وعلى فرض التسليم بصحتها فقد تأولها ابن الملك وغيره من العلماء بأنه لم يكن ثمة غير الأربعة (انظر: المرقاة:4/153) أو يُحمل الحصر على أنه إضافي لا حقيقي، ولهذا لم يأخذ به أحد من أصحاب المذاهب المتبوعة.
والعجيب أن العلاَّمة السيد رشيد رضا أيد هذا المذهب المضيق! وأضاف إلى الأربعة: "الذرة"، كما في بعض الروايات، وقال: إن صح أن يقاس عليها شيء فالأرز، ولا سيما عند من هو قوتهم الغالب، قاله تعليقًا على كتاب المغني (انظر: المغني المطبوع مع الشرح الكبير:2/551) هذا مع أن الاعتبار الذي استند إليه في إيجاب الزكاة في الثروة التجارية، ونقلناه عنه هناك، وارد هنا أيضًا في الثروة الزراعية، وربما كانت نعمة الله في إخراج الزرع والثمر من الأرض: أظهر منها في أي مال آخر، ولهذا جاء الأمر بإيتاء حق الزرع يوم الحصاد منذ العهد المكي، وإن لم يبين مقدار هذا الحق ونصابه إلا في المدينة.
ولعل عذر السيد أنه عرض للموضوع بسرعة في تعليق خفيف عاجل بمناسبة طبع الكتاب، ولم يكن قصده تحقيق المسألة، ومهما يكن السبب فكل عالم يؤخذ منه ويُترك.
وقد أيَّد "ابن العربي" الفقيه المالكي: مذهب أبي حنيفة في "أحكام القرآن" .(أحكام القرآن - القسم الثاني: ص755-764 طـ دار المعرفة بيروت).
وفي شرح الترمذي قال: "وأقوى المذاهب في المسألة مذهب أبي حنيفة دليلاً، وأحوطها للمساكين، وأولاها قيامًا بشكر النعمة، وعليه يدل عموم الآية والحديث" .(شرح الترمذي:3/135).
وفي تفسير آية: (وآتوا حقه يوم حصاده)(الأنعام:141) أطال القول في تأييد مذهب أبي حنيفة والرد على المذاهب الأخرى.
قال: أما أبو حنيفة فجعل الآية مرآته فأبصر الحق، فأوجبها في المأكول قوتًا كان أو غيره، وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في عموم قوله: "وفيما سقت السماء العُشر".
فأما قول أحمد: إنه فيما يوسق، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق" ..الحديث، فضعيف، لأن الذي يقتضيه طاهر الحديث أن يكون النصاب معتبرًا في الثمر والحب، فأما سقوط الحق عما عداها فليس في قوة الكلام، وأما المتعلق بالقوت (يعني الشافعية) فدعوى ومعنى ليس له أصل يرجع إليه، وإنما تكون المعاني موجهة لأحكامها بأصولها على ما بيناه في كتاب "القياس".
"فكيف يذكر الله سبحانه النعمة في القوت والفاكهة، وأوجب الحق فيها كلها، فيما تنوع حاله كالكرم والنخيل، وفيما تنوع جنسه كالزرع، وفيما ينضاف إلى القوت من الاستسراج الذي به تمام النعمة في المتاع بلذة البصر، إلى استيفاء النعم في الظلم"؟
فإن قيل: إنما تجب الزكاة في المقتات الذي يدوم، فأما في الخضر فلا بقاء لها، ولذلك لم تؤخذ الزكاة في الأقوات من أخضرها، وإنما أخذت من يابسها.
قلنا: إنما تؤخذ الزكاة من كل نوع عند انتهائه، واليبس انتهاء اليابس، والطيب انتهاء الأخضر، ولذلك إذا كان الرطب لا يتمر، والعنب لا يتزبب، تؤخذ الزكاة منهما على حالهما،ولو لم تكن الفاكهة الخضرية أصلاً في اللذة، وركنًا في النعمة ما وقع الامتنان بها في الجنة، ألا تراه وصف جمالها ولذتها فقال: (فيهما فاكهة ونخلٌ ورُمَّانٌ).(الرحمن:68) فذكر النخل أصلاً في المقتات، والرمان أصلاً في الخضراوات، أو لا ينظرون إلى وجه امتنانه على العموم لكم ولأنعامكم بقوله: (أنَّا صببنا الماء صبًا، ثُمَّ شققنا الأرض شقًا، فأنبتنا فيها حبًا، وعنبًا وقضبًا، وزيتونًا ونخلاً، وحدائق غلبًا، وفاكهة وأبًا)(عبس:25-31).
ثم قال ابن العربي:
فإن قيل: فلم لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ الزكاة من خضر المدينة ولا خيبر؟
قلنا: كذلك عول علماؤنا، وتحقيقه: أنه عدم دليل لا وجود دليل.
فإن قيل: لو أخذها لنقل.
قلنا: وأي حاجة إلى نقله والقرآن يكفي عنه" أ هـ.
وأما الحديث الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس في الخضراوات صدقة" فضعيف الإسناد لا يُحتج بمثله .(انظر تعليق الحافظ في التلخيص ص179، وفتح القدير لابن الهمام: 2/3- طبع مصطفى محمد، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/68-69 عن طلحة مرفوعًا، وقال: "زاده الطبراني في الأوسط والبتراء، وفيه الحارث بن نبهان، وهو متروك، وقد وثقه ابن عدي") فضلاً عن أن يُخصص به عموم القرآن والأحاديث المشهورة.
وقد رواه الترمذي ثم قال: إسناد هذا الحديث ليس بصحيح، فلا يصح في هذا الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم .(كتاب الزكاة - باب "ما جاء في زكاة الخضراوات"، وصحيح الترمذي بشرح ابن العربي ص132،133).
على أن للحديث محملاً عند فقهاء الحنفية -على فرض صحته- ومعناه: أنه ليس فيها صدقة تؤخذ بواسطة العمال والجباة، بل أربابها هم الذين يؤدونها بأنفسهم .(بدائع الصنائع: 2/59) وذلك لأن الخضراوات لا بقاء لها، فيسرع إليها التلف قبل أن تصل إلى المستحقين.
ومن هنا ذهب بعض الفقهاء إلى أخذ الزكاة من أثمان الخضراوات لا من عينها، روى ذلك يحيى بن آدم في "خراجه" عن الزهري قال:.
"ما كان سوى القمح والشعير والنخل والعنب والسلت (السلت: نوع من الشعير لا قشر له يتزودون به في الصيف) والزيتون، فإني أرى أن تخرج صدقته من أثمانه" .(الخراج اليحيى بن آدم ص145- طبع السلفية).
وروى أبو عبيد هذا القول عن ميمون بن مهران -مع الزهري- ثم قال: وأظن الأوزاعي ثالثهما .(الأموالص504) إلا أن الزهري جعل صدقتها صدقة النقدين، وكذلك ميمون بن مهران قال: ليس لها زكاة حتى تباع، فإذا بيعت فبلغت مائتي درهم فإن فيها خمسة دراهم .(الأموال ص 504).
وكذلك إذا كانت الثمار رطبًا لا يكون منه تمر، أو كانت عنبًا لا يكون منه زبيب، فإنه يحكى عن مالك -فيما ذكر أبو عبيد- أنه قال: "إذا بلغ خرصه (تقديره بالتقريب) خمسة أوسق كان في ثمنه إذا بيع، في كل مائتي درهم خمسة دراهم، وكذلك الزيتون الذي لا يكون منه الزيت صدقته على هذا، غير أنه لا يخرص إنما هو إلى ما يرفعه أهله .(المصدر السابق ص496).
وقد أحسن هؤلاء الأئمة إذ أوجبوا الزكاة في أثمان الخضراوات والفواكه التي لا يمكن أن تؤخذ وتحفظ في بيت المال، بل يسرع إليها التلف والفساد، ولكني أخالفهم في مقدار الواجب هنا، فلا يصح أن يكون ربع العشر، كما في زكاة النقدين، بل الواجب أن يكون العشر أو نصفه، لأنه بدل عن الخارج من الأرض، فيأخذ حكمه، ويقدر بقدره، فإن للبدل حكم المبدل.
وهذا ما يفهم من الروايات التي أطلقت أن فيها الزكاة بلا تحديد، وقد جاء عن الشعبي فيمن باع كرمه عنبًا، قال: يخرج من ثمنه العُشر أو نصف العُشر .(الخراج ليحيى بن آدم ص152).
وقال ابن أبي زيد في "الرسالة": ويُزكي الزيتون، إذا بلغ حبه خمسة أوسق أخرج من زيته، فإذا باع ذلك أجزأه أن يخرج من ثمنه إن شاء الله.
وقال ابن ناجي في شرحه: وهذا القول مروي عن مالك، قال: يخرج عُشر الثمن، قال: والمشهور من المذهب: أن الزيتون الذي له زيت إنما يخرج عنه الزيت فقط وما لا زيت له يخرج من ثمنه" اهـ .(انظر الرسالة وشرحها لابن ناجي:1/320-321).

admin 02-28-2011 10:30 PM

النصاب في زكاة الزروع والثمار
 
النصاب في زكاة الزروع والثمار

مذاهب العلماء في اعتبار النصاب
جمهور علماء الأمة من الصحابة والتابعين وسائر أهل العلم بعدهم على أن: الزكاة لا تجب في شيء من الزروع والثمار حتى يبلغ خمسة أوسق .(المغنى: 2/695)، مستدلين بقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة "، وهو حديث صحيح متفق عليه .(قال في المنتقى: رواه الجماعة من حديث أبى سعيد).
وذهب أبو حنيفة إلى أن الزكاة تجب في قليل ذلك وكثيره، لعموم قوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العُشر" وهو حديث صحيح رواه البخاري وغيره، ولأنه لا يعتبر له حول، فلا يعتبر له نصاب .(المغنى: 2/695).
وهو قول إبراهيم النخعي -فيما رواه عنه يحيى بن آدم-: في كل قليل أو كثير من الأرض صدقة: العُشر أو نصف العُشر .(الخراج ص144).
وروى عن عطاء مثله.
وعن أبى رجاء العطاردي قال: كان ابن عباس بالبصرة يأخذ صدقاتها حتى "دساتج" الكراث .(المرجع السابق ص145 وفيه ضعف).
قال ابن حزم: وعن مجاهد وحماد بن أبى سليمان، وعمر بن عبد العزيز وإبراهيم النخعي، إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، قل أو كثر، وهو عن عمر بن عبد العزيز وإبراهيم وحماد بن أبى سليمان في غاية الصحة .(المحلى: 5/112).
فعن عمر بن عبد العزيز قال: في عشر "دستجات" بقل، دستجة .(المرجع السابق ص113، وانظر فتح القدير: 2/3 - طبع مصطفى محمد) (حزمة).
وقال داود الظاهري: ما كان يحتمل التوسيق (الكيل) فلا زكاة فيه حتى يبلغ خمسة أوسق، وما كان لا يحتمل التوسيق - مثل القطن والزعفران وسائر الخضراوات - فالزكاة في قليله وكثيره (المرجع نفسه ص241.
وهو نوع من التوفيق بين عموم حديث: "فيما سقت السماء العُشر"، وخصوص حديث: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة"نيل الأوطار: 4/151.
وحكى صاحب "البحر" عن الباقر والناصر مذهبًا آخر: أنه يعتبر النصاب في التمر والزبيب، والبر والشعير، إذ هي المعتادة، فانصرف إليها (البحر الزخار:2/169).
قال الشوكاني: وهو قصر للعام على بعض ما يتناوله بلا دليل (الجزء الرابع ص151).
تعقيب وترجيح
وإذا كنا رجحنا قول أبى حنيفة في إيجاب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض، فإننا نخالفه في عدم اعتبار النصاب، وإيجاب العُشر في القليل والكثير من الزرع والثمر، فإن هذا مخالف للحديث الصحيح الذي نفى وجوب الزكاة عما دون خمسة أوسق، ومخالف لنظرية الشريعة -بصفة عامة- في إيجاب الزكاة على الأغنياء وحدهم، والنصاب هو الحد الأدنى للغنى، ولهذا اعتبر النصاب في سائر الأموال الزكوية.
ولا يجوز معارضة حديث: " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " بحديث: "فيما سقت السماء العُشر" بدعوى أن هذا عام، وقد عارضه ذلك الخاص، ودلالة العام قطعية كالخاص، وإذا تعارضا قُدِّم الأحوط، وهو الوجوب.
نعم ..لا يقال ذلك، بل يقال ما قاله ابن القيم في هذا الموضع:
يجب العمل بكلا الحديثين، ولا يجوز معارضة أحدهما بالآخر، ولا إلغاء أحدهما بالكلية، فإن طاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- فرض في هذا وفى هذا، ولا تعارض بينهما -بحمد الله تعالى- بوجه من الوجوه، فإن قوله: "فيما سقت السماء العُشر" إنما أريد به التمييز بين ما يجب فيه العُشر، وما يجب فيه نصفه، فذكر النوعين مفرقًا بينهما في مقدار الواجب، وأما مقدار النصاب فسكت عنه في هذا الحديث، وبينه نصًا في الحديث الآخر، فكيف يجوز العدول عن النص الصحيح الصريح المحكم، الذي لا يحتمل غير ما أول عليه البتة، إلى المجمل المتشابه الذي غايته أن يتعلق فيه بعموم لم يقصدوا بيانه بالخاص المحكم المبين كبيان سائر العمومات بما يخصصها من النصوص"؟ .(إعلام الموقعين:3/229، 230).
وقال ابن قدامة:لنا قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" (متفق عليه)، وهذا خاص يجب تقديمه وتخصيص عموم ما رووه به، كما خصصنا قوله: "في كل سائمة من الإبل الزكاة" بقوله: "ليس فيما دون خمس ذود صدقة"، وقوله: "في الرقة ربع العُشر" بقوله:"ليس فيما دون خمس أواق صدقة" ولأنه مال تجب فيه الصدقة، فلم تجب في يسيره، كسائر الأموال الزكوية.
" وإنما لم يعتبر الحَوْل، لأنه يكمل نماؤه باستحصاده لا ببقائه، واعتبر الحَوْل في غيره، لأنه مظنة لكمال النماء في سائر الأموال، والنصاب اعتبر ليبلغ حدًا يحتمل المواساة منه، فلهذا اعتبر فيه.
" يحققه: أن الصدقة إنما تجب على الأغنياء، ولا يحصل الغنى بدن النصاب كسائر الأموال الزكوية " .(المغنى: 2/695،696).
نصاب الحبوب والثمار
جاءت الأحاديث الصحيحة بتقدير النصاب في الحبوب والثمار بخمسة أوسق، وأجمع العلماء أن الوسق ستون صاعًا، فالأوسق الخمسة ثلاثمائة صاع، وقد روى في ذلك حديث مرفوع: "الوسق ستون صاعًا"، ولكن الحديث ضعيف. (رواه ابن ماجة عن جابر وإسناده ضعيف، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة من طريق أبى البختري عن أبى سعيد مرفوعًا، وهو منقطع، لأن أبا البختري لم يسمع من أبى سعيد كما قال البخاري، بل لم يدركه كما قال أبو حاتم، ورواه الدارقطني عن عائشة، وهو ضعيف أيضًا، وقد بين الحافظ ضعفه من كل طرقه في التلخيص ص180 - طبع الهند)، والاعتماد في هذا التقدير على الإجماع الذي نقله ابن المنذر وغيره .(انظر المجموع: 5/447).
مقدار الصاع
إن معرفة الصاع أمر لازم لمعرفة نصاب الزرع والثمر، لأنه مقدر بالأوسق، والوسق مقدر بالصاع، كما أن زكاة الواجبة الفطر في كل عام مقدرة بالصاع أيضًا .(يحتاج إلى الصاع أيضًا في كفارة اليمين وفي فدية النسك)، فما هذا الصاع؟ وما مقداره؟
الصاع -كما في لسان العرب- مكيال لأهل المدينة يأخذ أربعة أمداد، وفي الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يغتسل بالصاع، ويتوضأ بالمد .(رواه أحمد ومسلم والترمذي وابن ماجة عن سفينة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال الترمذي: وفى الباب عن عائشة وجابر وأنس -انظر سنن الترمذي بتحقيق أحمد شاكر: 1/84)، وصاع النبي -صلى الله عليه وسلم- أربعة أمداد بمدهم المعروف عندهم.
والمد أيضًا مكيال، وقدروه بملء كفى الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومدَّ يده بهما، وبه سمى مدًا، قال صاحب القاموس: وقد جربت ذلك فوجدته صحيحًا.
وقد أرشد النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمة أن ترجع في مكاييلها إلى ما تعارف عليه أهل المدينة، وفى موازينها -كالدرهم والمثقال- إلى ما تعارف عليه أهل مكة، وفى هذا روى ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "المكيال مكيال أهل المدينة، والميزان ميزان أهل مكة".(قال الحافظ في التلخيص ص183: رواه البزار واستغربه، وأبو داود والنسائي من رواية طاووس عن ابن عمر، وصححه ابن حبان والدارقطني والنووي وأبو الفتح القشيري) وحكمة هذا التفريق -كما ذكرنا من قبل- أن أهل المدينة أهل زروع وثمار، فحاجتهم إلى المكاييل أكثر، وهى عندهم أدق وأضبط، أما أهل مكة فهم أهل تجارة، فتكون حاجتهم إلى الموازين -كالدينار والدرهم- أكثر، وبالتالي تكون عندهم أدق وأضبط.
اختلاف أهل الحجاز والعراق في الصاع
وإذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد جعل مكيال أهل المدينة هو المقياس الذي يرجع إليه ويعتمد عليه، فكان المتوقع أن يتفق المسلمون على مقدار الصاع وهو مكيال مدنى، ولكنهم اختلفوا في تقديره.
فأهل العراق -أبو حنيفة ومن وافقه- يقدرونه بثمانية أرطال (بالرطل البغدادي).
وأهل الحجاز -مالك والشافعي وأحمد وغيرهم- يقدرونه بخمسة أرطال وثلث رطل بغدادي.
دليل فقهاء العراق
وسند فقهاء العراق فيما قالوه: أن هذا قدر صاع عمر رضى الله عنه، فقد ثبت أنه ثمانية أرطال (بدائع الصنائع: 2/73)، وأيضًا صح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ بالمد، ويغتسل بالصاع .(مر تخريجه قريبًا)، وجاء في حديث آخر أنه كان يغتسل بثمانية أرطال (ذكر هذه الأحاديث في الأموال: ص514 - 516، وبين أبو عبيد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتوضأ أحيانًا بقدر الصاع، وأحيانًا بثمانية أرطال، وأحيانًا يتوضأ بالمد، وأخرى برطلين، فالأحاديث تحكى عن أحوال متعددة لا عن حال واحدة).
دليل فقهاء الحجاز
وحجة فقهاء الحجاز أن الخمسة الأرطال والثلث هي قدر صاع المدينة الذي توارثه أهلها خلفًا عن سلف عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، والمكيال مكيالهم، كما جاء في الحديث.
قال ابن حزم: هذا أمر مشهور بالمدينة،منقول نقل الكافة، صغيرهم وكبيرهم، وصالحهم وطالحهم، وعالمهم وجاهلهم، وحرائرهم وإمائهم، كما فعل أهل مكة بوضع الصفا والمروة والاعتراض على أهل المدينة في صاعهم ومدهم، كالمعترض على أهل مكة في موضع الصفا والمروة ولا فرق، وكمن يعترض على أهل المدينة في القبر والمنبر والبقيع، وهذا خروج عن الديانة والمعقول.
قال: وقد رجع أبو يوسف إلى الحق في هذه المسألة، إذ دخل المدينة ووقف على أمداد أهلها .(المحلى: 5/246).
يشير ابن حزم إلى القصة التي رواها البيهقي عن الحسين بن الوليد قال: قدم علينا أبو يوسف من الحج فأتيناه، فقال: إني أريد أن أفتح عليكم بابًا من العلم همني ففصحت عنه، فقدمت المدينة، فسألت عن الصاع فقالوا: صاعنا هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قلت لهم: ما حجتكم في ذلك؟ قالوا: نأتيك بالحجة غدًا، فلما أصبحت أتى نحو خمسين شيخًا من أبناء المهاجرين والأنصار مع كل رجل منهم الصاع تحت ردائه، كل رجل منهم يخبر عن أبيه وأهل بيته، أن هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنظرت فإذا هي سواء، قال: فعايرته فإذا هو خمسة أرطال وثلث بنقصان معه يسير، فرأيت أمرًا قويًا، فقد تركت قول أبى حنيفة في الصاع، وأخذت بقول أهل المدينة .(السنن الكبرى للبيهقي: 4/171، ويبدو أن مثل قصة أبى يوسف تكررت لغيره مع أهل المدينة، فقد روى الدارقطني عن إسحاق بن سليمان الرازي قال: قلت لمالك بن أنس: أبا عبد الله ! كم قدر صاع النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ قال: خمسة أرطال وثلث بالعراقي، أنا حزرته، فقلت: أبا عبد الله خالفت شيخ القوم، قال: من هو؟ قلت أبو حنيفة يقول ثمانية أرطال، فغضب غضبًا شديدًا ثم قال لجلسائنا: يا فلان هات صاع جدك، يا فلان هات صاع عمك، يا فلان هات صاع جدتك، قال إسحاق: فاجتمعت آصع، فقال: ما تحفظون في هذا؟ فقال هذا: حدثني أبي عن أبيه أنه كان يؤدى بهذا الصاع إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقال الآخر: حدثني أبي عن أمه أنها أدت بهذا الصاع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال مالك: أنا حزرت هذه فوجدتها خمسة أرطال وثلثًا (رواه الدارقطني والبيهقي بسند جيد، كما قال الشوكاني - نيل الأوطار: 4/196).
قال الحسين -راوي هذا الخبر-: فحججت من عامي ذلك، فلقيت مالك بن أنس فسألته عن الصاع فقال: صاعنا هذا صاع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقلت: كم رطلاً هو؟ قال: المكيال لا يرطل (يعنى لا يقدر بالوزن) وهو هذا (المرجع السابق).
وبعد الإمام مالك قال الإمام أحمد في القرن الثالث: الصاع وزنته فوجدته خمسة أرطال وثلثا حنطة، وقال حنبل: قال أحمد أخذت الصاع من أبى النضر، وقال أبو النضر: أخذته عن ابن أبى ذئب، وقال هذا صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- الذي يُعرف بالمدينة، قال أبو عبد الله -يعنى ابن حنبل- فأخذنا العدس فعيرناه به، وهو أصلح ما وقفنا عليه يكال به، لأنه لا يتجافى عن موضعه فكلنا به، ثم وزناه فإذا هو خمسة أرطال وثلث، وقال أحمد: هذا أصلح ما وقفنا عليه، وما تبين لنا من صاع النبي -صلى الله عليه وسلم- .(المغنى: 3/59).
هل يمكن التوفيق بين القولين؟
(أ) قال بعض الحنفية: إن أبا يوسف لما حرر الصاع وجده خمسة وثلثًا برطل أهل المدينة، وهذا المقدار يساوى ثمانية أرطال برطل بغداد، قال ابن الهمام: وهو أشبه؛ لأن محمدًا -رحمه الله- لم يذكر في المسألة خلاف أبى يوسف، ولو كان لذكره على المعتاد، وهو أعرف بمذهبه .(شرح فتح القدير: 2/42)، ومعنى هذا: أن الصاع واحد عند الحجازيين والعراقيين، ولكن الأرطال هي التي تختلف.
ولكن يرد هذا التخريج أن أبا يوسف قال في كتابه "الخراج" (صفحة 53 -طبع السلفية- الطبعة الثانية): الوسق ستون صاعًا بصاع النبي -صلى الله عليه وسلم- فالخمسة الأوسق ثلاثمائة صاع، والصاع خمسة أرطال وثلث، ولا يفهم من هذه الأرطال إلا أنها البغدادية، فإن الكتاب قد أُلِّف بناء على طلب الخليفة الرشيد، وعاصمته بغداد، وأبو يوسف بها، فكيف يقدَّر في بغداد الصاع بأرطال المدينة؟!
(ب) ووفَّق ابن تيمية بين قول الحجازيين وقول العراقيين توفيقًا آخر، بيَّن فيه: أنه كان هناك صاعان: صاع للطعام والحبوب، وصاع للمياه والطهارة، فصاع الطعام خمسة وثلث، وصاع الطهارة ثمانية أرطال، كما جاء بكل واحد منهما الأثر، فصاع الزكوات والكفارات وصدقة الفطر هو ثلثا صاع الغسل، قال: وهذا قول طائفة من أصحاب أحمد وغيرهم، ممن جمع بين الأخبار المأثورة في هذا الباب اهـ (القواعد النورانية لابن تيمية ص 89).
وعلى هذا الرأي تكون الأرطال واحدة، ولكن الصيعان هي التي تختلف.
(ج) وفي العصر الحديث بحث على باشا مبارك موضوع الصاع متعمدًا على النتائج التي وصل إليها بعض الباحثين من الأوربيين، فانتهى إلى أن الصاع الشرعي الذي عنته الأحاديث النبوية: خمسة أرطال وثلث - كما هو رأى فقهاء الحجاز (رسالة على باشا مبارك " الميزان في الأقيسة والأوزنة " طبع المطبعة الأميرية ببولاق ص 86 - 88 نقلاً عن الخراج في الدولة الإسلامية للأستاذ ضياء الدين الريس ص 301 - الطبعة الأولى).
ولكنه ساق تعليلاً آخر للخلاف السابق بما يفيد أن الخلاف صوري لا حقيقي فقد قال: "والفرق الناتج بين علماء العراق وغيرهم من علماء العرب نشأ من أن علماء العراق يعتبرون كمية الماء المظروف في المدّ أو في الصاع، وغيرهم اعتبر كمية الحب التي يستوعبها هذان الكيلان".
ثم قال: "وبالتأمل في ذلك يعلم أن خمسة أرطال وثلث رطل توافق ما يستوعبه من الحب، وثمانية أرطال توافق ما يستوعبه من الماء للغسل، والثمانية هي عدد تقريبي، لما ذكر بعضهم من أن الصاع أقل من ثمانية أرطال، وأكثر من سبعة وهو صحيح؛ لأنك إن أجريت الحساب باعتبار أن النسبة بين ثقل الحب وثقل الماء كالنسبة بين 3،4 تجد أن خمسة أرطال وثلثًا من حب القمح تعادل أكثر من سبعة أرطال من الماء، وأقل من ثمانية " (الخراج في الدولة الإسلامية - المرجع السابق).
ومعنى هذا: أن الأرطال واحدة، وأن الصاع واحد لدى الفريقين، وإنما اختلفت زاويتا النظر لدى كل منهما.
فأهل العراق -أو الأحناف- اعتبروا سعة الصاع بالماء، وبقية العلماء سواهم اعتبروا سعته بحسب الحب (نفس المرجع السابق).
ولكن لو كان الخلاف على هذه الصورة، فلماذا غضب مالك غضبه الشديد ولماذا عدل أبو يوسف عن رأيه، وخالف رأى شيخه وصاحبه أبى حنيفة؟
النتيجة
وإذن فالقول الصحيح الذي تعضده البراهين كلها هو قول أهل الحجاز، ومن وافقهم أن الصاع خمسة أرطال وثلث.
والواقع - كما قال الأستاذ الريس: " أنه لا ينبغي أن يبقى هناك شك، حول ذلك بعد أن قامت الأدلة على صحة هذا التقدير، من أقوال أكثر العلماء والمجتهدين، وفى طليعة الأدلة ذلك الخبر الذي ورد عن الإمام مالك، بأنه قام بمعايرة صيعان أهل المدينة التي كانت باقية منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك بحضور الخليفة الرشيد، وبعد مناقشة جرت بينه وبين القاضي أبى يوسف، فكان من جراء هذا الإثبات بالتجربة العلمية المشاهدة أن اقتنع أبو يوسف، وعدل عن قوله إلى قول مالك وأهل المدينة.
نقول: فمن أعلم من الإمام مالك بالتقاليد المأثورة للمدينة؟ وأي شهادة أكبر من شهادة الفقيه المجتهد أبى يوسف: قاضى الخلافة ومستشارها الأول؟
ثم إن هذا التحديد للصاع هو الذي يتفق مع كل النسب التي حددت للوحدات الأخرى، وتبدو هذه النسب به معقولة، مجارية لطبائع الأشياء، بخلاف ما إذا فرض التحديد الآخر، فيلحظ حينئذ تفارق كبير، وتجاوز لدائرة المعقول.
"وعلى أية حال فإن المد قد عرف أيضًا بأنه: "ملء كفى الإنسان المعتدل"، والصاع: "بأنه أربع حفنات"، فالذي يتصور، ألا تتجاوز الكمية الأولى رطلاً وثلثاَ، والثانية مثل ذلك أربع مرات (الخراج في الدولة الإسلامية ص 302،303).
نصاب الحبوب والثمار بالمقاييس العصرية
ما دام قد ثبت لنا كل من الصاع والمد بالأرطال البغدادية، فمن الممكن أن نعرف مقدارها بأي مقياس آخر: بالأرطال المصرية مثلاً، أو بالدراهم أو الجرامات، أو اللترات، إذ أن النسب بين هذه الأمور ثابتة .(الخراج في الدولة الإسلامية ص303).
وإذا عرفنا مقدار الصاع عرفنا -بالتالي- مقدار الوسق، الذي جعل الشارع خمسة منه نصاب الحب والثمر.
والنصاب -كما قال ابن قدامة- معتبر بالكيل، فإن الأوساق مكيلة، وإنما نقلت إلى الوزن لتضبط وتحفظ وتنقل، ولذلك تعلق وجوب الزكاة بالمكيلات دون الموزونات، والمكيلات تختلف في الوزن، فمنها الثقيل كالحنطة والعدس، ومنها الخفيف كالشعير والذرة، ومنها المتوسط، وقد نص أحمد على أن الصاع خمسة أرطال وثلث من الحنطة .(المغنى: 2/701).
وقال بعض أهل العلم: أجمع أهل الحديث على أن مد النبي -صلى الله عليه وسلم- رطل وثلث قمحًا من أواسط القمح، وهذا يدل على أنهم قدروا الصاع بالثقيل، فأما الخفيف فتجب الزكاة فيه إذا قارب هذا وإن لم يبلغه (المغنى: 2 / 701)، ومن هنا سيكون أساس تقديرنا هو وزن القمح الوسط.
ومن حيث إن نسبة الرطل البغدادي إلى الرطل المصري هي كنسبة (9 إلى 10) كما حقق على مبارك (الخراج في الدولة الإسلامية ص304 - 305)، فإن الصاع بالأرطال المصرية =3/1 5 × 10/9=4.8 أرطال مصرية (قمحًا) .(المرجع السابق)، وهذا الرقم يساوى بالجرامات (2156) حسب الوزن بالقمح.
وهذا المقدار يساوى بالماء 2.75 لترًا.
وإذا كان الإردب المصري الحالي = 128 لترًا (بالماء) وهو مكون من 96 قدحًا.
فبعملية حسابية نجد أن الصاع = 3/1 1 قدحًا أي 6/1 كيلة مصرية.
فالكيلة المصرية الحالية =6 آصع، والإردب = 72 صاعًا (حدث خطًأ حسابي في الطبعات السابقة، حيث كتب بدل رقم 2.156 رقم 2.176، وقد صححنا الخطأ في هذه الطبعة فنرجو استدراكه فيما سبق من طبعات).
ويكون الوسق -وهو 60 صاعًا- يساوى 6/60 = 10 كيلات مصرية.
فالأوسق الخمسة - وهي النصاب الشرعي = 5×10 = 50 كيلة مصرية، أي أربعة أرادب وويبة.
وهذه النتيجة توافق ما انتهى إليه الشيخ على الأجهوري من علماء المالكية - في منتصف القرن الحادي عشر الهجري- من ضبط النصاب بالكيل المصري فوجده كذلك، فقد ذكر أنه حر النصاب عام 1042 هـ (سنة اثنتين وأربعين وألف)، بكيل مصر فوجده أربعة أرادب وويبة، وذلك لأن المد -كما تقرر- ملء اليدين المتوسطتين غير مقبوضتين ولا مبسوطتين، قال: وقد وجدت القدح المصري يأخذ ملأهما ثلاث مرات كما حررت ذلك بأيدي جماعة، ومن المعلوم أن النصاب ثلاثمائة صاع، والصاع أربعة أمداد، فيكون النصاب بالقدح المصري 400 (أربعمائة) قدح، وهي أربعة أرادب وويبة .(حاشية العدوى على شرح الخرشي: 2/168).
أما بالوزن فيساوى النصاب بالأرطال المصرية = 300 × 4.8 = 440 رطلاً من القمح.
وبالكيلو جرامات يوازي = 300 × 2.156 =646.96 كيلو جرام قمح، وبالتقريب = 647 ك ج (بناء على تصحيح مقدار الصاع أصبح الوسق 647 ك ج بدل 653 في الطبعات السابقة).
نصاب غير المكيلات
ما ذكرنا من النصاب "الأوسق الخمسة" إنما هو في المكيلات من الحاصلات الزراعية، أما ما لا يقدر بالكيل كالقطن والزعفران فقد اختلفوا في تقدير نصابه:
(أ) قال أبو يوسف: يعتبر فيه القيمة، وذلك أن تبلغ قيمة الخارج من قطن وغيره قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يكال من الحبوب، كالشعير مثلاً، وإنما قال ذلك لأن الأصل اعتبار الوسق حيث ورد به النص، غير أنه إن أمكن اعتباره صورة ومعنى اعتبر، وإن لم يمكن يجب اعتباره معنى، وهو قيمة الموسوق بدائع الصنائع:2/61، واعتبار الأدنى لحظ الفقراء.
وعلى هذا تجب زكاة القطن إذا كان ثمن الخارج منه يساوى ثمن خمسين كيلة من الشعير، باعتباره أرخص الحبوب الآن على ما نعلم، وخاصة في مصر.
(ب) وقال محمد: المعتبر إنما هو خمسة أمثال أعلى ما يقدر به ذلك الشيء، لأن التقدير بالوسق في المكيلات لم يكن إلا لأن الوسق أعلى ما يقدر به في بابه المرجع السابق.
وعلى هذا إذا كان القطن يقدر بالقناطير في عصرنا، فنصابه خمسة قناطير، وهكذا ولكن يؤخذ على هذا التقدير أن النصاب به لا ينضبط، لاختلاف الأقطار بل البلدان في القطر الواحد في اعتبار أعلى ما يقدر به نوع من الحاصلات مما يؤدي إلى الاضطراب والاختلاف الشديد.
(جـ) وذهب بعضهم إلى تقويم نصاب غير المكيل بمائتي درهم -أي بنصاب النقود- كمال التجارة، إذ هو مزكى لا نصاب له في نفسه فاعتبر بغيره البحر الزخار: 2/170.
(د) وقال داود: ما لا يكال تجب الزكاة في قليله وكثيره المغنى: 2/697.
(هـ) وعند أحمد: أن ما لا يكال يقدر بالوزن، ولهذا قدر نصاب الزعفران والقطن وشبههما بألف وستمائة رطل بالعراقي، لأنه ليس بمكيل، فيقوم وزنه مقام كيله المرجع السابق: 2/697، 698، لأن النصاب الذي جاء به الشرع قد عرف مقداره بالوزن، كما عرف بالكيل، فالأولى - فيما لا يكال أن يقدر بالوزن، وهو 647 كيلو جرام كما بيناه.
قال ابن قدامة -معقبًا على الأقوال الأخرى-: ولا أعلم لهذه الأقوال دليلاً ولا أصلاً يعتمد عليه، ويردها قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة".
وإيجاب الزكاة في قليله وكثيره مخالف لجميع أموال الزكاة.
واعتباره بغيره مخالف لجميع ما يجب عُشره، واعتباره بأقل ما فيه الزكاة قيمة لا نظير له أصلاً، وقياسه على العروض لا يصح، لأن العروض لا تجب الزكاة في عينها، وإنما تجب في قيمتها، وتؤدى من القيمة التي اعتبرت بها.
ولأن هذا مال تخرج الزكاة من جنسه فاعتبر نصابه بنفسه كالحبوب.
ولأنه خارج من الأرض يجب فيه العُشر أو نصفه، فأشبه سائر ما يجب فيه ذلك.
ولأنه لا نص فيما ذكروه ولا إجماع، ولا هو في معناهما، فوجب ألا يقال به لعدم دليله نفس المرجع السابق.
الرأي الذي نختار
والرأي الذي أختاره هو اعتبار القيمة فيما لا يوسق ولا يكال لأنه مال زكوي لم ينص الشرع على نصابه فاعتبر بغيره وإذا كان لا بد من اعتبار النصاب بغيره، فليعتبر بقيمة ما يوسق للنص عليه، كما ذهب أبو يوسف ولكنى أخالف الإمام أبا يوسف في اعتباره القيمة بأدنى ما يوسق كالشعير والأذرة ونحوها، فإنه -وإن كان فيه رعاية لحظ الفقراء- لا يخلو من إجحاف بأرباب الأموال.
ولهذا أرى أن يقدر بأوسط ما يوسق من المكيلات المعروفة، لا بالأدنى ولا بالأعلى، رعاية للطرفين: الفقراء والممولين معًا.
وأوسط ما يوسق يختلف باختلاف الأقطار والأزمنة والأحوال الاقتصادية ولذا يجب أن يترك تحديده إلى أهل الرأي في كل بلد فقد يكون في بلد هو القمح، ويكون في آخر هو الأرز مثلاً وعلى هذا يمكن تقدير النصاب في الزعفران والنرجس وغيرهما من الحاصلات الغالية الثمن - التي لا تنتج الأرض منها عادة مثل ما تنتج من الأذرة والشعير - بقيمة 647 ك ج من غلة متوسطة في بلادنا كالقمح أو الأرز.
ومثل ذلك القطن وقصب السكر ونحوهما
متى يعتبر النصاب؟
والنصاب إنما يعتبر بعد الجفاف في الثمار، أي بعد أن يصير الرطب تمرًا، والعنب زبيبًا، وبعد التصفية والتنقية من القشر في الزروع.
قال الغزالي في الوجيز: ثم هذه الأوسق تعتبر زبيبًا أو تمرًا، وفى الحبوب منقى عن القشر إلا فيما يطحن مع قشره كالذرة، وما لا يتتمر يوسق رطبًا (انظر الوجيز وشرحه للرافعي - مع المجموع:5/568) وما كان يدخر في قشره كالأرز، فلا يكلف أهله إزالة قشره عنه لما في ذلك من الضرر عليهم.
أما النصاب فقدره بعض الفقهاء بضعف المنقى عن القشر، ليكون الصافي منه نصابًا، والأولى أن يرجع في ذلك إلى تقدير الخبراء فى كل نوع من الحبوب، وكل صنف منها على حدة، بحيث يعتبر أن يكون الصافي منها نصابًا المرجع السابق ص569، والمغنى: 2/697.


admin 02-28-2011 10:34 PM

مقدار الواجب وتفاوته
 
مقدار الواجب وتفاوته

العُشر و نصف العُشر
روى البخاري عن ابن عمر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فيما سقت السماء والعيون، أو كان عثريًا: العُشر، وفيما سُقى بالنضح: نصف العُشر"قال الحافظ في التلخيص ص180: رواه البخاري وابن حبان وأبو داود والنسائي وابن الجارود، ورواه مسلم من حديث جابر، والترمذي وابن ماجة عن أبى هريرة، والنسائي وابن ماجة من حديث معاذ والعثري -كما قال الأزهري وغيره- مخصوص بما سقى من ماء السيل، فيجعل عاثورًا، وهو شبه ساقية تحفر ويجرى الماء إلى أصوله، وسمى كذلك؛لأنه يتعثر به المار الذي لا يشعر به، والنضح: السقي بالسانية ذكره الحافظ في التلخيص ص 180 وهو البعير الذي يستقى به الماء من البئر ويقال له -: الناضح، والجمع: سوانٍ ونواضح.
وروى مسلم عن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فيما سقت الأنهار والغيم العُشر، وفيم سُقى بالسانية نصف العُشور"رواه أيضًا أحمد والنسائي وأبو داود (نيل الأوطار: 4/139 - طبع العثمانية)
والغيم: المطر، والعُشور: جمع عُشر.
وروى يحيى بن آدم في الخراج عن أنس قال: "فرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما سقت السماء العُشر، وفيما سُقى بالدوالي والسواني والغرب والناضح:نصف العُشر" التلخيص ص181 والغرب: الدلو الكبير.
وروى ابن ماجة عن معاذ: بعثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى اليمن فأمرني أن آخذ مما سقت السماء وما سقى بعلاً العُشر، وما سقى بالدوالي نصف العُشر أخرجه ابن ماجة في باب "صدقة الزروع والثمار" عن عاصم بن أبى النجود عن أبى وائل عن مسروق عن معاذ (نصب الراية: 2/385).
قال أبو عبيد: البعل ما شرب بعروقه من غير سقى (ككثير من الكروم والبساتين في فلسطين) وهكذا كل ما سُقي بغير آلة وكلفة سواء أكان من المطر، أو من ماء ينصب إليه من جبل أو نهر أو عين كبيرة، أو يشرب بعروقه فكله فيه العُشر انظر: الروضة للنووي: 2/244.
قال في المغنى: وفي الجملة كل ما سُقي بكلفة ومؤونة من دالية أو سانية أو دولاب أو ناعور أو غير ذلك ففيه نصف العُشر، وما سقي بغير مؤونة ففيه العُشر، لما روينا من الخبر، ولأن للكلفة تأثيرًا في إسقاط الزكاة جملة، بدليل العلوفة، فبأن تؤثر في تخفيفها أوْلى، ولأن الزكاة إنما تجب في المال النامي وللكلفة تأثير في تقليل النماء، فأثرت في تقليل الواجب " المغنى:2/698، 699.
ويدخل في الكلفة أن يشترى الماء لأرضه أو بستانه كما قال النووي وغيره الروضة: 2/245.

ما سقي بعض العام بكلفة وبعضه بغير كلفة
(أ) فإن سقي الزرع نصف السنة بكلفة ونصفها بغير كلفة، ففيه ثلاثة أرباع العُشر، قال ابن قدامة: ولا نعلم فيه مخالفًا، لأن كل واحد منهما لو وُجِد في جميع السنة لوجب مقتضاه، فإذا وُجِد في نصفها أوجب نصفه المغنى: 2/699.
(ب) وإن سُقِي بأحدهما أكثر من الآخر اعتبر أكثرهما، فوجب مقتضاه وسقط حكم الآخر، وهو قول عطاء والثوري وأبى حنيفة وأحد قولي الشافعي والمعتمد عند الحنابلة والقول الآخر: يسقط الواجب على عدد السقيات، لأنهما لو كانا نصفين أخذ بالحصة، فكذلك إذا كان أحدهما أكثر كما لو كانت الثمرة نوعين.
ورجح الأول بأن اعتبار مقدار السقي وعدد مراته وقدر ما يشرب في كل سقية يشق ويتعذر، فكان الحكم للأغلب منهما كالسوم في الماشية (انظر المغنى: 2/700).
(جـ) وإن جُهِل المقدار غلّبنا إيجاب العُشر احتياطًا، لأن الأصل وجوب العُشر وإنما يسقط بوجود الكلفة، فما لم يتحقق المسقط يبقى على الأصل، ولأن الأصل عدم الكلفة في الأكثر، فلا يثبت وجودها مع الشك فيه المغنى:2/700.

هل يعتبر الجهد في غير السقي؟
بقى النظر فيما إذا ثقلت المؤونة بسبب آخر غير سقيه بالآلات ونحوها، كأن يحتاج إلى حفر الترع والمصارف والقنوات ونحو ذلك.
والذي أفاده صاحب المغنى في هذا المقام أن حفر الأنهار والقنوات، لا يؤثر في نقصان الزكاة، وعلل ذلك بأنه من جملة إحياء الأرض ولا يتكرر كل عام المغنى: 2/699.
ومثل ذلك أفاده الرافعي في الشرح الكبير، وعلله بأن مؤونة القنوات إنما تتحمل لإصلاح الضيعة، والأنهار تُشَق لإحياء الأرض، فإذا تهيأت وصل الماء إلى الزرع بطبعه مرة أخرى، فيكون فيه العُشر، بخلاف السقي بالنواضح ونحوها الشرح الكبير مع المجموع: 5/578.
وفصل الإمام الخطابى فقال: وأما الزرع الذي يُسقى بالقنى (القنوات) فالقياس على هذا أن ينظر، فإن كان لا مؤونة فيها أكثر من مؤونة الحفر الأول وكسحها في بعض الأوقات، فسبيلها سبيل النهر والسيح في وجوب العُشر فيها، وإن كان تكثر مؤونتها بأن لا تزال تتداعى وتنهار، ويكثر نضوب مائها، فيحتاج إلى استحداث حفر، فسبيلها سبيل ماء الآبار التي يُنزح منها بالسواني والله أعلم معالم السنن: 2/207.
وتبعه في هذا التفصيل بعض الشافعية، كما ذكر الرافعي في الشرح الكبير نفس المصدر الأسبق، وانظر الروضة للنووي: 2/244.

admin 02-28-2011 10:37 PM

تقدير الواجب بالخرص
 
تقدير الواجب بالخرص
شرعية الخرص وفوائده
سن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في النخيل والأعناب: تقدير النصاب ومقدار الواجب فيها بالخرص دون الكيل أو الوزن.
ومعنى الخرص في اللغة: الحزر والتخمين، فهو إذن تقدير ظني يقوم به رجل عارف مجرب أمين، وذلك إذا بدا صلاح الثمار، فيحصى الخارص ما على النخيل والأعناب من الرطب والعنب ثم يقدِّره تمرًا وزبيبًا، ليعرف مقدار الزكاة فيه، فإذا جفت الثمار أخذ الزكاة التي سبق تقديرها منها.
وفائدة الخرص مراعاة مصلحة الطرفين: رب المال والمستحقين، فرب المال يملك بالخرص التصرف في نخيله وعنبه بما شاء، على أن يضمن قدر الزكاة.
والعامل على الزكاة -وهو وكيل المستحقين- قد عرف الحق الواجب فيطالب به المهذب مع المجموع: 5/477.
قال الخطابى: وفائدة الخرص ومعناه: أن الفقراء شركاء أرباب الأموال في الثمر، فلو منع أرباب المال من حقوقهم ومن الانتفاع بها، إلى أن تبلغ الثمرة غاية جفافها، لأضر ذلك بهم، ولو انبسطت أيديهم فيها لأخلّ ذلك بحصة الفقراء منها، إذ ليس مع كل أحد من التقية (التقوى) ما تقع به الوثيقة في أداء الأمانة، فوضعت الشريعة هذا العيار، ليتوصل به أرباب الأموال إلى الانتفاع، ويحفظ على المساكين حقوقهم، وإنما يفعل ذلك عند أول وقت بدو صلاحها، قبل أن يؤكل ويستهلك، ليعلم حصة الصدقة منها، فيخرج بعد الجفاف بقدرها: تمرًا وزبيبًا معالم السنن: 2/210.
وممن كان يرى الخرص عمر بن الخطاب وسهل بن أبى حثمة، ومروان والقاسم بن محمد والحسن وعطاء والزهري وعمرو بن دينار، ومالك والشافعي وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور وأكثر أهل العلم.
وأنكره أبو حنيفة؛ لأنه رجم بالغيب، وظن وتخمين لا يلزم به حكم، كما أنكر القرعة انظر: الأموال ص492،493، واحتج الجمهور بالأحاديث التالية:
1- ما رواه سعيد بن المسيب رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وفيه انقطاع، لأن سعيد بن المسيب لم يسمع من عتاب، فالحديث مرسل، ولكنه اعتضد بغيره من الأحاديث وبعمل الصحابة، وعمل أكثر أهل العلم، كما قال النووي (التلخيص ص181) عن عتاب بن أسيد: " أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يبعث على الناس من يخرص عليهم كرومهم وثمارهم ".
2- وعن سعيد بن المسيب -في رواية عنه- قال:"أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يُخرص العنب كما يُخرص النخل، وتؤخذ زكاته زبيبًا، كما تؤخذ زكاة النخل تمرًا " رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن حبان والدارقطني، وفيه الانقطاع الذي ذكرناه (المصدر السابق).
3- وقد عمل به النبي -صلى الله عليه وسلم- فخرص على امرأة بوادي القرى حديقة لها -عام تبوك- وكان خرصه عشرة أوسق، وقال للمرأة: أحصي ما يخرج منها، فأحصته فكان كما قال -صلى الله عليه وسلم- متفق عليه من حديث أبى حميد الساعدي (المصدر نفسه).
4- وروى أبو داود عن عائشة قالت -وهى تذكر شأن خيبر-: "كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يبعث عبد الله بن رواحة إلى يهود، فيخرص النخل حين يطيب، قبل أن يؤكل منه" قال المنذري: في إسناده رجل مجهول (مختصر السنن للمنذري: 2/213).
5- وعن سهل بن أبى حثمة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وإذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" رواه الخمسة إلا ابن ماجة، ورواه ابن حبان والحاكم في المستدرك: 1/402، وأبو عبيد في الأموال ص485، والبيهقي في السنن: 4/123، وابن حزم في المحلى: 5/255 وقد سكت عنه أبو داود والمنذري، وصححه ابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي قال الحاكم: "وله شاهد بإسناد متفق على صحته: أن عمر بن الخطاب أمر به" ولم يحكم الترمذي عليه بشىء، ولكنه ذكر أن العمل عليه عند أكثر أهل العلم (انظر مختصر السنن: 2/213).
قال الخطابى -في معالم السنن-: في هذا الحديث إثبات الخرص والعمل به، وهو قول عامة أهل العلم، إلا ما روى عن الشعبي: الخرص بدعة، وأنكر أصحاب الرأي الخرص، وقال بعضهم، إنما كان ذلك الخرص تخويفًا للأكرة (الزراع) لئلا يخونوا فأما أن يلزم به حكم فلا وذلك أنه ظن وتخمين، وفيه غرر وإنما كان جوازه قبل تحريم الربا والقمار.
قال الخطابى ردًا عليهم: " العمل بالخرص ثابت، وتحريم الربا والقمار والميسر متقدم، وبقى الخرص يعمل به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طول عمره، وعمل به أبو بكر وعمر -رضى الله عنهما- في زمانهما، وعامة الصحابة على تجويزه، ولم يُذكر عن أحد منهم فيه خلاف.
"فأما قولهم: إنه ظن وتخمين فليس كذلك، بل هو اجتهاد في معرفة مقدار الثمار، وإدراكه بالخرص الذي هو نوع من المقادير والمعايير، كما يعلم ذلك بالمكاييل والموازين، وإن كان بعضها أحصر من بعض.
وإنما هذا كإباحة الحكم بالاجتهاد عند عدم النص، مع كونه معرَّضا للخطأ، وفى معناه تقويم المتلفات عن طريق الاجتهاد، وباب الحكم بالظاهر باب واسع لا ينكره عالم معالم السنن: 2/212.

وقت الخرص
ووقت الخرص: حين يبدو صلاح الثمر، لقول عائشة: "كان -صلى الله عليه وسلم- يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص عليهم النخل حين يطيب "ولأن فائدة الخرص معرفة ما يجب بالزكاة، وإطلاق أرباب الثمار في التصرف فيها، والحاجة إنما تدعو إلى ذلك حين يبدو الصلاح وتجب الزكاة المغنى: 2/707.

خطأ الخارص
إذا أخطأ الخارص التقدير -فزاد أو نقص- فقد روى عن القاسم بن محمد -أحد الفقهاء السبعة بالمدينة- أن رجلاً سأله في ذلك فقال: إنما عليك ما خرص، إنما هو الخراص كاسمه الأموال ص494، 495.
وإلى هذا ذهب مالك، قال: إذا كان الخارص مأمونًا سالمًا فتحرى الصواب فزاد أو نقص، فهو جائز على ما خرص الأموال ص494، 495 (يذهب مالك إلى أنه حكم واقع لا نقض له).
قال أبو عبيد - معقبًا على هذا القول:" وإنما وجه هذا عندي، إذا كان ذلك الغلط مما يتغابن الناس في مثله، ويغلطون به، فإذا جاء من ذلك ما يفحش، فإنه يرد إلى الصواب وليس هذا بالمفسد لأمر الخرص؛ لأن هذا الغلط الفاحش لو وقع في الكيل لكان مردودًا أيضًا، كما يرد في الخرص، إلا أن يكون ما زاد أو نقص بقدر ما يكون بين الكيلين، فيجوز حينئذ" الأموال ص494، 495.
وقال ابن حزم: إذا غلط الخارص أو ظلم فزاد أو نقص: رد الواجب إلى الحق، فأعطى ما زيد عليه، وأخذ منه ما نقص، لقول الله تعالى: (كونوا قوَّامين بالقسط)النساء: 135 والزيادة من الخارص ظلم لصاحب الثمرة، ونقصان الخارص ظلم لأهل الصدقات، وإسقاط لحقهم، وكل ذلك إثم وعدوان قال: فإن ادعى أن الخارص ظلمه أو أخطأ لم يصدق إلا ببينة إن كان الخارص عدلاً عالمًا " المحلى: 5/256 ولكن تفصيل أبى عبيد أرفق وأقرب إلى الواقع وأولى بالاختيار.

هل يخرص غير النخيل والأعناب؟
والجمهور على أنه لا يخرص غير النخيل والكرم، فلا يخرص الزيتون مثلاً، لأن حبه -كما قالوا- متفرق في شجره، مستور بورقه، ولا حاجة بأهله إلى أكله، بخلاف النخل والكرم، فإن ثمرة النخل مجتمعة في عذوقه، والعنب في عناقيده، فيمكن أن يأتي الخرص عليه، والحاجة داعية إلى أكلهما في حال رطوبتهما، وبهذا قال مالك وأحمد المغنى:2/710، 711.
وقال الزهري والأوزاعى والليث: يخرص الزيتون ونحوه، لأنه ثمر تجب فيه الزكاة ويخرص كالرطب والعنب البحر الزخار: 2/172.
والذي أختاره في هذا: أن يكون مدار الجواز هو إمكان الخرص والحاجة إليه، وأن يترك الرأي فيه لأهل الاختصاص والخبرة، فما رأوا أن تقديره ميسور لهم بوسائلهم الفنية، وكانت إدارة الزكاة تحتاج إلى ذلك، لضبط أمورها، وتحديد إيراداتها، أو كان أرباب المال محتاجين أيضًا إليه ليمكنهم التصرف في الثمر رطبًا، أخذ به قياسًا على ما ورد به النص من خرص الرطب والعنب، وما لا فلا.

admin 02-28-2011 10:38 PM

ماذا يترك لأصحاب الزرع والثمر
 
ماذا يترك لأصحاب الزرع والثمر


1- تقدم في المبحث السابق حديث سهل بن أبى حثمة، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع ".
2- وروى ابن عبد البر عن جابر مرفوعًا "خففوا في الخرص".(ذكره في نيل الأوطار: 2/144 - طبع العثمانية، وقال: في إسناده ابن لهيعة).
3- وروى أبو عبيد بإسناده عن مكحول قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث الخراص قال: خففوا فإن في المال العرية والوطية" (الأموال ص487، وأخرجه أيضًا الطحاوي ص315 بإسناد جيد بلفظ: "خففوا في الصدقات، فإن في المال العرية والوطية " - انظر: فيض الباري: 3/47).
4- وروى أيضًا عن الأوزاعي قال: "بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: خففوا عن الناس في الخرص! فإن في المال العرية والواطئة والآكلة " (الأموال، المرجع السابق).
والعرية -كما قال أبو عبيد-: هي النخلة يعريها صاحبها رجلاً محتاجًا، والإعراء: أن يجعل له ثمرة عامها.
والواطئة: السابلة، سموا بذلك لوطئهم بلاد الثمار مجتازين.
والوطية: الأرض التي تطؤها الأرجل.
والآكلة: هم أرباب الثمر وأهلوهم ومن لصق بهم، فكان معهم .(المرجع السابق).
5- وروى أيضًا عن بشير بن يسار: أن عمر بن الخطاب بعث أبا حثمة الأنصاري على خرص أموال المسلمين، فقال إذا وجدت القوم في نخلهم قد خرفوا، فدع لهم ما يأكلون، لا تخرصه عليهم .(ورواه أيضًا الحاكم مختصرًا (1/402، 403)، ورواه ابن حزم في المحلى: 5/359).
6- وعن سهل بن أبى حثمة أن مروان بعثه خارصًا للنخل، فخرص مال سعد بن أبى سعد سبعمائة وسق، وقال لولا أنى وجدت فيه أربعين عريشًا لخرصته تسعمائة وسق، ولكنى تركت لهم قدر ما يأكلون .(المحلى:5/260).
وكان تلك العرش مظال ومساكن لهؤلاء الأكلة أيام الثمار، كما قال أبو عبيد.
والحديث الأول قد صححه جماعة من الأئمة، وقد اعتضد بحديث جابر ومرسل مكحول، وبالآثار المذكورة عن الصحابة، وهم أعلم الناس بهدى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحرصهم على اتباعه، قال ابن حزم: "هذا فعل عمر بن الخطاب وأبى حثمة وسهل: ثلاثة من الصحابة بحضرة الصحابة -رضى الله عنهم- لا مخالف لهم يُعرف منهم" .(المحلى:5/260)، وقد دلّت هذه الأحاديث والآثار على وجوب الرفق بأرباب الأموال والتخفيف عنهم، والترك لهم، تقديرًا لحاجتهم وظروفهم.
قال في المغنى: على الخارص أن يترك في الخرص الثلث أو الربع، توسعة على أرباب الأموال، لأنهم يحتاجون إلى الأكل هم وأضيافهم، ويطعمون جيرانهم وأهلهم وأصدقاءهم وسؤالهم ويكون في الثمرة السقاطة، وينتابها الطير، ويأكل منها المارة، فلو استوفى الكل منهم أضرَّ بهم، وبهذا قال إسحاق، ونحوه قال الليث وأبو عبيد والمرجع في تقدير المتروك إلى الساعي باجتهاده، فإن رأى الأكلة كثيرًا ترك الثلث، وإن كانوا قليلاً ترك الربع، فإن لم يترك لهم الخارص شيئًا، فلهم الأكل قدر ذلك، ولا يحتسب عليهم به، لأنه حق لهم.
فإن لم يخرج الإمام خارصًا، فاحتاج رب المال إلى التصرف في الثمرة، فأخرج خارصًا، جاز أن يأخذ بقدر ذلك وإن خرص هو وأخذ بقدر ذلك جاز، ويحتاط في ألا يأخذ أكثر مما له أخذه " ا هـ .(المغنى: 2/709، 710).
وما لم يخرص من الثمار والزروع، وترك لأمانة أهله، فقد قال فيه صاحب المغنى: "لا بأس أن يأكلوا منه ما جرت العادة بأكله، ولا يحتسب عليهم، وسئل أحمد عما يأكل أرباب الزروع من الفريك، قال: لا بأس به أن يأكل منه صاحبه ما يحتاج إليه، وذلك لأن العادة جارية به، فأشبه ما يأكله أرباب الثمار من ثمارهم" .(المغنى: 2/709، 710).
وقال أبو يوسف ومحمد: يراعى ما يأكل الرجل وصاحبه وجاره حتى لو أكل جميعه رطبًا لم يجب عليه شيء.
وخالف مالك وأبو حنيفة في ذلك، فلم يريا أن يترك لأرباب الزرع والثمر شيء، حتى حسبا عليهم ما أكلوه أو أطعموه، قبل الحصاد والجني .(انظر: بداية المجتهد 0جـ1، وبدائع الصنائع: 2/64).
قال ابن العربى: وساعدهما الثوري على أنه لا يُترك لهم شيء، وهذا يدل على أن مالكًا وسفيان لم يراعيا حديث سهل بن أبى حثمة في الرفق في الخرص وترك الثلث أو الربع، أو لم يرياه .(شرح الترمذي: 3/143).
وقال أبو محمد بن حزم في المحلى: لا يجوز أن يعد على صاحب الزرع في الزكاة ما أكل هو وأهله فريكًا أو سويقًا، قلّ أو كثر، ولا السنبل الذي يسقط فيأكله الطير أو الماشية أو يأخذه الضعفاء، ولا ما تصدَّق به حين الحصاد لكن ما صفى فزكاته عليه، برهان ذلك ما ذكرنا قبل، أن الزكاة لا تجب إلا حين إمكان الكيل، فما خرج عن يده قبل ذلك، فقد خرج قبل وجوب الصدقة فيه، وقال الشافعي والليث كذلك، وقال مالك وأبو حنيفة: يعدّ على كل ذلك.
قال أبو محمد: "هذا تكليف ما لا يُطاق، وقد يسقط من السنبل ما لو بقى لأتم خمسة أوسق، وهذا لا يمكن ضبطه، ولا منه المنع أصلاً، الله تعالى يقول: (لاَ يكلف اللهُ نَفْسًا إلا وُسْعَهَا)(البقرة: 286).
قال: "وأما التمر ففُرِض على الخارص أن يترك له ما يأكل هو وأهله رطبًا على السعة، لا يُكلَّف عنه زكاة وهو قول الشافعي والليث بن سعد .(المحلى: 5/259) واستدل ابن حزم لذلك بحديث سهل بن أبى حثمة، والآثار التي ذكرناها عن عمر وأبى حثمة وسهل من الصحابة.
واختلف الذين تركوا العمل بحديث سهل هنا في الإجابة عنه.
فمنهم من قال: كان في حالة خاصة وهى أرض خيبر.
ومنهم من قال: معنى الحديث أن يترك لهم الثلث أو الربع من العُشر الواجب، ليفرقوه بأنفسهم على الفقراء من أقاربهم وجيرانهم، ومن يعرفهم ويطلب منهم، فلا يحتاج المالك أن يغرم ذلك مرة أخرى من ماله وهذا التفسير مروى عن الشافعي.
وله قول آخر قديم: أن يترك له نخلة أو نخلات يأكله أهله، ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل في كثرة عياله وقلَّتهم .(قال النووي في الروضة (2/250): هذا القديم، نص عليه أيضًا في البويطي، ونقله البيهقي عن نصه في البويطى، والبيوع والقديم).
وأجاب بعضهم بأن المراد به مؤونة الزرع -أي نفقته- أو مؤونة الأرض، فيوضع ذلك ولا يُحسب في النصاب.
قال ابن العربى في شرح الترمذي: والمتحصل من صحيح النظر أن يُعمل بالحديث، وهو قدر المؤونة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رطبًا، وسيأتي ذلك في المبحث القادم.
والذي أختاره: هو الأخذ بما دلّ عليه حديث سهل وما عضده من أخبار وآثار، وهو الذي عمل به أمير المؤمنين عمر، وذهب إليه أحمد وإسحاق والليث والشافعي في القديم، وابن حزم.
والحق: أن هذا الحديث قد أعطانا مبدأ هامًا في باب الزكاة، وهو رعاية الحاجات المعقولة لصاحب المال وعائلته، وتقدير الظروف المخففة عنه ووضعها في الاعتبار، عند تقدير الواجب عليه.
وهذا يؤكد الشرط العام الذي شرحناه من قبل في فصل "المال الذي تجب فيه الزكاة" وهو شرط "الفضل عن الحوائج الأصلية".
ورعاية الظروف الشخصية والعائلية للمكلَّف التي حرص عليها الإسلام، أمر لم يعرفه التفكير والتشريع الضريبي إلا في وقت قريب، إذ كان المعروف هو فرض الضريبة على "عَيْن" المال دون التفات إلى ظروف صاحبه وحاجاته وديونه.

admin 02-28-2011 10:40 PM

اقتطاع الديون والنفقات وتزكية الباقي
 
اقتطاع الديون والنفقات وتزكية الباقي


هل يدفع قدر الدَّيْن والنفقة من الخارج ويزكى الباقي؟
أما الدَّيْن الذي يكون على رب الزرع والثمر فهو نوعان:
منه ما يكون لأجل النفقة على الزرع، كما إذا استدان في ثمن البذر والسماد أو أجرة العمال، ونحو ذلك من النفقات.
ومنه ما يكون لأجل نفقة صاحب الزرع على نفسه وأهله.
فما الحكم في كلا الدَّيْنين؟
روى أبو عبيد في الأموال بسنده عن جابر بن زيد، قال في الرجل يستدين فينفق على أهله وأرضه، قال: قال ابن عباس: يقضى ما أنفق على أرضه، وقال ابن عمر: يقضى ما أنفق على أرضه وأهله .(الأموال ص509).
ورواه يحيى بن آدم في الخراج عنه قال: قال ابن عمر: يبدأ بما استقرض، فيقضيه ويزكِّي ما بقى، وقال: قال ابن عباس: يقضي ما أنفق على الثمرة ثم يزكِّي ما بقى (الخراج ص162، وقال الشيخ أحمد شاكر في تعليقه عليه: إسناده صحيح).
فقد اتفق ابن عباس وابن عمر على قضاء الدّيْن الذي أنفقه على الأرض والثمرة، وزكاة الباقي فقط، واختلفا في الدّيْن إذا كان على نفسه وأهله.
وكذلك روى أبو عبيد عن مكحول أنه قال في صاحب الزرع المدين: لا تؤخذ منه الزكاة حتى يقضى دينه، وما فضل بعد ذلك زكّاه، إذا كان مما تجب فيه الزكاة .(الأموال ص 509).
وكذلك يرى عن عطاء وطاووس .(المرجع السابق).
وقالت طائفة من أهل العراق بمثل ما جاء عن ابن عمر وعطاء وطاووس ومكحول .(نفس المرجع).
ومن فقهاء العراق الذين ذهبوا هذا المذهب: سفيان الثوري:كما روى ذلك يحيى بن آدم .(الخراج ص 163).
وعن أحمد بن حنبل روايتان: قال في إحداهما: من استدان ما أنفق على زرعه، واستدان ما أنفق على أهله، احتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله؛ لأنه من مؤونة الزرع والرواية الثانية: أن الدَّيْن كله يمنع الزكاة .(المغنى: 2/727).
فهو في الرواية الأولى وافق ابن عباس، وفي الثانية وافق ابن عمر.
قال في المغنى: فعلى هذه الرواية يحسب كل دَيْن عليه، ثم يُخرج العُشر مما بقى إن بلغ نصابًا، وإن لم يبلغ نصابًا فلا عُشر فيه، وذلك لأن الواجب زكاة، فيمنع الدَّيْن وجوبها، كزكاة الأموال الباطنة، ولأنه دَيْن فيمنع وجوب العُشر كالخراج وما أنفق على زرعه، والفرق بينهما على الرواية الأولى: أن ما كان من مؤونة الزرع فالحاصل في مقابلته يجب صرفه إلى غيره، فكأنه لم يحصل .(المغنى: 2/727).
وقد رجح أبو عبيد مذهب ابن عمر ومَن وافقه في رفع كل الديون من الخارج، وتزكية الباقي، بشرط أن تثبت صحة الدَّيْن، قال:" إذا كان الدَّيْن صحيحًا قد علم أنه على رب الأرض فإنه لا صدقة عليه فيها، ولكنها تسقط عنه لدَيْنه كما قال ابن عمر وطاووس وعطاء ومكحول، ومع قولهم أيضًا إنه موافق لاتباع السُنَّة، ألا ترى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إنما سنَّ أن تؤخذ الصدقة من الأغنياء، فتُردّ في الفقراء، وهذا الذي عليه دَيْن يحيط بماله ولا مال له، هو من أهل الصدقة، فكيف تؤخذ منه الصدقة وهو من أهلها؟، أم كيف يجوز أن يكون غنيًا فقيرًا، في حال واحدة؟ ومع هذا إنه من الغارمين -أحد الأصناف الثمانية- فقد استوجبها من جهتين " ا هـ .(الأموال ص510).
أما الخراج -وهو تلك الضريبة العقارية المفروضة على رقبة الأرض- فهل يطرح مقداره من الخارج ويزكى الباقي أم لا؟
روى يحيى بن آدم عن سفيان بن سعيد الثوري أنه قال فيما أخرجت الخراجية: "ارفع دَيْنك وخراجك، فإن بلغ خمسة أوسق بعد ذلك، فزكها" .(الخراج ص163).
وروى أبو عبيد عن إبراهيم بن أبى عبلة قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن عوف -أو ابن أبى عوف- عامله على فلسطين، فيمن كانت في يده أرض بجزيتها من المسلمين: أن يقبض جزيتها، ثم يأخذ منها زكاة ما بقى بعد الجزية .(الأموال ص88) والمراد بجزية الأرض هنا "الخراج".
فعمر وسفيان يعفيان ما يقابل الخراج من الزكاة، ويزكيان الباقي فقط إن بلغ نصابًا، وكان عمر من أئمة الهدى.
وإلى نحو هذا ذهب أحمد، واستدل له في "المغنى" بأن الخراج من مؤونة الأرض، فيمنع وجوب الزكاة في قدره، كما ذهب إليه ابن عباس وابن عمر من قضاء ما أنفق على الزرع وتزكية الباقي .(المغنى: 2/727).
وينبغي أن يقاس على الخراج أجرة الأرض على الزارع المستأجر، فإن جمهور الفقهاء عدّوا الخراج بمنزلة أجرة الأرض، وقد روى عن شريك نحو ذلك، قال يحيى بن آدم: سألتُ شريكًا عن الرجل يسـتأجر أرضًا بيضاء من أرض العُشر، بطعام مسمى، فزرعها طعامًا، قال: يعزل ما عليه من الطعام ثم يزكِّى ما بقى: العُشر أو نصف العُشر، ثم قال: كما يعزل الرجل ما عليه من الدّيْن، ثم يزكِّى ما بقى من ماله .(الخراج ص161).
بقى أن نعرف حكم النفقة على الزرع والثمر إذا لم تكن دَيْنًا ولا خراجًا، مثل ما ينفقه من ماله هو على البذر والسماد والحرث والري والتنقية والحصاد وغير ذلك: هل ترفع هذه النفقات والتكاليف -أعنى القدر المقابل لها من المحصول ويزكِّى الباقي، كما اخترناه في رفع ما يقابل الدَّيْن والخراج؟ أم تجب الزكاة في جميع المحصول؟
قال ابن حزم: لا يجوز أن يعد الذي له الزرع والثمر ما أنفق في حرث أو حصاد أو جمع أو درس أو تزبيل -أو تسميد بالزبل- أو جذاذ أو حفر أو غير ذلك، فيسقطه من الزكاة، وسواء تداين في ذلك أم لم يتداين، أتت النفقة على جميع قيمة الزرع أو الثمر أو لم تأت، وهذا مكان قد اختلف السلف فيه.
ثم ذكر ابن حزم بسنده عن جابر بن زيد عن ابن عباس وابن عمر في الرجل ينفق على ثمرته، فقال أحدهما: يزكيها وقال الآخر: يرفع النفقة، ويزكى الباقي.
وعن عطاء: أنه يسقط مما أصاب النفقة، فإن بقى مقدار ما فيه الزكاة زكى، وإلا فلا، ورد ابن حزم على هذا القول بأنه لا يجوز إسقاط حق أوجبه الله تعالى بغير نص قرآن ولا سُنَّة ثابتة قال: وهذا قول مالك والشافعي وأبى حنيفة وأصحابنا أ.هـ .(المحلى: 5/258).
والأثر الذي رواه ابن حزم هنا عن ابن عباس وابن عمر يفيد أن أحدهما يقول برفع النفقة وتزكية الباقي، والآخر يخالفه في ذلك، وقد ذكرناه قريبًا، من رواية يحيى بن آدم وأبى عبيد: أنهما سئلا عما يستدينه الرجل فينفق على ثمرته وعلى أهله، وأن ابن عباس أفتى بأنه يقضى ما أنفق على الثمرة ثم يزكى ما بقى، وأن ابن عمر وافقه على ذلك، وزاد عليه قضاء ما أنفق على نفسه وأهله.
فهذه الفتوى من الصحابيين الجليلين فيما أنفقه الزارع على زرعه وثمرته استسلافًا واستدانة، أما ما أنفقه من ماله دون استسلاف، فقد سكتا عنه، إلا على رواية ابن حزم المذكورة هنا.
وأصرح وأشمل ما ورد عن السلف في رفع ما يقابل النفقة والمؤونة من الخارج، وتزكية الباقي، سواء أكانت النفقة دَيْنًا أم غير دَيْن هو مذهب عطاء الذي ذكره ابن حزم، ورواه يحيى بن آدم عن إسماعيل بن عبد الملك، قال قلتُ لعطاء: الأرض أزرعها، فقال: ارفع نفقتك، وزكِّ ما بقى .(الخراج ص161، ورواه ابن أبى شيبة: 4/23 - طبع ملتان بالهند).
وتعرض ابن العربى في شرح الترمذي لهذه المسألة فقال: اختلف قول علمائنا، هل تحط المؤونة من المال المزكى، وحينئذ تجب الزكاة -أي في الصافي- أو تكون مؤونة المال وخدمته -حتى يصير حاصلاً- في رب المال، وتؤخذ الزكاة من الرأس -أي من إجمالي الحاصل؟ فذهب إلى أنه الصحيح أن تحط وترفع من الحاصل، وأن الباقي هو الذي يؤخذ عُشره، واستدل لذلك بحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعوا الثلث أو الربع"، وأن الثلث أو الربع يعادل قدر المؤونة تقريبًا، فإذا حسب ما يأكله رطبًا، وما ينفقه من المؤونة تخلص الباقي ثلاثة أرباع، أو ثلثين، قال: ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب .(شرح الترمذي: 3/143).
ومعنى كلام ابن العربى: أنه لا يجمع بين ترك الثلث أو الربع الذي جاء الحديث به، وبين حط المؤن والنفقات وطرح قدرها من الحاصل، فإنها داخلة في الثلث أو الربع المتروك غالبًا، ومقتضى كلامه: أنها إذا زادت عن الثلث تحط أيضًا، وأن ذلك يُعمل به في كل زرع وثمر، سواء أكان يخرص أم لا.
وردّ ابن الهمام على هذا الرأي: بأن الشارع حكم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤونة، فلو رفعت المؤونة كان الواجب واحدًا، وهو العُشر دائمًا في الباقي؛ لأنه لم ينزل إلى نصفه إلا المؤونة، والفرض أن الباقي بعد رفع قدر المؤنة لا مؤنة فيه، فكان الواجب دائمًا العُشر، لكن الواجب قد تفاوت شرعًا، مرة العُشر ومرة نصفه، بسبب المؤونة، فعلمنا أنه لم يعتبر شرعًا عدم عُشر بعض الخارج -وهو القدر المساوي للمؤونة- أصلاً أ.هـ .(فتح القدير: 2/8).
الذي يلوح لنا أن الشارع حكم بتفاوت الواجب في الخارج بناء على تفاوت المشقة والجهد المبذول في سقي الأرض، فقد كان ذلك أبرز ما تتفاوت به الأراضي الزراعية، أما النفقات الأخرى فلم يأت نص باعتبارها ولا بإلغائها، ولكن الأشبه بروح الشريعة إسقاط الزكاة، عما يقابل المؤونة من الخارج، والذي يؤيد هذا أمران:
الأول: أن للكلفة والمؤونة تأثيرًا في نظر الشارع، فقد تقلل مقدار الواجب، كما في سقي بآلة، جعل الشارع فيه نصف العُشر فقط، وقد تمنع الوجوب أصلاً كما في الأنعام المعلوفة أكثر العام، فلا عجب أن تؤثر في إسقاط ما يقابلها من الخارج من الأرض.
الثاني: أن حقيقة النماء هو الزيادة، ولا يعد المال زيادة وكسبًا إذا كان أنفق مثله في الحصول عليه، ولهذا قال بعض الفقهاء: إن قدر المؤونة بمنزلة ما سلم له بعوض، فكأنه اشتراه، وهذا صحيح.
هذا على ألا تحسب في ذلك نفقات الري التي أنزل الشارع الواجب في مقابلها من العُشر إلى نصفه.
فمن كانت له أرض أخرجت عشرة قناطير من القطن تساوى مائتي جنيه، وقد أنفق عليها -في غير الري- مع الضريبة العقارية، مبلغ ستين جنيهًا (أي ما يعادل ثلاثة قناطير) فإنه يخرج الزكاة عن سبعة قناطير فقط، فإذا كانت سقيت سيحًا ففيها العُشر أو بآلة فنصف العُشر والله أعلم.

admin 02-28-2011 10:44 PM

زكاة الأرض المستأجرة
 
زكاة الأرض المستأجرة


الزكاة على المالك إذا زرعها
1- مالك الأرض إما أن يزرعها بنفسه، إن كان من أهل الزرع، وهذا أمر محمود شرعًا، فزكاة ما يخرج منها حينئذ -عُشر أو نصف العُشر عليه؛ لأن الأرض أرضه والزرع زرعه.

الزكاة في إعارة الأرض على المستعير
2- وإما أن يعيرها لغيره من أهل الزراعة يزرعها ويستفيد منها، بدون مقابل، وهذا أمر حمده الإسلام وحث عليه .(وفي هاتين الطريقتين جاءت الأحاديث الصحيحة: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها أخاه" ومن السلف من رأى ذلك واجبًا، ومنهم من رأى أنه كان واجبًا فى أول الأمر ثم نسخ، ويرى ابن عباس أن الأمر هنا للندب والاستحباب لا للوجوب - انظر: كتابنا " الحلال والحرام " ص228، 229 - الطبعة الرابعة) فالزكاة هنا على الزارع الذي منح الأرض وانتفع بها بغير أجرة ولا كراء .(المغنى: 2/728).

المالك والشريك في المزارعة يشتركان في الزكاة
3- وإما أن يزارع عليها مزارعة صحيحة بربع ما يخرج منها أو ثلثه أو نصفه -حسب اتفاقهما- فالزكاةعلى كل واحد من الطرفين في حصته إذا بلغت النصاب، أو كان له زرع آخر إذا ضم إليها بلغت نصابًا.
وإن بلغت حصة أحدهما النصاب دون صاحبه، فعلى من بلغت حصته النصاب زكاتها ولا شيء على الآخر؛ لأنه مالك لما دون النصاب فلا يعد غنيًا شرعًا، والزكاة إنما تؤخذ من الأغنياء، وقد جاء عن الشافعي -كما نقلت رواية عن أحمد- أنهما يعاملان معاملة شخص واحد فيلزمهما العُشر، إذا بلغ الزرع جميعه خمسة أوسق، ويخرج كل واحد منهما عُشر نصيبه .(المغنى: 2/728).

الزكاة على المالك أم المستأجر؟
4- وإما أن يؤجرها بالنقود أو بشيء معلوم -كما أجاز ذلك جمهور الفقهاء فمن الذي يدفع العُشر أو نصفه؟ مالك الأرض الذي يملك رقبتها، وينتفع بما يتقاضاه من إيجارها؟ أم المستأجر الذي ينتفع بزراعتها فعلاً، وتخرج له الحب والثمر؟

مذهب أبى حنيفة
قال أبو حنيفة: العُشر على المالك بناء على أصل عنده: أن العُشر حق الأرض النامية لا حق الزرع، والأرض هنا أرض المالك، ولأن العُشر من مؤونة الأرض فأشبه الخراج .(المغنى: 2/728)، ولأن الأرض كما تستنمي بالزراعة، تستنمي بالإجارة فكانت الأجرة مقصودة كالثمر، فكان النماء له معنى، مع تمتعه بنعمة الملك، فكان أولى بالإيجاب عليه (فتح القدير: 2/8).
وروى ذلك عن إبراهيم النخعي (الخراج ليحيى بن آدم ص172 - طبع السلفية رواه من طريق الحسن بن عمارة -معروف وهو متروك، كما هو معروف).

مذهب الجمهور
وذهب جمهور الفقهاء إلى أن العُشر على المستأجر: لأن العُشر حق الزرع لا حق الأرض، والمالك لم يخرج له حب ولا ثمر، فكيف يزكى زرعًا لا يملكه بل هو لغيره؟

سبب الاختلاف
قال ابن رشد: والسبب في اختلافهم: هل العُشر حق الأرض أو حق الزرع؟ أو حق مجموعهما؟ إلا أنه لم يقل أحد: إنه حق لمجموعهما، وهو في الحقيقة حق مجموعهما.
فلما كان عندهم أنه حق الأمرين اختلفوا في أيهما أولى أن ينسب إلى الموضع الذي فيه الاتفاق -وهو كون الزرع والأرض لمالك واحد.
فذهب الجمهور إلى أنه للشيء الذي تجب فيه الزكاة، وهو الحب.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه للشيء الذي هو أصل الوجوب وهو الأرض .(بداية المجتهد: 1/239).

الترجيح في هذه المسألة
رجح صاحب "المغنى" رأي الجمهور بأن العُشر واجب فى الزرع فكان على مالكه، قال: ولا يصح قولهم: إنه من مؤونة الأرض؛ لأنه لو كان من مؤونتها لوجب فيها وإن لم تزرع كالخراج، ولوجب على الذمي كالخراج ولتقدر بقدر الأرض لا بقدر الزرع ولوجب صرفه إلى مصارف الفيء دون مصرف الزكاة .(المغنى: 2/728).
وقال الرافعي في الشرح الكبير: لا فرق بين ما تنبته الأرض المملوكة والأرض المكتراة (المُستأجرة) في وجوب العُشر، ويجتمع على المكترى العُشر والأجرة، كما لو اكترى حانوتًا للتجارة تجب عليه الأجرة وزكاة التجارة جميعًا .(شرح الرافعي الكبير مع المجموع: 5/566).
وهذا التشبيه غير مسلم؛ فإن زكاة التجارة تجب في كل حول فيما بقى لدى التاجر من رأس مال نام - بعد أن يكون قد دفع في أثناء الحول أجرة حانوته وغيرها من الأجور والنفقات، ولو كان عليه أجرة سنة أو أشهر لكانت دينًا عليه يطرحه مما في يديه ثم يزكى ما بقى، أما زكاة الزرع فلا يعتبر لها حول، بل تجب عند الحصاد، فليس بممكن دفع الأجرة من الزرع قبل الزكاة كما هو الشأن في أجرة الحانوت.
لهذا قد يبدو من الإجحاف بالمستأجر أن يبذل في الأرض جهده وعرقه، ثم يدفع أجرتها ثم يطالب بعد ذلك بالعشر على حين يتسلم مالك الأرض أجرته خالصة سائغة ولا يطالب بشيء إلا أن يحول الحول على الأجرة أو بعضها.
إن العدل أن يشترك الطرفان في الزكاة: كل فيما استفاده، فلا يعفى المستأجر إعفاءً كليًا من وجوب الزكاة -كما ذهب أبو حنيفة-، ولا يعفى المالك إعفاءً كليًا ويجعل عبء الزكاة كلها على المستأجر - كما ذهب الجمهور.
ولقد انتبه ابن رشد -بعقله الفلسفي- إلى أن الواجب في الأرض المزروعة ليس حق الأرض وحدها، ولا حق الزرع فقط، ولكنه حق مجموعهما.
ومعنى هذا: أن يشترك صاحب الأرض وصاحب الزرع فيما يجب من العُشر أو نصفه، وهذا -فيما أرى- هو الراجح.
ولكن كيف يشتركان في أداء الواجب وعلى أي أساس يقوم ذلك؟.
لقد اخترنا مذهب القائلين بأن الزكاة في صافى الربع من الزرع، وأن الديون والخراج ونفقات الزراعة والبذر يرفع ما يوازيها من المحصول ثم يزكى ما بقى إن بلغ نصابًا.
وأجرة الأرض بلا شك من نفقات الزرع، وهى كالخراج فيجب أن تعد دينًا على المستأجر، فيقتطع من الخارج ما يقابل الأجرة -مع باقي الديون والنفقات- ثم يخرج العُشر أو نصفه من الباقي إذا بلغ النصاب.
فإذا كان إيجار الأرض 20 (عشرين جنيهًا) مثلاً، وأخرجت من القمح 10 (عشرة) أرادب، وكان الإردب يساوى خمسة جنيهات (فيكون مقدار الخارج 10 × 5 = 50 جنيهًا) فإنه يخرج عن 6 أرادب فقط، والأربعة الأخرى تُطرح مقابل الإيجار.
ولو كان الإيجار 30 جنيهًا (أي ما يوازي ثمن 6 أرادب، لكان الباقي 4 (أربعة) أرادب -48 كيلة- وهو دون النصاب فلا زكاة فيه).
أما مالك الأرض فليس عليه أن يُخرج العُشر أو نصف العُشر من الزرع والثمر، فإنه ملك لغيره وإنما عليه -فيما نرى- أن يزكى ما دفع إليه بدلاً من الزرع وهو الأجرة التي يقبضها.
وذلك: أنه لو زارع عليها بنصف ما يخرج منها مثلاً لكان عليه أن يخرج زكاة حصته من المحصول إذا بلغ نصابًا، فيخرج العُشر أو نصف العُشر حسب سقى الأرض أيضًا.
وهناك كذلك يُخرج المالك زكاة الأجرة - التي هي مقابل نصف الخارج مثلاً في الزراعة- عُشرًا أو نصف عُشر حسب سقي الأرض المستأجرة وهذا بشرط أن تبلغ قيمة نصاب من الزرع القائم بالأرض لأنها بدل عنه، فإن كان عليه دَيْن أو خراج (ضريبة على الأرض) أخرجه من الأجرة وزكى ما بقى، ومثل الدَّيْن والخراج ما يفتقر إليه في حوائجه الأصلية، كالقوت له ولعائلته والملبس والمسكن والعلاج.
فإن المحتاج إليه في هذا كالمعدوم، ولهذا شبَّهه الفقهاء بالماء المحتاج إليه للشرب في جواز التيمم مع وجوده، لأنه اعتبر كأن لم يكن.
وبما قلناه يكون كل من مالك الأرض وزارعها المستأجر قد اشتركا في زكاتها بما يوافق العدل المنشود، ويناسب ما انتفع به منها.
فالمستأجر يؤدى زكاة ما أخرج الله له منها -من زرع حصده وثمر اجتناه- سالمًا من الدَّيْن والأجرة ونفقات الزرع.
والمالك يؤدى زكاة ما يسر الله له من أجرة عادت عليه من الأرض خالصة سائغة سالمة من الدَّيْن وضريبة الأرض ونحوها.
فالجزء الذي طرح من نصيب المستأجر الزارع -وهو ما يقابل الأجرة من المحصول والذي أعفى من زكاته- دخل في نصيب المالك وأدى عنه الزكاة الواجبة وهو أحق بها وأولى بأدائها من المستأجر في هذا القدر.
وبهذه المساهمة العادلة من المالك والمستأجر نكون قد أخذنا بأحسن ما قال أبو حنيفة وأحسن ما قال الجمهور، وأوجبنا على كل من الطرفين -المالك والزارع- ما هو أحق به وما هو مالك له، مع تفادى ازدواج الزكاة الواجبة، وتكررها في مال واحد، فإن القدر الذي زكى عنه المالك قد طرح ما يعادله من نصيب المستأجر.
ونوضح ذلك بمثال: رجل يملك عشرة أفدنة أجرها ليزرعها أرزًا مثلاً، وكانت أجرة الفدان 20 جنيهًا، فأخرجت الأرض 100 (مائة إردب) من الأرز، الذي يقدر ثمن الإردب منه بـ 4 (أربعة) جنيهات، فكيف يخرجان الزكاة؟
أما المستأجر فيطرح من الخارج ما يساوى الإيجار وهو 50 (خمسون) إردبًا (50 × 4 = 200 جنيه وهو إيجار 10 × 20 = 200 جنيه)، وإذا كان قد أنفق على زرعه في البذر والسماد 40 (أربعين) جنبهًا أخرى (أي ما يعادل 10 أرادب) يكون الصافي المتبقي له 40 إردبًا، فإذا كان الواجب عليه نصف العشر مثلاً فهو يخرج عنها 2 (إردبين) وأما المالك فيخرج زكاة الجنيهات المائتين التي قبضها، فإن كان عليه خراج أو ضريبة تساوى 40 (أربعين) جنيهًا، ويكون الباقي له = 160 جنيهًا، فعليه إذن نصف عشرها أي 8 (ثمانية) جنيهات.
كتبت هذا الرأي منذ سنة 1383 هـ (1963م) ولم يقبله كثير من علماء الأزهر آنذاك، وقد قرأت أخيرًا في كتاب " تنظيم الإسلام للمجتمع " لأستاذنا الشيخ أبو زهرة (ص 159) قوله: "لقد اقترح بعض علماء هذا العصر في مشروع قانون للزكاة: أن تؤخذ من المالك والمستأجر، فيؤخذ من كل واحد منهما زكاة عما يصل إليه صافيًا، بعد أخذ الضرائب بالنسبة للمالك، وبعد تكليفات الزرع بالنسبة للمستأجر"، وهذا بحمد الله نفس ما رجحته وانتهيت إليه.

admin 02-28-2011 10:47 PM

هل يجتمع العُشر والخراج؟
 
هل يجتمع العُشر والخراج؟



وهذا الأمر قد أحدث مشكلة فقهية؛ فمن المعلوم أن الأرض إذا زرعها مسلم يجب عليه أن يخرج من زرعها أو ثمرها العُشر أو نصفه زكاة مفروضة، فهل يجب عليه هذا العُشر مع الخراج أم يعفى من أحدهما؟
أما الخراج فهو مؤبد -كما قلنا- ولا سبيل إلى إسقاطه، فهل يمكن إسقاط العُشر عنه أم يجب الاثنان معًا؟

admin 02-28-2011 10:49 PM

الأرض العُشرية
 
الأرض العُشرية


اشترط الحنفية لوجوب العُشر أو نصفه في الزروع والثمار: ألا تكون الأرض خراجية، فإذا كانت الأرض خراجية لم يجب فيها إلا ما فُرض على رقبتها من خراج سنوي معلوم، وهو شبيه بما يسمى الآن "ضريبة الأملاك العقارية"، وأما الزكاة في الخارج من الأرض -أعنى العُشر أو نصفه- فليس بواجب في هذه الحال عند الحنفية.
وخالفهم جمهور الفقهاء، وأوجبوا العُشر في كل أرض سواء أكانت عُشرية أم خراجية، ولهذا كان مما لا بد منه في هذا المبحث بيان الأرض العُشرية ما هي، والأرض الخراجية ما هي، وأن نعرف منشأ الخلاف بين الفريقين، ثم نعرض أدلة كل منهما، ونرجح ما نراه راجحًا.
فمتى تكون الأرض عُشرية؟ ومتى تكون خراجية؟
الأرض العُشرية
تكون الأرض عُشرية من أحد أنواع ذكرها أبو عبيد في "الأموال":
أحدهما: كل أرض أسلم عليها أهلها فهم مالكون لرقابها، كالمدينة، والطائف، واليمن، والبحرين، وكذلك مكة، إلا أنها كانت افتتحت بعد القتال، ولكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عليهم فلم يعرض لهم في أنفسهم، ولم يغنم أموالهم، فلما خلصت لهم أموالهم، ثم أسلموا بعد ذلك، كان إسلامهم على ما في أيديهم، فلحقت أرضوهم بالعُشرية.
والنوع الثاني: كل أرض أخذت عنوة (أي فتحت بعد حرب وقتال بين أصحابها وبين المسلمين)، ثم إن الإمام لم ير أن يجعلها فيئًا موقوفًا، ولكنه رأى أن يجعلها غنيمة فخمسها، وقسم أربعة أخماسها بين الذين افتتحوها خاصة كفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأرض خيبر (وكانت مِلكًا لليهود قبل قتالهم)، فهذا أيضًا ملك أيمانهم ليس فيها غير العُشر، وكذلك الثغور كلها إذا قسمت بين الذين افتتحوها خاصة، وعزل عنها الخمس لمن سمى الله تبارك وتعالى.
والنوع الثالث: كل أرضعادية (قديمة) لا رب لها ولا عامر، أقطعها الإمام رجلاً إقطاعًا، من جزيرة العرب أو غيرها، كفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء بعده، فيما أقطعوا من بلاد اليمن واليمامة والبصرة وما أشبهها.
والنوع الرابع: كل أرض ميتة استخرجها (استحياها) رجل من المسلمين فأحياها بالماء والنبات.
فهذه الأرضون التي جاءت فيها السنة بالعُشر أو نصف العُشر، وكلها موجودة في الأحاديث، فما أخرج الله تبارك وتعالى من هذه فهي صدقة إذا بلغت خمسة أوسق فصاعدًا.
توضع في الأصناف الثمانية التي ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة براءة من أهل الصدقة خاصة لهم دون الناس " .(الأموال ص512، 513).





admin 02-28-2011 10:51 PM

أنواع الأرض الخراجية ومنشؤها
 
أنواع الأرض الخراجية ومنشؤها


قال أبو عبيد:وما سوى هذه البلاد، فلا تخلوا من أن تكون أرض عنوة صيرت فيئًا كأرض السواد (سواد العراق) والأهواز وفارس وكرمان وأصبهان والري وأرض الشام -سوى مدنها- ومصر والمغرب.
أو تكون أرض صلح مثل: نجران وأيلة وأذرح ودومة الجندل وفدك، وما أشبهها مما صالحهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلحًا، أو فعلته الأئمة بعده، كبلاد الجزيرة وبعض بلاد أرمينية، وكثير من كور خراسان.
فهذان النوعان من الأرضين: الصلح والعنوة التي تصير فيئًا، تكونان عامًا للناس في الأعطية وأرزاق الذرية، وما ينوب الإمام من أمور العامة أ.هـ .(الأموال ص531 - 614، وانظر الخراج لأبى يوسف ص 69).
يعنى أن ما يؤخذ عنهما من خراج يوضع في ميزانية الدولة العامة ويصرف منها على الجيش والرواتب ونحوها، وفي المصالح العامة للأمة كلها في جانب الإنتاج أو الخدمات.
ويقصد أبو عبيد بما فتح عنوة: الأرض التي حارب أهلها المسلمين ولم يعقدوا معهم صلحًا، بل حكم بينهم وبين المسلمين السيف وحده، فهذه الأرض للإسلام فيها سياسة خاصة، أومأ إليها القرآن .(في آيات سورة الحشر(7 - 11) التي ذكر فيها تقسيم الفيء، والتي استدل بها سيدنا عمر على وقف رقبة الأرض لأجيال المسلمين جميعًا) وبدأ بتنفيذها الرسول -صلى الله عليه وسلم- .(حيث قسم نصف أرض خيبر على الفاتحين، ووقف نصفها الآخر لما ينويه من أمر المسلمين كما دلت على ذلك بعض الروايات) ووضح تطبيقها في عهد عمر بن الخطاب، وملخص هذه السياسة نقل ملكية رقبة هذه الأرض من الأفراد المالكين إلى مجموع الأمة الإسلامية كلها في سائر الأجيال؛ فليس ملكها لشخص أو أشخاص بل هي للمسلمين جميعًا، وذلك لما لملكية الأرض من أهمية اقتصادية وسياسية واجتماعية، ويجب أن نذكر أن توزيع تلك الأراضي في عصور الجاهلية كان في غالبه توزيعًا ظالمًا، تختص فيه الأسر الحاكمة ومن يلوذ بها من الإقطاعيين وأمثالهم بصفوة الأرض، ويعيش الفلاحون فيها رقيقًا أو كالرقيق.
وقد عبر الفقهاء عن حكم الإسلام فيها بأنها تصير وقفًا للمسلمين، يضرب عليها خراج معلوم يؤخذ منها في كل عام -ويقدر حسب طاقة الأرض يكون أجرة لها، وتقر في أيدي أربابها ما داموا يؤدون خراجها، سواء أكانوا مسلمين أم من أهل الذمة ولا يسقط خراجها بإسلام أربابها ولا بانتقالها إلى مسلم؛ لأنه بمنزلة أجرتها .(المغنى: 2/716).
هذا ما صنعه عمر -رضى الله عنه- بما افتتح في عهده من أرض العراق والشام، ولم يستجب لبلال ومن معه، الذين سألوه أن يقسم الأرض على الفاتحين، كما تقسم بينهم غنيمة العسكر، فأبى عمر عليهم وتلا عليهم آيات سورة الحشر: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) ثم قال: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) الآية، ثم قال تعالى: (والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم) ثم قال: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان) الآية.(الحشر: 7-10).
قال عمر: قد أشرك الله الذين يأتون من بعدكم في هذا الفى، فلو قسمته لم يبق لمن بعدكم شيء ولئن بقيت ليبلغن الراعي بصنعاء نصيبه من هذا الفيء ودمه في وجهه .(الخراج لأبى يوسف ص23 - 24).
ومعنى: "دمه في وجهه" أن كرامته مصونة؛ إذ يقال لمن يسأل الناس: أراق ماء وجهه.
وقد نبهت الآية الكريمة على حكمة توزيع هذا الفيء على الطبقات الضعيفة المحتاجة بهذه الكلمة الرائعة: (كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم) فسبق بهذا المبدأ ما نادى به -بعد قرون طويلة- دعاة العدالة الاجتماعية وأنصار الاشتراكية.
وقررت الآيات توزيع عائد الفيء توزيعًا عادلاً، لا زال غرة في جبين الإنسانية، فجعلت نصيبًا فيه للجيل الحاضر من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم وصودرت ملكياتهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله، ومن الأنصار الذين فتحوا صدورهم ودورهم لإخوانهم المهاجرين فآووا ونصروا، وآثروا على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة.
وأشركت مع هذا الجيل الذي بذل وضحى أجيالاً أخرى، عبر عنهم القرآن بقوله: (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا).(الحشر:10).
وبهذا علمتنا الآيات الكريمة أن الأمة كلها وحدة متكاملة على اختلاف الأمكنة، وامتداد الأزمنة، وأنها -على مر العصور- حلقات متماسكة، يعمل أولها لخير آخرها، ويغرس سلفها ليجنى خلفها، ثم يأتي الآخر فيكمل ما بدأه الأول، ويفخر الأحفاد بما فعله الأجداد، ويستغفر اللاحق للسابق، ولا يلعن آخر الأمة أولها.
وبهذا التوزيع العادل تفادى الإسلام خطأ الرأسمالية التي تؤثر مصلحة الجيل الحاضر ومنفعته، مغفلة -في الغالب- ما وراءه من الأجيال، كما تجنب خطأ الشيوعية التي تتطرف كثيرًا إلى حد التضحية بجيل أو أجيال قائمة، في سبيل أجيال لم تطرق بعد أبواب الحياة.
ولهذا قال الفقيه الجليل معاذ بن جبل لأمير المؤمنين عمر - حين هم بقسمة الأرض أول الأمر على الفاتحين: والله ! إذن ليكونن ما تكره: إنك إن قسمتها اليوم صار الريع العظيم في أيدي القوم ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد والمرأة !! ثم يأتي بعدهم قوم يسدون من الإسلام سدا، وهم لا يجدون شيئًا فانظر أمرًا يسع أولهم وآخرهم" ..قال: فصار عمر إلى قول معاذ (الأموال ص 59).
ومن هنا قال عمر لبلال وغيره ممن عارض وقف الأرض على الأمة كلها: تريدون أن يأتي آخر الناس ليس لهم شيء؟! (الأموال ص58).
قال في "المغنى": ولم نعلم شيئًا مما فتح عنوة قسم بين المسلمين إلا خيبر، فإن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قسم نصفها فصار ذلك لأهله (يعنى ملاكه) لا خراج عليه، وسائر ما فتح عنوة مما فتحه عمر بن الخطاب رضى الله عنه ومن بعده كأرض الشام والعراق ومصر وغيرها، لم يقسم منه شيء (المغنى: 2/716).

admin 02-28-2011 10:52 PM

شراء الأرض الخراجية وبيعها
 
شراء الأرض الخراجية وبيعها


أكثر أهل العلم -ومنهم مالك والشافعي وأحمد- أن الأرض الخراجية لا يجوز شراؤها لأنها أرض موقوفة، فلم يجز بيعها، كسائر الوقوف، وقال عمر رضى الله عنه لعتبة بن فرقد - وقد اشترى أرضًا منها: ممن اشتريتها؟ قال: من أربابها، فلما اجتمع المهاجرين والأنصار، قال: هؤلاء أربابها، فهل اشتريت منهم شيئًا؟! قال: لا ..قال فارددها على من اشتريتها منه، وخذ مالك (المرجع السابق: 2/821).
وقال بعض العلماء: إذا أقر الإمام أهل العنوة في أرضهم توارثوها وتبايعوها ! لما روى: أن ابن مسعود اشترى من دهقان (الدهقان: كلمة فارسية من معانيها: رئيس الإقليم) أرضًا على أن يكفيه جزيتها (المغنى: 2/720) يعنى خراجها.
وبعضهم لم يجز البيع وإنما أجاز الشراء فقط ! لأنه استخلاص للأرض من أهل الذمة، فيقوم فيها مقام من كانت في يده (المرجع السابق).
قال ابن قدامة: وإذا قلنا بصحة الشراء، فإنها تكون في يد المشترى على ما كانت عليه في يد البائع يؤدى خراجها، ويكون معنى الشراء ههنا نقل اليد من البائع إلى المشترى بعوض، وإن شرط الخراج على البائع -كما فعل ابن مسعود- يكون اكتراء لا اشتراء، وينبغي أن يشترط بيان مدته كسائر الإجارات (المغنى: 2/722).
ثم قال: وإذا بيعت هذه الأرض، فحكم بصحة البيع حاكم -يعنى قضى بها قاض- صح؛ لأنه مختلف فيه، فصح بحكم الحاكم كسائر المجتهدات (يقصد الأمور المجتهد فيها) وإن باع الإمام شيئًا لمصلحة رآها -مثل أن يكون في أرض ما يحتاج إلى عمارة لا يعمرها إلا من يشتريها- صح أيضًا؛ لأن فعل الإمام كحكم الحاكم (المرجع السابق ص 722، 723).

admin 02-28-2011 10:53 PM

الخراج مفروض على التأبيد
 
الخراج مفروض على التأبيد


وأحسب أنه -بعد هذا البيان- قد اتضحت لنا طبيعة الأرض الخراجية ونظرة المسلمين إليها منذ عهد عمر، وأنها ملك للأمة كلها، وأن ملكية أربابها لها ملكية يد لا ملكية رقبة، وأن الخراج المضروب عليها بمنزلة أجرة لها، تدفع إلى الدولة الإسلامية لتنفقها في المصالح العامة للأمة، من ذلك العمل على تعمير أرض الخراج نفسها، وتيسير ريها وإصلاح جسورها، وتحقيق كل ما يزيد في إنتاجها.
فإذا أسلم أرباب هذه الأرض بعد ذلك، أو انتقلت ملكيتها إلى مسلم بالبيع والشراء -كما حدث فعلاً- فإن الخراج يبقى مضروبًا عليها، بإجماع الفقهاء في سائر العصور؛ لأن أحدًا لا يملك إسقاطه حسب النظرة الفقهية له، إذ هو ملك الأجيال الإسلامية، في شتى الأزمنة كما وضحنا ذلك قبل -ولا يملك جيل منهم- ممثلاً في إمام أو حكومة- إسقاط حق الأجيال اللاحقة في هذا الخراج المفروض في أصله على التأبيد.





admin 02-28-2011 10:54 PM

مذهب الحنفية وأدلتهم
 
مذهب الحنفية وأدلتهم


ذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن العُشر هنا غير واجب، وأن من شروط وجوبه ألا تكون الأرض خراجية وكذلك روى أبو عبيد عن الليث بن سعد، وابن أبى شيبة عن الشعبي وعكرمة: لا يجتمع خراج وعُشر في أرض (انظر الأموال ص91، والمصنف: 3/201 - طبع حيدر آباد)، واستند الحنفية في ذلك إلى أدلة.
أولاً: ما روى عن ابن مسعود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يجتمع عُشر وخراج في أرض مسلم"(قال في فتح القدير (2/14): رواه أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود مرفوعًا) وهو نص في المطلوب.
ثانيًا: ما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "منعت العراق درهمها وقفيزها، ومنعت الشام مديها(القفيز: مكيال، والمدى: مكيال لأهل الشام، وهو غير المد) ودينارها، ومنعت مصر إردبها ودينارها، وعدتم من حيث بدأتم". قالها ثلاثًا. شهد على ذلك لحم أبى هريرة ودمه (رواه مسلم وأبو داود) (قال الشيخ أحمد شاكر فى هامش المحلى (5/ 247): رواه يحيى بن آدم في الخراج رقم (227)، ومسلم: 3/129، وابن الجارود ص499) ومعنى منعت: أي ستمنع كقوله تعالى: (أتى أمر الله)(النحل: 1) ووجه الدلالة في الحديث أنه -صلى الله عليه وسلم- أخبر عما يكون في آخر الزمان من منع الحقوق الواجبة، وبين تلك الحقوق بما ذكر في الحديث، وهو عبارة عن الخراج المطلوب عليهم من الدرهم والقفيز لا العُشر، فلو كان العُشر واجبًا معه لاقترن به في الإخبار.
ثالثًا: ما رواه أبو عبيد بسنده عن طارق بن شهاب قال: كتب عمر بن الخطاب في دهقانة نهر الملك (نهر الملك: كورة واسعة ببغداد) أسلمت، فكتب: " أن ادفعوا إليها أرضها تؤدى عنها الخراج " (الأموال ص87) فأمر بأخذ الخراج ولم يأمر بأخذ العُشر ولو كان واجبًا لأمر به.
رابعًا: أن عدم الجمع بين العُشر والخراج هو ما جرى عليه العمل منذ فرض عمر -ووافقه الصحابة- الخراج على أرض السواد وغيرها، ولم ينقل أن أحدًا من أئمة العدل أو ولاة الجور أخذ من أرض السواد عُشرًا مع كثرة امتلاك المسلمين للأراضي الخراجية وتوافر الدواعي على النقل، فكان ذلك منهم إجماعًا عمليًا لا تصح مخالفته.
خامسًا: أن الخراج يجب بالمعنى الذي يجب فيه العُشر، وهو صلاحية الأرض للزراعة والنماء، ولهذا لو كانت سبخة لا منفعة لها، لم يجلب فيها خراج ولا عُشر، فسبب الوجوب فيها هو الأرض النامية؛ بدليل أنهما يضافان إليها، فيقال: خراج الأرض وعُشر الأرض، والإضافة تدل على السببية فلم يجز إيجابهما معًا، كما لو ملك نصابًا من الماشية السائمة بنية الاتجار لمدة سنة، لا تلزمه زكاتان بالإجماع: منعًا لوجوب زكاتين في مال واحد بسبب واحد، اتباعًا للحديث النبوي: "لا ثنى في الصدقة".
سادسًا: الخراج إنما وجب أصلاً بسبب الكفر؛ لأنه إنما وجب عقوبة في أرض فتحت عنوة وأقر فيها أربابها، أما العُشر فإنما وجب بسبب الإسلام؛ لأنه عبادة وجبت شكرًا لله وتطهيرًا للنفس والمال، فهما متباينان في مبدأ الإيجاب، فلم يجز اجتماعهما (انظر أحكام القرآن للجصاص: 3/17 - 19 - طبع البهية المصرية).


جميع الأوقات بتوقيت GMT +3. الساعة الآن 01:37 PM.

Powered by vBulletin® Version 3.8.2
Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.