تاريخ الخطبة: 27 ربيع أول 1426 وفق 6/5/2005م
عنوان الخطبة: حرمة الدماء المعصومة في الإسلام
الموضوع الرئيسي: الرقاق والأخلاق والآداب, فقه
الموضوع الفرعي: الحدود, الكبائر والمعاصي
اسم الخطيب: إسماعيل الحاج أمين نواهضة
ملخص الخطبة
1- أول جريمة قتل في الأرض. 2- الحكمة من تعظيم جريمة القتل. 3- حرمة دم المسلم والتغليظ فيه. 4- لا تزر وازرة وزر أخرى. 5- لا عصبية لغير الإسلام. 6- عوامل الحد من انتشار القتل. 7- الأقصى في خطر. 8- الإشادة بحفظة كتاب الله وحفل تكريمهم في القدس.
الخطبة الأولى
قال الله تعالى:
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا
بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ
[المائدة:32].
وبعد: أيها المسلمون، فإن الطغيان والظلم والعدوان يرجع تاريخه إلى عهد بعيد في
الزمن الغابر، حين اعتدى أحد بني آدم على أخيه وسفك دمه ظلمًا وعدوانًا واندفاعًا
نحو تحقيق الأطماع والمصالح الذاتية، فكان قدوة سيئة للعدوان والطغيان، وباء
بالخسران وبالخزي والندامة على فعلته البشعة. وقد قصّ الله تعالى في القرآن الكريم
خبر هذا الطغيان والعدوان يتلى إلى الأبد، إنذارًا وتحذيرًا، ولئلا تسلك البشرية
سبيل المعتدين فيصيبها ما أصابها، قال الله تعالى:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ
أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنْ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا
يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ
لَئِنْ بَسَطتَ
إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِي إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ
إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ
الظَّالِمِينَ
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنْ
الْخَاسِرِينَ
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي
سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا
الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنْ النَّادِمِينَ
[المائدة:27-31].
ومن أجل أن الموعظة والتحذير لا يجديان في بعض الجِبلاّت المطبوعة على الشرّ وأن
المسالمة والموادعة لا توقفان الاعتداء حين يكون الشر عميق الجذور في النفس، من أجل
ذلك جعل الله تعالى جريمة قتل النفس الواحدة كبيرة كبيرة، تعدل جريمة قتل الناس
جميعًا، وجعل العمل على دفع القتل وإحياء نفس واحدة عملاً عظيمًا يعدل إنقاذ الناس
جميعًا:
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ
كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ
أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ
أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا
بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ
لَمُسْرِفُونَ
[المائدة:32].
أيها المؤمنون، إن سنة الطغيان واحدة في كل زمان ومكان، إنها اندفاع نحو الشر،
تحقيقًا للأغراض والأطماع لكل طاغية معتد، فيه من أوصاف من عناهم رب العزة بقوله:
لا يَرْقُبُونَ فِي
مُؤْمِنٍ إِلاً وَلا ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُعْتَدُونَ
[التوبة:10]، أي: لا يراقبون في العباد قرابة، ولا يحفظون عهدًا، ولا يبقون على أحد
لو ظهروا أو انتصروا، الكل في شريعة الطغاة المعتدين أناس لا يستحقون الحياة.
وإن شر الطغيان وأفظع ألوان العدوان سفك الدماء التي حرم الله قتلها إلا بالحق،
والمسلم قد حقن الله دمه كما جاء في الحديث الشريف:
((كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه))، فمن اجترأ على قتله دون
جناية أو قصاص فقد حادّ الله ورسوله وارتكب كبيرة من الكبائر؛ مما يجرّ عليه الوبال
والدمار، ويصطلي بها العذاب خالدًا في النار، كما قال تعالى:
وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا
[النساء:93]، وجاء في الحديث الشريف: ((لو اجتمع
أهل السماوات والأرض على قتل رجل مسلم لأَكَبّهم الله في النار))، وفي حديث
آخر: ((من أعان على قتل مسلم ولو بِشَطْرِ كلمة جاء يوم
القيامة مكتوبًا بين عينيه: آيس من رحمة الله)).
أيها المؤمنون، لقد ضيّق الإسلام دائرة إراقة الدماء المسلمة، وجعلها درءًا لمفسدة
أكبر أو ضرورة لإقامة العدل واستتباب الأمن في المجتمع، فقد صح عن رسول الله
أنه قال:
((لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب
الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)).
أيها المؤمنون، ولكي ينتشر الأمن في ربوع المجتمعات لا بد من حصانة الإنسان أنّى
كان، وعدم تجريمه إلا بدليل قاطع، وهذا هو الحق المشروع لكل البشر. ومن السنن
الإلهية براءة البشر وعدم إدانتهم بذنب الآخرين، وعدم أخذهم قبل إتمام الحجة عليهم،
وأن لا يؤخذ البريء بجُرم غيره، وهذا من تجليات العدل الإلهي، قال الله تعالى:
أَلاَّ تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى
وَأَنْ لَيْسَ
لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى
[النجم:38، 39].
وعلى هذا فإن كل إنسان يتحمّل وحده مسؤولية أفعاله، ولا يظلم أحد بتحميله وزر غيره، إلا إذا كان قد صدر منه ما يستوجب تقصيره، فيتحمّل وزر نفسه بقدر تقصيره، فلا يجوز العقاب الجماعي المعمول في الأنظمة الظالمة، ولا يجوز ملاحقة ذوي القرابة بسبب اتهام قريبهم بجريمة.
أيها المسلمون، إن الصفات السيئة ـ والتي منها رذيلة التعالي وفاحشة الحسد ـ قد تمسي خطيرة على حياة البشر، وعلى المؤمن أن يسعى جاهدًا لتطهير نفسه منها، كما ينبغي أن يسعى المجتمع المؤمن نحو تزكية النفوس من رواسب العصبية والأنانية؛ لكي يقتلع جذور الفساد والجريمة.
لقد تبرّأ رسول الهدى عليه الصلاة والسلام من كل العصيبات كيفما كان لونها واتجاهها، ووضعها تحت قدميه، إلا العصبية للإسلام، وتبرّأ ممن لا ينتمي إليها، إذ يقول: ((من قُتِل تحت راية عمية يدعو إلى عصبية أو ينصر عصبية فقتلته جاهلية))، وقال: ((ليس منا من قاتل على عصبية)). وما ذلك إلا لجمع شمل المسلمين والاتجاه بهم إلى توحيد الصفوف وتوحيد الكلمة تحت شعار الإسلام وكلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
إن محور التربية السليمة هو التقوى، وإن التنافس والتسارع إلى الخيرات بالتقوى خير من الصراع والتنافس على حطام الدنيا.
إن الحياة من الحقوق الأساسية للبشر، وهي قيمة إيمانية نابعة من احترام الآخرين والاعتراف بكل حقوقهم، وهكذا كانت حرمتها من أعظم الحرمات في القرآن الكريم، وليس القتل جريمة عادية؛ إذ إنه مخالف لفطرة البشر، كما أنه من مفردات الظلم؛ لأنه استلاب لحق الحياة من صاحبها.
إخوة الإيمان، ومن أجل المحافظة على حرمة الدماء واحترام قيمة الحياة جعل الله
سلطانًا لولي المقتول ظلمًا بدون إسراف، وجعل ميثاق المجتمع حرمة القتل، كما جعل
القصاص حياة للمجتمع:
وَلَكُمْ فِي
الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
[البقرة:179].
ومن الصفات التي وصف الله بها عباد الرحمن بأنهم لا يقتلون النفس التي حرم الله
قتلها إلا بالحق، ويترفعون عن كل مجالات الإثم وعن العدوان في مختلف ألوانه، قال
الله تعالى:
وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ
اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ
[الفرقان:68]، إلى أن قال:
أُوْلَئِكَ
يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا
خَالِدِينَ فِيهَا
حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا
[الفرقان:75، 76].
الخطبة الثانية
وبعد: أيها المسلمون، فإنه من أجل المحافظة على الحياة ووقف جرائم القتل لا بد من البيان بأن إزهاق الأرواح من كبائر الذنوب، وأن جزاء من يقتل مؤمنًا جهنم خالدًا فيها، وأنه لا بد أن يكون من ميثاق الأمة منع القتل، ووضع قصاص عادل للجاني، وعدم تكتم الناس على القاتل.
أيها المؤمنون، وفي ظل انتشار جريمة القتل والاعتداء على الآخرين أذكر أمورًا وأحكامًا من شأنها منع هذه الظاهرة، أو على الأقل التخفيف منها، وهي:
1- عدم جواز مبادرة الإنسان إلى قتل الآخرين أو إلحاق الأذى بهم لمجرد شعوره بأنهم يُضْمِرون له شرًّا، فالكثير من الجرائم تقع بسبب هذا الخوف، وحبذا أن يلتزم الناس بما قاله ابن آدم لأخيه: إنه لن يبسط إلى أخيه يده ليقتله. ولا يعني ذلك بالطبع منع الدفاع عن النفس، أو الاستسلام التام لقتله وللجناة.
2- المبادرة إلى أعمال الخير والاستباق فيها، كذلك يجب الامتناع عن المبادرة إلى الشر.
3- الاستفادة من عزمنا وإرادتنا وكل طاقاتنا الروحية والعقلية في المرحلة السابقة على الشيطان والنفس الأمارة في سعيهما لإضلالنا وتطويع وجداننا.
ومن هنا ينبغي الاهتمام بما يلي:
أ- نشر ثقافة قيمة الحياة الإنسانية في المجتمعات بكل وسيلة ممكنة، ومواجهة ومحاربة كل النعرات الجاهلية التي تستهين بالحياة البشرية.
ب- التخويف من عاقبة القتل، وبيان مدى الخسارة التي ستلحق بالقاتل في الدنيا والآخرة، وبيان ندم القاتل على جريمته.
ت- منع عرض أفلام القتل التي تجعل القتل عملاً سهلاً، بل ومقبولاً، كما وأنها تُعلّم أساليبه، وأيضًا الامتناع عن سماع الأغاني والأناشيد والأشعار والقصص التي تمجّد القتل.
والأهم من كل ذلك امتناع الناس عن أخذ القانون وتطبيقه بأيديهم.
وأخيرًا أقول: إن قيمة الحياة عظيمة، وعلى المؤمنين أن يحافظوا عليها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
أيها المؤمنون، ومن الأمور التي تؤدّي إلى القتل ـ والتي يستهان بها من قبل البعض ـ الاتجار بالأغذية والأطعمة الفاسدة المنتهية صلاحيتها، فليتق الله المتاجرون بها، وليتذكروا الآخرة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
أيها المرابطون في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، أيها العرب والمسلمون، فإنه ليس بخاف عليكم الوضع الذي يمرّ به ويشهده المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، رمز عقيدة المسلمين، وتاج عزّهم ورمز كرامتهم. إن مخاطر جَمّة تحيط به من كل جانب، وإن تهديدات المتطرفين المدعومين من جهات مسؤولة آخذة بالازدياد يومًا بعد يوم، وسط صمت عربي وإسلامي مريب.
إن هذه التهديدات والتصريحات لبعض المسؤولين الإسرائيليين حول تقسيم المسجد الأقصى لإقامة الهيكل المزعوم على أنقاضه وبناء كنيس يهودي على جزء منه مرفوضة جملة وتفصيلاً، وغير مقبولة على جميع المستويات، وليعلم هؤلاء أن أي مساس بالمسجد الأقصى هو مساس بعقيدة المسلمين جميعًا.
وعلى العقلاء أن يعملوا على منع ووقف هذه التهديدات، وعلى العرب والمسلمين أن يتحملوا مسؤولياتهم بشكل كامل تجاه حماية المسجد الأقصى ومدينة القدس وأرض الإسراء والمعراج. كما يتوجب على أبناء شعبنا المرابطة فيه وزيارته والصلاة فيه على مدار أيام السنة؛ لتفويت الفرصة على هؤلاء الطامعين الحاقدين.
إخوة الإيمان، من الأمور الهامة والجديرة بالإشارة الاحتفال الذي أقامته وزارة الأوقاف قبل يومين لتكريم حفظة القرآن الكريم والفائزين بمسابقة الأقصى في حفظ القرآن وتجويده، وإن هذا الاحتفال قد كشف الستار وأماط اللثام عن وجود المئات بل الآلاف من حفظة القرآن والمرتلين له بأصواتهم الحسنة النديّة من أبناء شعبنا المرابط ومن مختلف الأعمار.
إن هذا الإقبال على حفظ القرآن وترتيله والعمل بأحكامه والسير على نهجه خطوة في الطريق الصحيح، حقًّا إنه يُبهِج النفوس، ويُثلِج الصدور، ويثبت أن شعبنا الفلسطيني بالرغم من كل العوائق والصعوبات المحيطة به متمسّك بتعاليم هذا الدين، حافظ لكتاب الله تعالى، حيّ لم ولن يموت بمشيئة الله. فبارك الله في هذه الكوكبة وفي القائمين على مراكز تحفيظ القرآن والمشجعين والداعمين لها.